الأربعاء، 8 يونيو 2022

مجلد 5.و6. من كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة لسان الدين ابن الخطيب

 

 مجلد 5.و6. من كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة لسان الدين ابن الخطيب

الاحاطة 5. 

 مجلد 5. من كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة لسان الدين ابن الخطيب

والسيوف قد كادت تلفظها غمودها، وبصاير الأولياء المجاهدين قد لاح من نصر الله تعالى معهودها. فلما وصلناها، وجدنا ناسنا قد سبقوا إليها بالبوس، وهتكوا ستر عصمتها المحروس، وأذن لها بزوال النعم، وذهاب النفوس، فعاجلها الأولياء بالقتال، وأهدوا إليها حمر المنايا من زرق النصال، ورشقوا جنودها بالنبال، وجدوا بنات الآجال، فلما رأوا ما لا طاقة لهم به، لاذوا بالفرار من الأسوار، وولوا الأدبار، وودعوا الديار وما فيها من الآثار. وتسنم المسلمون ذروة البلد الأول فملكوه، وخرقوا حجاب الستر المسدول عليه وهتكوه، وتسرعوا إلى البلد الثاني، وقد ملأ النصارى أسواره من حماة رجالهم، وانتقوهم من متخيري أبطالهم، ممن وثقوا بإقدامه في حماية ضلالهم، فحمل عليهم المسلمون حملة عرفوهم بها كيف يكون اللقاء، وصرفوهم إلى ما تنصرف إليه أرواحهم من الشقاء، وأظهروا لهم من صدق العزايم ما علموا به أن لدين الإسلام أنصاراً لا يرغبون بأنفسهم عن الذب عنه وحماية راياته، ولا يصدرون إلا إلى طاعة الله ابتغاء مرضاته. وبادر جماعة إلى إضرام باب المدينة بالنيران، وعقدوا تحت سماء العجاج منها سماء الدخان، ورموا النصارى من النبال بشهب تتبع منهم كل شيطان. فهزم الله النصارى؛ وولوا أدبارهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، فأخلوا بروجهم وأسوارهم، وتسنمها المسلمون معلنين شعار الإسلام، رافعين من الرايات الحمر كواكب في سماء السعادة تبشر بتيسير كل مرام. ودخلوا المدينة، فألفوا بها من القوت والعتاد، والمتاع الفاخر، الذي يربو على العتداد، ما ملأ كل يمين وشمال، وظهروا عليها بعد بلوغ الأماني على الكمال، وقتلوا بها من الحماة أعداء، أبدوا في حماية ضلالهم ماضي الغنا والاعتزام وأعملوا فيهم ماضي العوامل وشبا الإضرام. وارتفع الصارى إلى القصبة لائذين بامتناعها، معتصمين بعلوها وارتفاعها، متخليلين لضلالهم، وعدم استبصارهم أن نور الهدى لا يحل بديارهم. فرأينا أن نرقى الرجال إلى أبراج البلد وأسواره، وأمرناهم أن يبيتوا طول ليلتهم مضيقين على من اعتصم بالقصبة في حصاره، وعمدنا بالعسكر المظفر إلى موضع استيطانه من المحلة المنصورة واستقراره. فلما بدا ضوء الصباح بنور الإشراق، ولاح وجه الغزالة طارحاً شعاعه على الآفاق، أمرنا بترتيب العساكر على القصبة للحصار، وعينا لكل جماعة مهنهم جهة يبادرون إلى منازلتها بالقتال أشد البدار، فانتهى المسلمون من ذلك إلى غاية لم تخطر للكافرين ببال، وجرعوهم كؤوس المنايا، وأداروا بها بنات الحنايا، فأفضت السجال وأظهر الكفار، مع وقوعهم في بحر الموت صبرا وطمعوا، أن يقيموا بذلك لصلباتهم عذرا. فلما رأوا من عزمنا ما لم تتخيله ظنونهم وأوهامهم، وصابرهم المسلمون عند النزال مصابرة عظم فيها إقدامهم وثبتت أقدامهم ألقوا بأيديهم إلى التهلكة، إلقاء من هاله لمعان الأسنة، واهتزاز ردينيات القنا، ولاذوا بطلب الأمان لياذ الغريق بالساحل، بعد ما أشرف على الفناء، وهبط زعيمهم، مقتحماً خطر تلك المسالك، متضرعاً تضرع من طمع في الحياة بعد ما أخذته أيدي المهالك، وشرط أن يملكنا القصبة. ويبقى خديماً لنا بما بيده من البلاد الكثيرة والكتيبة المتخبة، فلم نظهر له عند ذلك قبولاً، ولم نجعل له إلى تكميل ما رغب فيه سبلا، فقاده البأس الشديد إلى الإذعان، ورغب أن يكمل ما نريده على شرط الأمان. فأسعفنا رغبته على شروط، بعد عهد المسلمين بمثلها، وهيئت الأسباب بما نعتمده من الثقة بالله وحده في أمورنا كلها، وذلك على كذا وكذا. وحين كملت الشروط حق التكميل، وظهرت لنا منه إمارات الوفاء الجميل، دخلنا القصبة حماها الله، وقد أغنى يوم النصر عن شهر السلاح، كما أغنى ضوء الصبح عن نور المصباح، ورفعت على أبراجها حمر الأعلام، ناطقة عن الإسلام، بالتعريف والإعلام. وفي الحين وجهنا من يقبض تلك الحصون، ويزيل ما بها من جرم الكفر المأفون، أمناء ردالنا. فالحمد لله على هذه النعمة التي أحدثت للقلوب استبشاراًً، وخفضت علم التثليث، ورفعت للتوحيد مناراً، وأظهرت للملة الحنيفية على أعدائها اعتلاء واستكباراً. وهذا القدر من الفتح وإن كان سامي الفخر، باقي الذكر بقائ الدهر، فإننا لنرجو من الله أن يتبعه بما هو أعلى منه متانة، وأعظم في قلوب أهل إيمان موقعاً وأعز مكانة، وأن يرغم بما يظهر على

أيدينا من عز الإسلام، أنف من أظهر له عناداً وخذلانا. فاستبشروا بهذا الفتح العظيم وبشروا، واشكروا الله عليه، فواجب أن تشكروا. وقد كتبنا هذا، ونحن على عزمنا في غزو بلاد الكفار، والسعي الحميد إلى التنكيل بهم والإضرار، والمسلمون أعزهم الله في أرضهم يشنون المغار، ويمتلكون الأنجاد منها والأغوار، ويكثرون القتل والإسار، ويحمون أينما نزلوا السيف والنار، والسلام.ا من عز الإسلام، أنف من أظهر له عناداً وخذلانا. فاستبشروا بهذا الفتح العظيم وبشروا، واشكروا الله عليه، فواجب أن تشكروا. وقد كتبنا هذا، ونحن على عزمنا في غزو بلاد الكفار، والسعي الحميد إلى التنكيل بهم والإضرار، والمسلمون أعزهم الله في أرضهم يشنون المغار، ويمتلكون الأنجاد منها والأغوار، ويكثرون القتل والإسار، ويحمون أينما نزلوا السيف والنار، والسلام.
ومن نثر آخر إجازة ما صورته: وها أنا أجري منه على حسن معتقده، وأكله في هذا الغرض إلى ما رآه بمقتضى تودده، وأجيز له ولولديه، أقر الله بهما عينه، وجمع بينهما وبينه، رواية جميع ما نقلته وحملته، وحسن اطلاعه يفصل من ذلك ما أجملته، فقد أطلقت لهم الإذن في جميعه، وأبحت لهم الحمل عني، ولهم الاختيار في تنويعه. والله سبحانه وتعالى يخلص أعمالنا لذاته، و يجعلها في ابتغاء مرضاته. قال هذا محمد بن عبد الرحمن بن الحكيم حامداً لله عز وجل، ومصلياً ومسلماً.
وفاتهقتل حمه الله صبيحة عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة، وذلك لتاريخ خلع سلطانه. واستولت يد الغوغاء على منازله، شغلهم بها مدبر الفتنة، خيفة من أن يعاجلوه قبل تمام أمره. فضاع بها مال لا يكتب، وعروض لا يعلم لها قيمة من الكتب، والذخيرة والفرش والآنية والسلاح والمتاع والخرثي، وأخفرت ذمته، وتعدى به عدوة القتل إلى المثلة، وقانا الله مصارع السوء، فطييف بشلوه، وانتهب فضاع ولم يقبر، وجرت فيه شناعة كبيرة، رحمه الله تعالى.
مولدهبرندة ظهر يوم الاثنين الحادي والعشرين من ربيع الأول المبارك، من عام ستين وستمائة. وممن رثاه شيخنا أبو بكر بي شبرين رحمه الله تعالى بقوله:
سقى الله أشلاء كرمن على البلى ... وما غض من مقدارها حادث البلا
ومما شجاني أن أهين مكانها ... وأهمل قدر ما عهدناه مهملا
ألا أصنع بها يا دهر ما أنت صانع ... فما كنت إلا عبدها المتذللا
سفكت وما كان الرقوء نواله ... لقد جئتها شنعاء فاضحة الملا
يكفي سبنتي أزرق العين مطرق ... عدا فغدا في غيه متوغلا
لنعم قتيل القوم في يوم عيده ... قتيل تبكيه المكارم والعلا
إلا إن يوم ابن الحكيم لمثكل ... فؤادي فما ينفك ما عشت مثكلا
فقدناه في يوم أغر محجل ... ففي الحشر نلقاه أغر محجلا
سمت نحوه الأيام وهو عميدها ... فلم تشكر النعمى ولم تحفظ الولا
وخانته رجل في الطواف به سعت ... فناء بصدر للعلوم تحملا
وجدل لم يحضره في الحي ناصر ... فمن مبلغ الأحياء أن مهلهلا
يد الله في ذاك الأديم ممزقا ... تبارك ما هبت جنوباً وشمألا
ومن حزني أن لست أعرف ملحداً ... له فأرى للترب منه مقبلا
رويدك يا من قد غدا شامتاً به ... فبالأمس ما كان العماد المؤملا
وكنا نغادي أو نراوح بابه ... وقد ظل في أوج العلا متوقلا
ذكرناه يوماً فاستهلت جفوننا ... بدمع إذا ما أمحل العام أخضلا
وما زج منه الحزن طول اعتبارنا ... ولم ندر ماذا منهما كان أطولا
وهاج لنا شجواً تذكر مجلس ... له كان يهدي الحي والملأ الألى
به كانت الدنيا تؤخر مدبراً ... من الناس حتماً أو تقدم مقبلا
لتبك عيون الباكيات على فتى ... كريم إذا ما أسبغ العرف أجزلا
على خادم الآثار تتلى صحائحا ... على حامل القرآن يتلى مفصلا

على عضد الملك الذي قد تضوعت ... مكارمه في الأرض مشكاً ومندلا
على قاسم الأموال فينا على الذي ... وضعنا لديه كل إصر على علا
وأني لنا من بعده متعلل ... وما كان في حاجاتنا متعللا
ألا يا قصير العمر يا كامل العلا ... يميناً لقد غادرت حزناً مؤثلا
بسوء المصلى أن هلكت ولم تقم ... عليك صلاة فيه يشهدها الملا
وذاك لأن الأمر فيه شهادة ... وسنتها محفوظة لن تبدلا
فيا أيها الميت الكريم الذي قضى ... سعيداً حميداً فاضلاً ومفضلا
لتنهل من رب السماء شهادة ... تلاقي ببشرى وجهك المتهللا
رثيتك عن حب ثوى في جوانحي ... فما ودع القلب العميد وما قلا
ويا رب من أوليته منك نعمة ... وكنت له ذخراً عتيداً وموئلا
تناساك حتى ما تمر بباله ... ولم يدكر ذاك الندى والتفضلا
يرابض في مثواك كل عشية ... صفيف شواء أو قديداً معجلا
لحي الله من ينسى الأذمة رافضاً ... ويذهل مهما أصبح الأمر مشكلا
حمانيك يا بدر الهدى فلشد ما ... تركت بدور الأفق بعد أفلا
وكنت لآمالي حياة هنيئة ... فغادرت مني اليوم قلباً مقتلا
فلا وأبيك الخير ما أنا بالذي ... على البعد يئس من ذمامك ما خلا
فأنت الذي آويتني متغرباً ... وأنت الذي أكرمتني متطفلا
فإن لم أنل منك الذي كنت آملاً ... فما كنت إلا المحسن المتفضلا
فآليت لا ينفك قلبي مكممداً ... عليك ولا ينفك دمعي مسبلا
العقيلي الجراويمحمد بن عبد الرحمن العقيلي الجراوي من أهل وادي آش، وسكن غرناطة.
حالهفقيه أديب متطبب، متقن في علوم جمة، شاعر مطبوع، يكنى أبا بكر.
مدح الأمير علي بن يوسف اللمتوني بقوله:
رحلوا الركايب موهناً ... فأذاع عرفهم السنا
والحلى قد أغرى بهم ... لما ترنم معلنا
كم حف حول حماهم ... من كل خطار القنا
قال أبو جعفر بن الزبير، ينفك منها قصايد:
رحلوا الركاب موهناً ليكتموا ... ظعن الحمول وهل توارى الأنجم
فأذاع سرهم السنا ورمى بهم ... فل الذميل شذاهم المتنسم
كم حف حمل قبابهم وركابهم ... من ليث غاب في براثنه الدم
من كل خطار القناة مموه ... بين الرحيل نصبه يستسلم
وهي طويلة، خاطب بها أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين. وقال في وصف القصيدة:
أبا ملكاً يسمو بسعد مساعد ... وقدر على علو الكواكب صاعد
نظمت قصيداً في علاك مضمناً ... ثلات قواف في ثلاث قصايد
إذا فصلت أغنى عن البعض بعضها ... وإن وصلت كانت ككعب وساعد
فأجازه بظهير كريم بتحرير ماله وتنويهه.
محمد بن عبد الرحمن المتأهلمن أهل وادي آش يعرف بعمامتي
حالهمن التاج: ناظم أبيات، وموضح غرر وشيات، وصاحب توقيعات رفيعات، وإشارات ذوات شارات، وكان شاعراً مكثاراً، وجواداً لا يخاف عثاراً. أدخل على أمير بلده المخلوع عن ملكه، بعد انتثار سلكه، وخروج الحضرة عن ملكه، واستقراره بوادي آش، مروع البال، معللا بالآمال، وقد بلغه دخول طبرنش في طاعته، فأنشده من ساعته:
خذها إليك طبرنشا ... شفع بها وادي الأشا
والأم تتبع بنتها ... والله يفعل ما يشا
ومن نوادره العذبة يطلب خطة الحسبة:
أنلني يا خير البرية خطة ... ترفعني قدراً وتكسبني عزاً
فأعتز في أهلي كما اعتز بيدق ... على سفرة الشطرنج لما انثنى فرزاً
فوقع الأمر بظهر رقعته، ما ثبت في حرف النون عند ذكره؛ والاحتجاج بفضله.
وفاتهكان حياً بعد سنة سبع عشرة وسبعمائة. وفد على الحضرة مرات كثيرة.

ابن طفيل القيسي

محمد بن عبد الملك بن محمد بن محمد بن طفيل القيسي من أهل وادي آش، يكنى أبا بكر.
حالهكان عالماً، صدراً، حكيماً، فيلسوفاً، عارفاً بالمقالات والآراء، كلفاً بالحكمة المشرقية، محققاً، متصوفاً، طبيباً ماهراً، فقيهاً بارع الأدب، ناظماً، ناثراً، مشاركاً في جملة من الفنون.
مشيختهروى عن أبي محمد الرشاطي، وعبدالحق بن عطية وغيرهما.
حظوته ودخوله غرناطةاختص بالريس أبي جعفر، وأبي الحسن نب ملحان. قال ابن الأبار في تحفته، وكتب لوالي غرناطة وقتاً.
تواليفهرسالة حي بن يقظان، والأرجوزة الطبية المجهولة، وغير ذلك.
شعرهقال، وهو القايل من قصيدة في فتح قفصة سنة ست وتسعين وأنقذت إلى البلاد:
ولما انقضى الفتح الذي كان يرتجى ... وأصبح حزب الله أغلب غالب
وانجزنا وعد من الله صادق ... كفيل بإبطال الظنون الكواذب
وساعدنا التوفيق حتى بينت ... مقاصدنا مشروحة بالعواقب
وأذعن من عليا هلال بن عامر ... أبي ولبي الأمر كل مجانب
وهبوا إذا هب النسيم كما سرى ... ولم يتركوا بالشرق علقة آيب
يغص بهم عرض الفلا وهو واسع ... وقد زاحموا الآفاق من كل جانب
كأن بسيط الأرض حلقة خاتم ... بهم وخضم البحر بعض المذانب
ومد على حكم الصغار لسلمنا ... يديه عظيم الروم في حال راغب
يصرح بالرويا وبين ضلوعه ... نفس مذعور ونفرة راهب
وعي من لسان الحال أفصح خطبة ... ما وضحت عنه فصاح القواضب
وأبصر متن الأرض كفة حامل ... عليه وإصراه في كف حالب
أشرنا بأعناق الجياد إليكم ... وعدباً عليكم من صدور الركايب
إلى بقعة قد بين الله فضلها ... بمن حل فيها من ولي وصاحب
على الصفوة الأدنين منا تحية ... توافيهم بين الصبا والجنايب
وله أيضاً:
ألمت وقد نام الرقيب وهوما ... وأسرت الوادي العقيق من الحما
وراح إلى نجد فرحت منجدا ... ومرت بنعمان فأضحى منعما
وجرت على ترب المخصب ذيلها ... فما زال ذاك الترب نهباً مقسما
تناقله أيدي التجار لطيمة ... ويحمله الدارين أيان يمما
ولما رأت أن لا ظلام يجنها ... وأن سراها فيه لن يتكتما
سرت عذبات الربط عن حر وجهها فأبدت شعاعاً يرفع اليوم مظلما
فكان تجليها حجاب جمالها كشمس الضحى يعشى بها الطرف كلما
ولما رأت زهر الكواكب أنها ... هي النير الأسمى وإن كان باسما
بكت أسفاً أن لم تغز بجوارها ... وأسعدها صوب الغمام فأسجما
فجلت يمج القطر ريان بردها ... فتنفضه كالدر فذاً وتوأما
يضم علينا الماء فضل زكاتها كمل بل سقط الطل نوراً مكمماً
ويفتق نضح الغيث طيب عرفها ... نسيم الصبا بين العرار منسما
وجلت عن ثناياها وأومض برقها ... فلم أدر من شق الدجنة منهما
وساعدني جفن الغمام على البكا ... فلم أدر وجداً أينا كان أسجما
ونظم سمطى ثغرها ووشاحها ... فأبصرت در الثغر أحلى وأنظما
تقول وقد ألممت أطراف كمها ... يدي وقد أنعلت أخمثها الغما
نشدتك لا يذهب بك الشوق مذهباً ... يسهل صعباً أو يرخص مأثما
فأقصرت لا مستغنياً عن نوالها ... ولكن رأيت الصبر أوفى وأكرما
وقال:
أتذكر إذ مسحت بفيك عيني ... وقد حل البكا فيها عقوده
ذكرت بأن ريقك ماء ورد ... فقابلت الحرارة بالبرودة
وقال:
سألت من المليحة برء دايي ... برشف برودها العذب المزاج
فما زالت تقبل في جفوني ... وتبهرني بأصناف الحجاج
وقالت إن طرفك أصلاً لدايك ... فليقدم في العلاج

توفي بمراكش سنة إحدى وثمانين وخمسماية وحضر السلطان جنازته.
ابن عياش التجيبي البرشانيمحمد بن عبد العزيز بن عبد الرحمن بن عبيد الله ابن عياش التجيبي البرشاني، من أهل حصن برشانة المحسوب في هذه العمالة، يكنى أبا عبد الله، كاتب الخلافة.
حالهقال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك، كان كاتباً بارعاً، نصيحاً، مشرفاً على علوم اللسان، حافظاً للغات والآداب، جزلاً، سري الهمة، كبير المقدار، حسن الخلق، كريم الطباع، نفاعاً بجاهه وماله، كثير الاعتناء بطلبة العلم، والسعي الجميل لهم، وإفاضة المعروف على قصاده، مستعيناً على ذلك بما نال من الثروة والحظوة والجاه، عند الأمراء من بني عبد المؤمن، إذ كان صاحب القلم الأعلى، على عهد المنصور وابنه، رفيع المنزلة والمكانة لديهم، قاصداً الإعراب في كلامه، لا يخاطب أحداً في كلامه من الناس، على تفاريق أحوالهم، إلا بكلام معرب، وربما استعمله في مخاطبة قدمته وأمته، من حوشي الألفاظ، ما لا يكاد يستعمله، ولا يفهمه إلا حفاظ اللغة من أهل العلم، عادة ألفها واستمرت حاله عليها.
مشيختهروى عن أبي عبد الله بن حميد، وابن أبي القاسم السهيلي، وابن حبيش، وروى عنه بنوه أبو جعفر، وأبو القاسم، وعبد الرحمن، وأبو جعفر ابن عثمان، وأبو القاسم البلوي.
تواليفهله اختصار حسن في إصلاح المنطق، ورسايل مشهورة، تناقلها الناس، وشعره يحسن في بعضه.
جاههحدث الشيخ أبو القاسم البلوي، قال كنت أخف إليه، وأشفع عنده في كبار المسايل، فيسرع في قضايها. ولقد عرضت لبعض أصحابي من أهل بلاد الأندلس حاجة مهمة كبيرة، وجب علي السعي فيها، ورحوته من جميل أثره في تيسير أمرها، وكان قد أصابه حينئذ التياث لزم من أجله داره، ودخلت عليه عايداً، فأطال السؤال عن حالي، وتبسط معي في الكلام، مبالغة في تأنيس، فأجلت ذكر الحاجة، ورغبت منه في الشفاعة عند السلطان في شأنها، وكان مضطجعاً، فاستوى جالساً، وقال لي، جهل الناس قدري، وكررها ثلاثاً، في مثل هذا أشفع إلى أمير المؤمنين، هات الدواة والقرطاس، فناولته إياهما، فكتب برغبتي، ورفعه إلى السلطان، فصرف في الحين معلماً، فاستدعاني، ودفعه إلي، وقال يا أبا القاسم، لا أرضى منك أن تحجم عني في التماس قضاء حاجة تعرضت لك خاصة، وإن كانت لأحد من معارفك عامة، كبرت أو صغرت؛ فألتزم قضاءها، وعلى الوفا، فإن لكل مكتسب زكاة، وزكاة الجاه بذله.
وحدثني شيخي أبو الحسن بن الجياب، عمن حدثه من أشياخه، قال، عرض أبو عبد الله بن عياش والكاتب ابن القالمي على المنصور كتابين، وهو في بعض الغزوات، في كسلب البرد، وبين يديه كانون جمر. وكان ابن عياش بارع الخط، وابن القالمي ركيكه، ويفضله في البلاغة، أو بالعكس الشك مني. وقال المنصور أي كتب لو كان بهذا الخط، وأي خط لو كان بهذا الكتب، فرضي ابن القالمي، وسخط ابن عياش. فانتزع الكتاب من يد المنصور، وطرحه في النار وانصرف. قال، فتغير وجه المنصور، وابتدر أحد الأشياخ؛ فقال يا أمير المؤمنين، طعنتم له في الوسيلة التي عرفته ببابكم، فعظمت غيرته لمعرفته بقدر السبب الموصل إليكم. فسرى عن المنصور، وقال لأجد خدامه، إذهب إلى السبي، فاختر أجمل نساء الأبكار؛ وأت بابن عياش، فقل له هذه تطفي من خلقك. قال ابن عياش يخاطب ولده، وقد حدث الحديث: هي أمك يا محمد أو فلان.
بعض أخباره مع المنصور

ومحاورته الدالة على جلالة قدره

قال ابن خميس؛ حدثني خالي أبو عبد الله ابن عسكر، أن الكاتب أبا عبد الله بن عياش، كتب يوماً كتاباً ليهودي، فكتب فيه، ويحمل على البر والكرامة. فقال له المصور، من أين لك أن تقول في كافر، ويحمل على ابر والكرامة. فقال له المنصور، من أين لك أن تقول في كافر، ويحمل على البر والكرامة. فقال ففكرت ساعة، وقد علمت أن الاعتراض يلزمني، فقلت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ " إذا أتاكم كريم قوم، فأكرموه " ؛ وهذا عام في الكافر، وغيره. فقال نعم هذه الكرامة، فالمبرة أين أخذتها، قال فسكت ولم أجد جواباً، قال فقرأ المنصور، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " لا ينهاكم الله عن الدين، لم يقاتلونكم في الدين، ولم يخرجوحكم من ديارهم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين " . قال فشهدت بذلك؛ وشكرته.
شعرهمن شعره:
بلنسية بيني عن العلياء سلوة ... فإنك روض لا أحن لزهرك
وكيف يجب المرء داراً تقسمت ... على صارمي جذع وفتنة مشرك
وذكره الأديب أبو بحر صفوان بن إدريس في زاد المسافر عند اسم ابن عياش؛ قال، اجتمعنا في ليلة بمراكش، فقال أبو عبد الله ابن عياش:
أشفارها أم صارم الحجاج ... وجفونها أم فتنة الحلاج
فإذا نظرت لأرضها وسمائها ... لم تلف غير أسنة وزجاج
وقال في المصحف الإمام، المنسوب إلى عثمان بن عفان، لما أمر المنصور بتحليته بنفيس الدر من قصيده:
ونقلت من كل ملك ذخيرة ... كأنهم كانوا برسم مكاسبه
فإن ورث الأملاك شرقاً ومغرباً ... فكم قد أخلوا جاهلين بواجبه
وألبسته الدر والياقوت حلية ... وغيرك قد رواه من دم صاحبه
كتابتهقال ابن سعيد في المرقصات والمطربات، أبو عبد الله بن عياش، كاتب الناصر وغيره، من بني عبد المؤمن وواسطة عقد ترسيله، قوله في رسالة كتبها في نزول الناصر على المهدية بحراً وبراً، واسترجاعها من أيدي الملثمين: ولما حللنا عرى السفر، بأن حللنا حمى المهدية، تفاءلنا بأن تكون لمن حل بساحتها هدية، فأحدقنا بها إحداق الهدب بالعين، وأطرنا لمختلس وصالها غربان البين، فبانت بليلة باسنية، وصابح يوماً صافحته فيه يد المنية. ولما اجتلينا منها عروساً، قد مد بين يديها بساط الماء، وتوجهت بالهلال، وقرطته بالثريا، ووشجت بنجوم السماء، والسحب تسحب عليها أردانها، فترتديها تارة متلثمة، وطوراً سافرة، وكأنما شرفاتها المشرفة أنامل مخضبة بالدياجي، مختتمة بالكواكب الزاهرة، تضحي عن شنب لا تزال تقبله أفواه المجانيق، وتمسي باسمة عن لعس، لا تبرح ترشفه شفاه سهام الحريق، خطبناها، فأرادت التنبيه على قدرها، والتوفير في إعلاء مهرها، ومن خطب الحسناء، لم يغله المهر، فتمنعت تمنع المقصورات في الخيام، وأطالت إعمال العامل في خدمتها، وتجريد الحسام، إلى أن تحققت عظم موقعها في النفوس، ورأت كثرة ما ألقى لها من نثار الرؤوس، جنحت إلى الإحصان بعد النشوز، ورأت اللجاج في الامتناع من قبول الإحسان لا يجوز، فأمكنت زمامها من يد خاطبها، فبانت معرساً، حيث لا حجال إلا من البنود، ولا خلوق إلا من دماء أبطال الجنود، فأصبح وقد تلألأت بهذه البشاير وجوه الأفكار؛ وطارت بمسارها سوايح البراري، وسوانح البحار. فالحمد لله الذي أقر الحق في نصابه، واسترجعه من أيدي غصابه، حمداً يجمع شمل النعم، ويلقحها كما تلقح الرياح الديم، فشنفوا الأسماع بهذه البشاير، واملئوا الصدور بما يرويه لكم من أحاديثها كل وارد وصادر، فهو الفتح الذي تفتحت له أبواب السماء وعم الخير واليمن به بسيطي الشرق والماء؛ فشكر الله عليه فرض، في كل قطر من أقطار الأرض.
دخل غرناطة، مرتاداً، ومتعلماً، ومجتازاً.
مولده: ببرشانة بلده، عام خمسين وخمس ماية.
وفاته: توفي بمراكش في شهر رجب الفرد من عام ثمانية عشرة وستماية، رحمه الله.
ابن محمد الهمدانيمحمد بن علي بن محمد بن إبراهيم بن محمد الهمداني من أهل وادي آش، يكنى أبا القاسم ويعرف بابن البراق.
حاله

قال ابن عبد الملك، كان محدثاً حافظاً، راوية مكثرا، ثقة ضابطاً، شهر بحفظ كتب كثيرة، من الحديث، وغيره، ذا نظر صالح في الطلب، أديباً بارعاً، كاتباً بليغاً، مكثراً لجيده، سريع البديهة في النظم والنثر، والأدب أغلب عليه. قال أبو القاسم بن المواعيني، ما رأيت في عباد الله، أسرع ارتجالاً منه.
مشيختهروى عن أبي بحر يوسف بن أحمد بن أبي عيشون، وأبي بكر بن زرقون، وابن قيد، وابن إبراهيم بن المل، وابن النعمة وصحبه، ولقيه بمراكش، ووليد بن موفق، وأبي عبد الله بن يوسف بن سعادة، ولازمه أزيد من ست سنين، وأكثر عنه، وابن العمرسي، وأبي العباس بن إدريس، والخروبي، وتلا عليه بالسبع، وأكثر عنه، وعرض عليه من حفظه كثيراً، وابن مضاء، وأبي علي بن عرب، وأبي القاسم بن حبيش، وابن عبد الجبار، وأبي محمد بن سهل الضرير، وعاشر وقاسم بن دحمان، وأبي يوسف بن طلحة. وأجاز له أبو بكر بن العربي، وابن خير، وابن مندلة. وابن تمارة، وأبو الحسن شريح، وابن هذيل، ويونس بن مغيث، وأبو الجليل مفرج ين سلمة، وأبو عبد الله حفيد مكي، وأبو عبد الرحمن بن مساعد، وأبو عامر محمد بن أحمد السالمي، أبو القاسم بن بشكوال، وأبو محمد بن عبيد الله وأبو مروان البياض، وابن قزمان، وأبو الوليد بن حجاج.
من روى عنهروى عنه ابنه أبو القاسم، وأبو الحسن بن محمد بن بقي الغساني، وأبو عبد الله محمد بن يحيى السكري، وأبو العباس النباتي، وأبو عمرو بن عياد، وهو أسن منه وأبو الكرم جودى.
تواليفهصنف في الأدب مصنفات منها بهجة الأفكار، وفرصة التذكار، في مختار الأشعار، ومباشرة ليلة السفح، ومقاله في الإخوان، خرجها من شواهد الحكم، ومصنف في أخبار معاوية، والدر المنظم في الإحسار المعظم، ومجموع في الألغاز، ورضة الحدائق في تأليف الكلام الرائق، مجموع نظمه ونثره، وملقي السبل في فضل رمضان، وقصيدته في ذكر النبي صلى الله عليه وسلم، وخطرات الواجد في رثاء الواحد، ورجوم الإنذار بهجوم العذار، إلى غير ذلك.
محنتهغربه الأمير ابن سعد من وطنه، وألزمه سكنى مرسية، ثم بلنسية. ولما مات ابن سعد آخر يوم من رجب سبع وستين وخمس ماية، عاد إلى وطنه واستقر به يفيده الدية، إلى آخر عمره.
شعرهوشعره كثير. فمن ذلك القصيدة الشهيرة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر صحابته:
بالهضب هضب زرود أو تلعاتها ... ساقتك هاتفة على نغماتها
مصدورة تفتن في جيعها ... فيبين نفث السحر في نفثاتها
إن راغها راد الضحى أو راعها ... جنح الدجا سيان في ذكراتها
هذا يمتعها وذاك يشوقها ... والموت في يقظاتها وسناتها
ولولا التعلل بالكرى ينتابها ... نضحت فزور الطيف برح شكاتها
لكن بين جفونها وهنامها ... خرزاً تثير النهب في كراتها
ولئن نصقت لها به فتقول من ... يلقى الرياح بملتقى هباتها
مطلولة الفرعين يلحفها الربى ... كتفاً ويلثمها المنى زهراتها
وتسيغها ماء النخيلة جرعة ... لغياضها من مجتني نجلاتها
منها:
يا من تبلج نوره عن صادع ... بالواضحات الغر من آياتها
يا شارعاً في أمة جعلت به ... وسطاً فغالت مستدام حياتها
في دار خلد لا يشيب وليدها ... حيث الشباب يرف في وجناتها
يا مصطفاها مرفع قدرها ... بأكنفها يا منتهى علياتها
يا منتقاها من راومة هاشم ... يا هاشم الصلبان في نزواتها
يا خاضداً للشرك شوكة حزبه ... يا يا فعاً للعرب في جمراتها
قلت، نقل الشيخ أزيد من ذلك أو ضعفه أو نحوه. إلى أن قال، وهي طويلة، قلت وثقيلة الروح. ولقد صدق في قوله.
ومن شعره:
يا بدر تم طالعاً في الحشيي ... برح بي منك أوان المغيب
حظك من قلبي تعذيبه ... وحظه منك الأسى والوجيب
فمن يكن يزهى بلبس المنى ... فإن زهوى بلحاس النحيب
في ساعة قصر أنيابها ... غييته لي وحضور الرقيب
وقال:

رثوا القباب بأدمع مغضوضة ... ذوي للفراق وأكبد تتصرم
فللنفس في تلك الربوع حبيبة ... والقلب في إثر الوداع مقسم
هل لي بهاتيك الظبا إلماعة ... أم هل لذاك السرب شمل ينظم
حقاً فقدت الذات عند فراقهم ... فالشخص يوجد والحقيقة تعدم
وفاتهتوفي ببلده لثلاث بقين من رمضان ست وتسعين وخمس ماية. قال أبو القاسم المواعيني، عثر في مشيه فسقط، فكان سبب منيته، ودخل غرناطة، في غير ما وجهة منها، راويا عن أبي القاسم بن الفرس. ومع ذلك فهو من أحوازها وبنياتها.
ابن خاتمة الأنصاريمحمد بن علي بن نحمد بن علي بن محمد بن خاتمة الأنصاري من أهل ألمرية، يكنى أبا عبد الله.
حالهمن كتاب الإكليل ما نصه: ممن ثكلته اليراعة، وفقدته البراعة، تأدب بأخيه، وتهذبن وأراه في النظم المذهب، وكساه من التفهم والتعليم البرد المذهب، فاقتفي واقتدى، وراح في الحلبة واغتدى، حتى نبل وشدا. ولو أمهله الدهر لمبلغ المدا. وأما خطه فقيد الأبصار، وطرفة من طرف الأمصار، واعتبط يانع الشبيبة، مخضر الكتيبة.
شعرهكفوا الملام فلا أصغى إلى العذل ... عقلي وسمعي عن العذال في شغل
يقول في هذه القصيدة:
هزل المحبة جد والهوان هوى ... والصب يتلف بين الجد والهزل
من مسعد وفؤادي لا يساعدني ... أو من شفيعي وذلي ليس يشفع لي
أعلل النفس بالآمال أطمعها ... حتى وقعت من التعليل في علل
لئن كنت تجهل ما في الحب من محن ... أنا الخبير فغيري اليوم لا تسل
أنا الذي قد حلبت الحب أشطره ... فلم يفدني لا حولي ولا حيل
لا أشرب الراح كي أحلو براحتها ... لكن لأدفع ما بالنفس من كسل
ولا أجول بطرفي في الرياض سوى ... ذكري لأيامنا في ظلها الأول
أنا العهد مضى ما كان أعذبه ... لم يبق لي غير آيات من الخبل
كم فديتك يا قلبي وأنت على ... تلك الغواية لم تبرح ولم تزل
فاختر لنفسك إما أن تصاحبني ... حلواً وإلا فدعني منك وارتحل
فقد تبعتك حتى سرت من شغفي ... ولوعتي في الهوى أعجوبة المثل
ومن شعره:ومض البرق فثار القلق ... ومضى النوم وحل الأرق
وينعاني من غرامي قد شكا ... ودموعي من ولوعي تنطق
ودليلي في غليلي زفرتي ... وعذابي بانتحابي أصدق
وحسودي من وقودي رق لي ... ضمناً فيها الحمى والأيفق
وعشيات تقضت باللوى ... في مخيلي الدهر منها رونق
إذ شبابي والتصايي جمعا ... ورياض الأنس غض مونق
شت يوم البين شملي ... ليت ما خلق البين لقلب يعشق
آه من يوم قضى له فرقة ... شاب مني يوم حلت مفرق
ومن ذلك:
أيا جيرة الحي الممنع جاره ... سقى ريقكم دمعي إذا بخل الوبل
متى غبتم عني فأنتم بخاطري ... وإن تقصدوا ذلي فقد لذني الذل
عذابكم قرب وبخلكم ندى ... وإذلاكم عز وهجرانكم وصل
وأنتم نعيمي لا نعمت بغريكم ... وروضي لا ما أريد ولا ظل
ومن ظريف نزعاته قوله:
الرفع نعتكم لا خابك أمل ... والخفض شيمة شأني والهوى دول
هل منكم لي عطف بعد بعدكم ... إذ ليس لي منكم يا سادتي بدل
وفاتهاعتبط في الطاعون في أوايل ربيع الأول عام خمسين وسبعماية. ورد إلى الحضرة غير ما مرة.
ابن قزمان الزهريمحمد بن عيسى بن عبد الملك بن قزمان الزهري من أهل قرطبة يكنى أبا بكر
حاله

نسيج وحده، أدباً وظرفاً ولوذعية وشهرة. قال ابن عبد الملك، كان أديباً بارعاً، محسناً، شاعراً حلو الكلام، مليح التندير، مبرزاً في نظم الطريقة الهزلية، بلسان عوام الأندلس، الملقب بالزجل. قلت وهذه الطريقة بديعة يتحكم فيها ألقاب البديع، وتنفسخ لكثير مما يضيق سلوكه على الشاعر. وبلغ فيها أبو بكر مبلغاً حجره الله عن سواه. فهو آيتها المعجزة، وحجتها البالغة، وفارسها العلم، والمبتدي فيها والمتمم، رحمه الله. وقال الفتح فيه: مبرز في البيان، ومحرز السبق عند تسابق الأعيان، اشتمل عليه المتوكل على الله اشتمالاً رقاه إلى مجالس، وكساه ملابس، واقتطع أسمى الرتب وتبوأها، ونال أسنى الخطط وما تمالأها.
شعرهقال الفتح، وقد أثبت له ما يعلم به رفيع قدره، ويعرف كيف أسا الزمن بغدره، قوله:
ركبوا السيول من الخيول وركبوا ... فوق العوالي السمر زرق قطاف
وتجللوا الغدران من ماذيهم ... مرتجة إلا على الأكتاف
وكتب إليه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبي الخصال يستدعيه إلى مجلس أنس:
أني أهزك هز الصارم الخذم ... وبيننا كل ما تدريه من ذمم
ذاك شاك من قطع أنس أنت واصله ... بما لديك من الآداب والحكم
وشت شمل كرام أنت ناظمه ... ورد دعوة أهل المجد والكرم
ولو دعيت إلى أمثالها لسعت ... إليك سعي مشوق هائم قدم
وإن نشطت لتصريفي صرفت له ... وجهي وكنت من الأعوان والخدم
وما أريد سوى عفو تجود به ... وفي حديثك ما يشفي من الألم
أنت المقدم في فخر وفي أدب ... فاطلع علينا طلوع السيد العمم
فأجابه رحمه الله:
أتى من المجد أمر لا مرد له ... نمشي على الرأس فيه لا على القدم
لبيك لبيك أضعافاً مضاعفة ... إني أجبت ولكن داعي الكرم
لي همة ولأهل العز مطمحها ... لا زلت في كل مجد مطمح الهمم
وإن حقك معروف وملتزم ... وكيف يوجد عندي غير ملتزم
زفن ورقص وما أحببت من ملح ... عندي وأكثر ما تدريه من شيم
حتى يكون كلام الحاضرين بها ... عند الصباح وما بالعهد من قدم
يا ليلة السفح هلا عدت ثانية ... سقى زمانك هطال من الديم
وقال في غرض النسيب:
يا رب يوم زادني فيه ... من أطلع من غربه كوكبا
ذو شفة لمياء معسولة ... ينشع من خديه ماء الصبا
قلت له وهب لي بها قبلة ... فقال لي مبتسما مرحبا
فذقت شيئاً لم أذق مثله ... لله ما أحلى وما أعذبا
أسعدني الله بإسعاده ... يا شقوتي يا شقوتي لو أبا
وقال:
جئت لتوديعه وقد ذرفت ... عيناي من حسرة وعيناه
في موكب البين باكين ولا ... أصعب من موقف وقفناه
معانقاً جيده على حذر ... فمن رآني مقبلاً فاه
نغص توديعه لعاشقه ... ما كان من قبل قد تمناه
وقال يعتذر ارتجالا وأحسن ما أراد:
يا أهل ذا المجلس السامي سراوته ... ما ملت لكنني مالت بن الراح
وإن أكن مظعناً مصباح بيتكم ... فكل من فيكم في البيت مصباح
وقال يهني بعرسك
صرفت إليك وجوهها الأفراح ... وتكنفتك سعادة ونجاح
فاقض المآرب في زمان صالح ... لا سد عنك من الزمان صلاح
إن كان كالشمس المنيرة حسنها ... فالبدر أنت وما عليك جناح
لا فرق بينكما لرأي فاستوى ... زي النساء قلادة ووشاح
هل يوقد المصباح عند كما مهجاً ... وكلاكما ببهائه مصباح
أحرزت يا عبد العزيز محاسنا ... كثرت فلم تستوفها الأمداح
يا من له كف تجود وأضلع ... مطوى على حفظ الوداد شجاح

ما ألقت الحاجات دوني قفلها ... إلا ويمن يمينك المفتاح
في كل ما تنحو إليه ملاحة ... وكذاك أفعال المليح ملاح
ومن الحكمة قوله:
كثير المال تبذله فيبقى ... ولا يبقى مع البخل القليل
ومن غرست يداه ثمار جود ... ففي ظل الثناء له مقيل
وقال رحمه الله:
وعهدي بالشباب وحسن قدي ... حكى ألف ابن مقلة في الكتاب
فصرت اليوم منحنياً كأني ... أفتش في التراب على الشباب
وقال رحمه الله:
يمسك الفارس رمحاً ... وأنا أمسك فيها قصبة
وكلانا بطل في حربه ... إن الأقلام رماح الكتبة
قال ابن عبد الملك: أنشدت على شيخنا أبي الحسن الرعيني، قال، أخبرنا الراوية أبو القاسم بن الطيلسان، قال سألته، يعني أبا القاسم أحمد بن أبي بكر هذا، أن ينشد شيئاً من شعر أبيه المغرب، فأخرج لي قطعة بخط أبيه وأنشده. وقال أنشدني أبي رحمه الله لنفسه:
أحسن ما نيط في الدعا لمن ... رتب في خطة من الخطط
خلصك الله من عوايقها ... ودمت في عصمة من الغلط
مقرباً منك ما تسر به ... وكل مكروهة على شحط
الكل بالعدل منك مغتبط ... وليس في الناس غير مغتبط
وليس يخليك من أنا لكها ... من عمل بالنجاة مرتبط
فانفذ بعون الله مجتهدا ... بقلب صفي بالضمير مرتبط
يا صاحب الأمر والذي يده ... نايلها للعفاة غير بط
رفعتم يا بني رفاعة ما كان ... من المعلوات في هبط
ومنبر الحق من سواه بكم ... فها هو الآن غير مختلط
وانضبط الأمر واستقام لكم ... ولم يكن من قبل ذا بمنضبط
أتيت في كل ما أتيت به ... فالغيث بعد الرجا والقنط
جللت عمن سواك منزلة ... فلست ممن سواك في نمط
أنت من المجد والعلا طرف ... وكلهم في العلا من الوسط
كتابتهوقفت من ذلك على أفانين. منها في استهلال شهر رمضان قوله:

سلام على أنس المجتهدين، وراحة المتهجدين، وقرة أعين المهتدين، والذي زين الله به الدنيا، وأعز به الدين. شرف الله به الإسلام، وجعل أيامه رقوماً في عواتق الأيام. وشهوره غرراً في جباه الأعلام، وحل به عن رقاب الأمة قلايد الآثام، ونزه فيه الأسماع عن المكاره، وصان الأفواه من رفث الكلام. أشهد أن اله أنبني عليك، وأدخل من شاء الجنة على يديك، وخصك من الفضايل بما يمشي فيه التفسير حتى يكل ويسأم، ذلك اللسان ويمل، وأبادت ذنوب الأمة بمثل ما أبادت الشمس الظل، ذلك الذي يتهلل للسماء هلاله، ويهتز العرش لجلاله، وترتج الملايكة في حين إقباله، وتدخل الحور العين في زينتها تكريماً، وتلتزم إجلاله وتعظيماً، ويهتدي فيه الناس إلى دينهم صراطاً مستقيماً، وتغل الشياطين على ما خليت. وتذوق وبال ما كادت به وتخيلت، ويشمر التقي لعبادة ربه ذيلاً، وتهبط الملايكة إلى سماء الدنيا ليلا، وينتظم المتقون في ديوانه انتظام السلك. ويكون خلوف فم الصايم عند الله أطيب من ريح المسك، وتفتح الجنة أبواباً، ويغفر لمن صامه إيماناً واحتساباً، جزاء من ربك عطاء حسابا، وبما فضلك الله على سائر الشهور، وقضى لك بالشرف والفضل المشهور. فرضك في كتابه، ومدحك في خطابه، حيث قال، شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان، يعني تكبير الناس عليك، وتقليب أحداقهم بالنظر إليك، حين لثمت بالسحاب، ونظرت من تحت ذلك النقاب، وقد يمتاز الشيب وأن استتر بالخضاب، حتى إذا وقف الأيمة منك على الصحيح، وصرحوا برؤيتك كل التصريح، نظرت كل جماعة في اجتماعها، وتأهبت القراء لإشفاعها، واندفعت الأصوات باختلاف أنواعها، وتضرعت الألباب، وطلبت المواقف أواخر العشار والأحزاب، وابتديت ألم ذلك الكتاب، عندما أوقدت قناديل كأنما قد بدت من الصباح، ورقصت رقص النواهد عند هبوب الرياح، والله نور السموات والأرض، مثل نوره كمشكاة فيها مصباح، فأملك المسلمون في سر وجهر، وحطت أثقال السيئات عن كل ظهر، والتمست الليلة التي هي خير من ألف شهر، فنشط الصالحون بك صوماً، وهجر المتهجدون في ليلك نوماً، وأكملناك إن أذن الله ثلاثين يوما. فيا أيها الذي رحل، رحل بعد مقامة، وقام للسفر من مقامه، ورأى من قضى حقه، ومن قصر في صيامه، فمشى الناس إلى تشييعه، وبكوا لفراقه وتوديعه، وندم المضيع على ما كان من تضييعه، ولم يثق بدوام العيش إلى وقت رجوعه، فعض على كفه ندماً، وبكت عيه ماء وكبده دماً. رويداً حتى أمرح في ميدان فراتك، وأتضرع إلى حنانك وإشفاقك، وأتشفى من تقبيلك وعناقك، وأسل منك حاجة إن أراد الله قضاها، وشاء نفوذها وإمضاها، إذا أنت وقفت لرب العالمين، فقبلك من قوم، وردك في وجوه آخرين. إن تثنى جميلاً، فعسى يصفح لعهده وإن أسا، فعلم الله أني نويت التوبة أولا وآخراً، وأملت الأداء باطنا وظاهرا، وكنت على ذلك لو هدى الله قادراً، وإنما علم، من تقصير الإنسان ما علم، وللمرء ما قضى عليه به وحكم، وإن النفس لأمارة بالسوء غلا من رحم، فإن غفر فبطوله وإحسانه، وإن عاقب فيما قدمت يد العبد من عصيانه، فيا وحشة لهذه الفرقة، ويا أسفاً على بعد الشقة، ويا شد ما خلفته لنا بفراقك من الجهد والمشقة، ولطالما هجر الإنسان بك ذنبه، وراقب إعظاماً لكربه، وشرحت إلى أعمال البر قلبه. ومع هذا أتراك ترجع وترى، أم تضم علينا دونك أطباق الثرى. فيا ويلنا إن حل الأجل، ولم أقض دينك، ورجعت وقد حال الموت بيني وبينك. فأغرب، لا جعله الله آخر التوديع، وأي قلب يستطيع.
وقال في استهلال شوال:

ولكل مقام مقال. الله أكبر هذا هلال شوال قد طلع، وكر في منازله وقطع، وغاب أحد عشر شهراً، ثم رجع. مالي أراه رقيق الاستهلال، خفي الهلال، وروحاً تردد في مثل انملال، ما باله أمسى الله رسمه، وصحح جسمه، ورفع في شهور العام اسمه، على وجهه صفرة بينة، ونار إشراقه لينة، وأرى السحاب تعتمده وتقف، وتغشاه سويعة وتنصرف، ما أراه إلا بطول ذلك المقام، وتوالي الأهوال العظام. أصابه مرض في فصل من فصول العام، فعادته كما يعاد المريض، وبكته الأيام الغر والليالي البيض، وقلن كلأك الله وكفاك، وحاطك وشفاك، وقل كيف نجدك، لا فض فاك، هذا على الظن لا على التحقيق، ومجاز لا يحكم التصديق. وإنه ليبعد مثل هذا المقدار، أن يقدح فيه طول الغيب، وتواتر الأسفار. أليس هو قد ألف مجالي الرياح، وصحب برد الصباح، وشاهد الأهوية مع الغدو والرواح، وطواها بتجربته طي الوشاح. ما ذاك إلا أنه رأى الشمس في بعض الأيام ماشية، والحسن يأخذ منها وسطاً وحاشية، ودلائل شبابها ظاهرة فاشية، فوقع منها في نفسه ما وقع، وثبت على قلبه من النظر ما زرع، ووقع في شركها، وحق له أن يقع. فرثت هي لحاله وأشفقت، ونهجت بوصالها وتأنقت، وقطعت من معدن نيلها وأنفقت، ورأت أنها له شاكله يبلغ أملها، وتبلغ مأمله، ولذلك ما مدت لذيذ السماح، فتعرضت بالعشي، وارتصدها في الصباح، مع ما أيقنا به من النقطاع، ويمسنا من الاجتماع، كما نفد القدر، وصدر الخبر. وقال تعلن لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، فوجد لذلك وجداً شديداً، وأذاقه مع الساعات شوقاً جديداً، وأصبح بها دنفاً، وأمسى عميداً، حتى سلب ذلب بهاه، وأذهب سناه، ورده النحول كما شاه، ولقي مها مثل ما لقي غيلان من ميته، وجميل من بثينته، وحن إليها حنين عروة إلى عفرا، وموعدهما يوم وهب ناقته الصفراء. على رسك أني وهمت، وحسبت ذلك حقاً وتوهمت، والآن وقد فطنت، وأصبت الفص فيما ظننت، إنه لقي رمضان ي إقباله، وضمه نقصان هلاله، وصامه فجأة ولم يك في باله، فأثر ذلك في وجهه الطلق، وأضعفه كما فعل بساير الخلق، وها هو قد أقبل من سفره البعيد، فقل هو هلال الفطر أو قل هو هلال العيد، فلقه صباح مشى الناس فيه مشيى الحباب، ولبسوا أفضل الثياب، وبرزوا إلى مصلاهم من كل باب، فارتفعت همة الإسلام. وشرفت أمة محمد عليه السلام، وخطب بالناس ودعا للإمام، عندما طلعت الشمس بوجه المرآة، ولون كصفا المهراة. وخرج لا ينسيها ريم الفلاة. وقضوا السنة، وبذلوا الجهد في ذلك والمنة، وسألوا من الله أن يدخلهم الجنة، ثم خطبوا حمداً لله وشكراً، وذكروه كذكرهم آبائهم أو أشد ذكراً، ثم انصرفوا راشدين، وافترقوا حامدين، وشبك الشيخ بيديه، ونظر الشاب في كفيه. ورجعوا على غير الطريق الذي أتوا عليه، فلقد استشفى من الرؤية ذو عينين، وتذكر العاشق موقف البين، وشق المتنزه بين الصفين، فنقل عينيه من الوشيي إلى الديباج، ووجوه كضوء السراج، وعيون أقتل من سيف الحجاج، ونظرات لا يدفع داؤها بالعلاج، وقد زينت العيون بالتكحيل، والشعور بالترجيل، وكرر السواك على مواضع التقبيل، وطوقت الأعناق بالعقود، وضرب الفكر في صفحات الخدود، ومد بالغالية على مواضع السجود، وأقبلت صنعاً بأوشيتها، وعنت بأرديتها، ودخلت العروس في حليتها، ورقمت الكفوف بالحناء، وأثني على الحسن وهو أحق بالثناء، وطلقت التوبة ثلاثاً بعد البناء، وغص الذراع بالسوار، وتختم في اليمين واليسار، وأمسكت الثياب بأيدي الأبكار، ومشت الإماء أمام الأحرار، وتقدمت الدايات بالأطفال الصغار، وامتلأت الدنيا سرراً، وانقلب الكل إلى أهله مسروراً. وبينما كانت الحال كما نصصت، والحكاية كما قصصت، إذ لألأت الدنيا برقاً، وامتد مع الأفقين غرباً وشرقاً، ورد لمعانه عيون الناظرين زرقاً، ولولا أنه جرب حتى يدرا، لقيل قد طلعت مع الشمس شمس أخرى، حتى أقبل من شرفت العرب بنسبه، وفخر الإسلام بسببه، من انتسب إلى زهرة وقصي، وازدانت به آل غالب وآلي لؤي، من إذا ذكر المجد فهو ممسك بنده، أو الفضل فهو لابس برده، أو الفخر فهو واسطة عقده، أو الحسن فهو نسيج وحده، الذي رفع لواء العليا، وعارضت مكارمه صوب الحبا، وحكت محاسنه زهرة الحياة الدنيا. فأما وجهه فكما شرقت الشمس وأشرقت، وغربت كواكب سمايها وشرقت، وتفتحت أطواق الليل عن غرر ومجده وتشققت. ولولا حياً يغلب

عليه، وخفر يصحبه إذا نظرت إليه، لاستحال النهار، وغارت لنوره كواكب الأسحار، ولكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، لا يحفل بالصبح إذا انفلق، ولا بالفجر إذا عم آفاق الدجا وطبق، ولو بدا للمسافر في ليله لطرق، قد عجم الأبنوس على العاد، وأدار جفناً كما عطف على أطفالها النعاج، يضرب بها ضرب السيف، ويلم بالفؤاد إلمام الطيف، ويتلقاها السحر تلقي الكريم للضيف، لو جردها على الريم لوقف، أو على فرعون ما صرف من سحره ما صرف، أو على بسطام ابن قيس لألقى سلاحه وانصرف. وأما أدواته فكما انشقت الأرض عن نباتها، وأخذت زخرفها في إنباتها، ونفخ عرف النسيم في جنباتها، يتفنن أفانين الزهر، ويتقلب تقلب الدهر، وتطلع له نوادر كالنجوم الزهر، لو أبصره مطرف ما شهر بخطه، ولا جر من العجب ذيل مرطه، ولا كان المخبر معه من شرطه. وأما أنه لو قرى على سحبان كتابه، وانحدر على نهره عبابه، وملأت مسامعه أطنابه وأسبابه، ما قام في بيانه ولا قعد، ولنزل عن مقامه الذي إليه صعد، ولا خلف من بلاغته ما وعد. لعمرك ما كان بشر بن المعتمر بتفنن للبلاغة فنوناً، ولا يتقبلها بطوناً ومتوناً، ولا أبو العتاهية ليشرطها كلاماً موزوناً، ولا نمق الحسن بن سهل الألفاظ، ولا رفع قس بن ساعدة صوته بعكاظ، ولا أغلظ زيد بن علي، هشاماً بما أغاظ. وأما مكارمه فكما انسكب الغيث عن ظلاله وخرج الودق من غلاله، فتدارك النعمة عن فوتها، وأحيا الأرض بعد موتها. ذلك الشريف الأجل، الوزير الأفضل، أبو طالب ابن القرشي الزهري، أدام الله اعتزازه، كما رقم في حلل الفخر طرازه، فاجتمعت به السيادة بعد افتراقها. وأشرق وجه الأرض لإشراقها، والتفت الثياب بالثياب، وضم الركاب بالركاب، ولا عهد كأيام الشباب، فوصل القريب البعيد، وهنوه كما جرت العادة بالعيد، فوقف مع ركابه وسلمت، وجرت كلاماً وبه تكلمت، فقلت تقبل الله سعيك، وزكى عملك، وبلغك فيما توده أملك، ولا تأملت وجهاً من السرور غلا تأملك، ونفعك بما أوليت، وأجزل حظك على ما صمت وصليت، ووافقتك لعل وساعدتك ليت، وهناك عيد الفطر وهنأته، وبداك بالمسرات وبدأته، وتبرأ لك الدهر مما تحسد وبرأته. وهكذا بحول الله أعياد واعتياد، وعمر في دوام، وعز في ازدياد، والسنة تفصح بفضلك إفصاح الخطباء من إياد، وأقرأ عليك سلام الله ما أشرق الضحا، ودام الفطر والأضحى.، وخفر يصحبه إذا نظرت إليه، لاستحال النهار، وغارت لنوره كواكب الأسحار، ولكاد سنا برقه يذهب بالأبصار، لا يحفل بالصبح إذا انفلق، ولا بالفجر إذا عم آفاق الدجا وطبق، ولو بدا للمسافر في ليله لطرق، قد عجم الأبنوس على العاد، وأدار جفناً كما عطف على أطفالها النعاج، يضرب بها ضرب السيف، ويلم بالفؤاد إلمام الطيف، ويتلقاها السحر تلقي الكريم للضيف، لو جردها على الريم لوقف، أو على فرعون ما صرف من سحره ما صرف، أو على بسطام ابن قيس لألقى سلاحه وانصرف. وأما أدواته فكما انشقت الأرض عن نباتها، وأخذت زخرفها في إنباتها، ونفخ عرف النسيم في جنباتها، يتفنن أفانين الزهر، ويتقلب تقلب الدهر، وتطلع له نوادر كالنجوم الزهر، لو أبصره مطرف ما شهر بخطه، ولا جر من العجب ذيل مرطه، ولا كان المخبر معه من شرطه. وأما أنه لو قرى على سحبان كتابه، وانحدر على نهره عبابه، وملأت مسامعه أطنابه وأسبابه، ما قام في بيانه ولا قعد، ولنزل عن مقامه الذي إليه صعد، ولا خلف من بلاغته ما وعد. لعمرك ما كان بشر بن المعتمر بتفنن للبلاغة فنوناً، ولا يتقبلها بطوناً ومتوناً، ولا أبو العتاهية ليشرطها كلاماً موزوناً، ولا نمق الحسن بن سهل الألفاظ، ولا رفع قس بن ساعدة صوته بعكاظ، ولا أغلظ زيد بن علي، هشاماً بما أغاظ. وأما مكارمه فكما انسكب الغيث عن ظلاله وخرج الودق من غلاله، فتدارك النعمة عن فوتها، وأحيا الأرض بعد موتها. ذلك الشريف الأجل، الوزير الأفضل، أبو طالب ابن القرشي الزهري، أدام الله اعتزازه، كما رقم في حلل الفخر طرازه، فاجتمعت به السيادة بعد افتراقها. وأشرق وجه الأرض لإشراقها، والتفت الثياب بالثياب، وضم الركاب بالركاب، ولا عهد كأيام الشباب، فوصل القريب البعيد، وهنوه كما جرت العادة بالعيد، فوقف مع ركابه وسلمت، وجرت كلاماً وبه تكلمت، فقلت تقبل الله سعيك، وزكى عملك، وبلغك فيما توده أملك، ولا تأملت وجهاً من السرور غلا تأملك، ونفعك بما أوليت، وأجزل حظك على ما صمت وصليت، ووافقتك لعل وساعدتك ليت، وهناك عيد الفطر وهنأته، وبداك بالمسرات وبدأته، وتبرأ لك الدهر مما تحسد وبرأته. وهكذا بحول الله أعياد واعتياد، وعمر في دوام، وعز في ازدياد، والسنة تفصح بفضلك إفصاح الخطباء من إياد، وأقرأ عليك سلام الله ما أشرق الضحا، ودام الفطر والأضحى.

دخوله غرناطة

دخل غرناطة، وتردد إليها غير ما مرة، وأقام بها؛ وامتدح ابن أضحى وابن هاني، وابن سعيد وغيرهم من أهلها. قال ابن سعيد في طالعه، وقد وصف وصول ابن قزمان إلى غرناطة، واجتماعه بجنبته بقرية الزاوية من خارجها، بنزهون القليعية الأديبة، وما جرى بينهما، وأنها قالت له بعقب ارتجال بديع، وكان لبس غفاره صفراء، أحسنت يا بقرة بني إسرائيل، إلا أنك لا تسر الناظرين، فقال لها إن لم أسر الناظرين، فأنا أسر السامعين، وإنما يطلب سرور الناظرين منك، يا فاعلة يا صانعة. وتمكن السكر من ابن قزمان، وآل الأمر إلى أن تدافعوا معه حتى رموه في البركة، فما خرج منها إلا وثيابه تقطر، وقد شرب كثيراً من الماء، فقال إسمع يا وزير ثم أنشد:
إيه أبا بكر ولا حول لي ... بدفع أعيان وأنذال
وذات جرح واسع دافق ... بالماء يحكي حال أذيال
غرقتني في الماء يا سيدي ... كفره بالتغريق في المال
فأمر بتجريده، وخلع عليه ما يليق به ولمن يمر لهم بعد عهدهم بمثله.
ولم ينتقل ابن عزمان من غرناطة، إلا بعد ما أجزل من الإحسان، ومدحه بما هو في ديوان أزجاله.
محنتهجرت عليه بابن حمدين محنة كبيرة، عظم لها نكاله، بسبب شكاسة أخلاق كان موصوفاً بها، وحدة شقي بسببها. وقد ألم الفتح في قلايده بذلك، واختلت حاله بآخرة، واحتاج بعد انفصال أمر مخدومه الذي نوه به.
توفي بقرطبة لليلة بقيت من رمضان سنة خمس وخمسين وخمس ماية، والأمير ابن سعد يحاصر قرطبة. رحمه الله.
محمد بن غالب الرصافييكنى أبا عبد الله، بلنسي الأصل، سكن غرناطة مدة، ثم مالقة.
حالهقال الأستاذ، كان فحلاً من فحول الشعراء، ورئيساً في الأدباء، عفيفاً، ساكناً، وقوراً، ذا سمت وعقل. وقال القاضي، كان شاعراً مجيداً، رقيق الغزل، سلس الطبع، بارع التشبيهات، بديع الاستعارات، نبيل المقاصد والأغراض، كاتباً بليغاً، دنياً، وقوراً، عفيفاً، متفقهاً، عالي الهمة، حسن الخلق والخلق والسمت، تام العقل، مقبلاً على ما يعنيه من التعيش بصناعة الرفي التي كان يعالجها بيده، لم يبتذل نفسه في خدمة، والتعرض لانتجاع بقافية، خلا وقت سكناه بغرناطة، فغنه امتدح واليها حينئذ، ثم نزع عن ذلك، راضياً بالخمول حالاً، والقناعة مالاً، على شدة الرغبة فيه، واغتنام ما يصدر عنه.
أخبار عقله وسكونهقال الفقيه أبو الحسن شاكر بن الفخار المالقي، وكان خبيراً بأحواله: ما رأيت عمري رجلاً أحسن سمتاً، وأطول صمتاً، من أبي عبد الله الرصافي. وقال غيره من أصحابه، كان رفاء، فما سمع له أحد من جيرانه كلمة في أحد. وقال أبو عمرو ابن سالم، كان صاحباً لأبي، ولقيته غير ما مرة، وكان له موضع يخرج إليه في فصل العصير، فكنت أجتاز عليه مع أبي فألثم يده، فربما قبل رأسي، ودعا لي، وكان أبي يسله الدعاء فيخجل، ويقول أنا والله أصغر من ذلك. قال، وكان بإزايه أبو جعفر البلنسي. وكان متوقد الخاطر، فربما تكلم مع أحد التجار، فكان منه هفوة، فيقول له جلساؤه، شتان والله بينك وبين أبي عبيد الله في العقل والصمت، فربما طالبه بأشياء ليجاوبه عليها، فما يزيد على التبسم. فلما كان أحد الأيام، جاء البلنسي ليفتح دكانه. فتعمد إلقاء الغلق من يده، فوقع على رأس أبي عبد الله. وهو مقبل على شغله، فسال دمه، فما زاد على أن قام ومسح الدم، ثم ربط رأسه، وعاد إلى شغله. فلما رأى ذلك منه أبو جعفر ترامى عليه، وجعل يقبل يديه، ويقول، والله ما سمعت برجل أصبر منك، ولا أعقل.
شعرهوشعره لا نهاية فوفه رونقاً ومائية، وحلاوة وطلاوة، ورقة ديباجة، وتمكن ألفاظ، وتأصل معنى. وكان رحمه الله، قد خرج صغيراً من وطنه، فكان أبداً يكثر الحنين إليه، ويقصر أكثر منظومه عليه. ومحاسنه كثيرة فيه، فمن ذلك قوله:
خليلي ما لليد قد عبقت نشرا ... وما لرؤوس الركب قد رجحت سكرا
هل المسك مفتوتاً بمدرجة الصبا ... أم القوم أجروا من بلنسية ذكرا
خليلي عوجا بي قليلاً فإنه حديث ... كبرد الماء في الكبد الحرا
قفا غير مأمورين ولتتصديا ... على ثقة للمزن فاستسقيا القطرا

بجسر معان والرصافة إنه على القطر أن يسقى الرصافة والجسرا
بلادي التي ريشت قويد متى بها ... فريخاً وأورثتني قرارتها وكرا
فبادي أنيق العيش في رريق الصبا ... أبى الله أن أنسى اغتراري بها غراً
لبسنا بها ثوب الشباب لباسها ... ولكن عرينا من حلاه ولم تعرا
أمنزلنا عصر الشبيبة ما الذي ... طوى دوننا تلك الشبيبة والعصرا
محل أغر العهد لم نبد ذكره ... على كبد إلا امترى أدمعاً حمرا
أكل مكان كان في الأرض مسقطاً ... لرأس الفتى يهواه ما عاش مضطرا
ولا مثل مدحو من المسك تربة ... تملي الصبا فيه حيقتها عطرا
نبات كأن الخد يحمل نوره ... تخال لجيناً في أعاليه أو تبرا
وما كثر صيع المجرة جللت ... نواصيه الأزهار واشتبكت زهرا
أنيق كريان الحياة التي خلت ... طليق كريعان الشباب الذي مرا
وقالوا هل الفردوس ما قد وصفته ... فقلت وما الفردوس في الجنة الأخرا
بلنسية تلك الزمردة التي ... تسيل عليها كل لؤلؤة نهرا
كأن عروساً أبدع الله حسنها ... فصير من شرخ الشباب لها عمرا
يويد منها شعشعانية الضحى ... مضاحكة الشمس البحيرة والبحرا
تراجم أنفاس الرياح بزهرها ... نجوماً فلا شيطان يغربها ذعرا
وإن كان قد مدت يد البين بيننا من الأرض ما يهوى المجد به شهرا
هي الدرة البيضاء من حيت جدتها ... أضاءت ومن للدر أن يشبه الدرا
خليلي أن أسدر لها فإنها ... هي الوطن المحبوب أوكلته الصدرا
ولم أطوعنها الخطو هجراً لها إذاً ... فلا لثمت نعلي مساكنها الخضرا
ولكن إجلالاً لتربتها التي ... تضم فتاها الندب أو كهلها الحرا
أكارم عاث الدهر ما شاء فيهم ... فبادت لياليهم فهل أشتكى الدهرا
هجوع ببطن وأرض قد ضرب الردى عليهم قبيبات فويق الثرى غبرا
تقضوا فمن نجم سالك ساقط ... أبي الله أن يرعى السماك أو والنشر
ومن سابق هذا إذا شا غاية شا ... وغير محمود جياد العلى خضرا
أناس إذا لاقيت من شيت منهم ... تلقوك لا غث الحديث ولا غمرا
وقد درجت أعمارهم فتطلعوا ... هلال ثلاث لو شفا رق أو بدرا
ثلاثة أمجاد من النفر الألى ... زكوا خبراً بين الورى وزكوا خبرا
تكلتهم ثكلاً دهى العين والحشى ... فعجرذا أماً وسجر ذا جمرا
كفى حزناً أني تباعدت عنهم ... فلم ألق من سرى منها ولا سرا
وإلى متى أسل بهم كل راكب ... ليظهر لي خيراً تأبط لي شرا
أباحثه عن صالحات عهدتها هناك ... فيسبني بما يقصم الظهرا
محياً خليل عاض ماء حياته ... وساكن قصر أضر مسكنه القبرا
وأزهر كالإصباح قد كنت أجتلي ... سناء كما يستقبل الأرق الفجرا
يصرف ما بين اليراعة والقنا ... أنامله لا بل هواطله الغرا
طويل نجاد السيف لان كأنما ... تخطى به في البرد خطية سمرا
سقته على ما فيك من أريحية ... خلايق هن الخمر أو تشبه الخمرا
ونشر محيا للمكارم لو سرت ... حمياه في وه الأصيل لما اصفرا
هل السعد إلا حيث حط صعيده ... لمن بل في شفري ضريح له شفرا
طوين الليالي طيهن وإنما ... طوين عني التجلد والصبرا
فلا حرمت سقياه أدمع مزنة ... ترى مبسم النوار عنبر معترا
وما دعوتي للمزن عذراً لدعوتي ... إذا ما جعلت البعد عن قربه عذرا
وقال برثي أبا محمد بن أبي العباس بمالقة:

أبنى البلاغة فيم حفل النادى ... هبها عكاظ فأين قس أياد
أما البيان فقد أجر لسانه ... فيكم بفتكته الحمام العاد
عرشت سما علايكم ما أنتم ... من بعد ذلكم الشهاب الهادي
حطوا على عمد الطريق فقد خبت ... لآلى ذاك الكوكب الوقاد
ما فل لهزمه الصقيل وإنما ... نثرت كعوب قناكم المناد
إيه عميد الحي غير مدافع ... إيه فدى لك غابر الأمجاد
ما عذر سلك كنت عقد نظامه ... إن لم يصر برداً إلى الأباد
كثف الحجاب فما ترى متفضلا ... في ساعة تصغي به وتناد
ألمم بربعك غير مأمور فقد ... غص القنا بأرجل القصاد
خبراً يبلغه غير مأمور فقد ... غص الفنا بأرجل القصاد
خبراً يبلغه إليك ودونه ... أمن العداة وراحة الحساد
قد طأطأ الجبل المنيف قذاله ... للجار بعدك واقشعر الواد
أعد التفاتك نحونا وأظنه ... مثل الحديث لديك غير معاد
وامسح لنا عن مقلتيك من الكرى ... نوماً تكابد من بكى وسهاد
هذا الصباح ولا تهب إلى ... متى طال الرقاد ولات حين رقاد
وكأنما قال الردى نم وادعاً ... سبقت إلى البشرى بحسن معاد
أموسداً تلك الرخام بمرقد ... أخشن به من مرقد ووساد
خضبت بقدرك حفرة فكأنها ... من جوفها في مثل حرف الصاد
وثر لجنبك من أثاث مخيم ... ترب ند وصفايح أنضاد
يا ظاعناً ركب السرى في ليلة ... طار الدليل بها وحاد الحاد
أعزز علينا أن حططت بمنزل ... تبل عن الزوار والعواد
جار الأفراد هنالك جيرة ... سقياً لتلك الجيرة الأفراد
الساكنين إلى المعاد قبابهم ... منشورة الأطناب والأغماد
من كل ملقية الجراب بمضرب ... ناب البلى فيه عن الأوتاد
بعرس السفر الألى ركبوا ... السرى مجهولة الغايات والآماد
سيان فيهم ليلة ونهارها ... ما أشبه التأويب بالإسناد
لحق البطون من اللعب على الطوى ... وعلى الرواحل عنفوان الزاد
لله هم فلشد ما نفضوا من ... أمتعة الحياة في حقايب الأجساد
ياليت شعري ولامنا لك جنة ... والحال مرذنة بطول بعاد
هل للعلا بك بعدها من نهضة ... أم لانقضاء نواك من ميعاد
بأبي رقد ساروا بنعشك صارم ... كثرت حمايله على الأكناد
ذلت عوانق حاميك فإنها ... شاموك في غمد بغير نجاد
نعم الذما البر ما قد غوروا ... جثمانه بالأبرق المنقاد
عليا خص بها الضريح وإنما ... نعم الغوير بأبؤس الأنجاد
أبنى العباس أي حلاحل ... سلبتكم الدنيا وأي مصاد
هل كان إلا العين وافق سهمها ... قدراً فأقصد أيما إقصاد
أخلل جد لا يسد مكانه ... بالإخوة النجباء والأولاد
ولكم يرى بك من هضاب لم يكن ... لولاك غير دكادك ووهاد
ما زلت تنعشها بسيبك قابضاً ... منها على الأضباع والأعضاد
حتى أراك أبا محمد الردى ... كيف انهداد بواذخ الأطواد
يا حرها من جمرة مشبوبة ... يلقى لها الأيدي على الأكتاد
كيف العزاء وإنها لرزية ... خرج الأسى فيها عن المعتاد
صدع النعاة بها فقلتن لمدمعي ... كيف انسكابك يا أبا الجواد
لك من دمي ما شيت غير منهنه ... صب كيف شيت معصفر الأبراد

بقصير مجتهد وحسبك غاية ... لو قد بلغت بها كبير مراد
أما الدموع فهي أضعف ناصر ... لكنهن كثيرة التعداد
ثم السلام ولا أغب قراره ... وأرتك صوب روايح وغواد
تسقيك ما سفحت عليك يراعة ... في خد قرطاس دموع مداد
ومن غرامياته وإخوانياته قوله من قصيدة:
عاد الحديث إلى ما جر أطيبه ... والشيء يبعث ذكر الشيء عن سبب
إيه عن الكدية البيضاء إن لها ... هوى يغلب أخيك الواله الوصب
راوح بها السهل من أكنافها ... وأرح ركابنا ليلنا هذا من التعب
وانضح نواحيها من مقلتيك وسل ... من الكثيب الكريم العهد في الكتب
وقل لسرحته يا سرحة كرمت ... على أبي عامر عزي عن السحب
يا عذبة الماء والظل انغمى ... طفلا حييت ممسية ميادة الغضب
ماذا على ظلك الألمى وقد قلصت ... أفياؤه لو ضفى شياً لمغترب
أهكذا تنقضي نفسي لديك ظما ... الله في رمق من جارك الجنب
لولاك يا سرح لم يبق الفلا عطلا ... من السرى والدجا خفاقة الطنب
ولم نبت نتقاضى من مدامعنا ... ديناً لتربك من رقراقها الرب
إنا إذا ما تصدى من هوى طلل ... عجنا عليه فحييناه عن كثب
مستعطفين سخيات الشئون له ... حتى يحاك عليه مموق العشب
سلي خميلتك الريا بأية ما ... كانت ترف بها ريحانة الأدب
عن فتية نزلوا على سرارتها ... عفت محاسنهم إلا من الكتب
محافظين على العليا وربما ... هزوا السجايا قليلاً بابنة النب
حتى إذا ما قضوا من كأسها وطراً ... وضاحكوها لدى جد من طرب
راحوا رواحاً وقد ريدت عمايمهم ... حلماً ودارت على أسفي من السبب
لا يظهر الشكر حالاً في ذوايبهم ... إلا التفات الصبا في السن العذب
المنزلين القوافي ن معاقلها ... والخاضدين لديها شوكة العرب
ومن مقطوعاته قوله:
دعاك خليل والأصيل كأنه ... عليل يقضي مدة الزمن الباق
إلى شط منساب كأنك ماؤه ... صفاً ضميراً وعذوبة أخلاق
ومهوي جناح للصبا يمسح الربا ... خفي الخوافي والقوادم خفاق
وفتيان صدق كالنجوم تألفوا ... على النأي من شتى بروج وآفاق
على حين راح البرق في الجو مغمداً ... ظباه ودمع المزن في جفنه راق
وجالت بعيني في الرياض التفاتة ... حبست بها كأسي قليلاً عن الساق
على سطر خيري ذكرتك فانثنى ... يميل بأعناق ويرنو بأحداق
وقف وقفة المحبوب منه فإنها ... شمايل مشغوف بمرآك مشتاق
وصل زهرات منه صفر كأنها ... وقد خضلت قطراً محاجر عشاق
وقال وكلفها في حايك وهو بديع.
قالوا وقد أكثروا في حبه عذل ... لو لم تهم بمزال القدر مبتذل
فقلت لو أن أمري في الصبابة لي ... لاخترت ذاك ولكن ليس ذلك ل
في كل قلب عزيزات مذللة للحسن ... والحسن ملك حيث جل ول
علقته حبيبي الثغر عاطره ... دري لون المحيا أحور المقل
إذا تأملته أعطاك ملتفتاً ... ما شيت من لحظات الشادن الوجل
هيهات أبغي به من غيره بدلا ... أخرى الليالي وهل في الغير من بدل
غزيل لم تزل في الغزل جايلة ... بنانه جولان الفطر في الغزل
جذلان تلعب بالمحراك أنمله ... على السدي لعب الأيام بالأمل
ما أن يني تعب الأطراف مشتغلا ... أفديه من تعب الأطراف مشتغل
ضرباً بكفيه أو فحصاُ بأخمصه ... تخبط الظبي في أشراك محتبل
وقال:

ومهفهف كالغصن إلا أنه ... سلب التثني النوم عن أثنايه
أضحى ينام وقد تخدد خده ... عرقاً فقلت الورد رش بمايه
وقال:
أدرها فالغمامة قد أجالت ... سيوف البرق في لمم البطاح
وراق الروض طاووساً بهياً ... تهب عليه أنفاس الرياح
تقول وقد ثنى قزح عليه ... ثياب الغيم معلمة النواح
خذوا للصحو أهبتكم فإني ... أعرت المزن قادمتي جناح
وقال:
أدرها على أمر فما ثم من بأس ... وإن جددت آذانها ورق الآس
وما هي إلا ضاحكا غمايم ... لواعب من ومض البروق بمقياس
ووفد رياح زعزع النهر مدة ... كما وطيت درعاً سنا بك أفراس
وقال في وصف مغن محسن:
ومطارح مما تحس بنانه ... صوتاً أفاض عليه ماء وقاره
يثني الحمام فلا يروح لو كره ... طرباً ورزق بنيه في منقاره
وقال يصف جدول ماء عليه سرحة، ولها حكاية معروفة:
ومهدل الشطين تحسب أنه ... متسيل من درة لصفايه
فاءت عليه مع العشية سرحة ... صدئت لفيئتها صفيحة مايه
فتراه أزرق في غلالة سمرة ... كالدارع استلقى بظل لوايه
نثرهقال من مقامة يصف القلم:
قصير كالأنابيب لكنه ... يطول مضاً طوال الرماح
إذا عب للنفس في دامس ... ودب من الطرس فوق الصفاح
تجلت به مشكلات الأمور ... ولان له الصعب بعد الجماح
فلولا هو لغدت أغصان الاكتساب ذاوية، وبيوت الأموال خاوية، وأسرعت إليها البوسى، وأصبحت كفؤاد أم موسى، فهو لا محالة تجرها الأربح، وميزانها الأرجح. به تدر ألبانها، وتثمر أفنانها، وتستمر أفضالها وإحسانها، وهو رأس مالها، وقطب عمالها وأعمالها. وصاحب القلم قد حوى الملكة بأسرها، وتحكم في طيها ونشرها، وهو قطب مدارها، وجهينة أخبارها، وسر اختيارها واختبارها، ومظهر مجدها وفخارها، يعقد الرايات لكل وال، ويمنحهم من المبرة كل صافية المقيل، ضافية السربال، يطفي جمرة الحرب العوان، ويكايد العدو بلا صارم ولا سنان، يقد المفاصل، ويتخلل الأباطح والمعاقل، ويقمع الحواسد والعواذل.
وفاته: توفي بمالقة يوم الثلاثاء لإحدى عشرة بقيت من رمضان سنة اثنين وسبعين وخمسماية. وقبره مشهور بها.
ابن أبي بكر القرشي المالقيمحمد بن قاسم بن أبي بكر القرشي المالقي من أهل مالقة، وسكن غرناطة وتردد إليها
حالهكان لبيباً لوذعياً، جامعاً لخصال؛ من خط بارع وكتابة، ونظم، وشطرنج، إلى نادر حار، وخاطر ذكي، وجرأة. توجه إلى العدوة، وارتسم بها طبيباً، وتولى النظر على المارستان بفاس في ربيع الثاني من عام أربعة وخمسين وسبعمائة.
شعرهأنشدني بمدينة فاس عام ستة وخمسين، في وجهتي رسولا إلى المغرب، قوله في رجل يقطع في الكاغد:
أبا علي حسينا ... أين الوفا منك أينا
قد بين الدمع وجدي ... وأنت تزداد بينا
بلت لحاظك قلبي ... تا لله ما قلت مينا
قط المقص لهذا ... سبب الصب مينا
بقيط تفتر حسنا ... وجمت تزداد زينا
وقال أيضاً:
فضل التجارات باد في الصناعات ... لولا الذي هو فيها هاجر عات
حاز الجمال فأعياني وأعجزني ... وإن دعيت بوصاف ونعات
وكان شديد المغالطة، ذاهباً أقصى مذاهب القحة، يحرك من لا يتحرك، ويغضب من لا يغضب. عتب يوماً جدته على طعام طبخته له، ولم يستطبه، وكان بين يديه القط يصدعه بصياد طلبه، فقال له ضجراً، خمسمائة سوط، فقالت له جدته لم تعط هذه السياط للقط، إنما عنيتني بها، وأعطيتها باسم القط، فقال لها حاش لله يا مولاتي، وبهذا البخل تدريني أو الزحام عليها، بل ذلك للقط حلالاً طيباً، ولك أنت ألف من طيبة قلب، فأرسلها مثلا، وما زلنا نتفكه بذلك، وكان في هذا الباب لا يشق غباره.
مولده: بمالقة عام ثلاثة وسبع ماية.
وفاته: بعث إلي الفقيه أبو عبد الله الشديد، يعرفني أنه توفي في أواسط عام سبعة وخمسين وسبعمائة.

محمد بن سليمان بن القصيرة

أبو بكر، كاتب الدولة اللمتونية، وعلم وقته.
حالهقال ابن الصيرفي الوزير الكاتب، الناظم، الناثر، القايم بعمود الكتابة، والحامل للواء والبلاغة، والسابق الذي لا يشق غباره، ولا تخمد أبداً أنواره. اجتمع له براعة النثر، وجزالة النظم، رقيق النسيج، حصيف المتن، رقعته ماشيت في العين واليد. قال ابن عبد الملك؛ وكان كاتباً مجيداً، بارع الخط، كتب عن يوسف بن تاشفين.
مشيختهروى عن أبي الحجاج الأعلم، وأبي الحسن بن شريح، وروى عنه أبو الوليد هشام بن يوسف بن الملجوم، لقيه بمراكش.
شعرهوهو عندي في نمط دون ما وصف به. فمن ذلك قوله من قصيدة أنحى فيها على ابن ذي النون، ومدح ابن عباد، عند خلع ابن جهور، أبي الوليد، وتصيير قرطبة إليه:
فسل عنه أحشاء ابن ذي النون هل ... سرى إليها سكون منذ زلزلها الذعر
وهل قدرت مذ أوحشته طلايع ... الظهور عليه أن تؤنسه الخمر
ألم يجن يحيى من تعاطيك ظله ... سجا لك هيهات السهى من ك يا بدر
لجاراك واستوفيت أبعد غاية ... وآخره عن شأوك الكف والعثر
فأحرزت فضل السبق عفواً ... وكفه على رغمه مما توهمه صفر
ويا شد ما أغرته قرطبة وقد ... أبشرتها خيلنا فكان لك الدر
ومنها:
أتتك وقد أزرى ببهجة حسنها ... ولا لأنها من جور مالكها طمر
فألبستها من سابغ العدل حلة ... زهاها بها تيه وغازلها كبر
وجاءتك متفالا فضمخ حيها ... وازدانها من ذكرك المعتلى عطر
وأجريت ماء الجود في عرصاتها ... فروض حتى كاد أن يورق الصخر
وطاب هوا أفقها فكأنها تهب نسيماً فيه أخلاقك الزهر
وما أدركتهم في هواك هوادة ... وما أثتمروا إلا لما أمر البر
وما قلدوك لأمر إلا لواجب ... جئته فيه المجر والغمر
وبوأهم في ذروة المجد معقلا ... حرام على الأيام إلمامه حجر
وأوردهم من فضل سيبك مورداً ... على كثرة الوارد مشرعه غمر
فلولاك لم تفصل عرى الإصر عنهم ... ولا انفك من ربق الأذى لهم أسر
أعدت نهار ليلهم ولطالما ... أراهم نجوم الليل في أفقه الظهر
ولا زلت تؤويهم إلى ظل دوحة ... من العز في أرحابها النعم لخضر
كتابته
وهي من قلة التصنع والإخشوشان، بحيث لا يخفى غرضها. ولكل زمان رجاله. وهي مع ذلك تزينها السذاجة، وتشفع لها الغضاضة. كتب عن الأمير يوسف بن تاشفين ولاية عهده لولده:

هذا كتاب تولية عظيم جسيم، وتوصية حميم كريم، مهدت على الرضا قواعده، وأكدت بيد التقوى مواعده ومعاقده، وسددت إلى الحسني مقاصده، وأبعدت عن الهوادة والهوى مصادره وموارده. أنفذه أمير المسلمين، وناصر الدين، أبو يعقوب يوسف بن تاشفين، أدام الله أمره، وأعز نصره، وأطال فيما يرضيه منه، ويرضى به عنه عمره، غير محاب، ولا تارك في النصيحة لله ولرسوله والمسلمين، وموضع ارتياب لمرتاب، للأمير الأجل أبي الحسن علي ابنه، المتقبل هممه وشيمه، المتأثل حلمه وتحلمه، الناشئ في حجر تقويمه وتأديبه، المتصرف بين يدي تخريجه، وتدريبه، أدام الله عزه وتوفيقه، ونهج إلى كل صالح من الأعمال طريقه، وقد تهمم بمن تحت عصاه من المسلمين، وهدى في انتقاء من يخلفه هدى المتقين، ولم ير أن يتركهم بعد سدى غير مدينين واعتام في النصاب الرفيع، واختار واستنصح أولي الرأي والتشاور إلا لديه. فولاه عن استحكام بصيرة، وبعد طول مشورة، عهده، وأفضى إليه الأمر والنهي، والقبض والبسط عنده بعده، وجعله خليفته الساد في رعاياه مسده، وأووطأ عقبه جماهير الرجال، وناط به مهمات الأمور والأعمال، وعهد إليه أن يتقي الله ما استطاع، ولا يعدل عن سمت العدل وحكم الكتاب والسنة، في أحد عصا أو أطاع، ولا ينام عن حماه الحيف والخوف بالاضطجاع، ولا يتلين دون معلن شكوى، ولا يتصام عن مستصرخ لذي بلوى، وأن ينظم أقصى البلاد وأدناها في سلك تدبيره، ولا يكون بين القريب والبعيد بون في إحصائه وتقديره. ثم دعا أدام الله تأييده، لمبايعته، أدام الله عزه ونصره، من حضر ودنا من المسلمين، فلبوا مسرعين، وأتوا مهطعين، وأعطوا صفقة إيمانهم متبرعين متطوعين، وبايعوه على السمع والطاعة، والتزام سنن الجماعة، وبذل النصيحة جهد الاستطاعة، ومناصفة من ناصفه، ومحاربة من حاربه، ومكايدة من كايده، ومعاندة من عانده، لا يدخرون في ذلك على حال المنشط مقدرة، ولا يحتجون في حالتي الرضا والسخط إلى معذرة. ثم أمر بمخاطبة ساير أهل البلاد لمبايعته، كل طائفة منهم في بلدها، وتعطيه كما أعطاه من حضر، وصفقة يدها، حتى ينتظم في التزام طاعته القريب والبعيد، ويجتمع على الاعتصام بحبل دعوته، الغايب والشهيد، وتطمين من أعلام الناس وخيارهم نفوس قلقة، وتنام عيون لم تزل مخافة إقذئها مورقة، ويشمل الناس كافة السرور والاستبشار، وتتمكن لديهم الدعة، ويتمهد القرار، وتنشأ لهم في الصلاح آمال، ويستقبلهم جد صالح وإقبال. والله يبارك لهم بيعة رضوان، وصفقة رجحان، ودعوة يمن وأمان، إنه على ما يشاء قدير، لا إله إلا هو، نعم المولى ونعم النصير. شهد على إشهاد أمير المسلمين بكل ما ذكر عنه فوق هذا من بيعته، ولقيه حملة عنه ممن التزم البيعة المنصوصة قبل، وأعطة صفقته طائعاً متبرعاً بها. وبالله التوفيق. وكتب بحضرة قرطبة في ذي الحجة سنة ست وتسعين وأربعمائة.
دخل غرناطة غير ما مرة، وحده، وفي ركاب أميره.
توفي في جمادى الآخرة من عام ثمانية وخمسمائة.
التميمي المازنيمحمد بن يوسف بن عبد الله بن إبراهيم التميمي المازني من أهل سرقسطة، ودخل غرناطة، وروى عن أبي الحسن بن الباذش بها، يكنى أبا الطاهر. وله المقامات اللزوميات العروفة.
حالهكان كاتباً لغوياً شاعراً، معتمداً في الأدب، فرداً، متقدماً في ذلك في وقته، وله المقامات المعروفة، وشعره كثير مدون.
مشيختهروى عن أبي علي الصدفي، وأبي محمد بن السيد، وأبي الحسن بن الأخضر، وأبي عبد الله بن سليمان المعروف بابن أخت غانم، وأبي محمد بن عتاب، وأبي الحسن بن الباذش. وأبي محمد عبد الله بن محمد التجيبي الدكلي، وأبي القاسم ابن صوابه، وأبي عمران بن أبي تليد، وغيرهم. أخذ عنه القاضي أبو العباس ابن مضاء، أخذ عنه الكامل للمبرد، قال. وعليه اعتمد في تقييده. وروى عنه المقري المسن، الخطيب أبو جعفر بن يحيى الكتامي، وذكره هو وابن مضاء.
توفي بقرطبة ظهر يوم الثلاثاء، الحادي والعشرين من جمادى الأولى، سنة ثمان وثلاثين وخمسماية، بزمانة لازمته نحوا من ثلاثة أعوام، نفعه الله.
شعرهأيا قمر أتطلع من وشاح ... على غض فاخر من كل راح
أدار السحر من عينيه خمراً ... معتقة فأسكر كل صاح

وأهدى إذ تهادى كل طيب ... كخوط البان في أيدي الرياح
وأحيا حين حيا نفس صب ... غدت في قبضة الحب المتاح
وسوغ منه عتبي بعد عتب ... وعللني براح فوق راح
وأجناني الأماني في أمان ... وجنح الليل مسدول الجناح
وقال أيضاً:
ومنعم الأعطاف معسول اللما ... ما شيت من بدع المحاسن فيه
لما ظفرت بليلة من وصله ... والصب غير الوصل لا يشفيه
أنضحت وردة خده بنفسي ... وظللت أشرب ماءها من فيه
وقال أيضاً:
رحكت السلاف صفاته بحبابها ... من ثغره ومذاقها من رشفه
وتوردت فحكت شقايق خده ... وتأرجت فيسيمها من عرفه
لعبت بألباب الرجال وغادرت ... أجسامهم صرعى كفعلة طرفه
ومن الغرباء في هذا الحرف

محمد بن حسن العمراني الشريف

من أهل فاس
حالهكان جهوياً ساذجاً، خشن البزة، غير مرهف التجند، ينظم الشعر، ويذكر كثيراً من مسائل الفروع، ومعانات الفرائض، يجعجع بها في مجالس الدروس، تشقى به المدرسون، على وتيرة من صحة السجية وحسن العهد، وقلة التصنع. وجرى ذكره في الكليل: كريم الانتماء، مستظل بأغصان الشجرة الشماء، من رجل، سليم الضمير، ذي باطن أصفى من الماء النمير، له في الشعر طبع بشهد بعروبية أصوله، ومضاء نصوله.
فمن ذلك قوله يخاطب السلطان أمير المسلمين، وقد أمر له بكسوة:
منحت منحت النضر والعز والرضا ... ولا زلت بالإحسان له مقرضاً
ولا زلت للعليا جني مكارماً ... وللإمر الملك العزيز مقيضا
ولا زالت الأملاك باسمك تتقي ... وجيشك وفراً يملأ الأرض والفضا
ولا زلت ميمون النقيبة ظافراً ... مهيباً ووهاباً وسيفك منتضا
تقر به الدين الحنيف وأهله ... تقمع جباراً وتهلك مبغضا
وصلت شريف البيت من آل هاشم ... وخولته أسنى مراد ومقتضا
وجدت بإعطاء اللجين وكسوة ... ستكسي ثوباً من النور أبيضا
وما زالت الأنصار تفعل هكذا ... نال علي في الزمان الذي مضا
هم نصروا الهادي وآووا وجدلوا ... بحد ذباب السيف من كان معرضا
فخذ ذا أبا الحجاج من خير مادح ... لخير مليك في البرية مرتضا
فقد كان قبل اليوم غاض قريضه ... فلما رأى الإحسان منك تفيضا
ومن حكم القول اللهى متح اللهى ... ومن مدح الأملاك يرجو التعرضا
فلا زال يهديك الشريف قاصدا ... ينال بها منك المودة والرضا
وقال يخاطب من أخلفته بوارق الأمل فيه، وخابت لديه وسائل قوافيه:
الشعر أسنى كلام خص بالعرب ... والجود في كل صنف خير مكتسب
وأفضل الشعر أبيات يقدمها ... في صدر حاجته من كان ذا أدب
فما يوفي كريم حق مادحه ... لو كان أولاه ما يحويه من نشب
المال يفني إذا طال الثواء به ... والمدح يبقى مدى الأزمان والحقب
وقد مدحت لأقوام ذي حسب ... فيما ظننت وليسوا من ذوي حسب
مدحتهم بكلام لو مدحت به ... دهري أمنت من الإملاق والنصب
فعاد مدحي لهم هجواً يضدقه ... من لؤمهم عودتي عنهم بلا أرب
فكان ما قلت من مدحهم كذباً ... أستغفر الله من زور ومن كذب
وقال في غرض يظهر من الأبيات، يخاطب السلطان:
مالي أرى تاج الملوك وحوله ... عبدان لا حلم ولا آداب
فكأنه البازي الصيود وحوله ... نغر يقلب ريشه وغراب
يا أيها الملك الكرام جدوده ... أسنى المحافل غيرها أتراب
أبدلهما من بالبيض من صفيهما ... إن العبيد محلها الأبواب
وفاتهتوفي في حدود ثمانية وأربعين وسبعمائة أو بعد ذلك.
ابن العشابمحمد بن محمد بن إبراهيم بن المرادي ابن العشاب

قرطبي الأصل، تونسي الولادة والمنشأ، ابن نعمة وغذى جاه وحرمة.
حالهكان حيياً فاضلاً كريماً، سخياً. ورد على الأندلس، مفلتاً من نكبة أبيه، وقد عركته عرك الرحى لثقالها، على سنن من الوقار والديانة والحما، يقوم على بعض الأعمال النبيهة.
وجرى ذكره في الإكليل بما نصه: جواد لا يتعاطى طلقه، وصبح فضل لا يماثل فلقه. كانت لوالده رحمه الله، من الدول الحفيصة منزلة لطيفة المحل، ومفاوضة في العقد والحل، ولم يزل يسمو به قدم النجابة، من العمل إلى الحجابة. ونشأ ابنه هذا، مقضي الديون، مفدي بالأنفس والعيون. والدهر ذو ألوان، ومارق حرب عوان، والأيام كرات تتلقف، وأهوال لا تتوقف، فألوى بهم الدهر وأنحى، وأغام جوهم بعقب ما أضحى، فشملهم الاعتقال؛ وتعاورتهم النوب الثقال، واستقرت بالمشرق ركابه، وحطت به أقتابه؛ فحج واعتمر، واستوطن تلك المعاهد وعمر، وعكف على كتاب الله فجود الحروف، وأحكم الخلف المعروف وقيد وأسند، وتكرر إلى دور الحديث وتردد، وقدم على هذا الوطن قدوم النسيم البليل على كبد العليل. ولما استقر به قراره، واشتمل على جفنه غراره، بادرت إلى مؤانسته، وثابرت على مجالسته. فاجتليت للسرو شخصاً، وطالعت ديوان الوفا مستقصا.
شعرهوشعره ليس بحايد عن الإحسان، ولا غفل من النكت الحسان. فمن ذلك ما خاطبني به:
بيمن أبي عبد الله محمد يمن ... هدأ القطر وانسجم القطر
أفاض علينا من جزيل عطايه ... بحور الديم المد ليس لها جزر
وأنسنا لما عدمنا مغانياً ... إذا ذكرت في القلب من ذكرها عبر
هنيياً بعيد الفطر يا خير ماجد ... كريم به تسمو السيادة والفخر
ودمت مدى الأيام في ظل نعمة ... تطيع لك الدنيا ويعنو لك الدهر
ومما خاطب به سلطانه في حال الاعتقال:
لعل عفوك بعد السخط يغشاني ... يوماً فينعش قلب الوالد العان
مولاي رحماك إني قد عهدتك ... ذا حلم وعفو وإشفاق وتحنان
فاصرف حنانك واعطف علي ... وجد برحمة منك تحيي جسمي الفان
فقد تناهى الأسى عندي وعذبني ... وشرد النوم عن عيني وأعيان
وحق ألايك الحسنى وما لك من ... طول وفضل وإنعام وإحسان
إني ولو حلت البلوى على كيدي ... وأسبكت فوق خد دمعي القان
لواثق بجمتم منك يطرقني ... عما قريب وعفو عاجل دان
دامت سعودك في الدنيا مضاعفة ... تذل طوعاً كل سلطان
ابن عبد الملكمحمد بن محمد بن عبد الملك بن محمد بن سعيد الأنصاري الأوسي، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عبد الملك، من أهل مراكش، وسكن غرناطة.
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه الله غريب المنزع، شديد الانقباض، محجوب المحاسن، تنبو العين عنه جهامة، وغرابة شكل، ووحشة ظاهر، في طي ذلك أدب غض، ونفس حرة، وحيديث ممتع، وأبوة كريمة، أحد الصابرين على الجهد، المتمسكين بأسباب الحشمة، الراضين بالخصاصة. وأبوه قاضي القضاة، نسيج وحده، الإمام العالم، التاريخي، المتبحر في الأدب، تقلبت به أيدي الدهر بعد وفاته لتبعة سلطت على نسبه، فاستقر بمالقة، متحارفاً مقدوراً عليه، لا يهتدي لمكان فضله، إلا من عثر عليه جزافا.
شعرهمن لم يصن في أمل وجهه ... عنك فصن وجهك عن رده
وأعرف له الفضل وعرف به ... حيث أحل النفس من قصده
ومما خاطبني به قوله:
وليت ولاية أحسنت فيها ... ليعلم أنها شرفت بقدرك
وكم وال أساء فقيل فيه ... دني القدر ليس لها بمدرك
وأنشدني في ذلك أيضاً رحمة الله عليه:
وليت فقيل أحس خير وال ... فعاق مدى مدركها بفضله
وكم وال أساء فقيل ... دنا فمحا محاسنها بفعله
ومما خاطب به السلطان يستعديه على من مطله من العمال، وعذر عليه واجبه من الطعام والمال:
مولاي نصيراً فكم يضام ... من ما له غيرك اعتصام
أمرت لي بالخلاص فمر لي ... عنده المال والطعام

فقال ما اعتاده جواباً ... وحسبي الله والإمام
هذا مقام ولا فعال ... بغير مولاي والسلام
وفاتهفقد في وقيعة على المسلمين من جيش مالقة بأخواز إستبة في ذي قعدة من عام ثلاثة وأربعين وسبعمائة.
ابن خميسمحمد بن خميس بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد ابن خميس الحجري حجرذي رعين التلمسان، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن خميس
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه اله نسيج وحده زهداً وانقباضاً، وأدباً وهمة، حسن الشيبة، جميل الهيئة، سليم الصدر، قليل التصنع، بعيد عن الريا والهوادة عاملاً على السياحة والعزلة، عالما بالمعارف القديمة. مضطلعاً بتفاريق النحل، قايماً على صناعة العربية والأصلين، طبقة الوقت في الشعر، وفحل الأوان في النظم المطول، أقدر الناس على اجتلاب الغريب، ومزج الجزالة بالسلاسة، ووضع الألفاظ البيانية مواضعها. شديد الانتقا وإلا رجا، خامد نار الروية، منافساً في الطريقة منافسة كبيرة. كتب بتلمسان عن ملوكها من بني زيان، ثم فر عنهم، وقد أوجس منهم خيفة. لبعض ما يجري بأبواب الملوك. وبعد ذلك بمدة، قدم غرناطة، فاهتز الوزير ابن الحكيم لتلقيه، ومت إليه بالوسيلة العلمية، واجتدبه بخطبة التلميذ، واستفزه بتأنيسه وبره، وأقعده للإقراء بجواره. وكان يروم الرحلة، وينوي السفر، والقضاء يثبطه. حدثني شيخنا الرئيس أبو الحسن بن الجياب، قال بلغ الوزير أبا عبد الله الحكيم أنه يروم السفر فشق ذلك عليه، وكلفنا تحريك الحديث بحضرته. وجرى ذلك. فقال الشيخ أنا كالدم بطبعي، أتحرك في كل ربيع.
شعرهوشعره بديع. فمن ذلك قوله يمدح أبا سعيد بن عامر، ويذكر الوحشة الواقعة بينه وبين أبي بكر بن خطاب:
مشوق زار ربعك يا إماما ... محا آثار دمنتها التثاما
تتبع ريقه الطل ارتشافاً ... فما نفعت ولا نقعت أواما
وقبل خد وردتها جهارا ... وما راعى لضرتها ذماما
وما لحريم بيتك أن يدانى ... ولا لعلا قدرك أن يساما
ولكن عاش في رسم مغنى ... تجشمه سلاماً واستلاماً
نفس روضة المطول وهنا ... فحن وشم رياه فهاما
تلقى طيب حديثا ... روت مسنداً عنه النعاما
فيا نفس الصبا إن جيت ساحا ... ولم تعرف لساكنها مقاما
وأخطأت الطريق إلى حماها ... فردتك العرادة والخزآما
فلا تبصر بسرحتها قضيباً ... ولا تذعر بمسرحها سواما
وعانق قربانتها اراتباطاً ... وصافح كف سوسنها التزاما
ونافح عرف زهرتها كباً ... تعاطك ماء ريقتها مداما
ويا برقاً أضاء على أوال ... يمانياً متى جيت الشآما
أثغر إمامة أنت ابتساماً ... أم الدر الأوامي انتظاما
خفقت ببطن واديها لواً ... ولحت على ثنيتها حساما
أمشبه قلبي المضني احتداما ... على م ذدت عن عيني المناما
ولم أسهرتني وطردت عني ... خيالاً كان يأتيني لماما
وأبلغ منه تأريقاً لجفني ... كلام أثخن الأحشا كلاما
تعرض لي فأيقظت القوافي ... ولو ترك القطا يوماً لناما
وقيل وما أرى يومي كأمسي ... جدعت رواطبا وقلبت هاما
وجرعت العدو سماً زعافاً ... فكان لحسد موتاً زواما
نزعت شواه كبشهم نطاحا ... ولم أترك لقرمهم سناما
أضام وفي يدي قلبي لماذا ... أضام أبا سعيد أو علاما
به وبما أذلق من لساني ... أفل الصارم العضب انهزاما
وغرام الوزير أبي سعيد ... أصرفه إذا شيت انتقاما
به وبنجله البر انتصارى ... لما أكلوه من لحمي حراما
وردت فلم أرد إلا سرابا ... وشمت فلم أشم إلا جهاما
قطعت الأرض طولاً ثم عرضاً ... أزور بني ممالكها الكراما

وجا جانبي على كرم نداهم ... وأعجلت الخوافي والقداما
وذللت المطامع من إبايي ... وقبلت البراجم والسلاما
ومن أدبي نصبت لهم حبالا ... أصيد بها النعام ولا النعاما
فلم أر مثل ربعي دار أنس ... ولم أر مثل عثمن إماما
ولا كأبيه أو كنى أبيه ... أبي يحيى غيوثاً أو رهاما
كفاني بابن عامر خفض عيش ... ورفع مكاتبي إلا أضاما
وإني من ولايك في يفاع ... أقابل منهم بدرهم التمام
ومن شعره رحمه الله قوله:
تراجع من دنياك ما أنت تارك ... وتسلها العتيي وها هي فارك
تؤمل بعد الترك رجع ودادها ... وشر وداد ما تود الترائك
حلالك منها ما خلا لك في الصبا ... فأنت على حلوايه متهالك
تظاه بالسلوان عنها تجملا ... فقلبك محزون وثغرك ضاحك
تنزهت عنها نخوة لا زهادة ... وشعر عذاري أسود اللون حالك
ليالي تغري بي وإن هي أعرضت ... زنانب من ضواتها وعواتك
غصون قدود في حقاف روادف ... تمايل من ثقل بين الأرايك
تطاعنني منهن في كل ملعب ... ثدي كأسنان الرماح فواتك
وكم كلة فيها هنكت ودونها ... صدور العوالي والسيوف البواتك
ولا خدن إلا ما أعدت ردينه ... لطالبها أو ما تحير هالك
تضل فواد المرء عن قصد رشده ... فواتر ألحاظ للظبا الفواتك
وفي كل سن لابن آدم وإن تطل ... سنوه طباع جمة وعوايك
وإلا فمالي بعد ما شاب مفرقي ... وأعجز رأيي عجز من الركارك
أجوب إليها كل بيداء سملق ... ترافقني فيها الرجال الجواتك
واسترشد الشهب الشوابك جار ... إذا اشتبهت فيها هي المسالك
نهازز أمثال الجياد توودة ... أغوارب أمثال الهضاب توامك
ظما وما غير السماوة مورد ... وينحى وما دون الصواة مبارك
ذو أهل عن عض الرجال ظهورها ... إذا ما اشتكت عض السروج الموارك
إذا ما نبا عن سنبك الأرض سنبك ... هلعن فلانت تحتهن السنابك
تقد بنا في كل قاع وفدفد ... بوايكها والمنغيات الدراهك
فأمامها ري كالسحاب موالع ... وأمامها ركاً كالرياح بواشك
قلاص بأطواف الجديل بوالع ... وجرد لأوساط الشكيم عوالك
ترامى بها ليد النوق كل مرتمي ... فهن نواح للردى أو هوالك
وكم منزل خليته لطلابها ... تعفيه تعدي السافيات السواهك
يمر به زواره وعفاته ... وما آن به إلا الصوق الحبايك
وآثارتنا تقادم عهدهم ... وهن عليه جانيات بوارك
لوارب أفراس ونؤى حذاة ... ثلاث أثاف كالحمام سوادك
تمر عليه نسمة الفجر مثلما ... تمر على طيب العروس المدارك
وأرك بكالشهذ ينفح برده ... لمجهول حسي ماله للدهر مبانك
يطلبها مني غريم مماحك ... ويمطلني منها عديم مماعك
أحاول منها لما تعذر في الصبا ... ومن دونه وقع الحمام المواشك
فمنها ملال دايم لا تمله ... وترور إفك عن رضى الحق آفك
تهاون بالإفك الرجال جهالة ... وما أهلك الأحياء إلا الأفايك
تزن طول تسهادي وقدري تململى ... طوال الليالي والنجوم النوابك
تغير على الدهر منه جحافل ... كأن مدوم الرجم فيها نيازك
فليت الذي سودت فيها معوض ... بما بيضت مني دجاها الحوالك

ألا لا تذكريني تلمسان والهوى ... وما دهكت منا الخطوب الدواهك
فإن ادكار ما مضى من زمانها ... لجسمي وللصبر الجميل لناهك
ولا تصفن أمواهها لي فإنها ... لنيران أشواقي إليها محارك
ومن حال عن عهد أو أخفر ذمة ... فإني على تلك العهود لرامك
سقى منزلي فيها وإن مح رسمه ... عهاد الغوادي والدموع السوافك
وجادت ثرى قبر بمسجد صالح ... رواعدها والمدخمات الحواشك
ولا أقلعت عن دار يونس مزنة ... هوى صداه لقطرها المتدارك
إلى أن يروق الناظرين رواؤها ... ويرضى الرعاوي نبتها المتلاحك
ويصبح من حول الحيا في عراصها ... زرق تحكى بسطها ودرانك
ولا برحت منه ملايكة الرضى ... تصلي على ذاك الصدى وتبارك
وطوبى لمن روى منازله الحيا ... وبشرى لمن صلت عليه الملايك
ألا ليت شعري هل تقضي لبانتي ... إذا ما انقضت عشر عليها دكادك
وهل تمكن الطيف المغب زيارة ... فيرقب أو تلقى إليه الروامك
وهل تغفل الأيام عنها بقدر ما ... تودي إليها بالعتاب الحالك
ويا ليت شعري أرض تقلني إذا ... كل عن رحلي الجلال اللكالك
وأي غرار من صفاها يحثني ... إذا فقدتني مسها والدكادك
إذا جهل الناس الزمان فإنني ... بدونهم دون الأنام لحاتك
تثبت إذا ما قمت تعمل خطوة ... فإن بقاع الأرض طراً شوائك
ولا تبذل وجهاً لصاحب نعمة ... فما مثل بذل الوجه للستر هاتك
تجشم ما استطعت واحذر أذاهم ... ولا تلقهم إلا وهرك شانك
فكل على ما أنعم الله حاسد ... وكل إذا لم يعصم الله حاسك
ولا تأنس ريبة الزمان فإنه ... بمن فات منا لا محالة فانك
تمنى مصاب بربر وأعاره ... وترضى ذكامي فارس والهنادك
وبدرت الليالي الجون حوضى لجاجها ... وتعرف إقدامي عليها المهالك
فما أذعنت إلا إلى عشار ... ولا أصفقت إلا على الشكاشك
ولا قصدت إلا فنايى وقودها ... ولن أملت إلا قتامى الضرارك
به شرفت أذواوها وملوكها ... كما شرفت بالنويهار البرامك
فلا تدعون غيري لدفع ملمة ... إذا ما دهى من حادث الدهر داهك
فما إن لذاك الصوت غيرى سامع ... وما إن لبيت المجد بعدي سامك
يغص ويشجي نهشل ومجاشع ... بما أورثتني حمير والسكاسك
تفارقني روحي التي لست غيرها ... وطيب ثناي لاصق بي صايك
وماذا عسى ترجو لداتي وأرتجي ... وقد شمطت منا اللحا والأفانك
يعود لنا شرخ الشاب الذي مضى ... إذا عاد للدنيا عقيل ومالك
ومن شعره أيضاً قوله:
سحت بساحك يا محل الأدمع ... وتصرمت سفاً عليك الأضلع
ولطالما جادت ثرى الأمال من ... جاوي مؤمك الغيوث الهمع
لله أيام بها قضيتها ... قد كنت أعلم أنها لا ترجع
فلقد رشفت بها رضاب مدامة ... بنسيم أنفاس البديع تشعشع
في روضة يرضيك منها أنها ... مرعى لأفكار الندام ومشرع
تجري بها فقر سكنت رهانها ... أجدى بميدان الكلام وأسرع
فقر كريعان الشباب وعهدنا ... بجنابها وهو الجناب الأمنع
نفاثة الأنواء في عقد الثرى ... والنفت في عقد الثرى لا يمنع
حتى إذا حاك الربيع برودها ... وكسا رباها وشيه المتنوع
بدأت كمايم زهرها تبدي بها ... بدعاً تفرق تارة وتجمع

قد صم منها ما تجمع مغلق ... إذ بت منها ما تفرق مصقع
وكلاهما مهما أردت مسالم ... ومحارب ومؤمن ومروع
كل له شرع البيان محلل ... المنكر في مثل هذا مدفع
حيث ازدهت أنوار كل حديقة ... أدباً ينظم تارة ويسجع
فمرجل من رقمها ومهلل ... ومسمط من نظمها ومصرع
أبدي البديع بها بدايع صنعه ... فمجنس ومبدل ومرصع
وموشح ومرشح ومصدر ... ومكرر ومفرع ومتبع
كل بروق بها بحسن روايه ... وإذا تزين به كلامك تبرع
ولقد غدوت بها وفي وكناتها ... طير لها فوق الغصون ترجع
بمطهم الفكر الذي ما إن له ... إلا بمستن الأدلة مرتع
قيد المطالب لا يزال تحبه ... بين الجياد لعتقه أو يوضع
أرمى به الأمد البعيد وإنه ... حمل يضل به الدليل الأصمع
من بعد ما عفت النواري سبله ... ومحت معالمه البرياح الأربع
لكنني جددت دانر رسمه ... فطريقه من بعد ذلك مهيع
أوضحت فهم حدوده وضروبه ... والكل في كل المسالك ينفع
حتى وردت من السماع موارداً ... فيها لظمآن المباحث مكرع
مع كل مصقل الذكاء فحدسه ... لذكاء أسرار الطبايع مطلع
يرتاد من نجع العناصر نجعه ... فيها مصيف للعقول ومرتع
لا شيء أبدع من تجاورها وما ... يبتدي بها ذاك التجاور أبدع
فإذا تشعشع مزجها أورى بها ... نار الحباحب مرجها المتشعشع
فمكين سر حياته بحبابها ... من بعد قدح زنادها مستودع
وهنا تفاض عليه صورته التي ... لبهائها شم الطبايع تخضع
من واهب الصور التي قد خصها ... ببديع حكمته الحكيم المبدع
رب له في كل شيء حكمة ... يقضي بها البدعى والمتشرع
وحللت من أرض الرياضة أربعاً ... نفسي الفداء لها وهذي الأربع
قامت زوايها فما أوتادها ... إلا تقوم ما تقيم الأضلع
وتناسب أقدارها نسباً لها ... لو كنت تبصرها فروع فرع
فأجل ما قد سمته بحولها ... من بارق لجناب رشدي يلمع
لا شك أن وراءه مطراً له ... في كل ضرب من قياسي موقع
بحر روى مترع ملاحه ... من فيضه هذا الروي المترع
لم لا أضيع بها عهاد مدامعي ... إني إذاً لعهوها لمضيع
خلي لو لم تسعداني في البكا ... لقطعت من حبليكما ما يقطع
أرأيتما نفساً تفارق جسمها ... وبه تنعمها ولا تتوجع
عظمت رزيتها وأي رزية ... ظلت لها أكبادنا تتصدع
هذي حمامك يا علي سواجع ... وأخالها أسفاً عليها تسجع
إن طارحتني ورقها فبأضلعي ... شوق يطارحه ادكار موجع
آه على جسمي الذي فارقته ... لا كنت ممن جسمه لا يرجع
ومر العجاب رجوع ما أودى به ... دهر بتشتت الأحبة مولع
الحور منه إذا استمر طبيعة ... والعدل منه إذا استقام تطبع
هذي عقوبة زلة سلفت بها ... من أكل طعمته التي لا تشبع
قد كنت أمنع رسخ نفسي قبلها ... واليوم أوجب أنه لا يمنع
لم لا وقد أصبحت بعد محلة ... فيها السحايب بالرغايب تهمع
دار يدر الرزق من أخلاقها ... ولكم دعا داع بها من يوضع
وكأن مجلسها البهي بصدرها ... ملك بأعلى دسته متربع
وكأن مجمر عنبر بفنايها ... يذكي ما قد سيف منه يسطع
وكأنها المتوكلية بهجة ... وعلي بن الجهم فيها يبدع
في حجر ضب خافض بجواره ... من كان قبل له العوامل ترفع

يا نفثة المصدور كم لك قبلها ... من زفرة بين الجوانح تسفع
وعساك تنقع غل بك إنها ... بجحيم ما أسبلته لا تنقع
لله أنت مذاعة أودعتها ... من كل سر بالضمائر يودع
بدوية في لفظها ونظامها ... حضرية فيما به يترجع
لم لا تشفع في الذي أشكو بها ... ومثالها في مثله يتشفع
كملت وما افترعت فأي خريدة ... لو كان يفرعها همام أروع
بارت علي فأصبحت لحيائها ... منى بضافي مرطها تتلفع
ومن شعره قوله يمدح ذا الوزارتين أبا عبد الله بن الحكيم، وهي من مشاهير أمداحه:
سل الريح إن لم تسعد السفن أنواء ... فعند صباها من تلمسان أنباء
وفي خفقان البرق منها إشارة ... إليك بما تنمي إليها إيماء
تمر الليالي ليلة بعد ليلة ... وللأذن إصغاء وللعين إكلاء
وإني لأصبو للصبا كلما سرت ... وللنجم مهما كان للنجم أصباء
وأهدي إليها كل حين تحية ... وفي رد إهداء التحية إهداء
واستجلب النوم الغرار ومضجعي ... قتاد كما شاءت نواها وسلاء
لعل خيالاً من لدنها يمر بي ... ففي مره بي من جوى الشرق إبراء
وكيف خلوص الطيف منها وحولها ... عيون لها في كل طالعة راء
وإني لمشتاق إليها ومنبئ ... ببعض اشتياقي لو تمكن إنباء
وكم قايل تفنى غراماً بحيها ... وقد أخلقت منها ملاء وإملاء
لعشرة أعوام عليها تجرمت ... إذا مضى قيظ بها جاء إهراء
يطنب فيها عابثون وحزب ... ويرحل عنها قاطنون وأحياء
كأن رماح الذاهبين لملكها ... قداح وأموال المنازل أبداء
فلا تبغين فيها مناخاً لراكب ... فقد قلصت منها ظلال وأفياء
ومن عجبي أن طال سقمي ونزعها ... وقسم إضناء علينا وإطناء
وكم أرجفوا غيظاً بها ثم أرجؤا ... فيكذب إرجاف ويصدق إرجاء
يرددها عياً بها الدهر مثلما ... يردد حرف الفاء في النطق فأفاء
فيا منزلاً نال الردى منه ما اشتهى ... ترى وهل لعمر الأنس بعدك إنساء
وهل للظى الحرب التي فيك تلتظي ... إذا ما انقضت أيام بوسك إطفاء
وهل لي زمان أرتجي فيه عودة ... إليك ووجه البشر أزهر وضاء
فوا سيئى حالي إن هلكت ولم أقل ... لصحبي بها الغر الكرام الاهاؤا
ولم أطرق الدير الذي كنت طارقاً ... كعادي وبدر الأفق أسلغ مسناء
أطيف به حتى تهر كلابه ... وقد نام عساس وهوم سباء
ولا صاحب الأحسام ولهذم ... وطرف لخد الليل مذ كان وطاء
وأسحم قاري كشعري حلكة ... تلألأ فيه من سنى الصبح أضواء
فما لشرابي في سواك مرارة ... ولا لطعامي دون بابك إمراء
وباداري الأولى بدرب حلاوة ... وقد جد عيث في بلاها وأرداء
أما آن أن يحمى حماك كعهده ... وتجتاز أحماش عليك وأحماء
أما آن أن يعشو لنارك طارق ... جنيب له رفع إليك ودأداء
يرجى نوالا أو يؤمل دعوة ... فما زال قار في ذراك وقراء
أحن لها ما أطت النيب حولها ... وما عاقها عن مورد الماء إظماء
فما فاتها مني نزاع على النوى ... ولا فاتني منها على القرب إجشاء
كذلك جدي في صحابي وأسرتي ... ومن لي به من أهل ودي إن فاؤوا
ولولا جوار ابن الحكيم محمد ... لما فات نفسي من بني الدهر إقماء

حماني فلم تنتب محلى نوايب ... بسوء ولم ترزأ فؤادي أرزاء
وأكفاء بيتي في كفالة جاهه ... فصاروا عبيداً لي وهم لي أكفاء
يؤمون قصدي طاعة ومحبة ... فما عفتة عافوا وما شئته شاء
دعاني إلى المجد الذي كنت آملا ... فلم يك لي عن دعوة المجد إبطاء
وبوأني من هضبة العز تلعة ... يناجي السها منه صعود وطأطاء
يشايعني فيها إذا سرت حافظ ... ويكلأني منها إذا نمت كلاء
ولا مثل نومي في كفالة غيره ... وللذيب إلمام وللصل إلماء
بغيضة ليث أو بمرقب خالب ... تند كساً فيه وتقطع أكساء
إذا كان لي من نايب الملك كافل ... ففي حيثما هومت كن وإدفاء
وأخوان صدق من صنايع جاهه ... يبادرني منهم قيام وإيلاء
سر اع لما يرجى من الخير عندهم ... ومن كل ما يخشى من الشر إبراء
إليك أيا عبد الآله صنعتها ... لزومية فيها لوجدي إفشاء
مبراة مما يعيب لزومها ... إذا عاب أكفاء سواها وإيطاء
أذعت بها السر الذي كان قبلها ... عليه لأحناء الجوانح إضناء
وإن لم يكمن كل الذي كنت آملاً ... واعوز إكلاء فما عاز إكماء
ومن يتكلف مفحما شكر منة ... فما لي إلى ذاك التكلف إلجاء
إذا منشد لم يكن عنك ومنشئ ... فلا كان إنشاد ولا كان إنشاء
ومن شعره قوله.
أطار فؤادي برق ألاحا ... رقم ضم بعد لو كر جناحا
كأن تألقه في الدجا ... حسام جبان يهاب الكفاحا
أضاء وللعين إغفاءة ... تلذ إذا ما سنى الفجر لاحا
كمعني خفي بدا بعضه ... وزيد بيانا فزاد اتضاحا
كأن النجوم وقد غربت ... نواهل ماء صدرن قماحا
لواغب باتت تجد السرى ... فأدركها الصبح روحى طلاحا
وقد لبس الليل أسما له ... فمحت عليه بلا وانصياحا
وأيقظ روض ابربا زهره ... فمحت عليه بلا وانصياحا
وأيقظ روض الربا زهره ... فحيا نسيم صباه الصباحا
كأن النهار وقد غالها ... مبيت مال حواه اجتياحا
أتى يستفيض دموعي امتياحا ... ويلهب نار ضلوعي اقتداحا
فلم يلق دجن انتحابي شحيحا ... ولم يلف زند اشتياقي شحاحا
ولولا توقد نار الحشى ... لانفدت ماء جفوني امتياحا
ومما يشرد عني الكرى ... هديل حمام إذا نمت صاحا
ينوح علي وأبكي له ... فأقطع ليلى بكاً أو نباحا
أعين أريحى أطلب الأسى ... عليك وما زدت إلا انتزاحا
دعيني أرد ماء دمعي فلم ... أرد بعد مايك ماء قراحا
أحن إليك إذا سفت ريحا ... وأبكي عليك إذا ذقت راحا
وأفني التياحا إليك وكم ... أشحت بوجهي عنك اتشاحا
ولولا سخايم قوم أبوا ... إيابي ركبت إليك الرياحا
أباحوا حماي وكم مرة ... حميت حمى عرضهم أن يباحا
ودافعت عنهم بشعري انتصارا ... فكان الجزاء جلاى المتاحا
أباعوا ودادي بخسا فسل ... أكان سماحهم بي رباحا
وأغروا بنفسي طلابها ... سراراً فجاءوا لقتلي صراحا
وآلو يمينا على أن ما ... توهمت لم يك إلا مزاحا
فشاورت نفسي في ذا فما ... رأت لي بغير الفلاة فلاحا
فبت أناغي نجوم الدجا ... نجاء فلم ألق إلا نجاحا

أجوب الدياجير وحدي ولا ... مؤانس إلا القطا والسراحا
وإلا الثعالب تحتس في ... مبيتي فتملأ سمعي ضباحا
أجوز الأفاحيص فيحاً قفارا ... وأعرو الأداحي غبرا فساحا
فأعيي شوارد هذي عداء ... وأعلو لواغي تلك صياحا
وجواب بدو إذا استنبحوا ... أجابوا عواء وأموا النباحا
يرون قتالي في الحجر حلاً ... وإذهاب نفسي فيه مباحا
قصدت هناهم فلم أخطهم ... أعاجم شوس العيون قباحا
فسل كيف كان خلاصي من ... أسارهم أسرى أم سراحا
ولا مثل بيت تيممته فلم ... ألف إلا الغنا والسماحا
عيابا ملاء ونيباً سمانا ... وغيداً خدالا وعوداً أقاحا
وإلا أعاريب شم الأنوف ... كرام الجدود فصاحاً صباحا
وإلا يعافير سود العيون ... يرين فساد المحب صلاحا
يرددن فينا لحاظاً مراضا ... يمرضن منا القلوب الصحاحا
وتحت الوجا طلاً ربرب ... لو أن القيان رفعن الوجاحا
أراني محاسن منه فلم ... أطق عن حماه بقلبي براحا
محياً وسيماً وفرعاً أثيثا ... وقداً قويماً وردفاً رداحا
وأبدي لعيني بدايع لم ... يدع لي عقلاً بها حين راحا
إذا لم يرد غير سفك دمي ... فحل وبل له ما استباحا
وما زلت سمحاً بنفسي كذا ... متى ما رأيت الوجوه الملاحا
وباين رشيد تعوذت من ... هواه فقد زدت فيه افتضاحا
وقد ضاق صدري عن كتمه ... وأودعته جفن عيني فباحا
وبابن رشيد تعوذت من ... خطوب أجلن علي القداحا
ألح الزمان بأحداثه ... فألقيت طوعاً إليه السلاحا
أعاد شبابي مشيباً كما ... سمعت وصير نسكي طلاحا
وفرق بيني وبين الأهيل ... ولم ير ذا عليه جناحا
أخي وسميى أصخ مسعداً ... لشجو حزين إليك استراحا
فقد جب ظهري على ضعفه ... كداماً وأدهاى شواتي نطاحا
وطوح بي عن تلمسان ما ... ظننت فراقي لها أن يتاحا
وأعجل سيري عنه ولم ... يدعني أودع تلك البطاحا
نأى بصديقك عن ربعه ... فكان له النأي موتاً صراحا
وكان عزيزاً على قومه ... إذا هاج خاضوا إليه الرماحا
فها هو إن قال لم يلتفت ... إليه امتهاناً له واطراحا
عجبت لدهري هذا وما ... ألاقي مساء به وصباحا
لقد هد مني ركناً شديداً ... وذلل مني حياء لقاحا
وقيت الردى من أخ مخلص ... لو استطعت طرت إليه ارتياحا
وإني على فيح ما بيننا ... لأتبع ذاك الشذا حيث فاحا
أحن إليه حنين الفحول ... ونوح الحمام إذا ما ألاحا
إن شيت عرفان حالي وما ... يعانيه جسمي ضني أو صحاحا
فقلب يذوب إليك اشتياقا ... وصدر يفاح إليك انشراحا
وغرس وداد أصاب فضاء ... ندياً وصادف أرضاً براحا
كراسخ مجد تأثلته ... فلم تخش بعد عليه امتصاحا
وعلياء بوئتها لو بغى ... سمواً إليها السماك لطاحا
مكارم جمعت أفذاذها ... فكانت لعطف علاك وشاحا
ودرس علوم تهيم بها ... عمرت الغدو به والرواحا
نشأت عن الخير واعتدته ... فلم تدر إلا التقي والصلاحا
وقمت لها أيما رحلة ... كسحت المعارف فيها اكتساحا

بهرت رجال الحديث اقتداء ... وفت رجال الكمال اقتراحا
فما إن جليس إذا قلت قال ... أو أن الخطيب إذا لحت لاحا
ولو لم تحج بها مكة ... لحج الملايك عنك صراحا
وأما أنا بعد نهي النهى ... فما زادني الطبع إلا جماحا
أدير كؤوس هواي اغتباقا ... وأشرب ماء دموعي اصطباحا
فبرد جواي برد جواب ... توبخ فيه مشي الوقاحا
وهن بنيات فكري وقد ... أتينك فاخفض لهن الجناحا
ومن شعره رحمه الله قوله يمدح ذا الوزارتين المتقدم ذكره، ويذكر غفارة وجهها له مع هدية:
كبت العدى إنعامك البغت ... فلي الهنا وللعدى الكبت
يا من إلى جدوي أنامله ... يزجي للسفين وتزجر البخت
لولاك لم يوصل بناحية ... وخد ولم يقطع بها دشت
لولاك لم يطلع بها نشر ... منه ولم يهبط بها خبت
خولتني ما لم تسعه يدي ... فأصابني من كثره غمت
شتى أياد كلما عظمت ... عندي تلكأ خاطري الهت
يعيي لساني عن إذاعتها ... ويضيق عن شكري لها الوقت
وطأت لي الدنيا فلا عوج ... فيما أرى منها ولا أمت
أمكنتني منها فما ليدي ... ردء ولا لمقالتي عت
بالغت في بري ولا نسب ... أدلي إليك ودادي البحت
بوركت من رجل برؤيته ... يوسي الضنا ويعالج الغت
لو سار في بهماء مقفرة ... في حيث لا ماء ولا نبت
لتفجر الماء النمير بها ... ولأعشبت أرجاؤها المرت
لا تحسبن البخت نيل عني ... نيل الرضا منه هو البخت
آلت جلالته وحق لها ... أن لا يحيط بكنهها نعت
أظهرت دين الله في زمن ... ما زال يغلب حقه البهت
شيدته وهددت ممتعضاً ... لضياعه ما شيد الجبت
أمنت أرض المسلمين فلا ... ذئب يخاف بها ولا لصت
وحفظتها من كل نايبة ... تخشى فأنت حفيظها الثبت
ونهجت سبيل المكرمات فما ... لمؤمل عن غايه ألت
لم تبق غفلاً من متالعها ... إلا وفيه لحاير برت
هادن ظفاة الكفر ما هدأت ... حتى يجيء نهارها المحت
دعها تودع في معاقلها ... ما لم تعد جفاتها العفت
كم ذدتها عنا وقد هبرت ... لهراشنا أشداقها الهرت
بوقوف طرفك عند شدته ... يبأى ويفخر ملكها الرت
ويشكر ما اظهرت من كرم ... في ذاك تفصح عجمها المرت
لك من ممالكها وإن رغمت ... ما جال فيه جوادك الحت
ولكل أصيد من بطارقها ... في كل أرى له دعت
لولا لباك البيض ما أرقت ... للقايها أفراسنا الكمت
عنده لمن ينتابه مقة ... ولمن ينيب لغيره مقت
ولو أن بيضك لم تسل لما ... ذلت أنوف طغاتها السلت
يا ابن الحكيم أمنت صرف ردى ... أبداً له في أثلتي نحت
وبيمنه أنست من أملي ... ما لم يكن يوماً له عرت
مثني الوزارة موئلي وله ... ما دمت أملك قدرتي أقت
وببأسه أطفى شرارة من ... يعثو وأقدح أنف من يعت
عم الورى جوداً وفضل غنى ... حتى تساوى العد والغلت
وهمي على عال ومنخفض ... لم يبق فوق لا ولا تحت
ظل إذا نصطاف معتدل ... عطر الشذا وحياً إذا نشت
يتضاءل الصبح المنير إذا ... لاقى سناه جبينك الصلت
حتى كأن شمس الضحى قمر ... وكأن ضوء شعاعها فخت

وغيبة في لطف صنعتها ... يمضي الزمان وما لها أخت
ينأى الندى بها إذا لبست ويتيه إن طويت بها التخت
زنجية لكن لمحتدها ... في الروم يعنو القس والشنت
مثل العروس على منصتها ... من شأنها التزيين والزت
لأكون أنحل ما أكون هدى ... فيها فيعبل جسمي الشخت
وبمثل شيبي فوق حلكتها ... يبدو الوقار ويحفظ السمت
تظهريني بلباسها وبه ... عندي لها الإيثار ما عشت
لا زلت تؤثرني بها أبداً ... ولا تف من يشقي بذا السلت
وبقيت تدرك ما تريد وما ... تهوي بقاء ما له فت
ومن شعره أيضاً في المدح قوله رحمه الله من قصيدة ثبتت في ديوان مجموع من أمداحه منها قوله:
طرقتك وهناً أخت آل علاج ... والركب بين دكادك وحراج
في ليلة ليلاء لم ينبح بها ... كلب ولم يصرخ أذين دجاج
أني اهتدت لمضللين توهنوا ... منها لهتك دياجر ودياج
متسربلى برد الظلام كأنهم ... فيه قداح في رماية ساج
وثقوا بمحمود السرى وتسلموا ... لمخارم مجهولة وفجاج
ومنازل درس الرسوم بلاقع ... أخوين من هيج ومن هجهاج
محت معالمهن غير مثلم ... كسوار تاج أو كدملج عاج
ومواثل مثل الحمام جواثم ... ورق وأسمج دائم التشحاج
ومشجج ما زال منهل الحيا ... يبكي صداه بدمعه الثجاج
حتى أعاد لعوده أوراقه ... خضر الظلال ذكية الآراج
وكسا عراة عراصه من وشيه ... حللا تبور صنعة الديباج
لا مثل ليلات مضين سريعة ... بردت حرارة قلبي المهتاج
أدركت منها في صباي مطالبي ... وقضيت منها في شبابي حاج
كم ليلة مرت ولم يشعر بها ... غيري وغير منادمي وسراج
بتنا ندير إلى انبلاج صباحها ... كأس الهوى صرفاً بغير مزاج
وتدير أعيننا حديث غرامنا ... بمرامز من فضها وأحاج
بمآرج النفحات من دارين أو ... بمدارج النسمات من دراج
وخلوص ود في نقاء سريره ... كسلاف راح في صفاء زجاج
أمحضته حظي من الزمن الذي ... أعيي مراسي أهله وعلاج
واخترت قرب جواره لخلوصه ... وتركت كل مماذق مراج
ما في زمانك غير فاخلص له ... غيباً وداهن من أردت وداج
لا تحلفن بغيره واستعفين ... بوقاره عن كل غمر ماج
أترك بني الدنيا وأعرض عنهم ... فعساك تطعم لذة الإثلاح
نزهت نفسي عنهم بنواله ... وحفظتها من جاهه بسياج
أصبحت من آلايه وولايه ... في عزة ضحيا وعز داج
ولو أنني عجت الركاب ميمما ... أحداً سواه ما حمدت معاج
طلق إذا احتلك الزمان أنار في ... ظلمائه كالكوكب الوهاج
طود الرصانة والرزانة والحجا ... بحر الندى المتلاطم الأمواج
وغمامه الهامي على آماله ... من غير إرعاد ولا إرعاج
وهزبر آجام القنى الضاري إذا ... سقطت عواتمها على الأزجاج
ضمن الإله له على أعدايه ... ما شاء من ظفر ومن إفلاج
أبقى أبو عبد الإله محمد ... ما شاد والده أبو الحجاج
وبني أبو إسحق قبل وصنوه ... ركنا الضعيف ومعدنا المحتاج
وجرى على آثار أسلاف لهم ... درجوا وكلهم على منهاج
ما منهم إلا أعز مبارك ... مصباح ليل أو صباح عجاج
بيت بنوه من سراوة حمير ... في الذروة العلياء من صنهاج

كم كان في الماضين من أسلافهم ... من رب إكليل وصاحب تاج
أساس كل رياسة ورؤس ... كل سياسة وليوث كل هياج
أعيت نجوم الليل من سهر وما ... أعيا أبو موسى من الإدلاج
حتى أصارته لرحمة ربه ... يوم العقاب وقيعة الأعلاج
وأقيم نجل أخيه بعد مقامه ... فيهم يطاعن مثله ويواج
فردا يلف كتايباً بكتايب ... ويكب أفواجا على أفواج
حتى تجلى دجن كل عجاجة ... عنهم وأمسك رعد كل ضجاج
من مثل يوسف قراع كتايب ولقاء أعداء وخوض لجاج
أو من يشق من الأنام غباره ... في رد آراء ونقض حجاب
إن خاض يوماً في بيان حقيقة ... أنهى عن الثوري والحلاج
وإذا تكلم في الغريب وضبطه ... لم يعبأ بالعتبي والزجاج
جمع الفصاحة والصباحة والتقا ... والجود في وجد وفي إحراج
تخشاه أسد الغاب في أجماتها ... والروم في الأسوار والأبراج
إنا بني قحطان لم تخلق لغير غياث ملهوف ومنعة لاج
نبري طلا الأعراب في الهيجا وفي ... اللأواء سوف تماري الأعراج
بسيوفنا البيض اليمانية التي ... طبعت لحز غلاصم ووداج
تأبى لنا الإحجام عن أعداينا ... يوم اللقاء طهارة الأمشاج
أنصار خير العالمين وحزبه ... وحماته في الجحفل الرجراج
وفداته بنفوسهم ونفيسهم ... من غدر مغتال وسبة هاج
هم صفوة الخلق التي اختيرت له ... وسواهم همج من الأهماج
إلا الألى سبقوا بباهر فضلهم ... من ساير الأصحاب والأزواج
وكفى بحكمتنا إقامة حجة ... وبركننا من كعبة الحجاج
ولنا مفاخر في القديم شهيرة ... كالصبح في وضح وفي إبلاج
منا التبابعة الذين ببابهم ... كانت تنيخ جباة كل خراج
ولأمرهم كانت تدين ممالك الدنيا بلا قهر ولا إحراج
من يقتدح زنداً فإن زنادهم ... في الجود وارية بلا إخراج
بوابهم مفتوحة لضيوفهم ... أبداً بلا قفل ولا مزلاج
ومما اشتهر من شعره قوله:
أرق عيني بارق من أثال ... كأنه في جنح ليلي ذبال
أثار شوقاً في ضمير الحشى ... عبرتي في صحن خدي أسال
حكى فؤاد قلقاً واشتعال ... وجفن عيني أرقاً وانهمال
جوانح تلفح نيرانها ... وأدمع تنهل مثل العزال
قولوا وشاة الحب ما شئتم ... ما لذة الحب سوى أن يقال
عذراً للوامي ولا عذر لي ... فزلة العالم ما إن تقال
قم نطرد الهم بمشمولة ... تقصر الليل إذا الليل طال
وعاطها صفراء ذمية ... تمنعها الذمة من أن تنال
كالمسك ريحاً واللما مطمعا ... والتبر لوناً والهوا في اعتدال
عتقها في الدن خمارها ... والبكر لا تعرف غير الحجال
لا تثقب المصباح لا واسقني ... على سنى البرق وضوء الهلال
فالعيش نوم والردى يقظة ... والمرء ما بينهما كالخيال
خذها على تنغيم مسطارها ... بين خوابيها وبين الدوال
في روضة باكر وسميها ... أخمل دارين وأنسى أوال
كأن فار المسك مغبوقة ... فيها إذا هبت صباً أو شمال
من كل ساجي الطرف ألحاظه ... مفوقات أبداً للنضال
من عاذري والكل لي عاذل ... من حسن الوجه قبيح الفعال
من خلني الوعد كذابه ... ليان لا يعرف غير المطال
كأنه الدهر وأي امرئ ... يبقى على حال إذا الدهر حال
أما تراني آخذاً ناقضاً ... عليه ما سوغني من محال

ولم أكن قسط له عائباً ... كمثل ما عابته قبلي رجال
يأبى ثراء المال علمي وهل ... يجتمع الضدان علم ومال
وتأنف الأرض مقامي بها ... حتى تهاداني ظهور الرجال
لولا بنو زيان ما لذ لي العيش ولا هانت على الليال
هم خوفوا الدهر وهم خففوا ... على بني الدهر خطاه الثقال
ورثت من عامرهم سيداً ... غمر رداء الحمد عمر النوال
وكعبة للجود منصوبة ... يسعى إليها الناس من كل حال
خذها أبا زيان من شاعر ... مستملح النزعة عذب المقال
يلتفظ الألفاظ لفظ النوى ... وينظم الآلاء نظم اللآل
مجارياً مهيار في قوله ... ما كنت لولا طمعي في الخيال
ومما قال أيضاً، واشتمل ذلك على شيء من نظمه ونثره. وهذا الرجل مغرب النزعة، في شفوف نظمه على نثره:
عجباً لها أيذوق طعم وصالها ... من ليس يطمع أن يمر ببالها
وأنا الفقير إلى تعلة ساعة ... منها وتمنعني زكاة جمالها
كم ذا وعن عيني الكرى متأنف ... يبدو ويخفى في خفي مطالها
يسمو لها بدر الدجا متضايلاً ... كتضاءل الحسناء في أسمالها
وابن السبيل يجيء يقبس نارها ... ليلاً فتمنحه عقيلة مالها
يعتادني في النوم طيف خيالها ... فتصيبني ألحاظها بنبالها
كم ليلة جادت به فكأنما ... زفت على ذكا وقتت زوالها
أشري فعطرها وعطل شهبها ... يأبى شذا المعطار من معطالها
وسواد طرته كجنح ظلامها ... وبياض غرته كضوء هلالها
دعني أشم بالوهم أدنى لمحة ... من نغرها وأشم مسكة خالها
ما راد طرفي في حديقة خدها ... إلا لفتنته بحسن دلالها
أنسيب شعري رق مثل نسيمها ... فشمول راحك مثل ريح شمالها
وانقل أحاديث الهوى واشرح غريب لغاتها وأذكر ثقات رجالها
وإذا مررت برامة فتوق من ... أطلايها وتمش في أطلالها
وانصب لمغزلها حبالة قانص ... ودع الكرى شر كالصيد غزالها
وأسل جداولها بفيض دموعها ... وانضح جوانحها بفضل سجالها
أنا من بقية معشر عركتهم ... هذي النوى عرك الرحى بثقالها
أكرم بها فئة أريق نجيعها ... بغياً فراق العين حسن جمالها
حلت مدامة وصلها وحلت لهم ... فإن انتشوا فبحلوها وحلالها
بلغت بهرمس غاية ما نالها ... أحد وناء بها لبعد منالها
وعدت على سقراط صورة كأسها فهريق ما في الدن من جريالها
وسرت إلى فاراب منها نفحة ... قدسية جاءت بنخبة آلها
ليصوغ من ألحانه في حانها ... ما سوغ القسيس من أرمالها
وتعلقت في سهر ورد فأسهرت ... عيناً يؤرقها طروق خيالها
فخبا شهاب الدين لما أشرقت ... وخبا فلم يثبت لنور جلالها
ما جن مثل جنونه أحد ولا ... سمحت يد بيضاء بمثل نوالها
وبدت على الشوذي منها نفحة ... ما لاح منها غير لمعة آلها
بطلت حقيقته وحالت حاله ... فيما يعبر عن حقيقته حالها
هذي صبابتهم ترق صبابة ... فيروق شاربها صفاء زلالها
إعلم أبا الفضل بن يحيى أنني ... من بعدها أجري على آسالها
فإذا رأيت مولهاً مثلي فخذ ... في عذله إن كنت من عذالها
لا تعجين لما ترى من شأنها ... في حلها إن كان أو ترحالها
فصلاحها بفسادها ونعيمها ... بعذابها ورشادها بضلالها
ومن العجايب أن أقيم ببلدة ... يوماً وأسلم من أذى جهالها
شغلوا بدنياهم أما شغلتهم ... عني فك م ضيعت من أشغالها
حجبوا بجهلهم فإن لاحت لهم ... شمس الهدى عشوا بضوء ذبالها

وإن انتسبت فإنني من دوحة ... تتقيل الأقيال برد ظلالها
من حمير من ذي وعين من ذرى ... حجر من العظماء من أقيالها
وإذا رجعت لطينتي معنى فما ... سلسالهم بأرق من صلصالها
لله درك أي نجل كريمة ... ولدته فاس منك بعد حبالها
ولأنت لاعد منك والد فخرها ... وسماك سؤددها وبدر كمالها
أغلظ على من عاث من أنذالها ... واخشع لمن تلقاه من أبدالها
والبس بما أوليتها من نعم ... حلل الثناء وجر من أذيالها
خذها أبا الفضل بن يحيى تحفة ... جاءتك لم ينسج على منوالها
ما جال في مضمارها شعر ولا ... سمحت قريحة شاعر بمثالها
واتل أبا البركات من بركاتها ... وادفع محال شكوكه بمحالها
هذه أمتع الله ببقايك، وأسعد بلقايك. وأراها بما تؤمله من شريف اعتنايك، وترجوه من جميل احتفايك، ما تعرف به من احتذايك، وتعترف له ببركة اعتفايك، كريمة الأحياء، وعقيلة الأموات والأحياء، بنت الأذواء والأقيال، ومقصورة الأسرة والحجال؛ بل أسيره الأساوير والأحجال. على أنها حليفة جاورت سيف بن ذي يزن في رأس غمدان، وجاوزت مسلمة بن مخلد يوم جابية الجولان، وذلقت لسان ابن أخته حسان، فتضاءلت لرقة حده جسوم بني عبد المدان، وقربه ما شيم من غمده قيد ابن الغطنابة بين يدي النعمان، قربت ببني جفنة مزار جلق، وسعرت لبني تميم نار محلق؛ ومرت على معتاد غالب، فما أنست ناره، وطافت ببيت عبد الله بن دارم، فلم ترض جواره، ولو حلت بفناية، واستحلت ما أحل لها من مبذول حبائه، لاغتفر لها ما جنته ببطن أواره، ولحلت لها حبوتاً مجاشع وزرارة، مزقت على مزيقيا حللاً، وأذهبت يوم حليمة مثلا، وأركبت عنزاً شر يومها يجدع جملا، وناطت بأذن مارية قرطها، وجرت على أثر الكندي مرطها، وقفها بين الدخول فحومل فوقفت، وأنفها يوم دارة جلجل فأنفت منه ومنا ألفت، عقر ناقته وانتهس عبيطها، ودخل خدر عنيزة وأمال غبيطها. وأغرت أبا قابوس بزياد، واسرجت للزبيدي فرس أبي داود، ونافرت بحاتم طي كعب إياد، وساورت للمساور بمثل جوده الساير. ولئن بلت الجعفري لبيدا، فلقد استعبدت الأسدي عبيداً، وقطعت به في أثر سليماه الأسدية بيداً، أرته المنية على حربة هندها الملحوب، وما حال قريضه دون جريضه، وأقفر من أهله ملحوب، وما زالت تخبط في شعاب الأنساب، فترشد، وتنشد ضالتها اليمانية، فتنشد:
إن كنت من سيف بن ذي يزن ... فانزل بسيف البحر من عدن
وذر الشآم وما بناه به الرومي من قصر ومن فدن

تعلف سيل العرم، وترد غسان، وتمهد لها أهضام تبالة، فتقول مرعي ولا كالسعدان، تساجل عن سميحة بابن خرام، وتناضل بسمير يوم خزام، وتنسي قاتل ستة آلاف، وكاسي بيت الله الحرام ثلاثة الأفواف، فلو ساجلت بنبعها أبا كرب، وأرته ضراعة خدها الترب، لساجلت به أخضر الجلدة في بيت العرب، ما جداً يملا الدلو إلى عقد الكرب، بل لو حطت بفناء بيتها الحجري رحلها، وساجلت بفناء حدها ذي رعين، لاستوفت سجلها. كم عاذت بسيفها اليزني، فأدركت ذحلها، ولاذت بركنها اليمني فأجزل محلها. ولو استسقت بأوديتها، لأذهبت محلها. كافحت عن دينها الحنيفي، فما كهم حسامها، ونافحت عن نبيها الأمي، فأيدت بروح القدس سهامها. سدت باب الدرب دون بني الأصفر، وشدت لموته ثوب موت أحمر، وما شغلها كسر تاج كسرى عن قرع هامة قيصر. ولقد حلت من سنام نسبها اليعربي باسمك ذروة، وتعلقت من ذمام نبيها العربي بأوثق عروة. تفرد صاحب تيماء بأبلقه الفرد فعز، وتمرد رب دومة الجندل لما كان من مارد في حرز، فما ظنك، أعزك الله، بمن حل من قدسي عقله، بمعقل قدس، يطار إليه فلا يطار، وراد من فردوس أدبه، في جنة لا يضام رايدها ولا يضار. زها بمجاورة الملك فازدهى رؤساء الممالك، وشغف بمجاورة الملك، فاشتغل عن مطالعة المسالك، أيشق غباره، وعلى جبين المرزم مثاره، أو ينتهك ذماره، وقلب الأسد بيته، ودار أخيه أسامة زاره. ولما قضت من أنديتها العربية أوطارها، واستوفت على أشرف منازعها الأدبية أطوارها، وعطرت بنوافح أنفاسها الذكية آثارها، وأطلعت في ظلم أنفاسها الدجوجية كواكبها النيرة وأقمارها، عطفت على معقلتها الشاذليلة فحلت عقالها، وأمر لها فراق الوطن. فلما استمر لها حلالها، استودعت بطنان تبالة آلها، وتركت أهضامها المخصبة وحلالها. أطلت على دارات العرب فحيت أطلالها، ودعت لزيارة أختها اليونانية، أذواء حمير وأقيالها. أطمعتها بلمعية ألمعيتها الأعجمية، ومثلها يطمع، وجاء بها من قدماء الحكماء كل أوحدي الأحوذية، فباتت تخب إليه وتوضع، باحثة عن مركز دارتهم الفيثاغورية؛ آخذة في إصلاح هيئتهم الإنكساغورية، مؤثرة لما تدل عليه دقائق حقائق بقايا علوم مقايسهم البراهانية، وتشير إليه رموز كنوز وصايا علماء نواميسهم الكلدانية، من مأثور تأثير لاهوتية قواهم السيماوية، راغبة فيما يفاض على مادتها الجسمانية، ويطرأ على عاقليتها الهيولانية، من علويات آثار مواهبها الربانية، موافقة لمثلهم المفارقة أفضل موافقة، موافقة لما وافق من شوارد آرايهم الموفقة أحسن موافقة. وتحت هذه الأستار محذرات أسرار أضر بها الإسرار، وطالما نكر معارفها الإنكار، ونقلت من صدور أولئك الصدور، إلى بطون هذه الأوراق، في ظهور فوق دفاتر فلسفيات معاني علومهم الرقاق. وفي تلك المغاني، أبكار معاني، سكن الجوانح والصدور، بدل الأرايك والخدور، ولحن في دياجي ظلم هذه الأحاجي، كأقمار في أطمار، بهرن وما ظهرن، وسطعن وما لمعن، فعشقن وما رمقن، واستملحن وما ملحن. أدرن خمور أجفانهن على ما خوريات ألحانهن، فهيجت البلابل نغم هذه البلابل، واستفرغته الأكياس، مترعات تلك الأكواس. ما سحر بابل، كخمر بابل، ولا منتقى أغانيهن الأوايل، كحمايمكم الهوادل، إن وصلت هديلها بحفيف، وصلن ثقيلهن بخفيف. إيه أيها الشمري المشمعل، دعنا من حديثك المضمحل، سر بنا أيها الفارس الندس، من حظيرة النفس، إلى حضرة القدس، صرح بإطلاق الجمال، وجل من عالميتك الملكوتية في أفسح مجال، تمش بين مقاصر قصورها، ومعاصر خمورها، رخي البال، مرخي السربال، فما ينسج لك على منوال، نادم عليها من شغف دن سقراط، إن استحسنت لها حسان، فما يصلح لك، صالح بن علاط. بت صريع محياها، فقد أوصت بمعالجة عقير معاقرة عقارها بقراط، لا تخش صاحب شرطتها، فلا شرط له عليك ولا اشتراط، مالك غير مبديك الأول، من قال امتثل الأمر، وما عليك من أمر وال. على رسلك ما هذا العجل، لا خطأ تتوقعه ولا خطل، أمكره أنت في هذه الكريهة، أم بطل. لو علم أنك ضبارية هذا الخميس، وخبعثة ذلك الخميس، لما عاني اليم رسيس، شوقاً إليك محمد بن خميس، على أن لا غالب اليوم لأني غالب، ولا طالب يدرك شأو هذا الطالب، فقه بلا تفهيق، وحذق في تحذلق. أقسم أبا الفضل بمالك على أبي البركات من الفضل، ذلك العراقي الأرومة، لا هذا الفارس الجرثومة، وإن يك

ذلك، إسرايلي الأصل، وهذا إسمعيلي الجنس، علوي الفضل. فلتلك الذات، شرف تلك الأدوات. قدم لي غالبنا المذكور، من بأسه الغر لأرفع، وأسمى من مقعد، وقوطيهم المشهور، من إغرناطة الحمراء، ومن متبوأ أبي أميتهم المرحوم، من جنات جزيرتهم الخضراء، فيما لنت أبا الفضل من هذه العربجة، وألوك. أرأيت في عمرك، مثل هذا الصعلوك، لا والله ما على ظهر هذه الغبراء، من يتظاهر بمثل هذه المعرفة في بني غبرا. فأي شيء هذا المنزع إيش، لا حال لنا معك ولا عيش، من يضحك على هذا الطيش. ما هذا الخبل، أخمار بك أم ثمل، إرجع إلى ما كنت بصدده، وقيت الزلل، خذ في الجد فما يليق بك الهزل. رق عن ذلك فحك لنا منه أرق غزل، ماذا أقول، وأي عقل يطاوعني على هذا المعقول. أفحمتني والله عن مكالمتكم هذه المحن، ومنعتني من طلب مسالمتكم، ما لكم علي في دنياكم هذه من الإحن. إن تكلمت كلمت، وإذا استعجمت عجمت. أما لهذه العلة آس، أم على هذه الفيلة مواس؛ ما حيلتي في طبع بلدكم الجاسي. إما يلين لضعفي أما يرق قلب زمانكم القاسي. ما هذه الدمن يا بني حضروات الدمن، أظهرتم المحن، فقلب لكم ظهر المجن. إن مر بكم الولي حمقتموه، وإن زجركم العالم فجرتم عليه ففسقتموه، وإذا نجم فيكم الحكيم، غصصتم به، فكفرتموه وزندقتموه، كونوا فوضى، فما لكم اليوم مسراً سواه واذهبوا من مراعيكم المستوبلة، حيث شئتم، فقد أهملكم الرعاة. ضيعتم النص والشرائع، وأظهرتم في بدعكم العجايب والبدايع. نفقتم النفاق، وأقمتم سوق الفسوق على ساق. استصغرتم الكباير، وأبحتم الصغاير. أين غنيكم الشاكر، يتفقد فقيركم الصابر، أين عالمكم الماهر، يرشد متعلمكم الحاير. مات العلم بموت العلماء، وحكم الجهل بقطع دابر الحكماء. جرد لنا شريعتك يا أفضل الشارعين. أتم فيها موعظتك يا أفصح التابعين. لا والله ما يوقظكم من هذا الوسن، وعظ الحسن، ولا ينقذكم من فتن هذا الزمن، إلا سيف معلمه أبي الحسن والسلام.ذلك، إسرايلي الأصل، وهذا إسمعيلي الجنس، علوي الفضل. فلتلك الذات، شرف تلك الأدوات. قدم لي غالبنا المذكور، من بأسه الغر لأرفع، وأسمى من مقعد، وقوطيهم المشهور، من إغرناطة الحمراء، ومن متبوأ أبي أميتهم المرحوم، من جنات جزيرتهم الخضراء، فيما لنت أبا الفضل من هذه العربجة، وألوك. أرأيت في عمرك، مثل هذا الصعلوك، لا والله ما على ظهر هذه الغبراء، من يتظاهر بمثل هذه المعرفة في بني غبرا. فأي شيء هذا المنزع إيش، لا حال لنا معك ولا عيش، من يضحك على هذا الطيش. ما هذا الخبل، أخمار بك أم ثمل، إرجع إلى ما كنت بصدده، وقيت الزلل، خذ في الجد فما يليق بك الهزل. رق عن ذلك فحك لنا منه أرق غزل، ماذا أقول، وأي عقل يطاوعني على هذا المعقول. أفحمتني والله عن مكالمتكم هذه المحن، ومنعتني من طلب مسالمتكم، ما لكم علي في دنياكم هذه من الإحن. إن تكلمت كلمت، وإذا استعجمت عجمت. أما لهذه العلة آس، أم على هذه الفيلة مواس؛ ما حيلتي في طبع بلدكم الجاسي. إما يلين لضعفي أما يرق قلب زمانكم القاسي. ما هذه الدمن يا بني حضروات الدمن، أظهرتم المحن، فقلب لكم ظهر المجن. إن مر بكم الولي حمقتموه، وإن زجركم العالم فجرتم عليه ففسقتموه، وإذا نجم فيكم الحكيم، غصصتم به، فكفرتموه وزندقتموه، كونوا فوضى، فما لكم اليوم مسراً سواه واذهبوا من مراعيكم المستوبلة، حيث شئتم، فقد أهملكم الرعاة. ضيعتم النص والشرائع، وأظهرتم في بدعكم العجايب والبدايع. نفقتم النفاق، وأقمتم سوق الفسوق على ساق. استصغرتم الكباير، وأبحتم الصغاير. أين غنيكم الشاكر، يتفقد فقيركم الصابر، أين عالمكم الماهر، يرشد متعلمكم الحاير. مات العلم بموت العلماء، وحكم الجهل بقطع دابر الحكماء. جرد لنا شريعتك يا أفضل الشارعين. أتم فيها موعظتك يا أفصح التابعين. لا والله ما يوقظكم من هذا الوسن، وعظ الحسن، ولا ينقذكم من فتن هذا الزمن، إلا سيف معلمه أبي الحسن والسلام.

قدم غرناطة في أواخر عام ثلاثة وسبعماية. وتوفي في يوم مقتل صاحبه الوزير أبي عبد الله بن الحكيم، فر من دهليز جاره فيمن كان بها من الأعلام، بعد أن نهبت ثيابه، حسبما جرى على غيره من الحاضرين، وهو يقول، هكذا تقوم الساعة بغتة. ولقيه بعض قرابة السلطان، ممن كان الوزير قد وتره، فشرع الرمح إليه، فتوسل إليه برسول الله، فلم يقبل منه، وطعنه، فقتله يوم عيد الفطر عام ثمانية وسبعماية، وآخر العهد به، مطرحاً بالعراء، خارج باب الفخارين، لا يعلم قبره، لمكان الهرج في تلك الأيام. نسل الله جميل ستره. وساء بأثر قتله إياه حال ذلك الرجل وفسد فكره، وشرد نومه وأصابته علة ردية، فكان يثب المرة بعد الأخرى، يقول ابن خميس يقتلني، حتى مات لأيام من مقتل المذكور.
ابن إبراهيم الملكشيمحمد بن عمر بن علي بن إبراهيم الملكشي يكنى أبا عبد الله.
حالهكان فاضلا، متخلقاً، أديباً، شاعراً، صوفياً، جميل العشرة، حسن الخلق كريم العهد، طيب النفس. كتب عن الأمراء بإفريقية، ونال حظوة، ثم شرق وحج، ولقي جلة، ووصل الأندلس عام ثمانية عشر وسبعماية، فلقي بغرناطة حفاية، وانسحبت بها عليه جراية، ثم انصرف إلى وطنه، وناله به اعتقال، ثم تخلص من النكبة، وأقام به، يزجي وقته إلى آخر عمره.
وجرى ذكره في الإكليل الزاهر: كاتب الخلافة، ومشعشع الأدب المزري بالسلافة، كان يرحمه الله، بطل مجال، ورب روية وارتجال، قدم على هذا البلاد، وقد نبا به وطنه، وضاق ببعض الحوادث عطنه، فتلوم بها تلوم النسيم بين الخمايل، وحل بها محل الطيف من الوشاح الجايل، ولبث مدة إقامته تحت جراية واسعة، ومبرة يانعة. ثم آثر قطره، فولي وجهه شطره، واستقبله دهره بالإنابة، وقدله خطة الكتابة، واستقامت حاله، وحطت رحاله، وله شعر أنيق، وتصوف وتحقيق، ورحلته إلى الحجاز، سببها في الخبر وثيق، ونسبتها في الصالحات عريق.
شعرهنقلت من خط الوزير أبي بكر بن ذي الوزارتين، مما قيد عنه، وكان خبيراً بحاله:
رضي نلت من كل ما يهوى ... فلا توقفني موقف الذل والشكوى
وصفحاُ عن الجاني المسيء لنفسه ... كفاه الذي يلقاه من شدة البلوى
بما بيننا من خلوة معنوية أرق من النجوى وأحلى من السلوى
قفي أتشكى لوعة البين ساعة ... ولا يك هذا آخر العهد بالنجوى
قفي ساعة في عرصة الدار وانظري إلى عاشق لا يستفيق من البلوى
وكم قد سألت الريح شوقاً إليكم ... فما حن مسراها إلي ولا ألوى
فيا ريح حتى أنت ممن يغار بي ... ويا نجد حتى أنت تهوي الذي أهوى
خلقت ولي قلب جليد على النوى ... ولاكن على فقد الأحبة لا يقوى
وحدث بعض من عني بأخباره أيام مقامه بمالقة واستقراره؛ أنه لقي ليلة بباب الملعب في أبوابها ظبية من ظبيات الأنس، وفتنة من فتن هذا الجنس، فخطب وصالها، واتقى بفؤاده نصالها، حتى همت بالانقياد، وانعطفت انعطاف الغصن المياد، فأبقى على نفسه، وأمسك، وأنف من خلع العذار، بعد ما تنسك، وقال:
لم أنس وقفتنا بباب الملعب ... بين الرجا واليأس من متجنب
وعدت فكنت مراقباً لحديثها ... يا ذل وقفة خايف مترقب
وتذللت فذللت بعد تعزز ... يأتي الغرام بكل أمر معجب
بدوية أبدي الجمال بوجهها ... ما شيت من خد شريق مذهب
تدنو وتبعد نفرة وتجنباً ... فتكاد تحسبها مهاة الرباب
ورنت بلحظ فاتر لك فاتن ... أنضى وأمضى من حسام المضرب
وأرتك بابل سحرها بجفونها ... فسبت وحق لمثها أن تستب
وتضاحكت فحكت بنير ثغرها ... لمعات نور ضياء برق خلب
بمنظم في عقد سمطى جوهر ... عن شبه ثور الأقحوان الأشنب
وتمايلت كالغصن أخضله الندى ... ريان من ماء الشبيبة مخصب
تثنيه أرياح الصبابة والصبا ... فتراه بين مشرق ومغرب
أبت الروادف أن تميل بميله ... فرست وجال كأنه في لولب
منسوجاً بهلال وجه لاح في ... خلل السجوف لحاجب ومحجب

يا من رأى فيها محباً مغرماً ... لم ينقلب إلا بقلب قلب
ما زال مذ ولي يحاول حيلة ... تدنية من نيل المنى والمطلب
فأجال نار الفكر حتى أوقدت ... في القلب نار تشوق وتلهب
فتلاقت الأرواح قبل جسومها ... وكذا البسيط يكون قبل مركب
ومن مقطوعاته البديعة، مما سمع منه بغرناطة، حرسها الله، أيام مقامه بها قوله:
أرى لك يا قلبي بقلبي محبة ... بعثت بها سرى إليك رسولا
فقابله بالبشر واقبل عشية ... فقد هب مسكي للنسيم عليلا
ولا تعتذر بالقطر أو بلل الندى ... فأحسن ما يأتي النسيم بليلا
ونقلت من خط الفقيه القاضي أبي جعفر الرعيني، مما أملاه علي بمنزله بغرناطة. قال وحضرت في عام ثلاثة عشر وسبعماية، يوم إحرام الكعبة العلية، وذلك في شهر ذي القعدة على اصطلاحهم في ذلك، وصفته أن يتزين سدنة البيت من شيبة بأحسن زي، ويعمدوا إلى كرسي، يصل فيه صاعده، إلى ثلث الكسوة، ويقطعها من هنالك، ويبقى الثلثان إلى المويم، وهو يوم مشهود عند سكان الحرم، يحتفل له، ويقوم المنشدون أدراج الكعبة ينشدون. فقلت في ذلك:
ألم ترها قد شمرت تطلب الجدا ... وتخبر أن الأمر قد بلغ الحدا
فجد كما جدت إليها وشمر عن الساعد الأقوى تنل عندها سعدا
طوت بردها طي السجل كناية ... لأمر خفي سره طوت البردا
وأندت محياها فحيا جماله ... وقبل على صون المقلة ذلك الخدا
فكم سترت سود البرود جمالها ... وغطته لاكن عن سنها الرمدا
وكم خال ذاك الخال عما مقصر ... عن العلم بالأنساب لا يعرف الحدا
لقد سفرت عن وجهها الكعبة التي ... لها المسني في حسنها المبدا
وقالت ألا أين مكللي، قصدوا إلى جمالي فقد أبدي الحجاب الذي أبدا
فلبت لها العاشق من كل جانب ... يومونها يستقربون لها البعدا
فمن ندف أشفى على تلف ومن ... محب على قرب يهيم بها وجدا
ومن ساهر على النجوم ولم يذق بعينيه طعم النور أو يبلغ القصدا
بسائل عن بدر وبدر تجاهه ... كذلك اشتراك اللفظ قد ينغص الخدا
ومن مستهام لا يقر قراره ... كأن به من حر أشواقه وقدا
يقلب قلباً بين جنبيه موريا ... أوار الأسى فيه فتحسبه زندا
إذا ما حدى حادي الركاب ركابه ... كأن قلوب الراكبين له نجدا
أحاد بها إن أنت جئت بها مني ... ونلت المنى والأمن فانزل ورد وردا
ولا خوف هذا الخيف والتربة التي ... سرت قد عين المصطفى عدا
وفي عرفات فاعترف وانصرف إلى ... مشاعر فيها يرحم المالك العبدا
وإن كنت من أوفى العبيد جرايما ... فحسن نبيل العقد من ربك العقدا
لين صدقت فيك الوعيد جرايم ... فعفواً لجميل الصفح يصدقك الوعدا
وعد مفضياً للبيت طف واستلم وقم ... بها للمقام الرحب واسجد وكن عبدا
ورد في الثنا والحمد والشكر واجتهد ... فمن عرف الإحسان زادته حمدا
وعج نحو فرض الحب وأقض حقوقه ... وزر قبر من أولاك من هديه رشدا
قال، وكنت في زمن الحداثة، أفضل الأصيل على السحر، وأقول فيه رقة المودع ورقة المعتذر. فلما كان أوان الأسفار، واتصلت ليالي السير، إلى أوقات الأسحار، وأيت أفق الشرق أشرق، ووجدت القايل يفضل السحر أصدق، فابتدأت راكباً، فلما جيت لذكر الجناب العلي النبوي، أتممت ماشياً، وأنا في رملة بين مصر وعقبة إيله، وقلت:
ما أحسن الأفق الشرقي إسفارا ... فكم هذا في دجى الإدلاج أسفارا
إذا بدا سارت الأظعان هادية ... له وصارت به الظلماء أنوارا
يجلو غياهب ليل طالما سدلت ... على المحبين في الظلماء أستار
ونم من ه نسيم ثم ذا بعد على ... أحاديث كانت ثم أسرارا

سرت سحيرا فبرت سر ذي سحر ... أهدت له ريح من يهواه معطارا
سرت ببانات أكناف اللوى ... فغدت كأن دارين قد أصبحت دارا
طابت بطيبة أرواح معطرة ... بها فأصبح أفق الشوق عطارا
كأنما فلق الغصباح حين بدا ... خدر بهجة حسن الشمس قد وارا
حقي بدت وتبدت حسن صورتها ... فعممته الأرض أنجاداً وأغوارا
كأنه دعوة المختار حين بدت ... دانت لها الخلق إعلاناً وإصرارا
من نوره كل نور أنت تبصره ... ونوره زاد الأبصار إبصارا
هدا به الله أقواماً به سعداء ... لولاه كانوا مع الكفر كفارا
هو الشفيع الذي قالت شفاعته ... للموبقين ألا لا تدخلوا النارا
هو العفو عن الجاني وإن عظمت ... من المسيء ذنوب كان غفارا
هو الكريم الذي ما رد سائله ... يوما ولو كرر التسآل تكرارا
هو الحبيب الذي ألقى محبته ... في كل قلب فقلبي نحوه طارا
أحبه كل مخلوق وهام به ... حتى الجمادات أحجاراً وأشجاراً
وانشق بدر الدجا من نور غرته ... وانهلت السحب من كفيه أنهارا
ومن مقطوعاته، قال، ومما نظمته في ليل السرى، وتخيل طيف الكرى، أقصيد قصدته أي معنى أردته، أشغل عنه ما بي منه:
منع الهجر من سليمي هجوعا ... فانثنى طبعها يريد الرجوعا
بعثته ليلا يعلل قلباً ... مستهاماً بها محباً ولوعا
لم يجد غير طرف جفن قريح ... شاخصا نحوها يذر الدموعا
وكتب إلى صديقه شيخنا أبي بكر بن شبرين من بجاية، وهو معتقل بقصبتها، وقد امتحنه بذلك أبو عبد الله بن سيد الناس:
شرح حالي لمن يريد سؤالي ... إنني في اعتقال مولي الموال
مطلق الحمد والثناء عليه ... وهو للعطف والجميل موال
لا أرى للولاة في احتكاما ... وولي مال على كل وال
أرتجى بالمصاب تكفير ذنبي ... حسبما جاء في اصحاح العوال
لا تدوم الدنا ولا الخير فيها ... وكذا الشر ذا وذا للزوال
فاغتنم ساعة الوصال وكم ... من محنة وهي منحة من نوال
فإذا غبت عنك فاحضر ... تجدها للجواب المفيد عن السؤال
فهي نور للنهار والنور منها ... وهي الأنس في الليالي الطوال
فاستدمها تدم ولا تضج منها ... وأدرها على اليمين ووال
فإن الكأس مجراها على اليمين، ومسراها لفي الصبح المبين، تغنى عن الإصباح والمصباح، وتدنى لهم معنى النور المشرق في الوجوه الصباح، وتجرى في الأشباح، فتسرى في الأرواح. وهذه الرسالة طويلة، فيها كل بديع من نظم ونثر.
فأجابه رحمه الله:
أرغمن هذه القيود الثقال ... رب ود مصيره للتغال
طال صبري على الجديدين حتى ... كدت مما لقيت أن يشفقا ل
إن بعض الرضا لديه فسيح ... أي مدد به وأي ابتقال
حاش لله أن أكون لشيء ... شاده الصانع القديم بغال
إن عندي من الثناء عليه ... لأماني لم يملهن القال
يا إماء الذي بودي لو ... أمكن نصي إليه أوار قال
أرج دنياك وأرج مولاح واعلم ... أن راجي سواه غير مقال
وابتغاء الثواب من ربك اعمل ... فهو يجزي الأعمال بالمثقال
واغتنم غيبة الرقيب ففيها ... لقلوب الرجال أي صقال
وأحل في الوجود فكر غني ... عن ضروب الإنعام والأحقال
وإذا الوقت ضاق وسعه ... بالصبر ولا تنس من شهير المقال
ربما تكره النفوس من الأمر ... له فرحة كحل العقال

لا غرو أن وقع توان، أو تلوم دهر ذو ألوان، فالأمر بين الكاف والنون، ومن صبر، لم يبوء بصفقة المغبون. وللسعداء تخصيص، ومع التقريب تمحيص، وما عن القضاء محيص، والمتصرف في ماله غير معتوب، وقديم الحقيقة إلى الحيف ليس بمنسوب. وقد ورد خطاب عمادي أطاب الله محضره، وسدد إلى المرامي العلية نظره، ناطقاً بلسان التفويض، سارحا من الرضا في الفضاء العريض، لايذاً بالانقياد والتسليم، قايماً على أسكفة باب الأدب، لمثابة حكم الحكيم.
ومنها: والوقايع عافاكم الله وعاظ ونحن هجود. وفي الحي إيقاظ، وما كل المعاني تؤديها الألفاظ. وهذا الفناء الذي نشأ عن الوقت، هو إن شاء الله عين البقيا. وإذا أحب الله عبداً حماه الدنيا، وما هي إلا فتون، وجنون فنون، وحديث كله مجون. وقد يجمع الله الشتيتين، ولن يغلب عسر يسرين ولا بأس، ويا خطب لا مساس وأبعد الله اليأس، وإنما يوفي الأجر الصابرون، ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. وهي طويله بديعة.
أسمع بحضرة غرناطة لما قدم عليها، وارتسم في جملة الكتاب بها، وحدث عن رضي الدين أبي أحمد إبراهيم الطهري، بسماعه من الشريف يونس بن يحيى الهاشمي، وبسماعه من أبي الوقت طراد. وعن الإمام سراج الدين أبي حفص عمر بن طراد المعري القاضي بالحرم الشريف، وعن شرف الدين أبي عبد الله محمد بن عبد الحميد الهمداني، وعن الإمام بهاء الدين الخميري عن أبي الطاهر السلفي، وعن جماعة غيرهم. وكان وروده على الأندلس في أوايل عام خمسة عشر وسبعماية، وحضر بها غزوات، ولقي من كان بها من الأعلام. ثم انصرف عنها في أوايل عام ثمانية عشر، وأحل بسبتة، فأكرم رييسها أبو عمر يحيى بن أبي طالب العزفي قدومه، وأنزله بدار جليلة، كان بها علو مطل على البحر، لم يتمكن من مفتاحه، لأمر اقتضى ذلك، فكتب إليه:
يا صاحب البلد المليح المشرق ... ما مثله في مغرب أو مشرق
ومنها:
وخفضت عيشي فيه فارفع ... منزلي حتى أرى الدنيا بطرف مطرق
وتجول في البلاد، ولقي من بها، واتصل بالأمير أبي علي بسجلماسة. ومدحه بقصيدة حفظ منها:
فيا يوسفى الحسن والصفح والرضا ... تصدق على الدنيا بسلطانك العدل
ثم اتصل بوطنه.
وفاتهنقلت من خط شيخنا أبي بكر المذكور: وفي عام أربعين وسبعماية، توفي بتونس صاحبنا الحاج الفاضل المتصوف، الكاتب أبو عبد الله محمد بن علي المليكثي الشهير بابن عمر، صدر في الطلبة والكتاب، شهير ذو تواضع وإيثار، وقبول حسن، رحمه الله.
ابن راجح الحسنيمحمد بن علي بن الحسن بن راجح الحسني من أهل تونس يكنى أبا عبد الله.
حالههذا الرجال الفاضل، صاحب رواء وأبهة، نظيف البزة، فاره المركب، صدوف عن الملة، مقيم للرسم، مطفف في مكيال الإطراء، جموح في إيجاب الحقوق، مترام إلى أقصى آماد التوغل، سخي اللسان بالثناء ثرثاره، فكه مطبوع، حسن الخلق، عذب الفكاهة، مخصوص حيث حل من الملوك والأمراء بالأثرة، وممن دونهم بالمداخلة والصحبة، ينظم الشعر، ويحاضر بالأبيات، ويتقدم في باب التحسين والتقبيح، ويقوم على تاريخ بلده، ويثابر على لقاء أهل المعرفة، والأخذ عن أولى الرواية. قدم على الأندلس في إحدى جمادين، عام خمسين وسبعماية، مفلتاً من الوقيعة بالسلطان أبي الحسن بالجهات الشرقية، بأيدي بني زيان وأحلافهم، فمهد له سلطانها، رحمه الله، كنف بره، وأواه إلى سعة رعيه، وتأكدت بيني وبينه صحبة.
شعرهكتبت إليه لأول قدومه بما نصه؛ أحذو حذو أبيات، ذكر أن شيخنا أبا محمد الحضرمي خاطبه بها:
أمن جانب الغربي نفحة بارح ... سرت منه أرواح الجوى في الجوانح
قدحت بها زند الغرام وإنما ... تجافيت في دين السلو لقادح
وما هي إلا نسمة حاجرية ... رمى الشوق منها كل قلب بقادح
رجحنا لها من غير شك كأنها ... شمايل أخلاق الشريف ابن راجح
فتى هاشم سبقاً إلى كل علية ... وصبراً معار الحبل في كل فادح
أصيل العلاجم السيادة ذكره ... طراز نضار في برود المدايح
وفرقان مجد يصدع الشك نوره ... حبا الله منه كل صدر بشارح

وفارس ميدان البيان إذا انتضى ... صحايفه أنست مضاء الصفايح
رقيق كما راقتك نغمة هاجع ... وجزل كما راعتك صولة جارح
إذا ما احتبى مستحفزاً في بلاغة ... وخيض خضم القول منه بسايح
وقد شرعت في مجممع الحفل نحوه ... أسنة حرب للعيون اللوامح
فما ضعضعت منه لصولة صادح ... ولا ذهبت منه بحكمة ناصح
تذكرت قساً قديماً في عطاظه ... وقد غص بالشم الأنوف الجحاجح
ليهنك شمس الدين ما حزت من علا خواتمها موصولة بالفواتح
رعى الله ركباً أطلع الصبح مسفراً ... لمرآك من فوق الربى والأباطح
ومنها:
أقول لقومي عندما حط كورها ... وساعدها السعدان وسط المسارح
ذروها وأرض الله لا تعرضوا لها ... بمعرض سوء فهي ناقة صالح
إذا ما أردنا القول فيها فمن لنا ... بطوع القوافي وانبعاث القرايح
بقيت مني نفس وتحفة رايد ... ومورد ظمآن وكعبة مادح
ولا زلت تلقى الرحب والبر حيثما ... أرحت السرى من كل غاد ورايح
فأجابني بما نصه:
أمن مطلع لأنوار لمحة لامح ... تعار لمفقود عن الحي نازح
وهل بالمني من مورد الوصل يرتوي ... غليل عليل للتواصل جانح
فيا فيض عين الدمع مالك والحمى ... ورند الحمى والشيح شيح المشايح
مرابع آرامى ومورد ناقتي ... فسقياً لها سقياً لناقة صالح
سقى الله ذاك الحي ودقاً فإنه ... حمى لمحات العين عن لمح سامح
وأبدى لنا حور الخيام تزف في ... حلى الحسن والحسني وحلى الملايح
ترى حي تلك الحور للحور مهيع ... يدل وهل حسم لداء التبارح
ويا دوحة الرويحان هل لي عودة ... لعقر عقار الأنس بين الأباطح
وهل أنت إلا طلة حاتمية ... تغص نواديها بغاد ورايح
أقام بها الفخر ابن الخطيب منابراً ... لترتيل آيات للندى والمنايح
وشفع بالإنجيل حمد مديحه ... وأوتر بالتوراة شفع المدايح
وفرق بالفرقان كل فريقة ... نأت عن رشاد فيه معنى النصايح
وهل هو إلا للبرية مرشد ... لكل هدى هاد لأرجح راجح
فبشراك شمس الدين سادبك الورى وأورى الهدى للرشد أوضح واضح
متى قلت لم تترك مقالا لقايل ... فإن لم تقل لم يغن حمد لمادح
فمن حام بالحي الذي أنت أهله ... وعام ببحر من عطايك طافح
يحق له أن يشفع الحمد بالثنا ... ويغدو بذاك البحر أسبح سابح
ويا فوز ملك دمت صدر صدوره ... وبشى له قد راح أربح رابح
بآرايك التي تدل على الهدى ... وتبدي لمن خصصت سيل المناجح
ملكت خصال السبق في كل غاية وملكت من ملكت يا بان الجحاجح
مطامح آمال لأشرف همة ... أقل مراميها أجل المطامح
فدونكها يا مهدي المدح مدحة ... أجبت بها عن مدح أشرف مادح
يهنيك بالعام الذي عم حمده ... مواهب هاتيك البحار الطوافح
فخذها سمى الفخر يا خير مسبل ... على الخلق أغضا ستور التسامح
ودم خاطب العليا لها خير خاطب ... وأتوق تواق وأطمح طامح
وتلقاني بمالقة عند قدومي من الرسالة إلى المغرب، في محرم عام ستة وخمسين وسبعماية، ونظم لي هذه الأبيات، ولا حول ولا قوة إلا بالله:
قدومك ذا أبدي لذي الراية الحمرا ... ثغور الرضا تعبر عن شنب البشرا
وأينع فجر الرشد من فلق الهدى ... وكونه نهرا وفجره فجرا
ونصبح في أحيان المن نستلم ... مواطنكم شفعاً وآثاركم وترا
ونخطب ما يا ابن الخطيب تشا ... من كرايم ذاك الحي إذ نهز الشعرا

فقابلت بالإقبال والبر والرضا ... وأقريت من يقرا وأقررت من قرا
فأبنا قدس الحمد حضرة قدسنا ... وأقدامنا تملا وأمداحكم تقرا
هنيا لنا نلنا ونلنا ولم نزل ... ننال ولاكن هذه المنة الكبرا
رأينا وزير الملد والملك واللوى ... وحزب اللوى كل يشد به أزرا
سجدنا وكبرنا وقلنا رسولنا ... أتى بالذي يرضى بشرى لنا بشرا
ويهني الورى هذا الإياب فإن في ... نتايجه للدهر ما يسهر الدهرا
أرانا سنا ذا اليوم أجمل منظر ... وجلى لنا من وجهك الشمس والبدرا
أما والذي أوليت من نعمة غدت ... تعلمنا للمنعم الحمد والشكرا
لأنت لسان الدين للدين حجة ... تؤيده سراً وتعضده جهرا
بقيت لنا كتفاً منيعاً مشرفاً ... ودمت له عضداً ودمت له نصرا
ودمنا بكم في كل أمن ومنة ... ندير المنا خمرا أو نصلى العدا جمرا
ومن أمثل ما مدح به السلطان لأول قدومه بالنسبة إلى غير ذلك من شعره:
أما والعيون النجل ترمق عن سحر ... وورد رياض الخد والكأس والخمر
وريحانه والراح والطل والطلا ... ونرجسه والزهر والنور والنهر
ونور جبين الشمس في رونق الضحا ... وهالة بدر التم منتصف الشهر
لقد قلدت آراء يوسف ملكه ... قلايد نصر لن تبيد مع الدهر
وقد أيده الإسلام منه بناصر ... نصير وخير النصر نصر بني نصر
هم القوم أنصار النبي محمد وحزبه وعصبة الأعلام في اليسر والعسر
وحسبك من قوم حموا سيد الورى ... وقاموا بنصر الحق في السر والجهر
سقى شرعة الإسلام ودق سيوفهم ... رحيق الأماني طيب العرف والنشر
فأصبح روض الرشد يعبق طيبه ... ودوح الهدى بالزهر أزهاره تزرى
فيا سايلي عنه وعن سطواته إذا ... لاح محفوفاً براياته الحمر
وجز مع الأقدام جيشاً عرمرما ... وشرد بالتأييد شرذمة الكفر
لخليلة تنبيك عما وراءها ... ولا غرو فالإفصاح يعرف بالعجز
فيا فوز من أدناه بالغنم والغنا ... ويا ويل من أقصاه للقفر والفقر
يميناً بما اختارت يداك وأحرزت ... من الملك والتأييد والنهي والأمر
لقد أصعدت مجدى مدائحك التي ... ومجدك والعليا مدحت بها شعر
وحق لمثلي يشع الحمد بالثنا ... ويتلو معانيه مع الشفع والوتر
فاحنى ثمار الأنس من روضة المنا ... وأقطف زهير الحمد من شجر الشكر
وأشرب ماء الفوز عذباً ختامه ... رحيق براح السمح في أكوس البشر
ولا برحت أمداحكم تعدز النهى ... وإلا فكم تنجني ن العسر لليسر
ولا زالت الأقدار تخدم رأيكم ... وراياتكم ما دام نجم للسر يسر
وكتب إلي في غرض يظهر منه نص المراجعة، وحسبنا الله:
أما والذي لي في حلاك من الحمد ... وما لك ملاكى علي من الرفد
لقد أشعرتني النفس أنك معرض ... عن المسرف اللايي لفطرك يستجد
فإن زلة بدت لك جهرة فصفحا ... فما والله إذ كنت عن عمد
فراجعته بقولي:
أجلك عن عتب يغض من الود ... وأكرم وجه العذر منك عن الرد
ولاكنني أهدي إليك نصيحتي ... وإن كنت قد أهديتها ثم لم تجد
إذا مقول الإنسان جاوز حده ... تحولت الأغراض منه إلى الضد
فأصبح منه الجد هزلاً مذمماً ... وأصبح منه الهزل في معرض الجد
فما استطعت فيضاً للعنان فإنه ... أحق السجايا بالعلا والمجد
توفي يوم الخميس الثالث لشعبان عام خمسة وستين وسبعماية، وقد ناهز السبعين سنة، ودفن بروضتنا بباب إلبيرة، وأعفي شارب الشعر من نابي مقصه. وغير هذه الدعوى قرارها تجاوز القضية.

محمد بن علي بن عمر العبدري

من أهل تونس، شاطبي الأصل، يكنى أبا عبد الله، صاحبنا.
حالهكان فاضلا منأبناء النعم، وأخلاف العافية، ولي أبوه الحجابة بتونس عن سلطانها برهة، ثم عدا عليه الدهر، واضطر ولده هذا إلى اللحاق بالمشرق، فاتصل به سكناه وحج، وآب إلى هذه البلاد. ظريف النزعة حلو الضريبة، كثير الانطباع، يكتب ويشعر، ويكلف بالأدب، ثم انصرف إلى وطنه. وخاطبني إلى هذا العهد، يعرفني بتقلده خطة العلامة، والحمد لله.
وجرى ذكره في كتاب الإكليل بما نصه: غذي نعمة هامية، وقريع رتبة سامية، صرفت إلى سلفه الوجوه، ولم يبق بإفريقية إلا من يخافه ويرجوه، وبلغ هو مدة ذلك الشرف، الغاية من الترف. ثم قلب الدهر له ظهر المجن، واشتد به الخمار عند فراغ الدن، ولحق صاحبنا هذا بالمشرق، بعد خطوب سيرة، وشدة كبيرة، فامتزج بسكانه وقطانه، ونال من اللذات ما لم ينله في أوطانه؛ واكتسب الشمايل العذاب، وكان كابن الجهم، بعث إلى الرصافة، ليرق فذاب، ثم حوم على وطنه تحويم الطائر، وألم بهذه المدينة إلمام الخيال الزاير، فاغتنمت صفقة وده، لحين وروده، وخطبت موالاته على انقباضه وشروده، فحصلت منه على درة تقتنى، وحديقة الجنى.
شعرهأنشدني في أصحاب له بمصر قاموا ببره:
لكل أناس مذهب وسجية ... ومذهب أولاد النظام المكارم
إذا كنت فيهم ثاوياً كنت سيداً ... وإن غبت عنهم لم تنلك المظالم
أولئك صحبي لا عدمت حياتهم ... ولا عدموا السعد الذي هو دايم
أغنى بذكراهم وطيب حديثهم ... كما غردت فوق الغصون الحمايم
ومن شعره يتشوق إلى تلك الديار، ويتعلل بالتذكار، قوله:
أحبتنا بمصر لو رأيتم ... بكائي عند أطراف النهار
لكنتم تشفقون لفرط وجدي ... وما ألقاه من بعد المزار
ومن شعره:
تغني حمام الأيك يوماً بذكرهم ... فأطرب حتى كدت من ذكرهم أفنا
فقلت حمام الأيك لا تبك جيرة ... ناءوا وانقضت وصلهم عنا
فقال ولم يردد جواباً لسايل ... ألا ليتنا كنا جميعاً بذا ألحقنا
ومن جيد شعره الذي أجهد فيه قريحته، قوله يمدح السلطان المعظم أبا الحسن في ميلاد عام سبعة وأربعين وسبعماية:
تقر ملوك الأرض أنك مولاها ... وأن الدنا وقف عليك قضاياها
ومنها:
طلعت بأفق الأرض شمساً منيرة ... أنار على كل البلاد محياها
حكيت لنا للفاروق حتى كأننا ... بعين لا تكذب رؤياها
وسرت على آثاره خير سيرة ... قطعنا بأن الله ربك يرضاها
إذا ذكرت سير الملوك بمحفل ... ونادى بها النادي وحسن دنياها
فجودك رواها وملكك زانها ... وعدلك زاها وذكرك حلاها
ومنها بعد كثير:
ومنكم ذوو التيجان والهمم التي ... أناف على أعلى السماكين أدناها
إذا غاب منهم مالك قام مالك ... مجدد للبيت المقدس علياها
بناها على التقوى وأسس بيتها ... أبو يوسف الزاكي وسير مبناها
وأورثها عثمن خير خليفة ... وأحلم من ساس الأنام وأنداها
وقام علي بعده خير مالك ... وخير إمام في الورى راقب الله
علي بن عمر بن يعقوب ذو العلا ... مذيق الأعادي حيثما سار بلواها
أدام الله وأعطى الخلافة وقتها ... ونور أحلاك الخطوب وجلاها
ووصلني كتاب منه مؤرخ في التاسع عشر من شهر شعبان المكرم من عام أربعة وستين وسبعماية جدد عهدي من شعره بما نصه:
رحلنا فشرقنا وراحوا فغربوا ... ففاضت لروعات الفراق عيون
فيا أدمعي منهلة إثر بينهم ... كأن جفوني بالدمع عيون
فيا معهداً قد بنت عنه مكلفا ... بديلي منه أنة وحنين
سقتك غوادي المزن كرعشية ... ودادك محلول النطاق هتون
فإن تكن الأيام لم تقض بيننا ... بوصل فما يقضى فسوف يكون

يعز علينا أن نفارق ربعكم ... وأنا على أيدي الخطوب نهون
ولو بلغتني العير عنكم رسالة ... وساعد دهر باللقاء ضنيين
لكنا على ما تعلمون من الهوى ... ولاكن لأحداث الزمان فنون
الجزء الثالث

محمد بن أحمد العزفي

محمد بن يحيى بن عبد الله بن محمد بن أحمد العزفي من أهل سبتة، أبو القاسم بن أبي زكريا بن أبي طالب
حالهمن أهل الظرف والبراعة، والطبع المعين، والذكاء، ربيس سبتة، " وابن رؤساها " ، وانتقل إلى غرناطة عند خلعه، وانصرافه عن بلده. أقام بها. تحت رعيٍ حسن الروا، مالفاً للظرفاء، واشتهر بها أدبه، ونظر في الطب، ودون فيه، وبرع في بالتوشيح. ثم انتقل إلى العدوة، انتقال غبطة وأثرة، فاستعمل بها في " خطط نبيهة " ، وكتب عن ملوكها وهو الآن بالحالة الموصوفة.
وجرى ذكره في " الأكليل " بما نصه: فرع تأود من الرياسة في دوحة. وتردد بين غدوة في المجد وروحة، نشأ والرياسة العزفية، تعله وتنهله. والدهر يسير أمله الأقصى ويسهله. حتى اتسقت أسباب سعده، وانتهت إليه رياسة سلفه من بعده. فألقت إليه رحالها وحطت، ومتعته بقربها بعدما شطت. ثم كلح له الدهر بعد ما تبسم، وعاد زعزعاً نسيمه الذي كان يتنسم، وعاق هلاله عن تمه، ما كان من تغلب ابن عمه، واستقر بهذه البلاد، نائى الدار بحكم الأقدار، وإن كان نبيه المكان والمقدار، وجرت عليه جراية واسعة، ورعاية متتابعة، وله أدب كالروض باكرته الغمايم، والزهر تفتحت عنه الكمايم، رفع منه راية خافقة، وأقام له سوقاً نافقة. وعلى تدفق أنهاره، وكثرة نظمه واشتهاره، فلم أظفر منه إلا باليسير التافه بعد انصرافه.
شعرهقال:
أفديك ياريح الصبا ... عوجى على تلك الربا
واحد النامي سحرا ... ترسل غماماً صبا
على ربى غرناطة ... لكى تقضي ما ربا
ثم أبلغى يا ربح عن صب سلاماً طيباً
ومن منظومة أيضاً في بعض القضاة الفاسيين، وهو من البديع، وورى فيه ببابين من أبواب المدينة:
وليت بفاس أمور القضا ... فأحدثت فيه أموراً شنيعة
فتحت لنفسك باب الفتوح ... علقت للناس باب الشريعة
فبادر مولى الورى فارس ... بعزلك عنها قبيل الذريعة
وقال:
دع عنك قول عواذل ووشاة ... وأدر كؤوسك يا أخا اللذات
واخلع عذارك لاهياً في شربها ... واقطع زمانك بين هاك وهات
خذها إليك بكف ساقٍ أغيد ... لين المعاطف فاتر الحركات
قد قام من ألحاظه إنسانها ... مثبتا في فترة اللحظات
يسقيكها حمراء يسطع ذورها ... في بالكاس كالمصباح في المثكات
رقت وراقت في الزجاجة منظراً ... لما عدت تجلى على الرحات
ر تمزجنها في بالأبارق إنها ... تبدو محاسنها لدى الكاسات
عجباً لها كالشمس تعزب في ... فم لاكن مطالعها من الوجنات
نلنا بها ما نشتهيه من المنا ... في جنة تزهى على الجنات
رفت عليها كل طل سجسج ... من كل غض يانع الثمرات
ما بين خضر حدايق وخمايل ... وجداول تفضى إلى دوحات
سرى النسيم بها يصافح زهره ... فيهب وهو مورج النفحات
وشدا لنا فيها مغن شادن ... حاز المدا سبقاً إلى الغايات
طربت له القضب اللدن وبادرت ... رجعا له تختال في بالحبرات
مرت عليه ركعاً لا كنها ... جعلت تحيتها لدى الركعات
قصرت صلاة الخوف منه فقربت ... فربانها وحفته بالزهرات
والعود مثناه يطابق زيها ... في ردانات على رنات
إن جس مثلثه بأن بفنة ... في اليم من ثقيلة النغمات
فكان ما غنت عليه الورق من ... ألحانها ألقاه للقينات
عكفت على ألحانها تشأ ولنا ... خلف الستاير باختلاف لغات

فكأنها عجم تورات بالحجاب ... ووددت سوراً من التورات
نطقت بأفصح نغمه في شدوها ... تتلو علينا هذه الآيات
ومما أنشده ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم:
إذا لم أطلق نحو نجد وصولاً ... بعثت الفؤاد إليها رسولاً
وكم حل قلبي رهيناً بها ... غداة نوى الركب فيها النزولا
محل بها في الحلال إلى ضحى ... أصبح القوم فيها حلولا
وكم بت فيها غداة النوى ... أسح من العين دمعاً همولا
على شمس حسن سما ناظري ... إليها وعنى توارت أقولا
وقفت بوادي الغضا ساعة ... لعى أندب فيها الطلولا
وفي البان من أيكه ساجع ... يرجع بالقضب منها الهديلا
بعمق الهوى يا حمام الحمى ... ترفق بقلى المعنى قليلا
فقد هجت تالله أشواقه ... بذكرك إلفا ثاني أو خليلا
ألم تدر أن ادكارى الهوى ... يديب ويغنى الفؤاد العليلا
رعى الله تلك المطايا التي ... إلى الحج وخداً سرت أو ذميلا
ويا عجبا كيف خفت بهم ... وحملت القلب حملاً ثقيلاً
وود عنى الصبر إذ ودعوا ... فما أن وحدت إليه سبيلا
وآثرت يا ويح نفسي المقام ... وآثر أهل الوداد الرحيلا
وجادوا رجا الرضا بالنفوس ... وكنت بنفسي ضنيناً بخيلاً
ندمت على السير إذا فأتى ... ولازمت حزنى دهرا طويلا
وفاز المخفون إذا يمموا ... منازل آثارها لن تزولا
وحجوا وزاروا إلى الهدى ... محمداً الهاشمي الرسولا
وفازوا بإدراك ما أملوا ... ونالوا لديه الرضا والقبولا
ولو كنت في عزمهم مثلهم ... إذا لانصرفت إليه عجولا
ولا كنني أثقلتنى الذنوب ... وما كنت للثقل منها حمولاً
ركبت مطية جهل الصبا ... وكانت أو أن التضابى ذلولا
ومالت بي النفس نحو الهوى ... وقد وجدتني غراً جهولاً
فطربى لمن حل في طيبةً ... وعرس بالسفح منها الحمولا
ونال المنى في منى عندما ... نوى بالمنازل منها نزولا
وأصفى الضماير نحو الصفا ... يؤمل للوصل فيه الوصولا
وجاء إلى البيت مستبشراً ... ليطهر بالأمن فيه دخولا
وطاف ولبى بذاك الحما ... ونال من الحجر قصداً وسولا
بلاد بها حل خير الورى ... فطوبى لمن مال فيها الحلولا
نبى كريم سما رفعة وقدراً جليلاً ومجداً أصيلا
وكان لأمته رحمة بفض الشفاعة فيهم كفيلا
وكان رؤوفاً رحيماً لهم ... عطوفاً شفيعاً عليهم وصولاً
له يفزعون إذا ما رأوا ... لدى الحشر خسفاً وأمراً مهولا
وإن جاء في ذنبهم شافعاً ... بدى الرحب من ربه والقبولا
له معجزات إذا عددت تفوت النهى وتكل العقولا
ولن يبلغ القول معشارها ... وإن كان الوصف فيها مطيلا
وقس البيان وسحبانه يرى ... ذهنه في مداها كليلا
تخبره الله في خلقه فكان الخطير لديه المثيلا
ولم ير في الناس نداله ول ... ا في الخلايق منه بديلا
وأبقى له الحكم في أرضه ... فكان الأمين عليها الوكيلا
وكل ظلام وطلم بها على الفور لما أتى قد أزيلا
وكانت كنار لظى فتنة فعادت من المن ظلاً ظليلاً
وقد زان حسن الدجا جيله ... إذا ذكر الدهر جيلاً فجيلاً
وأيامه غررر قد بدت بوجه ... الدنا والليالي حجولاً
رسول كريم إذا جيته ... ويممت مغناه تلقى القولا
بمولده في زمان الربيع ... ربيع أنانا يجر الذيولا

فأهلا به الآن من زاير ... أنانا بفضل يفوق الفضولا
وقام الإمام به المرتضى ... فنال ثواباً وأجراً جزيلا
هو السمتعين أبو سالم مليك ... ترفع قدراً جليلاً
وحاز من الصيت ذكراً أثيراً ... ومن كرم الخيم مجداً أثيلا
سليل على غمام الندى ... ألا أيد الله ذالك السليلا
فتى أوسع الناس من جوده ... عطاً جزيلاً وبراً حفيلاً
حلاه الوقار ولاقيه إذا ... ارتاح للجود يلفى عجولاً
وقد شاع عنه جميل الثنا ... وعم البسيطة عرضاً وطولا
وما من بالوعد إلا وفى ... فلم يك بالوعد يوماً مطولا
ولا في علاه مغالٍ لمن ... يكثر في الملك قالاً وقيلا
تفرد بالفضل في عصره ... وكان بعرف الأيادي كفيلا
أطاعت له حين وافى البلاد ... رضى عندما حل فيها حلولا
وجا لطاعته أهلها سراعاً ... يرومون فيها الدخولا
فيه قدر الموإلى بها ... وأكسف فيها المعادى خمولاً
ومهد بالأمن أفكارها وأمن بالعدل فيها السبيلا
وكف أكف التعدي بها ... فلا يظلم الناس فيها فتيلا
وعصر الكروب الذي قد مضى ... زمان المسرات منه أديلا
أنانا إلى الغرب في شوكةٍ ... بها عاد جمع الأعادي قليلاً
وفوق رؤوس الطغاة انتضى ... حساماً ليسمع فيها صليلاً
وجرد من عزمه مرهفاً ... لحسم أمور المناوى صقيلا
وكل كفور معادلة ... سيأخذه الله أخذاً وبيلا
أعز الخلايق لما ولى ... ونوه من كان منهم ذليلا
وراعى لمن جاءه داخلاً حماه من القاصدين الدخيلا
فكان بأفعاله قصده إلى ... منهج الفضل قصداً جميلا
وصح انتعاش المعالي به ... وقد كان شخص المالي عليلاً
وشيد مبنى العلا بالندى ... ووثقه خشية أن يميلا
ينيل ويعطى جزيل العطا ... فما زال أخرى الليالي منيلا
ودام مدى الدهر في رفعة ... تثير من الحاسدين الغليلا
ولا برح السعد في بابه ... يوم به مربعاً أو مقيلا
محمد المكودىمن أهل فاس يكنى أبا عبد الله
حالهمن " الإكليل " : شاعر لا يتعاطى ميدانه، مرعى بيان ورف عضله، وأينع سعدانه، يدعو الكلام فيهطع لداعيه، ويسعى في اجتلاب المعاني فتنجح مساعيه. غير أنه أفرط في الانهماك، وهوى إلى السمكة من أوج السماك. وقدم على هذه البلاد مفلتاً من رهق تلمسان حين الحصار، صفر اليمين، واليسار من اليسار، ملئ هوى أنحى على طريفه وتلاده، وأخرجه من بلاده. ولما " جدبه " البين، وحل هذه البلاد " بحال تقبحها العين " والسيف بهزته، لا بحسن بزتة، دعوته إلى مجلس، أعاره البدر هالته، وخلع عليه الأصيل غلا لته، وروض تفتح كمامه، وهما عليه غمامه، وكاس أنس تدور، فتتلقى نجومها البدور. فلما ذهبت المؤانسة بخجله، وتذكر هواه، ويوم نواه، حتى خفنا حلول أجله، جذبنا للمؤانسة زمامه، واستقينا منها غمامه، فأمتع وأحسب، ونظر ونسب، وتلكم في المسائل، وحضر بطرف الأبيات، وعيون الرسايل، حتى نشر الصباح رايته، واطلع النهار آيته.
ومما أنشدنا ونسب لنفسه:
غرامي فيك جل عن القياس ... وقد أسقيتنيه بكل كاس
ولا أنسى هواك ولو جفاني ... عليك أقاربي طرا وناس
ولا أدرى لنفسي من كمال سوى ... أنى لعهدك غير ناس
وقال في غرض معروف:
بعثت بخمرٍ فيه ماء وإنما ... بعثت بما فيه رايحة الخمر
فقل عليه الشكر إذا قل سكرنا ... فنحن بلا سكر وأنت بلا شكر
ومما خاطبني به:
رحماك بي فلقد خلدت في خلدي ... هوى أكابد منه حرة الكبد
حللت عقد سلوى في فؤادي ... إذ حللت منه محل الروح في جسد

مرآك بدري وذكراك التذاذ فمي ... ودين حبك أضماري ومعتقدي
ومن جمالك نور لاح في بصري ... ومن ودادك روح حل في خلدي
لا تحسبن فؤادي عنك مصطبر ... فقبل حبك كان الصبر طوع يدي
وهاك جسمي قد أودى النحول به ... فلو طلبت وجوداً منه لم تجد
بما بطرفك من غنج ومن حور ... وما بثغرك من در ومن برد
فقال لي قد جعلت القلب لي وطناً ... وقد قضيت على الأجفان بالسهد
وكيف تطلب عدلاً والهوى حكم ... وحكمه قط لم يعدل على أحد
من لي بأغيد لا يرثى إلى شجن ... وليس يعرف ما يلقاه ذو كمد
ما كانت من قبل إذ عانى لصولته ... أخال أن الرشا يسطو على الأسد
إن جاد بالوعد لم تصدق مواعده ... فإن قنعت بزور الوعد لم يعد
شكوته علتي منه فقال الأمر للطبيب فما برء الضنا بيدي
فقلت إن شئت برني أو شفا ألمى ... فبار تشاف لماك الكوثري جد
وإن بخذت فلى مولى يجود على ... ضعفى ويبرى ما أضنيت من جد
وخرج إلى المدح فأطال
المقرئون والعلماء

محمد بن أحمد بن جزي الكلبي

محمد بن أحمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف بن جزي الكلبي يكنى أبا القاسم من أهل غرناطة وذوي الأصالة والنباهة فيها، شيخنا رحمة الله عليه
أوليتهأصل سلفه من ولمة من حصون البراجلة، نزل بها أولهم عند الفتح صحبة قريبهم أبى الخطار حسام بن ضرار الكلبي، وعند خلع دعوة المرابطين، وكانت لجدهم بجيان رياسة وانفراد بالتدبير.
حالهكان رحمه الله، على طريقة مثلى من العكوف على العلم. والاقتصاد على الاقتيات من حر النشب، والاشتغال بالنظر، والتقييد والتدوين فقيها حافظاً، قايماً على التدريس، مشاركاً في فنون " من " العربية، والفقه، والأصول، والقراءات، والحديث، والأدب، حفظه للتفسير مستوعباً للأقوال، جماعة للكتب، ملوكى الخزانة. حسن المجلس، ممتع المحاضرة، قريب الغور، صحيح الباطن. تقدم خطيباً بالمسجد الأعظم من بلده على حداثة سنة، فاتفق على فضله، وجرى على سننن أصالته.
مشيختهقرأ على الإستاذ أبى جعفر بن الزبير، وأخذ عنه العربية والفقه والحديث والقرآن. وروى أبي الحسن بن مستقور. وقرأ القرآن على الأستاذ المقرى الراوية المكثر أبي عبد الله بن الكماد، ولازم الخطيب أبا عبد الله بن رشيد، وسمع على الشيخ الوزير أبى محمد عبد الله بن أحمد أبن المؤذن، وعلى الراوية المسن أبى الوليد الحضرمي. يروي عن سهل بن مالك وطبقته. وروى عن الشيخ الراوية أبى زكريا البرشاني، وعن الراوية الخطيب أبى عبد الله محمد بن محمد بن علي الأنصاري، والقاضي أبى المجد بن أبى على بن أبى الأحوض، والقاضي أبى عبد الله بن برطال، والشيخ الوزير ابن أبى عامر بن ربيع، والخطيب الولى أبى عبد الله الطنجالي، والأستاذ النظار المتفنن أبى القاسم قاسم بن عبد الله بن الشاط. وألف الكثير في فنون شتى.
تواليفهمنها كتاب " وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم " وكتاب " الأنوار السنية في الكلمات السنية " وكتاب " الدعوات والأذكار المخرجة من صحيح الأخبار " وكتاب " القوانين الفقهية في تلخيص مذهب المالكية " " والتنبيه على مذهب الشافعية والحنفية والحنبلية " وكتاب " تقريب الوصول إلى لعم الأصول " وكتاب " النور المبين في قواعد عقايد الدين " وكتاب " المختصر البارع في قراءة نافع " وكتاب " أصول القراء الستة غير نافع " وكتاب " الفوايد العامة في لحن العامة " ، إلى غير ذلك مما قيده في التفسير والقراءات وغير ذلك. وله فهرسة كبيرة. اشتملت على جملة من أهل المشرق والمغرب.
شعرهقال في الأبيات الغينية ذاهباً مذهب الجماعة كأبي العلاء المعري. والرييس أبي المظفر، وأبي الطاهر السلفى، وأبي بالحجاج بن الشيخ، وأبي الربيع بن سالم، وأبي علي بن أبي الأحوص، وغيرهم، كلهم نظم في ذلك:
لكل بني الدنيا مراد ومقصد ... وإن مرادي صحة وفراغ
لأبلغ في علم الشريعة مبلغاً ... يكون به لي للجنان بلاغ

وفي مثل هذا فلينافس أولو النهى ... وحسبي من الدنيا الغرور بلاغ
فما الفوز إلا في نعيم مؤيد ... به العيش رغد والشراب يساع
وقال في الجناب النبوى:
أروم امتداح المصطفى وبردنى ... فصورى عن إدراك تلك المناقب
ومن لي بحصر البحر والبحر زاخر ... ومن لي بإحصا الحصا والكواكب
ولم أن إعضائى غدت ألسنا إذا ... لم بلغت في المدح بعض مآرب
ولو أن كل العالمين تألفوا على ... مدحه لم يبلغوا بعض واجب
فأمسكت عنه هيبة وتأدباً ... وخوفاً وإعظاماً لأرفع جانب
ورب سكوت كان فيه بلاغه ... ورب كلام فيه عتب لعاتب
وقال رحمه الله مثفقاً من ذنبه:
يا رب إن ذنوبي اليوم قد كثرت ... فما أطيق لها حصراً ولا عدداً
وليس لي بعذاب النار من قبل ... ولا أطيق لها صبراً ولا جلداً
فانظر إلهي إلى ضعفى ومسكنتي ... لا تذيقني حر الجحيم غدا
وقال في مذهب الفخر:
وكم من صفحة كالشمس تبدو ... قيسلى حسن قلب الحزين
غضضت الطرف عن نظرى إليها ... محافظة على عرضى وديني
وفاتهفقد وهو يشخد الناس ويحرضهم، ويثبت بصايرهم، يوم الكاينة بطريف، ضحويوم الإثنين السابع لجمادى االإلى عام أحد وأربعين وسبعماية، تقبل الله شهادته. عقبه ظاهر بين القضاء والكتابة.
ابن شقرال اللخمىمحمد بن أحمد بن فتوح بن شقرال اللخمى شرقي الأصل من سكان غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالطرسونى
حالهنقلت من خط شيخنا أبي البركات بن الحاج، أمتع الله به كنى نفسه أبا عبد الرحمن، ودعى بها وقتاً، وكوتب بها. وكان له ابن سماه عبد الرحيم، فقلنا له سمه عبد الرحمن، ليعضد لك الكنية التي اخترت، فأبى. كان هذا الرجل قيماً على النحو والقراءات واللغة، مجيداً في ذلك، محكماً لما يأخذ فيه منه، وكانت لديه مشاركة في الأصلين والمنطق، طمح إليهما بفض نباهته وذكايه، وشعوره بمراتب العلوم، دون شيخ أرشده إلى ذلك. يجمع إلى ماذكر خطا بارعاً، وظرفاً وفكاهة، وسخا نفس، وجميل مشاركة لأصحابه. بأقصى مايستطيع. وكان صناع اليدين يرسم بالذهب، ويسفر ويحكم عمل التراكيب الطيبة. وعلى الجملة فالرجل من أجل نبلاء عصره، الذين قل أمثالهم.
مشيختهأخذ القراءات عن الشيخ الأستاذ " أبي الحسن " ابن أبي بالعيش، وبه تفقه ببلده المراية. وقرأ على الأستاذ أبي بجعفر بن الزبير، والخطيب أبي جعفر بن الزيات، والراوية أبي بالحسن بن مستقور، والولى أبي عبد الله الطمجالي، وصهره الخطيب أبي تمام غالب بن حسن بن سيدبونه، والخطيب أبي الحسن القيجاطي، والخطيب المحدث أبي عبد الله بن رشيد وغيرهم.
شعرهمن شعره قوله:
إذا قذفت بي حيثما شاءت النوى ... ففي كل شعب لي إليك طريق
وإن أنا لم أبصر محياك باسماً ... فإنسان عيني في الدموع غريق
فإن لم تصل كفى بكفك وافياً ... " فأسمال أحبابى لدى فتوق "
محنتهأحظاه وزير الدولة أبو عبد الله ابن المحروق، واختصه، ورتب له بالحمراء جراية، وقلد نظره خزانة الكتب السلطانية. ثم فسد ما بينهما، فاتهمه ببراءات كانت تطرح بمذامه بمسجد البيازين، وترصد ما فيها، فزعم أنه هو الذي طرحها بمحراب المسجد، فقبض عليه واعتقل ثم جلاه إلى إفريقية.
وفاتهولما بلغته بإفريقية وفاة مخيفة، كر راجعاً إلى الأندلس، فتوفي في طريقه ببونه، من بلاد العناب أو بأحوازها في أواخر عام ثلاثين، أو أقرب من الأواخر وسبعماية.
محمد بن جابر بن يحيى بن محمد بن ذي النون التغلبي ويعرف بابن الرمالية، من أهل غرناطة، ويعرف خلفه الآن، ببني مرزبة، ولهم أصالة وقدم وجدة.
حالهفقيه، نبيه، نبيل، ذكي، عنده معرفة بالفقه والأدب والعربية، حسن المشاركة والمحاضرة، حاضر الذهن، ذاكر لما قرأه.
مشيخته

روى عن الإمام أبي بكر بن العربي. قال أبو القاسم الملاحي، وحدثني سنة أربع وسماية، قال حدثني الإمام أبو بكر بن العربي رضي الله عنه، قال حدثني محمد بن عبد الملك السبتي، قال خرجت مع أبي الفضل الجزيري مشيعين لقافلة الحاج من بغداد، ومودعين لها من الغد، وحين أصبحنا أثيرت الجمال، وفرض الناس الرحال، ونحن بموضع يعرف بجب عميرة، إذا بفتى شاحب اللون، حسن الوجه، يشيع الرواحل، راحلة بعد أخرى، فنيت، ومشى الحاج، وهو يقول في أثناء تردده ونظره أليها:
أحجاج بيت الله في أي هودج ... وفي أي بيت من بيوتكم حبى
أأبقى رهين القلب في أرض غربة ... وحاديكم يحدو فؤادي مع الركب
قول أسفاً لم أقض منكم لبانتي ... ولم أتمتع بالسلام وبالقرب
وفرق بيني بالرحيل وبينكم ... فها أنذا أقضي على إثركم نحبي
يقولون هذا آخر العهد منكم ... فقلت وهذا آخر العهد من قلب
قال، فلما كمل الحج المشى. وانقطع رجاؤه، وجعل يخطو هايماً، وهو ينشد، ثم رمى بنفسه إلى الأرض وقال:
خل دمع العين ينهمل ... بأن من تهواه وارتحل
أي دمع صاله كلف ... فهو يوم البين ينهمل
قال، ثم مال على الأرض، قبادرنا إليه فوجدناه ميتاً، فحفرنا له لحداً، وغسلناه كفناه في رداء وصلينا عليه. ودفناه.
وفاة المترجم به سنة خمسين وستماية
محمد بن محمد بن يبش العبدريمن أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن بيبش
حالهكان خيراً، منقبضاً، عفا، متصاوناً، مشتغلاً بما يعنيه. مضطلعاً بالعربية، عاكفا عمره على تحقيق اللغة، مشاركاً في الطب. متعيشاً من التجارة في الكتب. أثرى منها، وحسنت حاله. وانتقل إلى سكنى سبتة، إلى أن حططت بها رسولاً في عام اثنتين وخمسين وسبعماية. فستدعيته ونقلته إلى بلده، فقعد للاقراء به إلى أن توفي.
وجرى ذكره في بعض الموضوعات الأدبية بما نصه: معلم مدرب، مسهل مقرب، له في صنعة العربية باع مديد، وفي هدفها سهم سديد، ومشاركة في الأدب، لايفارقها تسديد، خاصى المنازع، مختصرها، مرتب الأحوال، مقررها، تميز لأول وقته بالتجارة في الكتب، فسلطت عليها منه أرضة آكلة، وسهم أصاب من رميتها شاكلة، أترب بسببها وأثرى، وأغنى جهة، وأفقر أخرى، وانتقل لهذا العهد الأخير إلى سكنى غرناطة مسقط رأسه، ومنبت غرسه، وجرت عليه جراية من أحباسها، ووقع عليه قبول من ناسها، وبها تلاحق به الحمام، فكان من ترابها البداية وإليه التمام. وله شعر لم يقصر فيه عن المدا، وأدب توشح بالإجادة وارتدى.
مشيختهقرأ على شيخ الجماعة ببلده أبي جعفر بن الزبير، وعلى الخطيب أبي عبد الله بن رشيد، والوزير أبي محمد بن المؤذن المرادي، والأستاذ عبد الله بن الكماد، وسمع على الوزير المسن أبي محمد عبد المنعم بن سماك. وقرأ بسبتة على الأستاذ أبي إسحاق الغافق.
شعرهأنشدني بدار الصناعة السلطانية من سبتة تاسع جمادى الأولى من عام اثنين وخمسين المذكور، عند توجهي في غرض الرسالة إلى السلطان ملك المغرب، قوله يجيب عن الأبيات المشهورة، التي أكثر فيها الناس وهي:
يا ساكنا قلبي المعنى ... وليس فيه سواك ثان
لأي معنى كسرت قلبي ... وما ألتقى فيه ساكنان
تحلتني طايعاً فؤاداً ... فصار إذ حزته مكان
لاغرو إذا كان لي مضافاً ... اني على الكسر فيه بان
وقال يخاطب أبا العباس عميد سبتة، أعزه الله، وهي مما أنشدنيه في التاريخ المذكور، وقد أهدى إليه أقلاماً:
أنا ملك الغر التي سيب جودها ... يفيض كفيض المزن بالصيب القطر
أتتنى منها تحفة مثل عدها إذا ... انتضيت كانتكمرهفة السمر
هي الصفر لاكن تعلم البيض انها ... محكمة فيها على النفع والضر
مهذبة الأوصال ممشوقة كما ... تصاع سهام الرمى من خالص التبر
فقبلتها عشراً ومثلث أنى ... ظفرت بلثم في أناملك العشر
وأنشدني في التاريخ المذكور في ترتيب حروف الصحاح قوله:
أساجعة بالواديين تبوئى ... ثماراً جنتها حاليات خواضب

دعى ذكر روض زاره سقى شربه ... صباح ضحى " طير طما " عصايب
غرام فؤادي قاذف كل ليلة ... متى مانأى وهنا هواه يراقب
ومن مطولاته ما رفعه على يدي السلطان وهو قوله:
ديار خطها مجد قديم ... وشاد بناءها شرف صميم
وحل جنابها الأعلى علاً ... يقصر عنه رضوى أو شميم
سقى نجداً بها وهضاب نجد ... عماد ثرة وحياً تميم
ولا عدمت رباه رباب مزن ... يغادى روضهن ويستديم
فيصبح زهرها يحكى شذاه ... فتيت المسك يذكيه النسيم
وتنشره الصبا فتريك دراً ... نشيراً خانه عقد نظيم
وظلت في طلال الأيك تشدو ... مطرقة لها صوت رخيم
ترجع في الغصون فنون شجع ... بألحان لها يصبو الحليم
أهم بملتقى السوادى تجد ... وليس سواه في واد أهيم
وكنت صرفت عنه النفس كرها ... وما برحت على نجد تحوم
له بيت سما فوق الثريا ... وعز لايخيمولايريم
تبوأ من بني نصر علاها ... وأنصار للنبي له أروم
أفاض على الوررى نيلاً وعدلاً ... سواء فيه مثرٍ أوعديم
ملاذ للملوك إذا ألمت ... صروف الدهر أو خطب جسيم
تؤمله فتامن في ذراه ... وتدنو من علاه فيستقيم
ويبدو في ندى الملك بدراً ... تحف به الملوك وهم نجوم
يوجه يوسفى الحسن طلق ... يضى بنوره الليل البهيم
وتلقاه للعافة له ابتسام ... ومنه للعدى أخذ للييم
فيا شرف الملوك لك انقطاعي ... وإني في محلكم خديم
وآمالي أملت لمليك حتى ... وردن على نداك وهن هيم
فللظماورودك خير ورد ... نمير ماؤه عذب جيم
ولا أضحى وفي معناك ظل ... ظليل حين تحندم السموم
ركبت البحر نحوك والمطايا ... تسير لها ذميل أو رسيم
وإن علاك إن عطفت بلحظ ... على فذلك العز المقيم
فوا أسفى على عمر تقضي ... بدارٍ ليس لي فيه حميم
سوى ثمر للفؤاد ذهبت عنه ... وبين جوانحي منه كلوم
ودون لقابها عرض الفيافي ... ونجد موجه طود عظيم
لعل الله ينعم باجتماع ... وينظم شلنا اليسر الرحيم
بقيت بغبطة وقرارعن ... يملك سعده أبداًيدوم
كما دامت حلى الأنصار تتلى ... يشيد بذكرها الذكر الحكيم
عليك تحية عطر شذاها ... تعرف الروض جادته الغيوم
مولده بغرناطة في رجب ثمانين وستماية. وتوفي عام ثلاثة وخمسين وسبعماية، ودفن بباب البيرة، وتبعه من الناس ثناء حسن، رحمه الله.
محمد بن محمد النمري الضريرمن أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بنسبه
حالهمن عايد الصلة: كان حافظاً للقرآن، طيب النغمة به، طرفاً في ذلك من أهل المشاركة في العلم، واعظاً بليغاً، أستإذا يقوم على العربية قيام تحقيق، ويستحضر الشواهد من كتاب الله، وخطب العرب وأشعارها، بعيد العرين في ذلك، آخذاً في الأدب، حفظة للأناشيد والمطولات، بقية حسنة ممتعة.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبى عبد الله بن الفخار الأركثى وبه تأدب، ولازمه كثيراً، فانتفع به.
شعرهمما صدر به رسالة لزوجه وهو نازح عنها ببعض البلاد. فقال:
سلام كرشف الطل في مييم الورد ... وسيل نسيم الريح بالقضب الملد
سلام كما ارتاح المشوق مبشراً ... برويا من يهواه من دون مما وعد
سلام كما يرضى المحب حبيبه من ... الجد في الإخلاص والصدق في الوعد
سلام وتكريم وبر ورحمة ... بقدر مزيد الشوق أو منتهى الود
على ظبية في الأنس مرتعها الحشا ... فتدوى إليه لا لشيح ولا ررند

ومن أطلع البدر التمام جبينهايرى ... تحت ليلٍ من دجا الشعر مسود
وثغر أقاحٍزانه سمط لؤلؤ ... يجب به المررجان في أحكم النضد
يجول به سلسال راحٍ معتق ... حمته ظبا الألحاظ صوناً عن الورد
فلله عينا من رأى بدر أسعد ... وروضة أزهار علت غصن القد
وبشرى لصب فاز منها بلمحة ... من القرب بشراه بمستكمل السعد
وأضحى هواها كامناً بين أضلعي ... كمزن خفي النار في باطن الزند
وراحت فراح الروح إثر رحلها ... وودعت صبرى حين ودعها كبد
وصارت لي الأيام تبدو ليالياً ... وقد كان ليل الوصل صبحاً بها يبد
فساعاتها كالدهر طولاً وطالما ... حكى الدهر ساعات بها قصراً عندي
ومنها:
ترى قلبها هل هام مني بمثل ما ... بقلبي من الحب الملازم والوجد
وهل ترعى ذمتي ومودتي كما ... أنا أرعاها على القرب والبعد
إليك خطابي والحديث لغايب ... كنيت بلفظي عن مغيبك بالعمد
عليك سلامي إني متشوق ... للقياك لي أو من جوابك بالرد
توفي ببغرناطة تحت جراية من أمرايها، لاختصاصه بقراءة القرآن على قبورهم، في التاسع عشر من شعبان عام ستة وثلاثين وسبعماية.
محمد بن عبد الولى الرعينيمن أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالعواد
حالهمن " عايد الصلة " : الشيخ المكتب، والأستاذ الصالح، سابق الميدان وعلم أعلام القرآن، في إتقان تجويده، والمعرفة بطرق روايته، والاضطلاع بفنونه، لايشق غباره، ولايتعاطى طلقه، ولا تأتي الأيام بمثله. تستقصر بين يديه مدارك الأعلام، وتظهر سقطات الأيمة. مهتدياً إلى مكان الحجج على المسايل. مصروف عنان الأشغال إليه، مستنداً إلى نغمةٍ رخيمة، وإتقان غير متكلف، وحفظ غزير، وطلب إلى التصدر للإفراد، فأبى لشدة انقباضه. فنبهت بالباب السلطاني على وجوب نصيه للناس، فكان " ذلك " في شهر شعبان من عام وفاته، فانتفع به. وكان أدأب الناس على سنة، والزمهم لميقات ورد. يجعل جيرانه حركته إلى ذلك ليلاً. ميقاتاً لايختلف ولا يكذب، في ترحيل الليل. " شديد الطرب " مليح الترتيب، لاتمر به ساعة ضياعاً، إلا وقد عمرها بشأن ديني، أو ديناوي، ضروى مما يسوغه الورع، يلازم المكتب، ناصح التعليم، مسوياً بين أبناء النعم، وحلفاء الحاجة، شامخ الأنف على أهل الدنيا، تغص السكك عند ترنمه بالقرآن، مساوقاً لتلاوة التجويد، ومباشراً أيام الأخمسة والأثانين، العمل في مويل كان له، على طريقة القدماء من الإخشيشان عند المهن ونقل آلة الخدمة، غير مفارق للظرف والخصوصية. ويقرأ أيام الجمعات، كتب الوعظ والرقايق على أهله، فيصغى إليه الجيران، عداة لاتختلف. وكان له لكل عمل ثوب، ولكل مهنة زي، ما رأيت أحسن ترتيباً منه. وهو أستاذي وجاري الألصق، لم أتعلم الكتاب العزيز إلا في مكتبه. رحمة الله عليه.
مشيختهقرأ على بقية المقريين الأستاذ أبى جعر بن الزبير، ولازمه وانتفع به، وعلى الأستاذ أبى جعفر الجزيري الضري، وأخذ عن الخطيب المحدث أبى عبد الله بن رشيد.
مولده: في حدود عام ثمانين وستماية.
وفاته. توفي رحمة لله عليه في الموفى ثلاثين لذي قعدة من عام خمسين وسبعماية.
محمد بن علي بن أحمد الخولانيبكنى أبا عبد الله أصله من مجلقر ويعرف بابن الفخار وبالبيرى، شيخنا رحمه الله
حاله

من " عايد الصلة " : أستاذ الجماعة، وعلم الصناعة، وسيبويه العصر، وآخر الطبقة من أهل هذا الفن، كان رحمه الله فاضلاً، تقياً منقبضاً. عاكفاً على العلم، ملازماً للتدريس، إمام الأيمة من غير مدافع، مبرزاً أمام أعلام البصريين من النحاة، منتشر الذكر، بعيد الصيت عظيم الشهرة، مستجر الحفظ، يتفجر بالعربية تفجر البحر، ويسترسل استرسال القطر، قد الطت دمه ولحمه، لايشكل عليه منها مشكل، ولا يعوزه توجيه، ولاتشذ عنه حجة. جدد بالأندلس ما كان قد درس من لسان العرب، من لدن وفاة أبي على الشلوبين، مقيم السوق على عهده. وكانت له مشاركة في غير صناعة العربية من قراءات وفقه، وعروض، وتفسير. وتقدم خطيباً بالجامع الأعظم، وقعد للتدريس بالمدرسة النصرية، وقل في الأندلس من لم يأخذ عنه من لطلبة. واستعمل في السفارة إلى العدوة، مع مثله من الفقهاء فكانت له حيث حل الشهرة وعليه الازدحام والغاشبة، وخرج، ودرب، وأقرأ، وأجاز، لايأخذ على ذلك " أجراً " وخصوصاً فيما " دون " البداية، إلا الجراية المعروفة، مقتصداً في أحواله، وقوراً، مفرط الطول، نحيفاً، سريع الخطو، قليل الالتفات والتعريج، متوسط الزي، متبذلاً في معالجة مايتملكه بخارج البلد، قليل الدهاء والتصنع، غريب النزعة، جامعاً بين الحرص والقناعة.
مشيختهقرأ بسبتة على الشيخ الإمام أبي إسحق الغافقى، ولامه كثيراً، وأخذ عنه، وأكثر عليه. وقرأ على الإمام الصالح أبي عبد الله بن حريث، والمقرررى الشريف الفاضل أبي العباس الحسنى، والشيخ الأستاذ النظار أبي القاسم بن الشاط. وأخذ عن الخطيب المحدث أبي عبد الله بن رشيد. والقاضي أبي عبد الله بن القرطبي وغيرهم. وهو أستاذي، قرأت عليه القرآن، وكتابي الجمل والإيضاح، وحضرت عليه دولاً من الكتاب، ولازمته مدة، وعاشرته، وتوجه صحبتي في الرسالة إلى المغرب.
توفي بغرناطة ليلة الإثنين الثاني عشر من رجب عام أربعة وخمسين وسبعماية، وكانت جنازته حالفة. وخمدت قرايح الآخذين عنه، ممن يدلى دلو أدب. فيأتي بماء أو حماة، على كثرتهم، تقصيراً عن الحق، وقدحاً في نسب الوفاء، إلا ما كان من بعض من تأخر أخذه عنه. وهو محمد بن عبد الله اللوشي، فإنه قال: وعين هذه الأبيات قراها:
ويوم نعى الناعي شهاب المحامد ... تغيرت الدنيا لمصرع واحد
فلا عذر للعينين إن لم تسايحا ... بدمع يحكاكي الوبل يشفى لواحد
مضى من بني الفخار أفضل ماجد ... جميل المساعي للعلا جد شاهد
طواه الردى ماكل حي يهابه ... وما ورده عاراً بشين لوارد
لقد غيبت منه المكارم في بالثرى ... غداة نوى وانسد باب الفوايد
فياحاملي أعواده ما علمتم بسؤدده الجم الكريم المحاند
وياحفرة خطت له اليوم مضجعاً ... سقتك الغوادي الصادقات الرواعد
إلا ياحمام الأيك ساعدني بالبكا ... على لم الدنيا وزين المشاهد
على أني لو استطعت الفدا فديته ... بأنفس آل من طريف وتالد
محمد ماللنعمى لموتك غضة ... توقف ولا ماء الحياة ببارد
وكيف وباب العلم بعدك مغلق ... ومورده المتروك بين الموارد
أأستاذنا كنت الرجا لآمل ... فأصبحت مهجور الفنا لقاصد
فلا تبعدن شيخ المعارف والحجا ... ليس الذي تحت التراب بباعد
لتبك العلوم بعدك شجوها ... وبقفر لها ربع العلا والمعاهد
ليبك عليك الجود والدين والتقا ... وحسب البكا أن صرت ملحود لاحد
أولاي من للمشكلات يبينها ... فيجلى عمى كل القلوب الشواهد
ومن ذا يحل المقفلات صعابها ... ومن ذا الذي يهدي السبيل لحايد
فياراحلا عنا فزعنا لفقده ... لقد أونست منك القبور بوافد
وبالكوكبا غال النهار ضياءه ... وشيكاً وهل هذا الزمان بخالد
سأبكيك ما لاحت بروق لشايم ... وأرعاك ما كان الغمام بعابد
عليك سلام الله ما دامت الصبا ... يغصنٍ في الأراكة مايد

" قلت: العجب من الشيخ ابن الخطيب. كيف قال، وخمدت قرايح الآخذين عنه، وهو من أجل من أخذ عنه، حسبما قرره آنفاً، بل أخص من ذلك، المعاشرة والسفارة للعدوة. وهو مع ذلك أقدرهم على هذا الشأن، وأسخاهم قريحة في هذا الميدان، وإن أتى غيره بماء أوحمأة، أتى هو بالبحر الذي لاساحل له. ولعمري لو قام هو بما يجب من ذلك، لزال القدح في نسب وفاء الغيرر، فعين مانسبه من التقصير عن الحق في ذلك، متوجه عليه، ولاحق له، ولايبعد عنده أن يكون وقع بينهما ما أوجب إعراضه مما يقع في الأزمان، ولاسيما بين أهل هذا الشأن، فيكون ذلك سبباً في إعراض الغير مشياً في غرضه، ومساعدة له. والله أعلم بحقيقة ذلك كله "
محمد بن محمد البلنسىمن أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله
حالهطالب هش، حسن اللقاء عفيف النشأة، مكب على العلم، حريص على استفادته، مع زمانةٍ أصابت يمنى يديه، نفعه الله. قيد بأختها وانتسخ، قايم على العربية والبيان، ذاكر الكثير من المسائل، حافظ متقن، على نزعه عربية، من التجاذع في المثى، وقلة الالتفات إلا بجملة، وجهورية الصوت، متحل بسذاجة، حسن الإلقاء والتقرير، مت للمتغلب على الدولة بضن، أفاده جاها واستعمالاً في خطة السوق، ثم اصطناعاً في الرسالة إلى ملك المغرب، جر عليه آخر النكبة، وقاد المحنة، فأرصد له السلطان أبو عبد الله في أخرياتها، رجالاً بعثهم من رندة، فأسروه في طريقه، وقدموا به سليباً، قدوم الشهرة والمثلة، موقناً بالفتل. ثم عطف عليه حنيناً إلى حسن تلاوته في محبسه ليلاً، فانتاشه لذلك من هفوة بعيدة ونكبة مبيرة. ولما عاد لمكله، أعاده للإقراء.
مشيختهجل انتفاعه بشيخ الجماعة أبي عبد الله الفخار، لازمه وانتفع به، وأعاد دول تدريسه، وقرأ على غيره. وألف كتاباً في تفسير القرآن، متعدد الأسفار، واستدرك على السهيلي في أعلام القرآن كتاباً نبيلاً، رفعه على يدي للسلطان. وهو من فضلاء جنسه، أعانه الله وسدده.
ابن عبد الرحمن بن بقىمحمد بن سعد بن محمد بن لب بن حسن ابن حسن بن عبد الرحمن بن بقى، يكنى أبا عبد الله، ويعرف باسم جده
أوليتهكان القاضي العدل أبو عبد الله بن هشام، قاضي الجماعة بالأندلس يجل سلفه، وبنسبة إلى بقي بن مخلد، قاضي بالخلافة بقرطبة. وابن هشام ممن يحتج به.
حالههذا الرجل فاضل، حسن الخلق، جميل العشرة، كريم الصحبة، مبذول المشاركة، معروف الذكاء والعفة، مبسوط الكنف، مع الانقباض، فكه مع الحشمة، تسع الطوائف أكناف خلفه، ويعم المتضادين رحب ذرعه. طالب محصل. حصيف العقل، حسن المشاركة في فنون، من فقه وقراءات ونحو وغير ذلك. تلكم للناس بجامع الربض ثم بمسجد البكلاي المجاور للزاوية والتربة اللتين أقمتهما بأخشارش من داخل الحضرة، وحلق به لتعليم العلم، فأنثال عليه المتعلم والمستفيد والسامع، لاجادة بيانه، وحسن تفهيمه.
مشيختهقرأ القرآن بجرف نافع، على أبيه، وعلى الشيخ الخطيب المكتب أبي عبد الله بن عامور. وقرأ العربية على إمام الجماعة الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار، وجود عليه القرآن، بالقراءات السبع، وقرأ على الأستاذ أبي سعيد بن لب
شعرهأنشدني من ذلك قوله بعد الانصراف من مواراة جنازة:
كم أرى مدمن لهو ودعه ... لست أخلى ساعة من تبعه
كاكن لي عذر لدى عهد الصبا ... وأنا آمل في العمر سعه
أو ما يوقظنا من كلنا ... أنفاً لقبره قد شيعه
سيما وقد بدا في مفرقي ... ماإخال الموت قد جاء معه
فدعوني ساعة أبكي على ... عمر أمسيت ممن ضيعه
ومن شعره في النوم، وهو كثير مايطرفه:
أباد البين أجناد التلاقي ... وحالت بيننا خيل الفراق
فجودوا وارحموا وارثوا ورقوا ... على من جفنه سكب المآقي
ومن ذلك ما أنشد في النوم على لسان رجل من أصحابه:
ياصاحبي قفا المطايا ... واشفقاً فالعبيد عبده
إذا انتهى وانقضى زمان ... هل يرسل الله من يرده
مولدهفي الثاني عشر لصفر من عام اثنين وعشرين وسبعماية.
الطرازمحمد بن علي بن يوسف الأنصاري

من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالطراز
حالهمن صلة ابن الزبير: كان رحمه الله مقرياً جليلاً، ومحدثاً حافلاً، به ختم بالمغرب هذا الباب البتية. وكان ضابطاً متقتناً، ومقيداً حافلاً، بارع الخط، حسن الوراقة، عارفاً بالأسانيد والطرق والرجال، وطبقاتهم، مقرباً عارفاً بالأسانيد والقراءات، ماهراً في صناعة التجويد، مشاركاً في بعلم العربية والفقه والأصول وغير ذلك، كاتباً نبيلاً، مجموعاً فاضلاً متخلقاً، ثقة فيما روى، عدلاً ممن يرجع إليه فيما قيد وضبط، ولإتقانه وحذقه. كتب بخطه كثيراً، وترك أمهات حديثية، اعتمدها الناس بعده، وعولوا عليها. وتجرد آخر عمره، إلى كتاب " مشارق الأنوار " تأليف القاضي أبي الفضل عياض، وكان قد تركه في مبيضة، في أنهى درجات النسخ والإدماج والإشكال، وإهمال الحروف حتى اخترمت منفعتها، حتى استوفى ما نقل منه المؤلف، وجمع عليها أصولاً حافلة، وأمهات جامعة، من الأغربة وكتب اللغة، فتخلص الكتاب على أتم وجه وأحسنه، وكمل من غير أن يسقط منه حرف ولا كلمة. والكتاب في ذاته لم يؤلف مثله.
مشيختهروى عن القاضي ابن الطباع، وعن أبي عبد الله بن صاحب الأحكام والمتكلم، وأبي محمد بن عبد الصمد بن أبي رجا وأبي القاسم الملاحى، وأبي محمد الكواب وغيرهم، " أخذ عن هؤلاء كلهم ببلده " ، وبقرطبة عن جماعة، وبمالقة كذلك، وبسبتة. وبإشبيلية عن أبي بالحسن بن زرقون، وابن عبد النور. وبفاس وبمرسية عن جماعة.
قلت: هذه الترجمعة في الأصل المختصر منه هذا طويله، واختصرتها لطولها.
توفي ببغرناطة ثالث شوال عام خمسة وأربعين وستماية، وكانت جنازته من أحفل جنازة، إذ كان الله قد وضع له ودا في قلوب المؤمنين.
ابن حيان النفزيمحمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان النفزي من أهل غرناطة، يكنى أبا حيان، ويلقب من الألقاب المشرقية بأثير الدين
حالهكان نسيج وحده في ثقوب الذهن، وصحة الإدراك " والحفظ " والاضطلاع بعلم العربية، والفسير وطريق الرواية، إمام النحاة في زمانه غير مدافع، نشأ ببلده غرناطة، مشاراً إليه في التبريز بميدان الإدراك، وتغيير يالسوابق في مضمار التحصيل. ونالته نبوة لحق بسببها بالمشرق، واستقر السوابق في مضمار التحصيل. ونالته نبوة لحق بسببها بالمشرق، واستقر بمصر، فنال ما شاء من عز وشهرة، وتأثلٍ وبروحظوة، وأضحى لمن حل بساحته من المغاربة، ملجاً وعدة. وكان شديد البسط، مهيباً، جهورياً، مع الدعابة والغزل، وطرح السمت، شاعراً مكثراً، مليح الحديث، لايمل وإن أطال، وأسن جداً، وانتفع به. قال بعض أصحابنا، دخلت عليه، وهو يتوضاً، وقد استقر على إحدى رجليه لغسل الأخرى، كما تفعل البرك والأوز، فقال لو كنت اليوم جار شلير ما تركني لهذا العمل في هذا السن.
مشيختهقرأ ببلده على الأستاذ حايز الرياسة أبي جعفر بن الزبير ولازمه، وانتسب إليه، وانتفع به، وشاد له بالمشرق ذكراً كبيراً. ويقال إنه نادى في الناس عندما بلغه نعية، وصلى عليه بالقاهرة، وله إليه. مخاطبات أدبية اختصرتها، وعلى الأستاذ الخطيب أبي جعفر علي بن محمد الرعيني الطباع، والخطيب الصالح ولي الله أبي الحسن فضل بن محمد بن علي ابن ابراهيم بن فضيلة المافري. وروى عن القاضي المحدث أبي على الحسين ابن عبد العزيز بن أبي ألأحواض الفهرى، والمكتب أبي بسهل اليسر بن عبد الله ابن محمد بن خلف بن اليسر القشيري، والأستاذ أبي الحسن بن الصابيغ، والأديب الكاتب أبي محمد عبد الله بن هرون الطائي بتونس، وعلى المسند صفى الدين أبي محمد عبد الوهاب بن حسن بن إسماعيل بن مظفر بن الفرات الحسنى بالأسكندرية، والمسند الأصولي وجيه الدين أبي عبد الله محمد ابن عبد الرحمن بن أحمد بن عمران الأنصاري بالثغر، والمحدث نجيب الدين أبي عبد الله محمد ىبن أحمد بن محمد بن المؤيد الهمداني بالقاهرة، وغيرهم ممن يشق إحصارهم. كالإمام بهاء الدين محمد بن ابراهيم ابن محمد بن أبي نصر بن النحاس الشافعي. قرأ عليه جميع كتاب سيبويه في سنة ثمان وثمانين وستماية، وقال له عند ختمه، لم يقرأه على أحد غيره.
تواليفه

وتواليفه كثيرة، منها شرحه كتاب " تسهيل الفوايد لابن مالك: وهو بديع، وقد وقفت على بعبضه بغرناطة في عام سبعة وخمسين وسبعماية. وكتابه في تفسير الكتاب العزيز، وهو المسمى " بالبحر المحيد " تسمية زعموا موافقة للغرض. وألف كتاباً في نحو اللسان التركى، حدثنا عنه الجملة الكثيرة من أصحابنا، كالحاج أبي يزيد خالد بن عيسى، والمقرى الخطيب أبي جعفر الشقورى، والشريف أبي عبد الله بن راجح، وشيخنا الخطيب أبي عبد بن مرزوق. وقال حدثنا الأستاذ العلامة المتفنن أبو جعفر أحمد بن ابراهيم بن الزبير، سماعاً من لفظه، وكتباً من خطه بغرناطة، عن الكاتب أبي بإسحق بن عامر الهمداني الطوسى بفتح الطاء، حدثنا أبو عبد الله بن محمد العنسى القرطبي، وهو آخر من حدث عنه، أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد الحافظ الجياني، ناحكم بن محمد، نا أبو بكر بن المهندس، نا عبد الله ابن محمد، نا طالوت بن عياد بن بصال بن جعفرن سمعت أبا إمامة الباهلي بقول، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أكفلوا لي بيت أهل لكن في الجنة، إذا حدث أحدكم بلا كذب، وإذا ايتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف. غضوا أيساركم، وكفوا أيديكم، واحفظوا فروجكم. وقال، أنشدنا الخطيب أبو جعفر الطباع. قال أنشدنا ابن خلفون. قال أنشدنا أبو عبد الله محمد بن سعيد. قال أنشدنا أبو عمران موسى ابن أبي تليد لنفسه:
حالي مع الدهر في تقلبه ... كطاير ضم رجله التسرك
فهمه في خلاص مهجته ... يروم تخليصها فيشتبك
ومن ملحه: قال قدم علينا الشيخ المحدث أبو العلاء محمد بن أبي بكر البخاري الفرضى بالقاهرة في طلب الحديث. وكان رجلاً حسناً طيب الأخلاق، لطيف المزاج، فكنا نسايره في طلب الحديث، فإذا رأى صورة حسنة، قال هذا حديث على شرط البخاري، فنظمت هذه الأبيات:
بدا كهلال العيد وقت طلوعه ... وماس كغصن الخيزران المنعم
غزال رخيم الدل وافي مواصلا ... موافقة منه على رغم لوم
مليح غريب الحسن أصبح معلماً ... بخمرة خد بالمحاسن معلم
وقالوا على شرط البخاري قد أتى ... فقلنا على شرط البخاري ومسلم
فقال مولاي أنا البخاري فمن مسلم ... فقلت له أنت البخاري وأنا مسلم
محنتهحملته حدة الشبيبة على " التعريض للأستاذ " أبي جعفر الطباع، وقد وقعت بينه وبين أستاذه ابن الزبير الوحشة فنال منه، وتصدى للتأليف في الرد عليه، وتكذيب روايته، فرفع أمره إلى السلطان، فامتعض له، ونفذ الأمر بتنكيله، فاختفى، ثم أجاز البحر مختفياً، ولحق بالمشرق يلتفت خلفه.
شعرهوشعره كثير بحيث يتصف بالإجادة وضدها. فمن مطولاته رحمه الله قوله:
لا تعذلاه فما ذو الحب معذول ... العقل مختبل والقلب متبول
هزت له أسمراً من خوط قامتها ... فما انثنى للصب إلا وهو مقتول
جميلة فصل الحسن البيع لها ... فكم لها جمل منه وتفصيل
فالنحر ذو غنجٍ والعرف ذو أرج ... والخصر مختطف والعنق مجدول
هيفاء ينبس في الخصر الوشاح لها ... ردماً تخرس في الساق الخلاخيل
من اللواتي غذاهن النعيم فما ... يشقين آباؤها الصيد البهاليل
نزر الكلام غميات الجواب إذا ... سلن بعد الصحا حصر مكاسيل
من حليها ومناها مونس وهدى ... فليس يلحقها ذعر وتضليل
حلت بمنعقد الزوراء زارة ... شوسا غياري فعقد الصبر محلول
فمد عن ذكر ليلى إن ذكرها ... على التنالي لتعذيب وتعليل
أتاك منك نذير فأنذرن به ... وبادر التوب إن التوب مقبول
وأمل العفر واسلك مهمها ... قدفا إلى رضى الله إن العفو مأمول
إن الجهاد وحج البيت مختتما ... بزورة المصطفى للعفو تأميل
فشق حيزوم هذا الليل ممتطياً ... أخا خرام به قد يبلغ السؤل

أقب أعوج يعزي للوجيه له ... وجه أغر وفي الرجلين تحجيل
جفر حوافره معر قوايمه ... ضمر أياطله وللذيل عثكوك
إذا توجه أصغى وهو ملتفت ... ساعر اعتقا فيهن تأليل
إن تعارض به هوجا هاج له ... جرى يرى البرق عنه وهو مخذول
يحمى حوزة الإسلام ملتقياً ... كتايبا غص منها العرض والطول
كتايباً قد عموا عن كل واضحةٍ ... من الكتاب وغرتهم أباطيل
في رماقط ضرب الموت الزوام به ... سرادقاً فعليهم منه تخييل
هيجا يشرف فيها المشرفي على ... هام العدو ويصحب النقع تظليل
تدير كاس شعوب في شعوبهم ... فكلهم منهل بالموت معلول
إذا قضيت غزاة فالتفت عملا ... للحج فالحج للإسلام تكميل
وأصل بسر يابن أندلس والط ... رف أدهم بالأشطان مغلول
يلاطم الريح منه أبيض نفق له ... من السحب المزبد اكليل
يعلو حضارة منه شامخ جلل ... سام طفا وهو بالنكباء محمول
كأنما هو في طخيا لجتة أيم ... يعرو أديم السيل شمليسل
مازالت الموج تعليه وتخفضه ... حتى بدا من منار الثغر قنديل
وكبر الناس أعلاه الرنيم ... وكلهم طرفه بالشهد مكحول
وصافحوا البيد بعد اليم وابتدروا ... سبلاً بها لجناب الله توصيل
على نجايب تتلوه أجنابها خيل ... بها الخير معقود ومعقول
في موكب تزحف الأرض الفضاء به ... أضحت وموحشها بالناس مأمول
يطارد الوحش منه فيلق لجب ... حتى لقد ذعرت في بيدها الغول
سيوفهم طرب نحو الحجاز فهم ... ذوو ارتياح على أكوارها ميل
شعث رؤسهم يبس شفاهم ... خوص عيونهم غرب مهازيل
حتى إذا لاح من بيت الإله لهم ... نور إذا هم على الغبرا أراحيل
يعفرون وجوهاً طالما سمت ... باكين حتى أديم الأرض مبلول
حفوا بكعبة مولاهم فكعبهم ... عالٍ بها لهم طوف وتقبيل
وبالصفا وقتهم صافٍ بسعيهم ... وفي منى لمناهم كان تنويل
تعرفوا عرفات واقفين بها ... لهم إلى الله تكبير وتهليل
لما قضينا من الغراء منسكنا ... ثرنا وكل بنار الشوق مشمول
شدنا إلى الشد قميات التي سكنت أبدانهن وأفناهن تنقيل
إلى الرسول تزجي كل تعلمة ... أجل من نجوة تزجى المراسيل
من أنزلت فيه آيات مطهرة ... وأورثت فيه تورته وإنجيل
وعطرت من شذاه كل ناحية ... كأنما المسك في الأرجاء محلول
سر من العالم العلوي ضمنه ... جسم من الجوهر الأرضي محمول
نور تمثل في أبصارنا بشراً ... على الملايك من سيماه تمثيل
لقد تسامى وجبريل مصاميه ... إلى مقام راخى فيه جبريل
أوحى إليه الذي أوحاه من كثب ... فالقلب واع بسر الله مشغول
يتلو كتاباً من الرحمن جاء به ... مطهراً ظاهر منه وتأويل
جارٍ على منهج الأعراب أعجزهم ... باقٍ مع الدهر لاياتيه تبديل
بلاغه عندها كع البليغ فلم ... ينطق وفي هديه صاحت أضاليل
ومنها:
وطولبوا أن يجيبوا حين رابهم ... بسورةٍ مثله فاستعجز القيل
لاذو بذوبان خطى وبتر ظبا ... يوم الوغا واعتراهم منه تنكيل
فمونف في جبال الوهد منحدر ... وموثق في حبال الغد مكبول

مازال بالعضب هتاكاً سوابغهم ... حتى انثنى العصب مهم وهو مفلول
وقد تحطم في نحر العدا قصد ... أصم الوشج وخانتها العواميل
من لايعدله القرآن كان له ... من الصفاد وبيض البتر تعديل
وكم له معجزا غير القرآن أتى ... فيه من الحق منقول ومعقول
فللرسول انشقاق البدر نشهده ... كما لموسى انفلاق البحر منقول
ونبع ماء فرات من أنامله كالعين ثرت فجا الهتان ماء النيل
رووا الخميس وهم زهاء سبع ... مي مع الركاب فمشروب محمول
ومى عين بكف جاء يحملها ... قتادة وله شكوى وتعويل
فكانت أحسن عينيه ولا عجب ... مست أناميل فيها اليمن مجعول
والجذع حن إليه حين فارقه ... حنين ولهى لها للروم مثكول
وأشيع الكثر من قل الطعام ولم ... يكن ليعوزه بالكثر تقليل
وفي جراب لي هن عجايب كم ... يمتار منه فمبذول ومأكول
وفي ارتواء لي ذر بزمزم مايكفى تبدن منه وهو مهزول
والعنكبوت بباب الغار قد نسجت ... حتى كأن رداءً منه مسدول
وفرخت في حماه الورق ساجعة ... تبكي وما دمعها في الخد مطول
هذا وكم معجزات للرسول أتت ... لها من الله أمداد وتأصيل
غدت من الكثر أعداد النجوم فما ... يحصى لها عدداً كتب ولاقيل
قد انقضت معجزات الرسل منذ قضوا نحباً وأعجم منها ذلك الجيل
ومعجزات رسول الله باقية ... محفوظة مالها في الدهر تحويل
تكفل الله هذا الذكر يحفظه ... وهل يضيع الذي بالله مكفول
هدى المفاخر لايحظى الملوك بها ... الملك منقطع والوحي موصول
ومن مطولاته في غرض يظهر منها:
هو العلم لاكالعلم شىء تراوده ... لقد فاز باغيه وأجح قاصده
وما فضل الإنسان إلابعلمه ... وماامتاز إلا ثاقب الذهن واقده
وقد قصرت أعمارنا وعلومنا ... يطول علينا حصرها ونكابده
وفي كلها خير ولكن أصلها ... هو النحو فاحذر من جهول يعانده
به يعرف القرآن والسنة التي هما ... أصل دين الله ذو أنت عابده
وناهيك من علم على مشيد ... مبانيه أعزز بالذي هو شايده
لقد حاز في الدنيا فخاراً وسودداً ... أبو الأسود الديلي فللجر سانده
هو استنبط العلم الذي جل قدره ... وطار به للعرب ذكر نعاوده
وساد عطا نجله ابن هرمز ... ويحيى ونصر ثم ميمون ماهده
وعنبسة قد كان أبرع صحبه ... فقد قلدت جيد المعالي قلايده
ومازال هذا العلم تنميه سادة ... جهابذة تبلى به وتعاضده
إلى أن أتى الدهر العقيم بواحد ... من الأزد تنميه إليه فرايده
إمام الورى ذاك الخليل بن أحمد ... أقرله بالسبق في العلم حاسده
وبالبصرة الغرا قد لاح فجره ... فنارت أدانيه وضاءت أباعده
ياذكى الورى ذهناً وأصدق لهجة ... إذا ظن أمراً قلت ماهو شاهده
وما أن يروى بل جميع علومه ... بداية أعيت كل حبرٍ تجالده
هو الواضع الثاني الذي فاق أولا ... ولاثالث في الناس تصمى قواصده
فقد كان ربانى أهل زمانه ... صوم قوم راكع الليل ساجده
يقيم منه دهره في مثوبة ... وثوقاً بأن الله حقاً مواعده
فعام إلى حج وعام لغزوة ... فيعرفه البيت العتيق ووافده
ولم يثنه يوماً عن العلم والتقى ... كواعب حسن تنثنى ونواهده
وأكثر سكناه بقفر بحيث لا ... تناغيه إلا عفره وأوابده
وما قوته إلا شعير يسيغه ... بماء قراح ليس تغشى موارده

عزوباً عن الدنيا وعن زهراتها ... وشوقاً إلى المولى وما هو واعده
ولما رأى من سيبويه نجابة ... وأيقن أن الحين أدناه باعده
تخيره إذ كان وارث علمه ... ولا طفه حتى كأن هو والده
وعلمه شيئاً فشيئاً علومه ... إلى أن بدت سيماه واشتد ساعده
فإذ ذاك وافاه من الله وعده ... وراح وحيد العصر اذ جاء واحده
أتى سيبويه ناشراً لعلومه ... فلولاه أضحى للنحو عطلاً شواهده
وأبدى كتاباً كان فخراً وجوده ... لحطان إذ كعب بن عمرو محاتده
وجمع فيه ما تفرق في الورى ... فطارفه يعزى إليه وتالده
بععرو بن عثمان بن قنبر الرضا ... أطاعت عواصيه وتابت شوارده
عليك قرآن النحو نحو ابن قنبر ... فآياته مشهودة وشواهده
كتاب أبي بشر فلا تلك قارياً ... سواه فكل ذاهب الحسن فاقده
هم خلج بالعمل مدت فعندما ... تناءت غدت تزهي وليست تشاهده
ولا تعد عما حازه إنه الفرا ... وفي جوفه كل الذي أنت صائده
إذا كنت يوماً محكماً في كتابه ... فإنك فينا نابه القدر ماجده
ولست تبالي إن فككت رموزه ... أعضك دهر أم عرتك ثرايده
هو العضب إن تلق الهياج شهرته ... وإن لاتصب حرباً فإنك غامده
تلقاه كل بالقبول وبالرضى ... فذور الفهم من تبدو إليه مقاصده
ولم يعترض فيه سوى ابن طراوة ... وكان طرياً لم تقادم معاهده
وجسره طعن الميرد قبله ... وإن الثمالي بارد الذهن خامده
هما ماهما صارامدى الدهر ضحكة ... يزيف ماقالا وتبدو مفاسده
تكون صحيح العقل حتى إذا ترى ... تبارى أبا بشرٍ، إذا أنت فاسده
يقول امرؤ قد خامر الكبر رأسه ... وقد ظن أن النحو سهل مقاصده
ولم يشتغل إلا بنزر مسايل من ... الفقه وفي أوراقه هو راصده
وقد نال بين الناس جاهاً ورتبه ... وألهاك عن نيل المعالي ولا بده
وما ذاق للآداب طعماً ولم ... يبت يعنى بمنظوم ونثر يجاوده
فينكح أبكار المعاني ويبتغي لها ... الكفو من لفظ بها هو عاقده
رأى سيبويه فيه بعض نكادة ... وعجمة لفظ لا تحل معاقده
فقلت أتيت ما أنت أهل لفهمه ... وما أنت إلا غايض الفكر راكده
لعمرك ماذو لحية وتسمت ... وإطراق رأس والجهات تساعده
فيمشي على الأرض الهوينا كأنما ... إلى الملإ الأعلى تناهت مراصده
وإبهامك الجهال أنك عالم ... وأنك فرد في الوجود وزاهده
بأجلب للنحو الذي أنت هاجر ... من الدرس بالليل الذي أنت هاجده
أصاح تجنب من غوى مخذل ... وخذ في طريق النحو أنك راشده
لك الخير فادأب ساهراً في علومه " فلم تشم " إلا ساهر الطرف ساهده
ولا ترج في الدنيا ثواباً فإنما ... لدى الله حقاً أنت لاشك واجده
ذوو النحو في الدنيا قليل حظوظهم ... وذو الجهل فيها وافر الحظ زايده
لهم أسوة فيها على لغدٍ مضى ... ولم يلق في الدنيا صديقاً يساعده
مضى بعده عنها الخليل فلم ... ينل كفافاً ولم يعدم حسوداً يناكده
ولاقي أبا بشرٍ سفيهها ... غداة تمالت في ضلال يمادده
أتى نحو هارون يناظر شيخه ... فنفحة حتى تبدت مناكده
فأطرق شيئاً ثم أبدى دوابه ... بحق ولا كن أنكر الحق جاحده
وكاد على عمراً إذا صار حاكماً ... وقد ما على كان عمرو يكايده

سقاه بكأس لم يفق من خمارها ... وأورده الأمر الذي هو وارده
ولابن زياد شركة في مراده ولابن رشيد بشرك للقلب رابده
هما جرعا إلى على وقنبر ... أفاويق سم لم تنجد أساوده
أبكى على عمرو ولا عمر مثله ... إذا مشكل أعيا وأعوز ناقده
قضى نحبه شرخ الشبيبة لم يرع ... بشيب ولم تعلق بذام معاقده
لقد كان للناس اعتناء بعلمه ... بشرقٍ وغربٍ تستنار فوايده
والآن فلا شخص على الأرض قارئ ... كتاب أبي بشرٍ ولا هو رايده
سوى معثر بالغرب فيهم تلفت ... إليه وشوق ليس يخبو مواقد
وما زال منا أهل أندلس له ... جهابذ تبدى فضله وتناجده
وإني في مصر على ضعف ناصري ... لناصره ما دمت حياً وعاضده
أثار أثير الغرب للنحو كامناً ... وعالجه حتى تبدت قواعده
وأحيا أبو حيان ميت علومه ... فأصبح علم النحو ينفق كاسده
إذا مغربي حط بالثغر رحله ... تيقن أن النحو أخفاه لاحده
منينا بقوم صدروا في مجالس ... لإقراء علم ضل عنهم مراشده
لقد أخر التصدير عن مستحقه ... وقدم غمر خامد الذهن جامده
وسوف يلاقي من سعى في جلوسهم ... عقبى ما أكنت عقايده
علا عقله فيهم هواه فما ذرى ... بأن هوى الإنسان للنار قايده
أقمنا بمصر عشرين حجة يشاهدنا ... ذو أمرهم ونشاهده
فلما ننل منهم مدى الدهر طايلا ... ولما نجد فيهم صديقاً نوادده
لنا سلوة فيمن سردنا حديثهم ... وقد يتسلى بالذي قال سارده
أخي إن تصل يوماً وبلغت سالماً ... لغرناطة فانفذ لما أنا عاهده
وقبل ثرى أرض بها حل ملكنا ... وسلطاننا الشهم الجميل عوايده
مبيد العدا قتلاً وقد عمر شرهم ... ومحي الندى فضلاً وقد رم هامده
أفاض على الإسلام جوداً ونجدةً ... فعز مواليه وذل معانده
وعم بها إخواننا بتحية ... وخص بها الأستاذ لاعاش كايده
جزى الله عنا شيخنا وإمامنا ... وأستاذنا الحبر الذي عم فايده
لقد أطلعت جيان أوحد عصره ... فللغرب فخر أعجز الشرق خالده
مؤرخة نحوية وإمامة محدثة ... جلت وصحت مسانده
جاه عظيم من ثقيف وإنما به ... استوثقت منه العرى ومساعده
وما أنسى لاأنسى سهادى ببابه ... بسبق وغيري نايم الليل راقده
فيجلو بنور العلم ظلمة جهلنا ... ويفتح علماً مغلقاتٍ رصايده
وإني وإن شطت بنا غربة النوى ... لشاكر له في كل وقت وحامده
بغرناطة روحي وفي مصر جثتي ... ترى هل يثنى الفرد من هو فارده
أبا جعفر خذها قوافى من فتى ... تتيه على غر القوافي قصايده
يسير بلا إذن إلى الأذن حسنها ... فيرتاح سماع لها ومناشده
غريبة شكل كم حوت من غرايب ... مجيدة أصل أنتجتها أما جده
فلولاك يامولاى ما فاه مقولي ... بمصر ولا حبرت ما أنا قاصده
لهذبتني حتى أحوك مفوقاً ... من النظم لايبلى مدى الدهر آبده
وأذكيت فكري بعد ما كان خامداً ... وقيد شعري بعد ما ند شارده
جعلت ختاماً فيه ذكرك إنه ... هو المسك بل أعلى وإن عز ناشده
ومما دون المطولات قوله رحمه الله:
تفردت لما أن جمعت بذات ... وأسكنت لما أن بدت حركات
فلم أر في الأكوان غيراً لأنني ... أزحت عن الأغيار روح حيات
وقدستها عن رتبة لو تعينت ... لها دائماً دامت لها حسرات

فها أنا قد أصعدتها عن حضيضها ... إلى رتبة تقضى لها بثبات
تشاهد معنى روضة أذهب العنا ... وأيقظنى للحق بعد سنات
أقامت زماناً في حجاب فعندما ... تزحزح عنها رامت الخلوات
لنقضي بها مافات من طيب أنسنا بها وننال الجمع بعد شتات ومن النسيب قوله:
كتم اللسان ومدمعى قد باحا ... وثوى الأسى عندي وأسى راحا
إني أحب طي ما نشر الهوى ... نشراً وما زال الهوى إفصاحاً
ومهجتي من لا أصرح باسمه ... ومن الإشارة ما يكون صراحاً
ريم أروم حنوه وجنوحه ... ويروم عني جفوة وجماحاً
أبدى لنا من شعره وجبينه ... ضدين ذا ليلاً وذاك صباحاً
عجباً له يأسو الجسوم بطبه ... ولكم بأرواحٍ أثار جراحاً
فبلقطه برء الأخيذ ولحظه ... أخذ البرى فما بطيق براحاً
ناديته في ليلة لا ثالث إلا ... أخوه البدر عارف لاحا
يا حسنها من ليلة لو أنها دامت ... ومدت لتوصال جناحاً
وقال:
نور بخدك أم توقد نار ... وضنى بجفناك أم فتور عقار
وشذاً بريقك أم تأرج مسكة ... وسنى بثغرك أم شعاع درار
جمعت معاني الحسن فيك فقد ... غدت قيد القلوب وفتنة الأبصار
متصاون خفير إذا ناطقته ... أغضى حياً في سكون وقار
في وجهه زهرات لفظ تجتلي ... من نرجس مع وردة وبهار
خاف اقتطاف الورد من جنباتها ... فأدار من أسر سياج عذار
وتسللت نمل العذار بخده ... ليردن شهدة ريقه المعطار
وبخده ورد حمتها وردها ... فوقفن بين الورد والإصدار
كم ذا أوارى في هواه مجتى ... ولقد وشى بي فيه فرط أوار
ومن نظمه من المقطوعات في شتى الأغراض قوله رحمه الله:
أزحت نفسي من الإيناس بالناس ... لما غنيت عن الأكياس بالياس
وصرت في البيت وحدي لا أرى أحداً ... بنات فكري وكتبر هن جلاس
وقال:
وزهدني في جمعي المال إنه إذا ... ما انتهى عند الفتى فارق العمرا
فلا روحه يوماً أراح من العنا ... ولم يكتسب حمداً ولم يدخر أجراً
وقال:
سعت حية من شعره نحو صدغه ... وما انفصلت من خده إن ذا عجب
وأعجب من ذا أن سلسال ريقه ... برود ولاكن شب في قلبي اللهب
وقال:
سعت حية من شعره نحو صدغه ... وما انفصلت من خده إن ذا عجب
وأعجب من أن سلسا يقه ... برود ولا كن شب في قلبي اللهب
وقال:
راض حبيبي عارض قد بدا ... يا حسنه من عارض رابض
وظن قوم أن قلبي سلا ... والأصل لا يعتد بالعارض
وقال:
سال في الخد للحبيب عذار ... وهو لاشك سايل مرحوم
وسألت التثامه فتجنى ... فأنا اليوم سايل محروم
وقال:
جننت بها سوداء لون وناظر ... ويا طالما كان الجنون بسوداء
وجدت بها برد النعيم وإن ... فؤادي منها في جحيم ولأواء
وقال:
جننت بها سوداء لون وناظر ... ويا طالما كان الجنون بسوداء
وجدت بها برد النعيم وإن ... فؤادي منها في جحيم ولأواء
وقال في فتى يسمى مظلوم:
وما كنت أدري أن مالك مهجتي ... يتسمى بمظلوم وظلم جفاوه
إلى أن دعاني للصبا فأجبته ... ومن يك مظلوماً أجيب دعاؤه
وقال:
جن غيري بعارض فترجى ... أهله أن يفيق عما قريب
وفؤادي بعارضين مصاب ... فهو داء أعي دواء الطبيب
وقال:
شكى الخصر منه ما يلاقي بردفه ... وأضعف غصن البان جر كثيب
إذا كان منه البعض يظلم بعضه ... فما حال شط المزار غريب
وقال:

وذو شفةٍ لميا زينت بشامة ... من المسك في رشافها يذهب النسك
ظميت إليها ريقةً كوثرية ... بمثل لقايي ثغرها ينظم السلك
تعل بمعسول كأن رضابه ... مدام من الفرد وسر خاتمه مسك
وقال:
أجل شفيعٍ ليس يمكن رده ... دراهم بيض للجروح مراهم
تصير صعب الأمر أسهل ماترى ... ويقضي لباناتٍ للفتى وهو نايم
وقال:
نعيد ود قريب ضل ... كبير عتب قليل عتباً
كالشمس ظرفاً كالمسك عرفاً ... كالخشف طرفاً كالصخر قلباً
وقال:
عداتي لهم فضل على ومنة ... فلا أذهب الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن رتى فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
مولده: ولد بغرناطة عام اثنين وخمسين وستماية.
وفاته: أخبرني الحاج الخطيب الفاضل أبو جعفر الشقوري رحمه الله.
قال، توفي عام خمسة وأربعين وسبع ماية بمصر، ودفن بالقرافة. وكانت جنازته حافلة.
ومن الطاريين عليها في هذا الحرف
ابن الكماد اليكيمحمد بن أحمد بن داود بن موسى بن مالك اللخمي اليكي من أهل بلش يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن الكماد
حالهمن " عايد الصلة " : كان من جلة صدور " الفقهاء " الفضلاء زهدا وقناعة وانقباضاً، إلى دماثة الخلق، ولين الجانب " وحسن اللقاء " والسذاجة المموهة بالغفلة، والعمل على التقشف والعزلة، قديم السماع والرحلة، إماما مشهوراً في القراءات، يرحل إليه، ويعول عليه، إتقاناً ومعرفة منها بالأصول، كثير المحافظة والضبط، محدثاً ثبتاً، بليلغ التحرز، شديد الثقة، فقيهاً متصرفاً في المسايل، أعرف الناس بعقد الشروط، ذا حظ من العربية واللغة والأدب. رحل إلى اللعدوة، وتجول في بلاد الأندلس، فأخذ عن كثير من الأعلام، وروي وقيد وصنف وأفاد، وتصدر للإقراء بغرناطة وبلش وعيرهما، وتخرج بين يديه جملة وافرة من العلماء والطلبة، وانتفعوا به.
مشيختهقرأ ببلده مرسية على الأستاذ أبى الحسن على بن محمد بن لب بن أحمد ابن أبي بكر الرقوطي، والمقرى أبى الحسن بن خلف الرشاطي، والمحدث الجليل أبى محمد بن عبد الله بن داود بن خطاب الغافقي المرسى. وممن أجازه الفقيه أبو عثمان سعيد بن عمرو البطرني، والقاضي أبو علي بن أبي الأحوص، لقيه ببلش مالقة وبسطة، فروى عنه الكثير، والأستاذ أبو القاسم بن الأصهر الحارثي لقيه بألمرية. ولقي بغرناطة الأستاذ أبا جعفر الطباع، والوزير الراوية أبا القاسم محمد بن يحيى بن عبد الرحمن ابن جزى الكلبي، روى عنه وأجازه. وكتب له بالإجازة جماعة كبيرة من أهل المشرق والمغرب، حسبما تضمنه برنامجه.
تواليفهاختصر كتاب " المقنع " في القراءات اختصاراً بديعاً وسماه كتاب " الممتع في تهذيب المقنع " وغير ذلك.
شعرهمن ذلك وقد وقف على أبيات ابي القاسم بن الصقر في فضل الحديث:
لقد حاز أصحاب الحديث وأهله ... شأواً وتوتيراً ومجداً مخلداً
وصحت لهم بين الأنام مزيه ... أبانت لهم عزاً مجداً وسودداً
بدعوة خبر الخلق أفضل مرسل ... محمد المبعوث بالنور والهدا
بدعوة خبر الخلق أفضل مرسل ... محمد المبعوث بالنور والهدا
فهم دونوا علم الحديث وأتقنوا ... ونصوا بتبيين صحيحاً ومسندا
وجاءوا بأخبار الرسول وصحبه ... على وجهها لفظاً ورسماً مقيدا
وهم نقلوا الآثار والسنن التي ... من أصبح ذا لفظاً ورسماً مقيداً
وهم نقلوا الآثار والسنن التي ... من أصبح ذا أخذ بها فقد اهتدا
وما قصروا فيها بفقهٍ ولا ونوا ... بل التزموا حداً وحزماً مؤكداً
وهم أوضحوا من بعدهم باجتهادهم ... وبيينهم سبل الهدى لمن اقتدا
جزاهم إله العرش عنا بنصحهم ... بأحسن ماجازي نصيحاً ومرشداً
ونسله سبحانه نه هديهم ... وسعياً إلى التقوى سبيلاً ومقصداً
ومن شعره رحمه الله قوله:

عليك بالصبر وكن راضياً ... بما قضاه الله تلقى النجاح
واسلك طريق المجد والهج به ... فهو الذي يرضاه أهل الصلاح
وقد ألف شيخنا أبو البركات بن الحاج، جزءاً سماه " شعر من لا شعر له " ، فيه من شعر هذا يالرجل الفاضل ومثله كثير
مولدهقبل الأربعين وستماية. وتوفي ثاني شهر الله المحرم عام اثنى عشر وسبعماية
ابن حفيد الأمينمحمد بن أحمد بن علي الغساني من أهل مالقه، يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن حفيد الأمين
حالهكان من أهل العلم والفضل والدين المتين، والدؤوب على تدريس كتب الفقه. استظهر كتاب " الجواهر " لابن شاس، واضطلع بها، فكان مجلسه من مجالس الحفاظ، حفاظ المذهب، وانتفع به الناس، وكان معظماً فيهم، متبركاً به، على سنن الصالحين، من الزهد، والانقباض، وعدم المبالاة بالملبس والمطعم. وقال صاحبنا الفقيه أبو الحسن النباهي في تذييله لتاريخ مالقة: كان رجلا ساذجاً، مخشوشناً، سنى المنازع، شديد الإنكار على أهل البدع. جلس للتحليق العام بالمسجد الجامع، وأقرأ به الفقه والعربية والفرايض.
مشيختهقال، منهم أبو علي بن أبي الأخوص، وأبو جعفر بن الزبيز، وأبو محمد بن أبي السداد، والقاضي أبو القاسم ابن السكوت. قال، وأنشد للزاهد أبى اسحق بن قشوم، قوله:
يروقك يوم العيد حسن ملابس ... ونعمة أجسام ولين قدود
أجل لحظات الفكر منك فلا ترى ... سوى خرق تبلي وطعمة دود
وأنشد لأبي عمرو الزاهد:
تختبر الدنير في ميذاق ... والدرهم الزايف إذ يبهم
والمرء إن رمت اختباراً له ... ميذاقه الدنير والدرهم
من عف عن هذا وهذا مما ... فهو التقى الورع المسلم
تواليفهله تقييد حسن في الفرايض، وجزء في تفضيل التين على التمر، وكلام على نوازل الفقه.
وتوفي في الكائنة العظمى بطريف.
محمد بن أحمد بن علي بن قاسم المذحجيمن هل ملتماس، يكنى أبا عبد الله
حالهمن العايد: كان رحمه الله من بلده وأعيانهم، أستاذا متفنناً مقرياً لكتاب الله، كاتباً بليغاً، شديد العناية بالكتب، كثير المغالاة في قيمها وأثمانها، حتى صارله من أعلاقها وذخايرها، ماعجز عن تحصيله كثير من أهل بلده. كتب بخطه، وقيد كثيراً من كتب العلم. وكان مقرباً مجوداً، عارفاً بالقراءات، بصيراً بالعربية، ثقة ضابطاً، مبرزاً في العدالة، حريصاً على العلم استفادة ثم إفادة، لا يأنف من حمله عن أقرانه، وانتفع به هل بلده، والغرباء أكثر.
مشيختهأخذ عن طايفة من أهل العلم. منهم الشيخان الرحلتان، أبو عبد الله ابن الكماد، وأبو جعفر بن الزيات عظيماً بلده، والخطيب ولي الله أبو عبد الله الطنجالي، والقاضي أبو عبد الله بن بكر. وروى عن الشيخ الوزير أبي عبد الله بن ربيع، وابنه الراوية أبي عامر، والخطيب الصالح أبي إسحق بن أبي العاصي. وروى عن الشيخ الراوية الرحال أبي عبد الله ابن عامر الوادي أشى وغيرهم، ودخل غرناطة.
مولده ولد ببلش عام ثمانية وثمانين وستماية وفاته: توفي ببلش عاشر شهر شعبان من عام أربعة وثلاثين وسبعماية.
محمد بن أحمد بن علي الغسانيمن أهل مالقة، يكنى أبا الحكم، ويعرف بابن حفيد الأمين
حالهمن العايد: كان هذا الشيخ من أهل العلم والدين المتين، والجرى على سنن الفقهاء والتقدمين، عقد الشروط بمالقة مدة طويلة، في العدول المبرزين، وجلس للتحليق في المسجد الأعظم من مالقة، بعد فقد أخيه أبى القاسم، وخطب بمسجد مالقة الأعظم. ثم أخر عن الخطبة لمشاحنة وقعت بينه وبين بعض الولاة، أثمرت في إحنته. ولم يزل على ما كان عليه من الاجتهاد في العبادة، والتقييد للعلم، والاشتغال به، والعناية بأهله، إلى أن توفي على خير عمل.
مشيختهقرأ على الأستاذ الخطيب أبى محمد الباهلي، وروى عن جلة من الشيوخ مثل صهره الخطيب الوالي أبي عبد الله الطنجالي، وشاركه في أكثر شيوخه، والأديب الحاج الصالح أبي القاسم القبتوري وغيرهم مولده: ولد بمالقة عام ثلاثة وسبعين وستماية

وفاته: توفي بمالقة يوم الأربعاء الثامن عشر لذي حجة من عام تسعة وأربعين وسبعماية. ودخل غرناطة غير ما مرة مع الوفود من أهل بلده، وفي أغراضه الخاصة.
محمد بن أحمد الرقوطي المرسييكنى أبا بكر
حالهكان طرفاً في المعرفة بالفنون القديمة، المنطق والهندسة والعدد والموسيقا الطب، فيلوسفاً، طبيباً ماهراً، آية الله في المعرفة بالألسن. يقرى الأمم بألسنتهم، فنونهم التي يرغبون في تعلمها، شديد الباو، مترفعاً. متعاطياً. عرف طاغية الروم حقه، لما تغلب على مرسية، فبنى له مدرسة يقرى فيها المسلمين والنصارى واليهود، ولم يزل معظماً عنده. ومما يحكى من ملحه معه، أنه قال له يوماً، وقد أدنى منزلته، وأشاد بفضله، لو تنصرت وحصلت الكمال، كان عندي لك كذا وكذا، وكنت كذا، فأجابه بما أقنعه. ولما خرج من عنده، قال لأصحابه، أنا الآن أعبد واحداً، وقد عجزت عما يجب له، فيكف يحالي لو كنت أعبد ثلاثة كما أراد مني وطلبه سلطان المسلمين، ثاني الملوك من بني نصر، واستقدمه، وتلمذ له، وأسكنه في أعدل البقع من حضرته. وكان الطلبة يغشون منزله المعروف له، وهو بيدى الآن، فتعلم عليه الطب والتعاليم وغيرها، إذا كان لا يجاري في ذلك. وكان قوى العارضة، مضطلعاً بالجدل، وكان السلطان يجمع بينه وبين منتابي حضرته، ممن يقدم منتحلا صناعة أو علماً، فيظهر عليهم، لتمكنه ودالته، حسبما يانى في إسم أبي الحسن الأبدي، وأبي القاسم بن خلصون إن شاء الله. وكان يركب إلى باب السلطان، عظيم التودة، معار البغلة، رايق البزة، رفيق المشي، إلى أن توفي بها. سمح الله له.
ابن الدباغ الإشبيليمحمد بن ابراهيم بن المفرج الأوسي المعروف بابن الدباغ الإشبيلي.
كان واحد عصره في حفظ مذهب مالك، وفي عقد الوثائق، ومعرفة عللها، عارفاً بالنحو واللفة والأدب والكتابة والشعر والتاريخ. وكان كثير البشاشة، عظيم انقباض، طيب النفس، جميل المعاشرة، كثير المشاركة، شديد الواضع، صبوراً على المطالعة، سهل الألفاظ في تعليمه وإقرايه. أقرأ بجامع غرناطة لأكابر علمايها، الفقه وأصوله، وأقرأ به الفروع والعقايد للعامة مدة. وأقرأ بجامع باب الفخارين، وبمسجد ابن عزرة وغيره.
مشيختهقرأ على والده الأستاذ أبي إسحق ابراهيم، وعلى الأستاذ أبي الحسن الدباج، وعلى القاضي أبي الوليد محمد بن الحاج التجيبي القرطبي، وعلى القاضي أبي عبد الله بن عياض
وفاتهتوفي برندة يوم الجمعة أول يوم من شوال عند انصراف الناس من صلاة الجمعة من عام ثمانية وستين وستماية
ابن الرقاممحمد بن إبراهيم بن محمد الأوسي ابن أهل مرسية، نزيل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الرقام الشيخ الأستاذ المتفنن.
حالهكان نسيج وحده، وفريد دهره، علماً بالحساب والهندسة والطب والهيئة، وغير ذلك مديد الباع. أصيل المعرفة. مضطلعاً، متجراً لايشق غبارة. أقرأ التعاليم والطب والأصول بغرناطة لما استقدمه السلطان ثاني الملوك من بني نصر من مدينة بجاية، فانتفع الناس به، وأوضح المشكلات، وسيل من الأقطار النازحة في الأوهام العارضة، ودون في هذه الفنون كلها، ولخص، ولم يفتر من تقييد وشرح وتلخيص وتدوين.
تواليفهوتواليفه كثيرة، منها كتابة الكبير على طريقة كتاب " الشفا " والزيج القويم الغريب المرصد، والبنية رسايله على جداول ابن إسحق، وعدل مناخ الأهلة، وعليه كان العمل. وقيد أبكار الأفكار في الأصول، ولخص المباحث، كتاب الحيوان والخواص. ومقالاته كثيرة جداً، ودواوينه عديدة.
وفاته: توفي عن سن عالية بغرناطة في الحادي والعشرين لصفر من عام خمسة عشر وسبع ماية
محمد بن جعفر بن أحمد بن خلف بن حميدابن مأمون الأنصاري ونسبه أبو محمد القرطبي، أمويا من صريحهم، بلنس الأصل يكنى أبا عبد الله
حالهكان صدراً في متقنى القرآن العظيم، وأيمة تجويده، مبرزاً في النحو، إماماً معتمداً عليه، بارع الأدب، وافر الحظ من البلاغة، والتصرف البديع في الكتابة، طيب الإمتاع بما يورده من الفنون، كريم الأخلاق، حسن السمت، كثير البشر، وقوراً، ديناً، عارفاً، ورعاً، وافر الحظ من رواية الحديث.
مشيخته

روى عن أبي إسحق بن صالح، وأبي بكر بن أبي ركب، وأبي جعفر ابن ثعبان، وأبي الحجاج القفال، وأبي الحسن شريح، وأبي محمد عبد الحق ابن عطية، وأبي الحسن بن ثابت، وأبي الحسن بن هذيل، وتلا عليه بالسبع، وأبو عبد الله بن عبد الرحمن المذحجي الغرناظي، وابن فرح القيسي، و أبي القاسم خلف بن فرتون. ولم يذكر أنهم أجازوا له. وكتب له أبو بكر عبد العزيز بن سدير، وابن العزفي، وابن قندلة، فأبو الحسن طارق بن موسى، وابن موهب، ويونس بن مغيث، وأبو جعفر بن أيوب، وأبو الحكم عبد الرحمن بن غشيان، وأبو عبد الله الجياني المعروف بالبغدادي. وذكر أبو عبد الله بن يربوع أن له راوية عن أبي الحسن بن الطراوة.
من روى عنهروى عنه أبو بحر صفوان بن إدريس، وأبو بكر بن عتيق الأزدى وابن قترال، وأبو جعفر الجيار، والذهبي، وابن عميرة الشيهد، وأبو الحسن بن عزمون، وابن عبد الرزق، وأبو الحسن عبيد الله بن عاصم الداري، وأبو الربيع بن سالم، وأبو زكريا الجعفري، وأبو سليمان ابن حوط الله، وأبو عبد الله الأندرشي، وابن الحسين بن محبر، وابن ابراهيم الريسى، وابن صلتان، وابن عبد الحق التلمسني، وابن يربوع، وأبو العباس العزفي، وأبو عثمن سعد الحفار، وأبو علي عمر بن جميع، وأبو عمران بن إسحق، وأبو القاسم الطيب بن هرقال، وعبد الرحيم ابن إبراهيم بن قريش الملاحي، وأبو محمد بن دلف بن اليسر، وأبو الوليد ابن الحجاج.
تواليفهله شرح على " إيضاح الفارسي " ، وآخر على جمل الزجاجي " مولده: ببلنسية سنة ثلاث عشرة وخمسماية وفاته: توفي بمرسية إثر صدوره عن غرناطة عشى يوم السبت لثلاث عشرة بقيت من جمادى الأولى سنة ست وثمانين وخمسماية
محمد بن حكم بن أحمد بن باق الجذاميمن أهل سرقسطة. سكن غرناطة ثم فاس، يكنى أبا جعفر
حالهكان مقرباً مجوداً محققاً بعلم الكلام وأصول الفقه، محصلاً لهما، متقدماً في النحو، حافظاً للغة، حاضر الذكر لأقوال تلك العلوم، جيد النظر، متوقد الذهن، ذكي القلب. فصيح اللسان. ولي أحكام فاس وأفتى فيها، ودرس بها العربية، كتاب سيبويه وغير ذلك.
مشيختهروى عن أبي الأصبغ بن سهل، وأبوى الحسن الحضرمي، وابن سابق، وأبي جعفر بن جراح، وأبي طالب السرقسطي، الأديبين، وأبوي عبد الله ابن نصر، وابن يحيى بن هشام المحدث، وأبيالعباس الدلاءي، وأبي عبيد الله البكري، وأبي عمر أحمد بن مروان القيرواني، وأبي محمد ابن قورش، وأبي مروان بن سراج. وأجاز له أبو الوليد الباجي رحمه الله.
من روى عنهروى عنه أبو إسحق بن قرقول، وأبو الحسن صالح بن خلف، وأبو عبد الله بن حسن السبتي، وأبو الحسن الأبدي، وتوفي قبله، وابن خلف بن الأيسر، والنميري، وأبو العباس بن عبد الرحمن ابن الصقر، وأبو علي حسن بن الجزار، وأبو الفضل بن هرون الأزدي، وأبو محمد عبد الحق بن بونه، وقاسم بن دحمان، وأبو مروان بن الصقيل الوقشى.
تواليفهشرح " إيضاح الفارسي " ، وكان قيماً على كتابة، وصنف في الجدل مصنفين، كبيراً وصغيراً. وله عقيدة جيدة.
وفاته: توفي بفاس، وقيل بتلمسان سنة ثلاث وثلاثين وخمس ماية محمد بن حسن بن محمد بن عبد الله بن خلف بن يوسف ابن خلف الأنصاري من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الحاج، وبابن صاحب الصلاة.
حالهكان مقرياً صدراً في أيمة التجويد، محدثاً متقناً ضابطاً، نبيل الخط والتقييد، ديناً، فاضلا. وصنف في الحديث، وخطب بجامع بلده. وأم في الفريضة زماناً، واستمرت حاله كذلك، من نشر العلم وبثه إلى أن كرمه الله بالشهادة في وقيعة العقاب.
دخوله غرناطة، راوياً عن ابن الفرس، وابن عروس، وغرهما
مشيختهروى بالأندلس عن الحجاج ابن الشيخ، وأبي الحسن بن كوثر، وأبي خالد يزيد بن رفاعة، وأكثر عنه، وأبوى عبد الله بن عروس، ابن الفخار، وأبي محمد بن حوط الله، وعبد الحق بن بونه، وعبد الصمد ابن يعيش، وعبد المنعم بن الفرس، وأجازوا له. وتلا القرآن على أبي عبد الله الإستجي. وروى الحديث عن أبي جعفر الحصار. وحج في نحو سنة ثمانين وخمسماية. وأخذ عن جماعة من أهل المشرق، كأبي الطاهر الخشوعي وغيره.
وفاته: توفي شهيداً محرضاً صابرا يوم الاثنين منتصف صفر عام تسعة وستماية.
ابن قرال

محمد بن محمد بن أحمد بن على الأنصاري يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن قرال، من أهل مالقة
حالهطالب عفيف مجتهد خير. قرأ بغرناطة، وقام على فن العربية قياماً بالغاً، وشارك في غيره، وانتسخ الكثير من الدواوين بخط بالغ أقصى مبالغ الإجادة والحسن، وانتقل إلى مالقة فأقرأ بها العربية، واقتدى بصهره الصالح أبي عبد الله القطان، فكان من أهل الصلاح والفضل. وتوفي في محرم عام خمسين وسبعماية.
القللوسمحمد بن محمد بن إدريس بن مالك بن عبد الواحد ابن عبد الملك ابن محمد بن سعيد بن عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله القضاعي من أهل إسطبونة، يكنى أبا بكر، ويعرف بالقللوس.
حالهكان رحمه الله إماماً في العربية والعروض والقوافي، موصوفاً بذلك، منسوباً إليه، يحفظ الكثير من كتاب سيبويه، ولايفارقه بياض يومه، شديد التعصب له، مع خفة وطيش يحمله على التوغل في ذلك. حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب رحمه الله، قال، وقف أبو بكر القللوس يوماً على القاضي أبي عمرو بن الرندون، وكان شديد الوقار، مهيباً، وتكلم في مسألة من العربية، نقلها عن سيبويه، فقال القاضي أبو عمرو. أخطأ سيبويه. فأصاب أبا بكر القللوس قلق كاد يلبط به الأرض، ولم يقدر على جوابه بما يشفى به صدره لمكان رتبته، قال، فكان يدور بالمسجد، والدموع تنحدر على وجهه، وهو يقول أخطأ من خطاه، يكررها والقاضي أبو عمرو يتغافل عنه، ويزرى عليه. وكان مع ذلك. مشاركاً في فنون، من فقه وقراءات. وفرايض، من أعلام الحفاظ للغة، حجة في العروض والقوافي، يخطط بالقافي عند ذكره في الكتب. وله في ذلك العروض والقوافي، يخطط بالقافي عند ذكره في الكتب. وله في ذلك تواليف بديعة. وولى الخطابة ببلده مدة، وقعد للتدريس به، وانثال عليه الناس وأخذوا عنه. ونسخ بيده الكثير وقيد، وكان بقطره علماً من أعلام الفضل والإيثار والمشاركة.
تواليفهنظم رجزاً شهيراً في الفرايض علماً وعملاً، ونظم في العروض والقوافي وألف كتاب " الدرة المكنونة في محاسن إسطبونة " ، وألف تأليفاً حسناً في ترحيل يالشمس، وسوسطات الفجر، ومعرفة الأوقات، ونظم أرجوزة في شرح ملاحن ابن دريد، وأرجوزة في شرح كتاب " الفصيح " . ورفع للوزير ابن الحكيم كتاباً في الخواص وصنعة الأمدة والتطبع الشاب. غريباً في معناه.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي الحسن بن أبي الربيع، ولازمه، وأخذ عنه. وعن أبي القاسم بن الحصار الضرير السبتي، وعلى الأستاذ أبي جعفر بن الزبير بغرناطة وغيرهم.
شعرهمن شعره قوله من قصيدة يمدح ابن الحكيم:
علاه رياض أورقت بمحامد ... تنور بالجدوى وتثمر بالأمل
تسح عليها من نداه غمامة ... تروى ثرى المعروف بالعل والنيل
وهل هو إلا الشمس نفساً ورفعة ... فيغرب بالجدوى ويبعد بالأمل
تعم أياديه البرية كلها فدان ... وقاصٍ جود كفيه قد شمل
وهي طويلة. ونقلت من خط صاحبنا أبي الحسن النباهي. قال يمدح أبا عبد الله الرنداحي:
أطلع بأفق الراح كاس الراح ... وصل الزمان مساءه بصباح
خذها على رغم العذول مدامة ... تنفى الهموم وتأت بالأفراح
والأرض قد لبست برود أزاهر ... وتمنطقت من نهرها بوشاح
والجو إذ يبكي بدمع غمامة ... ضحك الربيع له بثغر أقاح
والروض مرقوم بوشى أزاهر ... والطير يفصح أيما إفصاح
والغصن من طرب يميل كأنما ... سقيت بكف الريح كأس الراح
والورد منتظم على أغصانه ... يبدو فتحسبه خدود ملاح
وكأن عرف الريح من زهر الربى ... عرف امتداح القايد الرنداح
وفاتهببلده عصر يوم الجمعة الثامن عشر لرجب الفردسنة سبع وسبعماية
ابن أبي الجيشمحمد بن محمد بن محارب الصريحي من أهل مالقة. يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن أبي الجيش
حاله وأوليتهأصل سلفه من حصن يسر من عمل مرسية، من بيت حسب وأصالة، ولخؤولته بالجهة التاكرونية ثورة

وقفلت فيه في عايد الصلة: كان من صدور المقريين، وأعلام المتصدرين تفنناً واضطلاعاً، وإدراكاً، ونظراً. إماماً في الفرايض والحساب قايماً على العربية، مشاركاً في الفقه والأصول، وكثير من العلوم العقلية. قعد للإقراء بمالفة، وخطب بجامع الربض.
مشيختهقرأ على الأستاذ القاضي المتفنن أبي عبد الله بن بكر، ولازمه. ثم ساء مابينهما في مسألة وقعت بمالقة، وهي تجويز الخلف في وعد الله، شنع فيها على شيخنا المذكور، ونسبه إلى أن قال، وعد الله ليس بلازم الصدق، بل يجوز فيه الخلف، إذ الأشياء في حقه متساوية، وكتب في ذلك أسئلة للعلماء بالمغرب، فقاطعه وهجره. ولما ولى القاضي أبو عبد الله بن بكر القضاء، خافه، فوجه عنه إثر ولايته، فلم يشك في الشر، فلما دخل عليه، رحب به، وأظهر له القبول عليه، والعفو عنه، واستانف مودته، فكانت تعد في مآثر يالقاضي رحمه الله ورحل المذكور إلى سبتة، فقرأ بها على الأستاذ أبي إسحق الغافقي، ومن عاصره، ثم عاد إلى مالقة، فالتزم التدريس بها إلى حين وفاته.
دخوله غرناطةدخل غرناطة مرات، متعلماًن وطالب حاج. ودعى إلى الإقراء بمدارستها النصرية، عام تسعة وأربعين وسبع ماية، فقدم على الباب السلطاني، واعتذر بما قبل فيه عذره. وكان قد شرع في تقييد مفيد على كتاب التسهيل لابن مالك. في غاية النبل والاستيفاء والحصر والتوجيه، عاقته المنية عن إتمامه.
وفاته: توفي بمالقة في كاينة الطاعون الأعظم في أخريات ربيع الآخر من عام خمسين وسبعماية، بعد أن تصدق بمال كثير، وعهد بريع مجد لطلبة العلم، وحبس عليهم كتبه.
ابن لبمحمد بن محمد بن لبي الكناني من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن لب
حالهكان ذاكراً للعلوم القديمة. معتنياً بها. عاكفاً عليها، متقدماً في علمها على أهل وقته، لم يكن يشاركه أحد في معرفتها، من الرياضيات والطبيعيات والإلآلهيات، ذاكراً لمذاهب القدماء، ومآخذهم في ذلك حافظاً جداً، ذاكراً لمذاهب المتكلمين، من الأشعرية وغيرهم، إلا أنه يوثر ماغلب عليه من مآخذ خصومهم، وكان نفوذه في فهمه، دون نفوذه في حفظه، فكان معتمده على حفظه في إيراده ومناظرته، وكان ذاكراً مع ذلك لأصول الفقه وفروعه، عجباً في ذلك، إذا وردت مسألة، أورد ماللناس فيها من المذاهب. وعزم عليه آخر عمره، فقعد بجامع مالقة، يتكلم على الموطا، وما كان من قبل تهيأ لذلك، إلا أنه ستر عليه حفظه، وتعظم أهل بلده له. قال ابن الزبير، وكانت فيه لوثة، واخشيشان، وكان له أرب في التطواف، وخصوصاً بأرض النصارى، يتكلم مع الأساقفة في الدين، فيظهر عليهم، وكانت أموره غريبة، من امتزاج اليقظة بالغفلة، وخلط السذاجة بالدعابة. يحكى عنه أنه كانت له شجرة تين بداره بمالقة، فباع ما عليها من أحد أهل السوق، فلما هم بجمعها، ذهب ليمهد للتين بالورق في الوعاء، فمنعه من ذلك، وقال له إنما اشتريت التين، ولم تدخل الورق في البيع، فتعب ذلك المشترى ما شاء الله، وجلب ورقاً من غيرها، حتى انقضى الأمر، وعزم على معاملته في السنة الثانية، فأول مااشترط الورق، فرغ من الغلة، دعاه فقال له، احمل ورقك، فإنه يوذيني، فأصابه من المشقة في جمعه من أطراف الغصون مالم يكن يحستب، ولم تات السنة الثالثة، إلا وللرجل فقيه، اشترط مقدار الكفاية من الورق، فسامحه ورفق به.
دخل غرناطة وغيرها، وأخباره عجيبة. قال أبو جعفر بن الزبير: عرض لي بمالقة مسايل، يرجع بعضها إلى الطريقة البيانية، والمآخذ الأدبية، وضحت ضرورة إلى الأخذ معه فيها، وفي آيات من الكتاب العزيز، فاستدعيته إلى منزلي، وكان فيه تخلق، وحسن ملاقاة. مع خفته الطبيعية وتشتت منازعه، فأجاب، وأخذت معه في ذلك، فألفيته صايماً عن ذلك جملة.
وصمتهقال، وكان القاضي الجليل، أبو القاسم بن ربيع، وأخوه أبو الحسن ينافرانه على الإطلاق، ويحذران منه، وهو كان الظاهر من حاله. قال، واستدعاني في مرض اشتد به، قبل خروجي من مالقة على انفراد، فتنصل لي مما كان يذن به، وأكثر البكاء، حتى رثيت له.
وفاته: توفي بمالقة، ووصى قبل موته بوصايا من ماله. في صدقات وأشباهها، وحبس داره وطايفة من كتبه على الجامع الكبير بمالقة.
محمد بن محمد البدويالخطيب بالربض من بلش، يكنى أبا عبد الله.

حاله

من العايد: كان رحمه الله حسن التلاوة لكتاب الله، ذا قدمٍ في الفقه، له معرفة بالأصلين، شاعراً مجيداً، بصيراً، بليغاً في خطبته، حسن الوعظ، سريع الدمعة. حج ولقى جلة. وأقرأ ببلش زماناً، وانتفع به، ولقى شدايد، أثلها الحسد.
مشيختهقرأ العلم على الشيخين المقريين، الحجتين، أبي جعفر بن الزيات، وأبي عبد الله بن الكماد، وقرأ العربية والأصلين، على الأستاذ أبي عمرو ابن منظور، ولازمه وانتفع به، وقرأ الفقه على الشيخ القاضي أبي عبد الله ابن عبد السلام بمدينة تونس.
شعرهمن شعره قوله في غرض النسيب:
خال على خدك أم عنبر ... ولؤلؤ ثغرك أم جوهر
أوريت نار الوجد طي الحشا ... فصارت النار به تسعر
لو جدت لي منك برشف اللما ... لقلت خمر عسل سكر
دعني في الحب أذب حسرة ... سفك دم العاشق لا ينكر
وقال:
عيناي تفهم من عينيك أسرارا ... وورد خدك يذكي في الحشا نارا
ملكت قلب محب فيك مكتيب ... قد أثر الدمع في خديه آثارا
رضاب ثغرك يروي حر غلته ... يا ليت نفسي تقضي منه أوطارا
أنعم بطيف منك ألمحه ... مإذا عليك بطيف منك لو زارا
نفسي فداؤك من ظبي به كلف ... يصبو له القلب مضطراً ومختارا
وقال:
أيها الظبي ترفق ... بكييب قد هلك
ألذنب تتجنى ... أم لشيء يوصلك
إن روحي لك ملك ... وكذا قلبي لك
إنما أنت هلال ... فلك القلب فلك
ومن مجموع نظمه ونثره ما خاطبني به، وقد طلبت من أدبه لبعض ما صدر عني من المجموعات: يا سيدي أبقاك الله بهجة للأعيان الفضلاء، وحجة لأعلام العلاء، ولا زلت تسير فوق النسر، وتجري في الفضايل على كرم النجر. ذكر لي فلان أنكم أردتم أن يرد على كمالكم، بعض الهذيان، الصادر عن معظم جلالكم، فأكبرت ذلك، ورأيتني لست هنالك، وعجبت أن ينظم مع الدر السبج، أو يضارع العمش الدعج، بيد أن لنظم الدر صناع، والحديث قد يذاع، ولا يضاع، وحين اعتذرت له فلم يعذرني، وانتظرته فلم ينظرني، بعد أن استعفيته فأبى، واستنهضت جواد الإجابة فكبى، وسلك غير طريقي، ولم يبلغني ريقي، وفيت الغرض، وقضيت من إجابته الحق المفترض، ورددت عن تعذاله النصيح، وأثبت هنا ما معناه صحيح، ولفظه غير فصيح:
بريت من حولي ومن قوتي ... بحول من لا حول إلا له
وثقت بالخالق فهو الذي ... يدبر العبد وأفعاله
وقلت بالحرم عند الملتزم من المنظوم في مثل ذلك:
أمولاي بالباب ذو فاقة ... وهذا يحط خطايا الأمم
فجد لي بعفوك عن زلتي ... يجود الكريم بقدر الكرم
ومما أعددته للوفادة على خير من عقدت عليه ألوية السيادة:
حمدت إليك مع الصباح سراها ... وأتتك تطلب من نداك قراها
وسرت إليك مع النسيم يمينها ... شوقاً في السرى يسراها
ولولا العجر لوصلت، والعذر لأطلت، لكن ثنيت عناني لثنايك، لحسن اعتنايك، وقلت معتذراً من الصورة لمجدكم، وتالياً سورة حمدكم:
المجد تخبر عن صدق مآثره ... وناظم المجد في العلياء ناثره
والجود إن جد جد المرء ينجده ... وقلما ثم في الأيام ذاكره
من نال ما نلت من مجد ومن شرف ... فليس في الناس شخص يناظره
يا سيداً طاب في العلياء محتده ... ماجداً رسخت فيه أواصره
سريت في الفضل مستناً على ... سنن في الفضل مآربه حقاً وسامره
ورثته عن كبير أوحد علم ... كذاك يحمله أيضاً أكابره
مبارك الوجه وضاح الجبين له ... نور ينير أغر النور باهره
موفق بكفيل من عنايته مرفع ... العذر سامي الذكر طاهره
رعيت في الفضل حق الفضل مجتهداً مفهوم مجدك هذا الحكم ظاهره
علوت كالشمس إشراقاً ومنزلة ... فأنت كالغيث يحيى الأرض ماطره

ينم بالفضل منك الفضل مشتهرا ... كما ينم بزهر الروض عاطره
دم وابق للمجد كهفاً والعلا وزراً ... فإنما المجد شخص أنت ناظره
مؤملاً منك خيراً أنت صانعه ... وصانع الخير عند الله شاكره
وما وليت وما أوليت من حسن ... فللناس والعالم العلوي ذاكره
بقيت تكسب من والاك مكرمة ... وناصراً أبداً من قل ناصره
عذراً لك الفضل عما جيت من خطإ ... أن يخط مثلي يوماً أنت عاذره
ثم السلام على علياك من رجل ... تهدى الذي يخفى ضمايره
دخوله غرناطة: دخلها غير ما مرة، ولقيته بها لتقضي بعض أغراض بباب السلطان، مما يليق بمثله.
مولده: . . . . . . . . .
وفاته: توفي ببلش في أخريات عام خمسين وسبعماية.
ابن عبد الله العبدريمحمد بن عبد الله بن ميمون بن إدريس بن محمد ابن عبد الله العبدري قرطبي، استوطن مدينة مراكش، يكنى أبا بكر.
حالهكان عالماً بالقراءات، ذاكراً للتفسير، حافظاً للفقه واللغات والأدب، شاعراً محسناً، كاتباً بليغاً، مبرزاً في النحو، جميل العشرة، حسن الخلق، متواضعاً، فكه المحاضرة، مليح المداعبة. وصنف في غير ما فن من العلم وكلامه كثير مدون، نظماً ونثراً.
مشيختهروى عن أبي بكر بن العربي، وأبي الحسن شريح، وعبد الرحمن ابن بقي، وابن الباذش، ويونس بن مغيث، وأبي عبد الله بن الحاج، وأبي محمد بن عتاب، وأبي الوليد بن رشد، ولازمه عشرين سنة. قرأ عليهم وسمع، وأجازوا له، وسمع أبا بحر الأسدي، وأبوي بكر عياش ابن عبد الملك، وابن أبي ركب، وأبا جعفر بن سانجة، وأبا الحسن عبد الجليل، وأبا عبد الله بن خلف الأيسري، وابن المناصف، وابن أخت غانم، ولم يذكر أنهم أجازوا له، وروى أيضاً عن أبوي عبد الله مكي، وابن المعمر، وأبي الوليد بن طريف.
من روى عنه: روى عنه أبو البقاء بعيش بن القديم، وأبو الحسن ابن مؤمن، وأبو زكريا المرجيعي، وأبو يحيى أبو بكر الضرير واختص به.
تواليفهمن مصنفاته مشاحذ الأفكار في مآخذ النظار وشرحاه الكبير والصغير على جمل الزجاجي، وشرح أبيات الإيضاح العضدي، ومقامات الحريري، وشرح معشراته الغزلية، ومكفراته الزهدية، إلى غير ذلك، وهما مما أبان عن وفور علمه، وغزارة مادته، واتساع معارفه، وحسن تصرفه.
دخل غرناطة راوياً عن الحسن بن الباذش ومثله.
محنتهكان يحضر مجلس عبد المؤمن مع أكابر من يحضره من العلماء، فيشف على أكثرهم بما كان لديه من التحقيق بالمعارف، إلى أن أنشد أبا محمد عبد المؤمن أبياتاً كان نظمها في أبي القاسم عبد المنعم بن محمد ابن تست وهي:
أبا قاسم والهوى جنة ... وها أنا من مسها لم أفق
تقحمت جامح نار الضلوع ... كما خضت بحر دموع الحدق
أكنت الخليل أكنت الكليم ... أمنت الحريق أمنت الغرق
فهجره عبد المؤمن، ومنعه من الحضور بمجلسه، وصرف بنيه عن القراءة عليه، وسرى ذلك في أكثر من كان يقرأ عليه، ويتردد إليه. على أنه كان في الطبقة العليا من الطهارة والعفاف.
شعرهقال في أبي القاسم المذكور، وكان أزرق، وقد دخل عليه ومعه أبو عبد الله محمد بن أحمد الشاطبي، وأبو عثمان سعيد بن قوسرة. فقال ابن قوسرة:
عابوه بالزرق الذي يجفونه ... والماء أزرق والعينان كذلك
فقال أبو عبد الله الشاطبي:
الماء يهدي للنفوس حياتها ... والرمح يشرع للمنون مسالكا
فقال أبو بكر بن ميمون المترجم به:
وكذلك في أجفانه سبب الردى ... ولاكن أرى طيب الحياة هنالكا
ومما استفاض من شعره قوله في زمن الصبا عفا الله عنه:
لا تكثرت بفراق أوطان الصبا ... فعسى تنال بغيرهن سعودا
والدر ينظم عند فقد بحاره ... بجميل أجياد الحسان عقودا
ومن مشهور شعره:
توسلت يا ربي بأني مؤمن ... وما قلت أني سامع ومطيع
أيصلى بحر النار عاص موحد ... وأنت كريم والرسول شفيع
وقال في مرضه:
أيرتجى العيش من عليه ... دلائل للردى جلية

أولها مخبر بثان ... ذاك أمان وذا منية
وفاته: توفي بمراكش يوم الثلاثاء اثنتي عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة سنة سبع وستين وخمسماية، ودفن بمقبرة تاغزوت داخل مراكش، وقد قارب السبعين سنة.
محمد بن أرقم النميريمحمد بن عبد الله بن عبد العظيم بن أرقم النميري من أهل وادي آش، يكنى أبا عامر.
حالهكان أحد شيوخ بلده وطلبته، مشاركاً في فنون، من فقه وأدب وعربية، وهي أغلب الفنون عليه، مطرح السمت، مخشوشن الزي، قليل المبالاة بنفسه، مختصراً في كافة شيونه، مليح الدعابة، شديد الحمل، كثير التواضع، وبيته معمور بالعلماء أولي الأصالة والتعين تصدر ببلده للفتيا والتدريس والإسماع.
مشيختهقرأ على الأستاذ القاضي أبي خالد بن أرقم، والأستاذ أبي العباس ابن عبد النور. وروى عن أبيه مديح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن الوزير العالم أبي عبد الله بن ربيع، والقاضي أبي جعفر بن مسعدة، والأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وولي الله الحسن بن فضيلة.
ورحل إلى العدوة، فأخذ بسبتة عن الأستاذ أبي بكر بن عبيدة، والإمام الزاهد أبي عبد الله بن حريث، وأبي عبد الله بن الخضار، وأبي القاسم بن الشاط، وغيرهم.
شعرهوهو من الجزء المسمى بشعر من لا شعر له والحمد لله. فمن ذلك قوله يمدح أبا زكريا العزفي بسبتة، ويذكر ظفره بالأسطول من قصيدة أولها:
أما الوصال فإنه كالعيد ... عذر المتيم واضح في الغد
وفاته: توفي ببلده عام أربعين وسبعماية. ودخل غرناطة، راوياً ومتعلماً، وغير ذلك.
محمد بن الجد الفهريمحمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الله بن فرج بن الجد الفهري الحافظ الجليل يكنى أبا بكر، جليل إشبيلية، وزعيم وقته في الحفظ. لبلي الأصل، إشبيلي، استدعاه السيد أبو سعيد والي غرناطة، فأقام بها عنده، في جملة من الفضلاء مثله سنين. ذكر ذلك صاحب كتاب ثورة المريدين.
حالهكان في حفظ الفقه بحراً يغرف من محيط. يقال إنه ما طالع شيئاً من الكتب فنسيه، إلى الجلالة والأصالة، وبعد الصيت، واشتهار المحل. وكان مع هذا يتكلم عند الملوك، ويخطب بين يديها، ويأتي بعجاب، وفي كتاب الإعلام شيء من خبره، قال ابن الزبير.
مشيختهروى عن أبي الحسن بن الأخضر، أخذ عنه كتاب سيبويه وغيره ذلك، وعن أبي محمد بن عتاب، وسمع عليه بعض الموطأ، وعن أبي بحر الأسدي، وأبي الوليد بن طريف، وأبي القاسم بن منظور القاضي، وسمع عليه صحيح البخاري كله، وشريح بن محمد، وأبي الوليد بن رشد، وناوله كتاب البيان والتحصيل. وكتاب المقدمات. لقي هؤلاء كلهم، وأجازوا له عامة. وأخذ أيضاً عن مالك بن وهيب.
من حدث عنهأبو الحسن بن زرقون، وأبو محمد القرطبي الحافظ، وإبنا حوط الله، وغيرهم. وعليه من ختمت به المائة السادسة كأبي محمد بن جمهور، وأبي العباس بن خليل وإخوته الثلاثة أبي محمد عبد الله، وأبي زيد عبد الرحمن، وأبي محمد عبد الحق. قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير: حدثني عنه ابن خليل وأبو القاسم الجياني، وأبو الحسن بن السراج.
مولده: بلبلة في ربيع الأول سنة ست وثمانين وخمسماية. ذكره ابن الملجوم، وأبو الربيع بن سالم، وابن فرتون.
ابن أحمد بن الفخار الجذاميمحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن علي بن محمد ابن أحمد بن الفخار الجذامي يكنى أبا بكر، أركشي المولد المنشأ، مالقي الاستيطان، شريشي التدرب والقراءة.
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه الله خيراً صالحاً، شديد الانقباض، مغرقاً في باب الورع، سليم الباطن، كثير العكوف على العلم والملازمة، قليل الرياء والتصنع. خرج من بلده أركش عند استيلاء العدو على قصبتها، وكان يصفها، وينشد فيها من شعر أستاذه الأديب أبي الحسن الكرماني:
أكرم بأركش دارا ... تاهت على البدر قدرا
يخاطب المجد عنها ... لقلب تدنى شكرا

واستوطن مدينة شريش، وقرأ بها، وروى بها عن علمائها، واقرأ بها. ولما استولى العدو عليها لحق بالجزيرة الخضراء، فدرس بها، ثم عبر البحر إلى سبتة. فقرأ بها وروى. ثم كر إلى الأندلس، فقصد غرناطة، وأخذ عن أهلها. ثم استوطن مالقة، وتصدر للإقراء بها، مفيد التعليم، متفننه، من فقه وعربية وقراءات وأدب وحديث، عظيم الصبر، مستغرق الوقت، يدرس من لدن صلاة الصبح إلى الزوال. ثم يسند ظهره إلى طاق المسجد بعد ذلك، فيقرى، وتأتيه النساء من خلفه للفتيا، فيفتيهن عل حال سؤالا تهن إلى نصف ما بين العصر والعشاء الأولى. ثم يأتي المسجد الأعظم بعد الغروب، فيقعد للفتيا إلى العشاء الآخرة، من غير أن يقبل من أحد شيئاً. ومن أخذ منه بعد تحكيم الورع، أثابه بمثله. ما رئي في وقته أورع منه. وكان يتخذ رومية مملوكة، لا يشتمل منزله على سواها، فإذا أنس منها الضجر للحصر وتمادى الحجاب، أعتقها، وأصحبها إلى أرضها. ونشأت بينه وبين فقهاء بلده خصومة في أمور عدوها عليه، مما ارتكبها لاجتهاده في مناط الفتوى، وعقد لهم أمير المسلمين بالأندلس، مجلساً، أجلى عن ظهوره فيه، وبقاء رسمه، فكانت محنة، وخلصه الله منها. وبلغ من تعظيم الناس إياه، وانحياشهم إليه مبلغاً لم ينله مثله، وانتفع بتعليمه، واستفيد منه الأدب، على نسكه وسذاجته.
مشيختهقرأ ببلده شريش على المكتب الحاج أبي محمد عبد الله بن أبي بكر ابن داود القيسي، وعلى الأستاذ أبي بكر محمد بن الرباح، وعلى الأستاذ أبي الحسن علي بن إبراهيم بن حكيم السكوني الكرماني. أخذ عنه العربية والأدب، وعلى الحافظ أبي الحسن علي بن عيسى المعروف بابن متيوان، وعلى الأصولي الكاتب أبي الحسن هلال بن أبي سنان الأزدي المراكشي، وعلى الخطيب أبي العرب إسمعيل بن إبراهيم الأنصاري، وعلى الفقيه أبي عبد الله الجنيدي المعروف بالغراق؛ وعلى الفقيه العددي أبي عبد الله محمد بن علي بن يوسف المعروف بابن الكاتب المكناسي. وقرأ بالجزيرة الخضراء على الخطيب الصالح أبي محمد الركبي، وروى عنه، وقرأ بها على الخطيب أبي عبيد الله بن خميس، وعلى الأصولي أبي أمية. وقرأ بسبتة على الأستاذ الفرضي إمام النحاة أبي الحسن بن أبي الربيع، وعلى أبي يعقوب المحبساني، وعلى المحدث أبي عمرو عثمان بن عبد الله العبدري، وعلى الفقيه المالكي الحافظ أبي الحسن المتيوي، والأصولي أبي الحسن البصري، والفقيه المعمر الراوية أبي عبد الله محمد الأزدي، والمحدث الحافظ أبي محمد بن الكماد، وعلى الأستاذ العروضي الكفيف أبي الحسن بن الخضار التلمساني. ولقي بغرناطة قاضي الجماعة أبا القاسم ابن أبي عامر بن ربيع، والأستاذ أبا جعفر الطباع، وأبا الوليد إسمعيل ابن عيسى بن أبي الوليد الأزدي، والأستاذ أبا الحسن بن الصايغ. ولقي بمالقة الخطيب الصالح أبا محمد عبد العظيم بن الشيخ، والراوية أبا عبد الله محمد بن علي بن الحسن الجذامي السهيلي. وسمع على الراوية أبي عمرو ابن حوط الله، وعلى الأستاذ أبي عبد الله بن عباس القرطبي.
تواليفهكان رحمه الله مغري بالتأليف، فألف نحو الثلاثين تأليفاً في فنون مختلفة، منها كتاب تحبير نظم الجمان في تفسير أم القرآن، و " انتفاع الطلبة النبهاء في اجتماع السبعة القراء " . و " الأحاديث الأربعون بما ينتفع به القارئون والسامعون " ، وكتاب " منظوم الدرر في شرح كتاب المختصر " و " كتاب نصح المقالة في شرح الرسالة " ، وكتاب " الجواب المختصر المروم في تحريم سكنى المسلمين ببلاد الروم " ، وكتاب " استواء النهج في تحريم اللعب بالشطرنج " ، وكتاب " جواب البيان على مصارمة أهل الزمان " ، وكتاب تفضيل صلاة الصبح للجماعة في آخر الوقت المختار على صلاة الصبح للمنفرد في أول وقتها بالابتجدار " ، وكتاب " إرشاد السالك في بيان إسناد زياد عن مالك " ، وكتاب " الجوابات المجتمعة عن السؤالات المنوعة " ، وكتاب " إملا فوايد الدول في ابتداء مقاصد الجمل " وكتاب " منهج الضوابط المقسمة في شرح قوانين المقدمة " ، وكتاب " التكملة والتبرية في إعراب البسملة والتصلية " ، وكتاب " سح مزنة الانتخاب في شرح خطبة الكتاب " . ومنها اللايح المعتمد عليه في الرد على من رفع الخبر بلا إلى سيبويه، وغير ذلك من مجيد ومقصر.
شعره

وشعره كثير، غريب النزعة، دال على السذاجة، وعدم الاسترابة والشعور، والغفلة المعربة عن السلامة، من ارتكاب الحوشى، واقتحام الضرار، واسعمال الألفاظ المشتركة التي تتشبث بها أطراف الملاحين والمعاريض، ولع كثير من أهل زمانه بالرد عليه، والتملح بما يصدر عنه، منهم القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك.
ومن منتخب شعره قوله:
أنظر إلى ورد الرياض كأنه ... ديباج خد في بنان زبرجد
قد فتحته نضارة فبدا له ... في القلب رونق صفرةٍ كالعسجد
حكت الجوانب خدحب ناعم ... والقلب يحكى خد صب مكمد
حدث الفقيه العدل أبو جعفر أحمد بن مفضل المالقى، قال، قال لي يوماً الشيخ الأستاذ أبو بكر بن الفخار، خرجت ذات يوم وأنا شاب من حلقة الأستاذ بشريش، أعادها الله للإسلام، في جملة من الطلبة، وكان يقابل باب المسجد حانوت سراج، وإذا فتى وسيم في الحانوت يرقم جلداً كان في يده، فقالوا لي لاتجاوز هذا الباب، حتى تصنع لنا شعراً في هذا الفتى. فقلت:
ورب معذر للحب داع ... يروق بهاء منظره البهيج
وشى في وجنتيه وشياً ... كوشى يديه في أدم السروج
مولدهبحصن أركش بلده، وكان لا خبر به، في ما بين الثلاثين والأربعين وست ماية.
وفاتهتوفي بمالقة في عام ثلاثة وعشرين وسبعماية، وكانت جنازته بمالقة مشهورة
ابن العربيمحمد بن علي بن عمر بن يحيى بن العربي الغساني من أهل الحمة من عمل المرية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن العربي وينتمي في بني أسود من أعيانها.
حالهمن العايد: كان رحمه الله من أهل العلم والدين والفضل، طلق الوجه، حسن السير، كثير الحياء، كأنك إذا كلمته تخاطب البكر العذراء، لا تلقاه إلا مبتسماً، في حسن سمت، وفضل هوىً، وجميل وقار، كثير الخشوع، وخصوصاً عند الدهول في الصلاة، تلوح عليه بذلك، عند تلاوته سيمى الحضور، وحلاوة الإقبال. وكان له تحقق بضبط القراءات، والقيام عليها، وعناية بعلم العربية، مع مشاركة في غير ذلك من الفنون السنية، والعلوم الدينية. انتصب للإقراء والتدريس بالحمة المذكورة، فقرب النجعة على أهل الحصون والقرى الشرقية، فصار مجتمعاً لأرباب الطلب من أهل تلك الجهات ومرتفقاتهم. وكان رجلاً صالحاً، مبارك النية، حسن التعليم، نفع الله به من هنالك، وتخرج على يديه جمع وافر من الطلبة، عمرت بهم ساير الحصون. وكان له منزل رحب للقاصدين، ومنتدى عذب للواردين. تجول في آخرة بالأندلس والعدوة، وأخذ عمن لقى بها من العلماء، وأقام مدة بسبتة، مكباً على قراءة القرآن والعربية. وبعد عوده من تجواله لزم التصدر للإقراء بحيث ذكر، وقد كانت الحواضر فقيرة لمثله، غير آنه آثر الوطن، واختار الاقتصارد.
؟

مشيخته

أخذ يألمرية عن شيخها أبى الحسن بن أبى العيش، وبغرناطة عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، والعدل أبي الحسن بن مستقور. وببلش عن الأستاذ أبي عبد الله بن الكماد، والخطيب أبي جعفر بن الزيات. وبمالقة عن الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار، والشيخ أبي عبد الله محمد بن يحيى بن ربيع الأشعري. وبالجزيرة عن خطيبها أبي العباس بن خميس. وبسبتة عن الأستاذ أبي إسحق العافقي، والخطيب أبي عبد الله بن رشيد، والإمام الصالح أبي عبد الله محمد بن محمد بن حريث، والقاضي أبي عبد الله القرطبي، والزاهد أبي عبد الله بن معلى، الشيخ الخطيب أبي عبد الله العغماري. وبمكناسة عن القاضي وارياش. وبفاس من الحاج الخطيب أبي الربيع سليمان بن مفتاح اللجاي، والأستاذ أبي الحسن بن سليمان، والأستاذ أبي عبد الله بن أجروم الصنهاجي، والحاج أبي القاسم بن رجا ابن محمد بن علي وغيرهم، وكل من ذكر أجازله عامة، ألا قاضي مكناسة أبي عبد الله محمد بن علي الكلبي الشهير بوارياش.
مولده: في أول عام اثنين وثمانين وستماية وفاته: توفي بالحمة ليلة الإثنين الثامن عشر لشهر محرم عام ثمانية وأربعين وسبعماية.
اليتيممحمد بن علي بن محمد العبدري من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف باليتيم
حاله

كان رحمه الله أحد الظرفاء من أهل بلده، مليح الشكل، حسن الشيبة، لوذعياً في وقار، رشيق النظم والنثر، غزلا مع الصون، كثير الدعابة من غير إفحاش، غزير الأدب، حسن الصوت، رايق الخطبن بديع الوراقة، معسول الألفاظ، ممتع المجالسة، طيب العشرة. أدب الصبيان مدة، وعقد الشروط أخرى، وكان يقرأ كتب الحيدث والتفسير والرقايق للعامة بالمسجد الأعظم، بأعذب نغمة، وأمثل طريقة، مذ أزيد من ثلاثين سنة، لم يخل منها وقتاً إلا ليلتين، إحداهما بسبب امتساكناب به في نزهة برياض بعض الطلبة. لم يخلف مثله بعده. وخطب بقصبه مالقة، ومال أخيراً إلى نظر الطب، فكان الناس يميلون اليه، وينتفعون به لسياغ مشاركته، وعموم انقياده، وبره، وعمله على التودد والتجمل.
وجرى ذكره في " التاج المحلى " بما نصه: مجموع أدوات حسان، من خط ونغمة ولسان، أوراقه روض تضوع نسماته، وبشره صبح تتألق قسماته، ولايخفى سماته. يقرطس أغراض الدعابة ويصميها، ويفوق سهام الفكاهة إلى مراميها، فكلما صدرت في عصره قصيدة هازلة، أو أبيات منحطة عن الإجادة نازلة، خمس أبياتها وذيلها، وصرف معانيها وسهلها، وتركها سمر الندمان، وأضحوكة الزمان. وهو الآن خطيب المسجد الأعلى من مالقة، متحل بوقار وسكينة، حال من أهلها بمكانةٍ مكينة، لسهولة جانبه، واتضاح مقاصده في الخير ومذاهبه. ، واشتغل لأول أمره بالتعليم والتكتيب، وبلغ الغاية في الوقار والترتيب، وللشباب لم ينصل خضابه، ولا شلت للمشيب عضابه، ونفسه بالمحاسن كلفة، وشأنه كله هوى ومحبة، ولذلك ماخاطبه به بعض أودايه، وكلاهما رمى أهله بدايه، حسبما يأتي خلال هذا المقول وفي أثنايه بحول الله.
شعرهكتبت إليه أسأل منه ماأثبت في كتاب " التاج " من شعره، فكتب إلى:
أما العرام فلم أخلل بمذهبه ... فلم حرمت فؤادي نيل مطلبه
يامعرضاً عن فؤادٍ لم يزل كلفاً ... بحبه ذا حذار من تجنبه
قطعت عنه الذي عودته فغدا ... وحظه من رضاه برق خلبه
أيام وصلك مبذول وبرك بي ... مجدد قد صفا لي عذب مشربه
وسمع ودك عن إفك العواذل في ... شغلٍ وبدر الدجى ناسٍ لمغربه
ألأنت تمنعني نيل الرضا كرماً ... ولا فؤادي بوانٍ ف يتطلبه
لله عرفك ماأذكى تنسمه ... لو كنت تمنحني استشاق طيبه
أنت الحبيب الذي لم أتخذ بدلاً ... منه وحاش لقلبي من تقلبه
يا ابن الخطيب الذي قد فقت كل سناً ... أزال عن ناظري إظلام غيهبه
محمد الحسن في خلقٍ وفي خلق ... كملت باسمك معنى الحسن فازه به
نأيت أو غبت مالي عن هواك غنى ... لانيقص البدر حسناً في بتغيبه
سيان حال التداني والبعاد وهل ... لمبصر البدر نيل في ترقبه
يامن أحسن ظنى في رضاه وما ... ينفك يبدى قبيحاً من تغضبه
إن كان ذنبي الهوى فالقلب مني ... لايصغى لسمع ملامٍ من مؤنبه
فأجبته بهذه الرسالة، وهي ظريفة في معناها:

" ياسيدي، الذي إذا رفعت راية ثنايه تلقيتها باليدين، وإذا قسمت سهام وداده على ذوي اعتقاده، كنت صاحب الفريضة والدين، دام بقاؤك لطرفةٍ تبديها، وغريبةٍ تردفها، بأخرى تليها، وعقيلة بيان تحليها ونفس أخذ الحزن بكظمها، وكلف الدهر بشت نظمها، تونسها وتسليها، لم أزل أعزك الله، أشد على بدايعها بد الضنين، وأقتنى درر كلامك، ونفثات أقلامك، اقتناء الدر الثمين، والأيام بلقياك تعد ولا تسعد، وفي هذه الأيام انثالت على سماؤك بعد قحط، وتوالت على آلاوك على شحط، وزارتني من عقايل بيانك كل فاتنة الطرف، عاطرة العرف، رافلةٍ في حلل البيان والظرف، لو ضربت بيوتها بالحجار، لأقرت لنا العرب العاربة بالإعجاز، ماشيت من رصف المبنى، ومطاوعة اللفظ لغرض المعنى، وطيب الأسلوب، والتشبث بالقلوب. غير أن سيدى أفرط في التنزل، وخلط المخاطبة بالتغزل، وراجع الالتفات، ورام استدراك مافات. يرحم الله شاعر المعرة، فلقد أجاد في قوله، وأمكر مناجاةً للشوق، بعد انصرام حوله فقال:
أبعد حولٍ تناجي للشوق ناجية ... هلا ونحن على عشر من العشر
وقد تجاوزت في الأمل، وأنسيت أخبار صاحبك عبد الصمد، فأقسم بألفات القدود، وهمزات الجفون السود، وحاملى الأرواح مع الألواح، بالغدو والرواح، لولا بعد مزارك، ماأمنت غايلة ماتحت إزارك ثم إني حققت الغرض، وبحثت عن المشكل الذي عرض، فقلت للخواطر انتقال، ولكل مقام مقال، وتختلف الحوايج باختلاف الأوقات، ثم رفع اللبس خبر الثقات.
ومنها: وتعرفت ما كان من مراجعة سيدي لحرفة التكتيب والتعليم، والحنين إلى العهد القديم، فسررت باستقامة حاله، وفضل ماله، وإن لاحظ الملاحظ ماقال الجاحظ، فاعتراض لا يرد، وقياس لا يضطرد، جبذا والله عيش أهل التاديب، فلا بالضنك ولا بالجديب، معاهدة الإحسان.
ومشاهدة الصور الحسان، يميناً إن المعلمين لسادة المسلمين، وإني لأنظر منهم، كلما خطرت على المكاتب، أمراً فوق المراتب، من كل مسيطرالدرة، متقطب الأسرة، متنمر للوارد تنمر الهرة، يغدو إلى مكتبه، والأمير ف يموكبه، حتى إذا استقل في فرشه، واستولى على عرشه، وترنم بتلاوة قانونه وورشه، أطهر للخلق احتقاراً، وأندى بالجبال وقاراً، ورفعت إليه الخصوم، ووقف بين يديه الظالم والظلوم، فتقول كسرى في إيوانه، والرشيد في زمانه، والحجاج بين أعوانه. وإذا استولى على البدر السرار، وتبين للشهر القرار، وتحرك إلى الخوج، تحرك القرد إلى الفرج. أستغفر الله مما يشق على سيدي سماعه، وتشمئز من ذكراه طباعه، شيم اللسان، خلط الإساءة بالإحسان، والغفلة من صفات الإنسان.
فأي عيش هذا العيش، وكيف حال أمير هذا الجيش، طاعة معروقة، ووجوه إليه مصروفة، فإن أشار بالإنصات، تتحقق الفصات، فكأنما طمس الأفواه، ولام بين الشفاه. وإنه أمر بالإفصاح، وتلاوة الألواح، علا الضجيج والعجيج، وحف به كما حف بالبيت الحجيج. وكم بين ذلك من رشوة تدمن، وغمزة لاتحس، ووعد يستنجز، وحاجةٍ تستعجل وتحفز. هنا الله سيدي ماخوله، وأنساه بطيب آخره أوله. وقد بعثت بدعابتي هذه مع إجلال قدره، والثقة بسعة صدره، فليتلقها بيمينه، ويفسح لها في المرتبة بينه وبين خدينه، ويفرغ لمراجعتها وقتاً من أوقاته، بمقتضى دينه، وفضل يقينه، والسلام.
ومن شعره ما كتب به إلى:
آيات حسنك حج للقال ... في الحب قايمة على العذال
يا من سبا طوعاً عقول ذوي النهى ... ببلاغةٍ قد أيدت بجمال
يستعبد الأبصار والأسماع ما ... يجلو ويتلو من سنى مقال
وعليك أهواء النفوس بأسرها ... وقفت فطيرك لا يمر ببال
رفعت لريه في البلاغة راية ... لما احتللت بها وحيد كمال
وغدت تباهي منك بالبدر الذي ... تعنو البدور لنوره المتلال
مإذا ترى يا ابن الخطيب لخاطب ... وداً ينافس فيك كل مقال
جذبته نحو هواك غر محاسن ... مشفوعة أفرادها بمعال
وشمايل رقت لرقة طبعها ... فزلالها يزري بكل زلال
وحلى آداب بمثل نفيسها ... تزهو الحلا ويحل قدر الحال

يستخدم الياقوت عند نظامها ... فمقصر من قاسها بلال
سبق الأخير الأولين بفضلها ... فغدا المقدم تابعاً للتال
شغفي بذكر من عقايلها إذا ... تبدو تصان من الحجا بحجال
فابعث بها نلت المنا ممهورة ... طيب الثنا لنقدها والكال
لا زلت شمساً في الفضايل يهتدي ... بسناك في الأفعال والأقوال
ثم السلام عليك يترى ما تلت ... بكر الزمان رواف الآصال
ومن الدعابة، وقد وقعت إليها الإشارة من قبل، ما كتب به إليه صديقه الملاطف أبو علي بن عبد السلام:
أبا عبد الله نداء خل وفي ... جاء يمنحك النصيحة
إلى كم تألف الشبان غياً ... وخذلانا أما تخشى الفضيحة
فأجابه رحمه الله:
فديتك صاحب السمة المليحة ... ومن طابت أرومته الصريحة
ونم قلبي وضعت له محلاً ... فما عنه يحل بأن أزيحه
نأيت فدمع عيني في انسكاب ... وأكباد لفرقتكم قريحة
وطرفي لا يتاح له رقاد ... وهل نوم لأجفان جريحة
وزاد تشوقي أبيات شعر ... أتت منكم بألفاظ فصيحة
ولم تقصد بها جداً ولاكن ... قصدت بها مداعبة قبيحة
فقلت أتألف الشبان غيا ... وخذلانا أما تخشى الفضيحة
وفيهم حرفتي وقوام عيشي ... وأحوالي بخلطتهم نجيحة
وأمري فيهم أمر مطاع ... وأوجههم مصابيح صبيحة
وتعلم أنني رجل حصور ... وتعرف ذاك معرفة صحيحة
قال في التاج: ولما اشتهر المشيب بعارضه ولمته، وخفر الدهر لعمود صباه وإذمته، أقلع واسترجع، وتألم لما فرط وتوجع، وهو الآن من جلة الخطباء، طاهر العرض والثوب، خالص من الشوب، باد عليه قبول قابل التوب.
وفاته رحمه الله: في آخر صفر من عام خمسين وسبعماية في وقيعة الطاعون العام، ودخل غرناطة.
ومن الغرباء في هذا الباب
محمد بن مرزوق العجيسيمحمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن مرزوق العجيسي من أهل تلمسان، يكنى أبا عبد الله، ويلقب من الألقاب المشرقية بشمس الدين
حالههذا الرجل من طرف دهره ظرفاً وخصوصية ولطافة، مليح التوسل حسن اللقاء، مبذول البشر، كثير التودد، نظيف البزة، لطيف التأتي، خير البيت، طلق الوجه، خلوب اللسان، طيب الحديث، مقدر الألفاظ، عارف بالأبواب، درب على صحبة الملوك والأشراف، متقاض لإيثار السلاطين والأمراء، يسحرهم بخلابة لفظه، ويفتلهم في الذروة والغارب بتنزله، ويهتدي إلى أغراضهم الكمينة بحذقه، ويصنع غاشيتهم بتلطفه، ممزوج الدعابة بالوقار، والفكاهة بالنسك، والحشمة بالبسط، عظيم المشاركة لأهل وده، والتعصب لإخوانه، إلف مألوف، كثير الأتباع والعلق، مسخر الرقاع في سبيل الوساطة، مجدي الجاه، غاص المنزل بالطلبة، منقاد الدعوة، بارع الخط، أنيقه، عذب التلاوة، متسع الرواية، مشارك في فنون، من أصول وفروع وتفسير، يكتب ويشعر ويقيد ويؤلف، فلا يعدو السداد في ذلك، فارس منبر غير جزوع ولا هيابة. رحل إلى المشرق في كنف حشمة نم جناب والده رحمه الله، فحج وجاور، ولقي الجلة، ثم فارقة، وقد عرف بالمشرق حقه، وصرف وجهه إلى المغرب، فاشتمل عليه السلطان أبو الحسن أميره، اشتمالاً خلطه بنفسه، وجعله مفضي سره، وإمام جمعته وخطيب منبره، وأمين رسالته، فقدم في غرضها على الأندلس في أواخر عام ثمانية وأربعين وسبعماية، واجذبه سلطانها رحمه الله، وأجراه على تلك الوتيرة، فقلده الخطبة بمسجده في السادس لصفر عام ثلاثة وخمسين وسبعماية، وأقعده للإقراء بالمدرسة من حضرته. وفي أخريات عام أربعة وخمسين بعده أطرف عنه حفن بره، في أسلوب طماح ودالة، وسبيل هوى وقحة، فاغتنم العبرة، وانتهز الفرصة، وأنفذ في الرحيل العزمة، وانصرف عزيز الرحلة، مغبوط المنقلب، في أوايل شعبان عام أربعة وخمسين وسبعماية، فاستقر بباب ملك المغرب، أمير المؤمنين أبي عنان فارس في محل تجلة، وبساط قرب، مشترك الجاه، مجدي التوسط، ناجع الشفاعة، والله يتولاه ويزيده من فضله.
مشيخته

من كتابه المسمى عجالة المتسوفز المستجاز في ذكر من سمع من المشايخ دون من أجاز، من أئمة المغرب والشام والحجاز. فممن لقيه بالمدينة المشرفة على ساكنها الصلاة والسلام، الإمام العلامة عز الدين محمد أبو الحسن ابن علي بن إسمعيل الواسطي صاحب خطتي الإمامة والخطابة بالمسجد النبوي الكريم، وأفرد جزءاً في مناقبه. ومنهم الشيخ الإمام جمال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن خلف بن عيسى الخزرجي السعدي العبادي، تحمل عن عفيف الدين أبي محمد عبد السلام بن مزروع وأبي اليمن وغيره. والشيخ الإمام خادم الوقت بالمسجد الكريم ونائب الإمامة والخطابة به، ومنشد الأمداح النبوية هنالك. وبمكة شرفها الله، الشيخ المعمر الثقة شرف الدين أبو عبد الله عيسى بن عبد الله الحجي المكي. ولا شيخ الصالح شرف الدين خضر بن عبد الرحمن العجمي. والشيخ مقري الحرم برهان الدين إبراهيم بن مسعود بن إبراهيم الآبلي المصري. والشيخ الإمام الصالح أبو محمد عبد الله بن أسعد الشافعي الحجة، انتهت إليه الرياسة العلمية والخطط الشرعية بالحرم. والشيخ قاضي القضاة وخطيب الخطباء عز الدين أبو عمر عبد العزيز بن محمد بن جماعة الكناني قاضي القضاة بمصر. وبمصر الشيخ علاء الدين القونوي. والتقي السعدي، وقاضي القضاة القزويني، والشرف أقضى القضاة الإخميمي، وكثيرون غيرهم. وسمع من عدد عديد آخر من أعلام القضاة والحفاظ والعلماء بتونس، وبجابة، والزاب، وتلمسان.
محنتهاقتضى الخوض الواقع بين يدي تاميل الأمير أبي الحسن رحمه الله، وتوقع عودة الأمر إليه، وقد ألقاه اليم بالساحل بمدينة الجزاير، أن قبض عليه بتلمسان، أمراؤها المتوثبون عليها في هذه الفترة، من بني زيان، إرضاء لقبيلهم، المتهم بمداخلته، وقد رحل عنهم دسيساً من أميرهم عثمن بن يحيى بن عبد الرحمن بن يغمراسن، فصرف مأخوذاً عليه طريقه، منتهباً رحله، منتهكة حرمته، وأسكن قرارة مطبق عميق القعر، مقفل المسلك، حريز القفل، ثاني اثنين. ولأيام قتل ثانيه ذبحاً بمقربة من شفى تلك الركية، وانقطع لشدة لاثقاف أثره، أيقن الناس بفوات الأمر فيه. ولزمان من محنته ظهرت عليه بركة سلفه، في خبر ينظر بطرقه إلى الكرامة، فنجا ولا تسل كيف، وخلصه الله خلاصاً جميلاً، وقدم على الأندلس، والله ينفعه بمحنته.
شعره وما وقع من المكاتبة بيني وبينهركب مع السلطان خارج الحمراء، أيام ضربت اللوز قبابها البيض، وزينت الفحص العريض، والروض الأريض، فارتجل في ذلك:
أنظر إلى النوار في أغصانه ... يحكى النجوم إذا تبدت في الحلك
حياً أمير المسلمين وقال قد ... عميت بصيرة من بغيرك مثلك
يا يوسفاً حزت الجمال بأسره ... فمحاسن الأيام تومي هيت لك
أنت الذي صعدت به أوصافه ... فيقال فيه ذا مليك أو ملك
ولما قدمت على مدينة فاس في غرض الرسالة، خاطبني بمنزل الشاطبي على مرحلة منها بما نصه:
يا قادماً وافي بكل نجاج ... أبشر بما تلقاه من أفراح
هذي ذرى ملك الملوك فلذ بها ... تنل المنى وتفز بكل سماح
مغني الإمام أبي عنان يممن ... تظفر ببحر في العلى طفاح
من قاس جود أبي عنان ذي الندى ... بسواه قاس البحر بالضحضاح
ملك يفيض على العفاة نواله ... قبل السوال وقبل بسطة راح
فلجود كعب وابن سعدي في الندى ... ذكر محاه من نداه ماح
ما أن رأيت ولا سمعت بمثله ... من أريحي للندى مرتاح
بسط الأمان على الأنام فأصبحوا ... قد ألحفوا منه بظل جناح
وهمي على العافين سيب نواله ... حتى حكى سح الغمام الساح
فنواله وجلاله وفعاله فاقت ... وأعيت ألسن المداح
وبه الدنا أضحت تروق وأصبحت كل المنى تنقاد بعد جماح
من كان ذا ترح فرؤية وجهه ... متلافة الأحزان والأتراح
فانهض أبا عبد الإله تفز بما ... تبغيه من أمل ونيل نجاح
لا زلت ترتشف الأماني راحة ... من راحة المولى بكل صباح

والحمد لله يا سيدي وأخي على نعمه التي لا تحصى حمداً يؤم به جميعنا المقصد الأسنى، فيبلغ الأمد الأقصى، فطالما كان معظم سيدي للأسى في خبال، وللأسف بين اشتغال بال، واشتغال بلبال، ولقدومكم على هذا المقام العلي في ارتقاب، ولمواعدكم بذلك في تحقق وقوعه من غير شك ولا ارتياب، فها أنت تجتلي، من هذا المقام العلي، لتشيعك وجوه المسرات صباحاً، وتتلقى أحاديث مكارمه ومواهبه مسندة صحاحاً بحول الله. ولسيدي الفضل في قبول مركوبه الواصل إليه بسرجه ولجامه، فهو من بعض ما لدي المحب من إحسان مولاي وإنعامه. ولعمري لقد كان وافداً على سيدي في مستقره مع غيره. فالحمد لله الذي يسر في إيصاله على أفضل أحواله.
فراجعته بقولي:
راحت تذكرني كؤوس الراح ... والقرب يخفض للجنوح جناح
وسرت تدل على القبول كأنما ... دل النسيم على انبلاج صباح
حسناء قد غنيت بحسن صفاتها ... عن دملج وقلادة ووشاح
أمست تحض على اللياذ بمن جرت ... بسعوده الأقلام في الأفراح
بخليفة الله المؤيد فارس ... شمس المعالي الأزهر الوضاح
ما شيت من همم ومن سيم غدت ... كالزهر أو كالزهر في الأدواح
فضل الملوك فليس يدرك شأوه ... أني يقاس الغمر بالضحضاح
أسنى بني عباسهم بلوانه المنصور أو بحسامه السفاح
وغدت مغاني الملك لما حلها ... تزهي ببدر هدى وبحر سماح
وحياة من أهداك تحفة قادم ... في العرف منها راحة الأرواح
ما زلت أجعل ذكره وثناءه ... روحي وريحاني الأريج وراح
ولقد تمازج حبه بجوارحي ... كتمازج الأجسام بالأرواح
ولو أنني أبصرت يوماً في يدي ... أمري لطرت إليه دون جناح
فالأن ساعدني الزمان وأيقنت ... من قربه نفسي بفوز قداح
إيه أبا عبد الإلآه وإنه ... لنداء ود في علاك صراح
أما إذا استنجدتني من بعد ما ... ركدت لما خبت الخطوب رياح
فأليكها مهزولة وأنا امرؤ ... قررت عجزي وأطرحت سلاح

سيدي: أبقاك الله لعهد تحفظه، وولي بعين الولاء تلحظه. وصلتني رقعتك التي ابتدعت، وبالحق من مدح المولى الخليفة صدعت، وألفتني وقد سطت بي الأوحال، حتى كادت تتلف الرحال، والحاجة إلى الغذاء، قد شمرت كشح البطين، وثانية العجماوين قد توقع فوات وقتها، وإن كانت صلاتها صلاة الطين، والفكر قد غاض معينه، وضعف وعلى الله جزاء المولى الذي يعينه، فعزتني بكتيبة بيان أسدها هصور، وعلمها منصور، وألفاظها ليس فيها قصور، ومعانيها عليها الحسن مقصور، واعتراف مثلي بالعجز في المضايق حول ومنة، وقول لا أدري للعالم فكيف لغيره جنة. لا كنها بشرتني بما يقل لمهديه بذل النفوس وإن جلت، وأطلعتني من اسراء على وجه تحسده الشمس إذا تجلت، بما أعلمت به من جميل اعتقاد مولانا أمير المؤمنين أيده الله، في عبده، وصدق المخيلة في كرم مجده. وهذا هو الجود المحض، والفضل الذي شكره هو الفرض. وتلك الخلافة المولوية تتصف بصفة من يبدأ بالنوال، من قبل الضراعة والسؤال، من غير اعتبار للأسباب، ولا مجازاة للأعمال. نسأل الله أن يبقى منها على الإسلام أوفي الظلال، ويبلغها من فضله أقصى الآمال. ووصل ما بعثه سيدي صحبتها من الهدية، والتحفة الودية، وقبلتها امتثالاً، واستجليت منها عتقاً وجمالاً. وسيدي في الوقت أنسب إلى اتخاذ ذلك الجنس، وأقدر على الاستكثار من إناث اليهم والإنس. وأنا ضعيف القدرة، غير مستطيع لذلك إلا في الندرة، فلو رأى سيدي، ورأيه سداد، وقصده فضل ووداد، أن ينقل القضية إلى باب العارية من باب الهبة مع وجوب الحقوق المترتبة، لبسط خاطري وجمعه، وعمل في رفع المؤنة على شاكلة ونجره، وسيدي في الإسعاف على الله أجره، وهذا أمر عرض، وفرض فرض، وعلى نظره المعول، واعتماد إغضائه هو المعقول الأول. والسلام على سيدي من معظم قدره، وملتزم بره، ابن الخطيب، في ليلة الأحد السابع والعشرين لذي قعدة سنة خمسة وخمسين وسبعماية، والسماء قد جادت بمطر سهرت منه الأجفان، وظن أنه طوفان، واللحاق في غد بالباب المولوي، مؤمل بحول الله.
ومن الشعر المنسوب إلى محاسنه، ما أنشد عنه، وبين يديه، في ليلة الميلاد المعظم، من عام ثلاثة وستين وسبعماية بمدينة فاس المحروسة:
أيا نسيم السحر ... بالله بلغ خبر
إن أنت يوماً بالحمى ... جررت فضل المثزر
ثم حثثت الخطو من ... فوق الكثيب الأعفر
مستقرياً في عشبه ... خفى وطئ المطر
تروى عن الضحاك في الروض حديث الزهر
مخلق الأذيال ... بالعبير أو بالعنبر
وصف لجيران الحمى ... وجدي بهم وسهري
وحقهم ما غيرت ... ودي صروف الغير
لله عهد فيه قضيت حميد الأثر
أيامه هي التي أحسبها من عمري
ويا لليل فيه ما ... عيب بغير القصر
العمر فينان ووجه الدهر طلق الغرر
والشمل بالأحباب منظوم كنظم الدرر
صفو من العيش بلا ... شائبة من كدر
ما بين أهل تقطف ... الأنس حنى الثمر
وبين آمال تبيح القرب صافي الغدر
يا شجرات الحي حياك الحيا من شجر
إذا أجال الشوق في ... تلك المغاني فكري
خرجت من خدي حديث الدمع فوق الطرر
وقلت يا خد ارو من ... دمعي صحاح الجوهري
عهدي بحادي الركب ... كالورقاء عند السحر
والعيس تجتاب الفلا ... واليعملات تنبرى
تخبط بالأخفاف مظلوم البرا وهو بري
قد عطفت عن ميد ... والتفت عن حور
قسي سير ما سوى العزم لها من وتر
حتى إذا الأعلام حلست لحفي البشر
واسبتشر النازح بالقرب ونيل الوطر
وعين الميقات للسفر نجاح السفر
والناس بين محرم ... بالحج أو معتمر
لبيك لبيك إله الخلق باري الصور
ولاحت الكعبة بيت الله ذات الأثر
مقام إبراهيم والمأمن عند الذعر
واغتنم القوم طواف القادم المبتدر
وأعقبوا ركعتي السعي استلام الحجر
وعرفوا في عرفات ... كل عرف أذفر
ثم أفاض الناس سعياً في غد للمشعر ==

الاحاطة 6.

كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة لسان الدين ابن الخطيب

فوقفوا وكبروا ... قبل الصباح المسفر
وفي منى نالوا المنى ... وأيقنوا بالظفر
وبعد رمى الجمرا ... ت كان حلق الشعر
أكرم بذاك الصحب ... والله وذاك النفر
يا فوزه من موقف ... يا ربحه من متجر
حتى إذا كان الودا ... تع وطواف الصدر
فأي صبر لم يخن ... أو جلد لم يغدر
وأي وجد لم يصل ... وسلوة لم تهجر
ما أفجع البين لقلب الواله المستغفر
ثم ثنوا نحو رسو ... ل الله سير الضمر
فعاينوا في طيبة ... لألاء نور نير
زاروا رسول الله واستشفعوا بلثم الجدر
نالوا به ما أملوا ... وعرجوا في الأثر
على الضجيعين أبى ... بكر الرضا وعمر
زيارة الهادي الشفيع جنة في المحشر
فأحسن الله عزا ... ء قاصد لم يزر
ربع ترى مستنزل الآي به والسور
وملتقى جبريل بالهادي الزكي العنصر
وروضة الجنة بين روضة ومنبر
منخب الله ومختار الورى من مضر
والمنتقى والكون من ... ملابس الخلق عرى
إذ لم يكن في أفق ... من زحل أو مشتر
ذو المعجزات الغر أمثال النجوم الزهر
يشهد بالصدق له ... منها انشقاق القمر
والضب والظبي إلى ... نطق الحصى والشجر
من أطعم الألف بصا ... ع في صحيح الخبر
والجيش رواه بما ... ء الراحة المنهمر
يا نكتة الكون التي ... فاتت منال الفكر
يا حجة الله على الرا ... ئح والمبتكر
يا أكرم الرسل على ... الله وخير البشر
يا من لدي مولده المقدس المطهر
إيوان كسرى ارتج إذ ... ضاقت قصور قيصر
وموقد النار طفا ... كأنها لم تسعر
يا عمدتي يا ملجئي ... يا مفزعي يا وزري
يا من له اللواء والحوض وورد الكوثر
يا منقد الغرقي وهم ... رهن العذاب الأكبر
إن لم تحقق أملي ... بؤت بسعي المخبر
صلى عليك الله يا ... نور الدجا المعتكر
يا ويح نفسي كم أرى ... من غفلتي في غمر
واحسروا من قلة الزاد وبعد السفر
يحجني والله بالبرهان وعظ المنبر
يا حسنها من خطب ... لو حركت من نظر
يا حسنها من شجر ... لو أورقت من ثمر
أومل الأوبة والأمر بكف القدر
أسوف العزم بها ... من شهر لشهر
من صفر لرجب ... من رجب لصفر
وليس ما مر من ... الأيام بالمنتظر
وقل ما أن حمدت ... سلامة في غرر
ولي غريم لا يني ... عن طلب المنكسر
يا نفس جدي قد بدا الصبح ألا فاعتبري
واتعظي بمن مضى وارتدعى وازدجرى
ما بعد شيب الفود من ... مرتقب فشمري
أنت وإن طال المدى ... في قلعة أو سفر
وليس من عذر يقيم حجة المعتذر
يا ليت شعري والمنى ... تسرق طيب العمر
هل ارتجى من عودة ... أو رجعة أو صدر
مقتدياً بمن مضى ... من سلف ومعثر
نالوا جوار الله وهو الفخر للمفتخر
أرجو بإبراهيم مو ... لانا بلوغ الوطر
فوعده لا يمتزي ... في الصدق منه الممتر
فهو الإمام المرتضى ... والخير ابن الخير
أكرم من نال المنى ... بالمرهفات البتر
ممهد الملك وسيف الحق والليث الجري
خليفة الله الذي ... فاق بحسن السير
وكان منه الخبر في ... العلباء وفق الخبر
فصدق التصديق من مرآه للتصور
ومستعين الله في ... ورد له وصدر
فاق الملوك الصيد بالمجد الرفيع الخطر
فأصبحت ألقابهم ... منسية لم تذكر

وحاز منهم أوحد ... وصف العديد الأكثر
برأيه المأمون أو ... عسكره المظفر
بسيفه السفاح أو ... بعزمه المقتدر
بالعلم المنصور أو ... بالذابل المستنصر
بابن الإمام الطاهر البر الزكي السير
مدحك قد علم نظم الشعر من لم يشعر
فإن يقصر ظاهري ... فلم يقصر مضور
ووردت على باب السلطان الكبير العالم أبي عنان، فبلوت من مشاركته. وحميد سعيه، ما يليق بمثله. ولما نكبه لم أقصر عن ممكن حيلة في أمره ولما هلك السلطان أبو عنان رحمه الله، وصار الأمر لأخيه المتلاحق من الأندلس أبي سالم بعد الولد المسمى بالسعيد كان ممن دمث له الطاعة، وأناخ راحلة الملك، وحلب ضرع الدعوة، وخطب عروس الموهبة، فأنشب ظفره في متات معقود من لدن الأب، مشدود من لدن القربة، فاستحكم عن قرب، واستغلظ عن كثب، فاستولى على أمره، وخلطه بنفسه، ولم يستأثر عنه ببثة، ولا انفرد بما سوى بضع أهله. بحيث لا يقطع في شيء إا عن رأيه، ولا يمحو ويثبت إلا واقفاً عند حده، فغشيت بابه الوفود، وصرفت إليه الوجوه، ووقفت عليه الآمال، وخدمته الأشراف، وجلبت إلى سدته بضايع العقول والأموال، وهادته وخدمته الأشراف، وجلبت إلى سدته بضايع العقول والأموال، وهادته الملوك، فلا تحدو الحداة إلا إليه، ولا تحط الرحال إلا لديه. إن حضر أجرى الرسم، وأنفذ الأمر والنهي لحظاً أو سراراً أو مكاتبة، وإن غاب، ترددت الرقاع، واختلفت الرسل. ثم انفرد أخيراً ببيت الخلوة، ومنتبذ المناجاة، من دونه مصطف الوزراء، وغايات الحجاب، فإذا انصرف تبعته الدنيا، وسارت بين يديه الوزراء، ووقفت ببابه الأمراء، قد وسع الكل لحظه، وشملهم بحسب الرتب والأموال رعيه، ووسم أفذادهم تسويده، وعقدت ببنان عليتهم بنانه. لاكن رضي الناس غاية لا تدرك، والحقد بين بني آدم قديم، وقبيل الملك مباين لمثله، فطويت الجوانح منه على سل، وحنيت الضلوع على بث، وأغمضت الجفون على قذى إلى أن كان من نكبته ما هو معروف جعلها الله له طهوراً.
ولما جرت الحادثة على السلطان بالأندلس، وكان لحاق جميعنا بالمغرب، جنيت ثمرة ما أسلفته في وده، فوفي كيل الوفا، وأشرك في الجاه، وأدر الرزق، ورفع المجلس بعد التسبيب في الخلاص، والسعي في الجبر، جبره الله تعإلى وكان له أحوج ما يكون إلى ذلك، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
ولما انقضى أمر سلطانه رحمه الله، وقذف به بحر التمحيص إلى شطه، وأضحى جو النكبة بعد انطباقه، آثر التشريق بأهله وجملته، واستقر بتونس، خطيب الخلافة، مقيماً على رسمه من التجلة، ذايع الفضل هنالك والمشاركة، وهو بحاله الموصوفة إلى الآن كان الله له.

وكنت أحسست منه في بعض الكتب الواردة، صاغية إلى الدنيا، وحنيناً لما فارق من غرورها، فحملني الطور الذي ارتكبته في هذه الأيام بتوفيق الله، على أن خاطبته بهذه الرسالة، وحقها أن يجعلها خدمة الملوك ممن ينسب إلى نبل، أو يلم بمعرفة، مصحفاً يدرسه، وشعاراً يلتزمه، وهي: سيدي، الذي يده البيضاء لم تذهب بشهرتها المكافاة، ولم تختلف في مدحها الأفعال، ولا تغايرت في حمدها الصفات، ولا تزال تعترف بها العظام الرفات، أطلقك الله من أسر الكون، كما أطلقك من أسر بعضه، ورشدك في سمايه العالية وأرضه، وحقر الحظ في عين بصيرتك بما يحملك على رفضه. اتصل بي الخبر السار من تركك لشأنك، وإجناء الله إياك ثمرة إحسانك، وإنجياب ظلام الشدة الحالك، عن أفق حالك. فكبرت لانتشاق عفو الله العاطر، واستعبرت لتضاؤل الشدة بين يدي الفرج، لا بسوى ذلك من رضى مخلوق يومر فيأتمر، ويدعوه القضاء فيبتدر، إنما هو فيئ وظل ليس له من الأمر شيء، ونسأله جل وتعإلى أن يجعلها آخر عهدك بالدنيا وبنيها، وأول معارج نفسك، التي تقربها من الحق وتدنيها، وكأنني والله أحس بثقل هذه الدعوة على سمعك، ومضادتها ولا حول ولا قوة إلا بالله لطبعك، وأنا أنافرك إلى العقل الذي هو قسطاس الله في عالم الإنسان، والآلة لبث العدلي والإحسان، والملك الذي يبين عنه ترجمان اللسان، فأقول ليمت شعرى ما الذي غبط سيدى بالدنيا. وإن بلغ من زبرجها الرتبة العليا، وأفرض المثال لحالة إقبالها، ووصل حبالها، وضراعة سبالها، وخشوع جبالها. ألتوقع المكروه صباح مسا، وارتقاب الحوالة التي تديل من النعيم الباسا، ولزوم المنافسة التي تعادى الأشراف والرؤسا. ألترثبق العتب، حتى على التقصير في الكتب، وظعينة جار الجنب، وولوع الصديق بإحصاء الذنب. ألنسبة وقايع الدولة إليك وأنت بري، وتطويقك الموبقات وأنت منها عرى. ألا ستهدافك للمضار التي تنتجها غيرة الفروج، والأحقاد التي تضطبنها ركبة السروج وسرحة المروج، ونجوم السما ذات البروج. ألتقليدك التقصير فيما ضاقت عنه طاقتك، وصحت إليه فاقتك، من حاجة لا يقتضي قضاها الوجود، ولا يكيفها الركوع للملك والسجود. ألقطع الزمان بين سلطان يعبد، وسهام للغيوب تكبد، وعجاجة شر تلبد، وأقبوحة تخلد وتوبد ألوزير يصانع ويداري، وذي حجة صحيحة يجادل في مرضاة السلطان ويمارى، وعورة لاتوارى. ألمباكرة كل عايب حاسد، وعدو ومستأسد، وسوق للإنصاف والشفقة كاسد، وحال فاسد، أللوفود تتزاحم بسدتك، مكلفة لك غير ما في طوقك، فإن لم تنل أغراضها، قلبت عليك السما من فوقك. ألجلساء ببابك، لا يقطعون زمن رجوعك وإيابك، إلا بقبيح اغتيابك، فالتصرفات تمقت، والقواطع النجوميات توقت، والألاقى تبث، والسعايات تحث، والسماجد يشتكى قيها البث، يعتقدون أن السلطان في يدك، بمنزلة الحمار المدبور، واليتيم المحجور، والأسير المامور، ليس له شهرة ولا غضب. ولا أمل في الملك ولا أرب، ولا موجدى لأحد كامنة، وللشر ضامنة، وليس في نفسه عن رأي نفرى، ولا بإزاء مالا يقبله نزوة وطفرة، إنما هو جارحة لصيدك، وعان في قيدك، وآلة لتصرف كيدك، وأنك علة حيفه، ومسلط سيفه. الشرار يسملون عيون الناس باسمك، ثم يمزقون بالغيبة مزق جسمك، قد تنخلهم الوجود أخبث مافيه، واختارهم السفيه فالسفيه، إذا الخير يسره الله عن الدول ويخفيه، ويقنعه بالقليل فيكفيه. فهم يمتاحون بك، ويولونك الملامة، ويقتحمون عليك أبواب القول، ويسدون طرق السلامة، وليس لك في أثناء هذه إلا مايعوزك مع ارتفاعه، ولايفوتك مع انقشاعه، وذهاب صداعه، من غذاء يشبع، وثوب يقنع، وفراش ينيهم، وخديم يقعد ويقيم. وماالفاية في فرش تحتها حمر الغضا، ومال من ورايه سوء القضا، وجاه يحلق عليه سيف مننضا، وإذا بلغت النفس إلى الالتذاذ بما لاتملك، واللجاج حول المسقط الذي تعلم أنها فيه تملك، فكيف ينسب إلى نبل أو يسر مع السعادة في سبل، وإن وجدت في القعود بمجلس التحية بعض الأريحية، فليت شعرى أي شيء زادها، أو معنى أفادها، إلا مباكرة وجه الحاسد، وذي القلب الفاسد، ومواجهة العدو المستاسد. أو شعرت ببعض الإيناس في الركوب بين الناس، هل التذت إلا بحلم كاذب، أو جذبها غير الغرور مجاذب. إنما الحلية وافتك من يحدق إلى البزة، ويستطيل مدة العزة، ويرتاب إذا حدث بخبرك، ويتبع بالنقد والتجسس مواقع نظرك

ويمنعك من شارة أنسك، ويحتال على فراغ كيسك، ويضمر الشر لك ولرسيك، وأي راحة لمن لايباشر قصده، ويسير متى شا وحده، ولو صح في هذه الحال لله حظ، وهبه زهيداً، أوعين للرشد عملاً حميداً، لساغ الصاب، وخفت الأوصاب، وسهل المصاب. لاكن الوقت أشغل والفكر أوغل، والزمن قد غمرته الحصص الوهمية، واستنفدت منه الكمية. أما ليله ففكر أو نوم، وعتب يجر الضراس ولوم، وأما يومه فتدبير، وقبيل ودبير، وأمور يعيا بها ثبير، وبلاء مبير، ولغط لايدخل فيه حكيم كبير، وأنا بمثل ذلك خبير. ووالله ياسيدي، ومن فلق الحب وأخرج الأب، وذرا من مشى ومادب، وسمى نفسه الرب، لو تعلق المال الذي يجده هذا الكدح، ويورى سقيطه هذا القدح، بإذيال الكواكب، وزاحمت البدر بدره بالمناكب، لاورثه عقب، ولاخلص به محتقب، ولا فاز به سافر ولا منتقب. والشاهد الدول والمشايم الأول. فأين الرباع المقتناة، وأين الديار المبتداة، وأين الحدايق المغترسات، وأين الذخاير المختلسات، وأين الودايع المؤملة، وأين الأمانات المحملة، تأذن الله بتتبيرها، وإدناء وتار التيار من دنانيرها، فقفلما تلقى أعقابهم إلا أعرباً للطمور، مترمقين بجرايات الشهور، متعللين بالهباء المنثور، يطردون من الأبواب التي حجب عندها آباؤهم، وعرف منها إباؤهم، وشم من مقاصيرها عنبرهم وكباؤهم، لم تسامحهم الأيام إلا في إرث محررٍ، أو حلال مقرر، وربما محقة الحرام، وتعذر منه المرام. هذه أعزك الله حال قبولها مالها مع الترفيه، وعلى فرض أن يستوفي العمر في العز مستوفيه. وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم، وحوت بغى يبتلع ويلتقم، وطبق يحجب الهواء ويطيل في التراب الثوا، وثعبان قميد يعض الساق، وشوبوب عذاب يمزق الإبشار الرقاق، وغيلة يهديها الواقب الغاسق، ويوجرعها العدو الفاسق، مع الأفوال ولا شروق، فهل في شئ من هذا مغتبط لنفس حرة، أو مايساوى جرعة حالٍ مرة. . واحسرتاه للأحلام ضلت، وللأقدام زلت، ويالها مصيبة جلت، ولسيدي أن يقول حكمت على باستثقال الموعظة واستجفانها، ومراودة الدنيا بين خلانها وأكفايها، وتناسى عدم وفايها، فأقول الطبيب بالعلل أدرى، والشفيق بسوء الظن مغرى. وكيف لا وأنا أقف على السحاآت، بخط سيدي، من مطارح الاعتقال، ومثاقف النوب الثقال، وحلوات الاستعداد للقاء الخطوب الشداد، ونوش الأسنة الحداد، وحيث يجمل تمثله ألا تصرف في غير الخضوع لله بناناً، ولايثنى لمخلوق عناناً. وأتعرف أنها قد ملأت الجو الدو، وقصدت الجماد والبو، تقتحم أكف أولى الشمات، وحفظة المذمات، وأعوان النوب الملمات، زيادة في الشقا، وقصد أبرياء من الاختيار والانتق، مشتملة من التجاوز على إغرب من العنقا، ومن النقاق على أشهر من البلقا. فهذا يوصف بالإمامة، وهذا ينسب في الجود إلى كعب بن مامة، وهذا يجعل من أهل الكرامة، وهذا يجعل من أهل الكرامة، وهذا يكلف الدعاء وليس من أهل، وهذا يطلب منه لقا الصالحين وليسوا من شكله، إلى ما أحفظنى والله من البحث عن السموم، وكتب النجوم، والمذموم من المعلوم، هلا كان من ينظر في ذلك قد قوطع بتاتاً، وأعتقد أن الله جعل لزمن الخير والشر ميقاتاً، وأنا لانملك موتاً ولا نشوراً ولا حياتاً، وأن اللوح قد حصر الأشياء محوراً وإثباتاً، فكيف نرجو لما منع منالاً، أو نستطيع مما قدر إفلاتاً. أفيدونا ما يرجح العقيدة المقررة، نتحول إليه، وبينوا لنا الحق، نعول عليه. الله الله ياسيدي في النفس المرشحة، وللذات المحلات بالفضايل الموشحة، والسلف الشهير الخير، والعمر المشرف على الرحلة بعد حث السير، ودع الدنيا لأهلها، فما أركس حطوظهم، وأخس لحوظهم، وأقل متاعهم، وأعجل إسراعهم، وأكثر عناؤهم، وأقصر أناؤهم:ك من شارة أنسك، ويحتال على فراغ كيسك، ويضمر الشر لك ولرسيك، وأي راحة لمن لايباشر قصده، ويسير متى شا وحده، ولو صح في هذه الحال لله حظ، وهبه زهيداً، أوعين للرشد عملاً حميداً، لساغ الصاب، وخفت الأوصاب، وسهل المصاب. لاكن الوقت أشغل والفكر أوغل، والزمن قد غمرته الحصص الوهمية، واستنفدت منه الكمية. أما ليله ففكر أو نوم، وعتب يجر الضراس ولوم، وأما يومه فتدبير، وقبيل ودبير، وأمور يعيا بها ثبير، وبلاء مبير، ولغط لايدخل فيه حكيم كبير، وأنا بمثل ذلك خبير. ووالله ياسيدي، ومن فلق الحب وأخرج الأب، وذرا من مشى ومادب، وسمى نفسه الرب، لو تعلق المال الذي يجده هذا الكدح، ويورى سقيطه هذا القدح، بإذيال الكواكب، وزاحمت البدر بدره بالمناكب، لاورثه عقب، ولاخلص به محتقب، ولا فاز به سافر ولا منتقب. والشاهد الدول والمشايم الأول. فأين الرباع المقتناة، وأين الديار المبتداة، وأين الحدايق المغترسات، وأين الذخاير المختلسات، وأين الودايع المؤملة، وأين الأمانات المحملة، تأذن الله بتتبيرها، وإدناء وتار التيار من دنانيرها، فقفلما تلقى أعقابهم إلا أعرباً للطمور، مترمقين بجرايات الشهور، متعللين بالهباء المنثور، يطردون من الأبواب التي حجب عندها آباؤهم، وعرف منها إباؤهم، وشم من مقاصيرها عنبرهم وكباؤهم، لم تسامحهم الأيام إلا في إرث محررٍ، أو حلال مقرر، وربما محقة الحرام، وتعذر منه المرام. هذه أعزك الله حال قبولها مالها مع الترفيه، وعلى فرض أن يستوفي العمر في العز مستوفيه. وأما ضده من عدو يتحكم وينتقم، وحوت بغى يبتلع ويلتقم، وطبق يحجب الهواء ويطيل في التراب الثوا، وثعبان قميد يعض الساق، وشوبوب عذاب يمزق الإبشار الرقاق، وغيلة يهديها الواقب الغاسق، ويوجرعها العدو الفاسق، مع الأفوال ولا شروق، فهل في شئ من هذا مغتبط لنفس حرة، أو مايساوى جرعة حالٍ مرة. . واحسرتاه للأحلام ضلت، وللأقدام زلت، ويالها مصيبة جلت، ولسيدي أن يقول حكمت على باستثقال الموعظة واستجفانها، ومراودة الدنيا بين خلانها وأكفايها، وتناسى عدم وفايها، فأقول الطبيب بالعلل أدرى، والشفيق بسوء الظن مغرى. وكيف لا وأنا أقف على السحاآت، بخط سيدي، من مطارح الاعتقال، ومثاقف النوب الثقال، وحلوات الاستعداد للقاء الخطوب الشداد، ونوش الأسنة الحداد، وحيث يجمل تمثله ألا تصرف في غير الخضوع لله بناناً، ولايثنى لمخلوق عناناً. وأتعرف أنها قد ملأت الجو الدو، وقصدت الجماد والبو، تقتحم أكف أولى الشمات، وحفظة المذمات، وأعوان النوب الملمات، زيادة في الشقا، وقصد أبرياء من الاختيار والانتق، مشتملة من التجاوز على إغرب من العنقا، ومن النقاق على أشهر من البلقا. فهذا يوصف بالإمامة، وهذا ينسب في الجود إلى كعب بن مامة، وهذا يجعل من أهل الكرامة، وهذا يجعل من أهل الكرامة، وهذا يكلف الدعاء وليس من أهل، وهذا يطلب منه لقا الصالحين وليسوا من شكله، إلى ما أحفظنى والله من البحث عن السموم، وكتب النجوم، والمذموم من المعلوم، هلا كان من ينظر في ذلك قد قوطع بتاتاً، وأعتقد أن الله جعل لزمن الخير والشر ميقاتاً، وأنا لانملك موتاً ولا نشوراً ولا حياتاً، وأن اللوح قد حصر الأشياء محوراً وإثباتاً، فكيف نرجو لما منع منالاً، أو نستطيع مما قدر إفلاتاً. أفيدونا ما يرجح العقيدة المقررة، نتحول إليه، وبينوا لنا الحق، نعول عليه. الله الله ياسيدي في النفس المرشحة، وللذات المحلات بالفضايل الموشحة، والسلف الشهير الخير، والعمر المشرف على الرحلة بعد حث السير، ودع الدنيا لأهلها، فما أركس حطوظهم، وأخس لحوظهم، وأقل متاعهم، وأعجل إسراعهم، وأكثر عناؤهم، وأقصر أناؤهم:

ماتم إلا ما رأيت ... وربما تعي السلامة
والناس إما جائر ... أو حاير يشكو ظلامه
والله ما احتقب الحريص سوى الذنوب أو الملامة
هل ثم شك في المعاد ... الحق أو يوم القيامة
قولوا لنا ماعندكم ... أهل الخطابة والإمامة

وإن رميت بأحجارى، وأوحرت المر من أشجارى، فوالله ماتلبست منها لليوم بشيء قديم ولا حديث، ولا استاثرت بطيب فضلاً عن خبيث. وما أنا إلا عابر سبيل، وهاجر مرعى وبيل، ومرتقب وعد قدر فيه الإنجاز، وعاكف على حقيقة لا تعرف المجاز قد فررت من الدنيا كما يفر من الأسد، وحاولت المقاطعة، حتى بين روحي والجسد، وغسل الله قلبي، وله الحمد، من الطمع والحسد، فلم أبق عادة إلا قطعتها، ولا جنة للصبر إلا ادرعتها. أما اللباس فالصوف، وأما الزهد فيما في أيدي الناس فمعروف، وأما المال الغبيط فعلى الصدقة مصروف. ووالله لو علمت أن حالي هذه تتصل، وعراها لاتنفصل، وأن ترتيبي هذا يدوم، ولا يجيزني الوعد المحتوم، والوقت المعلوم، لمت أسفاً، وحسبي الله وكفا ومع هذا ياسيدي، فالموعظة تتلقى من لسان الوجود، والحكمة ضالة المؤمن يطلبها ببذل المجهود، ويأخذها من غير اعتبار بمحلها المذموم أو المحمود. ولقد أعملت نظرى فيما يكافئ عني بعض يدك، أو ينتمي في الفضل إلى أمدك، فلم أر لك الدنيا كفا. هذا لو كنت صاحب دنيا، وألفيت بذل النفس قليلاً لك من غير شرطٍ ولا ثنيا، فلما ألهمني الله لمخاطبتك بهذه النصيحة المفرغة في قالب الجفا، لمن لايثبت عين الصفا، ولا يشيم بارقه الوفا، ولايعرف قاذورة الدنيا معرفة مثلى من المتدنسين بها لا منهمكين، وينظر عوراه الفادح بعين اليقين، يعلم أنها المومسة التي حسنها زور، وعاشقها مغرور، وسرورها شرو، تبين لي أني قد كافيت صنيعتك المتقدمة، وخرجت عن عهدتك الملتزمة، ومحضت لله النصح الذي يقر بعز الله ذاتك، ويطيب حياتك، ويحي مواتك، ويريح جوارحك من الوصب، وقلبك من النصب، ويحقر الدنيا وأهلها في عينك إذا اعتبرت، ويلاشى عظايمها لديك إذا اختبرت، كل من تقع عليه عينك حقير قليلن وفقير ذليل، لايفضلك بشيء إلا باقتفاء رشد أو ترك غى، أثوابه النبيهة يجردها الغاسل، وعروة غيره يفصلها الفاصل، وماله الحاضر الحاصل، يعيث فيه الحسام الفاصل، والله ماتعين للخلف إلا ماتعين للسلف، ولامصير المجموع إلا إلى التلف، ولا صح من الهياط والمياط، والصياح والعياط، وجمع القيراط إلى القيراط، والاستظهار بالوزعة والأشراط، والخبط والخباط، والاستكثار والاغتباط، الغلو والاشتطاط، وبنا الصرح وعمل الساباط، ورفع العماد وإدارة الفسطاط، إلا ألم يذهب القوة، وبنسى الآمال المرجوة، ثم نفس يصعد، وسكرات تتردد، وحسرات لفراق الدنيا تتجدد، ولسان يثقل، عين تبصر الفراق الحق وتمقل. قل هو نبأ عظيم، أنتم عنه معرضون. ثم القبر وما بعده، والله منجز وعيده ووعده. فالإضراب وافضراب، والتراب التراب، وإن اعتذر سيدى بقلة الجلد، لكثرة الولد، فهو ابن مرزوق، لا ابن رزاق، وبيده من التسبب، ما يتكفل بإمساك أرماق. أين النسخ الذي يتبلغ الإنسان بأجرته، في كن حجرته، لابل السؤال الذي لاعار عند الحاجة بمعرته، السؤال والله أقوم طريقاً، وأكرم فريقاً، من يد تمتد إلى حرام، لا يقوم بمرام، ولا يومن من ضرام أحرقت فيه الحلل، وقلبت الأديان والملل، وضربت الابشار، ونحرت العشار، ولم يصل منه على يدي واسطة السوؤ المعشار. ثم طلب عند الشدة ففضح، وبان سومه ووضح، اللهم طهر منا أيدينا وقلوبنا، وبلغنا من الانصراف إليك مطلوبنا، وعرفنا بمن لايعرف غيرك، ولا يسترفد إلا خبرك ياألله. وحقيق على الفضلاء إن جنح سيدي منها إلى إشارة، أو أعمل في احتلابها إضباره. أولبس منها شارة، أو تشوف إلى خدمة إمارة، ألا يحسنوا ظنونهم بعدها بابن ناس، ولا يغتروا بسمت ولا خلقٍ ولا لباس، فما عدا عما بدا. تقضي العمر في سجن وقيد، وعمرو وزيد، وضر وكيد، وطراد صبد، وسعد وسعيد، وعبد وعبيد، فمتى تظهر الأفكار، ويقر القرار، وتلازم الأدكار، وتشام الأنوار، وتتجلى الأسرار، ثم يقع الشهود الذي تذهب معه الأفكار، ثم يحق الوصول الذي إليه من كل ماسواه الفرار، وعليه السدار. وحق الحق، الذي ماسواه فباطل، والفيض الرحماني، الذي ربابه لابد هاطل، ماشاب مخاطبتي لك شايبة بريب، ولقد محضت لك مايمحضه الحبيب إلى الحبيب، فيحمل جفا في الذي حملت عليه الغيرة، ولاتظن بي غيره. وإن أقدر قدرى في مكاشفة سيادتك بهذا البث، في الأسلوب الرث، فالحق أقدم، وبناؤه لايهدم، وشأني معروف في مواجهة الجبابرة، على حين يدى إلى رفدهم ممدودة، ونفس في النفوس

المتهافتة عليهم معدودة، وشبابي فاحم، وعلى الشهوات مزاحم، فكيف بي اليوم مع الشيب، ونصح الجيب، واستكشاف العيب، إنما أنا اليوم على كل من عرفني كل ثقيل، وسيف العدل في كفى صقيل، أعذل أهل الهوى، وليست النفوس في القبول سوا، ولا لكل من ضر دوا، وقد شفيت صدري، وإن جهلت قدري، فاحملني حملك الله على الجادة الواضحة، وسحب عليك ستر الأبوة الصالحة، والسلام.ة عليهم معدودة، وشبابي فاحم، وعلى الشهوات مزاحم، فكيف بي اليوم مع الشيب، ونصح الجيب، واستكشاف العيب، إنما أنا اليوم على كل من عرفني كل ثقيل، وسيف العدل في كفى صقيل، أعذل أهل الهوى، وليست النفوس في القبول سوا، ولا لكل من ضر دوا، وقد شفيت صدري، وإن جهلت قدري، فاحملني حملك الله على الجادة الواضحة، وسحب عليك ستر الأبوة الصالحة، والسلام.
ولما شرح كتاب " الشفا " ... للقاضي أبي الفضل عياض بن موسى
ابن عياض رحمه الله، واستبحر فيه، طلب أهل العدوتين بنظم مقطوعات تتضمن الثناء على الكتاب المذكور، وإطراء مؤلفة، فانثال عليه من ذلك الطم والرم، بما تعددت منه الأوراق، واختلفت في الإجاجة وغيرها الأرزاق، وإيثاراً لغرضه، ومبادرة من أهل الجهات لإسعاف أريه، وطلب مني أن ألم في ذلك بشيء، فكتبت في ذلك:
شفا عياض للصدور شفاء ... وليس بفض قد حواه خفاء
هدية بر لم يكن لجزيلها ... سوى الأدر والذكر الجميل كفاء
وفي لنبى الله حق وفاته ... وأكرم أوصاف الكرام وفاء
وجاء به بحراً بقول بفضله ... على البحر طعم طيب وصفاء
وحق رسول الله بعد وفاته ... رعاه وإغفال الحقوق جفاء
هو الذخر يغنى في الحياة عتاده ... ويترك منه اليقين رفاء
هو الأثر المحمود ليس يناله دثور ولا يخشى عليه عفاء
حرصت على الإطناب في نشر فضله وتمجيده لو ساعدتني فاء
واستزاد من هذا الغرض، الذي لم يقنع منه بالقليل، فبعثت إليه من محل انتقالي بمدينة سلا حرسها الله:
أأزاهير رياض ... أم شفاء لعياض
جدل الباطل للحق ... بأسياف مواض
وشفى من يشتكي الغلة في زرق الحياض
أي بنيان معار ... آمن فوق انقضاض
أي عهد ليس يرمى ... بانتكاث وانتقاض
ومعان في سطور ... كأسود في غياض
وشفاء لصدور ... من ضنى الجهل مراض
حرر القصد فما شين بنقد واعتراض
يا أبا الفضل أذر بأن الله عن سعيك راض
فاز عبد أقرض الله ... برجحان القراض
وجبت عز المزايا ... من طوال وعراض
لك يا أصدق راو ... لك يا أعدل قاض
لرسول الله وفيت ... بجد وانتهاض
خير خلق الله في حالٍ وفي آت وماض
سدد الله ابن مرزوق ... إلى تلك المراض
زبدة العرفان معنى ... كل نسك وارتباض
فتولى بسط ما أجملت ... من غر انقباض
ساهر لم يدر في استخلاصه طعم اغتماض
دام في علو ومن عاداه يهوى في انخفاض
ما وشى الصبح الدياجي ... في سواد ببياض
ثم نظمت له أيضاً في الغرض المذكور، والإكثار من هذا النمط، في هذا الموضع، ليس على سبيل التبجح بغرابته وإجادته، ولاكن على سبيل الإشادة بالشرح المشار إليه، فهو بالغ غاية الإستبحار.
حييت يا مختط يبت بن نوح ... بكل مزن يغتدى أو يروح
وحمل الريحان ريح الصبا ... أمانة ي كل إلى كل روح
دار أبي الفضل عياض الذي ... أضحت برياه رياضاً تفوح
يا ناقل الآثار يعنى بها ... وواصلاً في العلم جرى المجموح
طرفك في الفخر بعيد المدا ... طرفك للمجد شديد الطموح
كفاك إعجازاً كتاب الشفا ... والصبح لا ينكر عند الوضوح
لله ما أجزلت فينا به من ... منحة تقصر عنها المنوح
فمن بيان الحق زهر ند ... ومن لسان الصدق طير صدوح

تأرج العرف وطاب الجنى ... وكيف لا يثمر أو لا يفوح
تأرج العرف وطاب الجنى ... وكيف لايثمر أو لا يفوح
وحلة من طيب خير الورى ... في الجيب والأعطاف منها نضوح
ومعلم للدين شيدته ... فهذه الأعلام منه تلوح
فقل لهامان كذا أو فلا ... يامن أضل الرشد تبنى الصروح
في أحسن التقويم أنشأته ... خلقاً جديداً بين جسم وروح
فعمره المكتوب لا ينقضى ... إذا تقضى عمر سام ونوح
كأنه في الحف ريح الصبا ... وكل عطف فهو غض مروح
ما عذر مشغوف بخير الورى ... إن هاج منه الذكر أن لا يبوح
عجبت من أكباد أهل الهوى ... وقد سطا البعد وطال النزوح
إن ذكر المحبوب سالت دما ... ما هن أكباد ولكن جروح
يا سيد الأوضاع يا من له ... بسيد الإرسال فضل الرجوع
يا من له الفخر على غيره ... والشهب تخفى عند إشراق يوح
ياخير مشروح وفي واكتفى ... منه ابن مرزوق بخير الشروح
فتح من الله جاه به ... ومن جناب الله تاتى الفتوح
مولده: بتلمسان عام أحد عشر وسبعماية
التميمي التسلى الكرسوطىمحمد بن عبد الرحمن بن سعد التميمي التسلى الكرسوطى من أهل فاسن نزيل مالقة يكنى أبا عبد الله.
حالهالشيخ الفقيه المتكلم أبو عبد الله، غزير الحفظ، متبحر الذكر، عديم القرين، عظيم الاطلاع، عارف بأسماء الأوضاع، ينثال منه على السايل كثيب مهيل، ينقل الفقه منسوباً إلى أمانة، ومنوطاً برجاله، والحديث بأسانيده ومتونه، خوار العنان، وساع الخطو، بعيد الشأو، يفيض من حديث إلى فقه، ومن أدب إلى حكاية، ويتعدى ذلك إلى غرايب المنظومات، مما يختص بنظمه أولو الشطارة والحرفة من المغاربة، ويستظهر مطولات القصاص، وطوابير الوعاظ، ومساطير أهل الكدية، في أسلوب وقاحٍ يفضحه الإعراب، حسن الخلق جم الاحتمال. مطرح الوقار، رافض التصنع، متبذل اللبسة، رحيب أكناف المرارة لأهل الولايات، يلقى بمعاطنهم البرك، وينوط بهم الوسائل، كثير المشاركة لوصلايه، محصب على أهل بيته، حدب على بنيه. قدم على الأندلس عام اثنين وعشرين وسبعماية، فأقام بالجزيرة مقرياً بمسجد الصواع منها، ومسجد الرايات. ثم قدم على مالقة وأقرأ بها، ثم قدم على غرناطة عام خمسة وعشرين وسبعماية، فتعرف على أرباب الأمر، بما نجحت حيلته، وخف به موقعه، فلم يعدم صلة، ولافقد مرفقة، حتى ارتاش وتأثل بمحل سكناه من مالقة، مدرة مغلة، وعقارا مفيدا. وطال قعوده لسرد الفقه بمسجدها الجامع، نمير في الركب، مهجور الحلقة، حملا من الخاصة والعامة، لتلبسه بالعرض الأدنى. وهو الآن خطيب مسجد القصبة بها، ومحله من الشهرة، بالحفظ والاستظهار لفوع الفقه، كبير.
مشيختهقرأ القرآن على الجماعة بالمغرب والأندلس، منهم أبوه، والأستاذ أبو الحسن القيجاطي البلوى، وأبو إسحق الحريرى، وأبو الحسن بن سليمن، وأبو عبد الله بن أجروم. وقرأ الفقه على أبي زيد الجزولي، وعبد الرحمن بن عفان، وأبي الحسن الصغير، وعبد المؤمن الجاناتي، وقرأ الكتاب بين يديه مدة، ثم عزله، ولذلك حكاية. حدثني الشيخ أبو عبد الله الكرسوطي، المترجم به، قال قرأت بين يديه، في قول أبي سعيد في التهذيب، والدجاج والأوز المخلات، فقال أنظر هل يقال الدجاج أو الجداد، لغة القرآن أفصح، قال الله تعإلى: وجدد بيض وحمر مختلف ألوانها، وغرابيب سودٍ. فأرزى به، ونقل إليه إزاره، فعزله. وقعد بعد ذلك للاقراء بفاس، كذا حدث. وأخذ عن أبي إسحق الزناتي، وعن خلف الله المجاصى، وأبي عبد الله بن عبد الرحمن الجزولى، وأبي الحسين الزدغى، وأبي الفضل ابنه، وأبي العباس بن راشد المراني، وأبي عبد الله بن رشيد. وروى الحديث بسبتة عن أبي عبد الله الغمارى، وأبي عبد الله بن هاني، وذاكر أبا الحسن بن وشاش، وبمالقة عن الخطيب الصالح الطنجالي، وأبي عمرو بن منظور. وبغرناطة عن أبي الحسن القيجاطى، وأبي إسحق بن أبي العاصي. وببلش عن أبي جعفر الزيات.

تواليفه

منها الغرر في تكميل الطرر، طرر أبي إبراهيم الأعرج. ثم الدرر في اختصار الطرر المذكور. وتقييدان على الرسالة، كبير وصغير، ولخص التهذيب لابن بشير، وحذف أسانيد المصنفات الثلاثة، البخاري، والرمذي، ومسلم، والزم إسقاط التكرار، واستدراك الصحاح الواقعة في التهذيب على مسلم والبخاري. وقيد على مختصر الطليطلى، وشرعي تقييد على قواعد الإمام أبي الفضل عياض بن موسى ابن عياضن برسم ولدى أسعده الله.
شعرهأنشدني، وأنا أحاول بمالقة لوث العمامة، وأستعين بالغير على إصلاح العمل، وإحكام اللياثة:
أمعمما قمرا تكامل حسنه ... أربى على الشمس المنبرة في البها
لا تلتسم ممن لديك زيادة ... فالبدر لا يمتاز من نور السها
ويصدر منه الشعر مصدراً، لا تكنفه العناية
محنته
أسر ببحر الزقاق، قادماً على الأندلس، في جملة من الفضلاء، منهم والده. واستقر بطريف عام ستة وعشرين وسبعماية، لقى بها شدة ونكالاً، ثم شرح والده، لمحاولة فكاك نفسه، وفك ابنه، ويسر الله عليه، فتخلصا من تلك المحنة في سبيل كدية، وأفلت من بين أنياب مشقة.
بعض أخبارهقال، لقيت الشيخ ولي الله أبا يعقوب بساحل بادس، في جملة من الفضلاء، منهم والده. واستقر بطريف عام ستة وعشرين وسبعماية، ولقى بها شدة ونكالاً، ثم سرح والده، لمحاولة فكاك نفسه، وفك ابنه، ويسر الله عليه، فتخلصا من تلك المحنة في سبيل كدية، وأفلت من بين أنياب مشقة.
بعض أخبارهقالن لقيت لاشيخ ولي اله أبا يعقوب بساحل بادس، قاصداً الأخذ عنه، والتبرك به، ولم يكن رآني قط، وألفيت بين يديه عند دخولي عليه، رجلاً يقرأ عليه القرآن. فلما فرغ، أراد أن يقرأ عليه أسطراً من الرسالة، فقال له، اقرأها على هذا الفقيه، وأشار إلى، ورأيت في عرصةٍ له أصول خص، فتمنيت الأكل منها، وكان رباعها غير حاضر، فقام عن سرعة، واقتلع منها أصولاً ثلاثة، ودفعها إلى، وقال كل. فقلت في نفسي، تصرف في الخضرة قبل حضور رباعها، فقال لي، إذا أردت الأكل من هذه الخضر، فكل من هذا القسم فإنه لي. قلت، وخبرت من اضطلاع هذا المترجم به بعبارة الرؤيا، ماقضيت منه العجب في غير ماشيء جربته. وهو الآن بحاله الموصوفة. وأصابه لهذا العهد جلاء عن وطنه، لتوفي الحمل عليه من الخاص والعام، بما طال به نكده. ثم آلت حاله إلى بعض صلاحن والله يتولاه.
مولده: بمدينة فاس عام تسعين وستماية.
محمد بن عبد المنعم الصنهاجي الحميرييكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عبد المنعم، من أهل سبتة، الأستاذ الحافظ.
حالهمن العايد: كان رحمه الله رجل صدق، طيب اللهجة، سليم الصدرن تام الرجولة، صالحاً، عابداً، كثير القرب والأوراد في آخر حاله، صادق اللسان. قرأ كثيراً، وسنه تنيف على سبع وعشرين، ففات أهل الدؤب والسابقة، وكان من صدور الحفاظ، لم يستظهر أحد في زمانه من اللغة ما استظهره، فكاد يستظهر كتاب التاج للجوهري وغيره، آية تتلى، ومثلاً يضرب، قايماً على كتاب سيبويه، يسرده بلفظه. اختبره الفاسيون في ذلك غير ما مرة. طبقة في الشطرنج، يلعبها محجوباً، مشاركاً في الأصول آخذاً في العلوم العقلية. مع الملازمة للسنة، يعرب أبداً كلامه ويزينه.
مشيختهأخذ ببلده عن الأستاذ أبي إسحق الغافقي، ولازم أبا القاسم بن الشاط، وانتفع به وبغيره من العلماء.
دخوله غرناطةقدم غرناطة مع الوفد من أهل بلده، عندما صارت إلى إيالة الملوكح من بني نصرن لما وصلوا بالبيعة.
وفاته: كان من الوفد الذين استأصلهم الموتان عند منصرفهم عن باب السلطان، ملك المغرب، بأحواز تيزى، حسبما وقع التنبيه على بعضهم.
ابن رشيدمحمد بن عمر بن محمد بن عمر بن محمد بن إدريس بن سعيد ابن مسعود بن حسن بن محمد بن عمر بن رشيد الفهرى من أهل سبتة، يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن رشيد
حاله

من عيد الصلة: الخطيب المحدث، المتبحر في علوم الرواية والإسناد. كان رحمه الله فريد دهره عدالة وجلالة، وحفظاً وأدباً، وسمتاً وهدياً، واسع الأسمعة، عالي الإسناد، صحيح النقل، أصيل الضبط، تام العناية بصناعة الحديث، قيماً عليها بصيراً بها، محققا فيها، ذاكراً فيها للرجال، جماعة للكتب، محافظاً على الطريقة، مضطلعاً بغيرها، من العربية واللغة والعروض، فقيهاً أصيل النظر، ذاكراً للتفسير، ريان من الأدب، حافظاً للأخبار والتواريخ، مشاركاً في الأصلين، عارفاً بالقراءات، عظيم الوقار والسكينة، بارع الخط، حسن الخلق، كثير التواضع، رقيق الوجه، متجملاً، كلف الخاصة والعامة، مبذول الجاه ولا شفاعة. كهفاً لأصناف الطلبة. قدم على غرناطة في وزارة صديقه، ورفيق طريقه في حجه وتشريقه، أبى عبد الله بن الحكيمن فلقى براً، وتقدم للخطابة بالمسجد الأعظم، ونفع الله لديه بشفاعته المبذولة، طايفة من خلقه، وانصرف إثر مقتله إلى العدوة، فاستقر بمدينة فاس، معظماً عند الملوك والخاصة، معروف القدر عندهم.
مشيختهقرأ ببلده سبتة على الأستاذ إمام النحاة أبي الحسن بن أبي بالربيع كتاب سيبويه، وقيد على ذلك تقييداً مفيداً، وأخذ عنه القراءات. وأخذ أيضاً عن الأستاذ أبي الحسن بن الخطار. ورحل من بلده سبتة لأداء الفريضة.
حج ولقى المشايخ عام ثمانية وثمانين وستماية، فوافى في طريقه الحاج المحدث الراوية، ذا الوزاريتين بعد، أبا عبد الله الحكيم، وأخذ عن الجلة الذين يشق إحصاؤهم. فممن لقى بإفريقية الراوية العدل أبا محمد عبد الله بن هارون يروى عن ابن بقى، والأديب المتبحر أبا الحسن حازم ابن محمد القرطاجني. وروى بالمشرق عن العدد الكثير كالإمام جار الله أبي اليمن بن عساكر، لقيه بباب الصفا تجاه الكعبة المعظمة، وهو موضع جلوسه للسماع، غرة شوال عام أربعة وثمانين وستماية، وعن غيره، كأبي العز عبد الرحمن بن عبد المنعم بن علي بن نصر بن منظور بن هبة الله وغيرهم ممن ثبت في اسم مرافقة في السماع والرحلة أبي عبد الله بالحكيم رحمه الله، فلينظر هنالك.
تواليفهألف فوايد رحلته في كتاب سماه ملئ العيبة فيما جمع بطول الغيبة في الوجهتين الكريمتين، إلى مكة وطيبة. قال شيخنا أبو بكر ابن شبرين، وقفت على مسودته، ورأيت فيه فنوناً وضروباً من الفوايد العلمية والتاريخ، وطرفاً من الأخبار الحسان. والمسندات العوالي والأناشيد. وهو ديوان كبير، ولم يسبق إلى مثله. قلت ورأيت شيئاً من مختصره بسبتة.
دخوله غرناطةورد على الأندلس في عام اثنين وتسعين وستماية. فعقد مجالس اللخاص والعام، يقرى بها فنوناً من العلم. وتقدم خطيباً وإماماً بالمسجد الأعظم منها. حدثني بعض شيوخنا، قال، قعد يوماً على المنبر، وظن أن المؤذن الثالث قد فرغ، فقام يخطب والمؤذن قد رفع صوته بإذانه، فاستعظم ذلك بعض الحاضرين، وهم آخر بأشعاره وتنبيهه. وكلمه آخر، فلم يثنه ذلك عما شرع فيه، وقال بديهة، أيها الناس، رحمكم الله، إن الواجب لا يبطله المندوب، وأن الإذان الذي بعد الأول غير مشروع الوجوب، فتأهبوا لطلب العلم، وانتبهوا، وتذكروا قوله عز وجل: وما أتاكم الرسول فحدوء، ومانهاكم عنه فانتهوا، وقد روينا عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال، من قال لأخيه والإمام يخطب، وأصمت، فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له. جعلنا الله وإياكم ممن علم فعملن وعمل فقبل، وأخلص فتخلص. وكان ذلك مما استدل به على قوة جناته، وانقياد لسانه لبيانه.
شعرهوله شعر يتكلفه إذا كان لا يزن أعاريضه إلا بميزان العروضن فمن ذلك ما حدث به، قال لما حللت بدمشق، ودخلت دار الحديث الأشرفيه، برسم رؤية النعل الكريمة، نعل المصطفى صلوات الله عليه، ولثمتها، حضرتني هذه الأبيات:
هنيئاً لعيني أن رأت نعل أحمد ... فيا سعد جدي قد ظفرت بأسعد
وقبلتها أشفى الغليل فزادني ... فيا عجباً زاد الظما عند مورد
فلله ذاك اللثم فهو ألذ من ... لما شفة لميا وخد مورد
ولله ذاك اليوم عيداً ومعلماً ... بتاريخه أرخت مولد أسعد
عليه صلاة نشرها طيب كما ... يحب ويرضى ربنا لمحمد

وقال، وقلت في موسم عام ستة وثمانين وستماية، بثغر سبتة حرسها الله تعإلى:
أقول إذا هب النسيمن المعطر ... لعل بشيراً باللقاء يبشر
وعالي الصبا مرت على ربع جيرتي ... فعن طيبهم عرف النسيم يعبر
وأذكر أوقاتي بسلمى وبالحمى ... فتذكو لظى في أضلعي حين أذكر
ربوع يود المسك طيب رابها ... ويهوى حصى فيها عقيق وجوهر
بها جيرة لا يخفرون بذمة ... هم لمواليهم جمال ومفخر
إذا ما اجتلت زهر النجوم جمالهم ... تغار لباهي نورهم فتغور
ومن جود جدواهم يرى الليث ... يعمر ون خوف عدواهم يذعر
ومن سيب يمناهم يرى الروض يزهر ... ومن فيض نعماهم يرى البحر يزخر
رعى الله عهداً بالمصلى عهدته ... وروض المنى غض يرق وينضر
زماناً نعمنا فيه الظل وارف ... بجنات عدن تحتها العذاب يخضر
ولله أيام المصلى وطيبها وأنفسنا بالقرب والأنس تجبر
بحيث يرى بدر الكمال وشمسه ... وروضته فردوس وحوض ومنبر
أروم دنواً من بهاء جمالها ... ولثماً فتأبى هيبة وتوقر
خضعت وذلي للحبيب تعزز ... فطرفي مغضوض وخدي معفر
ووجه سروري سافر متهلل ... وحالي بهم حلل وعيشي أخضر
فطوبى لمن أضحى بطيبة ثاوياً ... يجر أذيال الفخار وينشر
وإذ فات عيني أن تراهم فرددوا على مسمعي ذكر المصلى وكرروا
وردت فيا طيب الورود بطيبة ... صدرت فوا حزني فلا كان مصدر
رماني زماني بالفراق فغرني ... على مثل من فارقت عز التصبر
وأضمرت أشجاني ودمعي مظهر ... وأسررت هجراني وحالي تخبر
فمن أدمعي ماء يفيض ويهمر ... ومن أضلعي نار تفور وتسعر
فجسمي مصفر وفودي أبيض ... وعيشي مغبر ودمعي أحمر
وحين دنا التوديع ممن أحبه ... وحان الذي ما زلت منه أحذر
ونادى صحابي بالرحيل وأزمعوا ... وسارت مطاياهم وظلت أقهقر
وألوي إليه الجيد حتى وجعته ... وظل فؤادي لوعة يتفطر
وقفت لأقضي زفرة وصبابة ... ولا أنثني فالموت أجدى وأجدر
ولو أنني بعت الحياة بنظرة ... لأبت وحظي فيه أوفى وأوفر
وما باختياري إنما قدر جرى ... رضيت بما يقضي الآله ويقدر
حنيني إلى مغنى الجمال مواصل ... وشوقي إلى معنى الجمال موفر
وغير جميل أن يرى عن جمالها ... فؤادي صبوراً والمسير ميسر
أيصبر ظمآن يغال بغلة ... وفي روضة الرضوان شهد وكوثر
فيا عينها الزرقاء إن عيونها ... من الحزن فيض بالنجيع تفجر
سأقطع ليلى بالسرى أو أزورها ... وأحمي الكرى عيناً لبعدك يظهر
وأنضي المطايا أو أوافي ربعها ... فتنجدني طوراً وطوراً تغور
حظرت على نفسي الحذار من الردى ... أتحذر نفس الحبيب تسير
أينكر تغرير المشوق بنفسه ... وقد علموا أن المحب مغرر
وقفت على فتوى المحبين كلهم ... فلم أجد التغرير في الوصل ينكر
وإني إذا ما خطرة خطرت قصت بهمي وعزمي همة لا تأطر
أقيم فألفي بين عيني وهمتي ... وسيري في سبل العلا ليس ينكر
إذا ما بدت للعين أعلام طيبة ولاحت قباب كالكواكب تزهر
وللقبة الزهراء سمك سما علاً ... وراق سنى كالشمس بل هو أزهر
لها منظر قيد النواظر والنهى ... لها ساكن من نوره البدر يبدر
فعرجوا على كمل الكمال وسلموا ... سلمتم وبلغتم مناكم فأبشروا
بنفسي لا بالمال أرضى بشارة ... إذا لاح نور في سناها مبشر

وما قدر نفسي أن تكون كفاً ... ولكنها جهد المقل فأعذر
أقول إذا أوفيت أكرم مرسل ... قراى عليكم أن ذنبي يغفر
وأحظى بتقريب الجوار مكرماً ... وأصفح عن جور البعاد وأعذر
وأرتع في ظل الجنان منعماً ... وأمني بقرب من حماك وأجبر
هناك هناك القرب فانعم بنيله ... بحيث ثوى جسم كريم مطهر
ودع عنك تطواف البلاد وخيمن ... بطيبة طابت فهي مسك وعنبر
فخرت بمدحي للنبي محمد ومن ... مدحه المداح يزهى ويفخر
أطلت وإني في المديح مقصر ... فكل طويل في معاليك يقصر
فما بلغت كف أمري متناول بها ... المجد إلا والذي نلت أكبر
وما بلغ المهدون في القول مدحة ... وإن أطنبوا إلا الذي فيك أفخر
عليك صلاة الله ما مر سبق ... إليك وما هب النسيم المعطر
وقال يرثي إبنا نجيباً ثكله بغرناطة:
شباب ثوى شابت عليه المفارق ... وغصن ذوي تاقت إليه الحدايق
على حين راق الناظرين بسوقه ... رمته سهام للعيون رواشق
فما أخطأت منه الفؤاد بعمدها ... فلا أبصرت تلك العيون الروانق
وحين تداني للكمال هلاله ... ألم به نقص وجدت مواحق
إلى الله أشكو فهو يشكي نوازعاً ... عظاماً سطاها للعظام عوارق
ولا مثل فقدان البني فجيعة ... وإن طال ما لجت وجالت بوايق
محمد إن الصبر صبر وعلقم ... على أنه حلو المثوبة سابق
فإن جزعاً فالله للعبد عاذر ... وإن جلداً فالوعد لله صادق
وتالله ما لي بعد عيشك لذة ... ولا راقني مرأي لعيني رايق
فأني به والمذكرات عديدة ... فنبل وهم للعوايد خارق
فأين التفت فالشخص للعين مائل ... وإن أستمع فالصوت للأذن طارق
وإن أدع شخصاً باسمه لضرورة ... فإن اسمك المحبوب للنطق سابق
وإن تقرع الأبواب راحة قارع ... يطير عندها قلب لذكرك خافق
وكل كتاب قد حويت فمذكر ... آثاره كل إليك توايق
سبقت كهولة في الطفولة لا تني ... وأرهقت أشياخاً وأنت مراهق
فلو لم يغلك الموت دمت مجلياً ... واقبل سكيتاً وجيية ولاحق
على مهل أحرزت ما شيت ثانياً ... عنانك لا تجهد وأنت مسابق
رأتك المنايا سابقاً فأغرتها ... فجد طلاباً إنهن لواحق
لين سلبت مني نفيس ذخائر ... فإني بمذخور الأجور لواثق
وقد كان ظني أنني لك سابق ... فقد صار علمي أنني بك لاحق
غريبين كنا فرق البين بيننا ... فأبرح ما يلقى الغريب المفارق
فبين وبعد بالغريب توكلاً ... قد رعى بما حملت والله ضايق
عسى وطن يدنو فتدنو مني ... وأي الأماين والخطوب عوايق
فخط الأسى خطا تروق سطوره ... وتمحو البكا فالدمع ماح وساحق
فيا واحداً قد كان للعين نورها ... اتل ضياً بعد بعدك غاسق
عليك سلام الله ما جن ساجع ... وما طلعت شمس وما ذر شارق
وما همعت سحب غواد روايح ... وما لمعت تحدو الرعود بوارق
وجاد على مثواك غيث مروض ... عباد لرضوان الإله موافق
محنتهتعرض إليه قوم، يوم قتل صديقه أبي عبد الله الحكيم بإذاية قبيحة، وأسمع كل شارق من القول على ألسنة زعانفة فجر وترهم القتيل، فتخلص ولا تسل كيف، وأزمع الرحيل فلم يلبث بعد ذلك.
وفاته: كانت وفاته بمدينة فاس، في اليوم الثامن من شهرم المحرم

مفتتح عام أحد وعشرين وسبعماية. ودفن في الجبانة التي بخارج باب الفتوح بالروضة المعروفة بمطرح الجنة، التي اشتملت على العلماء والصلحاء والفضلاء، من الغرباء الواردين مدينة فاس. وكان مولده بسبتة عام سبع وخمسين وستماية.
محمد بن علي بن هاني اللخمي السبتييكنى أبا عبد الله، ويعرف باسم جده، أصلهم من إشبيلية
حالهكان رحمه الله فريد دهره في سمو الهمة، وإيثار الاقتصاد والتحلي بالقناعة، وشموخ الأنف على أهل الرياسة، مقتصراً على فايدة ربع له ببلده، يتبلغ مع الاستقامة، مع الصبر والعمل على حفظ المروءة، وصون ماء الوجه، إماماً في علم العربية، مبرزاً متقدماً فيه، حافظاً للأقوال، مستوعباً لطريق الخلاف، مستحضراً لحجج التوجيه، لا يشق في ذلك غباره، ريان من الأدب، بارع الخط، سهل مقادة الكلام، مشاركاً في الأصلين، قايماً على القراءات، حسن المجلس، رايق البزة، بارع المحاضرة، فايق الترسل، متوسط النظم، كثير الاجتهاد والعكوف، مليح الخلق، ظاهر الخشوع، قريب الدمعة، بيته شهير الحسب والجلالة.
وجرى ذكره في الإكليل الزاهر بما نصه: علم تشير إليه الأكف ويعمل إلى لقاية الحافر والخف، رفع للعربية ببلده راية لا تتأخر، ومرج منها لجة تزخر، فانفسخ مجال درسه، وأثمرت أدواح غرسه، فركض يماشا وبرح، ودون وشرح، إلى شمايل تملك الظرف زمامها، ودعابة راشت الحلاوة سهامها. ولما أخذ المسلمون في منازلة الجبل وحصاره، وأصابوا الكفر منه بجارحة أبصاره، ورموا بالثكل فيه نازح أمصاره، كان ممن انتدب وتطوع، وسمع الندا، فأهطع، فلازمه إلى أن نفد لأهله القوت، وبلغ من فتحة الأجل الموقوت، فأقام الصلاة محرابه، وقد غير محياه طول اغترابه، وبادره الطاغية قبل أن يستقر نصل الإسلام في قرابه، أو يعلق أصل الدين في ترابه. وانتدب إلى الحصار به وتبرع، ودعاه أجله فلبى وأسرع. ولما هدر عليه الفتيق، وركعت إلى قبلته المجانيق، أصيب بحجر دوم عليه كالجارح المحلق، وانقض إليه انقضاض البارق المتألق، فاقتنصه، واختطفه، وعمد إلى زهره فقطفه فمضى إلى الله طوع نيته، وصحبته غرابة المنازع حتى في منيته.
مشيختهقرأ على الأستاذ العلامة أبي إسحق الغافقي، وعلى الأستاذ النحوي أبي بكر بن عبيدة، واعتمد عليه، وقرأ على الإمام الصالح أبي عبد الله ابن حريث.
تواليفهألف كتباً، منها كتاب شرح التسهيل لابن مالك، وهو أجل كتبه، أبدع فيه، وتنافس الناس فيه. ومنها الغرة الطالعة في شعراء المائة السابعة، ومنها إنشاد الضوال، وإرشاد السوال في لحن العامة، وهو كتاب مفيد، وقوت المقيم. ودون ترسل رييس الكتاب أبي المطرف بن عميرة وضمه في سفرين. وله رجز في الفرايض مفيد.
شعرهحدثنا شيخنا القاضي الشريف، نسيج وحده، أبو القاسم الحسني، قال، خاطبت الأستاذ أبا عبد الله بن هاني رحمه الله بقصيدة من نظمي أولها:
هلت الحديث عن الكرب الذي شخصا
فأجابني عن ذلك بقصيدة في رويها:
لولا مشيب بفودى للفؤاد عصا ... نضيت في مهمه التشبيب لي قلصا
واستوقفت عبراتي وهي جارية ... وكفاء توهم ربعا ًللحبيب قصا
مسايلاً عن لياليه التي انتهزت ... أيدي الأماني بها ما شيته فرصا
وكنت جاريت فيها من جرى طلقاً ... من الإجادة لم يحجم ولا نكصا
أصاب شاكلة المرمى حين رمى ... من الشوارد ما لولاه ما اقتنصا
ومن أعد مكان النبل نبل حجاً ... لم يرض إلا بأبكار النهي قنصا
ثم انثنى ثانياً عطف النسيب إلى ... مدح به قد غلا ما كان قد رخصا
فظلت أرفل فيها لبسة شرفت ... ذاتاً ومنتسباً أعزز به قمصا
يقول فيها وقد خولت منحتها ... وجرع الكاشح المغري بها غصصا
هذي عقايل وافت منك ذا شرف ... لولا أياديه بيع الحمد مرتخصا
فقلت هلا عكست القول منك له ... ولم يكن قابلاً من مدحه الرخصا
وقلت ذي بكر فكر من أخي شرف ... يردي ويرضى بها الحساد والخلصا
لها حلي حسنيات على حلل ... حسنية تستبي من حل أو شخصا

خولتها وقد اعتزت ملابسها ... بالبخت ينقاد للإنسان ما عوصا
خذها أبا قاسم مني نتيجة ذي ... ود إذا شيت وداً للورى خلصا
وهي طويلة. ومما ينسب إليه، وهو مليح في معناه:
ما للنوى مدت لغير ضرورة ... ولقبل ما عهدي بها مقصوره
إن الخليل وإن دعته ضرورة ... لم يرضى ذاك فكيف دون ضروره
وقال مضمنا:
لا يلمني عاذلي حتى يرى ... وجه من أهوى فلومي مستحيل
لو رأى وجه حبيبي عاذلي ... لتفارقنا على وجه جميل
وقال في الفخر:
قل للموالي عش بغبطة حامد ... وللمعادي بت بضغنة حاسد
المزن كفى ولاثريا همتي ... وذكا ذكري والسعود مقاصد
وقال في غير ذلك
غنيت بي دون غيري الدهر عن مثل ... بعضي لبعض أضحى يضرب المثلا
ظهري انحنى لمشيب لاح واعجبا ... غض إذا أينعت أزهاره ذبلا
أذلك أم زهر لاحت تخبر أن ... يوم الصبا والتصابي آنس الطفلا
ومما جمع فيه بين نظمه ونثره، ما راجع به شيخنا القاضي الشريف أبا القاسم الحسني، عن القصيدة الهمزية التي ثبتت في اسمه:
يا أوحد الأدبا أو يا أوحد الفضلا أو يا أوحد الشرفاء
من ذا تراه أ منك إذا التوت ... طرق الحجاج بأن يجيب نداء
أدب أرق من الهواء وإن تشا ... فمن الهوى والماء والصهباء
وألذ من ظلم الحبيب وظلمه ... بالظاء مفتوحاً وضم الظاء
ما السحر إلا ما تصوغ بنانه ... ولسانه من حلية الإنشاء
والفضل ما حليته وحبيته ... وحبوتني منه بخير حباء
أبكار فكرك قد زففت بمدحتي ... تمشي روايعها على استحياء
لا من قصور بل لتقصيها من ... حيث لم يظفرن بالإرفاء
لاكن جبرن وقد فبلن على ... الرضا فالجبر للأبكار للإباء
هذا إلى الشرف الذي قد فزت ... من عليائه بالعزة القعساء
شرف السيل من الرسول وسيلة ... قامت بابن سناً وابن سناء
حسن وأبو حسن وفاطمة ابنة ... الهادي البرية خاتم النبلاء
شرف على شرف إلى شرفين ... من ذا حاز ما حزت من علياء
هذي ثلاث أنت واحد فخرها ... فاشمخ لها شرفاً بأنف علاء
من رام رتبتك السنية فليقف ... دون المرام مواقف الإقصاء
هذي مآثر قد شأوت بصيتها ... من كان من آب لها أو شاء
والليث يرهب زأره في موطن ... ما كان من نقد به أو شاء
يكفيك من نكد المعاند أن يرى ... متقلد الأعضاء بالبغضاء
السن يفنى بالأنامل قرعه ... أو عضه متوقد الأحشاء
أتحفتنى بقصيدة همزية ... مقصورة ممدودة الآراء
كم بين تلك وهذه لا كنها ... غطى على هذى ذهاب فتاء
ذو الشيب يعذره الشباب فما لهم بذكا نبل أو بنبل ذكاء
من قارب الخمسين خطواً سنه ... فمحاله مستوجب الإبطاء
أبني إنك أنت أسدى من به ... يتعاظم الآباء بالأبناء
لله نفثة سحر ما قد شدت لي ... من نفث سحرك في مشاد ثناء
عارضت صفواناً بها فأريت ما ... يستعظم الراوي له والراء
لو راء لؤلؤك المنظم لم يفز ... في نظم لؤلؤه بغير عناء
بوأتنى منها أجل مبوإ ... فلا خمصى مستطن الجوزاء
وسمى بها أسمى سايرً فأنابما ... أسديت ذو الأسماء في الأسماء
وأشدت ذكرى في البلاد فلى بها ... طول الثناء وإن أطلت ثواء
ولقومي الفخر المشيد بنيته ... بأحسن تشييد وحسن وبناء
فليهن هانيهم يد بيضاء ما ... أن مثلها لك من يد بيضاء
حليت أبياتا لهم لخمية ... بحلا علاً مضرية غراء

فليشمخوا أنفا بما أوليتهم ... يا محرز الآلاء بالإيلاء

هذا، بنى، وصل الله لك ولي بك علو المقدار، وأجرى وفق أو فوق إرادتك أو إرادتي لك جاريات الأقدار، ما سمح به الذهن الكليل واللسان الفليل في مراجعة قصيدتك الغراء، الجالية للسراء، الآخذة بمجامع القلوب، الآتية بجوامع المطلوب، الحسنة المهيع والأسلوب، المتحلية بالحلى الحسنية، العريقة المنتسب في العلى الحسنية، الجالية صدا قلوب ران عليها الكسل، وخانها المسعدان، السؤل والأمل، فمتى حامت المعاني حولها، ولو أقامت حولها، شكت ويلها وعولها، وحرمت من فريضة الفضيلة عولها، وعهدى بها، والزمان زمان، وأحكامه الماضية أماني مقضية وأمان، تتوارد آلافها، ويجمع إجماعها وخلافها، ويساعدها من الألفاظ كل سهل ممتع، مفترق مجمع، مستأنس غريب، بعيد الغور قريب، فاضح الحلا، واضح العلا، وضاح الغرة والجبين، رافع عمود الصبح المبين، أيد من الفصاحة بإياد، فلم يحفل بصاحبي طي وإياد، وكسى بضاعة البلاغة، فلم يعباً بهمام وابن المراغة. شفاء المحزون، وعلم السر الخزون، مابين منثوره والموزون. والآن لا ملهج ولا مبهج ولا مرشد ولا منهج عكست القضايا فلم تنتج، فتبلد القلب الذكي، ولم يرشح القليب البكى، وعم الإفحام وغم الإحجام، وتمكن الإكداء والإجبال، وكورت الشمس وسيرت الجبال، وعلت سآمة، وغلبت ندامة، وارتفعت ملامة، وقامت لنوعي الأدب قيامة. حتى إذا ورد ذلك المهرق، وفرع غصنه المورق، تغنى به الحمام الأورق، وأحاط بعداد عداته الغصص والشرق، وأمن من الغصب والسرق، وأقبل الأمن، وذهب بإقباله الفرق، نفخ في صور أهل المنظوم والمنثور، وبعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور، وتراءت للأدب صور، وعمرت للبلاغة كور، وهمت لليراعة درر، ونظمت للبراعة درر، وعندها يتبين أنك واحد حلبة البيان، والسابق في ذلك الميدان، يوم الرهان، فكان لك القدم، وأقر لك مع التأخر السابق الأقدم، فو حق نصاعة ألفاظ أجدتها، حين أوردتها، وأسلتها حين أرسلتها، وأزنتها حين وزنتها، وبراعة معان سلكتها حين ملكتها، وأرويتها حين روأتها وأرويتها، وأصلتها حين فصلتها ووصلتها، ونظام جعلته لجسد البيان قلباُ، والمعصمة قلماً، وهصرت حدايقه غلباً، وارتكبت روية صعباً، ونثاراً أتبعته له خديماً، وصيرته لمدير كأسه نديماً، ولحفظ ذمامه المدامى، أو مدامه الذمامي مديماً، لقد فتنتني حين أتتني، وسبتني حين نصبتني، فذهبت خفتها بوقارى، ولم يرعها بعد شيب عذارى، بل دعت للتصابى فقلت مرحباً، وحللت لفتنتها الحبا، ولم أحفل بشيب، وألفيت مارد نصابي نصيب، وإن كنا فرسى رهان، وسابقي حلبة ميدان، غير أن الجلدة بيضاء، والمرجو الإغضاء، بل الإرضاء. بنى كيف رأيت للبيان هذا الطوع، والخروج فيه من نوع إلى نوع. أين صفوان بن إدريس، ومحل دعواه بين رحلة وتعريس، كم بين ثغاء بقر هذا الفلا، وبين زئير ليث العريس، كما أني أقطع علماً، وأعلم قطعاً، وأحكم مضاء، وأمضي حكماً، أنه لو نظر إلى قصيدتك الرائقة، وفريدتك الحالية الفايقة، المعارضة بها قصيدته، المتسخة بها فريدته، لذهب عرضاً وطولاً، ثم اعتقد لك اليد الطولى، وأقر بارتفاع النزاع، وذهبت له تلك العلالات والأطماع، ونسى كلمته اللؤلؤية، ورجع عن دعواه الأدبية، واستغفر الله ربه من تلك الإلهية. بنى وهذا من ذلك، من الجرى في تلك المسالك، والتبسط في تلك المآخذ والمتارك، أينزع غيرى هذا المنزع، أم المرء بشعره وابنه مولع. حياً الله الأدب وبنيه، وأعاد علينا من أيامه وسنيه، ما أعلى منازعه، وأكبا منازعه، وأجل مآخذه، وأجهل تاركه، وأعلم آخذه، وأرق طباعه، وأحق أشياعه وأتباعه، وأبعد طريقه، وأسعد فريقه، وأقوم نهجه، وأوثق نسجه، وأسمح الفاظه، وأفصح عكاظه، وأصدق معانيه وألفاظه، وأحمد نظامع ونثاره، وأغنى شعاره ودثاره. فعايبه مطرود، وعاتبه مصفود، وجاهله محصود، وعالمه محسود. غير أن الإحسان فيه قليل، ولطريق الإصابة فيه علم ودليل، من ظفر بهما وصل، وعلى الغاية القصوى منهما حصل، ومن نكب عن الطريق، لم يعد من ذلك الفريق، فليهنك أيها الإبن الذكى، البر الزكى، الحبيب الحفى، الصفى الوفى، أنك حامل رايته، وواصل غايته، ليس أولوه وآخروه لذلك بمنكرين، ولا تجد أكثرهم شاكرين. ولولا أن يطول الكتاب، وينحرف الشعراء والكتاب، لفاضت ينابيع هذا الفصل فيضاً، وخرجت إلى نوع آخر من البلاغة أيضاً، قرت عيون

أودايك، وملئت غيظاً صدور أعدايك، ورقيت درج الآمال، ووقيت عين الكمال، وحفظ منصبك العالي، بفضل ربك الكبير المتعال. والسلام الأتم الأكمل الأعم يخصك به، من طال في مدحه أرقالك وأغذاذك، وراد روض حمده طلك ورذاذك وغدت مصالح سعيه في سعى مصالحك، وسينفعك بحول الله وقوته، وفضله ومنته معاذك ووسمت نفسك بتلميذه، فسمت نفسه بأنه أستاذك، ابن هاني ورحمة الله وبركاته.دايك، وملئت غيظاً صدور أعدايك، ورقيت درج الآمال، ووقيت عين الكمال، وحفظ منصبك العالي، بفضل ربك الكبير المتعال. والسلام الأتم الأكمل الأعم يخصك به، من طال في مدحه أرقالك وأغذاذك، وراد روض حمده طلك ورذاذك وغدت مصالح سعيه في سعى مصالحك، وسينفعك بحول الله وقوته، وفضله ومنته معاذك ووسمت نفسك بتلميذه، فسمت نفسه بأنه أستاذك، ابن هاني ورحمة الله وبركاته.
دخوله غرناطة: دخل غرناطة مع الوفد من أهل بلده عند تصيرها إلى الإيالة النصرية، حسبما ثبت في موضعه.
توفي بجبل الفتح، والعدو يحاصره، أصابه حجر المنجنيق في رأسه، فذهب به، تقبل الله شهادته ونفعه، في أواخر ذي قعدة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعماية.
وممن رثاه قاضي الجماعة شيخنا القاضي أبو القاسم الحسنى، وهي القصيدة التي أولها:
شقى الله بالخضراء أشلاء سؤدد ... تضمنهن الترب صوب الغمايم
وقد ثبت في بجهد المقل في اسم الذكور فلينظر هنالك.
وممن رثاه شيهنا القاضي أبو بكر بن شبرين رحمه الله بقوله:
قد كان ما قال اليزيد ... فاصبر فحزنك لايفيد
أودى ابن هاني الرضا ... فاعتادني للشكل عبد
بحر العلوم وصدرها ... وعميدها إذ لا عميد
قد كان زيناً للوجود ... ففيه قد فجع الوجود
العلم والتحقيق والتوفيق والحسب التليد
تندى خلايقه فقل ... فيهاهي الروض المجرد
مغض عن الإخوان لا ... جهم اللقاء ولا كنرد
أودى شهيداً باذلاً ... مجهوده فعم الشهيد
لم أنسه حين المعا ... رف باسمه فينا تشيد
وله صبوب في طلا ... ب العلم يتلوه صعود
لله وقت كان ينظمنا كما نظم الفريد
أيام نغدو أو نرو ... ح وسعينا السعى الحميد
وإذا المشيخة جثم ... هضبات حلم لا تبيد
ومرادنا جم النبا ... ت وعيشنا خضر البرود
لهفى على الإخوان والأتراب كلهم فقيد
لو جيت أو طاني لأنكرني التهايم والنجود
ولراع نفسي شيب من ... غادرته وهو الوليد
ولطفت ما بين اللحو ... د وقد تكاثرت اللحود
سرعان ما عاث الحما ... م ونحن أيقاظ هجود
كم رمت إعمال المسير فقيدت عزمي قيود
والان أخلفت الوعو ... د وأخلقت تلك البرود
ما للفتى مايبتغير ... والله يفعل مايريد
أعلى القديم الملك يا ... ويلاد يعترض العبيد
يابين قد طال المدى ... أرعد وأبرق يا يزيد
ولك شيء عاية ... ولربما أن الحديد
إيه أبا عبد الآله ودوننا مرمى بعيد
أين الرسايل منك تأ ... تينا كما نظم المقود
أين الرسوم الصالحا ... ت تصرمت أين العهود
أنعم مساء لا تخطتك البشاير والسعود
وأقدم على دار الرضا ... حيث الإقامة والخلود
والق الأحبسة حيث دا ... ر الملك والقصر المشيد
حتى الشهادة لم تفتك فنجمك النجم السعيد
لا تبعدن وعد لو أن الميت في الدنيا يعود
ولين بليت فإن ذكرك في الدنا غض جديد
تالله لا تنساك أندبة العلى ما اخضر عود وإذا تسومح في الحقو - ق فحقك الحق الأكيد جادت صداك عمامة يروى بها ذاك الصعيد وتهدتك من المهيمن رحمة أبداً وجود
الصدفىمحمد بن يحيى العبدري من أهل فاس. يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالصدفى
حاله

قال الأستاذ في صلته: إمام في العربية، ذاكر للغات والآداب، متكلم، أصولى مفيد، متفنن، حافظ، ماهر، عالم، زاهد، ورع، فاضل. أخذ علم العربية والآداب عن النحوى أبي الحسن بن خروف، وعن النحوى الأديب الضابط أبي ذر الخشنى، وأكثر عنهما، وأكمل الكتاب على ابن خروف، تفقهاً وتقييدً وضبطاً. وكان حسن الإقراء، جيد العبارة، متين المعارف والدين، شديد الورع، متواضعاً جليلاً، عالماً عاملا، من أجل من لقيته، وأجمعهم لفتون المعارف، وضروب الأعمال، وكان الحفظ أغلب عليه، وكان سريع القلم إذا كتب أو قيد، وسمعته يقول، ما سمعت شيئاً من أحد من أشياخى، من نكت العلم، وتفسير مشكلٍ، ومايرجع إلى ذلك، إلا وقيدته، ولا قيدت بخطى شيئاً إلا حفظته، ولا حفظت شيئاً فنسيته. هذا ما سمعت منه.
مشيختهأخذ العربية عن الأستاذ أبي الحسن بن خروف، وعن النحوى الأديب الضابط أبي ذر الخشنى. وأكثر عنه، وأخذ معهما عن أبي محمد بن زيدان، ولازم ثلاثتهم، وسمع وقرأ على القيه الصالح أبي محمد صالح وأخذ عن غير من ذكر.
دخوله غرناطةقال، دخل الأندلس مراراً بيسير بضاعة كانت لديه يتجر فيها، ودخل إشبيلية. وتردد آخر عمره إلى غرناطة ومالقة إلى حين وفاته.
توفي برحمه الله شهيداً بمرسى جبل الفتح. دخل عليهم العدو فيه.
فقاتل حتى قتل، وذلك سنة أحد وخمسين وستماية. سمعته يتوسل إلى الله، ويسأله الشهادة.
المحدثون والفقهاء والطلبة النجباء وأولاد الأصليون
محمد بن أحمد بن إبراهيم بن الزبيرمن أهل غرناطة، ولد الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير، يكنى أبا عمرو
حالههذا الشيخ سكيت حلبة، ولد أبيه في علو النباهة، إلا أنه لوذعى فكه، حسن الحديث، رافض للتصنع، ركض طرف الشبيبة في ميدان الراحة، منكباً عن سنن أبيه وقومه، مع شغوف إدراك، وجودة حفظ، كانا يطمعان والده في نجابته، فلم يعدم قادحاً. ورحل إلى العدوة، وشرق ونال حظوة، وجرت عليه خطوب. ثم عاد إلى الأندلس على معروف رسمه يتكور بها، وهو الآن قد نال منه الكبر. يزجى الوقت بمانقة، متعللاً بوقف من بعض الخدم المخزنية، لطف الله به.
مشيختهاستجاز له والده الطم والرم، من أهل المغرب والمشرق، ووقف عليه منهم في الصغر وقفاً لم يغتبط به عمره، وأدكره الآن بعد أمةٍ، عندما نقر عنه لديه، فأثرت به يده من علو رواية، وتوفر سبب مبرة، وداعيةٍ إلى إقالة عثرة، وستر هيبة شيبةٍ. فمن ذلك الشيخ الإمام أبو علي ناصر الدين منصور بن أحمد المشدالي، إجازة ثم لقاء وسماعاً، والشيخ الخطيب الراوية أبو عبد الله بن غريون. وأجازه الأستاذ أبو إسحق الغافقى، وأبو القاسم بن الشاط، والشريف أبو العباس أحمد الحسنى، والأستاذ الإمام أبو الحسين عبد الله بن أبي الربيع القرشى نزيل سبتة. ومحمد ابن صالح بن أحمد بن محمد الكتاني الشاطبي ببجاية، والإمام أبو اليمن ابن عساكر بالمسجد الحرام، وابن دقيق العيد وغيرهم. ومن أهل الأندلس أبو محمد بن السداد، وأبو جعفر بن الزيات، وأبو عبد الله بن الكماد، وأبو عبد الله بن ربيع الأشعري، وأبو عبد الله بن برطال، وأبو محمد عبد المنعم بن سماك، والعدل أبو الحسن بن مستقور. وأجازه من أهل المشرق والمغرب، عالم كبير.
شعرهوبضاعته فيه مزجاة، فمن ذلك ماخاطبني به عند إيابي من العدوة في غرض الرسالة عن السلطان:
نوإلى الشكر للرحمن فرضاً ... علم نعم كست طولاً وعرضاً
وكم لله من لطيف خفي لنا ... منه الذي يشاء...وأمضا
بمقدمك السعيد أتت سعود ... تنال بها نعيم الدهر محضاً
فيا بشرى لأندلسٍ بما قد ... به والاك بارينا وأرضا
ويا لله من سفر سعيد قد ... قد أقرضت المهيمن فيه قرضاً
نهضت بنيةٍ أخلصت فيها ... فأتت بكل ما يبغى ويرضا
وثبت لنصرة الإسلام لما ... علمت بأن الأمر إليك أفضا
لقد أحييت بالتقوى رسوماً ... كما أرضيت بالتمهيد أرضا
وقمت بسنة المختار فينا ... تمهد سنة وتقيم فرضا
ورضت من العلوم الصعب حتى ... جنيت ثمارها رطباً وغضا

فرأيك ناحج فيما تراه ... وعزمك من مواضى الهند أمضا
تدبر أمر مولانا فيلقى المسيء لديك إشفاقاً وإغضا
فأعقبنا شفاً وانبساطاً ... وقد كانت قلوب الناس مرضا
ومن أضحى على ظمإ وأمسى ... يرد إن شاء من نعماك خوضا
أبا عبد الآله إليك أشكو ... حين ناب الفقر عضا
ومن نعماك استجدى لباساً ... يفيض به على الجاه فيضا
بقيت مؤملاً ترجى وتخشى ... ومثلك من إذا ما جاد أرضا
توفي في التاسع لمحرم من عام خمسة وستين وسبعماية.
القليعىمحمد بن أحمد بن خلف بن عبد الملك بن غالب الغساني من أهل غرناطة، يكنى أبا أبكر، ويعرف بالقليعى.
أوليته: قد جرى من ذكره، وذكر بيته في الطبقات ما فيه كفاية
حالهكان نبيه البيت، رفيع القدر، عالي الصيت. من أهل العلم والفضل والحسب والدين، وأجمع على استقضائه أهل بلده بعد أبي محمد بن سمحون سنة ثمان وخمسماية.
توفي بغرناطة، أوايل صفر عشرة وخمسماية. ودفن في روضة أبيه ذكره ابن الصيرفي وأطنب.
ابن قطبةمحمد بن أحمد بن محمد الدوسى من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله ويعرف بابن قطبة.
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه الله شيخ الفقهاء والموثقين، صدر أرباب الشورى، نسيج وحده في الفضل، والتخلق والعدالة، طرفاً في الخير، مجباً إلى الكافة، مجبولاً على المشاركة، مطبوعاً على الفضيلة، كهفاً للغرباء والقادمين، مألفاً للمتعلمين، ثمالاً للأسرى والعانين، تخلص منهم على يديه أمم، لقصد الناس إياه بالصدقة، مقصوداً في الشفاعات، معتمداً بالأمانات، لا يسدل دونه ستر، ولا تحجب عنه حرمة، فقيها حافظاً، إخبارياً محدثاً ممتعا، متقدماً في صناعة التوثيق، حسن المشاركة في غيرها، كثير الحض على الصدقة في المحول والأزمات، يقوم في ذلك مقامات حميدة، ينفع الله بها الضعفاء، وينقاد الناس لموعظته، ويؤثر في القلوب بصدقه. فقد بفقدانه رسم من رسوم البر والصدقة.
مشيختهقرأ على الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير، والخطيب ولي الله أبى الحسن ابن فضيلة، وروى عن الشيه الوزير المسن المحدث أبي محمد عبد المنعم ابن سماك، وأبي القاسم بن السكوت المالقى، والخطيب أبي عبد الله ابن رشيد. والقاضي أبي يحيى بن مسعود، والعدل أبي علي البجلى، وأبي محمد عبد المؤمن الخولاني. وأجازه جماعة من أهل المشرق والمغرب، وناب عن بعض القضاة بغرناطة. ولد عام تسعة وستين وستماية، وتوفي في الثالث لربيع الأول من عام ثمانية وثلاثين وسبعماية. وكانت جنازته مشهودة.
ابن السراجمحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن أحمد بن محمد ابن يوسف بن روبيل الأنصاري من أهل غرناطة، ويكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن السراج. طليطلى الأصل، طبيب الدار السلطانية.
حالهمن العايد: كان رحمه الله من أهل التفنن والمعرفة، متناهي الأبهة والحظة، جميل الصورة، مليح المجالسة، كثير الدعابة والمؤانسة، ذاكراً للأخبار والطرف، صاحب حظ من العربية والأدب والتفسير، قارضاً للشعر، حسن الخط، ظريف الوراقة، طرفاً في المعرفة بالعشب، وتمييز أعيان النبات، سنياً، محافظاً، محبا في الصالحين، ملازماً لهم، معنياً بأخبارهم، متلمذاً لهم. انحاش إلى الولىأبي عبد الله التونسي، وانقطع إليه مدة حياته، ودون أحواله وكراماته. وعين ريع ما يستفيده في الطب صدقة على يديه، أجرى ذلك بعد موته لبنيه. ونال حظاً عريضاً من جاه السلطان، فاطرح حظ نفسه مع المساكين والمحتاجين، فكان على باوه على أهل الدنيا، يوثر ذوي الحاجة، ويخف إلى زيارتهم، ويرفدهم، ويعينهم على معالجة عللهم.
مشيختهقرأ الطب على الشيخ الطبيب. نسج وحده أبي جعفر الكزنى، رييس الصناعة في وقته، ولقى فيه الأستاذ إمام التعاليم إمام التعاليم والمعارف، أبا عبد الله الرقوطى المرسى وغيره. وقرأ القرآن على المقرى الشهير أبي جعفر الطباع بالروايات السبع، والعربية على الأستاذ أبي الحسن بن الصايغ الإشبيلي، وأكثر القراءة على شيخ الجماعة العلامة أبي جعفر بن الزبير.

تواليفه: ألف كتباً كثيرة، منها في النبات والرؤيا. ومنها كتا سماه، السر المذاع في تفضيل غرناطة على كثير من البقاع.
شعرهمن ذلك قوله ملغزاً في المطر:
وما زاير مهما أتى ابتهجت به ... نفوس وعم الخلق جوداً وإحساناص
يقيم فيشكو الخلق منه مقامه ... ويكربهم طرا إذا عنهم بانا
يسر إذا وافى ويكرب إن نأى ... ويكره منه الوصل إن زار أحياناً
وأعجب شيء هجر حب مواصل ... به حين يطل هواه إن لم يطل خانا
محنتهذكر أنه لما توفي السلطان ثاني الملوك من بني نصر فجأة، وهو يصلى المغرب، وباكر الطبيب بابه غداة ليلة موته. سأل عن الطعام القريب عهد موته بتناوله، فأخبر أنه تناول كعكاً وصلته من ولي عهده، فقال كلاماً أوجب نكبته، فامتحن بالسجن الطويل، والتمست الأسباب الموصلة إلى هلاكه، ثم أجلى إلى العدوة. ثم دالت الأيام، فعاد إلى وطنه مستآنفاً ما عهده من البر وفقده من التجلة.
ميلاده: بغرناطة عام أربعة وخمسين وستماية.
وفاته: ليلة الخميس التاسع من شهر ربيع الأول من عام ثلاثين وسبعماية.
ابن أبي زمنين المرىمحمد بن ابراهيم بن عبد الله بن أبي زمنين المرى يكنى أبا عبد الله، وبيته معلوم حاله: كان من أهل المعرفة والنبل والذكاء
مشيختهقرأ القرآن على أبي بكر بن النفيس، وأبي عبد الله بن شهيد المرى المقرى بطخشارش من غرناطة. ودرس الفقه عند المشاور أبي عبد الله بن مالك المقرى، وأبي الحسن علي بن عمر بن أضحى، وعلى غيرهما من شيوخ غرناطة.
توفي سنة أربعين وخمسماية.
قلت، وإنما ذكرت هذا المترجم به مع كوني اشترطت صدر خطبته، ألا أذكر هذا النمط لمكان مصاهرتي في هذا البيت. ولعل حافد هذا المترجم به من ولدي، يطلع على تعدادهم وذكرهم في هذا التاليف وتردادهم، فيكون ذلك محرضاً له على النجابة. محرضاً للإجابة، جعلنا الله ممن انتمى للعلم وأهله، واقتفى من سننه واضح سبله.
ابن جابرمحمد بن جابر بن محمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم بن حسان القيس الوادآشى الأصل والمعرفة، التونسى الاستيطان، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن جابر
حالهمن عايد الصلة: نشأ بتونس، وجال في البلاد المشرقية والمغربية، واستكثر من الرواية ونقب عن المشايخ، وقيد الكثير، حتى أصبح جماعة المغرب، وراوية الوقت. ثم قدم الأندلس ظريف النزعة، عظيم الوقار، قويم السمت، يأوى في فضل التعيش إلى فضل ما كان بيده، يصرفه في مصارف التجارة. وقعد للإسماع والرواية، وانتقل إلى بلش، فقرأ بها القرآن العظيم والروايات السبع، على الخطيب أبي جعفر بن الزيات. ثم رحل إلى المغرب، ثم أعاد الرحلة الحجازية، وأعرق، فلقى أمة من العلماء والمحدثين، وأصبح بهم شيخ وحده، انفساح رواية، وعلو إسناد.
مشيختهمن شيوخه قاضي الجماعة بتونس أبو العباس بن الغماز الخزرجى البلنس، وقاضي الجماعة بها أبو إسحق بن عبد الرفيع، وقاضي قضاة الديار المصرية بدر الدين بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن صخر الكناني. وقاضي الجماعة ببجاية، أبو العباس الغبريني، وسراج الدين أبو جعفر عمر بن الخضر بن طاهر بن طراد بن إبراهيم ابن محمد ابن منصور الأصبحى، وأبو محمد عبد الغفار بن محمد السعدي المصرى. ورضى الدين إبراهيم بن عمر بن إبراهيم الخليلي الجعفري.

وشرف الدين أبو عبد الله بن الحسن بن عبد الله ابن الحافظ عبد الغني ابن عبد الواحد بن سرور المقدسي. وأبو الفضل أبو القاسم بن حمادين أبي بكر بن عبد الواحد الحضرمي اللبيد. وعبد الله بن يوسف بن موسى الخلاسي. وعبد الله بن محمد بن هرون، وإبراهيم بن محمد بن أحمد أبن محمد بن عبد الله بن الحاج التجيبي، وأحمد بن يوسف بن يعقوب ابن علي الفهرى اللبلى، وولده جابر بن محمد بن قاسم معين الدين، وعز الدين أبو القاسم بن محمد بن الخطيب، وجمال الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الباقي بن الصفار، وأبو بكر بن عبد الكريم بن صدقة العزفى، ومحمد بن إبراهيم بن أحمد التجيبي، وأبو يعقوب يوسف بن إبراهيم بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن عقاب الجذامى الشاطبى، وعبد الرحمن بن محمد بن علي بن عبد الله الأنصاري الأسدي القيرواني، وأبو القاسم خلف بن عبد العزيز القبتورى، وعلي بن محمد بن أبي القاسم ابن رزين التجيبي، وأحمد بن موسى بن عيسى البطرني، وغر القضاة فخر الدين أبو محمد عبد الواحد بن منصور بن محمد بن المنير، وتقي الدين محمد بن أحمد بن عبد الخالق المصري، وصدر النحاة أبو حيان، وظهير الدين أبو محمد بن عبد الخالق المخزومي المقدسي الدلاصى، ورضى الدين بن إبراهيم بن أبي بكر الطبري، والمعمر بهاء الدين أبو محمد القاسم بن مظفر بن محمود بن هبة الله بن عساكر الدمشقي.
وأما من كتب إليه فنحو ماية وثمانين من أهل المشرق والمغرب.
قدم غرناطة في أول عام ستة وعشرين وسبعماية، فهو باعتبار أصله أصلى، وباعتبار قدومه طارئ وغريب.
تواليفهله تواليف حديثية جملة، منها أربعون حديثاً، أغرب فيها بما دل على سعة خطوه وانفساح رحله.
وفاته كان حيا سنة أربعين وسبعماية، وبلغى أنه توفي عام سبعة بعدها.
محمد بن خلف بن موسى الأنصاري

الأوسي

من أهل إلبيرة، يكنى أبا عبد الله.
حالهكان متكلماً، واقفاً على مذاهب المتكلمين، متحققاً برأي الأشعرية، ذاكراً لكتب الأصول والاعتقادات، مشاركاً في الأدب، مقدماً في الطب.
مشيختهروى عن أبي جعفر بن محمد بن حكم بن باق، وأبي جعفر بن خلف ابن الهيثم، وأبوى الحسن بن خلف العنسى، وابن محمد بن عبد العزيز ابن أحمد بن حمدين، وأبوى عبد الله بن عبد العزيز المورى، وابن فرج مولى الطلاع، وأبي العباس بن محمد الجذامي، وأبي علي الغساني، وأبي عمرو زياد بن الصفار، وأبي القاسم أحمد بن عمر. وأخذ علم الكلام عن أبي بكر بن الحسن المرادي، وأبي جعفر بن محمد بن باق، وأبي الحجاج ابن موسى الكلبي. وتأدب في بعض مسائل النحو بأبي القاسم بن خلف ابن يوسف بن فرتون بن الأبرش.
من روى عنه: روى عنه أبو إسحق بن قورقول، وأبو خالد المرواني، وأبو زيد بن نزار، وأبو عبد الله بن الصيقل المرسى، وأبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله بن سمعان، وأبو الوليد بن خبرة.
تواليفهمن تواليفه: النكت والأمالي في الرد على الغزالي، والإيضاح والبيان في الكلام على القرآن، والوصول إلى معرفة الله ونبوة الرسول ورسالة الاقتصار على مذاهب الأيمة الأخيار، ورسالة البيان في حقيقة الإيمان، والرد على أبي الوليد بن رشد في مسألة الاستواء الواقعة له في الجزء الأول من مقدماته، وشرح مشكل ما وقع في الموطإ وصحيح البخاري، وقد كان شرع في تصنيفه عام ثماينية عشر وستماية في شوال منه، وبلغ في الكلام فيه إلى النكتة الرابعة والخمسين، وقطعت به قواطع المرض، وشرع في معالجة العين لرؤيا رىها، يقال له ألفت في نور البصيرة، فألف في نور البصر تنفع وتنتفع، فأقبل على تأليفه في مداواة العين، وهو كتاب جم الإفادة، ثم أكمل النكت.
شعرهوكان له حظ من قرض الشعر، فمن ذلك مامدح به إمام الحرمين أبا المعالي الجوينى:
حب حبر يكنى أبا المعالي ... هو ديني ففيه لاتعذلوني
أناوالله مغرم في هواه ... عللوني بذكره عللوني
مولده: ولد يوم الثلاثاء لإثنى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر سنة سبع وخمسين وخمسماية.
الشريشىمحمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الله الخولاني غرناطى يكنى أبا عبد الله ويعرف بالشريشى
حاله

من أهل التصاون والحشمة والوقار، معرق في بيت الخيرية والعفة، وكان والده صاحبنا رحمه الله، آية في الدؤوب والصبر على انتساخ الدواوين العلمية والأجزاء، بحيث لامظنة معرفة أو حجرة طلب تخلو عن شيء من خطه إلا مايقل، على سكون وعدالة وانقباض وصبر وقناعة.
وأكتب للصبيان في بعض أطواره. ونشأ ابنه المذكور، ظاهر النبل والخصوصية مشاركاً في فنون، من عربية وأدب وحساب وفريضة، وتصر في الشهادة المخزنية برهة، ثم نزع عنها انقياداص لداعي النزاهة، وهو الآن بحاله الموصوفة.
شعرهوشعره من نمط الإجادة، فمن ذلك قوله:
بي شادن أهيف مهمى انثنى ... يحكى تثنيه القضيب الرطيب
ذو غرة كالبدر قد أطلعت ... فوق قضيب نابت في كثيب
خضت حشا الظلماء من حبه ... أختلس الوصل حذار الرقيب
فبت وللوصل لنا ثالث ... يضمنا ثوب عفاف قشيب
حتى إذا ما الليل ولى وقد ... مالت نجوم الأفق نحو الغروب
ودعته والقلب ذو لوعة ... أسيل من ماء جفوني غروب
فلست أدري حين أودعته ... قلب بأضلاعي غدا أم قليب
ومن ذلك في النسيب:
يا أجمل الناس ويا من غدت ... غرته تمحو سنا الشمس
أنعم على عبدك يا مالكي ... دون اشتراء ومني نفسى
بأن ترى وسطى لعقدى وأن ... تعيد ربعى كامل الأنس
وإن تكن ترجعني خايباً ... فإنني أدرج في رمس
وقال في فضل العلم:
يا طالب العلم اجتهد إنه ... خير من التالد والطارف
فالعلم يذكو قدر إنفاقه ... والمال إذا أنفقته تالف
وتراقى إلى هذا العهد بإشارتي إلى إلى لا فوقها من تعليم ولد السلطان، والرياسة القرآنية بباب الإمارة، والإمامة بالمسجد الجامع من القلعة حميد الطريقة في ذلك كله، معروف الحق، تولاه الله.
مولده: عام ثمانية عشر وسبعماية.
محمد بن محمد بن علي بن سودة

المرى

يكنى أبا القاسم
أوليتهمن نبهاء بيوتات الأندلس وأعيانها، سكن سلفه البشارة، بشارة بني حسان، وولى جده الأشغال، حميد السيرة، معروف الإدانة.
حالههذا الفتى من اهل الخصوصية والسكون والحياء، المانع عن كثير من الأغراض. مال إلى العلوم العقلية، فاستظهر على المماسة في بعض أغراضها بالدؤوب والعكوف، والمورين تأثير حبل الركية في جحرها، فتصدر للعلاج، وعانى الشعر، وأرسم في الكتابة، وعد من الفضلاء، وظهرت على عباراته اصطلاحات الحكماء، وتشوف إلى العهد للرحلة الحجازية، والله ييسر قصده.
مشيختهقرأ الطب والتعديل على الحبر طبيب الدار السلطانية، فارس ذينك الفنين، إبراهيم بن زرزار اليهودى، ورحل إلى العدوة، فقرأ على الشريف العالم الشهير، رحلة الوقت في المغرب، أبي عبد الله العلوى، وبلقيايه نجح.
شعرهأنشد السلطان قوله:
جاد الحمى صوب الغمام هتونه ... تزجى البروق سحابه فتعينه
وسقى ديار العامرية بعدما ... وافى بجرعا الكثيب معينه
يندى بأفنان الأراك كأنه ... عقد تناثر بالعقيق ثمينه
ومحى الكثيب سكوبه فكأنه ... خط تطلس ميمه أو نونه
حتى إذا الأرواح هبت بالضحا ... مسحت عليه بالجناح تبينه
وكأنه والرعد يحدو خلفه ... صب يطول إلى اللقاء حنينه
أوسح دمعي فوق أكناف اللوى ... جادت بلؤلؤة النفيس عيونه
والبرق في حلل السحاب كأنه ... مكنون سر قد أذيع مضمونه
أو ثوب ضافية الملابس كاعب ... عمدت بحاشية النضار تزينه
هن الديار برامة لا دهرها ... سلس القياد ولا العتاب يلينه
ولقد وقفت برسمها فكأنني ... من ناحل الأطلال فيه أكونه
قلبي بذاك اللوى خلفته ... ألوى بمزدلف الرفاق ظعينه
لا تسل العذال عني فالهوى ... ذا يخامر بالضلوع دفينه
إن يخف عن شرحى حديث زميرتي ... فعلى الفنون فريضة تبينيه

عجباً لدمعي لا يكف كأنما ... جدوى أبي عبد الاله هتونه
محي المكارم بعد ما أودى بها ... زمن تقلب بالكرام خؤونه
مولى الملوك عميد كل فضيلة ... علق الزمان ثمينه ومكينه
يضفى إلى داعي الندى فيهزه ... وبملتقى الجمعين طال سكونه
من ذا يسابق فضله لوجوده ... ويلج فيض البحر فاض يمينه
إن تلقه تلق الجمال وقاره ... والحلم طبع والسماحة دينه
غمر الأنام نواله ومحا الضلال رشاده وجلا الظلام جبينه
أحيا رسوم الدين وهي دوارس ... ولطالما صدع الشكوك يقينه
شمس الهدى حتف العدا محي الندا بحر الجدا طول المدى تمكينه
ليث الشرى غوث الورى قمر السرى سن القرى عم القرى تأمينه
فلبأسه يوم الوغى ولعزمه ... جاش الهزبر إذا الهزبر يخونه
لا تسل الهيجاء عنه إنه ... يصل المراد كما تحب ظنونه
لو كان يشغله المنام عن العلا ... هجر المنام وباعدته جفونه
وإذا تطاولت الملوك بماجد ... بمحمد دون الأنام يكونه
يا بن الألي نصروا الرسول ومن بهم نطق الكتاب فصيحه ومبينه
خصوا ببيعته وحاموا دونه ... نهج الرضا حتى تقاوم دينه
أمعاضد الإسلام أنت عميده ... وخليفة الرحمن أنت أمينه
لم يبق إلا من بسيفك طايع ... وألفنش في أقصى البلاد رهينه
وبجيشك المنصور لو لاقيته ... أدرى بمشتجر الرماح طعينه
ولو اصطنعت إلى العدو إدالة ... طاعت إليك بلاده وحصونه
خذها إليك قصيدة من شاعر ... حلو الكلام مهذب تبيينه
جعل القوافي للمعالي سلماً ... فجنى القريض كما اقتضته فنونه
غطى هواه عقله واقتاده ... يحصى النجوم جهالة تزيينه
ولو أخذته أيدي التحرير والنقد، لرجى أن يكون شاعراً، وبالجملة فالرجل معدود من السراة بيتاً وتخصصاً.
محمد بن عبد العزيز بن سالم بن خلف القيسيمنكبي الأصل يكنى أبا عبد الله، طبيب الدار السلطانية.
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه الله فذا في الانطباع واللوذعية، حين المشاركة في الطب، مليح المحاضرة، حفظة، طلعة، مستحضراً للأدب، ذاكراً لصناعة الطب، أخذها عن إمام وقته، أبي جعفر الكزني، وانتصب للعلاج، ثم انتقل إلى الخدمة بصناعته بالباب السلطاني، وولى الحسبة، ومن شعره يخاطب السلطان على ألسنة أصحابنا الأطباء الذين جمعتهم الخدمة ببابه يومئذ، وهم أبو الأصبغ بن سعادة، وأبو تمام غالب الشقورى:
قد جمعنا ببابكم سطر علم ... لبلوغ المنى ونيل الإرادة
ومن أسمائنا لكن حسن فال ... غالب ثم سالم وسعادة
توفي في شهر رجب من عام سبعة عشر وسبعماية.
محمد بن عبد الله بن أبي زمنينمن أهل إلبيرة، يكنى أبا عبد الله
حالهمن الملاحى: قال ولى الأحكام، وكان فقيها نبيها.
وفاته: توفي بغرناطة في عشر الستين وأربعمائة قلت، قد تقدم اعتذاري عن إثبات مثله في هذا المختصر، فلينظر هناك إن شاء الله.
بن أبي زمنين عدنان المرىمحمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن محمد بان إبراهيم بن محمد بن أبي زمنين عدنان بن بشير بن كثير المرى
حاله

كان من كبار المحدثين والعلماء الراسخين، وأجل وقته قدراً في العلم والرواية والحفظ للرأي والتمييز للحديث، والمعرفة باختلاف العلماء، متفنناً في العلم، مضطلعاً بالأدب، قارضاً للشعر، متصرفاً في حفظ المعاني والأخبار، مع النسك والزهد، والأخذ بسنن الصالحين، والتخلق بأخلاقهم. لم يزل أمة في الخير، قانتاً لله، منيباً له، عالماً زاهدا صالحاً خيراً متقشفاً، كثير التبتل والتزلف بالخيرات، مسارعاً إلى الصالحات، دايم الصلاة والبكاء، واعظاً، مذكراً بالله، داعياً إليه، ورعاً ملبى الصدقة، معيناً على النايبة، مواسياً بجاهه وماله، ذا لسانٍ وببان، تصغى إليه الافئدة، فصيحاً، بهياً، عربياً، شريفاً، أبى النفس، عالي الهمة، طيب المجالسة، أنيس المشاهدة، ذكياً، راسخاً في كل جم من العلوم، صيرفياً جهبذاً، ما رؤى قبله ولا بعده، مثله.
مشيختهسكن قرطبة، وسمع بها من أحمد بن مطرف، ووهب بن مسرة الحجارى، وعن أبان بن عيسى بن محمد بن دنير، وعن والده عبيد الله بن عيسى.
من روى عنه: روى عنه الزاهد أبو اسحق إبراهيم بن مسعود الإلبيرى وغيره.
تواليفهألف كتاب المغرب في اختصار المدونة ثلاثين جزءاً، ليس في المختصرات مثله بإجماع، والمهذب في تفسير الموطأ، والمشتل في أصول الوثايق، وحياة القلوب، وأنس الفريد، ومنتخب الاحكام، والنصائح المنظومة، وتفسير القرآن.
مولده: في المحرم سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
وفاته: توفي في شهر ربيع الثاني عام ثمانية وتسعين وثلاثمائة بحاضرة إلبيرة، رحمه الله ونفع به.
محمد بن عبد الرحمن بن الحسن بن قاسم بن مشرف بن قاسم

ابن محمد بن هاني اللخمى القايصي

يكنى أبا الحسن
حالهكان وزيراً جليلاً، فقيهاً رفيعاً، جوادا، أديباً، جيد الشعر، عارفاً بصناعة النحو والعروض، واللغة والأدب والطب، من أهل الرواية والدراية
مشيختهروى عن الحافظ أبي بكر بن عطية، وأبي محمد بن عتاب، وأبي الوليد بن رشد القاضي الإمام، ولا قاضي أبي محمد عبد الله بن علي بن سمجون.
شعرهمن شعره قوله:
يا حرقة البين كويت الحشا حتى ... أذبت القلب في أضلعه
أذكيت فيه النار حتى غدا ... ينساب ذاك الذوب من مدمعه
يا سؤل هذا القلب حتى متى ... يوسى برشف الريق من منبعه
فإن في الشهد شفاً للورى ... لا سيما إن يصر من مكسرعه
والله يدني منكم عاجلاً ... ويبلغ القلب إلى مطمعه.
مولده: ولد في الثالث الأخير من ليلة الجمعة لثلاث بقين لذى حجة سنة ثمان وتسعين وأربعمائة.
توفي في آخر جمادى الأخرى سنة ست وتسعين وخمسمائة.
محمد بن أحمد الغسانيمحمد بن عبد الرحمن بن عبد السلام بن أحمد بن يوسف ابن أحمد الغساني من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله
حالهكان محدثاً نبيلاً حاذقاً ذكياً، وله شرح جليل على كتاب الشهاب، واختصار حسن في اقتباس الأنوار للرشاطى. وكان كاتباً وافر الحظ من الأدب، يقرض شعراً لا بآس به.
من شعره في ذكر أنساب طبقات العرب:
الشعب ثم قبيلة وعمارة ... بطن وفخذ الفصيلة تابعه
فالشعب يجمع للقبائل كلها ... ثم القبيلة للعمارة جامعة
والبطن يجمعه العمار فاعلمن ... والفخذ يجمعه البطون الواسعة
والفخذ يجمع للفصايل كلها ... جاءت على نسق لها متتابعة
فخزيمة شعب وإن كنانة ... لقبيلة عنها الفصايل شاسعة
وقريشها تسمو العبارة يافتى ... وقصى بطن الأعادي قامعة
ذا ما ثم فخذ وذا عباسها ... الا الفصيلة لا تناط بسايعة
ولد بغرناطة سنة ثمان وستين وخمسماية.
وفاته: بمرسية في رمضان تسع عشرة وستماية
ابن حقل الغافقيمحمد بن عبد الواحد بن إبراهيم بن مفرج بن أحمد بن عبد الواحد ابن حريث بن جعفر بن سعيد بن محمد بن حقل الغافقي من ولد مروان بن حقل النازل بقرية الملاحة من قنب قيس من عمل إلبيرة، يكنى أبا القاسم ويعرف بالملاحي. وقد نقلنا عنه الكثير، وهو من المفاخر الغرناطية.
حاله

كان محدثا راوية معتنيا، أديباً، مؤرخاً، فاضلاً جليلاً. قال الأستاذ في الصلة: كان من أفضل الناس، وأحسنهم عشرة، وألينهم كلمة، وأكثرهم مروءة، وأحسنهم خلقاً وخلقاً، ما رأيت مثله، قدس الله تربته. وذكره صاحب الذيل، الأستاذ أبو عبد الله بن عبد الملك، وأطنب فيه، وذكره المحدث أبو عبد الله الطنجالي، وذكره ابن عساكر في تاريخه.
مشيختهروى عن أبيه أبي محمد، وأبي القاسم بن بشكوال، وأبي العباس بن اليتيم، وعالم كثير من غير بلده، ومن أهل بلده سوى أبيه، وعن أبي سليمان داود بن يزيد بن عبد الله السعدي القلعي، لازمه مدة، وعن أبي خالد بن رفاعة اللخمي، وأبي محمد عبد الحق بن يزيد العبدري، وأبي جعفر عبد الرحمن بن الحسن بن القصير، وأبي بكر بن طلحة ابن أحمد بن عبد الرحمن بن عطية المحاربي، وأبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم، وأبي جعفر بن حكم الحصار، وأبي عبد الله بن عروس، وأبي الحسن بن كوثر، وأبي بكر الكتندي، وأبي إسحق بن الجلا، وأبي بكر بن زمنين، وأبي القاسم بن سمجون، وأبي محمد بن عبد الصمد ابن محمد بن يعيش الغساني. وكان من المكثرين في باب الرواية، أهل الضبط والتقييد والإتقان، بارع الخط، حسن الوراقة، أديباً بارعاً ذاكراً للتاريخ والرجال، عارفاً بالأنساب، نقاداً حافظاً للأسانيد، ثقة عدلاً، مشاركاً في فنون، سياسياً. وروى عنه الأستاذ، واعتنى بالرواية عنه. وقال الأستاذ، حدثني عنه من شيوخي جماعة، منهم القاضي العدل أبو بكر بن المرابط.
تواليفهألف كتابه في تاريخ علماء إلبيرة، واحتفل فيه. وألف كتاب الشجرة في الأنساب، وكتاب الأربعين حديثاً، وكتاب فضايل القرآن، وبرنامج روايته وغير ذلك.
مولده: سنة تسع وأربعين وخمسماية.
وفاته: توفي في شعبان سنة تسع عشرة وستماية ببلده.
الشقوريمحمد بن علي بن عبد الله اللخمي يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالشقوري، منسوباً إلى مدينة شقورة ومنها أهله، صاحبنا طبيب دار الإمارة، حفظه الله.
حالههذا الرجل طرف في الخير والأمانة، فذ في حسن المشاركة، نقي في حب الصالحين، كثير الهوى إلى أهل التقوى، حذر من التفريط، حريص على التعلق بجناب الله. نشأ سابغ رداء العفة، كثيف جلباب الصيانة، متصدراً للعلاج زمن المراهقة، معماً، مخولاً في الصناعة بادي الوقار في سن الحشمة. ثم نظر واجتهد، فأحرز الشهرة بدينه، ويمن نقيبته، وكثرة حيطته، ولطيف علاجه، ونجح تجربته. ثم كلف بصحبة الصالحين، وخاض في السلوك، وأخذ نفسه بالارتياض والمجاهدة، حتى ظهرت عليه آثار ذلك. واستدعاه السلطان لعلاج نفسه، فاغتبط به، وشد اليد عليه، وظهر له فضله، وهو لهذا العهد ببابه، حميد السيرة، قويم الطريقة، صحيح العقد، حسن التدبير، عظيم المشاركة للناس، أشد الخلق حرصاً على سعادة من صحبه، وأكثرهم ثناء عليه، وأصرحهم نصيحة له، نبيل الأغراض، فطن المقاصد، قايم على الصنعة، مبين العبارة، معتدل في البحث والمذاكرة، متكلم في طريقة الصوفية، عديم النظير في الفضل، وكرم النفس.
شيوخهقرأ على جده للأب، وعلى الحكيم الوزير خالد بن خالد من شيوخ غرناطة، وعلى شيخنا الحكيم الفاضل أبي زكريا بن هذيل ولازمه، وانتفع به، وسلك بالشيخ الصوفي أبي مهذب عيسى الزيات ثم أخيه الصالح الفاضل أبي جعفر الزيات، والتزم طريقته، وظهرت عليه بركته.
تواليفهألف كتباً نبيلة، منها تحفة المتوسل في صنعة الطب وكتاباً سماه الجهاد الأكبر، وآخر سماه قمع اليهودي عن تعدي الحدود أحسن فيه ما شاء.
شعرهأنشدني بعد ممانعة واعتذار، إذ هذا الغرض ليس من شأنه:
سالت ركاب العز أين ركابي ... فابدي عنادا ثم رد جوابي
ركابك مع سيري يسير بسيره ... بغير حول مذ حللت جنابي
فلا تلتفت سيراً لذاتك إنما ... تسير بها سيراً لغير ذهاب
وهي متعددة.
ولد في عام سبعة وعشرين وسبعماية.
الشفرةمحمد بن علي بن فرج القربلياني يكنى أبا عبد الله ويعرف بالشفرة
حاله

كان رجلاً ساذجاً، مشتغلا بصناعة الطب، عاكفا عليها عمره محققاً لكثير من أعيان النبات، كلفاً به، متعيشاً من عشبه أول أمره، وارتاد المنابت، وسرح بالجبال، ثم تصدر للعلاج، ورأس به، وحفظ الكثير من أقوال أهله، ونسخ جملة من كنانيشه على ركاكة خطه، وعالج السلطان نصر المستقر بوادي آش، وقد طرق من بها مرض وافد حمل علاجه المشاقحة لأجله، وعظم الهلاك فيمن اختص بتدبيره، فطوف القلب المبارك بمبراه. ثم رحل إلى العدوة، وأقام بمراكش سنين عدة، ثم كر إلى غرناطة في عام أحد وستين، وبها هلك على أثر وصوله.
مشيختهزعم أنه قرأ على أبيه ببلده من قربليان بلد الدجن، وأخذ الجراحة عن فوج من محسني صناعة عمل اليد من الروح. وقرأ على الطبيب عبد الله بن سراج وغيره.
تواليفه: ألف كتاباً في النبات.
وفاته: في السابع عشر لربيع الأول عام أحد وستين وسبعماية.
محمد بن علي بن يوسف بن محمد السكوني
ابن اللؤلؤةيكنى أبا عبد الله ويعرف بابن اللؤلؤة، أصله من جهة قمارش.
حالهرحل في فتايه، بعد أن شدا شيئاً من الطلب، وكلف بالرواية والتقيد فلقي مشخة، وأخذ عن جلة، وقدم على بلده حسن الحالة، مستقيم الطريقة، ظاهر الانقباض والعفة، وأدخل الأندلس فوايد وقصايد، وكان ممن ينتفع به لو أمهلته المنية.
شعرهمما نسبه إلى نفسه من الشعر قوله:
يا من عليه اعتمادي ... في قل أمري وكثره
سهل على ارتحالي ... إلى النبي وقبره
فذاك أقصى مرادي ... من الوجود بأسره
وليس ذا بعزيز ... عليك فامنن بيسره
ومن ذلك:
أمن بعد ما لاح المشيب بمفرقي ... أميل لزور بالغرور مصاغ
وأرتاح للذات والشيب منذر ... بما ليس عنه للأنام مراغ
ومن يمت قبل المشيب فإنه ... يراع بهول بعده ويراغ
فيا رب وفقني إلى ما يكون لي ... به للذي أرجوه منك بلاغ
توفي معتبطاً في وقيعة الطاعون عام خمسين وسبعماية، خطيباً بحصن قمارش.
ابن سودة المريمحمد بن سودة بن إبراهيم بن سودة المري أصله من بشرة غرناطة، يكنى أبا عبد الله.
حالهمن بعض التواريخ المتأخرة: كان شيخاً جليلاً، كاتباً مجيداً، بارع الأدب، رايق الشعر، سيال القريحة، سريع البديهة، عارفاً بالنحو واللغة والتاريخ، ذاكراً لأيام السلف، طيب المحاضرة، مليح الشيبة، حسن الهيئة، مع الدين والفضل، والطهارة والوقار والصمت.
مشيختهقرأ بغرناطة على الحافظ أبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم بن الفرس، وغيره من شيوخ غرناطة. وبمالقة، على الأستاذ أبي القاسم السهيلي وبجيان على ابن يربوع، وبإشبيلية على الحسن بن زرقون وغيره من نظرائه.
أدبهقال الغافقي، كانت بينه وبين الشيخ الفقيه واحد عصره أبي الحسن سهل بن مالك، مكاتبات ومراجعات، ظهرت فيها براعته، وشهدت له بالتقدم يراعته.
محنتهأصابه في آخر عمره نكبة ثقيلة، أسر هو وأولاده، فكانت وفاته أسفاً لما جرى عليهم نفعه الله. توفي في حدود سبعة وثلاثين وستماية.
محمد بن يزيد ين رفاعة الأموي البيريأصله من قرية طرش
حالهطلب العلم وعني بسمعه، ونسخ أكثر كتبه بخطه، وكان لغوياً شاعراً، من الفقهاء المشاورين الموثقين، وولي الصلاة بالحاضرة، وعزل وسرد الصوم عن نذر لزمه عمره.
مشيختهسمع من شيوخ إلبيرة، محمد بن فطيس، وابن عمريل، وهاشم ابن خالد، وعثمان بن جهير، وحفص بن نجيح، وبقرطبة من عبيد الله ابن يحيى بن يحيى وغيره.
من حكاياته: قال المؤرخ، من غريب ما جرى لأبي علي البغدادي، في مقدمه إلى قرطبة، أن الخليفة الحكم، أمر ابن الرما حس عامله على كورتي إلبيرة وبجانة، أن يجيء مع أبي علي في وفد من وجوه رعيته، وكانوا يتذاكرون الأدب في طريقهم، إلى أن تجاروا يوماً وهم سايرون، أدب عبد الملك بن مروان، ومساءلته جلساءه عن أفضل المناديل، وإنشاده بيت عبدة بن الطبيب:
ثمت قمنا إلى جرد مسومة ... أعرقهن لأيدينا مناديل

وكان الذاكر للحكاية أبو علي، فأنشد الكلمة في البيت أعراقها، فلوى ابن رفاعة عنانه منصرفاً، وقال، مع هذا يوفد على أمير المؤمنين، وتتجشم الرحلة العظيمة، وهو لا يقيم وزن بيت مشهور في الناس، لا يغلط فيه الصبيان، والله لاتبعته خطوة، وانصرف عن الجماعة، وندبه أميره ابن الرماحس، ورامه بأن لا يفعل، فلم يجد فيه حيلة، فكتب إلى الخليفة يعرفه بابن رفاعة، ويصف ما جرى معه، فأجابه الحكم على ظهر كتابه: الحمد لله الذي جعل في بادية من بوادينا من يخطئ وفد أهل العراق، وابن رفاعة بالرضا أولى منه بالسخط، فدعه لشأنه، وأقدم بالرجل غير منتقص من تكريمه، فسوف يعليه الاختبار أو يحطه.
توفي سنة ثلاث أو أربع وأربعمائة.
محمد بن خميس الأنصاريمحمد بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن علي ابن أبي بكر بن خميس الأنصاري من أهل الجزيرة الخضراء
حالهكان فاضلاً وقوراً، مشاركاً، خطيباً، فقيهاً، مجوداً للقرآن، قديم الطلب، شهير البيت، معروف التعين، نبيه السلف في القضاء، والخطابة والإقراء، مضى عمره خطيباً بمسجد بلده الجزيرة الخضراء، إلى أن تغلب العدو عليها، وباشر الحصار بها عشرين شهراً، نفعه الله ثم انتقل إلى مدينة سبتة، فاستقر خطيباً بها إلى حين وفاته.
مشيختهقرأ على والده رحمه الله، وعلى شيخه، وشيخ أبيه أبي عمر، وعباس ابن الطفيل الشهير بابن عظيمة، وعلى الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، والخطيب أبي عبد الله بن رشيد بغرناطة عند قدومه عليها، والقاضي أبي المجد بن أبي الأحوص قاضي بلده، وكتب له بالإجازة الوزير أبو عبد الله بن أبي عامر بن ربيع، وأجازه الخطباء الثلاثة أبو عبد الله الطنجالي، وأبو محمد الباهلي، وأبو عثمن بن سعيد، وأخذ عن القاضي بسبتة أبي عبد الله الحضرمي، والإمام الصالح أبي عبد الله بن حريث، والمحدث أبي القاسم التجيبي، والأستاذ أبي عبد الله بن عبد المنعم، والأخوين أبي عبد الله وأبي إبراهيم ابني يربوع. قال، وكلهم لقيته وسمعت منه. وأجاز لي إجازة عامة ما عدا الإمام ابن حريث فإنه أجاز لي، والخطيب ابن عزمون وغيرهم، ممن تضمنه برنامجه.
تواليفهقال، وكان أحد بلغاء عصره، وله مصنفات منها، النفحة الأرجية، في الغزوة المرجية، ودخل غرناطة مع مثله من مشيخته بلده في البيعات، أظن ذلك.
توفي في الطاعون بسبتة أخر جمادى الآخر من عام خمسين وسبعماية.
محمد بن أحمد بن عبد الله العطارمن أهل ألمرية.
حاله من بعض التقييدات، كان فتى وسيماً، وقوراً، صيباً، متعففاً، نجيباً، ذكياً. كتب عن شيخنا أبي البركات بن الحاج، وناب عنه في القضاء، وانتقل بانتقاله إلى غرناطة، فكتب بها. وكان ينظم نظماً مترفعاً عن الوسط. وجرى ذكره في الإكليل بما نصه ممن نبغ نوجب، وخلق له البر بذاته ووجب، تحلى بوقار، وشعشع للأدب كاس عقار، إلا أنه اخترم في اقتبالن وأصيب الأجل بنبال.
من شعرهقوله من قصيدة:
دعاني على طول البعاد هواها ... وقد سد أبواب اللقا نواها
وقد شمت برقا للقا مبشراً ... وقد نفحت ريح الصبا بشذاها
وجن دجى ليل بخيل بصبحه ... كما بخلت ليلى بطيف سراها
وقاد زمان قايد الحب قاصدا ... ربوعاثوت ليلى بطول قناها
وناديت والأشواق بالوجد برحت ... ودمعي أجرى سابغً للقاها
أبا كعبة الحسن التي لنفس ترتجي ... رضاها وحاشى أن يخيب رجاها
أحبك يا ليلى على البعد والنوى ... وبي منك أشوقا تشب لظاها
لين حجبت ليلى عن العين إنني ... بعين فؤادي لا أزال أراها
إلى أن بدا الصبح المشتت شملنا ... وما بلغت نفسي المشوق مناها
فمدت يميناً للوداع ودمعها ... يكفكفه خوف الرقيب سراها
وقالت وداعاً لا وداع تفرق ... لعل الليالي أن تديل نواها
تذكرنا ليلى معاهد باللوى ... رعى الله ليلات اللوى ورعاها
توفي في الطاعون الأعظم عام خمسين وسبعمائة.
محمد بن أحمد بن المراكشي

من أهل ألمرية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالمراكشي
حالهكان فتى جميل الرؤيا، سكوتاً، مطبوعاً على المغافصة والغمز، مهتدياً إلى خفي الحيلة، قادراً على المباحثة، ذكياً، متسوراً على الكلام في الصنايع والألقاب، من غير تدرب ولا حنكة، دمث الأخلاق، لين العريكة، انتحل الطب، وتصدر للعلاد والمداواة، واضطبن أغلوطة صارت له بها شهرة، وهي رق يشتمل على أعداد وخطوط وزايرجة، وجداول غريبة الأشكال، تحتها علامات فيها اصطلاحات الصنايع والعلوم، ويتصل بها قصيدة رويها لأم الألف أولها، وهي منسوبة لأبي العباس السبتي.
يقول سبتي ويحمد ربه ... مصل على هاد إلى الناس أرسلا
وأنها مدخل للزيرجة ذكر أنه عثر عليها في مظنة غريبة، وظفر برسالة العمل بها، وتحرى بالإعلام بالكنايات، والإخبار بالخفي وتقدمة المعرفة، والإنذار بالوقايع، حتى استهوى بذلك جماعة من المشيخة، ممن كان يركن إلى رجحان نظره، وسلامة فطرته، واستغلت الشهادة له بالإصابة، سجية النفوس في حرصها على إثبات دعاوي المتحرفين، أخبرني بعهم أنه خبأ له عظماً صغيراً، يكون في أطراف أجنحة الطير، أخذه من جناح ديك، وزعم أرباب الخواص أنه يزيل الإعياء إذا علق، فتصرف على عاداته من الدخول في تلك الجداول، وأخذ الأعداد الكثير، يضربها آونة، ويقسمها أخرى، ويستخرج من تلك الجداول جيوباً وسهاماً، ويأخذ جذوراً، وينتج له العمل آخراً حروفاً مقطعة، ببقيها الطرح، يولف منها كلاماً، تقتنص منه الفائدة، فكان في ذلك بيت شعر:
وفي يدكم عظم صغير مدور ... يزيل به الإعياء من كان في السفر
وأخبرني آخرون أنه سيل في نازلة فقهية لم يلق فيها نص، فأخبر أن النص فيها موجود بمالقة، فكان كذلك. وعارض ذلك كله جلة من أشياخنا، فذكرني الشيخ نسيج وحده، أبو الحسن بن الجياب أنه سامره يخرج خبيئته سواد ليلة، فتأمل ما يصنعه، فلم يأت بشيء، ولا ذهب إلى عمل يتعقل، وظاهر الأمر أن تلك الحال كانت مبنية على تخيل وتخمين، وتختلف فيه الإصابة وضدها، بحسب الحالة والقايل، لتصرف الحيلة فيه، فاقتضى ذلك تأميل طائفة من أهل الدول إياه، وانتسخوا نظاير من تلك الزيرجة المموهة، ممطولين منه بطريق التصرف فيها إلى اليوم، واتصل بالسلطان، فأرسم ببابه، وتعدى الإنس إلى طب الجن، فافتضح أمره، وهم به، فنجا مفلتاً. ولم تزل حاله مضطربة، إلى أن دعى من العدوة وسلطانها، منازل مدينة تلمسان، ووصلت الكتب عنه، فتوجه في جفن هيئ له، ولم ينشب أن توفي بالمحلة في أوايل عام سبعة وثلاثين وسبعماية.
محمد بن بكرون بن حزب اللهمن أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله.
حالهمن أهل الخصوصية والفضل، ظاهر الاقتصاد، كثير التخلق، حسن اللقاء، دايم الطريقة، مختصر الملبس والمأكل، على سنن الفضلاء وأخلاق الجلة. انتظم لهذا العهد في نمط من يستجاز ويجيز. وكان غفلاً فأقام رسماً محموداً، ولم يقصر عن غاية الاستعداد.
مشيختهمنهم الأستاذ مولى النعمة على أهل بلده، أبو محمد عبد الواحد بن أبي السداد الباهلي، قرأ عليه القرآن العظيم أربعة عشر ختمة قراءة تجويد وإتقان بالأحرف السبعة، وسمع عليه كتباً كثيرة، وقال عند ذكره في بعض الاستدعاءات: ولازمته رضي الله عنه وأرضاه إلى حين وفاته، ونلت من عظيم بركاته، وخالص دعواته، ما هو عندي من أجل الوسايل، وأعظم الذخيرة، وأفضل ما أعددته لهذه الدار والدار الآخرة. وكان في صدر هذا الشيخ الفاضل كثير من علم اليقين. وهو علم يجعله الله في قلب العبد إذا أحبه، لأنه يؤول بأهله إلى احتمال المكروه، والتزام الصبر، ومجاهدة الهوى، ومحاسبة النفس، ومراعاة خواطر القلب، والمراقبة لله، والحياء من الله، وصحة المعاملة له، ودوام الإقبال عليه، وصحة النية، واستشعار الخشية. قال الله تعإلى: " إنما يخشى الله من عباده العلماء " ، فكفى بخشية الله علماً، وبالإقبال عليه عزاً. قلت، وإنما نقلت هذا، لأن مثله لا يصدر إلا عن ذي حركة، ومضطبن بركة، ومنهم الشيخ الخطيب الفاضل ولي الله، أبو عبد الله محمد بن أحمد بن يوسف الطنجالي.
دخل غرناطة راوياً، وفي غير ذلك في شئونه، وهو الآن ببلده مالقة يخطب ببعض المساجد الجامعة بها على الحال الموصوفة.
محمد بن الحسن الميورقي

محمد بن الحسن بن أحمد بن يحيى الأنصاري الخزرجي الميورقي الأصل، سكن غرناطة.
حالهكان محدثاً عالي الرواية، عارفاً بالحديث وعلله، وأسماء رجاله، مشهوراً بالإتقان والضبط، ثقة فيما نقل وروى، ديناً، زكياً، متحاملاً، فاضلاً، خيراً، متقللاً من الدنيا، ظاهري المذهب داوديه، يغلب عليه الزهد والفضل.
مشيختهروى بالأندلس عن أبي بكر بن عبد الباقي بن محمد بن الحجاري، وأبي علي الصدفي الغساني، وأبي مروان الباجي، ورحل إلى المشرق وحج، وأخذ بمكة كرمها الله، عن أبي ثابت وأبي الفتح عبد الله بن محمد البيضاوي وأبي نصر عبد الملك بن أبي مسلم العمراني. قلت وغيرهم اختصرتهم لطولهم. وقفل إلى الأندلس فحدث بغير بلده منها، لتجواله فيها.
ومن روى عنه: روى عنه أبو بكر بن رزق، وأبو جعفر بن الغاسل وغيرهم.
محنتهإمتحن من قبل علي بن يوسف بن تاشفين، فحمل إليه صحبة أبي الحكم بن يوجان، وأبي العباس بن العريف، وضرب بالسوط عن أمره، وسجنه وقتاً، ثم سرحه وعاد إلى الأندلس، وأقام بها يسيراً، ثم انصرف إلى المشرق، فتوقف بالجزاير، وتوفي بها في شهر رمضان سنة سبع وثلاثين وخمسماية.
المعمم الساحليمحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الأنصاري الساحلي يكنى أبا عبد الله، ويعرف ببلده مالقة بالمعمم
حالهكان طبقة من طبقات الكفاة، ظرفاً ورواءً وعارضةً وترتيباً، تجلل بفضل شهرة أبيه، وجعل بعض المترفين من وزراء الدول بالمغرب أيام وجهته إليه، وصحبة الشيمخ الصالح أبيه في غرض السفارة، مالاً عريضاً لينفقه في سبيل البر، فبنى المدرسة غربي المسجد الأعظم، ووقف عليها الرباع، وابتنى غيرها من المساجد، فحصلت الشهرة، ونبه الذكر، وتطور، ورام العروج في مدارج السلوك، وانقطع إلى الخلوة، فنصلت الصبغة، وغلبت الطبيعة، وتأثل له مال جم، اختلف في سبب اقتنايه، وأظهر التجر المرهف الجوانب بالجاه العريض، والحرص الشديد، والمسامحة في باب الورع، فتبنك به نعيماً من ملبس ومطعم وطيب وترفه، وطارد به اللذة ما شاء في باب النكاح استمتاعاً وذواقاً يتبع رايد الطرف، ويقلد شاهد السمع، حتى نعى عليه. وولي الخطابة بالمسجد الأعظم بعد أبيه، فأقام الرسم، وأوسع المنبر ما شاء من جهورية وعارضة، وتسور على أعراض، وألفاظ في أسلوب ناب عن الخشوع، عريق في نسب القحة. ثم رحل إلى المشرق مرة ثانية، وكر إلى بلده، مليح الشيبة بادي الوقار، نبيه الرتبة، فتولى الخطابة إلى وفاته.
مشيختهحسبما قيدته من خط ولده أبي الحسن، وارثه في كثير من خلاله، وأغلبها الكفاية. فمنهم والده رحمه الله. قرأ عليه وتأدب به، ودون في طريقه، حسبما يتقرر ذلك، ومنهم الأستاذ أبو محمد بن أبي السداد الباهلي، ومنهم الشيخ الراوية أبو عبد الله بن عياش، والخطيب الصالح أبو عبد الله الطنجالي، والخطيب الصالح أبو جعفر بن الزيات، والأستاذ ابن الفخار الأركشي، والقاضي أبو عمرو بن منظور، والأستاذ ابن الزبير وغيرهم، كابن رشيد، وابن خميس، وابن برطال، وابن مسعدة، وابن ربيع، وبالمشرق جماعة اختصرتهم لطولهم.
تواليفهوتسور على التأليف، بفرط كفايته، فمما ينسب إليه كتاب: التجر الربيح في شرح الجامع الصحيح قال، منه ما جرده من المبيضة. ومنه ما لم يسمح الدهر بإتمامه، وكتاب بهجة الأنوار، وكتاب الأسرار، وكتاب إرشاد السايل لنهج الوسايل، وكتاب بغية السالك في أشرف المسالك في التصوف، وكتاب أشعة الأنوار في الكشف عن ثمرات الأذكار. وكتاب النفحة القدسية، وكتاب غنية الخطيب بالاختصار والتقريب في خطب الجمع والأعياد، وكتاب غرايب النجب في رغايب الشعب، شعب الإيمان، وكتاب في مناسك الحج، وكتاب نظم سلك الجواهر في جيد المعارف الصدور والأكابر، فهرسة تحتوي على فوايد من العلم وما يتعلق بالرواية، وتسوية الشيوخ وتحرير الأسانيد.
دخوله غرناطةدخلها مرات تشذ عن الإحصاء. ولد عام ثمانية وسبعين وستماية، وتوفي بمالقة في صبيحة ليلة النصف من شعبان عام أربعة وخمسين وسبعماية.
الطنجاليمحمد بن محمد بن يوسف بن عمر الهاشمي يكنى أبا بكر، ويعرف بالطنجالي، ولد الشيخ الولي أبي عبد الله.
حاله

من ذيل تاريخ مالقة للقاضي أبي الحسن بن الحسن. قال، كان هذا العالم الفاضل ممن جمع بين الدراية والرواية، والتراث والاكتساب. وعلو الانتساب، وهو من القوم الذين وصلوا الأصالة بالصول، وطول الألسنة بالطول، وهدوا إلى الطيب من القول، أثر الشموخ يبرق من أنفه، ونسيم الرسوخ يعبق من عرفه. وزاجر الصلاح يومي بطرفه، فتخاله من خوف الله ذا لمم، وفي خلقه دمائة، وفي عرنينه شمم. ووصفه بكثير من هذا النمط.
ومن العايد: كان من أهل العلم والتفنن في المعارف والتهمم بطلبها، جمع بين الرواية والدراية الصلاح. وكانت فيه خفة، لفرط صحة وسذاجة وفضل رجولة به، بارع الخط، حسن التقييد، مهيباً جزلاً، مع ما كان عليه من التواضع، يحبه الناس ويعظمونه، خطب بالمسجد الأعظم من مالقة، وأقرأ به العلم.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي محمد الباهلي، وأبيه الولي الخطيب رحمه الله. وروى عن جده أبي جعفر، وعن الراوية الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير، والراوية أبي عبد الله بن عياش، والقاضي أبي القاسم بن السكوت، وغيرهم ممن يطول ذكره، من أهل المشرق والمغرب.
وفاته: توفي بمالقة في أول صفر من عام ثلاثة وثلاثين وسبعماية وكان عمره نحواً من تسع وخمسين سنة.
محمد ين محمد بن ميمون الخزرجييكنى أبا عبد الله، ويعرف بلا أسلم، لكثرة صدور هذه اللفظة عنه، مرسي الأصل، وسكن غرناطة ووادي آش وألمرية.
حالهمن كتاب المؤتمن: كان دمث الأخلاق، قبل أن يحرجه شيء من مضيقات الصدور يشارك في العربية، والشعر يا لنازل عن الدرجة الوسطى، لا يخلو بعضه عن الحن. وكان تيتعيش من صناعة الطب. وجرت له شهرة بالمعرفة ترفع به بتلك الصناعة على حد شهرةٍ ترك النصيحة فيها، فكانت شهرته بالمعرفة ترفع به. وشهرته بترك النصيحة تنز له، ، فيمر بين الحالتين بشظف العيش، ومقت الكافة إياه.
قلت، كان لا أسلم، طرفاً في المعرفة بطرق العلاج، فسيح التجربة، يشارك في فنون، على حال غريبة من قلة الظرف، وجفاء الآلات، وخشن الظاهر، والإزراء بنفسه بالناس، متقدم في المعرفة بالخصوم، يقصد في ذلك. وله في الحرب والحيل حكايات، قال صاحبنا أبو الحسن ابن الحسن: كانت للحكيم لا أسلم خمر مخبأ، في كرم كان له بألمرية عثر عليها بعض الدعرة، فسرقها له. قال، فعمد إلى جرة وملأها بخمر أخرى، ودفنها بالجهة، وجعل فيها شيئاً من العقاقير المسهلات، وأشاع أن الخمر العتيقة التي كانت له لم تسرف، وإنما باقية، بموضع كذا، فعمد إليها أولئك الدعرة، وأخذوا في استعمالها، فعادت عليهم بالاستطلاق القبيح المهلك، فقصدوا الحكيم المذكور، وعرضوا عليه ما أصابهم، فقال لهم إيه، أدوا إلى ثمن الشريبة، وحينئذ أشرع لكم في الدواء، ويقع الشفا بحول الله. فجمعوا له أضعاف ما كان يساويه خمخره وعالجهم حتى شفوا بعد مشقة. وأخباره كثيرة.
وفاته: توفي عقب إقلاع الطاغية ملك برجلونة عن المرية عام تسعة وسبعماية. وخلفه ابن كان له يسمى إبراهيم، ويعرف بالحكيم، وجرى له من الشهرة ما جرى لأبيه، مرت عليه ببخت وقبول، وتوفي بعد عام خمسين وسبعماية.
الشديدمحمد بن قاسم بن أحمد بن إبراهيم الأنصاري جياني الأصل مالقيه، يكنى أبا عبد الله ويعرف بالشديد على بنية التصغير، وهو كثير التردد والمقام بحضرة غرناطة.
حالهمن أهل الطلب والذكاء والظرف والخصوصية، مجموع خلال من خط حسن واضطلاع بحمل كتاب الله. بلبل دوح السبع المثاني، وماشطة عروس أبي الفرج الجوزى، وآية صقعة في بالصوت، وطيب النغمة، اقتحم لذلك دسوت الملوك وتوصل إلى صحبة الأشراف، وجر أذيال الشهرة. قرأ القرآن والعشر بين يدى السلطان، أمير المسلمين بالعدوة، ودنا منه محله، لولا إيثار مسقط رأسه. وتقرب بمثل ذلك إلى ملوك وطنه، وصلى التراويح بمسجد قصر الحمراء، غريب المنزع، عذب الفكاهة، ظريف المجالسة، قادر على الحكايات، مستور حمى الوقار، ملب داعي الانبساط، على استراجاع واستقامة، مبرور الوفادة، منوه الإنزال، قلد شهادة الديوان بمالقة، معلاً عليه في ذلك، فكان مغار جبل الأمانة، صليب العود، شامخاً، صادق النزاهة، لوحاً للألقاب، محرزاً للعمل.
وولى الحسبة بمالقة حرسها الله تعالى، فخاطبته في ذلك أداعبه، وأشير إلى قوم من أجداده، وأولى الحمل عليه بما نصه:

يا أيها المحتسب الجزل ... ومن لديه الجد والهزل
تهنيك والشكر لمولى الورى ... ولاية ليس لها عزل
كتبت أيها المحتسب، المنتمى إلى النزاهة المنتسب، وأهنيك ببلوغ تمنيك، و أحذرك من طمع نفس بالغرور تمنيك، فكأني وقد طافت بركابك الساعة، ولزم لأمرك السمع والطاعة، وارتفعت في مصانعتك الطماعة، وأخذت أهل الريب بغتة كما تقوم الساعة، ونهضت تقعد وتقيم، وسكوتك الريح العقيم، وبين يديك القسطاس المستقيم، ولابد من شرك ينصب، وجماعة على ذي جاه تتعصب، وحالة كيتٍ بها الجناب الأخصب، فإن غضضت طرفك، أمنت عن الولاية صرفك، وإن ملأت ظرفك، رحلت عنها حرفك، وإن كففت فيها كفك، حفك العز فيمن حفك. فكن لقالي المجبنة قالياً، ولحوت السلة سالياً. وابد لدقيق الحوارى زهد حوارى، وازهد فيما بأيدي الناس من العوارى.
وسر في اجتناب الحلو على السبيل السوا، وارفض في الشوا دواعي الأهوا، وكن على الهراس، وصاحب فريد الرأس، شديد المراس، وثب على بايع طبيخ الأعراس، ليئاً مرهوب الافتراس، وأدب أطفال السوق في السوق، سيما من كان قبل البلوغ والسبوق، وصمم في استخراج الحقوق، والناس أصناف، فمنهم خسيس يطمع منك في إكلة، ومستعد عليك بوكزة أو ركلة. وحاسد في مطية تركب، وعطية تسكب، فاخفض للحاسد جناحك، وسدد إلى حربه رماحك، وأشبع الخسيس منهم مرقة دسمة فإنه حنق، ودس له فيها عظماً لعله يختنق، واحف رلشريرهم حفرة عميقة، فأنه العدو حقيقة، حتى إذا حصل، وعلمت أن وقت الانتصار قد وصل، فأوقع وأوجع، ولا ترجع، واولياه من حزب الشيطان ففجع، والحق أقوى، وإن تعفو أقرب للتقوى. سددك الله إلى غرض التوفيقن وأعلقنا من الحق بالسبب الوثيق، وجعل قدومك مقروناً برخص اللحم والزيت والدقيق. بمنه وفضله.
مشيختهقرأ القرآن على والده المكتب النصوح رحمه الله، وحفظ كتباً كرسالة أبي محمد بن زيد، وشهاب القضاعي، وفصيح ثعلب، وعرض الرسالة على ولي الله أبي عبد الله الطنجالي، وأجازه. ثم على ولده الخطيب أبي بكر، وقرأ عليه من القرآن، وجود بحرف نافع على شيخنا أبي البركات. وتلا على شيخنا أبي القاسم بن جزى. ثم رحل إلى المغرب، قلقى الشيخ الستاذ الأوحد في التلاوة، أبا جعفر الدراج، وأخذ عن الشريف المقرى أبي العباس الحسنى بسبتة، وأدرك أبا القاسم التجيبي، وتلا على الأستاذ أبي عبد الله بن عبد المنعم ولازمه، واختص بالأستاذ ابن هاني السبتي، ولقى بفاس جماعة كالفقيه أبي زيد الجزولي، وخلف الله المجاصي، والشيخ أبا العباس المكناسي، والشيخ البقية أبا عبد الله بن عبد الرازق، وقرأ على المقرى الفذ الشهير في الترنم بألحان القرآن أبي العباس الزواوي سبع ختمات، وجمع عليه السبع، والمقرى ابي العباس بن حزب الله، واختص بالشيخ الرييس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي.
شعرهمن شعره ما كتب به إلى وزير الدولة المغربية في غرض الاستلطاف:
يا من به أبدا عرفت ومن أنا ... لولاه لي دامت علاه وداما
لا تأخذنك في الشديد لومة ... فشخيص نشأته بفضلك قاماً
ربيته علمته أدبته ... قدمته للفرض منك إماماً
فجزاك رب الخلق خير جزاية ... عنى وبوأك الجنان مقاماً
وهو الآن بالحالة الموصوفة، مستوطناً حضرة غرناطة، وتالياً الأعشار القرآنية، بين يدي السلطان أعزه الله، مرفع الجانب، معزز الجراية بولايته أحباس المدرسة، أطروفة عصره، لولا طرش نقص الأنس به، نفعه الله.
ولد بمالقة في عاشر ربيع الأول من عام عشرة وسبعماية ومن الغرباء في هذا الاسم
التلمسانيمحمد بن أحمد بن إبراهيم بن محمد التلمساني الأنصاري السبتي الدار، الغرناطي الاستيطان، يكنى أبا الحسين، ويعرف بالتلمساني
حاله

طرف في الخير والسلامة، معرق في بيت الصون والفضيلة، معم تخول في العدالة، قديم الطلب والاستعمال، معروف الحق، مليح البسط، حلو الفكاهة، خفيف إلى هيعة الدعابة، على سمت ووقار، غزل، لوذعي، مع استرجاع وامتساك، مترف، عريق في الحضارة، مؤثر للراحة، قليل التجلد، نافر عن الكد، متصل الاستعمال، عريض السعادة في باب الولاية، محمول على كتد المنبرة، جار على سنن شيوخ الطلبة والمقتاتين من الأرزاق المقدرة، أولي الخصوصية والضبط، من التظاهر بالجاه على الكفاية. قدم على الأندلس ثمانية عشر وسبعماية، فمهد كنف القبول والاستعمال، فولي الحسبة بغرناطة، ثم قلد تنفيذ الأرزاق، وهي الخطة الشرعية، والولاية المجدية، فاتصلت بها ولايته. وناب عني في العرض والجواب بمجلس السلطان، حميد المنأى في ذلك كله، يقوم على كتاب الله حفظاً وتجويداً، طيب النغمة، راوياً محدثاً، إخبارياً، مرتاحاً للأدب، ضارباً فيه بسهم، يقوم على كتب السيرة النبوية، فذاً في ذلك. قرأه بالمسجد الجامع للجمهور، عند لحاقه بغرناطة، معرباً عن نفسه، منبهاً على مكانه، فزعموا أن رجلاً فاضت نفسه وجداً لشجو نغمته، وحسن إلقايه. وقرأ التراويح بمسجد قصر السلطان إماماً به، واتسم بمجلسه بالسلامة والخير، فلم تؤثر عنه في أحد وقيعة، ولا بدرت له، في الحمل على أحد بنت شفه.
مشيختهمنهم الشريف أبو علي الحسن بن الشريف أبي التقا طاهر بن أبي الشريف ربيع بن علي بن أحمد بن علي بن أبي طاهر بن حسن بن موهوب بن أحمد بن محمد بن طاهر بن أبي الشرف الحسن بن علي بن محمد بن علي ابن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسن بن علي بن الحسن بن علي ابن أبي طالب. ومنهم والده المترجم به، ومنهم أبوه وجده، ومنهم الأمير الصالح أبو حاتم أحمد بن الأمير أبي القاسم محمد بن أبي العباس أحمد بن محمد العزفي، والمقري أبو القاسم بن الطيب، وإمام الفريضة أبو عبد الله محمد بن محمد بن حريث، والأستاذ ملحق الأبناء بالآباء أبو إسحق الغافقي، والكاتب الناسك أبو القاسم خلف بن عبد العزيز القبتوري، والأستاذ المعمر أبو عبد الله بن الخضار، والخطيب المحدث أبو عبد الله ابن رشيد، والخطيب الأديب أبو عبد الله الغماري، والأستاذ أبو البركات الفضل بن أحمد القنطري، والوزير العابد أبو القاسم محمد بن محمد ابن سهل بن مالك، والولي الصالح أبو عبد اله الطنجالي، والخطيب الصالح أبو جعفر بن الزيات، والقاضي الأعدل أبو عبد الله بن برطال، والشيخ الوزير المعمر أبو عبد اله بن ربيع، والصوفي الفاضل أبو عبد الله ابن قطرال، والأستاذ الحسابي أبو إسحق البرغواطي، هؤلاء لقيهم وقرأ وسمع عليهم. وممن كتب له بالإجازة، وهم خلق كثير، كخال أبيه، الشيخ الأديب أبي الحكم مالك بن المرحل، والخطيب أبي الحسن فضل ابن فضيلة، والأستاذ الخاتمة أبي جعفر بن الزبير، والعدل أبي الحسن ابن مستقور، والوزير المعمر أبي محمد بن سماك، والخطيب أبي محمد مولى الرييس أبي عثمن بن حكم، والشيخ الصالح أبي محمد الحلاسي، والقاضي أبي العباس بن الغماز، والشيخ أبي القاسم الحضرمي اللبيدي، والعدل المعمر الراوية أبي عبد الله بن هرون، والمحدث الراوية أبي الحسن القرافي، وأبي إسحق إبراهيم بن أحمد بن عبد المحسن بن هبة الله بن أبي المنصور، والإمام شرف الدين أبي محمد الدمياطي، وبهاء الدين بن النحاس، وقاضي القضاة تقي الدين بن دقيق العيد، وضياء الدين أبي مهدي عيسى بن يحيى بن أحمد، وكتب في الإجازة له:
ولدت لعام من ثلاث وعشرة ... وست مئين هجرة لمحمد
تطوفت قدماً بالحجاز وإنني ... بمصر هو المربلي وسبتة مولد
إلى عالم كثير من أهل المشرق، يشق إحصاؤهم. قد ثبت معظمهم في اسم صاحبه أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي رحمه الله.
محنتهنالته محنة بجري الأمور الاشتغالية وتبعاتها، قال الله فيها لعثرته لغاً، فاستقل من النكبة، وعاد إلى الرتبة. ثم عفت عليه بآخرة، فهلك تحت بركها بعد مناهزة التسعين سنة، نفعه الله.
ولد عام ستة وسبعين وستماية، وتوفي في شهر محرم من أربعة وستين وسبعماية.
ابن قطرالمحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد بن يوسف بن قطرال الأنصاري من أهل مراكش، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن قطرال

حاله

من العايد: كان رحمه الله فاضلاً صوفياً، عارفاً، متحدثاً، فقيهاً، زاهداً، تجرد عن ثروة معروفة، واقتصر على الزهد والتخلي، وملازمة العبادة، والغروب عن الدنيا. وله نظم رايق، وخط بارع، ونثر بليغ، وكلام على طريقة القوم، رفيع الدرجة، عالي القدر. شرح قصيدة الإسراييلي، بما يشهد برسوخ قدمه، وتجول في لقاء الأكابر على حال جميلة من إيثار الصمت والانقباض والحشمة. ثم رحل إلى المشرق حاجاً صدر سنة ثلاث وسبعماية.
مشيختهمن شيوخه القاضي العالم أبو عبد الله محمد بن علي، والحافظ أبو بكر بن محمد المرادي، والفقيه أبو فارس الجروي، والعلامة أبو الحسين بن أبي الربيع، والعدل أبو محمد بن عبيد الله، والحاج أبو عبد الله بن الخضار، وأبو إسحق التلمساني، وأبو عبد الله بن خميس، وأبو القاسم بن السكوت. وأبو عبد الله بن عياش. وأبو الحسن بن فضيلة، وأبو جعفر بن الزبير، وأبو القاسم بن خير الله. هؤلاء كلهم لقيهم. وأخذ عنهم. وكتب له بالإجازة جملة، كالقاضي أبي علي بن الأحوص، وأبي القاسم العزفي. وأبي جعفر الطنجالي. وصالح بن شريف، وأبي عمرو الداري. وأبي محمد بن الحجام. وأبي بكر بن حبيش، وأبي طرخان، وابن البواب، وأمين الدين بن عساكر. وقطب الدين بن القسطلاني. وغيرهم.
شعرهوأما شعره فكثير بديع. قال شيخنا القاضي أبو بكر بن شبرين كتبت إليه:
يا معمل السير أي إعمال ... سلم على الفاضل ابن قطرال
من أبيات راجعني عنها بأبيات منها:
زارت فأزرت بمسك دارين ... تفتن للحسن في أفانين
ومثلها في شتى محاسنها ... ليست ببدع من ابن شبرين
توفي بحرم الله عاكفاً على الخير وصالح الأعمال، معرضتاً عن زهرة الحياة الدنيا، إلى أن اتصل خبر وفاته، وفيه حكاية، عام تسعة وسبعماية ودخل غرناطة برسم لقاء الخطيب الصالح أبي الحسن بن فضيلة. وغير ذلك.
العمال في هذا الاسم وأولا الأصليون
محمد بن أحمد بن محمد بن الأكحليكنى أبا يحيى.
حالهشيخ حسن الشيبة، شامل البياض، بعيد مدى الذقن، خدوع الظاهر، خلوب اللفظ، شديد الهوى إلى الصوفية، والكلف بإطراء الخيرية، سيما عند فقدان شكر الولاية، وجماح الحظوة، من بيت صون وحشمة، مبين عن نفسه في الأغراض، متقدم في معرفة الأمور العملية، خايض مع الخايضين في غمار طريق التصوف، وانتحال كيمياء السعادة، راكب متن دعوى عريضة في مقام التوحيد، تكذبها أحواله الراهنة جملة، ولا تسلم له منا نبذة، لمعاصاة خلقه على الرياضة واستيلاء الشره، وغلب سلطان الشهوة، فلم يجن من جعجاعه المبرم فيها إلا استغرق الوقت في القواطع عن الحق، والأسف على ما رزته الأيام من متاع الزور، وقنية الغرور، والمشاحة أيام الولاية، والشباب الشاهد بالشره، والحلف المتصل بياض اليوم، في ثمن الخردلة باليمين التي تجر فساد الأنكحة، والغضب الذي يقلب العين، والبذا الذي يصاحب الشين، ومغلوب عليه في ذلك، ناله بسببه ضيق واعتقال، وتفويت جدة، وإطباق روع، وقيد للعذاب، فألقيت عليه ردايي، ونفس الله عنه بسببي، محواً للسيئة بالحسنة، وتوسلاً إلى الله بترك الحظوظ، والمنة لله جل جلاله على ذلك.
شعرهخاطبني بين يدي نكبته أو خلفها بما نصه، ولم أكن أظن الشعر مما تلوكه جحفلته، ولكن الرجل من أهل الكفاية:
راجوتك بعد الله يا خير منجد ... وأكرم مأمول وأعظم مرفد
وأفضل من أملت للحادث الذي ... فقدت به صبري وما ملكت يد
وحاشى وكلا أن يخيب مأملي ... وقد علقت بابن الخطيب محمد
وما أنا إلا عبد أنعمه التي ... عهدت بها يمنى وإنجاح مقصد
وأشرف من حض الملوك على التقى ... وأبدى لهم نصحاً وصية مرشد
وساس الرعايا الآن خير سياسة ... مباركة في كل غيب ومشهد
وأعرض عن دنياه زهداً وإنها ... لمظهرة طوعاً له عن تودد
وما هو إلا الليث والغيث إن ... أتى له خايف أو جاء مغناه مجثد
وبحر علوم دره كلماته إذا ... رددت في الحفل أي تردد

صقيل مرأى الفكر رب لطايف ... محاسنها تجلى بحسن تعبد
بديع عروج النفس للملإ الذي ... تجلت به الأسرار في كل مصعد
شفيق رقيق دايم الحلم راحم ... وأي جميل للجميل معود
صفوح عن الجاني على حين قدرة ... يواصل تقوى الله في اليوم والغد
أيا سيدي يا عمدتي عند شدتي ... ويا شربي متى ظميت وموردي
حنانيك والطف بي وكن لي راحماً ... ورفقاً على شيخ ضعيف منكد
رجاك رجا الذي أنت أهله ... ووافاك يهدي الثنا المجدد
وأمك مضطراً لرحماك شاكياً ... بحال كحر الجمر حين توقد
وعندي افتقار لأنوال مواصلاً ... لأكرم مولى حاز أجراً وسيد
ترفق بأولاد صغار بكاؤهم ... يزيد لوقع الحادث المتزيد
وليس لهم إلا إليك تطلع ... إذا مسهم ضر أليم التعهد
أنلهم أيا مولاي نظرة مشفق ... وجد بالرضا وانظر لشمل مبدد
وقابل أخا الكره الشديد برحمة ... وأسعف بغفران الذنوب وأبعد
ولا تنظرن إلا لفضلك لا إلى ... جريمة شيخ عن محلك مبعد
وإن كنت قد أذنبت إني تايب ... فعاود لي الفعل الجميل وجدد
بقيت بخير لأنوال وعزة ... وعيش هني كيف شيت وأسعد
وسخرك الرحمن للعبد إنه ... لمتن وداع للمحل المجدد
وقد ولي خططاً نبيهة، منها خطة الاشتغال على عهد الغادر المكايد للدولة، إذ كان من أولياء شيطانه وممديه في غيه، وسماسير شعوذته، فلم يزل من مسيطري ديوان الأعمال، على تهور واقتحام كبرة، وخط لا غاية وراءه في الركاكة، كما قال المعري:
تمشت فوقه حمر المنايا ... ولكن بعد ما مسخت نمالا
استحضرته يوماً بين يدي السلطان، وهو غفل لفك ما أشكل من معمياته في الأعمال عند المطالعة، فوصل بحال سيئة، ولما أعتب بسببه، ونعيت عليه هجنته، أحسن الصدر عن ذلك الورد، ونذر في نفسه، وقال حيا الله رداءة الخط، إذا كانت ذريعة إلى دخول هذا المجلس الكريم، فاستحسن ذلك، لطف الله بنا أجمعين.
توفي عام سبعة وستين وسبعماية.
ابن حامد الغافقيمحمد بن الحسن بن زيد بن أيوب بن حامد الغافقي يكنى أبا الوليد.
أوليتهأصله من طليطلة، انتقل منها جد أبيه، وسكنوا غرناطة، وعدوا في أهلها.
حالهكان أبو الوليد طالباً نبيلاً، نبيهاً، سرياً، ذكياً، ذا خط بارع، ومعرفة بالأدب والحساب، ونزع إلى العمل فكان محمود السيرة، مشكور الفعل. وولي الإشراف في غير ما موضع. قلت، وآثاره في الأملاك المنسوبة إليه، التي من جملة المستخلص السلطاني بغرناطة وغيرها، مما يدل على قدم، وتَعِمَّة أصيلة.
توفي بمدينة إشبيلية سنة ثمان وثمانين وخمسماية، وسنة دون الخمسين.
ابن حسانمحمد بن محمد بن حسان الغافقي إشبيلي الأصل، غرناطي المنشأ، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن حسان
حالهمن العايد: كان من أهل السرو والظرف والمروءة، وحسن الخلق. تولى الإشراف بغرناطة، وخطة الأشغال، فحسن الثناء عليه. وله أدب ومشاركة. حدثني بعض أشياخنا، قال، كنت على مائدة الوزير ابن الحكيم، وقد تحدث بصرف ابن حسان عن عمل كان بيده، وإذا رقعة قد انتهت إليه أحفظ منها:
لكم أياد لكم أياد ... كررتها إنها كثيرة
فإن عزمتم على انتقالي ... ريه أبغي أو الجزيرة
وإن أبيتم إلا مقامي ... فنعمة منكم كبيرة
وقال لي بعضهم، جرى بين ابن حسان هذا، وبين أحد بني علاق، وهم أعيان، كلام وملاحة فقال ابن حسان، إنما كان جدكم مولى بني أضحى، وجدبني مشرف، فاستعد عليه، ورفعه إلى الوزير ابن الحكيم فيما أظن، فلما استفهمه عن قوله، قال أعزك الله، كنت بالكتبيين، وعرض علي كتاب قديم في ظهره أبيات حفظتها وهي:
أضحى الزمان بأضحى وهو مبتسم ... لنوره في سماء المجد إشراق

فلم يزل ينتمي للمجد كل فتى ... تطيب منه مواليد وأعراق
فإن ترد شرفاً يمم مشرفه ... وإن ترد علق مجد فهو علاق
فعلم الوزير أن ذلك من نظمه، ونتيجة بديهته، فعجب من كفايته، وترضى خصمه، وصرفهما بخير. وتوفي في شهر رجب ثلاثة عشر وسبعماية.
ابن قاسم النميريمحمد بن عبد الله بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن إبراهيم ابن عبد العزيز بن إسحق بن أحمد بن أسد بن قاسم النميري المدعو بابن الحاج يكنى أبا عمرو، وقد مر ذكر أخيه.
حالهتولي خطة الإشراف بلوشة وأندرش ومالقة. وولي النظر في مختص ألمرية، والأعشار الرومية بغرناطة. وكان له خط حسن، وجودة كاملة، وحسن خلق، ووطأة أكناف، تشهد له بجلالة قدره، ورفيع خطره. وصاهر في أعيان كالوزير أبي عبد الله بن أبي الحسن فاضل، سرى، مخلق، حسن الضريبة، متميز بخصال متعددة، من خط بديع، ونظم، ومشاركة في فنون، من طب وتعديل، وارتياض سماع، وذك التاريخ. حج وجال في البلاد. ولقي جلة، وتولى بالمغرب خططاً نبيهة علية. ثم كر إلى الأندلس عام ستين وسبعماية، فأجرى من الاستعمال على رسمه. ثم اقتضت له العناية السلطانية بإشارتي، أن يوجه في غرض الرسالة إلى تونس وصاحب مصر، لما تقدم من مرانه على تلك البلاد، وجولاته في أقطارها، وتعرفه بملوكها والجلة من أهلها، فآب بعد أعوام، مشكور التصرفات، جارياً على سنن الفضلاء، مضطلعاً بالأحوال التي أسندت إليه من ذلك. فلم يزل معتني به، مرشحاً إلى الخطط التي تطمح إليها نفس مثله، مسندا النظر في زمام العسكر الغربي إلى ولده، الذي يخلفه عند رحلته نابيا عنه، معززاً ذلك بالمرتبات والإحسان، تولاه الله وأعانه.
شعرهمدح السلطان، وأنشد له في المواليد النبوية. ورفع إلى السلطان بحضرتي هذه الأبيات:
مولاي يا خير أعلام السلاطين ... ومن له الفضل في الدنيا وفي الدين
ومن له سير ناهيك من سير ... وافت بأكرم تحسين وتحصين
شرفت عبدك تشريفاً له رتب ... فوق النجوم التي فوق الأفق تعلين
وكان لي موعد مولاي أنجزه ... وزاد في العز بعد الرتبة الدون
والله ما الشكر مني قاضياً وطرى ... ولو أتيت به حيناً على حين
ولا الثناء موف حق أنعمه ... ولو ملأت به كل الدواوين
لكن دعايي وحبي قد رضيتهما ... كفا أفعاله الغر الميامين
وعند عبدك إخلاص يواصله ... في خدمة لم يزل للخير تدنين
وسوف أنصح كل النصح مغتنما ... رضي إمام له فضل يرجين
جوزيت عني أمير المسلمين بما ... ترضاه للملك من نصر وتمكين
وأنت أكرم من ساس الأنام ... ومن عم البلاد بتسكين وتهدين
ومن كمثل أبي عبد الآله إذا أضحى ... الفخار لنا رحب الميادين
محمد بن أبي الحجاج خيرة من ... أهدى إليه مدحاً بالسعد يحظين
وجه جميل وأفعال تناسبه ... ودولة دولة المأمون تنسين
لا زال في السعد والإسعاد ما سجعت ورق الحمام على قضب البساتين
محمد بن عبد الرحمن الكاتبيكنى أبا عبد الله من أهل غرناطة، أصله من وادي آش
حالهكان طالباً نبيهاً كاتباً جليلاً، جيد الكتابة. كتب عن بعض أبناء الخليفة أبي يعقوب، واختص بالسيد أبي زيد بغرناطة، وبشرق الأندلس، وكان أثيراً عنده مكرماً. وكان رحمه الله شاعراً، مطبوعاً، ذا معرفة جيدة بالعدد والمساحة، ثم نزع عن الكتابة، واشتغل بالعمل، فراش فيه، وولي إشراف بنيات غرناطة. ثم ولي إشراف غرناطة، فكف يده، وظهرت نصيحته. ثم نقل إلى حضرة مراكش، فولى إشرافها مدة، ثم صرف عنها إلى غرناطة، وقدم على النظر في المستخلص إلى أن توفي.
مناقبه

أشهد لما قربت وفاته، أنه كان قد أخرج في صحته وجوازه، أربعة آلاف دنير من صميم ماله لتتميم القنطرة التي بنيت على وادي شنجيل بخارج غرناطة. وكان قبل ذلك قد بنى مسجد دار القضاء من ماله، وتأنق في بنائه، وأصلح مساجد عدة، وفعل خيراً، نفعه الله.
شعرهمن شعره ما كتب به إلى الشيخ أبي يحيى بن أبي عمران وزير الخلافة، وهو بحال شكاية أصابته:
شكوت فأضنى المجد برح شكاته ... وفارق وجه الشمس حسن آياته
وعادت بعديك الزمان زمانة ... تعدت إلى عواد وأساته
وغيض ما للبشر لما تبسطت ... يد للسقم في ساحات كافي كفاته
فكيف بمقصوص وصلت جناحه ... وأدهم قد سربلته بشاته
وممتحن لولاك أذعن خبرة ... وهان على الأيام غمز قناته
أمعلق آمالي ومطمح همتي ... وواهب نفسي في عداد مباته
سأستقبل النعمى ببرك غضة ... ويصغر ذنب الدهر في حسناته
وتسطو عين الحق منك بمرهف ... تراع الخطوب الجور من فتكاته
وتطلع في أفق الخلافة نيراً ... تطالعنا الأقمار من قسماته
حرام على الشكوى اعتياد مطهر ... حياة الدنا والدين طي حياته
فما عرضت في قصده بمساءة ... ولكن ترجت أن ترى في عفاته
مشيختهقال الغافقي، قرأ بمالقة على الأستاذ أبي زيد السهيلي رحمه الله.
وتوفي بغرناطة سنة سبع وستماية ودفن بداره بجهة قنطرة القاضي منها على ضفة الوادي.
محمد بن عبد الملك بن عمار بن ياسرمحمد بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن الحسن بن عثمان ابن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر
أوليتهقد وقع التنبيه عليها ويقع بحول الله.
حالهكان وزيراً جليلاً بعيد الصيت عالي الذكر رفيع الهمة، كثير الأمل.
نباهتهذكره ابن صاحب الصلاة في تاريخه في الموحدين، فنبه على مكانة محمد بن عبد الملك منهم في الرأي والحظوة، والأخذ عنه في أمور الأندلس، وأثنى عليه. وذكره أبو زيد السهيلي في شرح السيرة الكريمة، حتى انتهى إلى حديث كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الموجه إلى هرقل، وأن محمد بن عبد الملك عاينه عند أذفونش، مكرماً، مفتخراً به. والقضية مشهورة. وأما محله من أمداح الشعراء، فهو الذي مدحه الأديب أبو عبد الله الرصافي بقوله:
أبداً تفيض وخاطراً متوقداً ... دعها تبت قبساً على علم الندا
وفيه يقول أبو عبد الله بن شرف من قصيدة:
يا رحمة الله للراجي ونقمته ... لكل باغ طغا عن خيرة الرسل
لم تبق منهم كفوراً دون مرقبة ... مطالعاً منك حتفاً غير منفصل
كما بزاتك لم تترك بأرضهم ... وحشا يفر ولا طيرا بلا وجل
وكان كثير الصيد، ومتردد الغارات.
مناقبه في الدينقالوا لما أنشده أبو عبد الله الرصافي في القصيدة التي مطلعها:
لمحلك الترفيع والتعظيم ... ولوجهك التقديس والتكريم
حلف ألا يسمعها، وقال على جايزتك، لكن طباعي لا تحتمل مثل هذا، فقال الرصافي، ومن مثلك، ومن يستحق ذلك في الوقت غيرك، فقال له، دعني من خداعك أنا وما أعلمه عن نفسي.
شعرهأنشده صاحب الطالع، ولا يذكر له غيره:
فلا تظهرن ما كان في الصدر كامناً ... ولا تركبن بالغيظ في مركب وعر
ولا تبحثن في عذر من جاء تايباً ... فليس كريماً من يباحث في عذر
وولي من الأعمال للموحدين كثيراً، كمختص حضرة مراكش، ودار السلاح، وسلا، وإشبيلية، وغرناطة، واتصلت ولايته على أعمال غرناطة، وكان من شيوخها وأعيانها.
محنته

وعمل فيه عقد بأن بداره من أصناف الحلي، ما لا يكون إلا عند الملوك، وأنه إذا ركب في صلاة الصبح، من دار الرخام التي يجري الماء فيها، في إثنى عشر مكاناً، شوش الناس في الصلاة، دوي الجلاجل بالبزاة، ومناداة الصيادين، ونباح الكلاب، فأمر المنصور بالقبض عليه، وعلى ابن عمه صاحب أعمال إفريقية أبي الحسين، في سنة ثلاث وسبعين وخمسماية. ثم رضي عنهما، وأمر محمد بن عبد الملك أن يكتب بخطه كل ما أخذ له، فصرفه عليه، ولم ينقصه منه شيء، وغرم ما فات له.
ولد سنة أربع عشر وخمسماية، وتوفي بغرناطة سنة تسع وثمانين وخمسماية.
محمد بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن الحسن

ابن عثمان العنسي

ابن عثمان بن محمد بن عبد الله بن عمار بن ياسر العنسي يكنى أبا بكر، وقد تقدم التعريف بأوليته.
حالهقال في الطالع ساد في دولة الملثمين، وولوه بغرناطة الأعمال، وكانت له دار الرخام المشهورة بإزاء الجامع الأعظم بغرناطة. قال الغافقي فيه: شيخ جليل، فقيه نبيه من أهل قلعة يحصب. كان في عداد الفقهاء، ثم نزع إلى العمل، وولي إشراف غرناطة في إمارة أبي سعيد الميمون بن بدر اللمتوني. وقال صاحب المسهب وحسب القلعة كون هذا الفضل الكامل منها، وقد رقم برد مجده بالأدب، ونال منه بالاجتهاد والسجية القابلة، أعلى سبب، وله من المكارم ما يغير في وجه كعب وحاتم، لذلك ما قصدته الأدباء، وتهافتت في مدحه الشعراء، وفيه أقول:
وكان أبو بكر من الكفر عصمة ... ورد به الله الغواة إلى الحق
وقام بأمر الله حافظ أهله ... بلين وسبط في المبرة والخلق
وهذا أبو بكر سليل ابن ياسر ... بغرناطة ناغاه في الرأي والصدق
فهذا لنا بالغرب يجنى معالماً ... تباهى الذي أحيا الديانة بالشرق
وقد جرى من ذكره عند ذكر أبي بكر بن قزمان، ويجري عند ذكر نزهون بنت القلاعي ما فيه كفاية، إذ كان مفتوناً بها، وبحمدة وزينب بنتي زياد المؤدب من أهل وادي آش، وفيهما يقول:
ما بين زينب عمري ... أحث كأسي وحمده
وكل نظم ونثر ... وحكمة مستجده
وليس إلا عفاف ... يبلغ المرء قصده
ولذلك ما سعى به المخزومي الأعمى، وقد سها عن رسم تفقده، فكتب إلى علي بن يوسف في شأنه بما كان سبب عزله ونكبته:
إليك أمير المؤمنين نصيحة ... يجوز بها البحر المجعجع شاعر
بغرناطة وليت في الناس عاملاً ... ولكن بما تحويه منه المآزر
وأنت ما تخفي عليك خفية ... فسل أهلها فالأمر للناس ظاهر
وما لإلآه العرش تفنيه حمدة ... وزينب والكأس الذي هو داير
شعره: من ذلك قوله:
يا هذه لا ترومي ... خداع من ضاق ذرعه
تبكي وقد قتلتيني ... كالسيف يقطر دمعه
وقال عفى الله عنه:
لقد صدعت قلبي حمامة أيكة ... أثارت غراماً ما أجل وأكرما
ورق نسيم الريح من نحو أرضكم ... ولطف حتى كاد أن يتكلما
وقال في مذهب الفخر:
فخرنا بالحديث بعد القديم ... من معال توارثت كالنجوم
نحن في الحرب أجبل راسيات ... ولنا في الندى لطف النسيم
ولد في سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة، وتوفي سنة تسع وثلاثين وخمسماية.
ومن الطارئين في هذا الاسم من العمال
محمد بن أحمد بن المتأهل العبدريمن أهل وادي آش، يكنى أبا عبد الله.
حالهكان رجلاً شديد الأدمة، أعين، كث اللحية، طرفاً في الأمانة، شديد الاسترابة بجليسه، مخيناً لرفيقه، سيئ الظن بصديقه، قليل المداخلة، كثير الانقباض، مختصر الملبس والمطعم، عظيم المحافظة على النفير والقطمير، مستوعب للحصر والتقييد، أسير محيي وعابد زمام، وجنيب أمانة، وحلس سقيفة، ورقيب مشرف، لا يقبل هوادة، ولا يلابس رشوة، كثير الالتفات، متفقداً للآلة، متمماً للعمل.

جرى ذكره في بعض الموضوعات الأدبية بسبب شعر خامل نسب إليه بما نصه: رجل غليظ الحاشية معدود في جنس السايمة والماشية، تليت على العمال به سورة الغاشية، ولي الأشغال السلطانية، فذعرت الجباة لولايته، وأيقنوا بقيام قيامتهم لطلوع آيته، وقنطوا كل القنوط، وقالوا جاءت الدابة تكلمنا، وهي إحدى الشروط، من رجل صايم الحسوة، بعيد عن المصانعة والرشوة، يتجنب الناس، ويقول عند المخالطة لهم لا مساس، عهدي به في الأعمال يخبط ويتبر، وهو يهلل ويكبر، ويحسن ويقبح، وهو يسبح، انتهى. قلت، وولي الأشغال السلطانية، فضم النشر، وأوصد باب الحيلة، وبث أسباب الضياع، وترصد ليلاً وأصيب بجراحة أخطأته، ثم عاجلته الوفاة، فنفس عن أقتاله المخنق.
شعره: قال يخاطب بعض أثراء الدولة قبل نباهته:
عمادي ملاذي مويلي ومؤملي ... ألا انعم بما ترضاه للمتأهل
وحقق بنيل القصد منك رجاءه ... على نحو ما يرضيك يا ذا التفضل
فأنت الذي في العلم يعرف قدره ... بخير زمان منه لا زلت فيه تعتل
فهنيت يا مغنى الكمال برتبة ... تقر لكم بالسبق في كل محفل
توفي عام ثلاثة وأربعين بغرناطة أو قبل ذلك بيسير، وله خط حسن، وممارسة في الطلب، وقد توسط المعترك.
ابن عبد الواحد البلويمحمد بن محمد بن محمد بن عبد الواحد البلوي من أهل ألمرية، يكنى أبا بكر.
أوليتهمن كتاب المؤتمن قال، يشهر بنسبه وأصل سلفه من جهة بيرة إما من بجانة، وإما من البريج، واستوعب سبب انتقالهم.
حالهمن عايد الصلة، كان أحد الشيوخ من طبقته، وصدر الوزراء من نمطه ببلده، سراوة وسماحة، ومبرة وأدباً ولوذعية ودعابة، رافع راية الانطباع، وحايز قصب السبق في ميدان التخلق، مبذول البر، شايع المشاركة.
وقال في المؤتمن، كان رجلاً عاقلاً، عارفاً بأقوال الناس، حافظاً لمراتبهم، منزلاً لهم منازلهم، ساعياً في حوايجهم، لا يصدرون عنه إلا عن رضى بجميل مداراته. التفت إلى نفسه، فلم ينس نصيبه من الذل، ولا أغفل من كان يالفه في المنزل الخشن، واصلاً لرحمه، حاملاً لوطأة من يجفوه منهم، في ماله حظ للمساكين، وفي جاهه رفد للمضطرين، شيخاً ذكي المجالسة، تستطيب معاملته، على يقين أنه يخفى خلاف ما يظهر، من الرجال الذين يصلحون الدنيا، ولا يعلق بهم أهل الآخرة، لعروه عن النخوة والبطر، رحمه الله. تكررت له الولاية بالديوان غير ما مرة، وورد على غرناطة، وافداً ومادحاً ومعزياً.
مشيخته وما صدر منهقرأ على ابن عبد النور، وتأدب به، وتلا على القاضي أبي علي بن أبي الأحوص أيام قضايه ببسطة، ونظم رجزاً في الفرايض.
شعرهقال الشيخ في المؤتمن، كانت له مشاركة في نظم الشعر الوسط، وكان شعر تلك الحلبة الآخذة عن ابن عبد النور، كأنه مصوغ من شعره شيخهم المذكور، ومحذو عليه، في ضعف المعاني، ومهنة الألفاظ. تنظر إلى شعره، وشعر عبد الله بن الصايغ، وشعر ابن شعبة، وابن رشيد، وابن عبيد، فتقول ذرية بعضها من بعض.
فمن ذلك ما نظمه في ليلة سماع واجتماع بسبب قدوم أخيه أبي الحسن من الحجاز:
إلهي أجرني إنني لك تايب ... وإني من ذنبي إليك لهارب
عصيتك جهلاً ثم جئتك نادماً ... مقراً وقد سدت علي المذاهب
مضى زمن بي في البطالة لاهياً ... شبابي قد ولى وعمري ذاهب
فخذ بيدي واقبل بفضلك توبتي ... وحقق رجائي في الذي أنا راغب
أخاف على نفسي ذنوباً جنيتها ... وحاشاك أن أشقى وأنت المحاسب
وإني لأخشى في القيامة موقفاً ... ويوماً عظيماً أنت فيه المطالب
وقد وضع الميزان بالقسط حاكما ... وجاء شهيد عند ذاك وكاتب
وطاشت عقول الخلق واشتد خوفهم وفر عن الإنسان خل وصاحب
فما ثم من يرجى سواك تفضلاً ... وإن الذي يرجو سواك لخايب
ومن ذا الذي يعطي إذا أنت لم تجد ... ومن هو ذو منع إذا أنت واهب
عبيدك يا مولاي يدعوك رغبة ... وما زلت غفاراً لمن هو تايب

دعوتك مضطراً وعفوك واسع ... فأنت المجازي لي وأنت المعاقب
فهب لي من رحماك ما قد رجوته ... وبالجود يا مولاي ترجي المواهب
توسلت بالمختار من آل هاشم ... ومن نحوه قصداً تحث الركايب
شفيع الورى يوم القيامة جاهه ... ومنقذ من في النار والحق واجب
ومما بلغ فيه أقصى مبالغ الإجادة، قوله من قصيدة هنا فيها سلطاننا أبا الحجاج بن نصر، لما وفد وهو وجملة أعيان البلاد أولها:
يهني الخلافة فتحت لك بابها ... فادخل على اسم الله يمنا غابها
منها وهو بديع، استظرف يومئذ:
يا يوسفياً باسمه وبوجهه اصعد لمنبرها وصن محرابها
في الأرض مكنك الإله كيوسف ... ولتملكن بربها أربابها
بلغت بكم آرابها من بعد ما ... قالت لذلك نسوة ما رابها
كانت تراود كفوها حتى إذا ... ظفرت بيوسف غلقت أبوابها
قلت، ما ذكره المؤلف ابن الخطيب رحمه الله، في هذا المترجم به، من أنه ينظم الشعر الوسط، ظهر خلافه، إذا أثبت له هذه المقطوعة الأخيرة. ولقد أبدع فيها وأتى بأقصى مبالغ الإجادة كما قال، وحاز بها نمطاً أعلى مما وصفه به. وأما القصيدة الأولى فلا خفاء أنها سهلة المأخذ، قريبة المنزع، بعيدة من الجزالة، ولعل ذلك كان مقصوداً من ناظمها رحمه الله.
توفي ببلده عن سن عالية في شهر ربيع الآخر عام ثمانية وثلاثين وسبعماية.
ورثاه شيخنا أبو بكر بن شبرين رحمه الله بقوله:
يا عين سحي بدمع واكف سرب ... لحامل الفضل والأخلاق والأدب
بكيت إذ ذكرت الموتى على رجل ... إلى بلى من الأحياء منتسب
على الفقيه أبي بكر تضمنه رمس وأعمل سيرا ثم لم يؤب
قد كان بي منه ود طاب مشرعه ... ما كان عن رغب كلاً ولا رهب
لكن ولا على الرحمن محتسباً ... في طاعة الله لم يمذق ولم يشب
فاليوم أصبح في الأجداث مرتهنا ... ما ضرت الري أملودا من الغضب
إنا إلى الله من فقد الأحبة ما ... أشد لذعاً لقلب الثاكل الوصب
قل فيه أما تصف ركناً لمنتبذ ... روض لمنتجع أنس لمغترب
باق على العهد لا تثنيه ثانية ... عن المكارم في ورد ولا قرب
سهل الخليقة بادي البشر منبسط ... يلقى الغريب بوجه الوالد الحدب
كم غير الدهر من حال فقلبها ... وحال إخلاصه ممتدة الطنب
سامي المكانة معروف تقدمه ... وقدره في ذوي الأقدار والرتب
أكرم به من سجايا كان يحملها ... وكلها حسن تنبيك عن حسب
ما كان إلا من الناس الإلى درجوا عقلاً وحلماً وجوداً هامى السحب
أمسى ضجيع الثرى في جنب ... بلقعة لكن محامده تبقى على الحقب
ليست صبابة نفسي بعده عجباً ... وإنما صبرها من أعجب العجب
أجاب دمعي إذ نادى النعي به ... لو غير منعاه نادى الدمع لم يجب
ما أغفل المرء عما قد أريد به ... في كل يوم تناديه الردى اقترب
يا ويح نفسي الأنفاس مضت هدراً بين البطالة والتسويف واللعب
ظننت أني بالأيام ذو هزء ... غلطت بل كانت الأيام تهزأ بي
أشكو إلى الله فقرى من معاملة ... لله أنجو بها في موقف العطب
ما المال إلا من الله قوى فأفلح ... من جاء القيامة ذا مال وذا نشب
أبا بكر الأرضي نداء أخ باك ... عليك مدى الأيام مكتئب
أهلاً بقدمتك الميمون ظاهرها ... على محل الرضى والسهل والرحب
نم في الكرامة فالأسباب وافرة ... وربما نيلت الحسنى بلا سبب
لله لله والآجال قاطعة ما ... بيننا من خطابات ومن خطب
ومن فرايد آداب يحبرها ... فيودع الشهب أفلاكاً من الكتب
أما الحياة فقد مليت مدتها ... فعوض الله منها خير منقلب

لولا قواطع لي أشراكها نصبت ... لزرت قبرك لا أشكو من النصب
وقل ما شفيت نفس بزورة ... من حل البقيع ولكن جهد ذي أرب
يا نخبة ضمها ترب ولا عجب ... إن التراب قديماً مدفن النخب
كيف السبيل إلى اللقيا وقد ضربوا ... بيني وبينك ما بقي من الحجب
عليك مني سلام الله يتبعه ... حسن الثنا وما حييت من كثب
محمد بن محمد بن شعبة الغسانيمن أهل ألمرية، يكنى أبا عبد الله.
حالهقال شيخنا أبو البركات في الكتاب المؤتمن، من أهل ألمرية ووجوهها لا حظ له في الأدب، وبضاعته في الطلب مزجاة. قطع عمره في الأشغال المخزنية، وهو على ذلك حتى الآن. قلت هذا الرجل أحد فرسان الطريقة العملية، ماض على لين، متحرك في سكون، كاسد سوق المروءة، ضان بما يملك من جدة، منحط في هوة اللذة، غير معرج على ربع الهمة، لطيف التأني، متنزل في المعاملة، دمث الأخلاق، مليح العمل، صحيح الحساب، منجب الولد.
مشيخته: قرأ على ابن عبد النور، والقدر الذي يحس به عنه أخذه.
شعره: من شعره يخاطب أبا الحسن بن كماشة:
وافى البشير فوافى الأنس والجذل ... وأقبل السعد والتوفيق والأمل
وراقت الأرض حسناً زاهراً وسنى ... واخضرت منها الربى والسهل والجبل
ولاح وجه على بعد ذا فغدا ... له شعاع كضوء الشمس متصل
مذ غاب أظلمت الدنيا لنا بغرته ... عاد الظلام ضياء وانتفى الخبل
إيه أبا حسن أنت الرجاء لنا ... مهمى اعترت شدة أو ضاقت الحيل
وأنت كهف منيع من نحاك فقد ... نال المنى وبدا عيش له خضل
يا سيداً قد غدا في المجد ذا رتب ... مشيدة قد بنتها السادة الأول
بنو كماشة أهل الفضل قد شهروا ... باهت بهم في قديم الأعصر الدول
السالكون هدى السابقون مدى ... والباذلون ندى والناس قد بخل
أنت الأخير زماناً والقديم علاً ... والسيد المرتجى والفارس البطل
إن كنت جئت أخيراً فلقد ... أضحى بجود يديك يضرب المثل
حزت المآثر لا تحصى لكثرتها ... من رام إحصاءها سدت له السبل
جزت البدور سنى والفرقدين علا ... وأنت تجر الندى والوابل الهطل
من جاء يطلب منك السلم قابله ... وجه طليق ولفظ كله عسل
ومن يرد غير ذا تباً له وردى ... لقد ترفع في برج له زحل
هناك ربك ما أولاك من نعم ... وعشت في عزة تترى وتتصل
ولا عدمت مدى الأيام منزلة ... من دونها رفعة في الأبرج الحمل
وخذه بعد سلاماً عاطراً أرجاً ... يدوم ما دامت الأسحار والأصل
من خادم لعلاكم مخلص لكم ... من حبكم لا يرى ما عاش ينتقل
تقبيل كفك أعلى ما يؤمله ... فجد به فشفا الهايم القبل
وفاته، في أول عام أربعة وستين وسبعماية.
محمد بن محمد بن العراقيوادي آش، يكنى أبا عبد الله.
حالهفاضل الأبوة، معروف الصون والعفة، بادي الاستقامة، دمث الأخلاق، حسن الأدوات، ينظم وينثر، ويجيد الخط، تولى أعمالاً نبيهة، ثم علقت به الحرفة، فلقي ضغطاً، وفقد نشباً، واضطر إلى التحول عن وطنه إلى بر العدوة عام ستة وخمسين وسبع ماية، وتعرف لهذا العهد أنه تولى الأشغال بقسنطينة الهواء من عمل إفريقية.
شعرهكتب إلي وقد أبي عملاً عرض عليه:
أأصمت أنفاً ثم أنطق بالخلف ... وأفقد ألفاً ثم آنس بالجلف
وأمسك دهري ثم أنطلق علقماً ... ويمحق بدري ثم ألحق بالخسف
وعزكم لا كنت بالذل عاملاً ... ولو أن ضعفي ينتمي إلى حتف
فإن تعملونى في تصرف عزة وعدل وإلا فاحسموا علة الصرف
بقيت وسحب العطف منكم ... تظلني وعطف ثناتي دائماً ثاني العطف
الهنا

محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن

عبد الله بن فرتون الأنصاري من أهل مالقة، يكنى أبا القاسم ويعرف بالهنا
أوليتهينسب إلى القاضي ببطليوس، قاضي القضاة رحمه الله. وبمالقة دور تنسب إلى سلفه تدل على نباهة، وقد قيل غير ذلك. والنص الجلي أولى من القياس.
حالهمن عايد الصلة: الشيخ الحاج المحدث صاحب الأشغال بالدار السلطانية. صدر نمطه، وفريد فنه، رجولة وجزالة واضطلاعاً وإدراكاً وتجلداً وصبراً. نشأ بمالقة، معدوداً في أهل الطلب والخصوصية، ورحل إلى الحجاز الشريف في فتايه، فاستكثر من الرواية، وأخذ عن أكابر من أهل المشرق والمغرب، حسبما يشهد بذلك برنامجه.
وكان على سنن من السرو والحشمة، فذا في الكفاية، جرياً مقداماً مهيباً، ظريف الشارة، فاره المركب، مليح الشيبة، حسن الحديث، وقاد الذهن، صابراً على الوظايف، يخلط الخوض في الأمور الدنيوية، بعبادة باهظة، وأوراد ثقيلة، ويجمع ضحك الفاتك، وبكاء الناسك، في حالة واحدة، هشاً، مفرط الحدة، يثرد عليه مجل لسانه في المجالس السلطانية بما تعروه المندمة بسببه، قايماً على حفظ القرآن وتجويده وتلاوته، ذا خصال حميدة، صناع اليد، مقتدراً على العمليات من نسخ ومقابلة وحساب، معدودا من صدور الوقت وأعلام القطر، ورجال الكمال.
مشيختهأخذ عن الجلة من أهل بلده كالأستاذ أبي محمد بن أبي السداد الباهلي، لازمه وانتفع به، والخطيب أبي عثمان بن عيسى أخذ عنه، والولي أبي عبد الله الطنجالي، وغيرهم مما يطول ذكرهم من العدوة والأندلس والمشارقة.
محنتهلقي نصباً في الخدمة السلطانية، وغضاً من الدهر لبأوه، بتعنته وعدم مبالاته مرات، ضيق لها سجنه، وعرض عليه النكال، ونيل منه بالإهانة كل منال، وأغرم مالا أجحف بمحتجنه، وعرض للأيدي نفايس كتبه، وعلى ذلك فلم يذعر سربه، ولا أضعفت النكبة جاشه.
ولد عام ثلاثة وسبعين وستماية. ومات ميتة حسنة. صلى الجمعة ظهراً، وقد لزم الفراش، ونفث دم الطاعون، ومات مستقبل القبلة، على أتم وجوه التأهب، سابع شوال من عام خمسين وسبعماية.
محمد بن عبد الله بن محمد بن مقاتلمن أهل مالقة، يكنى أبا القاسم، أزدي النسب، إشبيلي الأصل، من بيت نزاهة ونباهة.
حالهكان فاضلاً وقوراً سمحاً، مليح الدعابة، عذب الفكاهة، حلو النادرة، يكتب ويشعر، طرفاً في الانطباع واللوذعية، آية في خلط الجد بالهزل. ولي الإشراف بمدينة مالقة، وتقلب في الشهادة المخزنية عمره.
شعرهمن شعره يخاطب ذا الوزارتين أبا عبد الله بن الحكيم رحمه الله:
فؤادي من خطب الزمان سقيم ... وفيه لسهم الحادثات كلوم
ولم أشك دايي في البرية لامرئ ... أأشكو به وابن الحكيم حكيم
توفي بمالقة يوم الخميس عاشر شهر رمضان من عام تسعة وثلاثين وسبعماية.
محمد بن علي بن عبد ربه التجيبيمن أهل مالقة، يكنى أبا عمرو
حالهكان راوية ثقة، بارع الأدب، بليغ الكتابة، طيب النفس، كامل المروءة، حسن الخلق، جميل العشرة، تلبس بالأعمال السلطانية دهراً، وولي إشراف غرناطة وغيرها، إلى أن قعد لشكاية منعته من القيام والتصرف فعكف على النظر، فانتفع به.
مشيختهكانت له رحلة سمع فيها بالأسكندرية على أبي عبد الله بن منصور وغيره، وروى عنه الأخوان سالم وعبد الرحمن ابنا صالح بن سالم.
تواليفهله اختصار حسن في أغاني الإصبهاني، ورد جيد على ابن غرسية في رسالته الشعوبية لم يقصر فيها عن إجادة.
وتوفي لسبع خلون من محرم من عام اثنين وستماية.
الزهاد والصلحاء والصوفية والفقراء وأولا الأصليون
الصناعمحمد بن إبراهيم بن محمد بن محمد الأنصاري من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد اله ويعرف بالصناع.
حاله

من عايد الصلة: الشيخ الصوفي، الكثير الأتباع، الفذ الطريقة المجبب إلى أهل الثغور من البادية. كان رحمه الله شيخاً حسن السمت، كثير الذكر والمداومة، يقود من المخشوشنين عدد ربيعة ومضر، يعمل الرحلة إلى حصونهم، فيتألفون عليه، تألف النحل على أمرايها ويعاسيبها، معلنين بالذكر، مهرولين، يغشون مثواه، بأقواتهم على حالها، ويتناغون في التماس القرب منه، ويباشرون العمل في فلاحة كانت له بما يعود عليه بوفر وإعانة. وكان من الصالحين، وعلى سنن الخيار الفضلاء من المسلمين، وله حظ من الطلب ومشاركة، يقوم على ما يحتاد إليه من وظائف دينه، ويتكلم في طريق المتصوفة على مذهب أبي عبد الله الساحلي شيخه، كلاماً جهورياً، قريب الغمر. وكان له طمع في صناعة الكيمياء تهافت على دفاتيرها، وأهل متحليها، ليستعين بها بزعم على آماله الخيرية، فلم يحل بطايل.
مشيختهقرأ على أستاذ الجماعة أبي جعفر بن الزبير، وكانت له في حاله فراسة. حدثني بذلك شيخنا أبو عبد الله بن عبد الولي رحمه الله. وسلك على الشيخ الصالح أبي عبد الله الساحلي.
وتوفي ليلة الاثنين السابع من شهر شوال عام تسعة وأربعين وسبعماية، وكانت جنازته آخذة في الاحتفال، قدم لها العهد، ونفر لها الناس من كل أوب، وجيء بسريره، تلوح عليه العناية، وتحفه الأتباع المقتاتون من حل أموالهم وأيديهم من شيوخ البادية، فتولوا مواراته، تعلو الأصوات حوله، ببعض أذكاره.
المواقمحمد بن أحمد الأنصاري من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالمواق.
حالهكان معلماً لكتاب الله تعإلى، خطيباً بمسجد ربض الفخارين، طرفاً في الخير ولين العريكة، والسذاجة المشفوعة بالاختصار، وإيثار الخمول، مستقيماً في طريقته، خافتاً في خطبته، عاكفاً على وظيفته، مقصوداً بالتماس الدعاء، مظنة الصلاح والبركة.
توفي بغرناطة قبل سنة خمسين وسبعماية بيسير، وكلف الناس بقبره بعد موته، فأولوا حجارته من التعظيم، وجلب أواني المياه للمداواة، ما لم يولوه معشاره أيام حياته.
محمد بن حسنون الحميريمن أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله
حالهكان فاضلاً صالحاً، مشهور الولاية والكرامة، يقصده الناس في الشدايد، فيسألون بركة دعايه. ومن إملاء الشيخ أبي بكر بن عتيق بن مقدم، قال، أصله من بياسة، وكان عمه من المقربين المحدثين بها، وسكن هو مرسية، ونشأ بها، وقرأ على أشياخها، وحفظ كتاب التحبير في علم أسماء الله الحسنى للإمام أبي القاسم القشيري، ثم انتقل إلى غرناطة، فسكن فيها بالقصبة القديمة، وأم الناس في المسجد المنسوب إليه الآن. وكان يعمل بيده في الحلفا، ويتقوت من ذلك.
توفي عام خمسة وسبعماية بغرناطة، وهو من عدد الزهاد.
ومن مناقبه، ذكروا أنه سمع يوماً بعض الصبيان يقول لصبي آخر مر للحبس، فقال أنا المخاطب بهذا، فانصرف إلى السجن، فدخله، وقعد مع أهله، وبلغ ذلك السلطان، فوجه وزيره، فأخرجه، وأخرج معه أهل السجن كلهم، وكانت من كراماته.
ابن الحاجمحمد بن محمد بن البكري من أهل غرناطة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن الحاج كان رحمه الله شيخاً صالحاً، جهورياً، بعيداً عن المصانعة، متساوي الظاهر والباطن، مغلظاً لأهل الدنيا، شديداً عليهم، غير مبال في الله بغيره، يلبس خرقة الصوفية من غير التزامن لاصطلاح، ولا منقاد لرقو، ولا مؤثر لسماع. مشاركاً للناس، ناصحاً لهم، ساعياً في حوايجهم. خدم الصالح الكبير أبا العباس بن مكنون، وسلك به، وكان من بيت القيادة والتجند، فرفض زيه، ولبس المسوح والأسمال. وكان ذا حظ من المعرفة، يتكلم للناس. قال شيخنا أبو الحسن بن الجياب، سمعته ينشد في بعض مجالسه:
يا غادياً في غفلة ورايحاً ... إلى متى تستحسن القبايحا
وكم إلى كم لا تخاف موقفاً ... يستنطق الله به الجوارحا
يا عجباً منك وأنت مبصر ... كيف تجتنب الطريق الواضحا
كيف تكون حين تقرأ في غد ... صحيفة قد مليت فضائحا
أم كيف ترضى أن تكون خاسراً ... يوم يفوز من يكون رابحا

ولما حاصر الطاغية مدينة ألمرية، وأشرفت على التلف، تبرع بالخروج منها ولحاقه بباب السلطان، لبث حالها، واستنفار المسلمين إلى نصرها، فيسر له من ستر غرضه، وتسهيل قصده، ما يشهد بولايته.
توفي بألمرية محل سكناه، في حدود عام خمسة عشر وسبعماية.
محمد بن محمد بن أحمد الأنصاريغرناطي، قيجاطي الأصل يعرف بالسواس.
قال في المؤتمن في حاله: رجل متطبب، سهل الخلق، حسن اللقاء. رحل من بلده، وحج، وفاوض بالمشرق الأطباء في طريقته، وعاد فتصدر للطب، ثم عاد إلى بلاد المشرق. قلت، وعظم صيته، وشهر فضله، وقدم أمينا على أحباس مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة الطاهرة وصدقاته، وذكر عنه أنه اضطره أمر إلى أن خصي نفسه، وسقطت لذلك لحيته.
قال شيخنا أبو البركات، أنشدنا بدكانه برحبة المسجد الأعظم، من حضرة غرناطة، قال أنشدنا أبو عبد الله المراكشي بالإسكندرية، قال أنشدنا مالك بن المرحل لنفسه:
أرى الكلاب بشتم الناس قد ظلمت ... والكلب أحفظ مخلوق لإحسان
فإن غضبت على شخص لتشتمه ... فقل له أنت إنسان ابن إنسان
وفاته: كان حياً عام خمسين وسبعماية فيما أظن.
ومن الطارئين عليها في هذا الاسم
ابن جعفر القونجيمحمد بن أحمد بن جعفر بن عبد الحق بن محمد بن جعفر بن محمد ابن أحمد بن مروان بن الحسن بن نصر بن نزار بن عمرو بن زيد بن عامر بن نصر بن حقاف السلمي، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن جعفر، ويشهر في الأخير بالقونجي، منسوباً إلى قرية بالإقليم، وكان من أهل غرناطة.
حالهمن خط شيخنا أبي البركات بن الحاج: كان هذا الرجل، رجلاً صالحاً فاضلا متخلقاً، سمحاً، جميل اللقاء على قدم الإيثار على رقة حاله، ممن وضع الله له القبول في قلوب عباده، فكانت الخاصة تبره ولا تنتقده، والعامة توده وتعتقده، وتترادف على زيارته، فئة بعد فئة، فلا تنقلب عنه إلا راضية، وكان جارياً على طريقة الشيخ أبي الحسن الشاذلي إذ كان قد لقي بالمشرق الشيخ الإمام تاج الدين بن عطاء الله، ولازمه وانتفع به، كما لقي ولازم تاج الدين أبا العباس المرسي، كما لازم أبو العباس أبا الحسن الشاذلي. قال: ولقيه بعد هذا الشيخ أبي عبد الله جماعات في أقطار شتى، ينسبون إليه، ويجرون من ملازمته الأذكار في أوقات معينة على طريقته، وله رسايل منه إليهم طوال وقصار، يوصيهم فيها بمكارم الأخلاق، وملازمة الوظايف، وخرج عنه إليهم على طريقة التدوين، كتاب سماه بالأنوار في المخاطبات والأسرار مضمنه جملة من كلام شيخهم تاج الدين، وكلام أبي الحسن الشاذلي، ومخاطبات خوطب بها في سره، وكلام صاحبه أبي بكر الرندي، وحقايق الطريق، وبعض كرامات غير من ذكر من الأولياء، وذكر الموت، وبعض فضايل القرآن.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي الحسن البلوطي وأجازه، وعلى أبي الحسن بن فضيلة وأجازه كذلك، وعلى أبي جعفر بن الزبير وأجازه، ثم رحل فحج ودخل الشام، وعاش مدة من حراسة البساتين، واعتنى بلقاء المعروفين بالزهد والعبادة، وكان ملياً بأخبار من لقي منهم، فمنهم الشيخ أبو الفضل تاج الدين بن عطاء الله، وصاحبه أبو بكر بن محمد الرندي.
مناقبهقال، دخلت معه إلى من خف على قلبي الوصول إلى منزله لما قدم ألمرية، وهو رجل يعرف بالحاج رحيب، كان من أهل العافية، ورقت حاله، ولم يكن ذلك يظهر عليه، لمحافظته على ستر ذلك لعلو همته، ولم يكن أيضاً أثر ذلك يظهر على منزله، بل أثاث العافية باق فيه من فرش وماعون. فساعة وصول هذا الشيخ، قال الله يجبر حالك، فحسبتها فراسة من هذا الشيخ. قال، وخاطبته عند لقائي إياه بهذه الأبيات:
أشكو إليك بقلب لست أملكه ... ما لم يرد من سبيل فهو يسلكه
له تعاقب أهواء فيقلقه ... هذا ويأخذه هذا ويتركه
طوراً يؤمنه طورا يخوفه ... طورا ييقنه طورا يشككه
حيناً يوحشه حينا يونسه ... حينا يسكنه حينا يحركه
عسى الذي يمسك السبع الطباق ... على يديك يا مطلع الأنوار يمسكه
فيه سقام من الدنيا وزخرفها ... مهمى أبيضه بالذكر تشركه

عسى الذي شانه الستر الجميل كما ... غطى عليه زماناً ليس يهتكه
فلم قرأ منها، فيه سقام من الدنيا وزخرفها، قال هذه علتي.
مولده: سألته عنه فقال لي عام ثمانية وستين بقرية الجيط من قرى الإقليم وفاته: بقرية قنجة خطيباً بها، يوم الاثنين عشرين من شهر شعبان المكرم عام خمسين وسبع ماية، في الوباء العام، ودفن بقرية قنجة، رحمة الله عليه ورضوانه.
ابن صفوانمحمد بن أحمد بن حسين بن يحيى بن الحسين بن محمد بن أحمد ابن صفوان القيسي وبيته شهير بمالقة يكنى أبا الطاهر، ويعرف بابن صفوان
حالهكان مفتوحاً عليه في طريق القوم، ملهماً لرموزهم، مصنوعاً له في ذلك، مع المحافظة على السنة، والعمل بها. آخر الرعيل، وكوكب السحر، وفذلكة الحساب ببلده، اقتداء وتخلقاً وخشوعاً وصلاحاً وعبادة ونصحاً. رحل فحج، وقفل إلى بلده، مؤثراً الاقتصار على ما لديه، فإذا تكلم في شيء من تلك النحلة، يأتي بالعجايب، ويفك كل غامض من الإشارات. وعني بالجزء المنسوب إلى شيخ الإسلام أبي إسمعيل الروبي المسمى بمنازل الساري إلى الله فقام على تدريسه، واضطلع بأعبايه، وقيد عليه ما لا يدركه إلا أولوا العناية، ولازمه الجملة من أولى الفضل والصلاح، فانتفعوا به، وكانوا في الناس قدوة. وولي الخطابة بالمسجد الجامع من الربض الشرقي، وبه كان يقعد، فيقصده الناس، ويتبركون به، وكان له مشاركة في الفقه، وقيام على كتاب الله.
تواليفهألف بإشارة السلطان على عهده، أمير المسلمين أبي الحجاج رحمه الله، كتاباً في التصويف والكلام على اصطلاح القوم، كتب عليه شيخنا أبو الحسن بن الجياب بظهره، لما وقع عليه، هذه الأبيات:
أيام مولاي الخليفة يوسف ... جاءت بهذا العالم المتصوف
فكفى بما أسدى من الحكم التي ... أبدين من سر الطريقة ما خف
وحقايق رفع الحجاب بهن عن ... نور الجمال فلاح غير مكيف
كالشمس لاكن هذه أبدي سناً ... للحسن والمعنى لعين المنصف
فيه حياة قلوبنا ودواؤهافمن استغاث بجرعة منها شف
إن ابن صفوان إمام هداية صافي فصوفي فهو صوفي صف
وإن اختبرت فإنه صفو ابن صفو ... ظاهر في طيه صفو خف
علم توارثه وحال قد خلت ... ذوقاً فنعم المقتدى والمقتف
فليهنلى المولى سعود إيالة ... فيها سراج نوره لا ينطف
جلى وجوه شريعة وحقيقة ... صبحاً سناه باهر لا يختف
لا زلت تسلك كل نهج واضح ... منها وتحيي كل سعي مزلف
ومن تواليفه جر الحر في التوحيد، وعلق على الجزء المنسوب لأبي إسمعيل الهروي.
من أخذ عنهأخذ عنه ببلده، وتبرك به، جلة، وكان يحضر مجلسه عالم، منهم شيخ الشيوخ الأعلام، أبو القاسم الكسكلان، وأبو الحسين الكواب، والأستاذ الصالح أبو عبد الله القطان، وصهره الأستاذ أبو عبد الله بن قوال والعاقد الناسك أبو الحسين الأحمر وغيرهم.
شعرهرأيت من الشعر المنسوب إليه، وقد رواه عنه جماعة من أصحابنا، يذيل قول أبي زيد رضي الله عنه:
رأيتك تدنيني إليك تباعدني ... فأبعدت نفسي الابتغاء التقرب
فقال:
هويت بدمنى إليه فلم يكن بي ... البعد بعدي فصح به قرب
فكان به سمعي كما بصري به ... وكان به لأئ لساني مع القلب
فقربي به قرب بغير تباعد ... وقربي في بعدي فلا شيء من قرب
وفاتهسافر من بلده إلى غرناطة في بعض وجهاته إليها، وذهب سحراً يرتاد ماء لوضويه. فتردى في حفرة تردياً أوهن قواه، وذلك بخارج بلش، فرد إلى مالقة، فكانت بها وفاته قبل الفجر من ليلة يوم الجمعة الرابع عشر لشعبان عام تسعة وأربعين وسبعماية.
الساحليمحمد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم الأنصاري يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالساحلي
حاله

من عايد الصلة: المثل الساير في غمران أوقاته كلها بالعبادة، وصبره على المجاهدة. قطع عمره في التبتل والتهجد لا يفتر لسانه عن ذكر الله، والصلاة على نبيه، صلى الله عليه وسلم. خرج عن متروك والده، واقتصر على التمعش من حرفة الخيطاة. ثم تعداها إلى النسخ والتعليم، وسلك على الشيخ أبي القاسم المريد، نفع اله به، حتى ظهرت عليه سيما الصالحين، وأقام عمره مستوعباً ضروب الخير، وأنواع القرب من صوم وإذان وذكر، ونسخ وقراءة، وملازمة خلوة. ذا حظ من الفصاحة. وجرأة على الوعظ، في صوت جهير، وعارضة صليبة. اقتدى به طوايف من أصناف الناس على تباعد الديار، وألزمهم الأذكار، وحولهم للسلوك، فأصبح كثير الأتباع، بعيد الصيت. وولي الخطابة بالمسجد الجامع من بلده، ونقل إلى الخطابة، بجامع غرناطة في نبوة عرضت له بسبب ذنابى ذرية طرقوا الكدر إلى سربه، ثم عاد إلى بلده متين ظهر الحظوة، وثيق أساس المبرة.
مشيختهقرأ ببلده مالقة على الخطيب أبي محمد بن عبد العظيم بن الشيخ، وأبي عبد الله بن لب، وأبي جعفر الحرار، وأبي عبد الله بن الحلو، الخطيب أبي عبد الله بن الأعور.
محنتهابتلى بعد السبعين من عمره بفقد بصره، فظهر منه من الصبر والشكر والرضاء بقضاء الله، ما يظهر من مثله. وأخبرني بعض أصحابه أنه كان يقول، سألت الله أن يكف بصري خوفاً من الفتنة. وفي هذا الخبر نظر لمكان المعارضة في أمره صلى الله عليه وسلم بسؤال العافية، والإمتاع بالإسماع والإبصار.
شهرتهوجعل الله له في قلوب كثير من الخلق، الملوك فمن دونهم، من تعظيمه ما لا شيء فوقه، حتى أن الشيخ المعمر الحجة الرحلة أبا علي ناصر الدين الوشدالي كتب إليه من بجاية بما نصه: يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجينا ببضاعة مزجاة، فأوف لنا الكيل، وتصدق علينا، إن الله يجزي المتصدقين. وبعده: من العبد الأصغر والمحب الأكبر فلان، إني سيد العارفين، وإمام المحققين، في ألفاظ تناسب هذا المعنى.
حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب، وكان من أعلام تلاميذه، وصدور السالكين على يديه، قال قصدت منه خلوة، فقلت يا سيدي، أصحابنا يزعمون أنك ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاخبرني واشف صدري هل هذه الرؤيا عينية أو قلبية، قال، فأفكر ساعة، ثم قال، عندي شك في رؤية ابن الجياب الساعة ومحادثته، فقلت لا، فقال كذلك الحال، قلت وهذا أمر غريب، ولا يصح إلا رؤية القلب، ولكن غلبت عليه حتى تخيل في الحس الصورة الكريمة، إذ وجود جوهر واحد في محلين اثنين محال.
شعرهنظم الكثير من شعر منحط لا يصلح للكتب ولا للرواية، ابتلى به رحمه الله، فمن لبابه قوله، وهو من الوسط:
إن كنت تأمل أن تنال وصالهم ... فامح الهوى في القليل والأفعال
واصبر على مر الدواء فإنه ... ياتيك بعد بخالص السلسال
تواليفه: ألف كتاباً سماه إعلان الحجة في بيان رسوم المحجة.
توفي يوم الجمعة الرابع والعشرين لشوال عام خمسة وثلاثين وسبعماية، وكانت جنازته مشهودة، تزاحم الناس على نعشه، وتناولوه تمزيقاً على عادتهم من ارتكاب القحة الباردة في مسلاخ حسن الظن.
القطانمحمد بن أحمد بن قاسم الأمي من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالقطان، الفقيه الأواب المتكلم المجتهد.
حاله

من العايد: كان هذا الرجل غريب المنزع، عجيب التصوف. قرأ وعقد الشروط، وتصدر للعدالة، ثم تجرد، وصدق في معاملته لله، وعول عليه، واضطلع بشروط التوبة، فتحلل من أهل بلده، واستفاد واسترحم، واستغفر، ونفض يديه من الدنيا، والتزم عبادة كبيرة، فأصبح يشار إليه في الزهد والورع، لا تراه إلا متبسماً، ملازماً لذكر الله، متواضعاً لأصاغر عباده، محبا في الضعفاء والمساكين، جميل التخلق، مغضياً عن الهنات، صابراً على الإفادة. وجلس للجمهور بمجلس مالقة، يتكلم في فنون من العلم، يعظ الناس، ويرشدهم، ويزهدهم، ويحملهم على الإيثار، في أسلوب من الاستنفار والاسترسال، والدلالة، والفصاحة والحفظ، كثير التأثير في القلوب، يخبر بإلهام وإعانة. فمال الخلق إليه، وتزاحموا على مجالسته، وأعلنوا بالتوبة، وبادر مترفوهم إلى الإقلاع عن إجابة الشهوات، والاستقالة من الزلات. ودهم الوباء، فبذلوا من الأموال في أبواب البر والصدقة، ما لا يأخذه الحصر ولا يدركه الإحصاء ولو لا أن الأجل طرقه، لعظم صيته، وانتشر نفعه.
وفاتهتوفي شهيد الطاعون عصر يوم الأربعاء لصفر من عام خمسين وسبعماية، ودفن بجبانة جبل فاره، ضحى يوم الخميس الثاني من يوم وفاته. وصلى عليه خارج باب قنتنالة، وألحده في قبره الخطيب القاضي الصالح، أبو عبد الله الطنجالي، رحم الله جميعهم.
وممن رثاه الشيخ الأديب أبو الحسن الوراد فقال:
أبعد ولي الله دمعي يسجم ... وغمار قلبي من كلوم تترجم
فؤادي مكلوم بحزني لفقده ... لذاك جفوني دمعها كله دم
ومإذا عسى يغني التفجع والبكا ... ومإذا عسى يجدي الأسى والتبرم
سأصبر للبلوى وإن جل خطبها ... فصبر الفتى عند الشدايد يعلم
كذا العلم بالسيف الصقيل لدى الوغى فويق الذي من حسنه يوسم
على قدر صبر المرء تصغر عنده ... خطوب من الدنيا على الناس تعظم
إلا إنها الدنيا تعلة باطل ... ومخمضة أحلام لمن بات يحلم
تجنبها أهل العقول فأقصروا ... وأغرق فيها الجاهلون وأشأم
أعد نظراً فيها تجبك براحة ... وانس بما تقضي عليك وتحكم
أعد لها درياق صبرك إنها ... من البؤس والتلوين والله أرقم
تلفت إلى تعذيبها لمحبها ... ومإذا بها يلقى كثيب ومغرم
يظن بها ريحانة وهي سدرة ... ولا منتهى إلا الردى والتندم
عجبت لها تخفي علينا عيوبها ... وذاك لأنا في الحقيقة نوم
أليس عجيباً أن يعول عاقل ... على عاجل من وصلها يتصرم
وما وصلها معشار عشر صدورها ... ولكنه صرف للدهر أدوم
إذا ابتسمت يوماً ترقب عبوسها ... فما إن لنا منها يدوم التبسم
ضحى كان وجه الدهر سبر بشره ... فلم يمس حتى بان منه التجهم
ذرينا بعقد من ولي مكانه ... مكين لدي العلياء سام معظم
هوى مثل هوى من الأفق كوكب ... فجللنا ليل من الخطب مظلم
تساوى لديه صيدها وعبيدها ... وعالمها التحرير والمتعلم
هو الموت لا ينفك للخلق طالباً ... يروح ويغدو كل حين عليهم
ما هو إلا الداء عز دواؤه ... فليس لشيء في البسيطة يحسم
دها كل مخلوق فما منه سيد ... له الجاه عند الله ينجو فسلم
ولو كان ذا كان النبي محمد ... تجنبه صلوا عليه وسلم
تعنى به موسى ويوسف قبله ... ونوح وإدريس وشيث وآدم
به باد بهرام وتبر بهرم ... وكسر من كسري سوار ومعصم
وكم من عظيم الشأن حل بربعه ... فإن تختبره فهو رب وأعظم
ولكننا ننسى ونأبى حديثه ... وننجد في الإعراض عنه ونتهم
فحتى إذا حل ساحة ماجد ... نطل بها من حسرة نتكلم

نسينا حديث الموت جهلاً بغدره ... فألهمنا إذ هزنا منه ملهم
وفاة ورمى في التراب موسد ... وآثاره فوق السماك تخيم
خبا ضوء نادي أقفر ربعه ... من العلم والتعليم ربع ومعلم
تردى فأردى فقد أهل رية ... فما منهم إلا كثيب ومغرم
غدا أهلها من فجعة بمصابه ... وعيشهم صاب قطيع وعلقم
وهل كان إلا والد مات عنهم ... فيا من لقوم يتموا حين أو يتم
قضى نحبه الأستاذ واحد عصره ... فكاد الأسى يقضي إلى الكل منهم
قضى نحبه القطان فالحزن قاطن ... مقيم بأحناء الضلوع محكم
وهل كان إلا روضة رف ظلها ... أتيح له قيظ من الجون صيلم
وهل كان إلا رحمة عاد فقدها ... علامة فقد العلم والله أعلم
سل التائبين العاكفين على الهدى ... لكم منة أسدى وأهدى إليهم
أفادهم من كل علم لبابة ... وفهمهم أسراره فتفهم
جزى الله رب الناس خير جزائه ... دليلا بهم نحو الهدى حيث يمم
أبان لهم طرق الرشاد فأقدموا ... وحذرهم عن كل غي فأحجم
وجاء من التعليم للخير كله ... بأبين من يأتي به من يعلم
فصاحة ألفاظ وحسن عبارة ... مضى كما يمضي الحسام المصمم
يصيب فلا يخطي إذا مقصدا ... ولمن يجيب فلا يبطي ولا يتلعثم
يحدث في الآفاق شرقاً ومغرباً ... فأخباره أضحت تخط وترسم
سرى في الورى ذكر له ومدايح ... يكاد بها طير العلى يترنم
لعمرك ما يأتي الزمان بمثله ... وما ضرني لو كنت بالله أقسم
فقيه نزيه زاهد متواضع ... رؤوف عطوف مشفق مترحم
يود لو أن الناس أثرى جميعهم ... فلم يبق مسكين ولم يبق معدم
يود لو أن الله تاب على الورى ... فتابوا فما يبقى من الكل مجرم
عليه من الرحمن أوسع رحمة ... فقد كان فينا الدهر يحنو ويرحم
محمد بن أحمد بن يوسف بن أحمد بن عمر بن يوسف بن علي بن خالد

ابن عبد الرحمن بن حميد الهاشمي الطنجالي

لوشي الأصل، مالقي النشأة والاستيطان.
أوليتهبيتهم نبيه إلى هاشمية النبه وهم ببلدنا لوشة أشرف، وهم ببلدنا لوشة أشرف، وكانت لهم فيها ثروة وثورة، اجتثها الدهر ببعض طوارقه، في أبواب المغالبات. ويمت سلفنا إليهم بصحبة ومصاهرة في حديث يستدعي طولاً، وانتقل خلفهم إلى مالقة.
حالهمن عايد الصلة: كان هذا الولي الفاضل، المجمع على ولايته وفضله، سهل اللقاء، رفيقاً بالخلق، عطوفاً على الضعفاء، سالكاً سنن الصالح من السلف، سمتاً وهدياً، بصره مغضوض، ولسانه صامت، إلا من ذكر الله، وعلمه نافع وثوبه خشن، وطعمته قد نفدها الورع الشديد، حتى اصطفاها مختاره، إذا أبصرت بها العين، سبقتها العبرة. بلغ من الخلق، الملوك فمن دونهم الغاية، فكان يلجأ إليه المضطر، وتمدل إلى عنايته الأيدي، وتحط بفنايه الوسايل، فلا يرتفع عن كلف الناس ولا حوايجهم، ولا ينقبض عن الشفاعة لهم، وإصلاح ذات بينهم. له في ذلك كله أخبار طريفة. واستعمل في السفارة بين ملكي العدوة والأندلس، في أحوال المسلمين، فما فارق هيئته، وركوب حماره واستصحاب زاده، ولبس الخشن من ثوبه. وكان له حظ رغيب من فقه وحديث، وتفسير، وفريضة. ولي الخطابة ببلده مالقة، واستسقى في المحول، فسقى الناس.
حدثني بعض أشياخنا: قال، حضرت مقامه، مستسقياً، وقد امتنع الغيث، وقحط الناس، فما زاد عند قيامنا أن قال، أستغفر الله، فضج الخلق بالبكاء والعجيج، ولم يبرحوا حتى سقوا. وكراماته كثيرة، ذايعة من غير خلاف ولا نزاع.
حدث بعض أشياخنا عن الخطيب الصالح أبي جعفر الزيات، قال رأيت في النوم قايلاً يقول، فقد الليلة من يعمر بيت الإخلاص بالأندلس، فما انتصف النهار، من تلك الليلة، حتى ورد الخبر بموته.
مشيخته

من شيوخه الذين قرأ عليهم، وأسند إليهم الرواية والده رحمه الله، وأبو عمرو بن حوط الله، والخطيب ابن أبي ريحانة المربلي، والقاضي أبو علي بن أبي الأحوص، والراوية أبو الوليد بن العطار، والراوية المحدث أبو بكر بن مشليون، والمقري أبو عبد الله بن مستقور الطايي، والأستاذ أبو جعفر الطباع، وأبو الحسين بن أبي الربيع، والمحدث أبو عبد الله بن عياش، والأستاذ أبو الحسن السفاج الرندي، والخطيب بألمرية أبو الحسن الغزال. وقرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير. وأجازه من أهل المشرق جماعة منهم أبو عبد الله بن رزيق الشافعي، والعباس أحمد ابن عبد الله بن محمد الطبري، وأبو اليمن عبد الصمد بن أبي الحسن عبد الوهاب بن أبي البركات المعروف بالنجام، والحسن بن هبة الله بن عساكر، وإبراهيم بن محمد الطبري إمام الخليل، ومحمد بن محمد بن أحمد بن عبد ربه الطبري، ومحمد بن علي بن وهب بن مطيع القشيري، وأبو الفتح تقي الدين بن أبي الحسن فخر الدين، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر الطبري المكي الشافعي وغيرهم.
ميلاده: بمالقة في رجب سنة أربعين وستماية.
وفاته: بمالقة في يوم الخميس الثامن لجمادى الأولى من عام أربعة وعشرين وسبعماية. وقد ناهز الثمانين سنة، لم ينتقص شيء من أعماله المقربة إلى الله، من الصوم والصلاة، وحضور الجماعات، وملازمة الإقراء والرواية، والصبر على الإفادة.
حدث من يوثق به، أن ولده الفقيه أبا بكر دخل عليه، وهو في حال النزع، والمنية تحشرج في صدره، فقال يا والدي أوصني، فقال وعيناه تدمعان، يا ولدي اتق الله حيث كنت واتبع السيئة بالحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن.
ابن إبراهيم البلفيقيمحمد بن إبراهيم بن محمد بن إبراهيم البلفيقي ابن الحاج والد شيخنا أبي البركات. وقد مر في ذكر النسب المتصل بعباس ابن مرداس، والأولية النبيهة ما يغني عن الإعادة.
حالهمن خط ولده شيخنا على الاختصار، قال يخاطبني في بعض ما كتب به إلي: ذكر أبي، وهو ممن طلبتم ذكره إلي في أخباره جزءاً من نحو سبعين ورقة في المقسوم، لخصت لك من مبيضته ما يذكر: نشأ رحمه الله بسبتة على طهارة تامة، وعفة بالغة، وصون ظاهر، كان بذلك علماً لشبان مكتبه. قرأ القرآن بالقراءات السبع، وحفظ ما يذكر من المبادي، واتسم بالطلب. ثم تاقت نفسه إلى الاعتلاق بالعروة الوثقى، التي اعتلق بها سلفه، فنبذ الدنيا، وأقبل على الآخرة، وجرى على سنن المتقين، أخذاً بالأشد من ذلك والأقوى، طامحاً بهمته إلى أقصى ما يؤمله السالكون. فرفض زي الطلبة، ولبس الخشنية، وترك ملابسة الخلق بالجملة، وبالغ في الانقباض عنهم، وانقطع إلى الله برباطات سبتة وجبالها، وخصوصاً بمينايها، وعكف على ذلك سنين ثم سافر إلى المغرب، سايحاً في الأرض، على زي الفقهاء للقاء العباد وأهل العلم، فأحرز من ذلك ما شاء. ثم أجاز البحر إلى جزيرة الأندلس، وورد ألمرية، مستقر سلفه، وأخذ في إيثار بقايا أملاك بقيت لأسلافه بها، على ما كان عليه من التبتل والإخبات. وكان على ما تلقينا من أصحابه وخدانه، صواماً، قواماً، خاشعاً ذاكراً، تالياً، قوالا للحق، وإن كان مراً كبيراً في إسقاط التصنع والمباهاة، لا يضاهي في ذلك، ولا يشق غباره. وقدم على غرناطة، ودخل على أمير المسلمين، وقال له الوزير، يقول لك السلطان ما حاجتك، فقال، بهذا الرسم رحلت، ثم ظهر لي أن أنزل حاجتي بالله، فعار على من انتسب إليه، أن يقصد غيره. ثم أجاز البحر وقد اشتدت أحوال أهل الأندلس بسبب عدوهم، وقدم على ملكه، ووعظه موعظة، أعنف عليه فيها، فانفعل لموعظته، وأجاز البحر بسببه إلى جزيرة الأندلس، وغزا بها، وأقام بها ما شاء الله، وتأدب الروم لو تم المراد قال، وأخبره السلطان أبو يوسف ملك المغرب، قال كل رجل صالح دخل علي كانت يده ترعد في يدي، إلا هذا الرجل، فإن يدي كانت ترعد في يده عند مصافحته.
كراماته

وجلب له كرامات عدة، فقال في بعضها، ومن ذلك ما حدثني الشيخ المسلم الثقة أبو محمد قاسم الحصار، وكان من الملازمين له، المنقطعين إلى خدمته، والسفر معه إلى البادية، فقال، إني لأحفظ لأبيك أشياء من الأحوال العظيمة، منها ما أذكره، ومنها ما لا أستطيع ذكره. ثم قال، حدثني أهل وادي الزرجون، وهو حش من أعمال سبتة، قالوا، انصرف السيد أبو عبد الله من هنا، هذا لفظه، فلما استقر في رأس العقبة، المشرفة على الوادي، صاح عليه أهل القرى، إذ كانوا قد رأوا أسداً كبيراً جداً؛ قد تعرض في الطريق، ما نجا قط من صادفه مثله، فلما سمع الضياح قال ما هذا، فقيل له أهل القرى يصيحون عليه خيفة من السبع قال، فأعرض عنهم بيده، ورفع حاجبه كالمتكبر على ذلك، وأسكتهم، وأخذ في الطريق حتى وصل إلى الأسد، فأشار عليه بالقضيب، وقال له، من ها هنا من ها هنا، أخرج عن الطريق، فخرج بإذن الله عن الطريق، ولم يوجد هنالك بعد. وأمثال ذلك كثيرة.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي الحسين بن أبي الربيع القرشي، وأجازه والده أبو إسحق إجازة عامة. ومن شيوخه القاضي المسن أبو عبد الله الأزدي، والمحدث أبو بكر بون مشليون، وأبو عبد الله بن جوهر، وأبو الحسين بن السراج، وأبو عبد الله محمد بن عبد الله الخزرجي، وأبو عبد الله بن الأبار، وأبو الوليد بن العطار، وأبو العباس بن عبد الملك، وأبو إسحق ابن عياش، وأبو محمد عبد الله بن أحمد بن عطية، وأبو بكر القرطبي حميد، وأبو إبراهيم الطرسي، والقاضي أبو عبد الله بن عياض، والكاتب أبو الحسن الرعيني، وأبو الحسن الشاري، وأبو يحيى بن الفرس، وأبو إسحق بن عبيد الله، وأبو الحسن الغزال، وجماعة من الأندلس غير هؤلاء. ومن أهل العدوة كأبي يعقوب المحاسبي وابن فرتون وغيرهم.
محنتهنمى عنه إلى السلطان بالأندلس، أنه أغرى به ملك المغرب، وتخلص بعد لأي في خبر طويل، وانتهب السلطان ماله، وألحق أملاكه بالمختص واستمر. وذلك إلى دولة والده وامتحن الساعون به، فعجل الله عقوبتهم.
مولده: قال شيخنا نقلت من خط أبيه ما نصه: ولد ابني أبو بكر محمد أسعده الله ووفقه، في النصف الأول من ليلة يوم الاثنين الحادي والعشرين لذي قعدة من سنة ست وأربعين وستماية.
وفاته: قال ألفيت بخط القاضي الأديب الكاتب أبي بكر بن شبرين وكان ممن حضر جنازته بسبتة. وكانت وفاة الفقيه الناسك السالك الصالح أبي بكر محمد بن الشيخ الفقيه المحدث أبي إسحق السلمي البلفيقي في العشر الأواخر من رمضان أربعة وتسعين وستماية بمحروسة سبتة، ودفن إثر صلاة العصر بجبانة الخروبة من منارتها بمقربة من قبر ريحان الأسود العبد الصالح نفع الله به. وصلى عليه الإمام أبو عبد الله بن حريث.
ابن عباد النفزيمحمد بن يحيى بن إبراهيم بن أحمد بن مالك بن إبراهيم بن يحيى ابن عباد النفزي من أهل رندة، يكنى أبا عمرو، ويعرف بابن عباد، الحاج الصوفي
حالهنشأ ببلده رندة، وهو من ذوي البيوتات الأصلية بها، ثم رحل إلى المشرق، ولقي العلماء والصوفية، وحضر عند المشيخة، ثم كر إلى الأندلس، فتصوف، وجال في النواحي، واطرح السموت، وفوت ما كان بيده من متاع الدنيا، وكان له مال له خطر، وألقى التصنع لأهله رأساً. وكان فيه توله وحدة، وله ذهن ثاقب، يتكلم في المعقولات والمنقولات، على طريقة الحكماء والصوفية، ويأتي بكل عبارة غريبة، وآثاره هايلة من غير تمكن علم، ولا وثاقة إدراك، غير أنك لا تسمع منه إلا حسناً، وهو مع ذلك طواف على البلاد، زوار للربط، صبار على المجاهدة طوعاً وضرورة، ولا يسل ثياباً البتة إلا بذلة من ثوب أو غيره، صدقة واحد في وقته.
محنته وفضله وشعرهنمى عنه كلام بين يدي صاحب المغرب، أسف به مدبر الدولة يومئذ، فأشخص عند إيابه إلى رندة وسجن بسجن أرباب الجرايم، فكتب إلى ولي الأمر:
تركت لكم عز الغنى فأبيتم ... وأن تتركوني للمذلة والفقر
ونازعتموني في الخمول وإنه ... لذي مهجتي أحلى من البنى والأمر
ثم قال، يا من رماني بسهمه، الغرب، قد رد عليك مخضوباً بالدم. قال فوالله ما مرت ثلاثة، حتى نفذ حكم الله فيمن عدا عليه.
وشعره حسن يدل على طبع معين، فمن ذلك:

سرى يسر إلي أنك تاركي ... نفسي الفدا للطفك المتدارك
يا مالكي ولي الفخار بأنني ... لك في الهوى ملك وأنك مالك
الترك هالك فاعفني منه وعد ... بالوصل تحيي ذما محب هالك
وأعد جميلاً في الهوى عودتني ... إن لم تعده إلي من للهالك
يا منية القلب الذي بجماله ... فتن الورى من فاتك أو ناسك
أأتيه دونك أو أحار وفي سنى ... ذاك الجمال جلا الظلام الحالك
ولكم سلكت إليك لكن حين لم ... تكن الدليل اختل قصد السالك
ولقد عرفت بستر سري في الهوى ... فهجرتني فكسيت ثوب الهاتك
ما الستر إلا ما يحوك رضاك لا ... ما حاكه للبتر كف الحايك
ما الفضل إلا ما حكمت به فصن ... وأهتك وصل إن شيت أو كن تارك
ما لي سوى حبيك يا حبي فدع ... تركي فهلك الملك ترك المالك
وقال أيضاً:
هذا العقيق فسل معاطف بأنه ... هل نسمة عادته من نعمانه
واسأله إن زارته مإذا أخبرت ... عن أجرع العلمين أو سكانه
وأصخ لحسن حديثها وأعده للمضني ففيه البرء من أشجانه
يا حبذا ذاك الحديث وحبذا ... من قد رفاه وحبذا ببيانه
وسقى الآله زمانه ومكانه ... ويعز قدر زمانه ومكانه
يا سعد ساعد مستهاماً فيه لا ... ذقت الهوى ونجوت من عدوانه
وأصخ لما يتلو الوجود عليك من ... أنبائهم بلسان حال كيانه
وأبنه لي واقبل ذمامي بشارة ... ويقل بذل ذماي في تبيانه
وسل النسيم يهب من واديهم ... شذاً خزاماه وطيب لبانه
ارحم بروح منه روحي تحيه ... ويسقمه سقمي فديتك عانه
وبنشره انشر نفس مشتاق ... قضت شوقاً لنفحة نسمة من بانه
يا سعد حدثني فكل مخبر ... عن خسر من أهواه أو إحسانه
يا سعد طارحنيه واملأ مسمعي ... من سره إن شيت أو إعلانه
أنا في الغرام أخوك حقاً والفتى ... لا يكتم الأسرار من إخوانه
قل كيف وادي ود سكان الحمى ... ومنى أمانيه وروض لسانه
هل قلصت أيدي النوى من ظله ... أو ما جرى هل عاث في جريانه
وهل الربوع أواهل بجمالهم ... فسقى للربوع الودق من هتانه
وهل التقى بان على عهد النوى ... وهل اللوى يلوي بعود زمانه
فبروض أنسهم غمدت نضارة ... نزهت منها الطرف في بستانه
وأرى هجير أذبل يانعاً ... منه وأذوي الغض من ريحانه
وأحال حال الأنس فيه وحشة ... وطوى بساط الأنس في هجرانه
آهاً ووالهفي وويحي أن مضى ... عهد عرفت الأنس في أزمانه
وبأجرع العلمين من شرقيه ... حب غذاني حبه بلبانه
حاز المحاسن كلها فجمعن لي ... كل الهوى فحملت كل هوانه
وزها علي بعزة فبواجب ... أزهو بذلي في يدي سلعانه
وقضى بأن أقضي وليت بما قضى ... يرضى فطيب العيش في رضوانه
واختار لي أن لا أميل لسلوة ... عن حبه فسلوت عن سلطانه
يا عاذلي أو ناصحي أو لايمي ... تبغي السلو ولات حين أوانه
غلب الغرام وعز سلطان الهوى ... فالكل في علي من أعوانه
فعلام تعتب مستهاماً كلما ... في الكون عاذره على شيمانه
دع عنك لومي إنني لك ناصح ... أبدي الجمال العذر عن هيمانه
وإذا الفتى قام الجمال بعذره ... في الحب فاتركه وثنى عنانه
من سام قلبي في هواه سلوة ... قد سامه ما ليس في إمكانه
وقال في الغرض المذكور:
يا للرجال ألا حب يساعدني ... في ذا الغرام فأبكيه ويبكين

غلبت فيه وما أجدت مغالبتي ... وهنت والصب أولى الناس بالهون
ركبت لجته وجدي فأدهشني ... ومت في يده فردا فدلون
واضيعة العمر والبلوى مضاعفة ... ما بين يأس وآمال ترجين
والهف نفسي إن أودت وما ظفرت ... في ذا الهوى بتمن أو بتأمين
فليت شعري وعمري ينقضي طمعاً ... في ذا الهوى بين مغلوب ومغبون
هل الأولى ملكوا رقي وقد علموا ... بذلي وافتقاري أن يواسون
فكم أكفكف دمعي بعدهم وأرى ... مجدداً نار يأسي وهي تبلين
وكم أمر على الأطلال أندبها ... وبالمنازل من خيف ودارين
وفي الفؤاد لهم ما ليس يعلمه ... إلا هم علمهم بالحال يكفين
أهمي المدامع كي أروى فتعطشني ... وألزم الذكر للسلوى فيشجبن
يا أهل نجد وفخري أن أحبكم ... لا أطلب الوصل عز الحب يغنين
هل للهوى من سبيل للمنى فلقد ... عزت أمانيه في الدنيا وفي الدين
محمد بن يوسف بن خلصونيكنى أبا القاسم، روطي الأصل لوشيه. سكن لوشة وغرناطة ومالقة
حالهكان من جلة المشيخة وأعلام الحكمة، فاضلا، منقطع القرين في المعرفة بالعلوم العقلية، متبحراً في الإلهيات، إماماً في طريقة الصوفية، من أهل المقامات والأحوال، كاتباً بليغاً، شاعراً مجيداً، كثير الحلاوة والطلاوة، قايما على القرآن، فقيهاً أصولياً، عظيم التخلق، جميل العشرة، انتقل من حصن روطة إلى الخطابة والإمامة بلوشة، كثير الدؤوب على النظر والخلوة، مقصوداً من منتحلي ما لديه ضرورة. لم يتزوج، وتمالأت عليه طايفة ممن شانها الغض من مثله، فانزعج من لوشة إلى مالقة، فتحرف بها بصناعة الطب، إلى حين وفاته.
حدثني والدي، وكان خبيراً بأحواله، وهو من أصحاب أبيه، قال، أصابت الناس شدة قحط، وكانت طايفة من أضداده تقول كلاماً مسجعا، معناه، إنكم إن أخرجتم ابن خلصون من بينكم، مطرتم. قال، فانزعج عنها، ولما كان على أميال، نزل الغيث الرغد، قال فسجد بموضعه ذلك، وهو معروف، وقال، سيدي، وأساوري عندك هذا المقدار. وأوجب شكراناً. وقدم غرناطة، وبها الأستاذ أبو عبد الله الرقوطي، وله استيلاء على الحظوة السلطانية، و شأنه اختبار من يرد على الحضرة، ممن يحمل فناً، وللسلطان علي ابن خلصون موجدة، لمدحه في حداثته، أحد الثوار عليه وبقمارش، بقصيدة شهيرة. فلما حضر، سأله الأستاذ ما صناعتك، فقال التصوف، فالتفت إلى السلطان وقال: هذا رجل ضعيف لا شيء لديه، بحيث لا يفرق بين الصناعة وغيرها، فصرفه رحمه الله.
تواليفهوتواليفه كثيرة، تدل على جلالته وأصالة معرفته، تنطق علماً وحكمة، وتروق أدباً وظرفاً. فمن ذلك كتابه في المحبة، وقفت عليه بخط جدي الأقرب سعيد، وهو نهاية. وكتاب وصف السلوك، إلى ملك الملوك، عارض به معراج الحاتمي، فبان له الفضل، ووجبت المزية، ورسالة الفتق والرتق، في أسرار حكمة الشرق.
شعرهمن ذلك قوله:
هل تعلمون مصارع العشاق ... عند الوداع بلوعة الأشواق
والبين يكتب من نجيع دمايهم ... إن الشهيد لمن يمت بفراق
لو كنت شاهد حالهم يوم النوى ... لرأيت ما يلقون غير مطاق
منهم كثيب لا يمل بكاؤه ... قد أغرقته مدامع الآماق
ومحرق الأحشاء أشعل ناره ... طول الوجيب بقلبه الخفاق
وموله لا يستطيع كلامه ... مما يقاسي في الهوى ويلاق
خرس اللسان فما يطيق عبارة ... ألم المرور وماله من راق
ما للمحب من المنون وقاية ... إن لم يغثه حبيبه بتلاق
مولاي عبدك ذاهب بغرامه ... فادرك بوصلك من دماه الباق
إني إليك بذلتي متوسل ... فاعطف منك أو إشفاق
ومن شعره أيضاً:
أعد الحديث إذا وصفت جماله ... فبه تهيج للمحب خياله
يا واصف المحبوب كرر ذكره ... وأدر على عشاقه جرياله

فبذكر من أهوى وشرح صفاته ... لذ الحديث لمسمعي وخلاله
طاب السماع بوصفه لمسامعي ... وقررت عيناً مذ لمحت هلاله
قلبي يلذ ملامة في حبه ... ويرى رشاداً في هواه ضلاله
يا عاذلي أو ما ترق لسامر ... سمع الظلام أنينه فرثا له
ومن شعره أيضاً:
إن كنت تزعم حبنا وهوانا ... فلتحملن مذلة وهوانا
فاسجر لنفسك إن أردت وصالنا ... واغصب عليها إن طلبت رضانا
واخلع فؤادك في طلاب ودادنا ... واسمح بموتك إن هويت لقانا
فإذا فنيت عن الوجود حقيقة ... وعن الفناء فعند ذاك ترانا
أو ما علمت الحب فيه عبرة ... فاخلص لنا عن غيرنا وسوانا
وابذل لبابك إن وقفت ببابنا ... واترك حماك إذا فقدت حمانا
ما لعلع ما حاجر ما رامة ... ما ريم أنس يسحر الأذهانا
إن الجمال مخيم بقبابنا ... وظباؤه محجوبة بظبانا
نحن الأحبة من يلذ بفناينا ... نجمع له حسننا إحسانا
نحن الموالي فاخضعن لعز نالنا ... إنا لندفع في الهوى من هانا
إن التذلل للتدلل سحر ... فأخلد إلينا عاشقاً ومهانا
واصبر على ذل المحبة والهوى ... واسمع مقالة هايم قد لانا
نون الهوان من الهوى مسروقة ... فإذا هويت فقد لقيت هوانا
ومن لطيف كلامه ورقيق شعره:
لو خيال من حبيبي طرقا ... لم يدع دمعي بخدي طرقا
ونسيم الريح منه لو سرى ... بشذاه لأزال الحرقا
ومتى هبت عليلات الصبا ... صح جسمي فهن لي نفث رقا
عجباً يشكو فؤادي في الهوى ... لهب النار وجفني الفرقا
يا أهل الحي لي فيكم رشا ... لم يدع لي رمقاً مذ رمقا
بدر تم طالع أثمره ... غصن بان تحته دعص نقا
راق حسناً وجمالا مثلما ... رق قلبي في هواه ورقا
أنسى الشمس ضياه ذهباً ... وكسى البدر سناه ورقا
حلل الحسن عليه خلعت ... فارتداها ولها قد خلقا
ومن شعره.
دعوت من شفتي رفقا على كبدي ... فقال لي خلق الإنسان في كبد
قلت الخيال ولو في النوم يقنعني ... فقال قد كحلت عيناك بالسهد
فقلت حسبي بقلبي في تذكره ... فقال لي القلب والأفكار ملك يدي
قلت الوصال حياتي منك يا أملي ... قال الوصال فراق الروح للجسد
فقلت أهلاً بما يرضى الحبيب به ... فإن قلبي لا يلوي على أحد
ومن أقواله الصوفية، وكلها تشير إلى ذلك المعنى
ركبنا مطايا شوقنا نبتغي السرى ... وللنجم قنديل يضيء لم سرا
وعين الدجا قد نام لم يدر ما بنا ... وأجفاننا بالسهد لم تطعم الكرا
إلى أن رأينا الليل شاب قذاله ... ولاح عمود الفجر غصناً منورا
لمحنا برأس البعد ناراً منيرة ... فسرنا لها نبغي الكرامة والقرا
وأفضى بنا السير الحثيث بسحرة ... لحانة دير بالنواقس دورا
فلما حللنا حبوة السير عنده ... وأبصرنا القسيس قام مكبرا
وحرك ناقوساً له أعجم الصدا ... فأفصح بالسر الذي شاء مخبرا
وقال لنا حطوا حمدتم مسيركم ... وعند الصباح يحمد القوم السرى
نعمتم صباحاً ما الذي قد أتى بكم ... فقلنا له إنا أتيناك زورا
وراحتنا في الراح إن كنت بايعاً ... فإن لدينا فيه أربح مشتري
فقال لكم عندي مدام عتيقة ... مخلدة من قبل آدم أعصرا
مشعشعة كالشمس لكن تروحنت ... وجلت عن التجسيم قدماً فلا ترى
وحل لنا في الحين ختم فدامها ... فأسدى لنا مسكاً فتيقاً وعنبرا

وقلنا من الساقي فلاح بوجهه ... فأدهش ألباب الأنام وحيرا
وأشغلنا عن خمرة بجماله ... وغيبنا سكراً فلم ندر ما جرا
ومن شعره في المعنى:
يا نايماً يطلب الأسرار إسراراً ... فيك العيان ونبغي بعد آثارا
أرجع إليك ففيك الملك مجتمع ... والفلك والفلك العلوي قد دارا
أنت المثال وكرسي الصفات فته ... على العوالم إعلاناً وإسراراً
والطور والدر منثوراً وقد كتبت ... أقلام قدرته في اللوح آثارا
والبيت يعمره سر الملايك في ... مشكاة قلبك قد أسرجن أنوارا
ورفع الله سقفاً أنت تسكنه ... سماوه أطلعت شهباً وأقماراً
وبحر فكرك مسجور بجوهره ... فغص به مخرجاً للدر أسرارا
فإن رأيت بوادي القدس نار هدى ... فاثبت فنورك فيها مازج النارا
واخلع لسمع الندا نعليك مفتقرا ... إلى المنادي تنل عزاً وإكباراً
وغب عن الكون بالأسماء متصفا ... واطلب من الكل رب الدار لا الدارا
ومن ذلك في هذا المعنى:
أطالب ما في الروح من غامض السر ... وقارع باب العلم من عالم الأمر
عرضت لعلم أبهم الشرع بابه ... لكل جهول لحقائق لا يدري
ولكن خبيرا قد سألت محققا ... فدونك فانظم ما نثرت من الدر
وبين يدي نجواك قدم وسيلة ... تقى الله واكتم ما فهمت من السر
ولا تلتفت جسما ولا ما يخصه ... من الحس والتخييل والوهم والفكر
وخذ صورة كلية جوهرية ... تجل عن التمييز بالعكس والسبر
ولكن بمرآة اليقين تولدت ... وليست بذاتي إن سألت ولا غير
كذلك لم تحدث وليست قديمة ... وما وصفت يوماً بشفع ولا وتر
ولكن بذات الذات كان ظهورها ... إذا ما تبدت في الدجا غرة الفجر
ومن هذا الغرض قوله:
مشاهدتي مغناك يا غايتي وقت ... فما أشتكى بعداً وحبك لي نعت
مقامي بقايي عاكفاً بجمالكم ... فكل مقام في الحقيقة لي تحت
لئن حالت الأحول دون لقايكم ... فإني على حكم المحبة ما حلت
وإن كان غيري في الهوى خان عهده ... فإني وأيم الله عهدي ما خنت
وما لي رجاً غير نيل وصالكم ... ولا خوف إلا أن يكون له فوت
نعم إن بدا من جانب الأنس بارق ... يحركني بسط به نحوكم طرت
ومهما تذكرت العتاب يهزني لهيبتكم قبض يغيب به النعت
تواجدت حتى صار لي الوجد مشربا ... ولاح وجود للحقيقة إذ غبت
فها أنا بين الصحو والمحو داير ... أقول فلا حرف هناك ولا صوت
قصودي إليكم والورود عليكم ... ومنكم سهودي والوجود إذا عدمت
وفي غيبتي عني حضوري لديكم ... وعند امتحان الرسم والمحو أثبت
وفي فرقتي الباني بحق جمعتني ... وفي جمع جمعي في الحقيقة فرقت
تجليته لي حتى دهشت مهابة ... ولما رددت اللحظ بالسر لي عشت
موارد حق بل مواهب غاية إذا ... ما بدت تلك البوادة لي تهت
لوايح أنوار تلوح وتختفي ولكن ... وميض البرق ليس له ثبت
ومهمى بدت تلك الطوالع أدهشت ... وإن غيبت تلك اللوامع أظلمت
وهيهات هيبات الجلال تردني ... وعند التجلي لا محالة دكدكت
نسفن جبالي فهي قاع صفصف ... وليس يرى فيهن زيغ ولا أمت
ولي أدمع أججن نار جوانحي ولي ... نفس لولاه من حبكم ذبت
ألا فانظروا قلب العيان حقيقة ... فنايى ووجودي والحياة إذا مت

مراتب في التلوين نلت جميعها ... وفي عالم التمكين عن كلها بنت
وعند قيامي عن فنايى وجدتكم ... فلا رتبة علوية فوق ما نلت
ورود وشرب ثم لا أرى بعده ... لين كنت أروى من شرابك لا كنت
شربت أكواس الوجود مدامة ... فلست أجلى عن ورود متى شبت
وكيف وأقداح العوالم كلها ... ولكني من صاحب الدير أسكرت
تعلق قوم بالأواني وإنني ... جمال المعاني لا المغاني علمت
وأرضعت كأساً لم تدنس بمزجها ... وقد نلتها صرفاً فيا لعمري ما ضعت
شراب بها الأبرار طاب مزاجهم ... وأرضعتها صرفاً لأني قربت
بها آدم نال الخلافة عندما ... تبدت له شمساً لها نحوه سمت
ونجت لنوح حين فر لفلكه ... ومن بان عن أسرارها عمد الموت
وقد أخمدت نار الخليل بنورها ... وكان لموسى عن أشعتها بهت
وهبت لروح الله روح نسيمها ... فأبصره الأعمى وكلمه الميت
وسار بها المختار سيري لربه ... إلى حيث لا فوق هناك ولا تحت
هنياً لمن قد أسكرته بعرفها ... لقد نال ما يبغي وساعده البخت
ومن نثر الأستاذ الجليل أبي القاسم بن خلصون المترجم به، قوله من رسالة: وصلني أيها الإبن النجيب، المخلص الحبيب، كتابك الناطق بخلوص ودك، ورسوخ عهدك، وتلك سجية لايقة بمجدك، وشنشنة تعرف من والدك وجدك، وصل الله أسباب سعدك، وأنهض عزم جدك، بتوفيق جدك، وبلغك من مأمولك، أقصى قصدك، فلتعلم أيها الحبيب أن جناني ينطوي لكم أكثر مما ينشره لساني. فإني مغري بشكركم وإن أعجمت، ومفصح بجميل ذكركم وإن جمجمت، لا جرم أن الوقت حكم بما حكم، واستولى الهرج فاستحكم، حتى انقطعت المسالك، وعدم الوارد والسالك، وذلك تمحيص من الله جار على قضية قسطه، وتقليب لقلوب عباده بين إصبعي قبضه وبسطه، حين مد على الخليقة ظل التلوين، ولو شاء لجعله ساكناً، ثم جعل شمس المعرفة لأهل التمكين، عليه دليلا باطنا، ثم قبض كل الفرق عن خاصيته قبضاً يسيراً، حتى أطلع عليهم من الأنس بدراً منيراً. وإلى ذلك يا بني فإني أحمد الله تعإلى إليك على تشويقه إياك إلى مطالعة كتب المعارف، وتعطشك للورود على بحر اللطايف. وإن الإمام أبا حامد رحمه الله، لممن أحرز خصلها، وأحكم فرعها وأصلها، لا ينكر ذلك إلا حاسد، ولا يأباه إلا متعسف جاحد. هذا وصفه، رحمه الله، فيما يخصه في ذاته. وأما تعليمه في تواليفه، وطريقه التي سلكها في كافة تصانيفه؛ فمن علماينا رضي الله عنهم، من قال إنه خلط النهاية بالبداية، فصارت كتبه أقرب إلى التضليل منها إلى الهداية، وإن كان لم يقصد فيها إلا النفع، فيما أمه من الغرض، فوجد في كتبه الضرر بالعرض، وممن قال بهذا الفقيه الحكيم أبو بكر بن الطفيل. قال، وأما أبو حامد، فإنه مضطرب التأليف، يربط في موضع، ويحل في آخر، ويتمذهب بأشياء، ويفكر بها، مثل أنه كفر الفلاسفة باعتقادهم أن المعاد روحاني، وإنكارهم حشر الأجساد. وقد لوح هو بأن ذلك مذهبه في آخر كتاب الجواهر والأربعين وخرج بأنه معتقد كبار الصوفية، في كتاب آخر، وقال إن معتقده كمعتقدهم، وأنه وقع على ذلك بعد بحث طويل وعناء شديد. قال، وإنما كلامه في كتبه، على نحو تعليم الجمهور. وقد اعتذر أبو حامد نفسه عن ذلك في آخر كتاب ميزان العمل، على أغلب ظني، فإن لي من مطالعة الكتب مدة. قال، ولو لم يكن في هذه الألفاظ إلا ما يشكك في اعتقادك الموروث، يعنى التقليد، فإنه من لم يشك، لم ينظر، ومن لم ينظر، لم يبصر، ومن لم يبصر ففي العمى والحيرة. ثم تمثل بقول الشاعر:
خذ ما تراه ودع شيئاً سمعت به ... في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

وذلك أنه قسم آراءه إلى ثلاثة: رأى يجاب به كل مسترشد سايل، بحسب سؤاله، وعلى مقدار فهمه. ورأى يجاب به الخاصة، ولا يصرح به للعامة. ورأى بين الإنسان وبين نفسه، لا يطلع عليه إلا من شريكه في اعتقاده. وأما الفقيه الفاضل أبو الوليد بن رشد رحمه الله، فإنه بالغ في ذلك مبالغ عظيمة، وذلك في كتابه الذي وصف فيه مناهج أدلة المتكلمين، فإنه لما تكلم على طرق الأشعرية والمعتزلة، والفلاسفة، والصوفية، والحشوية، وما أحدثته المتكلمون من الضرر في الشريعة بتواليفهم، انعطف فقال، وأما أبو حامد، فإنه طم الوداي على القرى، ولم يلتزم طريقة في كتبه، فنراه مع الأشعرية أشعرياً، ومع المعتزلة، معتزلياً، ومع الفلاسفة فيلسوفاً، ومع الصوفية، صوفياً، حتى كأني به
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمن ... وإن لقيت معدياً فعدنان
ثم قال، والذي يجب على أهل العلم، أن ينهوا الجمهور عن كتبه، فإن الضرر فيها بالذات، والمنفعة بالعرض. قال، وإنما ذلك لأنه صرح في كتبه بنتائج الحكمة، دون مقدماتها، وأفصح بالتأويلات التي لا يطلع عليها إلا العلماء، الراسخون في العلم، وهي التي لا يجوز أن تؤول للجمهور، ولا أن تذكر في غير كتب البرهان. وأنا أقول إن كتبه في الأصلين، أعني أصول الدين، وأصول الفقه. في غاية النبل والنباهة، وبسط اللفظ، وحسن الترتيب والتقسيم، وقرب المسائل. وكذلك كتبه الفقيهة والخلافية والمذهبية، التي ألفها على مذهب الشافعي، فإنه كان شافعي المذهب، في الفروع. وأما كتبه التي ذهب فيها مذهب التصوف، فهي التي يوجد فيها ما ذكر من الضرر بالعرض. وذلك أنه بنى الأكثر من الاعتقادات فيها على ما تأدى إلى فهمه من مذاهب الفلاسفة، ونسبها إلى المتصوفة. وقد نبه على ذلك الفقيه الجليل أبو بكر الطرطوشي في كتابه الذي سماه بمراقي العارفين. قال، وقد دخل على السالكين ضرر عظيم من كتب هذا الرجل الطوسي، فإنه تشبه بالصوفية ولم يلحق بمذاهبهم، وخلط مذاهب الفلاسفة بمذاهبهم، حتى غلط الناس فيها. على أنني أقول إن باعه في الفلسفة كان قصيراً، وإنه حذا حذو الشيخ أبي علي بن سينا في فلسفته التي نقلها في المقاصد، ومنطقه الذي نقله في معيار العلم، لكن قصر عنه. وتلك الاعتقادات، منها حق ومنها باطل، وتلخيصه لا يتأتى إلا لصنفين من الناس، أعني أهل البرهان، وأهل المكاشفة، فبحسب ذلك تحتاج كتبه إلى تقدمة علوم البرهان، وأهل المكاشفة، فبحسب ذلك تحتاج كتبه إلى تقدمة علوم البرهان، أو رياضة أهل المكاشفة، وحينئذ ينظر ي ساير كتبه. وهذه الرسالة طويلة، تكلم فيها على كتب أبي حامد الغزالي رحمه الله، بما يدل على تفننه، وعلى اضطلاعه، رحمه الله.
ومن الغرباء في هذا الاسم
محمد بن يوسف العراقيمحمد بن أحمد بن أمين بن معاذ بن إبراهيم بن جميل بن يوسف العراقي ثم الخلاطي، ثم الأقشري الفارسي، وينعت من النعوت المشرقية بجلال الدين، من بلاد فارس
حالهكان من الصوفية المتجردين من المال والعيال، ذا وقار وتودة، وسكون ومحافظة على ظاهره. أكثر في بلاد المشرق من الأخذ عن الشيوخ المحدثين والمتصوفين، ثم قدم المغرب، فاستوطن بعض بلاده، ثم أجاز البحر إلى الأندلس عام أربعة وسبعماية، وأخذ عمن بها من الشيوخ، ودخل غرناطة. وكان شافعي المذهب، يشارك في قرض الشعر.
مشيختهأخذ عن أبي مروان عبد الملك الشريثي بفاس، وعن أبي بكر محمد ابن محمد بن قسي المومياني، ولبس الخرقة الصوفية من جماعة بالمشرق، وبالمغرب، منهم الإمام أبو إبراهيم الماجري، عن أبي محمد صالح، عن أبي مدين.
تواليفه
أخذ عنه تاليفه في نحو اللغة الفارسية، وشرح ألفاظها. قال شيخنا، الوزير أبو بكر بن الحكيم، كتب إلي والدي ببابه، وقد أحس بغض من الشيخ الإمام أبي عبد الله بن خميس، عميد مجلس الوزارة الحكيمية:
عبيد بباب العلى واقف ... أيقبله المجد أم ينصرف
فإن قبل المجد نلت المنا ... وإلا فقدري ما أعرف
ثم كتب على لفظه ما من وصححه. قال فأذن له، واستظرف منزعه.
ابن شاطرمحمد بن أحمد بن شاطر الجمحي المراكشي يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن شاطر
حاله

فقير متجرد، يلبس أحسن أطوار الخرقة، ويوثر الاصطلاح، مليح الشيبة، جميل الصورة، مستظرف الشكل، ملازم للمسجد، مساكن بالمدارس، محبب إلى الخواص، كثير الذكر، متردد التأوه، شارد اللسان، كثير الفتات، مطرح في أكثر الأحاين للسمت، ينزع إلى هدف تايه، تشم عليه القحة والمجانة، مقتحم حمى الحشمة في باب إبهام التلبيس، يزلق سوء الاعتقاد عن صفاته، وإن قارب الانهماك، غير مبال بناقد، ولا حافل بدام، ولا حامد. كلما اتبع انفرد، ومهمى استقام شرد، تطيب النفس به على غرة، ويحسن الظن بباطنه على سوء ظاهره، مليح الحديث، كثير الاعتبار. دايم الاسترجاع والاستغفار. فعال الموعظة. عجيب الانتزاع من الحديث والقرآن، مع عدم الحفظ، مستشهد بالأبيات الغريبة على الأحوال. قال شيخنا القاضي أبو عبد الله بن المقري: لقيت فيمن لقيت بتلمسان رجلين. أحدهما عالم الدنيا، والآخر نادرتها. أما العالم فشيخنا أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن أحمد العبدري الآبلي، وأما النادرة، فأبو عبد الله بن شاطر ثم قال، صحب أبو زيد الهزميري كثيراً، وأبا عبد الله بن تجلات، وأبا العباس بن البنا، وإخوانهم من المراركشيين ومن جاورهم، واختص بأبي زيد الهزميري، وآثره وتبناه، وكان يقول له، وألقيت عليك محبة مني، فيظهر أثر ذلك عليه، من ستر الهنات، ووضع القبول، فلا تجد من يستثقله من راض عنه أو ساخط دخل الأندلس، وقدم على غرناطة، وتلوم بها أياما.
نبذ من أقوالهفمن ذلك أنه إذا سئل عن نفسه يقول، أنا ولي مفسود، وفي هذا من النصفة، وخفة الروح ما لا خفاء به. قال بعض شيوخنا، قلت له يوماً، كيف أنت، فقال، كيف أنا محبوس في الدم. ومن حكمه، الليل والنهار حرسيان، أحدهما أسود، والآخر أبيض، وقد أخذ بمجامع الخلق إلى يوم القيامة، وإن مررنا إلى الله. ومر يوما بأبي العباس بن شعيب الكاتب وهو جالس في جامع الجزيرة، وقد ذهبت به الفكرة، فصاح به فلما رفع رأسه، قال، وله نعش خاطر، أنظر إلى مركب عزراييل، قد رفع شراعه، والندا عليه، اركبوا يا عزا. قال شيخنا أبو عبد الله المقري، وجدته يوماً في المسجد ذاكراً، فقلت له، كيف أنت، فقال مهيم في روضة يجبرون، فهممت بالانصراف، فقال أين تذهب من روضة من رياض الجنة، يقام فيها على رأسك بهذا التاج، وأشار إلى المنار، مملوءاً بالله أكبر. قال وأنشدني أبو العباس بن البنا، وكتبهما عنه:
قصدت إلى الوجازة في كلامي ... لعلمي بالصواب في الاختصار
ولم أحذر فهو ما دون فهمي ... ولكن خفت إزراء الكبار
فشأن فحولة العلماء شاني ... وشان البسط تعليم الصغار
قال، وأخبار ابن شاطر تحتمل كراسة، قلت رأيته بفاس في أخريات عام خمسة وخمسين، وهو الآن بحاله الموصوفة، قد أربى على السبعين.
ابن الحلفاويمحمد بن محمد بن عبد الرحمن التميمي، ابن الحلفاوي من أهل تونس، يكنى أبا عبد الله، نزيل غرناطة، ويعرف بالتونسي وبابن المؤذن ببلده.
حاله

من العايد: قال، ولي الله المجاب الدعوة، الظاهر الكرامة، المشهود له بالولاية. ورد الأندلس في جملة من تجار بلده، وبيده مال كبير، بذله في معاملة ربه، إلى أن استأصله بالصدق، وأنفقه في سبيل الله، ابتغاء مرضاته، وتجرد عن الدنيا، وأخذ نفسه بالصلاة والصوم والتلاوة، وكثرة السجود، والتطارح على ذلك، محفوظاً في ذلك كله، حفظة الأولياء، مذكرا بمن سلفه من الزهاد، عازباً عن الدنيا أخذ نفسه بسلوك الإيتاب عنها، رحمة للخلق، وتمالأ للمساكين، بقصده الناس بصدقاتهم، فيبثها في ذوي الحاجات، فيتألف في باب مسجده آلاف من رجالهم ونسايهم وصبيانهم، حتى يعمه الرفد، وتسعهم الصدقة. وكان غريب الأحوال، إذا وصل وقت الصلاة، يظهر عليه البشر والسرور، ويدخل مسجده الذي ابتناه، واحتفل فيه، فيخلو بنفسه آخذاً في تعبدات كثيرة، غريبة شاملة لجميع أركان المسجد، ويزدحم الناس حول المسجد، وأكثرهم أهل الفاقة، فإذا تمكن الوقت، أذن إذانا مؤثراً في القلوب، جداً وصدقاً ووقاراً، كان صدره ينصدع عند قول، لا إله إلا الله، ثم يعيد التعبد والسجود في الصومعة وأدراجها، حتى يفتح باب المسجد، وينتقل إلى صدر المحراب، فيصلي ركعات خفيفة. فإذا أقام الصلاة، ووقف عند المحراب، ظهر عليه من الخوف والكآبة والحزن والانكسار والتضرع والتملق والرغبة، ما لا تفي العبارة بوصفه، كأن موقفه موقف أهل الجرايم بين أيدي الملوك الجبابرة. فإذا أتم الصلاة على أم هيئاتها، ترى كأن الغبار على وجهه، أو كأنه حشر من قبر، فإذا شرع في الدعاء بأثر الصلاة، يتلوه بترداد الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في كل دعوة، ويتوسل به، وتظهر عليه أحوال من الحضور والمراقبة، وينجلي عن وجهه ما كان به. وكان يختم القرآن في شهر رمضان مائة ختمة، فما من ليلة، إلا ويحيي الليل كله فيها بمسجده. هذا ترتيبه، ولو تتبعنا ما شوهد من كراماته وأحواله، لخرجنا عن الغرض.
ولد بتونس في حدود الأربعين وستماية.
توفي في شهر بيع الثاني عام خمسة عشر وسبعماية. وكان الحفل في جنازته عظيماً، استوعب الناس كافة، وحضر السلطان، فمن دونه، وكانت تنم، زعموا، على نعشه وقبره رائحة المسك. وتبرك الناس بجنازته، وقصد قبره المرضي وأهل الحاجات، وبقي القراء يقرأون القرآن عليه مدة طويلة. وتصدق على قبره بجملة من مال، ففدى به طايفة من الأسرى. وقبره بباب إلبيرة عن يمين الخارج إلى مقبرة العسال، معروف هنالك.
ابن بطوطةمحمد بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن يوسف اللواتي من أهل طنجة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن بطوطة
حالهمن خط شيخنا أبي البركات، قال، هذا رجل لديه مشاركة يسيرة في الطلب، رحل من بلاده إلى بلاد المشرق يوم الخميس الثاني من رجب عام خمسة وعشرين وسبعماية، فدخل بلاد مصر والشام والعراق، وعراق العدم، وبلاد الهند والسند، والصين، وصين الصين، وبلاد اليمن. وحج عام ستة وعشرين وسبعماية. ولقي من الملوك والمشايخ عالماً، وجاور بمكة. واستقر عند ملك الهند، فحظي لديه، وولاه القاضاء، وأفاده مالاً جسيماً. وكانت رحلته على رسم الصوفية زيا وسجية، ثم قفل إلى بلاد المغرب، ودخل جزيرة الأندلس، فحكمى بها أحوال المشرق، وما استفاد من أهله، فكذب، وقال، لقيته بغرناطة، وبتنا معه ببستان أبي القاسم ابن عاصم بقرية نبلة، وحدثنا في تلك الليلة، وفي اليوم قبلها عن البلاد المشرقية وغيرها، فأخبر أنه دخل الكنيسة العظمى بالقسطنطنية العظمى، وهي على قدر مدينة مسقفة كلها، وفيها اثني عشر ألف أسقف. قلت، وأحاديثه في الغرابة أبعد من هذا. وانتقل إلى العدوة، فدخل بلاد السودان، ثم تعرف أن ملك المغرب استدعاه، فلحق ببابه. وأمر بتدوين رحلته.
ساير الأسماء في حرف الميم الملوك والأمراء، وما منهم إلا طارئ علينا أو غريب
مزدلي بن تيولتكان

بن حمني بن محمد بن ترقوت بن وربابطن بن منصور

ابن نصاله بن أمية بن واباتن الصنهاجي اللتموني
حاله

كان الأمير مزدلي عضد القايم بالدولة اللمتونية يوسف بن تاشفين، وقريبه لا لتقائهما في ترقوت، راش به وبرى، وجز وفرى، فهو شيخ الدولة اللمتونية، وكبير العصابة الصنهاجية، بطلاً ثبتاً، بهمة من البهم بعيد الصيت، عظيم الجلد، شهير الذكر، أصيل الرأي، مستحكم الحنكة، طال عمره، وحمدت مواقعه، وبعدت غاراته، وعظمت في العدو وقايعه، وشكرت عن سلطانه نيابته.
من مناقبه، استرجاع مدينة بلنسية من أيدي الروم بسعيه، ورده إلى ملكة الإسلام بحميد غنايه في منتصف رجب عام خمس وخمس ماية.
دخوله غرناطة، ولي قرطبة وغرناطة وما إليهما من قبل يوسف بن تاشفين سنة خمس وخمسماية.
قال ابن الصيرفي، توفي ليلة الثلاثاء السابع عشر من شوال عام ثمانية وخمس ماية، غازياً على مقربة من حصن قسطانية، طرق به إلى قرطبة، فوصل يوم الأربعاء ثاني يوم وفاته، وصلى عليه إثر صلاة العصر الفقيه القاضي بقرطبة أبو القاسم بن حمدين، ودفنه قرب أبيه، وبنيت عليه روضة حسنة. وكان، نضر الله وجهه، البقية الصالحة على نهج أمير المسلمين يوسف.
ابن علي الهنتاتي موسى بن محمد بن يوسف بن عبد المؤمن بن علي الهنتاتيالسيد أبو عمران.
حالهبيته معروف. وكان أديباً شاعراً، جواداً، واختص بالعادل، فجل قدره في دولته، وأمله الناس بإشبيلية في حوايجهم لمحله منهم. ولما انصرف عنها العادل إلى طلب الخلافة، قدمه عليها، فبلغ الغاية.
وفي شوال من عام اثنين وعشرين وستماية، كانت على جيشه الوقيعة، أوقعها به السيد أبو محمد البياسي، وأخباره شهيرة.
وتوفي تغريقاً في البحر بعد أن ولي بجاية، رحمه الله وعفا عنه.
شعرهقال، وكان أبو المطرف بن عميرة، ينشد له، يخاطب الفقيه الأديب أبا الحسن بن حريق بستحثه على نظم الشعر في عروض الخبب:
خذ في الأشعار على الخبب ... فقصورك عنه من العجب
هذا وبنو الآداب قضوا ... بعلو مجدك في الرتب
فنظم له أبو الحسن القصيدة المشهورة، منها:
أبعيد الشيب هوى وصبا ... كلا لا لهواً ولا لعبا
ذرت الستون برادنها ... في مسك عذارك فاشتهبا
ومنها:
يا نفس أحيي تصلي أملاً ... عيشي روحيا تروي عجبا
وخذي في شكر الكبرة ما ... لاح إلا صباح وما ذهبا
فيها أحرزت معارف ما ... أبليت بجدته الحقبا
والخم إذا أعتقت وصفت ... أعلى ثمناً منها عنبا
وبقية عمر المرء له أن ... كان بها طبا دربا
دخل غرناطة، فوجب ذكره مع مثله.
منديل بن يعقوب

بن عبد الحق بن محيو الأمير أبو زيان

حاله

كان فاضلاً عاقلاً جواداً، عينه أبوه أمير المسلمين أبو يوسف بن عبد الحق، للضرب على أحواز مالقة عند الفتنة، فاضطرب المحلة تجاه سهيل، وضيق على تلك الأحواز، وبرز إليه الجيش لنظر موسى بن رحو من قرابته، النازعين عن إيالة المغرب من بني رحو. وكان اللقاء، فوقعت به الذبرة، وانهزم جيشه، وقبض عليه، وسيق إلى السلطان، فتلقاه بالبر، ورعى ما لبيته الكبير من الحق، وأسكنه مجاوراً لقصره بحمرايه، مرفهاً عليه، محجوزاً عن التصرف، إلى أن كان من تلاحق بهذه الحل من وفاة أبيه السلطان أبي يوسف بالجزيرة الخضراء، وتصير الأمر إلى ولده السلطان أمير المسلمين أبي يعقوب يوسف. وتجدد الألفة وتأكدت المودة، وارتفعت الإحنة، فكان ما هو معروف من التقايهما على تعينة إجازة ملك المغرب أبي يعقوب البحر على ظاهر مربلة، وصرف الأمير أبو زيان محبواً بما يليق به.

حدثني شيخنا أبو زكريا بن هذيل رحمه الله، قال، نصب للسلطان أبي يعقوب خباء احتفل في اتخاذه له أمير سبتة، فبلغ الغاية التي لا يستطيعها الملوك، سمو عماد، وامتداد ظل، وانفساح ساحة، إلى إحكام الصنعة، والإعياء في الزخرف. وقعد فيه السلطان ملك المغرب، وأجلس السلطان أمير المسلمين أبا عبد الله ابن الغالب بالله، عن يمينه، وأخاه الأمير أبا زيان عن يساره، وقرأ عشاره المعروف بالوقاد، آية الله في حسن الصوت، وبعد مدي السمع، وطيب النغمة، قوله عز وجل، " يا أيها العزيز مسنا وأهلنا الضر، وجئنا ببضاعة مزجاة، فأوف لنا الكيل، وتصدق علينا، إن الله يجزي المتصدقين. قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه، إذ أنتم جاهلون، قالوا إنك لأنت يوسف، قال أنا يوسف وهذا أخي قد من الله علينا، إنه من يتق ويصبر، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. قالوا تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين، قال لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين " . فكان مقاماً مبهتاً. كان السلطان رحمه الله يقول، لشد ما جنى علي عدو الله بقحته، والله لقد كان يشير بيده إلى السلطان وأخيه عند قوله، أنا يوسف وهذا أخي. ثم أجاز للعدوة، فطاح بها لعهد غير بعيد.
وكان الإيقاع بجيش الأمير أبي زيان في أخريات ذي الحجة عام أربعة وثمانين وستماية. فاتصل بذلك موت والد أمير المسلمين أبي يوسف بالخضراء في شهر محرم عام خمسة وثمانين بعده، وكان لقاء السلطانين بالخضراء في شهر محرم عام خمسة وثمانين هذه، وكان اللقاء كما ذكر في شهر ربيع الآخر من العام المذكور.
ومن الطارئين
ابن عبد الرحمن بن معاويةالمطرف بن عبد الله بن محمد ابن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام
حالهكان المطرف، ولد الخليفة عبد الله أمير المسلمين بالأندلس، شجاعاً مقداماً، جرياً، صرفه والده الخليفة في الغزوات، وقود العساكر، وهو الذي بنى حصن لوشة، ووقم كثيرا من الخوارج على والده.
دخوله غرناطةقال ابن حيان غزا المطرف ببشتر بسبب ابن حفصون، إذ كان صالح الأمير عبد الله، ودفع رهينة ابنه، فلما امتحن الطفل، وجد غير ابنه، فنهض إليه المطرف، وكان القايد على العسكر قبله عبد الملك ابن أمية، فنهض صحبته، ونازل المطرف ابن حفصون، فهتك حوزته، وتقدم إلى بنية كان ابتناها بموضع يعرف باللويات، فشرع في خرابها، وخرج ابن حفصون ومن معه من النصرانية يدافع عنها، وعن كنيسة كانت بقربها، فغلب ابن حفصون، وهدمت الكنيسة، وقتل في هذه الحرب حفص بن المرة قايده ووجوه رجاله، وعند الفراغ من ذلك. انصرف المطرف، فدخل كورة إلبيرة، وبنا لوشة، وتقدم منها إلى إلبيرة ودخلها، ثم طاف بتلك الجهات والحصون، ثم انصرف.
ذكر إيقاعه بعبد الملك بن أمية وسبب، الإحنة بينه وبين أبيه قال، وفي هذه اذكر إيقاعه بعبد الملك بن أمية وسبب، الإحنة بينه وبين أبيه قال، وفي هذه الحركة، أوقع بعبد الملك بن أمية، لما كان في نفسه لصرف والده عن عقد البيعة له، وتمزيق العهد في خبر يطول. وكان والده قد أخذ عليه الميثاق عند خروجه إلى شذونة، ألا يعرض إليه بمكروه، وأقسم له بالإيمان، لين نال منه شيئاً ليعاقبنه بمثله، فلما قتله، عقد الوثائق عليه، وأخذ الشهادات فيها بالظلم والشؤم خوفاً من أبيه، وكتب إليه يعتذر له، ويحكمه في نفسه.
مقتل المطرف

قال، وظهرت عليه، فعال قبيحة، من أذى جيرانه بما أكد غايلة أبيه عليه، وأعان عليه معاوية بن هشام، لما ذكروا أن المطرف كان قد خلا به، فذكروا أنه نزل يوماً عنده بمنزله، وأخذوا في حديث الأبناء، وكان المطرف عقيماً، فدعا معاوية بصبي يكلف به، فجاء وبرأسه ذؤابتان، فلما نظر إليه المطرف حسده، وقال يا معاوية، أتتشبه بأبناء الخلفاء في بنيهم، وتناول السيف فحز به الذؤابة، وكان معاوية حية قريش دهاء ومكراً، فأظهر الاستحسان لصنعه وانبسط معه في الأنس، وهو مضطغن. فلما خرج كتب إلى الخليفة يسأله اتصاله إليه، فلما أوصله كاشفه في أمر المطرف بما أزعجه، وأقام على ذلك ليلاً أحكم أمره عند الخليفة بلطف حيلته، فأصاب مقتله سهم سعايته. قال ابن الفياض، بعث الأمير عبد الله إلى دار ولده المطرف عسكراً للقبض عليه، مع ابن مضر، فقوتل في داره حتى أخذ، وجيء به إليه، فتشاور الوزراء في قتله، فأشار عليه بعضهم أن لا يقتله، وقال بعضهم إن لم تقتله قتلك، فأمر ابن مضر بصرفه إلى داره، وقتله فيها، وأن يدفنه تحت الريحانة التي كان يشرب الخمر تحتها، وهو ابن سبع وعشرين سنة، وذلك في يوم الأحد ضحى لعشر خلون من رمضان سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
منذر بن يحيى التجيبيأمير الثغر المنتزي بعد الجماعة بقاعدة سرقسطة، يكنى أبا الحكم ويلقب بالحاجب المنصور، وذي الرياستين.
حالهقال أبو مروان، وكان أبو الحكم رجلا من عرض الجند، وترقى إلى القيادة آخر دولة ابن أبي عامر. وتناهى أمره في الفتنة إلى الإمارة. وكان أبوه من الفرسان غير النبهاء. فأما ابنه منذر، فكان فارساً تقي الفروسية، خارجاً عن مدى الجهل، يتمسك بطرف من الكتابة الساذجة. وكان على غدره، كريماً، وهب قصاده مالاً عظيماً، فوفدوا عليه، وعمرت لذلك حضرته سرقسطة. فحسنت أيامه، وهتف المداح بذكره.
وفيه يقول أبو عمرو بن دراج القسطلي قصيدته المشهورة، حين صرف إليه وجهه، وقدم عليه في سنة ثمان وعشرين وأربعماية:
بشراك من طول الترحل والسرى ... صبح بروح السفر لاح فأسفرا
من حاجب الشمس الذي حجب الدجا ... فجراً بأنهار الذرى متفجرا
نادى بحي على الندى ثم اعتلا ... سبل العفاة مهللاً ومكبرا
لبيك أسمعنا نداك ودوننا ... نوء الكواكب مخويا أو ممطرا
من كل طارق ليل هم ينتحي ... وجهي بوجه من لقايك أزهرا
سار ليعدل عن سمايك أنجمي ... وقد ازدهاها عن سناك محيرا
فكأنما أعدته أسباب النوى ... نور الهدى عن يديك منورا
أو غار رمن هممي فأنحى شأوها ... فلك البروج مغرباً ومغورا
حتى علقت النيرين فأعلقا ... مثنى يدي ملك الملوك النيرا
فسريت في حرم الأهلة مظلما ... ورفلت في خلع السموم مهجرا
وشعيت أفلاذ الفؤاد ولم أكد ... فحذوت من حذو الثريا منظرا
ست تسراها الجلاء مغرباً ... وحدا بها حادي النجاء مشمرا
لا يستفيق الصبح منها ما بدا ... فلقاً ولا جدى الفراقد ما سرا
ظعن ألفن القفر في غول الدجا ... وتركن مألوف المعاهد مقفرا
يطلبن لج البحر حيث تقاذفت ... أمواجه والبر حيث تنكرا
هيم وما يبغين دونك موردا ... أبدا ولا عن بحر جودك مصدرا
من كل نضو الآل محبوك المنى ... يزجيه نحوك كل محبوك القرا
بدن فدت منا دماء نحورها ... ببغائها في كل أفق منحرا
نحرت بنا صدر الدبور فأنبطت ... قلق المضاجع تحت جو أكدرا
وصبت إلى نحو الصبا فاستخلصت ... سكن الليالي والنهار المبصرا
خوص نفخن بنا البري حتى انثنت ... أشلاؤهن كمثل أنصاف البرا
نذرت لنا أن لا تلقي راحة ... مما تلاقى أو تلاقى منذرا
وتقاسمت أن لا تسيغ حياتها ... دون ابن يحيى أو تموت فتعذرا

لله أي أهلة بلغت بنا ... يمناك يا بدر السماء المقمرا
بل أي غصن في ذاك هصرته ... فجرى فأورق في يديك وأثمرا
فلئن صفا ماء الحياة لديك لي ... فبما شرقت إليك بالماء الصرى
ولئن خلعت على برداً أخضرا ... فلقد لبست إليك عيشاً أغبرا
ولئن مددت علي ظلا باردا ... فلكم صليت إليك جواً مسعرا
وكفى لمن جعل الحياة بضاعة ... ورأى رضاك يها رخيصاً فاشترى
فمن المبلغ عن غريب نازح ... قلبا يكاد علي أن يتفطرا
لهفان لا يرتد طرف جفونه ... إلا تذكر عبرتي فاستعبرا
أبني لا تذهب بنفسك حسرة ... عن غول رحلي منجدا أو مغورا
فلئن تركت الليل فوق داجيا ... فلقد لقيت الصبح بعدك أزهرا
ولقد وردت مياه مأرب حفلاً ... وأسمت خيلي وسط جنة عبقرا
ونظمت للغيد الحسان قلائداً ... من تاج كسرى ذي البهاء وقيصرا
وحللت أرضاً بدلت حصباؤها ... ذهباً يرف لناظري وجوهرا
وليعلم الأملاك أني بعدهم ... ألفيت كل الصيد في جوف الفرا
ورمى علي رداءه من دونهم ... ملك تخير للعلا فتخيرا
ضربوا قداحهم علي ففاز بي ... من كان بالقدح المعلى أجدرا
من فك طرفي من تكاليف الفلا ... وأجار طرفي من تباريح السرى
وكفا عتابي من ألام معذرا ... وتذممى ممن تحمل معذرا
ومسائل عني الرفاق ووده ... لو تنبذ السانحات رحلي بالعرا
وبقيت في لجج الأسى متضللاً ... وعدلت عن سبل الهدى متحيراً
كلا وقد آنست من هود هدى ... ولقيت يعرب في القبول وحميرا
وأصبت في سبإ مورث ملكه ... يسبي الملوك ولا بدب لها الضرا
فكأنما تابعت تبع رافعاً ... أعلامه ملكاً يدين له الورى
والحارث الجفني ممنوع الحمى ... بالخيل والآساد مبذول القرى
وحططت رحلي بين نار حاتم ... أيام يقرى موسراً أو معسرا
ولقيت زيد الخيل تحت عجاجه ... يكسو غلايلها الجياد الضمرا
وعقدت في يمن مواثق ذمة ... مشدودة الأسباب موثقة العرى
وأتيت بحدل وهو يرفع منبرا ... للدين والدنيا وبخفض منبرا
وحططت بين جفانها وجفونها ... حرماً أبت حرماته أن تخفرا
تلك البحور تتابعت وخلفتها ... سعياً فكنت الجوهر المتخيرا
ولقد نموك ولادة وسيادة ... وكسوك عزاً وابتنوا لك مفخرا
فممرت بالآمال أكرم أكرم ... ملكاً ورثت علاه أكبر أكبرا
وشمايل عبقت بها سبل الهدى ... وذرت على الآفاق مسكاً أذفرا
أهدى إلى شغف القلوب من الهوى ... وألذ في الأجفان من طعم الكرى
ومشاهد لك لم تكن أيامها ... ظناً يريب ولا حديثاً يفترى
لاقيت فيها الموت أسود أدهما ... فذغرته بالسيف أبيض أحمرا
ولو اجتلى في زي قرنك معلماً ... لتركته تحت العجاج معفرا
يا من تكبر بالتكرم قدره ... حتى تكرم أن يرى متكبرا
والمنذر الأعداء بالبشرى لنا ... صدقت صفاتك منذرا ومبشرا
ما صور الإيمان في قلب امرئ ... حتى يراك الله فيه مصورا
فارفع لها علم الهدى فلمثلها ... رفعتك أعلام السيادة في الذرى
وانصر نصرت من السماء فإنما ... ناسبت أنصار النبي لتنضرا
واسلم ولا وجدوا لجوك منفساً ... في النائبات ولا لبحرك معبرا
سيرته

قال، وساس لأول ولايته عظيم الفرنحة. فحفظت أطرافه، وبلغ من استمالته طوايف النصرانية، أن جرى على يديه بحضرته. عقد مصاهرة بعضهم، فقرفته الألسنة لسعيه في نظام سلك النصارى. وعمر به الثغر إلى أن ألوت به المنية. وقد اعترف له الناس بالرأي والسياسة.
كتابه. واستكتب عدة كتاب كابن مدور وابن أزرق. وابن واحب وغيرهم.
وصوله إلى غرناطةوصل غرناطة صحبة الأمير المرتضى الآتي ذكره، وكان ممن انهزم بانهزامه. وذكروا أنه مر بسليمان بن هود، وهو مثبت للإفرنج الذين كانوا في المحلة لا يريم موقفه، فصاح به النجاة، يا بن الفاعلة، فلست أقف عليك، فقال له سليمان، جيت والله بها صلعاً، وفضحت أهل الأندلس، ثم انقلع وراءه.
وفاتهوكانت على يدي رجل من أبناء عمه يدعى عبد الله بن حكم، كان مقدماً في قواده، أضمر غدره، فدخل عليه، وهو غافل في غلالة، ليس عنده إلا نفر من خواص خدمه الصقلب، قد أكب على كتاب يقرؤه، فعلاه بسكين أجهز به عليه. وأجفل الخدم إلا شهم منهم أكب عليه فمات معه. وملك سرقسطة، وتمسك بها أياما، ثم فر عنها، وملكها ابن هود. وكان الإيقاع به غرة ذي حجة سنة ثلاثين وأربعمائة، رحمة الله عليه.
موسى بن يوسف بن عبد الرحمن

بن يحيى بن يغمراسن بن زيان

الأمير بتلمسان، يكنى أبا حمو.
أوليتهأوليته معروفة تنظر فيما سلف من الأسماء.
حالههذا السلطان مجمع على حزمه، وضمه لأطراف ملكه. واضطلاعه بأعباء ملك وطنه، وصبره لدولة قومه. وطلوعه بسعادة قبيله. عاقل، حازم، خصيف، ثابت الجأش، وقور مهيب، جماعة للمال، مباشر للأمور، هاجر للذات، يقظ، متشمر. قام بالأمر غرة ربيع الأول في عام ستين، مرتاش الجناح بالأحلاف من عرب القبلة، معولاً عليهم عند قصد عدوه، وحلب ضرع الجباية، فأثرى بيت ماله، ونبهت دولته، واتقته جيرته، فهو اليوم ممن يشار إليه بالسداد.
أدبه وشعرهووجه لهذا العهد في جملة هدايا ودية، ومقاصد سنية، نسخة من كتابه المسمى بواسطة السوك في سياسة الملك، افتتحه بقوله: الحمد لله الذي جعل نعمته على الخلق، بما ألفهم عليه من الحق، شاملة شايعة، ويسر طوايف من عباده لليسرى، فأتت إليها مساعدة مسارعة، وحضهم على الأخذ بالحسنى، ولا أن أحسن من نفوس أرشدت، فأقبلت لإرثها طالبة ولربها طايعة. ولا أسمى من همم نظرت بحسن السياسة ي تدبير الرياسة، التي هي لأشتات الملك جامعة، ولأسباب الملك مانعة، وأظهرت من معادنها درر الحكم، وغرر الكلم لايحة لامعة، فاجتلت أقمارها طالعة، واجنت أزهارها يانعة. وصلى الله على سيدنا محمد الكريم، المبعوث بالآيات البينات، ساطية ساطعة، والمعجزات المعجمات قاصمة لظهور الجاحدين قاطعة. الذي زويت له الأرض، فتدانت أفكارها وهي نابية شاسعة، واشتاقت له المياه، فبرزت بين أصابعه يانعة، وامتثل السحاب أمره، فسح باستسقايه دراً هامية هامعة، وحن الجذع له، وكان حنينه لهذه الآيات الثلاث آية رابعة، إلى ما لا يحصى مما أتت به متواترات الأخبار، وصيحات الآثار، ناصرة لنبوته ساطعة. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وعترته التي أجابت داعي الله خاشية خاشعة، وأذعنت لأوامر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فكانت من الاستبداد خالية، وللأنداد خالعه، صلاه ديمتها دايمة متتابعة، وسلم كثيرا.
جمع فيه الكثير من أخبار الملوك وسيرهم، وخص به ولده وولي عهده، فجاء مجموعاً يستظرف من مثله، ويدل على مكانه من الأدب ومحله.
وثبت فيه الكثير من شعره، فمن ذلك قصيدة أجاب فيها أحد رؤوس القبايل، وقد طلب منه الرجوع إلى طاعته، والانتظام في سلك جماعته، وهي:
تذكرت أطلال الربوع الطواسم ... وما قد مضى من عهد المتقادم
وقفت بها من بعد بعد أنسها ... بصبر مناف أو بشوق ملازم
تهيم بمغناهم وتندب ربعهم ... وأي فؤاد بعدهم غير هايم
تحن إلى سلمى ومن سكن الحمى ... وما حب سلمى للفتى بمسالم
فلا تندب الأطلال واسل عن الهوى ... ولا تقل في تذكار تلك المعالم
فإن الهوى لا يستفز ذوي النهى ... ولا يستبي إلا الضعيف العزايم

صبور على البلوى طهور من الهوى ... قريب من التقوى بعيد المآثم
ومن يبغ درك المعلوات ونيلها ... يساق بخلق الشهد مر العلاقم
ولايمة لما ركبنا إلى العلا ... بحار الردى في لجها المتلاحم
تقول بإشفاق أتنسى هوى الدما ... وتنثر درراً من دموع سواجم
إليك فإنا لا يرد اعتزامنا ... مقالة باك أو ملامة لايم
ألم تدر أن اللوم لوم وأننا ... لنجتنب اللوم اجتناب المحارم
فما بسوي العليا همنا جلالة ... إذا هام قوم بالحسان النواعم
بروق السيوف المشرفيات والقنا ... أحب إلينا من بروق المباسم
وأما صميل السابحات لذي الوغى ... فأشجى لدينا من غنا الحمايم
وأحسن من قد الفتاة وخدها ... قدود العوالي أو خدود الصوارم
إذا نحن جردنا الصوارم لم تعد ... إلا غمادها الأبحر الغلاصم
نواصل بين الهند وأني الطلا ... بتفريق ما بين الطلي والجماجم
فيرغب منا السلم كل محارب ... ويرهب منا الحرب كل مسالم
نقود إلى الهيجاء كل مضمر ... ونقدم إقدام الأسود الضراغم
وما كل من قاد الجيوش إلى العدا ... يعود إلى أوطنانه بالغنائم
وننصر مظلوما ونمنع ظالما ... إذا شيك مظلوم بشوكة ظالم
ويأوي إلينا المستجير ويلتجي ... ويحميه منا كل ليث صيارم
ألم تر إذ جاء السبيعي قاصدا ... إلى بابنا يبغي التماس المكارم
وذلك لما أن جفاه صحابه ... وكل خليل وده غير دايم
وأزمع إرسالاً إلينا رسالة ... بإخلاص ود واجب غير واجم
وكان رأى أن المهامة بيننا ... فخلى لذات الخف ذات المناسم
وقال ألا سل من عليم مجرب ... أبث له ما تحت طي الحيازم
فيبلغ عنه الآن خير رسالة ... تودي إلى خير الملوك الأعاظم
على ناقة وجناء كالحرف ضامر ... تخيرها بين القلاص الرواسم
من اللايي يظلمن الظليم إذا عدى ... ويشبهه في جيده والقوايم
إذا أتلعت فوق السحاب جوابها ... تخليتها تعض السحاب الرواكم
وإن هلمجت بالسير في وسط مهمه ... نزلت كمثل البرق لاح لشايم
ولم يأمن الخلان بعد اختلالهم ... فأمسى وفي أكبادها أي جاحم
فقالوا فحملها الحمايم قال لا ... لبعد المدا أو خوف صيد الحمايم
وما القصد إلا في الوصول بسرعة ... فقالوا فحملها أكف النواسم
فقال لنعم المرسلات وإنما ... لها ألسن مشهورة بالنمايم
فلم يلف فيها للأمانة موضعا ... وكل امرئ للسر ليس بكاتم
فحينئذ وافى إلينا بنفسه ... فكان لدينا خير واف وقادم
يجوب إلينا البيداء قصداً وبشرنا ... يضيء له الظلماء في كل عاتم
طلاب العلا تسري مع الوحش في الفلا ويصحب منها كل باغ وباغم
على سلهب ذي صوتين مطعم ... من المغربات الصافنات الصلادم
إذا شاء أي الوحش أدركه به ... فتحسبه في البيد بعض النعايم
ويقدمه طوعاً إلينا رجلؤه ... حمايتنا إياه من كل ظالم
ألا أيها الآتي لظل حناننا ... نزلت برحب في عراص المكارم
وقوبلت منا بالذي أنت أهله ... وفاض عليك الجود فيض الغمايم
كذا دأبنا للقادمين محلنا ... حمى ونداً ينسي به جود حاتم
وهذا جواب عن نظامك إننا ... بعثنا به كاللؤلؤ المتناظم
ونحن ذوو التيجان من آل حمير ... لعمرك ما التيجان غير العمايم

بهمتنا العليا سمونا إلى العلا ... وكم دون إدراك العلا من ملاحم
شددنا لها أزراً وشدنا بناءها ... وكم مكثت دهراً بغير دعائم
نظمنا شتيت المجد بعد افتراقه ... وكمم بات نهباً شمله دون ناظم
ورضنا جياد الملك بعد افتراقه ... وكم بات نهباً شمله دون ناظم
ورضنا جياد الملك بعد جماحها ... فذلت وقد كانت صعاب الشكايم
مناقب زيانية موسوية ... يذل لها عز الملوك القماقم
يقصر عن إدراكها كل مبتغ ... ويعجز عن إحصايها كل ناظم
فلله منا الحمد والشكر دايماً ... وصلى الله على المختار من آل هاشم
ونختصكم منا السلام الأثير ما ... تضاحك روض عن بكاء الغمايم
قلت، ولما تعرفت كلفه بالأدب، والإمام بمجاورته، عزمت على لقايه، وتشوقت عند العزم على الرحلة الحجازية، إلى زيارته، ولذلك كنت أخاطبه بكلمة منها:
على قدر قد جيت قومك يا موسى ... فجلت بك النعمى وزالت بك البوسى
فحالت دون ذلك الأحوال. وهو بحاله الموصوفة إلى هذا العهد. وفقه الله، وساير من تولى أمراً من أمور المسلمين.
وجرى ذكره في رجز الدول من نظمي:
بادرها المفدى الهمام موسى ... فأذهب الرحمن عنها البوسى
جدد فيها الملك لما أخلقا ... وبعث السعد وقد كان لقا
ورتب الرتبا والرسوما ... وأطلع الشموس والنجوما
واحتجن المال بها والعدة ... وهو بها باق لهذي المدة
ولد بمدينة غرناطة حسبما وقعت عليه بخط الثقة من ناسه، في أول عام ثلاثة وعشرين وسبعماية.
مبارك ومظفر الأميران

موليا المنصور بن أبي عامر

حالهما

قال أبو مروان، ترقيا إلى تملك بلنسية من وكالة الساقية، وظهر من سياستهما وتعارضهما صحة الألفة طول حياتهما، ما فاتا به في معناها أشقاء الأخوة، وعشاق الأحبة، إذ نزلا معاً بقصر الإمارة مختلطين، تجمعهما مائدة واحدة من غير تميز في شيء، إلا الحرم خاصة. وكان التقدم لمبارك في المخاطبة، وحفظ رسوم الإمارة، أفضل صرامة وذكراً، قصر عنهما مظفر، لدمائه خلقه، وانحطاطه لصاحبه في ساير أمره، على نحلته بكتابة ساذجة وفروسة، فبلغا الغاية من اقتناء الأسلحة والآلات الملوكية، والخيل المغربات، ونفيس الحلى والحلل، وإشادة البناء للقصور. واشتمل هذا الرأي على جميع أصحابهم، ومن تعلق بهما من وزرايهما وكتابهما، ولم يعرض لهما عارض إنفاق بتلك الآفاق، فانغمسا في النعيم إلى قمم رؤوسهما حتى انقضى أمرهما.
قال، وكان موت مبارك أنه ركب يوماً من قصر بلنسية، وقد تعرض أهلها مستغيثين من مال افترضه عليهم، فقال لهم، إن كنت لا أريد إنفاقه فيما يعم المسلمين نفعه، فلا تؤخر عقوبتي يومي هذا. وركب إثر ذلك. فلما أتى القنطرة، وكانت من خشب، خرجت رجل فرسه من خدها فرمى به أسفلها، واعترضته خشبة ناتئة شرخت وجهه، وسقط الفرس عليه، ففاضت نفسه، وكفاهم الله أمره يومئذ.
وفي مبارك ومظفر يقول أبو عمرو بن دراج القسطلي رحمه الله:
أنورك أم أوقدت بالليل نارك ... لباغ قراك أو لباغ جوارك
ورياك أم عرف المجامر أشعلت ... بعود الكباء والألوة نارك
ومبسمك الوضاح أم ضوء بارق ... حداه دعائي أن يجود ديارك
وخلخالك استنضيت أم قمر بدا ... وشمس تبدت أم ألحت سوارك
وطرة صبح أم جبينك سافرا ... أعرت الصباح نوره أم أعارك
وأنت هجرت الليل إذ هزم الضحى ... كتائبه والصبح لما استجارك
فللصبح فيما بين قرطيك مطلع ... وقد سكن الليل البهيم خمارك
فيا لنهار لا يغيض ظلامه ... وبالظلام لا يغيض نهارك
ونجم الثريا أم لآل تقسمت ... يمينك إذ ضمختها أم يسارك
لسلطان حسن في بديع محاسن ... يصيد القلوب النافرات نفارك

وجند غرام في دروع صبابة ... تقلدن أقدار الهوى واقتدارك
هو الملك لا بلقيس أدرك شأوها ... مداك ولا الزباء شقت غبارك
وقادحة الجوزاء راعيت موهناً ... بحر هواك أم ترسمت دارك
وطيفك أسرى فاستثار تشوقي ... إلى العهد أم شوقي إليك استشارك
وموقد أنفاسي إليك استطارني ... أم الروح لمارد في استطارك
فكم جزت من بحر إلي ومهمة ... يكاد ينسي المستهام ادكارك
أذو الحظ من علم الكتاب حداك لي ... أم الفلك الدوار نحوي أدارك
وكيف كتمت الليل وجهك مظلماً ... أشعرك أعشيت السنا أم شعارك
وكيف اعتسفت البيد لافى ظعائن ... ولا شجر الخطي حف شجارك
ولا أذن الحي الجميع برحلة ... أراح لها راعي المخاض عشارك
ولا أرزمت خوص المهارى مجيبة ... صهيل جياد يكتنفن قطارك
ولا أذكت الركبان عنك عيونها ... حذار عيون لا ينمن حذارك
وكيف رضيت الليل ملبس طارق ... وما ذر قرن الشمس إلا استنارك
وكم دون رحلي من بروج مشيدة ... تحرم من قرب المزار مزارك
وقد زأرت حولي أسود تهامست ... لها الأسد أن كفى عن السمع زارك
وأرضي سيول من خيول مظفر ... وليلي نجوم من سماء مبارك
بحيث وجدت الأمن يهتف بالمنى ... هلمي إلى عينين جادا سرارك
هلمي إلى بحرين قد مرج الندى ... عبابيهما لا يسأمان انتظارك
هلمي إلى سيفين والحد واحد ... يجيران من صرف الحوادث جارك
هلمي إلى طرفي رهان تقدما ... إلى الأمد الجالي عليك اختيارك
هلمي إلى قطبي نجوم كتايب ... تنادي نجوم التعس غورى مغارك
وحيي على دوحين جاد نداهما ... ظلالك واستدني إليك ثمارك
وبشراك قد فازت قداحك بالعلا ... وأعطيت من هذا الأنام خيارك
شريكان في صدق المنى وكلاهما ... إذا قارن الأقران غير مشارك
هما سمعا دعواك يا دعوة الهدى ... وقد أوثق الدهر الخثون إسارك
وسلا سيوفاً لم تزل تلتظي أسى ... بثارك حتى أدركا لك ثارك
ويهنيك يا دار الخلافة منهما ... هلالان لاحا يرفعان منارك
كلا القمرين بين عينيه غرة ... أثارت كسوفيك وجلت سرارك
فقاد إليك الخيل شعثاً شوازيا ... يلبين بالنصر العزيز انتصارك
سوابق هيجاء كأن صهيلها ... يجاوب تحت الخافقات شعارك
بكل سرى العتق سرى عن الهدى ... وكل حمي الأنف أحمى ذمارك
تحلوا من المنصور نصراً وعزة ... فأبلوك في يوم البلاء اختيارك
إذا انتسبوا يوم الطعان لعامر ... فعمرك يا هام العدى لا عمارك
يقودهم منهم سراجاً كتايب ... يقولان للدنيا أجدى افتخارك
إذا افترت الريات عن غرتيهما ... فيا للعدى أضللت منهم فرارك
وإن أشرق النادي بنور سناهما ... فبشرى الأماني عينك لا ضمارك
وكم كشفنا من كربة بعد كربة ... تقول لها النيران كفي أوارك
وكم لبيا من دعوة وتداركا ... شفى رمق ما كان بالمتدارك
ويا نفس غاو كم أقر نفارك ... ويا رجل هاو كم أقالا عثارك
ولست ببدع حين قلت لهمتي ... أقلي لإعتاب الزمان انتظارك
فلله صدق العزم أية غرة ... إذا لم تطيعي في لعل اغترارك
فإن غالت البيد اصطبارك والسرى ... فما غال ضيم الكاشحين اصطبارك
ويا خلة التسويف قومي فأغدقي ... قناعك من دوني وشدي إزارك

وحسبك بي يا خلة الناي خاطري ... بنفسي إلى الحظ النفيس حطارك
فقد آن إعطاء النوى صفقة الهوى ... وقولك للأيام جوري مجارك
ويا ستر البيض النواعم أعلني ... إلى اليعملات والرحل بدارك
نواجى واستودعتهن نواجيا ... حفاظك يا هذي بذي وازدهارك
ودونك أفلاذ الفؤاد فشمري ... ودونك يا عين اللبيب اعتبارك
صرفت الكرى عنها بمغتبق السرى ... وقلت أديري والنجوم عقارك
فإن وجبت للمغربين جنوبها ... فداوي برقراق السراب خمارك
فأورى بزندي سدفة ودجنة ... إذا كانتا لي مرخك وعفارك
وإن خلع الليل الأصائل فاخلعي ... إلى الملكين الأكرمين عذارك
بلنسية مثوى الأماني فاطلي ... كنوزك في أقطارها وادخارك
سينبيك زجري عن بلاء نسيته ... إذا أصبحت تلك القصور قصارك
وأظفر سعي بالرضا من مظفر ... وبورك لي في حسن رأي مبارك
قصي المنى قد شام بارقة الحيا ... وانشقت يا ظئر الرجا حوارك
وحمداً يميني قد تملأت بالمنى ... وشكراً يساري قد حويت يسارك
وقل لسماء المزن إن شئت اقلعي ... ويا أرضها إن شيت غيضي بحارك
ولا توحشي يا دولة العز والمنى ... مساءك من نوريهما وابتكارك
وصولهما إلى غرناطةوصلا مع أمثالهما من أمراء الشرق صحبة المرتضى، وكان من انهزام الجميع بظاهرها، وإيقاع الصناهجة بهم ما هو معلوم حسبما مر ويأتي بحول الله.
ومن ترجمة الأعيان والوزراء بل ومن ترجمة الطارئين والغرباء منها
منصور بن عمر

بن عثمن بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو

يكنى أبا علي
أوليتهمعروفة قد مرت عند ذكر اخوته وقومه.
حالهكان رحمه الله فتى القوم، لسناً، مفوهاً، مدركاً، متعاطياً للأدب والتاريخ، مخالطاً للنبلاء، متسورا خلق العلماء، غزلاً، كلفاً بالدعابة، طرفة من طرف أهل بيته، قوي الشكيمة، جواداً بما في وسعه، متناهياً في البدانة. دخل غرناطة في الجملة من إخوانه وبني عمه، مغربين عن مقر الملوك بالمغرب، وأقام بها إلى شهر ربيع الأول من عام ثلاثة وستين وسبعماية. وركب البحر في الخامس والعشرين منه، عندما لحق أخوه عبد الحكيم بالمغرب، وبايعه الناس، ولاحت له بارقة، لم تكد تقد حتى خبت، فبادر إلى مظاهرته في جفن غزوي من أسطول الأندلس، وصحبه قوم ممن يخطب الخطط، ويبتدر رمق الدول، وهال عليهم البحر، فطرح الجفن بأحواز غساسة، وقد عادتها ملكة عدوهم، فتقبض عليه، وأدخل مدينة فاس، في الثاني لربيع الآخر من العام، مشهور المركب على الظهر، يضرب بين يديه طبل للشهرة، وناقور المثلة، وأجلس بين يدي السلطان، فأبلى بما راق الحاضرين من بيانه من العذر للخروج بالاستمالة حتى لرجي خلاصه، واستقر مثقفاً تتعلق به الأراجيف، ويحوم حول مطرحة الاختبار إلى حين وفاته.
شعرهأنشدني الفقيه الأديب أبو بكر بن أبي القاسم بن قطبة من شعره، وكان صاحبه في الرحلة، ومزامله في أسطول المنحسة، وذلك قوله:
سوف ننال المنى ونرقى ... مراقي العز والمعال
إذا حططنا بأرض فاس ... وحكمت في العدى العوال
فأنت عندي بها حقيق ... يا حايز الفضل والكمال
وفاتهفي وسط جمادى الأولى من العام. دخل عليه في بيت معتقله فقتل، ودفن ببعض مدافنهم. رحمة الله عليه.
مقاتل بن عطية البرزالييكنى أبا حرب، وقال فيه أبو القاسم الغافقي، من أهل غرناطة، ويلقب بذي الوزارتين، ويعرف بالريه لحمرة كانت في وجهه.
حالهكان من الفرسان الشجعان لا يصطلى بناره، وكان معه من قومه نحو من ثلاث ماية فارس من بني برزال. وولاه الأمير عبد الله بن بلقين بن باديس مدينة اليسانة، والتقى به ابن عباد وأخذ بمخنقها، وكان عبد الله يحذره. وعندما تحقق حركة اللمتونيين إليه صرف عن جهته، فقل لذلك ناصره، وأسرع ذهاب أمره.
شجاعته

قال، وحضر مقاتل مع عبد الله بن بلقين أمير غرناطة وقيعة النيبل في صدر سنة ثمان وسبعين وأربع ماية، فأبلى فيها بلاء عظيما، وجرح وجهه، ومزق دعه بالطعن والضرب. وذكر من حضرها ونجا منها، قال، كنت قد سقط الرمح من يدي ولم أشعر، وحملت الترس ولم أعلم به، وحملني الله إلى طريق منجاة فركبتها، مرة أقع ومرة أقوم، فأدركت فارساً على فرس أدهم ورمحه على عاتقه، ودرقته على فخذه، ودرعه مهتكة بالطعن، وبه جرح في وجهه يثعب دما تحت مغفره، وهو مع ذلك ينهض على رسله، فرجعت إلى نفسي فوجدت ثقلاً، فتذكرت الترس، فأخرجت حمالته عن عاتقي، وألقيته عني، فوجدت خفة، وعدت إلى العدو، فصاح ذلك الفارس، خذ الترس، قلت لا حاجة لي به، فقال خذه، فتركته ووليت مسرعا، فهمز فرسه ووضع سنان رمحه بين كتفي، وقال خذ الترس، وإلا أخرجته بين كتفيك في صدرك، فرأيت الموت الذي فررت منه، ورجعت إلى الترس فأخذته، وأنا أدعو عليه، وأسرعت عدواً، فقال لي على ما كنت فليكن عدوك. فاستعذت وقلت، ما بعثه الله إلا لهلاكي، وإذا قطعة من خيل الروم قد بصرت به، فوقع في نفسه أنه يسرع الجري فيسلم وأقتل، فلما ضاق الطلق ما بينه وبين أقربهم منه، عطف عليه كالعقاب، وطعنه ففطره، وتخلص الرمح منه، ثم حمل على آخر فطعنه، ومال على الثالث فانهزم منه، فرجع إلي، وقد بهت من فعله، ورشاش دم الجرح، يتطاير من قناع المغفر لشدة نفسه، وقال لي يا فاعل يا صانع أتلقي الرمح ومعك مقاتل الريه.
انتهى اختصار السفر الثامن والحمد لله رب العالمين يتلوه في اختصار التاسع بعده ومن ترجمة القضاة مؤمل بن رجا بن عكرمة بن رجا العقيلي من إلبيرة ومن السفر التاسع من ترجمة القضاة
مؤمل بن رجاء بن عكرمة

بن رجاء العقيلي

من إلبيرة
حالهكان شيخاً مضعوفاً يغلب عليه البله، من أهل التعين والحسب والأصالة، عريقاً في القضاء، قاض ابن قاض ابن قاض. ولى قضاء إلبيرة، للأمير محمد.
من حكاياته: رفعت إليه امرأة كتاب صداقها، فقال الصداق مفسوخ، وأنتما على حرام، فافترقا، فرق الله بينكما. ثم رمى بالصداق إلى من حوله، وقال عجباً لمن يدعي فقهاً ولا يعلمه، أو يزعم أنه بوثق ولا يتقنه، مثل أبي فلان وهو في المجلس يكتب هذا الصداق، وهو مفسوخ، ما أحقه أن يغرم ما فيه. فدار الصداق على يدي كل من حضر، وكل يقول ما أرى موضع فسخ، فقال أنتم أجهل من كاتبه، لكني أعذركم، لأن كل واحد منكم، يستر على صاحبه خطأه، أنظروا وأمنحكم اليوم، فنظروا فلم يجدوا شيئاً يوجب فسخاً. فدنا منه محمد ابن فطيس الفقيه، فقال أصلح الله القاضي، إن الله منحك من العلم والفهم، ما نحن مقرون بالعجز عنه، فأفدنا هذه الفايدة، فقال، ادن فدنا منه، فقال، أو ليس في الصداق " ولا يمنعها زيارة ذوي محارمها، ولا يمنعهم زيارتها بالمعروف " ، ولولا معرفتي بمحبتك ما أعلمتك. فشكره الشيخ. وأخذ بطرف لحيته يجره إليه حتى قبلها. وكان عظيم اللحية طويلها، شيمة أهل هذه الطبقة. قال ابن فطيس، أنا المخصوص بالفايدة، ولا أعرف بها إلا من تأذن بتعريفه إياها، فتبسم القاضي معجباً بما رأى، وشفعوا إليه أن لا يفسخ الصداق، وقيل للزوجين، لا تطلبا به عنده شيئاً. وولى قضاء جيان.
ومن الطاربين والغربا
المهلب بن أحمد بن أبي صفرة الأسديمن أهل ألمرية يكنى أبا القاسم.
حالهكان من أدهى الناس وأنصحهم، ومن أهل التعين والعناية التامة، واستقضى بألمرية.
مشيختهسمع من أبي محمد الإصبهاني، ورحل وروى عن أبي ذر الهروي.
تواليفه: ألف كتاباً في شرح البخاري، أخذه الناس عنه.
وفاته: توفي سنة ست وثلاثين وأربعمائة. وقيل سنة .......
ومن ترجمة الكتاب والشعراء وهم الأصليون
مالك بن عبد الرحمن

بن علي بن عبد الرحمن بن الفرج بن أزرق بن سعد بن سالم بن الفرج

المنزل بوادي الحجارة بمدينة الفرج المنسوبة إليه الآن.

قالا ابن عبد الملك، كذا كتب لي بخطه بسبتة، وهو مصمودي ثم شصادى مولى بني مخزوم، ما لقي، سكن سبتة طويلاً ثم مدينة فاس، ثم عاد إلى سبيتة مرة أخرى، وبآخرة فاس، يكنى أبا الحكم وأبا المجد، والأولى أشهر، ويعرف بابن المرحل، وصف جرى على جده على بن عبد الرحمن لما رحل من شنتمرية حين إسلامها للروم عام خمسة وستين وخمسماية.
حالهقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير، شاعر رقيق مطبوع، متقدم، سريع البديهة، رشيق الأغراض، ذاكر للأدب واللغة. تحرف مدة بصناعة التوثيق ببلده، وولى القضاء مرات بجهات غرناطة وغيرها. وكان حسن الكتابة إذا كتب، والشعر أغلب عليه. وذكره ابن خلاد، وابن عبد الملك، فأما ابن عبد الملك فلم يستوف له ما استوفى لغيره. وأما ابن خلاد فقصر به، إذ قال، كانت نشأته بمالقة بلده، وقرارة مولده في ناسها ووسط أجناسها، لم يتميز بحسب، ولم بتقدم في ميدان نسب، وإنما أنهضه أدبه وشعره، وعوضه بالظهور من الخمول نظمه ونثره، فطلع في جبين زمانه غرة منيرة، ونصع في سلك فصحاء أوانه درة خطيرة، وحاز من جيله رتبة التقديم، وامتاز في رعيله بإدراك كل معنى وسيم. والإنصاف فيه منا ثبت لي في بعض التقييدات وهو، الشيخ المسن المعمر الفقيه، شاعر المغرب، وأديب صقعه، وحامل الراية، المعلم بالشهرة، المثل في الإكثار، الجامع بين سهولة الفظ، وسلاسة المعنى، وإفادة التوليد، وإحكام الاختراع، وانقياد القريحة، واسترسال الطبع، والنفاذ في الأغرض. استعان على ذلك بالعلم بالمقاصد اللسانية، لغة وبياناً وعربية وعروضاً، وحفظاً واضطلاعاً، إلى نفوذ الذهن، وشدة الإدراك، وقوة العارضة، والتبريز في ميدان اللوذعية، والقحة والمجانة، والمؤيد ذلك بخفة الروح، وذكاء الطبع، وحرارة النادرة، وحلاوة الدعابة، يقوم على الأغربة والأخبار، ويشارك في الفقه، ويتقدم في حفظ اللغة، ويقوم على الفرايض. وتولى القضاء. وكتب عن الأمراء، وخدم واسترفد، وكان مقصوداً من رواة العلم والشعر، وطلاب الملح، وملتمسي الفوايد، لسعة الذرع وانفساح المعرفة، وعلو السن، وطيب المجالسة، مهيباً مخطوب السلامة، مرهوباً على الأعراض، في شدقه شفرته وناره، فلا يتعرض إليه أحد بنقد، أو أشار إلى قناته بغمز، إلا وناط به آبدة، تركته في المثلات، ولذلك بخس وزنه، واقتحم حماه، وساءت بمحاسنه القالة، رحمه الله وتجاوز عنه.
مشيختهتلا بالسبع على أبي جعفر بن علي الفخار، وأخذ عنه بمالقة وعن غيره. وصحب وجالس من أهلها، أبا بكر عبد الرحمن بن علي بن دحمان، وأبا عبد الله إلاستجي، وابن عسكر، وأبا عمرو بن سالم، وأبا النعيم رضوان بن خالد، وانتفع بهم في الطريقة. وبفاس أبا زيد اليرناسني الفقيه. ولقى بإشبيلية أبا الحسن بن الدباغ، وأبا علي الشلوبين، وأبا القاسم بن بقى، وأجازوا له. وروى عنه أبو جعفر بن الزبير، والقاضي أبو عبد الله بن عبد الملك وجماعة.
دخوله غرناطةقال ابن الزبير، تكرر قدومه علينا بغرناطة، وآخر انفصالاته عنها آخر سنة أربع وسبعين وستماية، وقال لي حفيده أبو الحسين التلمساني من شيوخنا، أنشد السلطان الغالب بالله، بمجلسه للناس من المقصورة بإزاء الحمراء، قبل بناء الحمراء. وقال غيره أقام بغرناطة، وعقد بها الشروط مدة. وقال لي سيخنا أبو الحسن الجياب، ولي القضاء بجهات من البشارات، وشكى للسلطان بضعف الولاية، فأضاف إليه حصن أشكر يانتشر، وأمر أن يهمل هذا الاسم ولا يشكل، فقال أبو الحكم رحمه الله عند وقوفه عليه، قال لي السلطان في تصحيف هذا الاسم، " أشكر يا تيس " وهي من المقاصد النبيلة.
تواليفهوهي كثيرة متعددة، منها شعره، والذي دون منه أنواع. فمنهمختاره، وسماه بالجولات. ومنه، الصدور والمطالع. وله العشريات والنبويات على حروف المعجم، والتزام افتتاح بيوتها بحرف الروى، وسماها، الوسيلة الكبرى المرجو نفعها في الدنيا والأخرى. وعشرياته الزهدية. وأرجوزته المسماة سلك المنخل لمالك بن المرحل نظم فيها منخل أبي القاسم بن المغربي، والقصيدة الطويلة المسماة بالواضحة، والأرجوزة المسماة اللؤلؤ المرجان والموطأة لمالك. والأرجوزة في العروض. وكتابه في كان مإذا، المسمى بالرمي بالحصا، إلى ما يسق إحصاره، من الأغراض النبيلة، والمقاصد الأدبية.
شعره

قال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك، كان مكثراً من النظم، مجيداً، سريع البديهة، مستغرق الفكرة في قرضه، لا يفتر عنه حينا من ليل أو نهار. شاهدت ذلك وأخبرني أنه دأبه، وأنه لا يقدر على صرفه من خاطره، وإخلاء باله من الخوض فيه، حتى كان من كلامه في ذلك، أنه مرض من الأمراض المزمنة، واشتهر نظمه، وذاع شعره، فكلفت به ألسنة الخاصة والعامة، وصار رأس مال المستمعين والمغنين، وهجير الصادرين والواردين، ووسيلة المكدين، وطراز أوراد المؤذنين وبطايقة البطالين، ونحن نجتزئ منه بنبذ من بعض الأغراض تدل على ما وراءها إن شاء الله. فمن ذلك في غرض النسيب:
دنف تستر بالغرام طويلاً ... حتى تغير رقة ونحولا
بسط الوصال فما تمكن جالسا ... حتى أقيم على البساط دليلا
يا سادتي مإذا الجزا فديتكم ... الفضل لو غير الفتى ما قيلا
قالوا تعاطى الصبر عن أحبابه ... لو كان يصبر للصدود قليلا
ما ذاق إلا شربة من هجرنا ... وكأنه شرب الفرات شمولا
أيقول عشت وقد تملكه الهوى ... لو قال مت لكان أقوم قيلا
حلف الغرام بحبنا وجمالنا ... إن لم يدعه ميتاً فعليلا
إن الجفون هي السيوف وإنما ... قطعتن فلم تسمع لهن صليلا
قل للحبيب ولا أصرح باسمه ... مإذا الملال وما عهدت ملولا
بين وبينك ذمة مرعية ... أتراك تقطع حبلها الموصولا
ولكم شربت صفا ودك خالصاً ... ولبست ظلا من رضاك ظليلا
فيا غصن بان بان عني ظله ... عند الهجير فما وجدت مقيلا
إعطف على المضني الذي ... أحرقته في نار هجرك لوعة وغليلا
فارقته فتقطعت أفلاذه ... شوقاً وما ألفى إليك سبيلا
لو لم يكن منك التغير لم يسل ... بالناس لو حشروا إليه قبيلا
يا راحلاً عني بقلب مغضب ... أيطيق قلبي غضبة ورحيلا
قل للصبا هيجت أشجان الصبا ... فوجدت يا ريح القبول قبولا
هل لي رسول في الرياح فاز من ... فارقته بعث النسيم رسولا
يا ليت شعري أين قر قراره ... يا قلب ويك أما وجدت دليلا
إن لم يعد ذاك الوصال كعهدنا ... نكلت عيني بالبكا تنكيلا
وقال نسيباً ومدحاً:
أعدى على هواه خصم جفونه ... مالي به قبل ولا بفنونه
إن لم تجرني منه رحمة قلبه ... من ذا يجير عليه ملك يمينه
صاب من الأتراك أصبى مهجتي ... فعبدت نور الحسن فوق جبينه
متمكن في الحسن نون صدغه ... فتبين التمكين في تنوينه
تنساب عقرب صدغه في جنة ... لم يجن منها الصب غير منونه
ولوى ضفيرته فولى مدبراً ... فعل الكلم ارتاع من تبينه
قد أطمعتني فيه رقة خده ... لو أمكنتني فيه رقة دينه
ورجوت لمن قوامه لو لم يكن ... كالرمح شدة طعنه في لينه
شاكي السلاح وما الذي في جفنه ... أعدى على من الذي يجفونه
ناديته لما ندت لي سينه ... وشعرت من لفظ السلام بسينه
رحماك في دنف غدا وحياته ... مماته وحراكه كسكوته
إن لم تمن علي منة راحم ... فمناه أن يلقاه ريب منونه
ولذا أبيت سوى سمات عدوه ... فأمانه من ذاك ظهر أمونه
سننيخها في باب أروع ماجد ... فيرى محل الفصل حق يقينه
حيث المعارف والعوارف والعلا ... في حد مجد جامع لفنونه
بدر وفي الحسن بن أحمد التقت ... نجب مررن على العطا بركوبه
تبغي مناها في مناها عنده ... وتطوف بالحاجات عند حجونه
فرع من الأصل اليماني طيب ... ورث البيان وزاد في تبيينه

يبدى البشاشة في أسرة وجهه ... طوراً ويحمى العز في عرنينه
بسطت شمايله للزمان كمثل ما ... بسط الغنا نفوسنا بلحونه
يثنى عليه كل فعل ساير ... كالمسك إذ يثنى على دارينه
ومن النسيب قوله:
هو الحبيب قضى بالجور أم عدلا ... لبي الخيار وأما في هواه فلا
تالله ما قصر العذال في عذلي لكن ... أبت أذني أن تسمع العذلا
أما السلو فشيء لست أعرفه ... كفى بخلك غدراً أن يقال سلا
جفون غيري أصحت بعد ما قطرت ... وقلب غيري صحا من بعد ما ثملا
وغصن بان تثنى من معاطفه ... سقيته الدمع حتى أثمر العذلا
آثره نسيم الشعر آونة ... فكلما مال من أعطافه اعتدلا
أملت والهمة العلياء طامحة ... وليس في الناس إلا آمل أملا
وقال إيهاً طفيلي ومقترح ... ألست عبدي ومملوكي فقلت بلا
ما من تحدث عن حسنى وعن كلفي ... بحسنه وبحبي فأضرب المثلا
نيطت خدي خوف القبض من ملكه ... إذا أشار بأدنى لحظه قتلا
تقبل الأرض أعضائي وتخدمه ... إذا تجلى بظهر الغيب واتصلا
يا من له دولة في الحسن باهرة ... مثلي ومثل فؤادي يخدم الدولا
ومن نظمه في عروض يخرج من دوبيتي مجزواً مقصرا قوله: وملحه في اختراع الأعاريض كثيرة:
الصب إلى الجمال مايل ... والحب لصدقه دلايل
والدمع لسايلي جواب ... إن روجع سائل بسائل
والحسن على القلوب وال ... والقلب إلى الحبيب وايل
لو ساعد من أحب سعد ... ما حال من الحبيب حايل
يا عاذلي إليك عني لا ... تقرب ساحتي العواذل
ما نازلني كمثل ظبي ... يشفى بلحظة المنازل
ما بين دفونه حسام ... مخارقه له حمايل
والسيف يبت ثم ينبو ... واللحظ يطبق المفاصل
والسهم يصيب ثم يخطي ... واللحظ يمر في المقاتل
مهلاً فدمي له حلال ... ما أقبل فيه قول قايل
إن صدني فذاك قصدي ... أو جدلني فلا أجادل
يا حسن طلوعه علينا ... والسكر بمعطفيه مايل
ظمآن مخفف الأعالي ... ريان مثقل الأسافل
قد ثم به شذا الغوالي ... إذ هب ونمت الغلايل
والطيب منبه عليه ... من كان عن العيان غافل
والغنج محرك إليه ... من كان مسكن البلابل
والسحر رسول مقلتيه ... ما أقرب عهده ببابل
والروض يعير وجنتيه ... ورداً كهواى غير حايل
واللين يهز معطفيه ... كالغصن تهزه الشمايل
والكاس تلوح في يديه ... كالنجم بأسعد المنازل
يسقيك بريقه مداما ... ما أملح ساقياً مواصل
يسبيك برقة الحواشي ... عشقاً ولكافة الشمايل
ما أحسن ما وجدت خداً ... إذ نجم صباى غير آفل
ومن مستحسن نزعاته:
يا راحلين وبي من قربهم أمل ... لو أغنت الحليتان لي القول والعمل
سرتم وسار اشتياقي بعدكم مثلاً ... من دونه السامران الشعر والمثل
وظل يعذلني في حبكم نفر ... لا كانت المحنتان الحب والعذل
عطفاً علينا ولا تبغوا بنا بدلاً ... فما استوى التابعان العطف والعمل
قد ذقت فضلكم دهراً فلا وأبى ... ما طاب لي الأحمران الخمر والعسل
وقد هرمت أسى من هجركم وجوى ... وشب مني اثنتان الحرص والأمل
غدرتم أو مللتم يا ذوي ثقتي ... لبيست الخصلتان الغدر والملل
قالوا كبرت ولم تبرح كذا غزلاً ... أرى بك الفاضحان الشيب والعزل

لم أنس يوم ما نادوا للرحيل ضحى ... وقرب المركبان الطرف والجمل
وأشرقت بهواديهم هوادجهم ... ولاحت الزينتان الحلى والحلل
وودعوني بأجفان ممرضة تغضها ... الرقبتان الخوف والخجل
كم عفروا بين أيدي العيس من بطل ... أصابه المضنيان الغنج والكحل
دارت عليهم كؤوس الحب مترعة ... وأبا المسكران الخمر والمقل
وآخرين اشتفوا منهم بضمهم ... يا حبذا الشافيان الضم والقبل
كأنما الروض منهم روضة أنف ... يزهى بها المثبتان السهل والجبل
من المسترق الروابي والوهاد بهم ... ما راقه المعجبان الخصر والكفل
يا حادي العيس خذني مأخذاً حسناً ... لا يستوي الضدان الريث والعجل
لم يبقى لي غير ذكر أو بكا طلل ... لو ينفع الباقيان الذكر والطلل
يا ليت شعري ولا أنس ولا جذل ... هل يرفع الطيبان الأنس والجذل
ومن قوله على لسان ألثغ ينطق بالسين ثاء ويقرأ بالرويين:
عمرت ربع الهوى بقلب ... لقوة الحب غير ناكس ث
لبثت فيه أجر ذيل النحول ... أحبب به للابس ث
إن مت شوقاً فلى غرام ... نباته بالسقام وادس ث
أما حديث الهوى فحق ... يصرف بلواه كل حادس ث
تعبت بالشوق في حبيب ... أنا به ما حييت بايس ث
يختال كالغثن ماس فيه ... طرف فأزرى كل مايس ث
دنيا ندت لكل وأي ... فهو لدنياه أي حارس ث
يلعب بالعاشقين طراً ... والكل راضون وهو عابس ث
ومن شعره في الزهد يصف الدنيا بالغرور والحذايح والزور:
يا خاطب الدنيا طلبت غروراً ... وقبلت من تلك المحاسن زورا
دنياك إما فتنة أو محنة ... وأراك في كلتيهما مقهورا
وأرى السنين تمر عنك سريعة ... حتى لأحسبهن صرن شهورا
بينا ثريك أهلة في أفقها ... أبصرتها في إثر ذاك بدورا
كانت قسياً ثم صرن دوايرا ... لا بد أن ترمى الورى وتدورا
يأتي الظلام فما يسود رقعة ... حتى ترى مسطورها منشورا
فإذا الصباح أتى ومد رادءه ... نقض المساء رداء المنثورا
يتعاقبان عليك هذا ناشر ... مسكاً وهذا ناشر كافورا
ما المسك والكافور إلا أن ترى ... من فعلك الإمساك والتكبيرا
أمسى على فوديك من لونيهما ... سمة تسوم كآبة وبسورا
حتى متى لا ترعوى وإلى متى ... أو ما لقبت من المشيب نذيرا
أخشى عليك من الذنوب فربما ... تلفى الصغير من الذنوب كبيرا
فانظر لنفسك إنني لك ناصح ... واستغفر المولى تجده غفورا
من قبل ضجعتك التي تلقى لها ... خد الصغار على التراب حقيرا
وقال في المنى المذكور:
إشف الوجد ما أبكى العيونا ... وأشفى الدمع ما نكأ الجفونا
فيا ابن الأربعين اركب سفيناً ... من التقوى فقد عمرت حينا
ونح إن كنت من أصحاب نوح ... لكي تنجو نجاة الأربعينا
بدا الشيب في فوديك رقم ... فيا أهل الرقيم أتسمعونا
لأنتم أهل كهف قد ضربنا ... على إذانهم فيه سنينا
رأيت الشيب يجري في سواد ... بياضاً لا كعقل الكاتبينا
وقد يجري السواد على بياض ... فكأن الحسن فيه مستبينا
فهذا العكس يوذن بانعكاس ... وقد أشعرتم لو تشعرونا
نبات هاج ثم يرى حطاماً ... وهذا اللحظ قد شمل العيونا
نذير جاءكم عريان يعدو ... وأنتم تضحكون وتلعبونا
أخي إلى متى هذا التصابي ... جننت بهذه الدنيا جنونا

هي الدنيا وإن وصلت وبرت ... فكم قطعت وكم تركت بنينا
فلا تخدعنك أيام تليها ... ليال واخشها بيضاً وجونا
فذاك إذا نظرت سلاح دنيا ... تعيد حراك ساكنها سكونا
وبين يديك يوم أي يوم ... يدينك فيه رب الناس دينا
فإما دار عز ليس يفنى ... وإما دار هون لن يهونا
فطوبى في غد للمتقينا ... وويل في غد للمجرمينا
وآه ثم آه ثم آه على نفسي أكررها مئينا
أخي سمعت هذا الوعظ أم ... لا ألا ليتني في السامعينا
إذا ما الوعظ لم يورد بصدق ... فلا خسر كخسر الواعظينا
وقال يتشوق إلى بيت الله الحرام، ويمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
شوق كما رفعت نار على علم ... تشب بين فروع الضال والسلم
ألفه بضلوعي وهو يحرقها ... حتى براني برياً ليس بالقلم
من يشتريني بالبشرى ويملكني ... عبداً إذا نظرت عيني إلى الحرم
دع للحبيب ذمامي واحتمل ... رمقي فليس ذا قدم من ليس ذا قدم
يا أهل طيبة طاب العيش عندكم ... جلورتم خير مبعوث إلى الأمم
عاينتم جنة الفردوس من كثب ... في مهبط الوحي والآيات والحكم
لنتركن بها الأوطان خالية ... ونسلكن لها البيداء في الظلم
ركابنا تحمل الأوزار مثقلة ... إلى محط خطايا العرب والعجم
ذنوبنا يا رسول الله قد كثرت ... وقد أتيناك فاستغفر لمجترم
ذنب يليه على تكراره ندم ... فقد مضى العمر في ذنب وفي ندم
نبكي فتشغلنا الدنيا فتضحنكا ... ولو صدقنا البكا شبنا دماً بدم
يا ركب مصر رويداً يلتحق بكم ... قوم مغاربة لحم على وضم
فيهم عبيد تسوق العيس زفرته ... لم يلق مولاه قد ناداه في النسم
يبغي إليه شفيعاً لا نظير له ... في الفضل والمجد والعلياء والكرم
ذاك الحبيب الذي ترجى شفاعته ... محمد خير خلق الله كلهم
ذاك الحبيب الذي ترجى شفاعته ... محمد خير خلق الله كلهم
صلى عليه إله الخلق ما طلعت ... شمس وما رفعت نار على علم
ومن مقطوعاته العجيبة في شتى الأغراض، وهي نقطة من قطر، وبلالة من بحر، قوله مما يكتب على حمالة سيف، وقد كلف بذلك غيره من الشعراء بسبتة. فلما رآها أخفى كل منظومه، وزعم أنه لم يأت بشيء، وهو المخترع المرقص:
جماله كرياض جاورت نهرا ... فأنبتت شجراً راقت أزاهرها
كحية الماء عامت فيه وانصرفت ... فغاب أولها فيه وآخرها
وقوله وقد تناول الرئيس ابن خلاص بيده مقصاً فأدمى يده فأنشده:
عداوة لا لكفك من قد نم ... فلا تعجب لقراض لئيم
لئن أدماك فهو لها شبيه ... وقد يسطو اللئيم على الكريم
وقوله في الخضاب:
سترت مشيبي بالخضاب تعللا ... فلم يحظ فشيب وراب خضابي
كأني وقد زورت لونا على الصبا ... أعنون طرساً ليس فيه كتاب
غراب خضاب لم يقف من حذاره ... وأغرب شيء في الحذار غراب
وقوله وهو من البديع المخترع:
لا بد من ميل إلى جهة فلا ... تنكر على الرجل الكريم مميلا
إن الفؤاد وإن توسط في الحشا ... ليميل في جهة الشمال قليلا
وقوله وهو معنى قد قيل فيه:
لا تعجبوا للمرء يجهل قدره ... أبداً ويعرف غيره فيصير
فالعين تبصر غيرها مع بعده ... ولكن نفسها لا تبصر
وقوله:
أرى المتعلمين عليك أعداء ... إذا أعلمتهم من كل عاد
فما عند الصغير سوى عقوق ... ولا عند الكبير سوى عناد
وقوله في وصفه ذي الجاه:

يضع الناس صاحب الجاه فيهم ... كل يوم في كفة الميزان
إن رأوه يوماً ترجح وزناً ... ضاعفوا البر فهو ذو رجحان
أو رأوا منه نقض حبة وزن ... ما كسوه في حبة الجلجلان
وأنشدنا عنه غير واحد من شيوخنا وقد بلغ الثمانين:
يا أيها الشيخ الذي عمره ... قد زاد عشراً بعد سبعينا
سكرت من أكؤس خمر الصبا ... فحدك الدهر ثمانينا
وقال: هيهات ما أظنه يكملها، وقال في الكبرة:
يا من لشيخ قد أسن وقد عفا ... مذ جاوز السبعين أضحى مدنفا
خانته بعد وفايها أعضاؤه ... فغدا قعيداً لا يطيق تصرفا
هرماً غريبا ما لديه مؤانس ... إلا حديث محمد والمصطفى
وكتب إلى القاضي أبى الحجاج الطرسوني في مراجعة:
يا سيدي شاكركم مالك ... قد صيرت ميم اسمه هاء
ومن يعش خمساً وتسعين ... قد أنهى في التعمير إنهاء
ومن نظمه في عرس، صنعها بسبتة على طريقه في المجانة:
الله أكبر في منار الجامع ... من سبتة تاذين عبد خاشع
الله أكبر للصلاة أقيمها ... بين الصفوف من البلاط الواسع
الله أكبر محرماً وموجهاً ... ودبرة إلى ربي بقلب خاضع
الحمد لله السلام عليكم ... آمين لا تفتح لكل مخادع
إن النساء خدعنني ومكرن بي ... وملأن من ذكر النساء مسامع
حتى وقعت وما وقعت بجانب ... لكن على رأس لأمر واقع
والله ما كانت إليه ضرورة ... لكن أمر الله دون مدافع
فخطبن لي في بيت حسن قلن لي ... وكذبن لي في بنت قبح شائع
بكراً زعمن صغيرة في سنها ... حسناء تسفر عن جمال بارع
خوداً لها شعر أثيث حالك ... كالليل تجلى عن صباح ساطع
حوراء يرتاع الغزال إذا رنت ... بجفون خشف في الخمايل رافع
تتلو الكتاب بغنة وفصاحة ... فيميل نحو الذكر قلب السامع
بسامة عن لؤلؤ متناسق ... في ثغرها في نظمه متتابع
أنفاسها كالراح فض ختامها ... من بعد ما ختمت بمسك رائع
شماء دون تفاوت عربية ... ببسالة وشجاعة ومنازع
غيداء كالغصن الرطيب إذا ... مشت ناءت بردف للتعجل مانع
تخطو على رجلي حمامة أيكة ... مخضوبة تسبى فؤاد السامع
ووصفن لي من حسنها وجمالها ... ما البعض منه يقيم عذر الخالع
فدنوت واستامنت بعد توحشي ... وأطاع قلب لم يكن بمطاوع
فحملنني نحو الولي وجئنني ... بالشاهدين وجلد كبش واسع
وبعرفه من نافع لتعادل ... والله عز وجل ليس بنافع
فشرطن أشراطاً علي كثيرة ... ما كمنت في حملي له بمطاوع
ثم انفصلت وعلمت بأنني ... أوثقت في عنقي لها بجوامع
وتركنني يوما وعدن وقلن لي ... خذ في البناء ولكن بمرافع
واصنع لها عرساً ولا تحوج إلى ... قاض عليك ولا وكيل رافع
وقرعتن سني عند ذاك ندامة ... ما كنت لولا خدعت بقارع
ولزمتني حتى انفصلت بموعد ... بعد اليمين إلى النهار الرابع
فلو أنني طلقت كنت موفقاً ... ونفضت من ذاك النكاح أصابع
لكن طمعت بأن أرى الحسن الذي ... زورن لي فذممت سوء مطامع
فنظرت في أمر البناء معجلا ... وصنعت عرساً يا لها من صانع
وطمعت بأن تجلى ويبصر وجهها ... ويقر عيني بالهلال الطالع
وظننت ذاك كما ذكرن ولم يكن ... وحصلت أيضاً في مقام الفازع
وحملنني ليلاً إلى دار لها ... في موضع عن كل خير سامع

دار خراب في مكان توحش ... ما بين آثار هناك بلاقع
فقعدت في بيت صغير مظلم ... لا شيء فيه سوى حصير الجامع
فسمعت حساً عن شمالي منكراً ... وتنحنحاً يحكى نقيق ضفادع
فأردت أن أنجو بنفسي هارباً ... ووثبت عند الباب وثبة جازع
فلقيتهن وقد أتين بجذوة ... فرددنني وحبسنني بمجامع
ودخلن بي في البيت واستجلسنني ... فجلست كالمضرور يوم زعازع
وأشرن لي نجو السما وقلن لي ... هذي زويبعة وبنت زوابع
هذي خليلتك التي زوجتها ... فاجلس هنا معها ليوم سابع
وبتنا النعمى التي خولتها ... فلقد حصلت على رياض يانع
فنظرت نحو خليلتي متأملا ... فوجدتها محجوبة ببراقع
وأتيتها وأردت نزع خمارها ... فغدت تدافعني بجد وازع
فوجلتها في صدرها وحذوته ... وكشفت هامتها بغيظ صارع
فوجدتها قرعاء تحسب أنها ... مقروعة في رأسها بمقارع
حولاء تنظر فوقها في ساقها ... فتخالها مبهوتة في الشارع
فطساء تحسب أن روثة أنفها ... قطعت فلا شلت يمين القاطع
صماء تدعى بالبريح وتارة ... بالطبل أو تؤتى لها بمقامع
بكماء إن رامت كلاما صوتت ... تصويت معزى نحو جدي راضع
فقماء إن تلتقي أسنانها ... تقسو إذا نطقت فساء الشابع
عرجاء إن قامت تعالج مشيها ... أبصرت مكشية ضالع أو خامع
فلقيتها وجعلت أبصق نحوها ... وأفر نحو ذجاً وغيث هامع
؟حيران أغدو في الزقاق كأنني لص أحس بطالب أو تابع
حتى إذا لاح الصباح وفتحوا ... باب المدينة كنت أول كاسع
والله مالي بعد ذاك بأمرها ... علم ولا بأمور بيتي الضايع
؟؟؟

نثره

وفضل الناس نظمه على نثره، ونحن نسلم ذلك من باب الكثرة، لا من باب الإجادة. وهذه الرسالة معلمة بالشهادة بحول الله.
كتب إلى الشيخين الفقيهين الأديبين البليغين أبي بكر بن يوسف بن الفخار وأبي القاسم خلف بن عبد العزيز القبتوري: لله دركما حليفي صفاء، وأليفى وفاء، يتنازعان كأس المودة، تنازع الأكفاء، ويتهاديان ريحان التحية بهادي الظرفاء. قسيمى نسب، وقريعى حسب، يتجاوزان بمطبوع من الأدب ومكتسب، ويتواردان على علم من الظرف ونسب، رضيعى لبان، ذريعى لبان، يحرزان ميراث قس وسحبان، ويبرزان من الذكاء، ما بان على أبان، قسيمي مجال، فصيحى روية وارتجال، يترعان في أشطان البلاغة، سجالاً بعد سجال، ويصرعان في ميدان الفصاحة رجالاً على رجال. ما بالكما لا حرمت حبالكما ولا قصمت نبالكما، لم تسمحا لي من عقودكما بدرء، ولم ترشحاني من نقودكما بدرة، ولم تفسحا لي بحلوة ولا مرة. لقد ابتليت من أدبكما بنهر أقربه ولا أشربه، وما أراده ولا أتبرده. ولو كنت من أصحاب طالوت لا فسحت لي غرفة، وأتيحت لي ترفة. بل لو كنت من الإبل ذوات الأظماء، ما جليت بعد الظماء عن الماء. ولا دخلت بالإشفاق مدخل العجماء. كيف وأنا و لا فخر في صورة إنسان، ناطق بلسان. أفرق بين الإساءة والإحسان. وإن قلت إن باعي في النظم قصير، وما لي على النثر ولي ولا نصير، وصنعة النحو عني بمعزل، ومنزل الفقيه ليس لي بمنزل، ولم أقدم على العلم القديم، ولا استأثرت من أهله بنديم. فأنا والحمد لله غني بصنعة الجفر، وأقتني اليراع كأنها شبابيك التبر، وأبرى البرية المغا تنيف على الشبر، وأزين خدود الأسطار المستوية، بعقارب اللامات الملتوية، ولا أقول كأنها، فلا ينكر السيدان أعزهما الله، أنها نعم بعود أزاعم، وبمثل شكسى تحضر الملاحم. فما هذا الازدراء والاجتراء في هذا الأمر مر المواقير. تالله لقد ظلمتماني على علم، واستندتما إلى غير حلم، أما رهبتما شبابي، أما رغبتما في حسابي، أما رفعتما بين نفح صبابي، ولفح صبابي. لعمري لقد ركبتما خطراً، وهجتما الأسد بطراً، وأبحتما حمى محتضراً، ولم تمعنا في هذا الأمر نظراً.

أعد نظراً يا عبد قيس لعلما ... أضاءت لك النار الحمار المقيدا
ونفسي عين الحمار في هذا المضمار، لا أعرف قبيلا من دبير، ولا أفرق بحسي بين صغير وكبير، ولا أعهد أن حصاة الرمى أخف من ثبير، أليس في ذوي كبد رطبة أجر، وفي معاملة أهل التقوى والمغفرة تجر، وإذا خولتماني نعمة، أو نفلتماني نفلاً، فاليد العليا خير من اليد السفلى، وما نقص مال من صدقة، ولا جمال من لمح حدقة، والعلم يزيد بالإنفاق، وكنمه حرام باتفاق، فإن قلتما لي إن فهمك سقيم، وعوجك على الرياضة لا يستقيم، فلعل الذي نصب قامتي، يمن باستقامتي، وعسى الذي يشق سمعي وبصري، أن يزيل عي وحصرى، فأعي ما تقصان، وأجتلي ما تنصان، وأجني ثمار تلك الأغصان، فقد شاهدتما كثيراً من الحيوان، يناغي فتتعلم، ويلقن فيتكلم. هذا والجنس غير الجنس، فكيف المشارك في نوعية الإنس، فإن قلنا إن ذلك يشق، فأين الحق الذي يحق، والمشقة أخت المروة، وينعكس مساق هذه الأخوة، فيقال المروة أخت المروة، وينعكس مساق هذه الأخوة، فيقال المروة أخت المشقة، والحجيج يصبر على بعد الشقة، ولولا المشقة، كثر السادة، وقلت الحسادة، فما ضشركما أيها السيدان، أن تحسبا تحويجي، وتكتسبا الأجر في تدريجي، فإنكما إن فعلتما ذلك، نسبت إلي ولايكما، كما حسبت على علايكما، وأضفت إلى نديكما، كما عرفت بمنتداكما. ألم تعلما أن المرء يعرف بخليله، ويقاس به في كثيره وقليله، ولعلى أمتحن في مرام، ويعجم عودي رام، فيقول هذا العود من تلك الأعواد. وما في الحلبة من جواد، فأكسو كما عاراً، وأكون عليكما شعاراً. على أني إذا دعيت باسمكما، استربت من الإدعاء، فلا أستجيب لهذا الدعاء، ولكن أقول كما قال ابن أبي سفيان، حين عرف الإدارة، وأنكر الإمارة، نعم أخوتي أصح، وأنها بها أشح، إلا أن غيري نظم في المسلك، وأسهم في الملك، وأنا بينكما كالمحجوب بين طلاب، يشاركهم في البكا لا في التراث، إن حضرت فكنتم في الإقحام، أو لمقعد في زحام، وإن غبت فيقضى الأمر، وقد سطر زيد وعمرو. ناشدتكما الله في الإنصاف، أن تربعا بواد من أودية الشحر. في ناد من أندية الشعر بل السحر، حيث تندرج الأنهار، وتتأرج الأزهار، ويتبرج الليل والنهار، ويقرأ الطير صحفاً منتشرة، ويجلو النور ثغورا مؤشرة، يغازل عيون النرجس الوجل دود الورد الخجل. وتتمايل أعطاف البان، على أرداف الكثبان، فيرقد النسيم العليل في حجر الروض وهو بليل، وتبرز هوادج الراح على الراح، وقد هديت بأقمار، وحديت بأزهار ومزمار، وركبتها الصبا والكميت في ذلك المضمار، ولم تزالا في طيب، وعيش رطيب، من قباب وخدور، وشموس وبدور، تصلان الليالي والأيام، أعجازاً بصدور، وأنا الطريد منبوذ بالعراء، موقوذ في جهة الوراء، لا يدني محلي ولا يعتني بعقدي ولا حلى، ولا أدرج من الحرور إلى الظل، ولا أخرج من الحرام إلى الحل، ولا يبعث إلي مع النسيم هبة، ولا يتاح لي من الآتي عبه. قد هلكت لغواً، ولم تقيما لي صفواً، ومت كمداً، ولم تبعثا لبعثي أمداً. أتراه خلفتماني جرضاً، وألقيتماني حرضاً، كم أستسقى فلا أسقى، وأسترقى فلا أرقى، لا ماء أشربه ولا عمل في وصلكما أدربه. لم يبق لي حيلة إلا الدعاء المجاب، فعسى الكرب أن ينجاب. اللهم كما أمددت هذين السيدين بالعلم الذي هو جمال، وسددتهما إلى العمل الذي هو كمال، وجمعت فيهما الفضايل والمكارم، وختمت بهما الأفاضل والمكارم، وجعلت الأدب الصريح أقل خصالهما، والنظر الصحيح أقلب نصالهما، فاجعل اللهم لي في قلوبهما رحمة وحناناً، وابسط لي منهما وجهاً، واشرح لي جناناً، واجعلني اللهم ممن اقتدى بهما، وتعلق بأهدابهما، وكان دأبه في الصالحات كدأبهما، حتى أكون بهما ثالث القمرين في الآيات، وثالث العمرين، في عمل البر وطول الحياة اللهم آمين وصلى الله على محمد خاتم النبيين. وكأني أنظر إلى سيدي أعزهما الله، إذا وقفا على هذا الخطاب، ونظرا إلى هذا الاحتطاب، كيف يديران رمزاً، ويسيران غمزاً، ويقال استتب الفصال، وتعاطى البيذق ما تفعل النصال، وحن جذع ليس منهما، وخذ عجفاءك وسمنها، فأقول وطرفي غضيض، ومحلي الحضيض، مثلي كمثل الفروج أو ثاني البروج، وما تقاس الأكف بالسروج، فأضربا عني أيها الفاضلان ما أنا ممن تناضلان، والسلام.
مولده

=

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الفتن وأشراط الساعة باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج وفتن النهاية لابن كثير

الفتن واشراط الساعة في مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج [2880] حدثنا عمرو الناقد حدثنا سفيان ب...