الأربعاء، 8 يونيو 2022

مجلد 7. و 8. من كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة لسان الدين ابن الخطيب

 

مجلد 7 و8. من من كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة  لسان الدين ابن الخطيب

الاحاطة 7.

مجلد 7 من كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة  لسان الدين ابن الخطيب

قال شيخنا الفقيه أبو عبد الله بن القاضي المتبحر العالم أبي عبد الله ابن عبد الملك، سألته عن مولده فأنشدني:
يا سايلي عن مولدي ك أذكره ... ولدت يوم سبعة وعشرة
من المحرم افتتاح أربع ... من بعد ستماية مفسرة
وفاتهفي التاسع عشر لرجب عام تسعة وتسعين وستماية، ودفن بمقبرة فاس، وأمر أن يكتب على قبره:
زر غريبا بمقره ... نازحا ماله ول
تركوه موسداً ... بين ترب وجندل
ولتقل عند قبره ... بلسان التدلل
يرحم الله عبده ... مالك بن المرحل
ومن طارئي المقريين والعلماء
منصور بن علي بن عبد الله الزواويصاحبنا، يكنى أبا علي،
حالههذا الرجل طرف في الخير والسلامة، وحسن العهد، والصون والطهارة والعفة، قليل التصنع، مؤثرر للاقتصاد، منقبض عن الناس، مكفوف اللسان واليد، مشتغل بشأنه، عاكف على ما يعنيه، مستقيم الظاهر، ساذج الباطن، منصف في المذاكرة، موجب لحق الخصم، حريص على الإفادة والاستفادة، مثار على تعلم العلم وتعليمه غير أنف عن حمله عمن دونهن جملة من جمل السذاجة والرجولة وحسن المعاملة، صدر من صدور الطلبة، له مشاركة حسنة في كثير من العلوم العقلية والنقلة، واطلاع تقييد، ونظر في الأصول والمنطق وعلم الكلام، ودعوى في الحساب والهندسة والآلات. يكتب الشعر فلا يعدو الإجادة والسداد.
قدم الأندلس في عام ثلاثة وخمسين وسبعماية، فلقى رحباً، وعرف قدره، فتقدم مقرئا بالمدرسة تحت جراية نبيهة، وحلق للناس متكلماً على الفروع الفقهية والتفسير. وتصدر للفتيا، وحضر بالدار السلطانية مع مثله. جربت وصحبته، فبلوت منه ديناً ونصفة، وحسن عشرة.
محنتهامتحن في هذا العهد الأخير بمطالبة شرعية، لمتوقف صدر عنه لما جمع الفقهاء للنظر في ثبوت عقد على رجل نال من جانب الله والنبوة، وشك في القول بتكفيره، فقال القوم بإشراكه في التفكير ولطخه بالعاب الكبير، إذ كان كثير المشاحة لجماعتهم، فأجلت الحال عن صرفه عن الأندلس في أواخر شعبان عام خمسة وستين وسبعماية.
مشيختهطلبت منه تقييد مشيخته، فكتب مما يدل على جودة القريحة ما نصه: " يتفضل سيدي الأعلى الذي أهتدي بمصباحه، وأعشو إلى غرره وأوضاحه، جامع أشتات العلوم، وفاتق الفهوم، حامل راية البديع، وصاحب آيات التورية فيه والترصيع، نخبة البلغاء، وفخر الجهابذة العلماء، قايد جياد البلاغ من نواصيها، وسايق شوارد الحكم من أقاصيها، أبو عبد الله بن الخطيب، أبقاه الله للقريض، يقطف زهره، ويجتني غرره، وللبديع يطلع قمره، وينظم درره، وللأدب يحوك حلله، ويجمع تفاصيله وجمله، وللمعاني يجوس بجيوش البراعة خلالها، ويفتتح بعوامل اليراعة أقفالها، وللأسجاع يقرط الأسماع بفرايدها، ويحلى النحور بقلايدها، وللنظم يورد جياده أحلى الموارد، ويجليها في مضمار البلاغة من غير معاند، وللنثر يفترع أبكاره، ويودعها أسراره، ولساير العلوم يصوغها في مفرق الآداب تاجاً، ويضعها في أسطر الطروس سراجا، ولا زال ذا القلم الأعلى، وبدر الوزارة الأوضح الأجلى، ببقاء هذه الدولة المولوية والإمامة المحمدية، كعبة لملوك الإسلام، ومقصداً للعلماء الأعلام. ورضي عنهم خلفاً وسلفاً، وبورك لنا فيهم وسطاً وطرفاً، ولا زالت آمالنا بعلايهم منوطة، وفي جاههم العريض مبسوطة، بقول ما نبه عليه، من كتب شيوخى المشاهير إليه، فها أنا أذكر ما تيسر لي من ذلك بالاختصار، إذ لا تفي بذكرهم وحلاهم المجلدات الكبار.

فمنهم، مولاى الوالد علي بن عبد الله لقاه الله، الروح والريحان، وأوسعه الرضا والغفران. قرأت عليه القرآن، وبعض ما يتعلق به من الإعراب والضبط. ثم بعثني إلى شيخنا المجتهد الإمام، علم العلماء، وقطب الفقها، قدوة النظار، وإمام الأمصار، منصور بن أحمد المشدالي رحمه الله وقدس روحه، فوجدته قد بلغ السن به غاية أوجبت جلوسه في داره، إلا أنه يفيد بفوايده بعض زواره. فقرأت من أوائل ابن الحاجب عليه لإشارة والدي بذلك إله، وذلك أول محرم عام سبعة وعشرين وسبعماية. واشتد الحصار ببجاية لسماعنا أن السلطان العبد الوادي ينزل علينا بنفسه، فأمرني بالخروج رحمه الله، فعاقني عايق عن الرجوع إله لأتمم قراءة ابن الحاجب عليه. ثم مات رحمه الله عام أحد وثلاثين وسبعماية، فخص مصابه البلاد وعم، ولف ساير الطلبة وضم، إلا أنه ملأ بجاية وأنظارها بالعلوم النظرية وقساها، وأنظارها بالفهوم النقلية والعقلية، فصار من طلبته، شيخنا المعظم، ومفيدنا المقدم أبو عبد الله محمد بن يحيى الباهلي المعروف بالمفسر رحمه الله، بالطريقة الحاجبية، والكتابة الشرعية والأدبية، مع فضل السن وتقرير حسن، إلى معارف تحلاها، ومحاسن اشتمل حلاها. واستمر في ذكر شيوخه على هذه الوتيرة من التزام السجع، وتقرير الحلى، فأجاد، وتجاوز المعتاد، فذكر منهم محمد بن يحيى الباهلي المذكور، وأنه أخذ عنه جمله من العلوم، فافرده بقراءة الإرشاد. والأستاذ أبا علي بن حسن البجلي، وقرأ عليه جملة من الحاصل، وجملة من المعالم الدينية والفقهية، والكتب المنطقية، كالخونجي، والآيات البينات. والقاضي أبا عبد الله محمد بن أبي يوسف، قاضي الجماعة ببجاية، وأبا العباس أحمد بن عمران الساوي اليانيولي. قال ثم ثنيت العنان بتوجهي إلى تلمسان، راغباً في علوم العربية، والفهوم الهندسية والحسابية، فأول من لقيت شيخنا الذي علمت في الدنيا جلالته وإمامته، وعرفت في أقاصي البلاد سيادته وزعامته، وذكر رئيس الكتاب العالم الفاضل أبا محمد عبد المهيمن الحضرمي، والمحدث البقية أبا العباس بن يربوع، والقاضي أبا إسحق بن أبي يحيى وقرأ شيئاً من مبادئ العربية على الأستاذ أبي عبد الله الرندي. ولقى بالأندلس جلة. فممن قرأ عليه إمام الصنعة العربية شيخنا أبو عبد الله بن الفخار الشيهر بالبيري، ولازمه إلى حين وفاته، وكتب له بالإجازة والإذن له في التحليق بوضع قعوده من المدرسة بعده. وقاضى الجماعة الشريف أبو القاسم محمد بن أحمد الحسيني، نسيج وحده، ولازمه، وأخذ عنه تواليفه، وقرأ عليه تسهيل الفوايد لابن مالك، وقيد عليه وروى عن شيخنا إمام البقية أبي البركات بن الحاج، وعن الخطيب المحدث أبي جعفر الطنجالي. وهو الآن بالحال الموصوفة أعانه الله وأمتع به.
شعرهزرنا معاً والشيخ القاضي المتفنن أبو عبد الله المقري عند قدومه إلى الأندلس رباط العقاب. واستنشدت القاشي. وكتب لي يومئذ بخطه، استنشدني الفقيه الوجيه الكامل ذو الوزارتين أبو عبد الله بن الخطيب، أطال الله بقاه كما أطال ثناه، وحفظ مهجته، كما أحسن بهجته، فأنشدته لنفسي:
لما رأيناك بعد الشيب يا رجل ... لا تستقيم وأمر النفس تمتثل
زدنا يقينا بما كنا نصدقه ... عند المشيب يشب الحرص والأمل
وكان ذلك بمسجد رابطة العقاب، عقب صلاة الظهر من يوم الأحد التاسع والعشرين لشهر ربيع الآخر من عام سبعة وخمسين وسبعماية. وكتب الشيخ الأستاذ أبو علي يقول: منصور بن علي الزواوي، في رابطة العقاب في كذا، أجزت صاحبنا الفقيه المعظم، أبا عبد الله بن الخطيب وأولاده الثلاثة عبد الله، ومحمداً، وعلياً، أسعدهم الله، جميع ما يجوز لي وعني روايته، وأنشدته قولي أخاطب بعض أصحابنا:
يحييك عن بعض المنازل صاحب ... صديق غدت تهدى إليك رسايله
مقدمة حفظ الوداد وسيلة ... ولا ود إلا أن تصح وسائله
يسايل عنك الدارين ولم يكن ... تغيب لبعد الدار عنك مسايله
وكتبت له قبل هذا مما أنشدته عند قدومي على غرناطة:
يا من وجدناه لفظا ... حقيقة في المعالي
مقدمات علاكم ... أنتجن كل كمال
وكل نظم قياس ... خلوت منه فخال

وهو من لدن أزعج عن الأندلس، كما تقدم ذكره، مقيم بتلمسان، على ما كان عليه من الإقراء والتدريس.
مسلم بن سعيد التنملي

حاله

كان غير نبيه الأبوة. ظهر في دولة السلطان أمير المسلمين، ثاني الملوك من بني نصر، بمزيد كفاية، فقلده خطة الجفازة، وهي تعميم النظر في المجابي، وضم الأموال، وإيقاع النكير في محل التقصير، ومظان الريب فنمت حاله، وعظم جاهه، ورهبت سطوته، وخيف إيقاعه، وقربت من السلطان وسيلته، فتقدم الخدام، واستوعب أطراف الحظوة، واكتسب العقار، وصاهر في نبيه البيوتات، وأروث عنه أخبارا، تشهد له بالجود علو الهمة، وشرف النفس، إلى أن قضى على هذه الوتيرة.
ذكروا أن شخصاً جلب سلعة نفيسة، مما يطمع في إخفايها، حيدة عن وظيفة المغرم الباهظة، في مثل جنسه، فبينما هو يروم المحاولة، إذ بصر بنبيه المركب والبزة، ينفض في زوايا الفحص عن مثل مضطبنه، فظنه رئيساً من رؤساء الجند، فقصده ورغب منه إجازة خبيئته بباب المدينة، وقرر لتخوفه من ظلم الحافز الكذا مسلم، فأخذها منه وخبأها تحت ثيابه، ووكل به. ولم يذهب المسكين إلا يسيراً، حتى سأل عن الرجل، فأخبر أنه الذي فر عنه. فسقط قي يده. ثم تحامل فألقاه ينظره في داخل السور، فدفع إليه أمانته، وقال سر في حفظ الله، فقد عصمها الله من ذلك الرجل الظالم، فخجل الرجل، وانصرف متعجباً. وأخباره في السراوة، ونجح الوسيلة. كثيرة.
وفاتهتوفي في عام ثمانية وتسعين وستماية، وشهد أميره دفنه، وكان قد أسف ولي العهد بأمور صانعه فيها من باب خدمة والده. فكان يتلمظ لنكبته، ونصب لثاته لأكله. فعاجله الحمام قبل إيقاع نقمته به. ولما تصير إليه الأمر، نبش قبره، وأخرج شلوه، فأحرق بالنار، إغراقاً في شهوة التشفي رحمة الله عليه.
ومن العمال الأثراء
مؤمل مولى باديس بن حبوس

حاله ومحنته

قال ابن الصيرفي، وقد ذكر عبد الله بن بلقين حفيد باديس، واستشارته عن أمره، لما بلغه حركة يوسف بن تاشفين إلى خلعه. وكان في الجملة من أحبابه، رجل من عبيد جده اسمه مؤمل، وله سن، وعنده دهاء وفطنة، ورأى ونظر. وقال في موضع آخر، ولم يكن في وزراء مملكته وأحبار دولته، أصيل الرأي، جزل الكلمة، إلا ابن أبي خيثمة من كتبته، ومؤمل من عبيد جده، وجعفر من فتيانه. رجع، قال: فألطف له مؤمل في القول، وأعلمه برفق، وحسن أدب، أن ذلك غير صواب، وأشار إليه بالخروج إلى أمير المسلمين إذا قرب، والتطارح عليه، فإنه لا تمكنه مدافعته، ولا تطاق حربه، والاستجداء له. أحمد عاقبة وأيمن مغبة. وتابعه على ذلك نظراؤه، من أهل السن والحنكة ودافع في صد رأيه الغلمة والأغمار، فاستشاط غيظاً على مؤمل ومن نحا نحوه، وهم بهم، فخرجوا، وقد سل بهم فرقاً منه. فلما جنهم الليل فروا إلى لوشة، وبها من أبناء عبيد باديس قايدها، فملكوها وثاروا فيها، بدعوة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وبادر مؤمل بالخطاب إلى أمير المسلمين المذكور وقد كان سفر إليه عن سلطانه، فأعجبه عقلاً ونبلاً، فاهتز إليه، وكان أقوى الأسباب على حركته. وبادر حفيد باديس الأمر، فأشخص الجيش لنظر صهره، فتغلب علهم، وسيق مؤمل ومن كان معه شر سوق في الحديد، وأركبوا على دواب هجن، وكشفت رؤوسهم، وأردف وراء كل رجل من يصفعه. وتقدم الأمر في نصب الجذوع وإحضار الرماة. وتلطف جعفر في أمرهم. وقال للأمير عبد الله، إن قتلهم الآن، أطفأت غضبك، وأذهبت ملكك. فاستخرج المال، وأنت من وراء الانتقام، فثقفهم، وأطمعوا في أنفسهم ريثما شغله الأمر، وأنفذ إليه يوسف بن تاشفين في حل اعتقالهم، فلم تسعه مخالفته وأطلقهم. ولما ملك غرناطة على تفيئة تلك الحال، قدم مؤملاً على مستخلصه وجعل بيده مفاتيح قصره، فنال ما شاء من مال وحظوة، واقتنى ما أراد من صامت وذخيرة. ونسبت إليه بغرناطة آثار، منها السقاية بباب الفخارين والحوز المعروف بحوز مؤمل، أدركتها وهي بحالها.
وفاته

قال ابن الصيرفي، وفي ربيع الأول من هذا العام، وهو عام اثنين وتسعين وأربعماية، توفي بغرناطة مؤمل مولى باديس بن جبوس، عبد أمير المسلمين، وجابي مستخلصه وكان له دهاء وصبر، ولم يكن بقارئ ولا كاتب. رزقه الله عند أمير المسلمين، أيام حياته، منزلة لطيفة ودرجة رفيعة. ولما أشرف على المنية، أحضر ما كان عنده من مال المستخلص، وأشهد الحاضرين على دفعه إلى من استوثقه على حمله. ثم أبرأ جميع عماله وكتابه. وأنفذ رجلاً من صنايعه إلى أمير المسلمين بجملة من مال نفسه، يريه أن ذلك جميع ما اكتسبه في دولته، أيام خدمته، وأن بيت المال أولى به، ورغب في ستر أهله وولده. فلما وصل إليه، أظهر الأسف عليه، وأمضى تقديم صنيعته. ثم ذكر ما كشف البحث عنه من محتجنه، وشقاء من خلفه بسببه، وعدد مالاً وذخيرة.
حرف النون الملوك والأمراء
نصر بن عقيل الحزرجي الأنصارينصر بن محمد بن يوسف بن نصر بن أحمد بن محمد بن خميس بن عقيل الحزرجي الأنصاري أمير المسلمين بالأندلس، بعد أبيه وجده وأخيه. يكنى أبا الجيوش وقد تقدم من أولية هؤلاء الملوك ما يغنى عن الإعادة.
حالهمن كتاب طرفة العصر في أخبار الملوك من بني نصر من تصنيفنا. قال: كان فتى يملأ العيون حسناً وتمام صورة، دمث الأخلاق، لين العريكة، عفيفاً، مجبولاً على طلب الهدنة وحب الخير، مغمد السيف، قليل الشر، نافراً للبطر وإراقة الدماء، محبا في العلم وأهله، آخذاً من صناعة التعليل بحظ رغيب، يخط التقاويم الصحيحة، ويصنع الآلات الطريفة بيده، اختص في ذلك الشيخ الإمام أبا عبد الله بن الرقام، وحيد عصره. فجاء واحد دهره ظرفاً وإحكاماً. وكان حسن العهد، كثير الوفاء. حمله الوفاء على اللجاج في وزيره المطلوب بعزله، على الاستهداف للخلع.
تقدم يوم خلع أخيه، وهو يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعماية، وسنه ثلاث وعشرون سنة، فكان من تمام الخلق، وجمال الصورة، والتأنق في ملوكي اللباس، آية من آيات الله خالقه. واقتدى برسوم أبيه وأخيه، وأجرى الألقاب والعوايد لأول دوالته، وكانت أيامه كما شاء الله، أيام محس مستمر، شملت المسلمين فيها الأزمة، وأحاط بهم الذعر، وكلب العدو. وسيمر من ذالك ما فيه كفاية. وكان فتى أي فتى، لو ساعده الجد. والأمر لله من قبل ومن بعد.
وزراء دولتهوزر له مقيم أمره ومحكم التدبير على أخيه، أبو بكر عتيق بن محمد ابن المول. وبيت بني مولى بقرطبة، بيت له ذكر وأصالة. ولما تغلب عليها ابن هود، اختفى بها أبوه أياماً عدة. ولما تملكها السلطان الغالب بالله تلك البرهة، خرج إليه وصحبه إلى غرناطة، فاتصلت قرباه بعقده على بنت للرئيس أبي جعفر المعروف بالعجلب ابن عم السلطان. واشتد عضده. ثم تأكدت القربى بعقد مول أخي هذا الوزير على بنت الرئيس ألي الوليد أخت الرئيس ألي سعيد، منجب هؤلاء الملوك الكرام، فقام بأمره، واضطلع بأعباء سلطانه، إلى أن كان من تغلب أهل الدولة عليه، وإخافة سلطانه منه، ما أوجب صرفه إلى المغرب في غرض الرسالة، وأشير عليه في طريقه بإقامته بالمغرب، فكان صرفاً حسناً. وتولى الوزارة محمد بن علي بن عبد الله بن الحاد، المسير لخلعه، واجتثاث أصله وفرعه، وكان خباً داهية، أعلم الناس بأخبار الروم وسرهم وآثارهم. فحدثت بين السلطان وبين أهل حضرته الوحشة بسببه.
قضاتهأقر على خطة القضاء بحضرته قاضي أخيه الشيخ الفقيه أبا جعفر القرشي المنبز بابن فركون، وقد تقدم التعريف به مستوفى بحول الله.
كتابهشيخنا الصدر الوجيه، نسيج وحده أبو الحسن علي بن محمد بن سليمن بن الجياب إلى آخر مدته.
من كان على عهده من الملوك

بالمغرب، السلطان أبو الربيع سليمن بن عبد الله بن أبي يعقوب يوسف بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، تصير الأمر إليه بعد وفاة أخيه السلطان أبي ثابت عامر بأحواز طنجة، في صفر عام ثمانية وسبع ماية، وكان مشكوراً، مبخت الولاية. وفي دولته عادت سبتة إلى الإيالة المرينية، ثم توفي بتازى في مستهل رجب من عام عشرة وسبعماية. وتولى الملك بعده عم أبيه السلطان الجليل الكبير، خدن العافية، وولى السلامة، وممهد الدولة أبو سعيد عثمن بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق. واستمرت ولايته إلى تام أيام هذا الأمير، وكثيراً من أيام من بعده. وقد تقدم من ذكر السلطان أبي يوسف في اسم من تقدم من الملوك ما فيه كفاية.
وبتلمسان، الأمير أبو حمو موسى بن عثمن بن يغمراسن، سلطان بني عبد الواد، مذلل الصقع، والمثل الساير في الحزم والتيقظ، وصلابة الوجه، زعموا، وإحكام القحة، والإغراب في خبث السيرة. واستمرت ولايته إلى عام ثمانية عشر وسبعماية، إلى أن سطا به ولده، عبد الرحمن أبو تاشفين.
وبتونس، الأمير الخليفة أبو عبد الله محمد بن الواثق يحيى بن المستنصر محمد بن الأمير أبي زكريا بن أبي حفص. ثم توفي في ربيع الآخر عام تسع وسبع ماية. فولي الأمر قريبه الأمير أبو بكر بن عبد الرحمن ابن الأمير أبي زكريا ابن الأمير أبي إسحق بن الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص. ونهض إليه من بجاية قريبه السلطان أبو البقاء خالد ابن الأمير أبي زكريا ابن الأمير أبي إسحق ابن الأمير أبي زكريا بن عبد الواحد بن أبي حفص، فالتقيا بأرض تونس، فهزم أبو بكر، ونجا بنفسه، فدخل بستاناً لبعض أهل الخدمة، مختفياً فيه، فسعى به إلى أبي البقاء، فجيء به إليه، فأمر بعض القرابة بقتله صبراً، نفعه الله. وتم الأمر لأبي البقاء في رابع جمادى الأولى منه، إلى أن وفد الشيخ المعظم أبو يحيى زكريا الشهير باللحياني، قافلاً من بلاد المشرق، وهو كبير آل أبي حفص نسباً وقدراً، فأقام بإطرابلس، وأنقذ إلى تونس خاصته، الشيخ الفقيه أبا عبد الله المردوري محارباًلأبي البقاء، وطالباً للأمر. فتم الأمر، وخلع أبو البقاء تاسع جمادى الأولى عام أحد عشر وسبعماية. وتم الأمر للشيخ أبي يحيى، واعتقل أبو البقاء، فلم يزل معتقلاً إلى أن توفي في شوال عام ثلاثة عشر وسبعماية، ودفن بالجبانة المعروفة لهم بالزلاج، فضريحه فيما تعرفنا بإزاء ضريح قتيله المظلوم أبي بكر، لا فاصل بينهما. وعند الله تجتمع الخصوم.
واتصلت أيام الأمير أبي يحيى، إلى أن انقرضت مدة الأمير أبي الجيوش. وقد تضمن الإلماع بذلك الرجز المسمى بقطع السلوك من نظمي. فمن ذلك فيما يختص بملوك المغرب قولي في ذكر السلطان أبي يعقوب:
ثم تقضى معظم الزمان ... مواصلاً حصر بني زيان
حتى أتى أهل تلمسان الفرج ... ونشقوا من جانب اللطف الأرج
لما ترقى درج السعد درج ... فانفض ضيق الحصر عنها وانفرج
وابن ابنه وهو المسمى عامراً ... أصبح بعد ناهياً وآمراً
وكان ليثاً دامي المخالب ... تغلب الأمر بجد غالب
أباح بالسيف نفوساً عدة ... فلم تطل في الملك منه العدة
ومات حتف أنفه واخترما ... ثم سليمان عليها قدما
أبو الربيع دهره ربيع ... يثنى على سيرته الجميع
حتى إذا الملك سليمان قضى ... تصير الملك لعثمن الرضا
فلاح نور السعد فيها وأضا ... وسنى العهد الذي كان مضا
وفيما يختص ببنى زيان، بعد ذكر أبي زيان:
حتى إذا استوفى زمان سعده ... قام أبو حمو بها من بعده
وهو الذي سطا عليه ولده ... حتى انتهى على يديه أمده
وفيما يختص بآل أبي حفص بعد ذكر جملة منهم:
ثم الشهيد الأمير خالد ... هيهات ما في الدهر حي خالد
وزكريا بها بعد ثوا ... ثم نسوا الرحلة عنها والتوا
رحل بالشرق وبالشرق ثوا ... وربما فاز امرؤ بما نوا

ومن ملوك النصارى بقشتاله: هرانده بن شانجه بن ألهنشه بن هراتده بن شانجه. ونازل على عهده الجزيرة الخضراء، ثم أقلع عنها عن ضريبة وشروط، ثم نازل في أخريات أمره حصن القذاق، وأدركه ألم الموت بظاهره، فاحتمل من المحلة إلى جيان، وبقيت المحلة منيخة على الحصن، إلى أن تملك بعد موت الطاغية بأيام ثلاثة، كتموا فيها موته. ولسبب هلاكه حكاية ظريفة، تضمنتها طرفة العصر في تاريخ دولة بني نصر. وقام بعده بأمر النصرانية ولده ألهنشه، واستمرت أيامه إلى عام خمسين وسبعماية.
بعض الأحداث في أيامهنازل على أول أمره طاغية قشتالة، الجزيرة الخضراء في الحادي والعشرين من عام تسعة وسبعماية، وأقام عليها إلى أخريات شعبان من العام المذكور، وأقلع عنها بعد ظهوره على الجبل وفوز قداحه به. ونازل صاحب برجلونة مدينة ألمرية غرة ربيع الأول من هذا العام، وأخذ بمخنقها، وتفرقت الظبا على الخراش، ووقعت على جيش المسلمين الناهد إليه وقيعة كبيرة، واستمرت المطاولة إلى أخريات شعبان، ونفس الله الحصر، وفرج الكرب. وما كاد أهل الأندلس يستنشقون ريح العافية، حتى نشأ نجم الفتنة، ونشأت ريح الخلاف، واستفسد وزير الدولة ضمائر أهلها، واستهدف إلى رعيتها بإيثار النصارى والصاغية إلى العدو، وأظهر الريس ابن عم الأب صاحب مالقة أبو سعيد فرج ابن إسماعيل، صنو الغالب بالله ابن نصر، الامتساك بما كان بيده، والدعاء لنفسه، وقدم ولده الدايل إلى طلب الملك. وثار أهل غرناطة، يوم الخامس والعشرين لرمضان من العام، وأعلن منهم من أعلن بالخلاف ثم خانهم التدبير، وخبطوا العشواء، ونزل الحشم، فلاذ الناس منهم بديارهم، وبرز السلطان إلى باب القلعة، متقدماً بالعفة عن الناس، وفر الحاسرون عن القناع، فلحقوا بالسلطان أبي الوليد بمالقة، فاستنهضوه إلى الحركة، وقصد الحضرة، فأجابهم وتحرك، فأطاعته الحصون بطريقة، واحتل خارج غرناطة صبيحة يوم الخميس السابع والعشرين لشوال منه، فابتدره الناس من صايح ومشير بثوبه، ومتطارح بنفسه. فدخل البلد من ناحية ربض البيازين، واستقر بالقصبة، كما تقدم في اسمه. وفي ظهر يوم السبت التاسع والعشرين من الشهر، نزل الحمراء دار المللك، وانفصل السلطان المترجم به، موفى له شرط عقده من انتقاله إلى وادي آش، مستبداً بها، وتعيين مال مخصوص، وغير ذلك. ورحل ليلة الثلاثاء الثالث لذي قعدة من العام. واستمرت الحال، بين حرب ومهادنة، وجرت بسبب ذلك أمور صعبة إلى حين وفاته. رحمه الله.
مولدهولد في رمضان عام ستة وثمانين وست ماية. وكانت سنة ستاً وثلاثين سنة وثلاثة أشهر، ودولته الجامعة خمس سنين وشهراً واحداً، ومقامه بوادي أش تسعة أعوم وثلاثة أيام.
وفاتهتوفي رحمه الله، ليلة الأربعاء سادس ذي قعدة من عام اثنين وعشرين وسبعماية بوادي آش، ودفن بجامع القصبة منها، ثم نقل في أوايل ذي الحجة منه إلى الحضرة، فكان وصوله يوم الخميس السادس منه، وبرز إليه السلطان، والجمع الكثير من الناس، ووضع سريره بالمصلى العيدي، وصلى عليه إثر صلاة العصر، ودفن بمقبرة سلفه بالسبيكة، وكان يوماً من الأيام المشهودة، وعلى قبره مكتوب في الرخام:

هذا قبر السلطان المرفع المقدار، الكريم البيت، العظيم النجار سلالة الملوك الأعلام الأخيار، الصريح النسب في صميم الأنصار، الملك الأوحد، الذي له السلف العالي المنار، في الملك المنيع الذمار، رابع ملوك بني نصر، أنصار دين المصطفى المختار، المجاهدين في سبيل الملك الغفار، الباذلين في رضاه كرايم الأموال، ونفايس الأعمار. المعظم المقدس المرحوم، أبي الجيوش نصر ابن السلطان الأعلى الهمام الأسمى، المجاهد الأحمى، الملك العادل، الطاهر الشمايل، ناصر دين الإسلام، ومبيد عبدة الأصنام، المؤيد المنصور، المقدس، المرحوم أمير المسلمين أبي عبد الله بن السلطان الجليل. الملك الشهير، مؤسس قواعد الملك على التقوى والرضوان، وحافظ كلمة الإسلام، وناصر دين الإيمان، الغالب بالله، المنصور بفضل الله، المقدس المرحوم، أمير المسلمين أبي عبد الله بن نصر، تغمده الله برحمته وغفرانه، وبوأه منازل إحسانه، وكتبه في أهل رضوانه. وكان مولده في يوم الاثنين الرابع والعشرين لشهر رمضان المعظم عام ستة وثمانين وستماية. وبويع يوم الجمعة غرة شوال عام ثمانية وسبعماية، وتوفي رحمه الله ليلة يوم الأربعاء السادس لشهر ذي قعدة عام اثنين وعشرين وسبعماية فسبحان الملك الحق المبين، وارث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين. وفي جهة:
يا قبر جاد ثراك صوب غمام ... يهمى عليك برحمة وسلام
بوركت لحداً فيه أي وديعة ... ملك كريم من نجار كرام
ماشيت من حلم ومن خلق رضي ... وزكاه أعراق ومجد سام
فاسعد بنصر رابع الأملاك من ... أبناء نصر ناصر الإسلام
من خزرج الفخر الذين مقامهم ... في نصر خير الخلق خير مقام
يا أيها المولى المؤسس بيته ... في معدن الأحساب والأحلام
ما للمنية والشباب مساعد ... قد أقصدتك بصائبات سهام
عجلت على ذاك الجمال فغادرت ... ربع المحاسن طامس الأعلام
فمحى الردى من حسن وجهك آية ... نحو النهار لسدفة الإظلام
ما كنت إلا بدر تم باهراً ... أخنى الخسوف عليك عند تمام
فعلى ضريح أبي الجيوش تحية ... كالمسك عرفا عند فض ختام
وتغمدته رحمة الله التي ... ترضيه من عدن بدار مقام
؟ومن الأعيان والوزراء
؟

نصر بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري

يكنى أبا الفتح، أصلهم من حصن أريول من عمل مرسية، ولهم في الدولة النصرية مزية خصوا لها بأعظم رتب القيادة واستعمل بعضهم في ولاية السلطان.
؟

حاله

نقلت من خط شيخنا أب يبكر بن شبرين. قال: وفي السادس عشر لذي قعدة منه، يعني عام عشرة وسبعماية، توفي بغرناطة القايد المبارك، أبو الفتح، أحد الولاة والأعيان الذاكرين لله تعإلى، أولى النزاهة والوفاء.
؟

نصر بن إبراهيم بن نصر الفهري

؟نصر بن إبراهيم بن أبي الفتح بن نصرين إبراهيم بن نصر الفهري يكنى أبا الفتح، حفيد المذكور معه في هذا الباب
؟

حاله

من كتاب طرفة العصر: نسيج وحده في الخير والعفاف، ولين العريكة، ودماثة الأخلاق، إلى بعد الهمة، وجمال الأبهة، وضخامة التجند، واستجادة المركب والعدة، وارتباط العبادة، استعان على ذلك بالنعمة العريضة بين منادية إليه بميراث، ومكتسب من جراء المتغلب على الدولة صهره ابن المحروق معياشة لبنته. ونمت حال هذا الشهم النجد، وشمخت رتبته حتى خطب للوزارة في أخريات أيامه، وعاق عن تمام المراد به، إلحاح السقم على بدنه، وملازمة الضنا لجثمانه، فمضى لسبيله، عزيز الفقد عند الخاصة، ذائع الثنا، نقي العرض، صدراً في الولاة. وعلماً في القواد الحماة.
وفاتهتوفي بغرناطة ليلة الجمعة الثامن والعشرين لجمادى الآخرة عام خمسة وأربعين وسبعماية. وكانت جنازته أخذة نهاية الاحتفال، ركب إليها السلطان، ووقف بإزاء لحده، إلى أن وورى، تنويهاً بقدره، وإشادة ببقاء الحرمة على خلفه. وحمل سريره الجملة من فرسانه وأبناء نعمته.
ومن الكتاب والشعراء
نزهون بنت القليعي

قال ابن الأبار، وهو فيما أحسب أبو بكر محمد بن أحمد بن خلف ابن عبد الملك بن غالب الغساني، غرناطية.
حالهاكانت أديبة شاعرة، سريعة الجواب، صاحبة فكاهة ودعابة. وقد جرى شيء من ذلك في اسم أبي بكر بن قزمان، والمخزومي الأعمى. وأبي بكر بن سعيد.
شعرهادخل الأديب أبو بكر الكتندي الشاعر، وهي تقرأ على المخزومي الأعمى، فلما نظر إليها، قال أجز يا أستاذ: لو كنت تبصر من تكلمه. فأفحم المخزومي زامعاً، فقالت: لغوت أخرس من خلاخله ثم زادت:
إليه البدر يطلع من أزرته ... والغصن يمرح في غلايله
ولاخفاء ببراعة هذه الإجازة، ورفاعة هذا الأدب.
وكتب إليها أبو بكر بن سعيد، وقد بلغه أنها تخالط غيره من الأدباء الأعيان:
يا من له ألف خل ... من عاشق وعشيق
أراك خليت للنا ... س سد ذاك الطريق
فأجابته بقولها:
حللت أبا بكر محلاً منعته ... سواك وهل غير الرفيع له صدري
وإن كان لي كم من حبيب فإنما ... يقدم أهل الحق فضل أبي بكر
وهذه غاية في الحسن بعيدة. ومحاسنها شهيرة، وكانت من غرر المفاخر الغرناطية.
حرف الصاد

من الأعيان والوزراء

ذي الجوشن الضبابي الكلبي

الصميل بن حاتم بن عمر بن جذع بن شمر بن ذي الجوشن الضبابي الكلبي وهو من أشراف عرب الكوفة.
أوليتهقال صاحب الكتاب الخزايني جده أحد قتلة الحسين بن علي، الذي قام برأسه على يزيد بن معاوية. فلما قام المختار ثايراً بالحسين، فرعنه شمر، ولحق بالشام فأقام بها في عز ومنعة. ولما خرج كلثوم بن عياض غازياً إلى المغرب، كان الصميل ممن ضرب عليه البعث في أشراف أهل الشام. ودخل الأندلس فيطالعة بلج بن بشر القشيري، فشرف ببدنه إلى شرف تقدم له. ورد ابن حيان هذا، وقال في كتاب بهجة الأنفس، وروضة الأنس، كان الصميل بن حاتم هذا جده شمر قاتل الحسين رضي الله عنه، من أهل الكوفة، فلما قتله، تمكن منه المختار فقتله، وهدم داره، فارتحل ولده من الكوفة، فرأس بالأندلس، وفاق أقرانه بالنجدة والسخاء.
حالهقال، كان شجاعاً، نجداً، جواد، كريماً، إلا إنه كان رجلاً أمياً لا يقرأ ولا يكتب، وكان له في قلب الدول، وتدبير الحروب، أخبار مشهورة.
من أخباره. حكى ابن القوطية، قال، مر الصميل بمعلم يتلو " وتلك الأيام نداولها بين الناس " . فوقف يسمع، ونادى بالمعلم، يا هناه كذا نزلت هذه الآية، فقال نعم، فقال، أرى والله سيشركنا في هذا الأمر، العبيد والأراذل والسفلة.
خبره في الجود : قال، كان أبو الأجرب الشاعر، وقفاً على أمداح الصميل، وهو القايل:
بني لك حاتم بيتاً رفيعا ... رأيناه على عمد طوال
وقد كان ابتنى شمر وعمرو ... بيوتاً غير ضاحية الظلال
فأنت ابن الأكارم من معد ... تعتلج الأباطح والرمال
وقارضه بإجزاله لعطايه، وانتمائه في ثوابه، بأن أغلظ القسم على نفسه، بأن لا يراه، إلا أعطاه ما حضره، فكان أبو الأجرب قد اعتمد اجتنابه في اللقاء، حياء منه، وإبقاء على ماله، فكان لا يزوره إلا في العيدين، قاضياً لحقه. وقد لقيه يوماً مواجهة ببعض الطريق، والصميل راكب، ومعه ابناه فلم يحضره ما يعطيه، فأرجل أحد أبنية، وأعطاه دابته، فضرب في صنعه، وفيه يقول من قصيدة:
دون الصميل شريعة مورودة ... لا يستطيع لها العدو ورودا
فت الورى وجمعت أشتات العلا ... وحويت مجداً لا ينال وجودا
فإذا هلكت فلا تحمل فارس ... سيفا ولا حمل النساء وليدا
وكان صاحب أمره ولاه الأندلس قبل الأمويين، لهم الأسماء، وله معنى الإمرة، وكان مظفر الحروب، سديد الرأي، شهير الموقف، عظيم الصبر. وأوقع باليمانية وقايع كثيرة، منها وقيعة شقندة، ولم يكن بالأندلس مثلها، أثخن فيها القتل باليمانية.
أنفته قال: وكان أبياً للضيم، محامياً عن العشيرة، كلم أبا الخطار الأمير، في رجل من قومه، انتصر به، فأفجمه، ورد عليه، فأمر به، فتمتع ومالت عمامته. فلما خرج قال له بعض من على باب الأمير، يا أبا الجوشن ما بال عمامتك مايلة، فقال إن كان لي قوم فسيقيمونها، وخرج من ليلته، فأفسد ملكه.

وفاؤه وخبر وفائه مشهور، فيما كان من جوابه لرسولي عبد الرحمن ابن معاوية إليه، بما قطع به رجاء الهوادة في أمر أميره، يوسف بن عبد الرحمن الفهري، والتستر مع ذلك عليهما، فلينظر في كتاب المقتبس.
دخوله غرناطةولما صار الأمر إلى عبد الرحمن بن معاوية، صقر بني أمية، وقهر الأمير يوسف الفهري، ووزيره الصميل، إذ عزله الناس، ورجع معه يوسف الفهري والصميل إلى قرطبة. ولم يلبثا أن نكثا، ولحقا فحص غرناطة، ونازلهما الأمير عبد الرحمن بن معاوية في خبر طويل، واستنزلهما عن عهد، وعاد الجميع إلى قرطبة، وكان يوسف والصميل يركبان إلى القصر كل جمعة إلى ا، مضيا لسبيلهما. وكان عبد الرحمن بن معاوية يسترجع. ويقول ما رأيت مثله رجلاً. لقد صحبني من إلبيرة إلى قرطبة، فما مست ركبتي ركبته، ولا خرجت دابته عن دابتي.
ومن الكتاب والشعراء
صفوان بن إدريس التجيبيصفوان بن إدريس بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عيسى بن إدريس التجيبي من أهل مرسية، يكنى أبا بجر.
حالهكان أديباً، حسيباً جليلاً، أصيلاً، ممتعاً من الظرف، ريان من الأدب، حافظاً، حسن الخط، سريع البديهة، ترف النشأة، على تصاون وعفاف، جميلاً سرياً، سمحاً ذكياً، مليح العشرة، طيب النفس، ممن تساوى حظه في النظم والنثر، على تباين الناس في ذلك.
مشيختهروى عن أبيه وخاله، ابن عم أبيه القاضي أبي القاسم بن إدريس، وأبي بكر بن مغاور، وأبي الحسن بن القايم، وأبي رجال بن غلبون، وأبي عبد الله بن حميد، وأبي العباس بن مضاء، وأبي القاسم بن حبيش، وأبي محمد الحجري، وابن حوط الله، وأبي الوليد بن رشد. وأجاز له أبو القاسم ابن بشكوال.
من روى عنه: أبو إسحق اليابري، وأبو الربيع بن سالم، وأبو عبد الله ابن أبي البقاء، وأبو عمر بن سالم، ومحمد بن محمد بن عيشون.
تواليفهله تواليف أدبية منها: زاد المسافر، وكتاب الرحلة، وكتاب العجالة سفران يتضمنان من نظمه ونثره، أدباً لا كفاء له. وانفرد من تأبين الحسين رضي الله عنه، وبكاء أهل البيت. بما ظهرت عليه بركته في حكايات كثيرة.
شعرهثبت من ذلك في العجالة قوله:
جاد الزمان بأنه الجرعاء ... توقان من دمعي وغيث سماء
فالدمع يقضى عندها حق الهوى ... والغيم حق البانة الغيناء
خلت الصدور من القلوب كما خلت ... تلك المقاصر من مهي وظباء
ولقد أقول لصاحبي وإنما ... ذخر الصديق لأمجد الأشياء
يا صاحبي ولا أقل إذا أنا ... ناديت من إن تصغيا لنداء
عوجاً بحار الغيم في سقى الحما ... حتى ترى كيف انسكاب الماء
ونسن في سقي المنازل سنة ... نمضي بها حكماً على الظرفاء
يا منزلاً نشطت إليه عبرتي ... حتى تبسم زهره لبكاء
ما كنت قبل مزار ربعك عالما ... أن المدامع أصدق الأنواء
يا ليت شعري والزمان تنقل ... والدهر ناسخ سدة برخاء
هل نلتقي في روضة موشية ... خفاقة الأغصان والأفياء
وننال فيها من تألفنا ولو ... ما فيه سخمة أعين الرقباء
في حيث أتلعت الغصون سوالفاً ... قد قلدت بلآلي الأنداء
وجرت ثغور الياسمين فقبلت ... عيني عذار الآسة الميساء
والورد في شط الخليج كأنه ... رمد ألم بمقلة زرقاء
وكأن غصن الزهر في خضر الربى ... زهر النجوم تلوح بالخضراء
وكأنما جاء النسيم مبشراً ... للروض يخبره بطول بقاء
فكساه خلعة طيبه ورمى له ... بدراهم الأزهار رمي سخاء
وكأنما احتقر الصنيع فبادرت ... بالعذر عنه نغمة الورقاء
والغصن يرقص في حلى أوراقه ... كالخود في موشية خضراء
وافتر ثغر الأقحوان بما رأى ... طرباً وقهقه منه جري الماء

أفديه من أنس تصرم فانقض ... فكأنه قد كان في الإغفاء
لم يبق منه غير ذكر أو منى ... وكلاهما سبب لطول عناء
أو رقعة من صاحب هي تحفة ... إن الرقاع لتحفة النبهاء
كبطاقة الوسمي إذ حيا بها ... إن الكتاب تحية الظرفاء
وهي طويلة. وقال مراجعاً عن كتاب أيضاً:
ألا سمح الزمان به كتابا ... ذرى بوروده أنسى قبابا
فلا أدري أكان تحت وعد ... دعا بهما لبرئي فاستجابا
وقد ظفرت يدي بالغنم منه ... فليت الدهر سني لي إيابا
فلو لم أستفد شيئاً سواه ... قنعت يمثله علقاً لبابا
إذا أحرزت هذا في اغترابي ... فدعني بمثله علقاً لبابا
رجمت بأنه شيطان همي ... فهل وجهت طرساً أم شهابا
رشقت به رضاب الود عذباً ... يذكرني شمايلك العذابا
وكدت أجر أذيالي نشاطاً ... ولكن خلت قولهم تصابا
فضضت ختامه عنى كأني ... فتحت بفضه للروض بابا
فكدت أبثه في جفن عيني ... لكي أستودع الزهر السحابا
وكنت أصونه في القلب لكن ... خشيت عليه أن يفنى التهابا
ولو أن الليالي سامحتني ... لكنت على كتابكم الجوابا
فأبلى عندكم بالشكر عذرا ... وأجزل من ثنايكم الثوابا
ولكن الليالي قيدتني ... وقيدت غرضي إلا الخطايا
فما تلقاني الأحباب إلا ... سلاماً أو مناما أو كتابا
لأمر ما يقص الدهر رشي ... لأن السهم مهما ريش صابا
وعاذلة تقول ولست أصغي ... ولو أصغيت لم أرفع جوابا
تخوفني الدواهي وهي عندي ... أقل من أن أضيق بها جنابا
إذا طرقت أعد لها قراها ... وقاراً واحتساباً واصطبارا
وما مثلي يخوف بالدواهي ... عرين الليث لا يخشى الذبابا
تعاتبني فلا يرتد طرفي ... وهل تسترقص الريح الهضابا
ولو أن العتاب يفيد شيئاً ... ملأت مسامع الدنيا عتابا
وقد وصيتها بالصمت عني ... فما صمتت ولا قالت صوابا
تعنفني على تركي بلاداً ... عهدت بها القرارة والشبابا
تقول وهل يفل السيف إلا ... إذا ما فارق السيف القرابا
فقلت وهل يضر السيف فل ... إذا قط الجماجم والرقبا
بخوض الهول تكتسب المعالي ... يحل السهل من ركب الصعاب
فليت الغاب يفترس الأناسي ... وليث البيت يفترس الذبابا
ولو كان انقضاض الطير سهلاً ... لكانت كل طائرة عقابا
دعيني والنهار أسير فيه ... أسير عزايم تفرى الصلابا
أغازل من غزالته فتاة ... تبيض فودها هرماً وشبابا
إذا شاءت مواصلتي تجلت ... وإن ملت توارت لي احتجابا
وأسري الليل لا ألوي عنانا ... ولو نيل الأماني لما أصابا
أطارح من كواكبه كماما ... وأزجر من دجنته غرابا
وأركب شهباً غيراً كباعي ... وخضراً مثل خاطري انسيابا
وآخذ من بنات الدهر حقي ... جهاز البيت استلب استلابا
ولست أذيل بالمدح القوافي ... ولا أرضى بخطتها اكتسابا
أأمدح من به أهجو مديحي ... إذا طيبت بالمسك الكلاما
سأخزنها عن الأسماع حتى ... أرد الصمت بينهما حجابا
فلست بمادح ما عشت إلا ... سيوفاً أو جياداً أو صحابا
أبا موسى وإني أخى وداد ... أناجي لو سمعت إذا أجابا
ولكن دون ذلك مهمة لو ... طوته الريح لم ترج الإيابا
أخى بر المودة كل بر ... إذا بر الأشقة الانتسابا

بعثت إليك من نظمى بدر ... شققت عليه من فكري عبابا
عداني الدهر إن يلقاك شخصي ... فأغني الشعر عن شخصي ونابا
وقال في الغرض الذي نظم فيه الرصافي من وصف بلده، وذكر إخوانه ومعاهده، مساجلاً في العروض والروى، عقب رسالة سماها رسالة طراد الجياد في الميدان، وتنازع اللدان والإخوان، في تنفيق مرسية على غيرها من البلدان.
هل رسول البرق يغتنم الأجرا ... فينشر عني ماء غيرته نثراً
معاملة أربو بها غير مذنب ... فأقضيه دمع العين من نقطة بحراً
ليسقني من تدمير قطرا محبباً ... يقر بعين القطر أن تشرب القطرا
ويقرضه ذوب اللجين وإنما ... توفيه عيني من مدامعها تبرا
وما ذاك تقصيراً بها غير أنه ... سجية ماء البحر أن يذوي الزهرا
خليلي قوما فأحبسا طرق الصبا ... مخافة أن تحمى بزفرتي الحرا
فإن الصبا ريح على كريمة ... بآية ما تسري من الجنة الصغرا
خليلي أعني أرض مرسية المنا ... ولولا توخي الصدق سميتها الكبرا
محلي بل جوى الذي عبقت به ... نواسم آدابي معطرة نشرا
ووكري الذي منه درجت فليتني ... فجعت بريش العزم كي ألزم الوكرا
وما روضة الخضراء قد شلت بها ... مجرتها نهراً وأنجمها زهرا
بأبهج منها والخليج مجرة ... وقد فضحت أزهار ساحتها الزهرا
وقد أسكرت أزهار أغصانها الصبا ... وما كنت أعتد الصبا قبلها خمرا
هنالك بين الغصن والقطر والصبا ... وزهر الربى ولدت آدابي الغرا
إذا نظم الغصن الحيا قال خاطري ... تعلم نظام النثر من ها هنا شعرا
وإن نثرت ريح الصبا زهر الربى ... تعلمت حل الشعر أسبكه نثرا
فوايد أسحار هناك اقتبستها ... ولم أر روضاً غيره يقررئ السحرا
كأن هزيز الريح يمدح روضها ... فتملأ فاه من أزاهرها دراً
أيارنقات الحسن هل فيك نظرة ... من الجرف الأعلى إلى السكة الغرا
فأنظر من هذي لتلك كأنما ... أغير إذ غازلتها أختها الأخرا
هي الكاعب الحسناء تمم حسنها ... وقدت لها أوراقها حللاً خضرا
إذا خطبت أعطت دراهم زهرها ... وما عادة الحسناء أن تنقد المهرا
وقامت بعرس الأنس قينة أيكة أغاريدها تسترقص الغصن النضرا
فقل في خليج يلبس الحوت درعه ... ولكنه لا يستطيع بها قصرا
إذا ما بدا فيها الهلال رأيته ... كصفحة سيف وسمها قبعة صضرا
وإن لاح فيها البدر شبهت متنه ... بسطر لجين ضم من ذهب عشرا
وفي جرفي روض هناك تجافيا ... لنهر يود الأفق لو زاره فجرا
كأنهما خلا صفاء تعاتبا ... وقد بكيا من رقة ذلك النهرا
وكم لي بالباب الجديد عشية ... من الأنس ما فيه سوى أنه مرا
عشيات كأن الدهر غص بحسنها ... فأجلت سياط البرق أفراسها الشقرا
عليهن أجرى خليل دمعي بوجنتي ... إذا ركبت حمراً ميادينها الصفرا
أعهدي بالغرس المنعم دوحه ... سقتك دموعي إنها مزنة شكرا
فكم فيك من يوم أغر محجل ... تقضت أمانيه مخلدتها ذكرا
على مذنب كالنحر من فرط حسنه ... تود الثريا أن تكون له نحرا
سقت أدمعي والقطر أيهما انبرى ... نقا الرملة البيضاء فالنهر فالجسرا
وإخوان صدق لو قضيت حقوقهم ... لما فارقت عيني وجوههم الزهرا
ولو كنت أقضي حق نفسي ولم أكن ... لما بت أستحلي فراقهم المرا

وما اخترت هذا البعد إلا ضروة ... وهل تستجير العين أن تفقد الشقرا
قضى الله أن ينأى بي الدهر عنهم ... أراد بذاك الله أن أعتب الدهرا
ووالله لو نلت المنا ما حمدتها ... وما عادة المشغوف أن يحمد الهجرا
أيانس باللذات قلبي ودونهم ... مرام يجد الركب في طيها شهرا
ويصحب هادي الليل راء وحرفة ... وصاداً ونوناً قد تقوس واصفرا
فديتهم بانوا وضنوا بكتبهم ... فلا خبراً منهم لقيت ولا خبرا
ولولا علا هماتهم لعتبتهم ... ولكن عراب الخيل لا تحمل الزجرا
ضربت غبار البيد في مهرق السرى ... بحيث جعلت الليل في ضربه حبرا
وحققت ذاك الضرب جمعاً وعدة ... وطرحاً وتجميلاً فأخرج لي صفرا
كأن زماني حاسب متعسف ... يطارحني كسراً أما يحسن الجبرا
فكم عارف بي وهو يحسب رتبتي ... فيمدحني سراً ويشتمني جهرا
لذلك ما أعطيت نفسي حقها ... وقلت لسرب الشعر لا تهم الفكرا
فما برحت فكري عذاري قصايدي ... ومن خلق العذراء أن تألف الخدرا
ولست وإن طاشت سهامي بايس ... فإن مع العذر الذي يتقى يسرا
ومن مقطوعاته:
يا قمرا مطلعه أضلعى ... له سواد القلب منها غسق
وربما استوقد نار الهوى ... فناب فيها لوتها عن شفق
ملكتني في دولة من صبا ... وصدتني في شرك من حدق
عندي من حبيبك ما لو سرت ... في البحر منه شعلة لاحترق
ومن مقطوعاته أيضاً:
قد كان لي قلب فلما فارقوا ... سوى جناحاً للغرام وطارا
وجرت سحاب بالدموع فأوقدت ... بين الجوانح لوعة وأوارا
ومن العجايب أن فيض مدامعي ... ماء ويقمر في ضلوعي نارا
وشعره الرمل والقطر كثرة، فلنختم له المقطوعات بقوله:
قالوا وقد طال بي مدى خطئ ... ولم أزل في تجرمي ساه
أعددت شيئاً نرجو النجاة به ... فقلت أعددت رحمة الله
نثرهكتب يهني، قاضي الجماعة أبا القاسم بن بقي من رسالة: لأن قدره، دام عمره، وامتثل نهيه الشرعي وأمره، أعلى رتبة، وأكرم محلاً، من أن يتحلى بخطة هي به تتحلى. كيف يهنأ بالقعود لسماع دعوة الباطل، ولمعاناة الإنصاف الممطول من الماطل، والتعب في المعادلة، بين ذوي المجادلة. أما لو علم المتشوقون إلى خطة الأحكام، المستشرقون إلى ما لها من التبسط والاحتكام، ما يجب لها من اللوازم، والشروط الجوازم، كبسط الكنف، ورفع الجنف، والمساواة بين العدو وذي الذنب، والصاحب بالجنب، وتقديم ابن السبيل، على ذي الرحم والقبيل، وإيثار الغريب على القريب، والتوسع في الأخلاق، حتى لمن ليس له من خلاق، إلى غير ذلك مما علم قاضي الجماعة أحصاه، واستعمل لخلقه الفاضل أدناه وأقصاه، لجعلوا خمولهم ما مولهم، وأضربوا عن ظهورهم، فنبذوه وراء ظهورهم، اللهم إلا من أوتى بسطة في العلم، ورسا طوداً في ساحة الحلم، وتساوى ميزانه في الحرب والسلم، وكان كقاضي الجماعة، في المماثلة بين أجناس الناس، فقصاراه أن يتقلد الأحكام للأجر، لا المتعسف والزجر، ويتولاها للثواب. لا للغلظة في رد الجواب، ويأخذها لحسن الجزاء، لا لقبح الاستهزاء، ويلتزمها لجزيل الذخر لا للإزراء والسخر. فإذا كان كذلك، وسلك المولي هذا السالك، وكان كقاضي الجماعة ولا مثل له، ونفع الحق به علله، ونقع غلله، فيومئذ تهنأ به خطة القضاء، ويعرف ما لله عليه من اليد البيضاء.
ومحاسنه في النثر أيضاً جمة.

ومن أخباره أنه رحل إلى مراكش متسبباً في جهاز بنت بلغت التزويج، وقصد دار الإمارة مادحاً، فما تيسر له شيء من أمله، ففكر في خيبة قصده، وقال لو كنت تأملت جهة الله، ومدحت المصطفى صلى الله عليه وسلم، وآل بيته الطاهرين، لبلغت أملي بمحمود عملي. ثم استغفر الله في توجهه الأول، وعلم أن ليس على غير الثاني من معول، فلم يكن إلا أن صوب نحو هذا القصد سهمه، وأمضى فيه عزمه، وإذا به قد وجه عنه، وأدخل على الخليفة، فسأله عن مقصده. فأخبره مفصحاً به فأنفذه وزاده عليه، وأخبره أن ذلك لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم بأمره بقضاء حاجته. فانفصل موفي الأغراض، واستمر في مدح أهل البيت حتى اشتهر في ذلك.
وفاتهسنة ثمان وتسعين وخمسماية، وسنه دون الأربعين سنة، وصلى عليه أبوه، فإنه كان بمكان من الدين والفضل رحمة الله عليه، وتلقيت من جهات، أنه دخل غرناطة، لما امتدح القايد أبا عبد الله بن صناديد بمدينة جيان، حسبما يظهر من عجالته، من غير تحقيق لذلك.
صالح بن يزيد بن صالح بن موسى بن أبي القاسم

ابن علي بن شريف النفري

من أهل رندة، يكنى أبا الطيب.
حالهقال ابن الزبير، شاعر مجيد في المدح والغزل، وغير ذلك. وعنده مشاركة في الحساب والفرايض. نظم في ذلك. وله تواليف أدبية، وقصايد زهدية، وجزء على حديث جبريل عليه السلام، وغير ذلك مما روى عنه. وكان في الجملة معدوداً في أهل الخير، وذوي الفضل والدين. تكر لقائي إياه، وقد أقام بمالقة أشهراً، أيام إقراءي. وكان لا يفارق مجالس إقراءي، وأنشدني كثيراً من شعره.
وقال ابن عبد الملك، كان خاتمة الأدباء بالأندلس، بارع التصرف في منظوم الكلام ومنثوره، فقيهاً حافظاً، فرضيا، متفنناً في معارف شتى، نبيل المقاصد، متواضعاً، مقتصداً في أحواله. وله مقامات بديعة في أغراض شتى، وكلامه نظما ونثرا، مدون.
مشيختهروى عن آباء الحسن أبيه، والدباج، وابن الفخار الشريشي، وابن قطرال، وأبي الحسن بن زرقون، وأبي القاسم بن الجد.
تواليفهألف جزءا على حديث جبريل، وتصنيفاً في الفرايض وأعمالها، وآخر في العروض، وآخر في صنعة الشعر سماه الوافي في علم القوافي وله كتاب كبير سماه روضة الأنس، ونزهة النفس.
دخوله غرناطةوكان كثير الوفاد على غرناطة، والترد إليها، يسترفد، ملوكها، وينشد أمراءها، والقصيدة التي أولها:
أواصلتي يوماً وهاجرتي ألفاً
أخبرني شيخنا أبو عبد الله اللوشي، أنه نظمها باقتراح السلطان رحمه الله. وقد أوعز إليه ألا يخرج عن بعض بساتين الملك، حتى يكملها في معاضة محمد بن هاني الإلبيري.
شعرهوهو كثير، سهل المأخذ، عذب اللفظ، رايق المعنى، غير مؤثر للجزالة. فمن ذلك قوله رحمه الله في غرض المدح من السلطانيات:
سرى والحب أمر لا يرام ... وقد أغرى به الشوق والغرام
وأغفى أهلها إلا وشاة ... إذا نام الحوادث لا تنام
وما أخفا بين القوم إلا ضناً ... وربما نفع السقام
فنال بها على قدر مناه ... وبين القبض والبسط القوام
وأشهى الوصل ما كان اختلاسا ... وخير الحب ما فيه اختتام
وما أحلى الوصال لو أن شيئاً ... من الدنيا للذته دوام
بكيت من الفراق بغير أرضي ... وقد يبكي الغريب المستهام
أعاذلتي وقد فارقت إلفي ... أمثلى في صبابته يلام
أأفقده فلا أبكي عليه ... يكون أرق من قلبي الحمام
أأنساه فأحبه كصبري ... وهل ينسى لمحبوب ذمام
رويداً إن بعض اللوم لوم ... ومثلي لا ينهنهه الملام
ويوم نوى وضعت الكف فيه ... على قلب يطير به الهيام
ولولا أن سفحت به جفوناً ... تفيض دماً لأحرقها الضرام
وليل بته كالدهر طولاً ... تنكر لي وعرفه التمام
كأن سماه زهر تجلى ... بزهر الزهر والشوق الكمام
كأن البدر تحت الغيم وجه ... عليه من ملاحه لثام

كأن الكوكب الدري كأس ... وقد رق الزجاجة والمدام
كأن سطور أفلاك الدراري ... قسي والرجوم لها سهام
كأن مدار قطب بنات نعش ... ندي والنجوم به ندام
كأن بناته الكبرى جوار ... حوار والسهى فيها غلام
كأن بناته الصغرى جمان ... على لباتها منها نظام
كواكب بت أرعاهن حتى ... كأني عاشق وهي الذمام
إلي أن مزقت كسف الثريا ... جيوب الأفق وانجاب الظلام
فما خلت انصداع الفجر إلا ... قراباً ينتضي مسنه حام
وما شبهت وجه الشمس إلا ... بوجهك أيها الملك الهمام
وإن شبهته بالبدر يوماً ... فللبدر الملاحة والتمام
تهلل منه حسن الدهر حتى ... كأنك في محياه ابتسام
وعرف ما تنكر من معال ... كأنك لاسمها ألف ولام
ومل العين منك جلال مولى ... صنائعه كغرته وسام
إذا ما قيل في يده غمام ... فقد بخست وقد خدع الغمام
وحشو الدرع أروع غالبي ... يراع بذكره الجيش اللهام
إذا ما سل سيف العزم يوما ... على أمر فسلم يا سلام
تناهى مجده كرماً وبأساً ... فما يدري أمحياً أم حمام
نمته للمكارم والمعالي ... سراة من بني نصر كرام
هم الأنصار هم نصروا وآووا ... ولولا المسك ما طاب الختام
وهم قادوا الجيوش لك فتح ... ولولا الجد ما قطع الحسام
وهم منحوا الجزيرة من حماهم ... جواراً لا يذم ولا يضام
فمن حرب تشيب له النواصي ... وسلم تحيته سلام
بسعدك يا محمد عز دين ... وغب السلم نصر مستدام
وكان مرامه صعباً ولكن ... بحمد الله قد سهل المرام
أدام الله أمرك من أمير ... وما للعروة الوثقى انفصام
وروح أنت والجسم المعالي ... ومعنى أنت وللفظ الأنام
إذا ما ضاقت الدنيا بحر ... كفاه لثم كفك والسلام
ومن شعره أيضاً:
أواصلتي يوماً وهاجرتي ألفاً ... وصالك ما أحلى وهجرك ما أجفا
ومن عجب للطيف أن جاء واهتدى ... فعاد عليلاً عاد كالطيف أم أخفا
فيا سايراً لولا التخيل ما سرى ... ويا شاهداً لولا التعلل ما أغفا
ألم فأحياني وولي فراعني ... ولم أرى أجفى منك طبعاً ولا أشفا
بعيني شكواي للغرام وتيهه ... إلى أن تثنى عطفه فانثني عطافا
فعانقته شوقاً وقبلته هوى ... ولا قبلة تكفي ولا لوعة تطفا
ومن نزعاته العجيبة قوله، وقد سبق إلى غرضه غيره:
يا طلعة الشمس إلا إنه قمر ... أما هواك فلا يبقى ولا يذر
كيف التخلص من عينيك لي ومتى ... وفيهما القاتلان الغنج والحور
وكيف يسلى فؤادي عن صبابته ... ولو نهى الناهيان الشيب والكبر
أنت المنا والمنايا فيك قد جمعت ... وعندك الحالتان النفع والضرر
ولي من الشوق ما لا دواء له ... ومنك لي الشافيان القرب والنظر
وفي وصالك ما أبقى به رمقي ... لو ساعد المسعدان الذكر والقدر
وكان طيف خيال منك يقنعني ... لو يذهب المانعان الدمع والسهر
يا نابياً لم يكن إلا ليملكني ... من بعده المهلكان الغم والغير
ما غبت إلا وغاب الجنس أجمعه ... واستوحش المؤنسان السمع والبصر
بما تكن ضلوعي في هواك بمن ... يعنو له الساجدان النجم والشجر
إدرك بقية نفس لست مدركها ... إذا مضى الهاديان العين والأثر

ودل حيرة مهجور بلا سبب ... يبكي له القاسيان الدهر والحجر
وإن أبيت فلي من ليس يسلمني ... إذا نبا المذهبان الورد والصدر
مؤيداً لملك بالآراء يحكمها ... في ضمنها المبهجان اليمن والظفر
من كالأمير أبى عبد الآله إذا ما ... خانت القدمان البيض والسمر
الواهب الخيل آلافا وفارسها ... إذا استوى المهطعان الصر والصبر
والمشبه الليث في بأس وفي خطر ... ونعمت الحليتان البأس والخفر
تأمن الناس في أيامه ومشوا ... كما مشى الصاحبان الشاة والنمر
وزال ما كان من خوف ومن حذر ... فما ير الدايلان الخوف والحذر
رأيت منه الذي كنت أسمعه ... وحبذا الطيبان الخبر والخبر
ما شيت من شيم عليا ومن شيم ... كأنها الرايقان الظل والزهر
ومنا أردت من إحسان ومن كرم ... ينسى به الأجودان البحر والمطر
وغرة يتلألأ من سماحتها ... كأنها النهران الشمس والقمر
إيه فلولا دواع من محبته ... لم يسهل الأصعبان البين والخطر
نأيت عنه اضطرارا ثم عدت له ... كما اقتضى المبرمان الحل والسفر
فإن قضى الله أن يقضي به أملي ... فحسبي المحسبان الظل والثمر
ولست أبعد إذ والحال متسع ... أن يبلغ الغايبان السؤل والوطر
ومن شعره في أغراض متعددة. قال في الليل والسهر:
أطال ليلى الكمد ... فالدهر عندي سرمد
وما أظن أنه لليلة الهجر غد
أقد هنياً إنني ... لا أستطيع أرقد
لواعج ما تنطفي ... وأدمع تضطرد
وكبدي كبد الهوى ... وأين مني الكبد
ولا تسل عن جلدي ... والله مالي جلد
ومن شعره أيضاً في المقطوعات:
وليلة قصر من طولها ... بزورة من رشاً نافر
أستوفر الدهر بها غالطاً ... فأدغم الأول والآخر
وقال من قصيدة مغربة في الإحسان:
وليلة نبهت أجفانها ... والفجر قد فجر نهر النهار
والليل كالمهزوم في يوم الوغا ... والشهب مثل الشهب عند الفرار
كأنما استخفى السهى خيفة ... وطولب النجم بثأر فثار
لذاك ما شابت نواصي الدجى ... وطارح النسر أخاه فطار
وفي الثريا قمر سافر ... عن غرة غير منها الشفار
كأن عنقوداً بها ماثل ... إذ صار كالعرجون عند السرار
كأنها تسبك ديناره ... وكفها تفتل منه سوار
كأنما الظلماء مظلومة ... تحكم الفجر عليها فجار
كأنما الصبح لمشتاقه ... إقبال دنيا بعد ذل افتقار
كأنما الشمس وقد أشرقت ... وجه أبي عبد الآله استنار
وفي وصف البحر والأنهار وما في معنى ذلك:
البحر أعظم مما أنت تحسبه ... من لم ير البحر يوما ما رأى عجبا
طام له حبب طاف على زورق ... مثل السماء إذا ما ملئت شهبا
وقال في وصف نهر:
وأزرق محفوف بزهر كأنه ... نجوم بأكناف المجرة تزهر
يسيل على مثل الجمان مسلسلا ... كما سل عن غمد حسام مجوهر
وقد صافح الأدواح من صفحاته ... حتى حباب بالنسيم مكسر
فما كان في عطف الخليج قلامة ... وما كان في وجه الغدير فمغفر
وفي العقل والتغرب:
ما أحسن العقل وآثاره ... لو لازم الإنسان إيثاره
يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصونه الحر أسراره
لا سيما إن كان في غربة ... يحتاج أن يعرف مقداره
ومن وصفه الجيش والسلاح:
وكتيبة بالدرعين كثيفة ... جرت ذيول الجحفل الجرار

وروض المنايا بينها القضب التي ... زفت بها الرايات كالأزهار
فيها الكماة بنو الكماة كأنها ... أسد الشرى بين القنا الخطار
متهللين لدى اللقاء كأنهم ... خلقت وجوههم من الأقمار
من كل ليث فوق برق خاطف ... بيمينه قدر من الأقدار
من كل ماض قد تقلد مثله ... فيصب آجالاً على الأعمار
لبسوا القلوب على الدروع وأسرعوا لأكفهم ناراً لأهل النار
وتقدموا ولهم على أعدايهم ... حنق العدا وحمية الأنصار
فارتاع ناقوس بخلع لسابه ... وبكى الصليب لذلة الكفار
ثم انثنوا عنه وعن عباده ... وقد أصبحو خيراً من الأخبار
وفي السيف:
وأبيض صيغ من ماء ومن لهب ... على اعتدال فلم يخمد ولم يسل
ماضي الغرار يهاب العمر صولته ... كأنما هو مطبوع من الأجل
أبهى من الوصل بعد الهجر منظره ... حسناً وأقطع من دين على مال
وأسمر ظن ما كل سابغة فخاض كالأيم يستشفى من النهل
هام الكماة به حباً ولا عجب ... من لوعة بمليح القد معتدل
إذا الطعين تلقاه وأرعفه ... حسبته عاشقاً يبكي على طلل
ومن ذلك قوله في وصف قوس:
تنكبها كحاجبه وسوى ... بأهداف الجفون لها نبالا
فلم أر قبله بدراً منيرا ... تحمل فوق عاتقه هلالا
ومن ذلك وصف قلم:
وأصفر كالصب في رونق ... تظن به الحب ممن نحل
بديع الصفات حديد السبات ... يطول الرماح وإن لم يطل
يعبر عما وراء الضمير ... ويفعل ما فعل الظبا والذبل
ومن ذلك قوله فيما يظهر منها:
تفاخر السيف فيما قيل والقلم ... والفصل بينهما لا شك من فهم
كلاهما شرف الله درهما ... وحبذ الخطتان الحكم والحكم
ومن ذلك قوله في سكين الدواة:
أنا صمصامة الكتابة مالي ... من شبيه في المرهفات الرقاق
فكأني في الحسن يوم وصال ... وكأني في القطع يوم فراق
ومن ذلك قوله في المقص:
ومعتنقين ما اشتهرا بعشق ... وإن وصفا بضم واعتناق
لعمر أبيك ما اعتنقا لمعنى ... سوى معنى القطيعة والفراق
ومن ذلك قوله في الورد:
الورد سلطان كل زهر ... لو إنه دايم الورود
بعد خدود الملاح شيء ... ما أشبه الورد بالخدود
ومن ذلك قوله في الخيري:
وأزرق كمثل السماء ... فيه لمن ينظر سر عجيب
شح مع الصبح بأنفاسه ... كأنما الصبح عليه رقيب
وباح بالليل بأسراره ... لما رأى الليل نهار الأريب
ومن ذلك قوله في الريحان:
وأخضر فستقي اللون غض ... يروق بحسن منظره العيونا
أغار على الترنج وقد حكاه ... وزاد على اسمه ألفاً ونونا
وقال من جملة قصايده المطولات، التي تفنن فيها رحمه الله:
وغانية يغنى عن العود صوتها ... وجارية تسقى وساقية تجري
بحيث يجر النهر ذيل مجرة ... يرف على حافاتها الزهر كالزهر
وقد هزت الأرواح خصر كتايب ... بألوية بيض على أسل سمر
رمى قزح نبلاً إليها فجردت ... سيوف سواقيها على دارع النهر
وهبت صبا نجد فجرت غلايلا ... تجفف دمع الطل عن وجنة الزهر
كأن بصفح الروض وشى صحيفة ... وكالألفات القضب والطرس كالتبر
كأن به الأقحوان خواتما ... مفضضة فيها فصوص من التبر
كأن به النرجس الغض أعيا ... ترقرق في أجفانها أدمع القطر
كأن شذا الخيري زورة عاشق ... يرى أن جنح الليل أكتم للسرر
وقال في وصف الرمان:
لله رمانة قد راق منظرها ... فمثلها ببديع الحسن منعوت
القشر حق لها قد ضم داخله ... والشحم قطن والحب ياقوت

أنظر إلى جذر في اللون مختلف ... البعض من سج والبعض من ذهب
ومن ذلك قوله في الجزر:
إن قلت قصب فقل قصب بلا ... زهر أو قلت شمع فقل شمع بلا لهب
وفي الاغتراب وما يتعلق به مما يقرب من المطولات:
غريب كما يلقى غريب ... فلا وطن لديه ولا حبيب
تذكر أصله فبكى اشتياقا ... وليس غريباً أن يبكي غريب
ومما هاج أشواقي حديث ... جرى فجرى له الدمع السكوب
ذكرت به الشباب فشق قلبي ... ألم تر كيف تنشق القلوب
على زمن الصبا فليبك ومثلي ... فما زمن الصبا إلا عجيب
جهلت شبيبتي حتى تولت ... وقدر الشيء يعرف إذ يغيب
ألا ذكر الآله بكل خير ... بلاداً لا يضيع بها أديب
بلاد ماؤها عذب زلال ... وريح هوائها مسك رطيب
بها قلبى الذي قلبى المعنى ... يكاد من الحنين له يذوب
رزقت الصبر بلين أبي وأمي ... كلانا بعد صاحبه كئيب
ألا فتوخ بعدى من أؤاخي ... ودع ما لا يريب لما يريب
ولا تحكم بأول ما تراه ... فإن الفجر أوله كذوب
إلا إنا خلقنا في زمان ... يشيب بهوله من لا يشيب
وقد لذ الحمام وطاب عندي ... وعيشي لا يلذ ولا يطيب
لحى الله الضرورة فهي بلوى ... تهين الحر والبلوى ضروب
رأيت المال يستر كل عيب ... ولا تخفى مع الفقر العيوب
وفقد المال في التحقيق عندي ... كفقد الروح ذا من ذا قريب
وقد أجهدت نفسي في اجتهاد ... وما أن كل مجتهد مصيب
وقد تجري الأمور على قياس ... ولو تجري لعاش بها اللبيب
كأن العقل للدنيا عدو ... فما يقضي بها أرباً أريب
إذا لم يرزق الإنسان بختاً ... فما حسناته إلا ذنوب
ومن نسيبه قوله في بادرة من حمام:
برزت من الحمام تمسح وجهها ... عن مثل ماء الورد بالعناب
والماء يقطر من ذوائب شعرها ... كالطل يسقط من جناح غراب
فكأنها الشمس المنيرة في الضحى ... طلعت علينا من خلال سحاب
ومن مقطوعاته أيضاً قوله:
ومتيم لو كان صور نفسه ... ما زادها شيئاً سوى الإشفاق
ما كان يرضى بالصدود وإنما ... كثرت عليه مسائل العشاق
وقال:
وافي وقد زانه جمال ... فيه لعشاقه اعتذار
ثلاثة ما لها مثال ... الوجه والخد والعذار
فمن رآه رأى رياضا ... الورد والآس والبهار
ومن ذلك قوله في ذم إخوة السوء:
ليس لإخوة باللسان أخوة ... فإذا تراد أخوتي لا تنفع
لا أنت في الدنيا تفرج كربه ... عني ولا يوم القيامة تشفع
وقال كذلك:
ولقد عرفت الدهر حين خبرته ... وبلوت بالحاجات أهل زمان
فإذا الأخوة باللسان كثيرة ... وإذا الدراهم ميلق الإخوان
من ذلك قوله في الصبر:
الدهر لا يبقى على حاله ... لكنه يقبل أو يدبر
فإن تلقاك بمكروهه ... فاصبر فإن الدهر لا يصبر
ومن ذلك قوله في الموت:
الموت سر الله في خلقه ... وحكمة دلت على قهره
ما أصعب الموت وما بعده ... لو فكر الإنسان في أمره
أيام طاعات الفتى وحدها ... هي التي تحسب من عمره
لا تلهك الدنيا ولذاتها ... عن نهي مولاك ولا أمره
وأنظر إلى من ملك الأرض هل ... صح له منها سوى قبره
نثرهقال في كتاب روضة الأنس ما نصه:

ويتعلقبهذا الباب، ما خاطبني به الفقيه الكاتب الجليل، أبو بكر البرذعي من أهل بلدنا، أعزه الله: أخبرك بعجاب، إذ لا سر دونك ولا حجاب، بعد أن أتقدم إليك أن لا تجعل باللوم إلى قبل علم ما لدي، فإن الدهر أخدع من كفة الحابل، وقلب الإنسان للآفات قابل. مشيت يوماً إلى سوق الرقيق، لأخذ حق فؤاد عتيق، فرأيت بها جارية عسجدية اللون، حديثة عهد بالصون، متمايلة القد، قايمة النهد، بلحظ قد أوتى من السحر أوفر حظ، وفم كشرطة رشحت بدم، داخله سمطان لولاهما ما عرف النظم، ولا حكم على الدر للعظم، في صدغها لامان، ما خط شكلهما قلم، ولا قص مثلهما حلم. لها جيد تتمناه الغيد، وخصر هو قبضة الكف في الحصرر، وردف يظلمه من يشبه به بالحقف، ويدان خلقا للوشي، وقدمان أهلتا للثم لا للمشي، فتطاولت إليها الأعناق، وبذلت فيها الأعلاق، والمياسير عليها مغرم في القوم، وتسوم أهل السوم، وكل فيها يزيد، ليبلغ ما يريد، إلى أن جاء فتى صادق في حبه، لا يبالي بفساد ماله في صلاح قلبه، قعد المال عداً، ولم يجد غيره من التسليم بداً، فلما فاتتني، تركت الأشواق وأتتني، وانتقضت عزايم صبري فيما أتتني، فالله الله، تدارك أخاك سريعاً، قبل أن تلفيه من الوجد صريعاً، واستنزل خادماً، قبل أن تصبح عليه نادماً، ولن أحتاج أن أصفها إليك مع ما قصصته عليك، وقد أهديتها دراً، فخذها على جهة الفكاهة والدعابة.
ولا تطلع أخا جهل عليها ... فمن لم يدر قدر الشي عابه
فأجبته، نعم نعم، أنعم الله بالك، وسنى آمالك، أنا بحول الله أرتاد لك، من نحو هاتيك، ما يسليك ويؤاتيك، وإلا فبيضاً كاللجين، هل القلب والعين، زهرة غصن في روضة حسن، ذات ذوايب، كأنها الليل على نهار، أو بنفسج في بهار. لها وجه أبهى من الغنا، وأشهى من نيل المنا، فيه حاجبان كأنهما قوس صنعت من السبح، ورصعت بعاج من البلح، على عينين ساحرتين، وبالعقل ساخرتين، بهما تصاب الكبود، وتشق القلوب قبل الجلود، إلى فم كأنه ختام مسك، على نظام سلك، سقاه الحسن رحيقه، فأنبتت دره وعقيقه، وجيد في الحسن وحيد، على صدر كأنه من مرمر، فيه حقتا عاج طوقتا بعنبر، قد خلقتا لعض، في جسم غض، له خصر مدمج، وردفه يتموج، وأطراف كالعنم، رقمت رقم القلم، من اللايي شهدن ابن المؤمل، وقال في مثلها الأول، إن هي تاهت فمثلها تاها، أو هي باهت فمثلها باها، من أين للغصن مثل قامتها، أو أين لبدر مثل مرآها، ما فعلت في العقول صابية. ما فعلت في العقول عيناها، تملكني بالهوى وأملكها، فهأنا عبدها ومولاها، فأيهما لست بذلت فيه الجهد، وأرقيت للمجد والود إن شاء الله تعإلى. وأنا فيما عرض لسيدي، حفظه الله، على مايحب، أعذره ولا أعذله، وأنصره ولا أخذله لكني أقول كما قال بعض الحكماء، لا ينبغي لمن قلبه رقيق، أن يدخل سوق الرقيق، إلا أن يكون قد جمع بين المال والجمال، يتنافس في العالي، ويسترخص بالثمن الغالي، ولا يبالي بما قال الأيمة، إذا وجد من يلايمه، كما قال الشاعر:
ما انتفاع المحب بالمال إذا ... لم يتوصل به لوصل الحبيب
إنما ينبغي بحكم الهوى أن ... ينفق المال في صلاح القلوب
والسلام على سيدي، ما كانت الفكاهة من شأن الوفا، والمداعبة من شيم الظرفا، ورحمة الله وبركاته.
مولده: ولد في محرم سنة إحدى وستماية.
وفاته: توفي في عام أربعة وثمانين وستماية.
نقلت من خط صاحبنا الفقيه المؤرخ، أبي الحسن بن الحسن. قال: أنشدني الشيخ الراوية الأديب القاضي الفاضل أبو الحجاج يوسف بن موسى بن سليمان المنتشافري، قال أنشدني القاضي الفاضل أبو القاسم ابن الوزير أبي الحجاج ابن الحقالة، قال أنشدني الأديب أبو الطيب صالح بن أبي خالد يزيد بن صالح بن شريف الرندي لنفسه، ليكتب على قبره:
خليلي بالود الذي بيننا اجعلا ... إذا مت قبرى عضة للترحم
عني مسلم يدنو فيدعو برحمة ... فإني محتاج لدعوة مسلم
حرف العين

من ترجمة الملوك والأمراء

عبد الله بن إبراهيم بن علي بن محمد التجيبي، الرئيس

أبو محمد بن إشقيلولة

أوليته

قد مر شيء من ذلك في اسم الرئيس أبي إسحق أبيه.
حاله

كان أميراً شهما، مضطلعاً بالقضية، شهير المواقف، أبي النفس، عالي الهمة، انتزى على خاله أمير المسلمين الغالب بالله، وكان أملك لما بيده من مدينة وادي آش ما إليها، معززاً بأخيه الرئيس أبي الحسن مظاهره في الأمر، ومشاركه في السلطان، واستمرت الحال مدة حياة خاله السلطان. ولما صار أمر إلى مخيفه ولي العهد. استشرى الداء، وأعضل الأمر، وعمت الفتنة، وزاحمه السلطان بالمنكب، انفجم، واعتوره بالحيلة، حتى تحيف أطرافه، وكان ما هو معلوم، من إجازة أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق البحر إلى الجهاد. ومال الحال بينه ويبين السلطان أمير المسلمين أبي عبد الله بن نصر إلى التقاطع، وتصيرت مالقة إلى الإيالة المغربية، ثم عادت إلى السلطان.
وفي أخريات هذه الأحوال، أحكم السلطان مع طاغية الروم، السلم، وصرف وجهه إلى مطالبة الرئيس أبي محمد، صاحب وادي آش، فالجأه الحال إلى أن صرف الدعوة بوادي آش إلى السلطان بالمغرب ورفع شعاره، فأقعد عنه. ووقعت مراسلات، أجلت عن انتقال الرئيس أبي محمد إلى المغرب، معوضاً عن مدينة وادي آش بقصر كتامة، وذلك في عام تسعة وثمانين وستماية.
وفاتهدخلت قصر كتامة يوم الثلاثاء الثاني والعشرين من ذي قعدة عام خمسة وخمسين وسبعماية في غرض الرسالة، وزرت مقبرة الرؤساء بني إشقيلولة بظاهرها، وفي قبة ضخمة البناء رحيبة الفناء، نسيجة وحدها بذلك البلد، بين منازل البلى، وديار الفناء، وبها قبر الرئيس أبي محمد هذا، عن يسار الداخل، بينه وبين جدار القبلة قبر، وسنامه رخام متوب عليه:
قبر عزيز علينا ... لو أن من فيه يفدا
أسكنت قرة عيني وقطعة القلب لحدا
ما زال حكماً عليه ... وما القضاء تعدا
فللصبر أحسن ثوب ... به العزيز تردا
وعند رأس السنام الرخامي، مهد مائل من الرخام فيه: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، صلى الله على سيدنا محمد وآله، وسلم تسليماً. هذا قبر الرييس الجليل، الأعلى الهمام، الأوحد، الأسعد، المبارك، الأسنى، الأسمى، الأحفل، الأكمل، المجاهد، المقدس، المرحوم، أبي عبد الله، ابن الررئيس الجليل، الهمام، الأوحد، الأسعد، المبارك، الأمضى، الأسنى، الأسمى، المعظم، المرفع، المجاهد، الأرضى، المقدس، المرحوم أبي إسحق إبراهيم بن إشقيلولة، رحمه الله وعفا عنه، وأسكنه جنته. ظهر عفا الله عنه، بوادي آش، أمنها الله، قاعدة من قواعد الأندلس، وتسلكن، ونشرت علامات سلطنته، وضربت الطبول. وجاهد منها العدو، قصمه الله، وظهر على خاله سلطان الأندلس، وأقام في سلطنته، نحواً من ثلاث وعشرين سنة. ثم قام بدعوة الملك الأعلى، السلطان المؤيد المنصور، أمير المسلمين، المؤيد بالله أبي يعقوب أيده الله بنصره، وأمده بمعونته ويسره، فتنحى عن الأندلس للمغرب، أنسه الله، في جماد الأولى من عام ستة وثمانين وستماية، فأعطاه أيده الله، قصر عبد الكريم أمنه الله، وأنعم عليه، فأقام به مدة من ثمانية أعوام، وجاز منه إلى الأندلس، أمنها الله، وجاهد بها مرتين، ثم رجع إلى قصر عبد الكريم المذكور، وتوفي، شرف الله روحه الطيبة المجاهدة، عشي يوم السبت العاشر من شهر محرم سنة خمس وتسعين وستماية.
عبد الله بن زيرى بن مناد الصنهاجيعبد الله بن بلقين بن باديس بن حبوس بن ماكسن بن زيرى بن مناد الصنهاجي أمير غرناطة.
أوليته: قد مر من ذلك في اسم جده ما فيه كفاية.
حالهلقبه المظفر بالله، الناصر لدين الله. ولى بعد جده باديس في شوال سنة خمس وستين وأربعمائة، وصحبه سماجه الصنهاجي تسع سنين. قال الغافقي، وكان قد حاز حظاً وافراً من البلاغة والمعرفة، شاعراً، جيد الشعر، مطبوعه، حسن الخط. كانت بغرناطة ربعة مصحف بخطه في نهاية الصنعة والإتقان. ووصفه ابن الصيرفي فقال، كان جباناً مغمد السيف، قلقاً، لا يثبت على الظهر، عزهاة لا أرب له في النساء، هيابة، مفرط الجزع، يخلد إلى الراحات، ويستوزر الأغمار.
خلعه

قال، وفي عام ثلاثة وثمانين وأربعمائة، تحرك أمير المسلمين، يوسف ابن تاشفين، لخلع رؤساء الأندلس، فأجاز البحر، ويمم قرطبة، وتواترت الأنباء عن حفيد باديس صاحب غرناطة، بما يغيظه ويحقده، حسبما تقدم في اسم مؤمل، مولى باديس. وقدم إلى غرناطة أربع محلات، فنزلت بمقربة منها، ولم تمتد يد إلى شيء يوجد، فسر الناس واستبشروا، وأمنت البادية، وتمايل أهل الحاضرة إلى القوى. وأسرع حفي باديس في المال، وألحق السوقة والحاكة، واستكثر من اللفيف، وألح بالكتب على أذفونش بما يطمعه. وتحقق يوسف بن تاشفين استشراف الحضرة إلى مقدمه، فتحرك. وفي ليلة الأحد لثلاث عشرة خلت من رجب، اجتمع إلى حفيد باديس صنائعه، فخوفوه من عاقبة التربص، وحملوه على الخروج إليه، فركب وركبت أمه وتركا القصر على حاله، ولقي أمير المسلمين، على فرسخين من المدينة، فترجل، وسأله العفو، فعفا عنه، ووقف عليه، وأمره بالركوب، فركب، وأٌبل حتى نزل بالمشايخ من خارج الحضرة. وضطربت المحلات، وأمر مؤملاً بثقافه في القصر، فتولى ذلك، وخرج الجم من أهل المدينة، فبايعوا أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فلقيهم، وأنسهم، وسكن جأشهم، فاطمأنوا. وسهل مؤمل إليه دخول الأعيان، فأمر بكتب الصكوك، ورفع أنواع القبالات والخراج، إلا زكاة العين، وصدقة الماشية، وعشر الزرع. واستقصى ما كان بالقصر، فظهر على ما يحول الناظر، ويروع الخاطر، من الأعلاق والذخيرة، ولاحلي، ونفيس الجوهر، وأحجار الياقوت، وقصب المزمرد، وآنية الذهب والفضة، وأطباق البلور المحكم، والجردإذانات، والعراقيات، والثياب الرفيعة، والأنماط، والكل، والستاير، وأوطية الديباج، مما كان في ادخار باديس واكتسايه. وأقبلت دواب الظهر من المنكب بأحمال السبيك والمسبوك، اختلفت أم عبد الله لاستخراج ما أودع بطن الأرض، حتى لم يبق إلا الخرثى والثقل والسقط، ووزع ذلك الأمير على قواده، ولم يستأثر منه بشيء. قال، ورغب إليه مؤمل في دخول القصر، فركب إليه، وكثر استحسانه إياه، وأمر بحفظه، وتفقد أوضاعه وأقنيته. ونقل عبد الله إلى مراكش، وسنه يوم خلع، خمس وثلاثون سنة وسبعة أشهر، فاستقر بها هو وأخوه تميم، وحل اعتقالهما، ورفه عنهما، وأجرى المرتب والمساهمة عليهما. وأحسن عبد الله أداء الطاعة، مع لين الكلمة، فقضيت مآربه، وأسعفت رغباته، وخف على الدولة، واستراح واستريح منه، ورزق الولد في الخمول، فعاش له ابنان وبنت، جمع لهم المال. فلما توفي ترك مالاً جما.
مولدهولد عبد الله سنة سبع وأربعين وأربعماية.
عبد الله بن علي بن محمد التجيبيوالرئيس أبو محمد بن إشقيلولة
حالهكان رئيساً شجاعاً، بهمة، حازماً، أيداً، جلداً. تولى مدينة مالقة، عقب وفاة الرئيس واليها أبي الوليد بن أبي الحجاج بن نصر، صنو أمير المسلمين، الغالب بالله، في أوايل عام خمسة وخمسين وستماية. وكان صهر السلطان على إحدى بناته، وله منه محل كبير، ومكان قريب، وله من ملكه حظ رغيب. واستمرت حاله إلى عام أربعة وستين ستماية، وقد ما بينه وبين ولي العهد، الأمير أبي عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي عبد الله الغالب بالله، إذ وغر له صدره، ولا بنى أخيه الرئيسين أبي محمد وأبي الحسن إبني الرئيس أبي إسحق بن إشقيلولة المتأمرين بوادي آش، فضايقهم أخافهم، بما أداهم إلى الامتناع، والدعاء لأنفسهم، والاستمساك بما بأيديهم، وعمت المسلمين الفتنة المنسوبة إليهم. فانتزى هذا الرئيس بمدينة مالقة، وكان أملك لما بيده، واستعان بالنصري، وشمر عن ساعد الجد، فأباد الكثير من أعيان البلدة، في باب توسم التهم، وتطرق السعايات، واستولى على أموالهم. واستمرت الحال بين حرب أجلت فيها غلبة الأمير مخيفه، ولي العهد، بجيش النصرى، ونازل مالقة أربعين يوماً، وشعث الكثير بظاهرها، وتسمى بعلم الأمير عند أهل مالقة، وما بين سلم ومهادنة، وفي عام ستين وستماية، نازله السلطان الغالب بالله صهره، وأعيا عليه أمر مالقة، لأضطلاع هذا الرئيس بأمره، وضبط من لنظره، واستمساكه بعروة حزمه.

وفي بعض الأيام، ركب السلطان في ثلاثة من مماليكه، متخفياً، كاتماً غرضه، وقعد بباب المدينة. فلما بصر به الرجال القايمون به، هالهم الأمر، وأدهشتهم الهيبة، فأفرجوا له، موقرين لجلاله، آنسين لقلة أتباعه، فدخل، وقصد القصبة، وقد نذر به الرئيس أبو محمد، فبادر إليه راجلاً، متبذلاً، مهرولا، حافيا. ولما دنا منه، ترامى على رجليه يقبلهما، إظهاراً لحق أبوته، وتعظيماً لقدره، ودخل معه إلى بنته وحفدته، فترامى الجميع على أطرافه يلثمونها، ويتعلقون بأذياله وأدرانه، وهو يبكي إظهاراً للشفقة والمودة، وتكلم الجميل. وأقام معهم بياض يومه، ثم انصرف إلى محلته، وأتبعه الرئيس، فأمره بالاستمساك بقصبته وملازمة محل إمرته، وما لبث أن شرع في الارتحال عن ألطاف ومهادات، وتقدير جرايات، وإحكام هدية، وتقرير إمارة، إلى أن توفي السلطان رحمه الله، فعاد الفتنة جزعة، ووإلى ولده أمير المسلمين بعده، الضرب على مالقة، إلى أن هلك الرئيس أبو محمد، واستقر بالأمور ولده المذكور في المحمدين، وكان من الأمر ما ينظره في مكانه من أراد استيفاءه بحول الله.
عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد العزفييكنى أبا طالب، الرئيس الفقيه، الكبير الشهير، صاحب الأمر والرياسة والإمارة بستة، نيابة عن أخيه الرئيس الصالح أبي حاتم، بحكم الاستقلال في ذلك، والاستبداد التام، من غير مطالعة لأخيه ولا رجوع إليه في شيء من الأمور، ولا تشوف من أخيه إلى ذلك، لخروجه البتة عنه، وإيثاره العزلة. واشتغاله بنفسه.
حالهقد تقدم من ذكر أوليته ما فيه كفاية. وكان من أهل الجلالة والصيانة، وطهارة النشأة، حافظاً للحديث، ملازماً لتلاوة كتاب الله، عارفاً بالتاريخ، عظيم الهيبة، كبير القدر والصيت، علاي الهمة، شديد البأو، معظما عند الملوك، جميل الشارة، ممتثل الإشارة لديهم، عجيب السكينة والوقار، بعيد المرمى، شديد الانقباض، مطاع السلطان بموضعه، مرهوب الجانب، من غير إيقاع بأحد، ولا هتك حرمة، محافظاً على إقامة الرسوم الحسبية والدينية.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي الحسين بن أبي الربيع وغيره.
نكبتهتغلب على بلده أيام إمارته، وثار أهله إليه في السلاح والعدة، ليحيطوا بمن في القصبة. فخرج إليهم، وشكر مساعيهم، وقال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، كن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل، فانصرفوا، ودخل منزله، ملقياً بيده، ومسلماً لقضاء الله سبحانه في كسره، إلى أن قبض عليه، وعلى ساير بنيه وقومه، عند ارتفاع النهار وانتشار المتغلبين على القصبة، فنقفوا متحرجين من دماء المسلمين، وصرفوا إلى الأندلس، في ضحو يوم الخميس الثاني عشر من ذي قعدة عام خمسة سبعماية، بعد انقضاء خمسة عشر يوماً من تملك بلدهم. فاستقر بغرناطة، تحت ستر واحترام، وجراية فيها كفاف. ثم لما خرجت سبتة عن طاعة أمير المسلمين، انصرف القوم إلى فاس، فتوفي بها وفاته: في شعبان المكرم من عام ثلاثة عشر وسبعماية
عبد الله بن الجبير

بن عثمن بن عيسى بن الجبير اليحصبي

من أهل لوشة، وهو محسوب من الغرناطيين قال الأستاذ، من أعيانها ذوي الشرف والجلالة، قلت ينسب إليه بها معاهد تدل على قدم وأصالة.
حالهقال أبو القاسم الملاحي، كان أديباً بارع الأدب، كاتباً، بليغاً، شاعراً مطبوعاً، لسناً مفوهاً، عارفاً بالنحو والأدب واللغات. وقد مال في عنفوان شبيبته إلى الجندية لشهامته، وعزة نفسه، فكان في عسكر المأمون ابن عباد، واشتمل عليه المأمون، وكان من أظرف الناس، وأملحهم شيبة، وأحسنهم شارة، وأمهم معرفة.
مشيختهأخذ عن أشياخ بلده غرناطة، وأخذ بمالقة عن غانم الأديب وبقرطبة عن ابن سراج.
شعرهوله في إنشاده لدى المأمون مجال رحب، فمن ذلك قوله:
يا هاجرين أضل الله سعيكم ... كم تهجرون محبيكم بلا سبب
ويا مسرين للإخوان غائلة ... ومظهرين وجوه البر والرحب
ما كان ضركم الإخلاص لو طبعت ... تلك النفوس على علياء أو أدب
أشبهتم الدهر لما كان والدكم ... فأنتم شر أبناء لشر أب
عبد الله بن سعيد بن السلماني

عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد بن أحمد بن علي السلماني
والد المؤلف، رضي الله عنه، يكنى أبا محمد، غرناطي الولادة
والاستيطان، لوشي الأصل، ثم طليطليه، ثم قرطبيه.
أوليتهكان سلفه يعرفون بقرطبة، ببني وزير، وهم بها أهل نباهة، وبيتهم بيت فقه وخيرية ومالية، ونجارهم نجار فرسان يمانية. ولما حدث على الحكم بن هشام الوقيعة الربضية، وكان له الفلج، وبأهل الربض الدبرة، كان أعلام هذا البيت من الجالية أمام الحكم، حسبما امتحن به الكثير من أعلام المشيخة بها، كالفقيه طالوت، ويحيى بن يحيى، وغيرهم، ولحقوا بطليطلة، فاستقروا بها، ونبا بهم وطنهم، ثم حوموا على سكنى الموسطة، وآب إلى قرطبة قبلهم بعد عهد متقادم، ومنهم خلف وعبد الرحمن، وقد مر له ذكر في هذا الكتاب. وولى القضاء بالكورة. ومنهم قوم من قرابتهم تملكوا منتفريد، والحصن المعروف الآن بالمنعة والخصب، وتمدن فيهم، وبنيت به القلعة السامية، ونسب إليه ذلك المجد، فهم يعرفون ببلدنا ببني المنتفريدين. واستقر منهم جدنا الأعلى بلوشة خطيباً وقاضياً بالصقع ومشاوراً وهو المضاف إلى اسمه التسويد بلوشة عرفاً كأنه اسم مركب، فلا يقول أحد منهم في القديم إلا سيدي سعيد. كذا تعرفنا من المشيخة، وإليه النسبة اليوم، وبه يعرف خلفه ببني الخطيب، وكان صالحاً فاضلاً، من أهل العلم والعمل. حدثني الشيخ المسن أبو الحكم المنتفريدي، وقد وقفنى على جدار برج ببعض أملاكنا بها، على الطريق الآتية من غرناطة إلى لوشة، ثم إلى غيرها، كإشبيلية وسواها، فقال كان جدك يسكن بهذا البرج كذا من فصول العام، ويتلو القرآن ليلاً، فلا يتمالك المارون على الطريق، أن يقربوا إصغاء لحسن تلاوته وخشوعاً. وكان ولده عبد الله بعده، على وتيرة حسنة من الخير والنباهة وطيب الطعمة، ثم جده الأقرب سعيد على سننه، مرب عليه بمزيد المعرفة، وحسن الخط. ولما وقع بلوشة بلده، ما هو معروف من ثورة أصهارهم من بني الطنجالي، وكان بينهم ما يكون بين الفحول في الهجمات من التشاجر، فر عنهم خيفة على نفسه، وعلى ذلك فناله اعتقال طويل، عدا به عليه عن تلك الثورة. ثم بان عذره، وبرئت ساحته، واستظهر به السطان، وأقام بغرناطة، مكرماً، مؤثراً، مؤتمناً، وصاهر في أشراف بيوتاتها، فكانت عنده بنت الوزير أبي العلي أضحى بن أضحى الهمداني، وتوفيت تحته، فأنجز له بسببها الحظ في الحمام الأعظم المنسوب إلى جدها اليوم. ثم تزوج بنت القايد أبي جعفر أحمد بن محمد الجعدالة السلمى، أم الأب المترجم به، ولها إلى السطان ثاني ملوك بني نصر وعظيمهم، متات ببنوة الخؤولة من جهة القواد الأصلاء القرطبيين بني دحون، فوضح القصد، وتأكدت الحظوة. وقد وقعت الإشارة إلى ذلك كله في محله. ثم رسخت لولده أبي، القدم في الخدمة والعناية، حسبما يتقرر في موضعه.
حاله

كان رحمه الله فذاً في حسن الشكل والأبهة، وطلاقة اللسان، ونصاعة الظرف، وحضور الجواب، وطيب المجالسة، وثقوب الفهم، ومشاراً إليه في الحلاوة وعذوبة الفكاهة، واسترسال الانبساط، مغيياً في ميدان الدعابة، جزلاً، مهيباً، صارماً، متجنداً، رايق الخصل ركضاً وثقافة، وعدواً وسباحة وشطرنجاً، حافظاً للمثل واللغة، إخبارياً، مضطلعاً بالتاريخ، ناظماً ناثراً، جميل البزة، فاره المركب، مليح الشيبة. نشأ بغرناطة تحت ترف ونعمة، من جهة أمه وأبيه، وقرأ على أبي إسحق بن زرقال، وأبي الحسن البلوطي، ثم على أستاذ الجماعة أبي جعفر بن الزبير، ظاهرة عليه مخيلة النجابة والإدراك. ثم أقصر لعدم الحامل على الدؤوب، وانتقل إلى بلد سلفه، متحيفاً الكثير من الأصول في باب البذل وقرى الضيوف، ومداومة الصيد، وإيثار الراحة، معتمداً بالتجلة، مقصود الحلة، مخطوب المداخلة، من أبناء أشرف الدولة، منتجعاً لأولى الكدية. ولما قام بالأمر السلطان، أمير المسلمين أبو الوليد، وأمه بنت السلطان ثاني الملوك من بني نصر، جزم ما تقدم من المتات والوسيلة، استنهضه للإعانة على أمره، وجعل طريقه على بلده، فحطب في حبله، وتمسك بدعوته، واعتمده بنزله وضيافته، وكان أعظم الأسباب في حصول الأمر بيده، ودخوله في حكمه، وانتقل إلى حضرة الملك بانتقاله، فنال ما شاء من اصطناعه، وحظوته، وجرى له هذا الرسم في أيام من خلفه من ولده إلى يوم الوقيعة الكبرى بطريف تاريخ فقده.
وجرى ذكره في كتاب الإكليل بما نصه: إن طال الكلام، وجمحت الأقلام، كنت كما قيل، مادح نفسه يقرئك السلام، وإن أحجمت، فما أسديت في الثناء ولا ألحمت، وأضعت الحقوق، وخفت ومعاذ الله العقوق. هذا، ولو أني زجرت طير البيان من أوكاره، وجيته بعيون الإحسان وأبكاره، لما قضيت حقه بعد، ولا قلت إلا التي علمت سعد. فقد كان رحمه الله ذمر عزم، ورجل رخاء وأزم، تروق أنوار خلاله الباهرة، وتضيء مجالس الملوك من صورتيه الباطنة والظاهرة، ذكاء يتوقد، وطلاقة يحسد نورها الفرقد، فقدته بكاينة طريف، جبر الله عثارها، وعجل ثارها.
حدث خطيب المسجد الأعظم، وهو ما هو، من وفور العقل، وصحة النقل، قال، مررت بأبيك بعد ما تمت الكسرة، وخذلت تلك الأسرة، وقد كبا بأخيك الطرف، وعرض عليه الحمام للصرف، والشيخ رحمه الله لم تزل قدمه، ولا راعه الموقف وعظمه. ولما أيس من الخلاص وطلابه، صرفني وقال أنا أولى به، فقضى سعيداً شهيداً، لم يستنفره الهول، ولم يثنه ولا رضي عار الفرار عن ابنه.
شعرهقال في الإكليل، وكان له في الأدب فريضة، وفي النادرة العذبة منادح عريضة. تكلمت يوماً بين يديه، في مسائل من الطب، وأنشدته أبياتاً من شعري، وقرأت عليه رقاعاً من إنشائي، فسر وتهلل، وعبر عما أمل، وما برح أن ارتجل قوله رحمة الله عليه:
الطب والشعر والكتابة ... سماتنا في بني النجابة
هن ثلاث مبلغات ... مراتباً بعضها الحجابة
ووقع لي يوماً بخطه على ظهر أبيات، بعثتها إليه، أعرض عليه نمطها:
وردت كما ورد النسيم بسحره ... عن روضة جاد الغمام رباها
فكأنما هاروت أودع سحره ... فيها وآثرها به وحباها
مصقولة الألفاظ بيهر حسنها ... بمثلها افتخر البليغ وباهى
فقررت عيناً عند رؤية حسنها ... إلى أبوك وكنت أنت أباها
ومن شعره قوله:
وقالوا قد نأوا فاصبر ستشفى ... فترياق الهوى بعد الديار
فقلت هبوا بأن الحق هذا ... فقلبي يمموا فيم اصطبار
ومن قوله مما يجري مجرى الحكم والأمثال:
عليك بالصمت فكم ناطق ... كلامه أدى إلى كلمه
إن لسان المرء أهدى إلى ... غرته والله من خصمه
يرى صغير الجرم مستضعفا ... وجرمه أكبر من جرمه
وقال وهو من المستحسن في التجنيس:
أنا بالدهر يا بني خبير ... فإذا شئت علم فتعإلى
كم مليك قد ارتغى منه روضا ... لم يدافع عنه الرحمن ما ارتغى لا
كل شيء تراه يفنى ويبقى ... ربنا الله ذو الجلال تعإلى
أنشدني هاتين المقطوعتين.
مولده

ولد بحضرة غرناطة في جمادى الأولى من عام اثنين وسبعين وستماية.
وفاتهبعد يوم الوقيعة الكبرى على المسلمين بظاهر طريف يوم الاثنين السابع لجمادى الأولى عام واحد وأربعين وسبعماية.
من رثاهقلت في رثايه من قصيدة أولها:
سهام المنايا لا تطيش ولا تخطى ... وللدهر كف تسترد الذي تعطى
وإنا وإن كنا على ثبج الدنا ... فلا بد يوماً أن تحل على الشط
وسيان ذل الفقر أو عزة الغنى ... ومن أسرع السير الحثيث ومن يبط
تساوى على ورد الردى كل وارد ... فلم يغن رب السيف عن ربة القرط
وقال شيخنا أبو زكريا بن هذيل من قصيدة يرثيه بها:
إذا أنا لم أرث الصديق فما عذري ... إذا قلت أبياتا حساناً من الشعر
ولو كان شعري لم يكن غير ندبة ... وأجريت دمعي لليراع عن الحبر
لما كنت أقضي حق صحبته التي ... توخيتها عوناً على نوب الدهر
رماني عبد الله يوم وداعه ... بداهية دهياء قاصمة الظهر
قطعت رجائي حين صح حديثه ... فإن لم يوف دمعي فقد خانني صبري
وهل مؤنس كابن الخطيب لوحشتي ... أبث له همي وأودعه سري
عبد الله بن محمد بن جزيعبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن جزي من أهل غرناطة، يكنى أبا محمد، وقد مر ذكر أبيه شيخنا وأخويه، وتقررت نباهة بيتهم.
حالههذا الفاضل قريع بيت نبيه، وسلف شهير، وأبوة خيرة، وأخوة بليغة، وخؤولة تميزت من السلطان بحظوة. أديب حافظ، قام على فن العربية، مشارك في فنون لسانية سواه، طرف في الإدراك، جيد النظم، مطواع القريحة، باطنه نبل، وظاهره غفلة. قعد للإقراء ببلده غرناطة، معيداً ومستقلاً، ثم تقدم للقضاء بجهات نبيهة، على زمن الحداثة، وهو لهذا العهد مخطوب رتبة، وجار إلى غاية، وعين من أعيان البلدة.
مشيختهأخذ عن والده الأستاذ الشهير أبي القاسم حديث الرحمة بشرطه، وسمع عليه على صغر السن، أبعاضاً من كتب عدة في فنون مختلفة، كبعض صحيح مسلم، وبعض صحيح البخارري، وبعض الجامع للترمذي، وبعض السنن للنسائي، وبعض سنن أبي داود، وبعض موطإ ملك بن أنس وبعض الشفاء لعياض، وبعض الشمايل للترمذي، وبعض الأعلام للنميري، وبعض المشرع السلس في الحديث المسلسل لابن أبي الأحوص، وبعض كتاب التيسير لأبي عمرو الداني، وبعض الهداية للمهدي، وبعض التلخيص للطبري، وبعض كتاب الدلالة في إثبات النبوة والرسالة لأبي عامر بن ربيع، وبعض كتاب حلبة الأسانيد وبغية التلاميذ لابن الكماد، وبعض كتاب وسيلة المسلم في تهذيب صحيح مسلم من تواليف والده، وبعض القوانين الفقهية، وبعض كتاب الدعوات والأذكار، وبعض كتاب النور المبين في قواعد عقايد الدين من تأليفه، وبعض تقريب الوصول إلى علم الأصول، وبعض كتاب الصلاة، وبعض كتاب الأنوار السنية في الكلمات السنية، وبعض كتاب برنامجه. كل ذلك من تأليف والده، رحمه الله. وأجاز له رواية الكتب المذكورة عنه، مع رواية جميع مروياته وتواليفه وتقييداته، إجازة عامة. ولقنه في صغره، جملة من الأحاديث النبوية والمسائل الفقهية، والمقطوعات الشعرية.

ومنهم قاضي الجماعة أبو البركات بن الحاج، حدثة بألمرية حديث الرحمة بشرطه، وسمع عليه بها وبغرناطة عدة من أبعاض كتب، وأجازه عامة، وأنشده من شعره، وشعر غيره. ومنهم قاضي الجماعة الشريف أبو القاسم لازمه مدة القراءة عليه، واستفاد منه، وتفقه عليه بقراءة غيره في كثير من النصف الثاني من كتاب سيبويه، وفي كثير من النصف الثاني من كتاب الإيضاح لأبي علي الفارسي، وفي كثير من كتاب التسهيل لابن مالك، وفي القصيدة الخزرجية في العروض، وسمع من لفظه الربع الواحد أو نحوه من تأليفه شرح مقصورة حازم، وتفقه عليه فيه، وأنشده كثيراً من شعره وشعر غيره. ومنهم الأستاذ أبو عبد الله البياني، لازمه مدة القراءة عليه، وتفقه عليه بقراءته في كتاب التسهيل البديع في اختصار التفريع إلا يسيراً منه، وتفقه عليه بقراءة غيره في أبعاض من كتب فقهية وغيرها، ككتاب التهذيب، وكتاب الجواهر الثمينة، وكتاب التفريع، وكتاب الرسالة لابن أبي زيد، وكتاب الأحكام لابن العربي، وكتاب شرح العمدة لابن دقيق العيد، وغير ذلك مما يطول ذكره. ومنهم الأستاذ الأعرف الشهير أبو سعيد بن لب، تفقه عليه بقراءته في جميع النصف الثاني من كتاب الإيضاح للفارس، وفي كثير من النصف الأول من كتاب سيبويه، وتفقه عليه بقراءة غيره في أبعاض من كتب عدة، في فنون مختلفة، كالمدونة والجواهر، وكتاب ابن الحاجب، وكتاب التلقين، وكتاب الجمل، وكتاب التسهيل والتنقيح، والشاطبية، وكتاب العمدة في الحديث وغير ذلك. ومنهم الشيخ المقرى المحدث أبو عبد الله محمد بن بيبش، سمع عليه بقراءة أخيه الكاتب أبي عبد الله محمد، جميع كتاب الموطأ، وكتاب الشفا إلا يسيراً منه، وأجازه روايتهما عنه، ورواية جميع مروياته، إجازة عامة، وأنشده جملة من شعره وشعر غيره. وممن أجازه عامة، رئيس الكتاب أبو الحسن بن الجياب، وقاضي الجماعة أبو عبد الله بن يحيى بن بكر الأشعري، والخطيب أبو علي القرشي، والأستاذ أبو محمد بن سلمون، والحاج الراوية أبو جعفر ابن جابر، والشيخ القاضي أبو جعفر أحمد بن عتيق الشاطبي الأزدي، والقاضي الكاتب البارع أبو بكر بن شبرين، والقاضي الخطيب الأستاذ الراوية أبو بكر بن الشيخ الخطيب الصالح أبي جعفر بن الزيات، والقاضي الخطيب أبو محمد بن محمد بن الصايع. وممن كتب له بالإجازة من المشايخ، شيخ المشايخ أثير الدين أبو حيان محمد بن يوسف بن حيان، وقاضي الجماعة بفاس محمد بن محمد بن أحمد المقري، ورئيس الكتاب أبو محمد الخضرمي، وجماعة سوى من ذكر من أهل المشرق والمغرب.
شعرهوشعره نبيل الأغراض، حسن المقاصد، فمن ذلك قوله:
سنى الليلة الغرا وافتك بالبشرى ... وأبدى منها وجه القبول لك البشرا
تهلل وجه الكون من طرب بها ... وأشرقت للدنا بغرتها الغرا
لها المنة العظمى بميلاد أحمد ... لها الرتبة العليا لها العزة الكبرا
طوى سره في صدر الدهر مدة ... فوافى ربيعاً ناشراً ذلك السرا
حوى شهرة الفضل الشهير وفضله ... فأحسن به فضلاً وأعظم به شهرا
لقد كان ليل الكفر في الليل قد جفا ... فأطلع منه في سمة الهدي فجرا
وفي ليلة الميلاد لاحت شواهد قضت ... أندين الكفر قد أبطل الكفرا
لقد أخمدت أنوارها نار فارس ... وأرجف كما ارتج إيوانه كسرى
له معجزات يعجز القلب كنهها ... ويحصر إن رام اللسان لها حصرا
معال يكل الشعر عن نيل وصفها ... وتقصر عن إدراك مصعده الشعرا
به بشر الرسل الكرام ولم تزل ... شمايله تتلى وآياته تترا
ففي الصحف الأولى مناقبه العلى ... وفي الذكر آيات رخص له قدرا
لقد خصه مولاه بالقرب والرضى ... وحسبك ما قد نص في النجم والإسرا
ورد عليه الشمس بعد غروبها ... وشق على رغم العداة له البدرا
وكان له في مايه وطعامه ... لطايف ربانية تبهر الفكرا

غدا الماء من بين الأصابع نابعاً ... وعاد قليل الزاد من يمنه كثرا
وكم نايل أولى وكم سائل حبا ... وكم مشتك أشفى وكم مدنف أبرا
كفى شاهدا أن رد عين قتادة ... فكان لها الفضل المبين على الأخرا
وحن إليه الجذع عند فراقه ... ولا حنت الخنساء إذ فارقت صخرا
وحق له إذ بان عنه حبيبه ... ومن ذاق طعم الوصل لم يحمل الهجرا
خليلي ولادنيا تجدد للفقر ضروبا ... من الأشواق لو تنفع الذكرا
بعيشكما هل لي إلى أرض طيبة ... سبيل فأما الصبر عنها فلا صبرا
مناً للنفس من تلك المعاهد زورة ... أبث بها شكوى وأشكو بها وزرا
وتعفير خدي في عروق ترابها ... ليمحو لي ذنبا ويثبت لي أجرا
تعللني نفسي بإدراكها المنا ... وما أجهدت عيشاً ولا ملكت قفرا
ومن كانت الآمال أقصى اجتهاده ... غدت كفه مما تأمله صفرا
وكم زجرتها واعظات زمانها ... فما سمعت وعظاً ولا قبلت زجرا
وكنت لها عصر الشبيبة عاذراً ... سقاه الحيا ما كان أقصره عصرا
وأما وقد ولت ثلاثون حجة ... فلست أرى للنفس من بعدها عذرا
إذا أنت لم تترك سوى النفس طايعا ... فلا بد بعد الشيب من تركه قسرا
ولم أدخر إلاشفاعة أحمد ... لتخفيف وزر شد ما أوثق الظهرا
لقد عاقت كف الرجاء بحمله ... لعل كسير القلب يقلبه برا
هو المرتضى الداعي إلى منهج الرضا ... هو المصطفى الهادي الميسر لليسرا
هو الحاسر الماحي الضلالة بالهدى ... هو الشافع الواقي إذ شهر الحشرا
بأي كلام يبلغ المرء وصف من ... مكارمه تستغرق النظم والنثرا
خلال إذ الأفكار جاست خلالها ... تكر على الأعقاب خاسئة خسرا
لقد غض طرف النجم باهرها سنى ... وأرغم أنف الروض عاطرها نشرا
سقى ليلة حييت به واكف الحيا ... فنعماؤها ما إن يحيط بها شكرا
لقد خصها سند الإله برحمة ... فعمت بها الدنيا وسكانها طرا
أقمت أمير المسلمين حقوقها ... بأفعال بر أضحكت للهدى ثغرا
لقد سرت فيها إذ أتتك بسره ... أقرت لها عينا وسرت لها صدرا
عرفت بها حق الذي عرفت به ... فأحسنتها شكرا وأوليتها برا
وأصحبتها الإخلاص لله والتقا ... وأعقبها الإحسان والنايل الغمرا
لدي مصنع ملأ العيون محاسناً ... تجسم فيه السحر حتى بدا قصرا
منها بعد أبيات في المدح للسلطان:
روى عن أبي الحجاج غر شمايل ... أعاد لنا دهم الليالي بها غرا
ومن كبني نصر جلالة منصب ... بهم نصر الرحمن دين الهدى نصرا
هم ما هم إن تلقهم في مهمة ... لقيت الجناب السهل والمعقل الوعرا
سلالة أنصار النبي محمد فسل ... أحدا ينبيك عنهم وسل بدرا
ومن شعره في المقطوعات. قال في التورية العروضية:
لقد قطعت قلبي يا خليلي ... بهجر طال منك على العليل
ولكن ما عجيب منك هذا إنه ... التقطيع من شأن الخليل
وقال في التورية النحوية:
لقد كنت موصولاً فأبدل وصلكم ... بهجر وما مثلي على الهجر يصبر
فما بالكم غيرتم حال عبدكم ... وعهدي بالمحبوب ليس يغير
وقال في التورية مداعباً بعض المقرئين للعدد وهو بديع:
يا ناصباً علم الحساب حباله ... لقناص ظبي ساحر الألباب
إن كنت ترجو بالحساب وصاله ... فالبدر يرزقنا بغير حساب
وقال في التورية العروضية:

لقد كمل الود بيننا ... ودمنا على فرح شامل
فإن دخل القطع في وصلنا ... فقد يدخل القطع في الكامل
وقال في تضمين مثل:
ألا اكتمك حب من أحببت ... واصبر فإن الهجر يحدثه الكلام
وإن أبداه دمع أو نحول ... فمن بعد اجتهادي لا تلام
وقال:
وأشنب الثغر له وجنة ... تعدت النحل على وردها
ما ذاك إلى حسد إذ رأت ... رضابه أعذب من شهدها
وقال في التورية بأسماء كتب فقهية جواباً غير معمى:
لك الله من خل حباني برقعة ... حبتني من أبياتها بالنوادر
رسالة رمز في الجمال نهاية ... وخيرة نظم أتحفت بالجواهر
وقال في التورية أيضاً:
إلى الله أشكو عذراً ترددا ... إلي فلما لاح سرى لهم حالوا
لقد خدعوني إذ أروني مودة ... ولكنه لا غرو أن يخدع الآل
وقال يخاطب رجلاً من أصحابه:
أيا حسن إن شتت الدهر شملنا ... فليس لود في الفؤاد شتات
وإن حلت عن عهد الإخاء فلم ... يزل لقلبي على حفظ العهود ثبات
وهبني سرت مني إليك إساءة ... ألم تتقدم قبلها حسنات
وقال في النسيب:
إن كان باب القرب قد سد بيننا ... ولم يبق لي في نيل وصلك مطمع
وأخفرت عهدي دون ذنب جنيته ... وأصبح ودي فيك وهو مضيع
ولم ترث لي عما ألاقي من الأسى ... وصرت أنادي منك من ليس يسمع
وضاقت بي الأحوال عن كل وجهة ... فما أرتجي من رحمة الله أوسع
ومما نظمه في التضمين مخاطباً بعض المنتحلين للشعر قوله:
لقد صرت في غصب القصايد ماهرا ... فما اسم جميع الشعر عندك غيزل
ولم تبق شعرا لامرئ متقدم ... ولم تبق شعرا يا بن بشت لأول
فشعر جرير قد غصبت ورويه ... وشعر ابن مرج الكحل وابن المرحل
وإن دام هذا الأمر أصبحت تدعى ... قفا نبك من ذكري حبيب ومنزل
ومن المقريين والعلماء

عبد الله بن العبدري الكواب

عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن مجاهد العبدري الكواب من أهل غرناطة، يكنى أبا محمد الخطيب، المقرئ
حالهمن الصلة: كان رحمه الله أتقن أهل زمانه في تجويد كتاب الله العزيز، وأبرعهم في ذلك، وأنفعهم للمتعلم، نفع الله به كل من قرأ عليه، وترك بعده جملة يرجع إليهم في ذلك، ويعمل على ما عندهم. وكان مع ذلك نبيه الأغراض، في جميع ما يحتاج إليه في علمه ذاكرا للإختيارات التي تنسب للمقرئين، من يرجح ويعلل، ويختار ويرد، موفقاً في ذلك، صابراً على التعليم، دايباً عليه نهاره وليله، ذاكرا لخلاف السبعة. رحل الناس إليه من كل مكان، خاصتهم وعامهم، وملأ بلده تجويداً وإتقانا، وكان مع هذا فاضلاً ورعاً جليلاً. خطب بجامع غرناطة وأم به مدة طويلة، إلى حين وفاته.
مشيختهأخذ القراءات عن الحاج أبي الحسين بن كوثر، وأبي خالد بن رفاعة، وأبي عبد الله بن عروس. ورحل إلى بياسة، فأخذ بها القراءات عن أبي بكر ابن حسون، وأخذ مع هؤلاء عن جعفر بن حكم، وأبي جعفر بن عبد الرحيم، وأبي الحسن الصدفي الفاسي، وسمع عليه كثيراً من كتاب سيبويه تفقهاً، وأجاز له كتابة القاضي أبو بكر بن أبي جمرة مع آخرين ممن أخذوا عنه.
من أخذ عنه روى عنه الناس أهل بلده وغيرهم، منهم ابن أبي الأحوص، وأبو عبد الله بن إبراهيم المقرى.
وفاتهتوفي سنة ثلاث وثلاثين وستماية، ودفن بمقبرة باب إلبيرة.
ابن سلمونعبد الله بن علي بن عبد الله بن علي بن سلمون الكناني من أهل غرناطة، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن سلمون
حاله

كان رحمه الله، نسيج وحده، ديناً وفضلاً، وتخلقاً ودمائه، ولين جانب، حسن اللقاء، سليم الباطن، مغرقاً في الخير، عظيم الهشة والقبول، كريم الطوية، عظيم الانقياد، طيب اللهجة، متهالكاً في التماس الصالحين، يتقلب في ذلك بين الخطإ والإصابة، صدراً في أهل الشورى. قرأ ببلده وسمع وأسمع وأقرأ، وكتب الشروط مدة، مأثور العدالة، معروف النزاهة، مثلاً في ذلك، ويقوم على العربية والفقه، خصوصاً باب البيوع، ويتقدم السباق في معرفة القراءات، منقطع القرين في ذلك، أشد الناس خفوفاً في الحوايج، وأسرعهم إلى المشاركة.
مشيختهقرأ على الأستاذ الكبير أبي جعفر بن الزبير بغرناطة، ولازمه، فانتفع به، دراية ورواية. وقرأ على الخطيب أبي الحسن بن فضيلة، والمكتب أبي الحسن البلوطي، وأبي محمد النفزي، والخطيب أبي جعفر الكحيلي. وبمالقة على الأستاذ أبي محمد الباهلي. وبسبتة على الأستاذ المقري رحلة وقته أبي القاسم بن الطيب، وسمع عله الكثير. وعلى الأستاذ أبي عبد الله الدارج، ولازم مجلس إقرايه، وعلى الشيخ المعمر أبي عبد الله ابن الخطار الكامي، وهو أعلى من لقيه من تلك الحلبة. وأخذ بالإجازة عن العدل أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن النولي، وروايته عاليه. لقي أب الربيع بن سالم، ولقي بسبتة الشريف الراوية أبا علي الحسن بم بن أبي الشرف ربيع، والأديب الكاتب أبا علي الحسين بن عتيق بن الحسين ابن رشيق. وبفاس الفقيه أبا غالب محمد بن محمد بن عبد الرحمن المغيلي. وقرأ على الخطيب المحدث أبي عبد الله بن رشيد. وسمع على ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم. ولقي الأديب المعمر مالك بن المرحل. وأجازه أبو عمران موسى بن الخطيب أبي الحسن الداري برندة. وأجازه من أهل المشرق كثير، منهم عز الدين أحمد بن محمد الحسني بقية الأشراف بالديار المصرية، وجمال الدين أحمد بن محمد بن عبد الله الظاهري، ونجم الدين أحمد بن حمدان الحراني، وجمال الدين أحمد ابن أبي الفتح الشيباني، وأحمد بن عبد المنعم الصوفي، ومولده عام أحد وستماية، وأحمد بن سلمان بن أحمد المقدسي، وأحمد بن عبد الحميد ابن عبد الهادي، وشمس الدين إبراهيم بن سرور المقدسي، والخطيب بالمسجد الأعظم ببجاية أبو عبد الله بن صالح الكناني، وأبو عبد الله محمد أبي خمسة محمد بن البكري بن أبي بكر، وأبو عبد الله محمد بن علي ابن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري، وابن دقيق العيد تقي الدين، وأبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن سعد بن جماعة، والشيخة الصالحة أم محمد عائشة بنت أبي الخطاب محمد بن أحمد بن خليل السكوني. وأجازه نحو من المايتين من أهل المشرق والمغرب. ولقي بفاس الشيخة الأديبة الطيبة الشاعرة، سارة بنت أحمد بن عثمان بن الصلاح الحلبية وأجازته، وألبسته خرقة التصوف.
قال: وأنشدتني قصيد أجابت بها الخطيب المحدث، أبا عبد الله ابن رشيد، أولها يعني قصيدة ابن رشيد:
سرى نسيم من حمى سارة ... عاد به كل نسيم عاطرا
وجال أفكار الدنا ذكرها ... فسار فيها مثلا سايرا
دايرة والمجد قطب لها ... دارت عليه فلكاً دايرا
فقالت:
وافي قريض منكم مذ غدا ... لبعض أوصافكم ذاكرا
أطلع من أنفاسه الحجا ... ومن شذاه نفساً عاطرا
أعاد ميت الفكر من خاطري ... من بعد دفن في الثرى ناشرا
يبهر طرفي حسن منظره ... أحبب به نظما غدا باهرا
فقلت لها هالتي حسنه ... أشاعراً أصبح أم ساحرا
أم روضة هذى التي قد نوى ... أم بدر تم قد بدا زاهرا
لله ما أعذب ألفاظه ... وأنور الباطن والظاهرا
يا ابن رشيد بل أبا الرشد ... يا من يزل لطي العلى ناشرا
خذ ما فدتك النفس يا سيدي ... وكن لمن نظمها عاذرا
ما تصل الأنثى بتقصيرها ... لأن تبارى ذكراً ماهرا
لازلت تحيى من رسوم العلا ... ما كان منها دارساً دائرا
تصانيفهالكتاب المسمى بالشافي في تجربة ما وقع من الخلاف بين التيسير والتبصرة والكافي لا نظير له.
مولده

ولد بغرناطة بلده في الثاني والعشرين لذي قعدة من عام تسعة وستين وست ماية.
وفاتهفقد في الوقيعة العظمى بطريف يوم الإثنين السابع لجمادى الأولى من عام أحد وأربعين وسبعماية. حدث بعض الجند أنه رآه يتحامل، وجرح بصدره يثعب دماً، وهو رابط الجأش، فكان آخر العهد به. تقبل الله شهادته.
عبد الله بن سهل الغرناطييكنى أبا محمد، وينبز بالوجه نافخ
حالهمن كتاب ابن حمامة، قال عني بعلم القرآن والنحو والحديث، عناية تامة، وبهذا كنت أسمع الثناء عليه من الأشياخ، في حال طفولتي بغرناطة، ثم شهر بعد ذلك بعلم المنطق، والعلوم الرياضية، وساير العلوم القديمة، وعظم بسببها، وامتد صيته من أجلها، وأجمع المسلمون واليهود والنصارى، أن ليس في زمانه مثله، ولا في كثير ممن تقدمه، وبين هذه الملل الثلاثة من التحاسد ما عرف. وكانت النصارى تقصده من طليطلة، تتعلم منه أيام كان ببياسة، وله مع قسيسهم مجالس في التناظر، حاز فيها قصب السبق. قال، ثم خرج عن بياسة، وسار إلى نظر ابن همشك عند خروج النصارى عن بياسة. وله تواليف. وهو الآن بحاله. قلت، تاريخ هذا القول، عام ثلاثة وخمسين وخمسماية.
عبد الله بن أيوب الأنصارييكنى أبا محمد، ويعرف بابن خروج، من أهل قلعة أيوب.
حالهفقيه حافظ لمذهب مالك. استوطن غرناطة وسكنها.
تواليفهألف في الفقه كتاباً مفيداً سماه المنوطة على مذهب مالك، في ثمانية أسفار أتقن فيها كل الإتقان:
وفاته: توفي بها سنة اثنيتين وستين وخمسماية، وقد قارب المائة.
القرطبيعبد الله بن الحسن بن أحمد بن يحيى بن عبد الله الأنصاري مالقى، قرطبي الأصل، يكنى أبا محمد، ويعرف بالقرطبي، وقرأ بغرناطة.
حالهكان في وقته ببلده، كامل المعارف، صدرا في المقرئين والمجودين، رئيس المحدثين وإمامهم، واسع المعرفة، مكثراً، ثقة، عدلاً، أمينا، مكين الرواية، رايق الخط، نبيل التقييد والضبط، ناقداً، ذاكراً أسماء رجال الحديث وطبقاتهم وتواريخهم، وما حلوا به من جرح وتعديل، لا يدانيه أحد في ذلك، عزيز النظر، متيقظاً، متوقد الذهن، كريم الخلال، حميد العشرة، دمثاً، متواضعاً، حسن الخلق، محبباً إلى الناس، نزيه النفس، جميل الهيئة، وقوراً، معظماً عند الخاصة والعامة، ديناً، زاهداً، ورعاً، فاضلا، نحوياً ماهراً، ريان من الأدب، قائلاً الجيد من الشعر، مقصدا ومقطعاً، وكان له بجامع مالقة الأعظم، مجلس عام، سوى مجلس تدريسه، يتكلم فيه على الجديث، إسناداً ومتناً، بطريقة عجز عنها الكثير من أكابر أهل زمانه. وتصدر للإقراء ابن عشرين سنة. من أخباره في العلم والذكاء: قالوا قرئ عليه يوماً باب الابتداء بالكلم التي يلفظ بها في إيضاح الفارس، وكان أحسن الناس قياماً عليه فتكلم على المسألة الواقعة في ذلك الباب، المتعلقة بعلم العروض، وكان في الحاضرين من أحسن صناعته، فجاذبه الكلام، وضايقه المباحثه، حتى أحس الأستاذ من نفسه التقصير، إذ لم يكن له قبل كبير نظر في العروض، فكف عن الخوض في المسألة، وانصرف إلى منزله، وعكف ساير اليوم على تصفح علم العروض، حتى فهم أغراضه، وحصل تواليفه وصنف فيه مختصراً نبيلاً، لخص في صدوره ضروبه، وأبدع فيه بنظم مثله، وجاء به من الغد، معجزاً من رآه أو سمع به، فبهت الجاضرون وقضوا العجب من اقتداره وذكائه، ونفوذ فهمه، وسمو همته.
ومن أخباره في الدين: قال أبو أحمد جعفر بن زعرور العاملي المالقي تلميذه الأخص به، بت معه ليلة في دويرته التي كانت له بجبل فاره للإقراء والمطالعة، فقام ساعة كنت فيها يقظانا، وهو ضاحك مسرور، يشد يده كأنه ظفر بشيء نفيس، فسألته فقال، رأيت كأن الناس قد حشروا في العرض على الله، وأتى بالمحدثين، وكنت أرى أبا عبد الله النصيرى يؤتى به، فيوقف بين يدي الله تعإلى، فيعطى براءته، من النار، ثم يؤتى بي، فأوقفت بين يدي ربي، فأعطاني براءتي من النار، فاستيقظت، وأنا أشد عليها يدى ربي، فأعطاني براءتي من النار، فاستيقظت، وأنا أشد عليها يدي اغتباطا بها وفرحا، والحمد لله.
مشيخته

تلا بمالقة على أبيه، وأبي زيد السهيلى، والقاسم بن دحمان، وروى عنهم، وعن أبي الحجاج بن الشيخ، وأبوي عبد الله بن الفخار، وابن نوح، وابن كامل، وابن جابر، وابن بونة. وبالمنكب عن عبد الوهاب الصدفي. وحضر بمالقة مجلس أبي إسحق بن قرقول. وبإشبيلية عن أبي بكر بن الجد، وابن صاف، وأبي جعفر بن مضاء، وأبوي الحسن عبد الرحمن بن مسلمة، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي القاسم بن عبد الرازق، وأبي محمد بن جمهور. وبغرناطة عن أبوي جعفر بن حكم الحصار، وابن شراحيل، وأبي عبد الله بن عروس، وأبوي محمد عبد الحق النوالشي، وعبد المنعم بن الفرس. وبمرسية عن أبي عبد الله بن حميد، وأبي القاسم بن حبيش، وبسبتة عن أبي محمد الحجري. وأجاز له من الأندلس ابن محرز وابن حسون وابن خيرة، والأركشي، وابن حفص وابن سعادة، ويحيى المجريطي، وابن بشكوال، وابن قزمان. ومن أهل المشرق جماعة كبيرة.
شعره وتصانيفهألف في العروض مجموعات نبيلة، وفي قراءة نافع. ولخص أسانيد الموطأ. وله المبدي لخطإ الرندي. ودخل يوماً بمجلس أقرأ به أبو الفضل عياض، وكان أفتى منه، غير أن الشيب جار عليه، وتأخر شيب الأستاذ، فقال يا أستاذ شبنا وما شبتم، قال فأنشده ارتجالاً:
وهل نافع أن أخطأ الشيب مفرقي ... وقد شاب أترابي وشاب لداتي
لئن كان خطب الشيب يوجد حسه ... بتربي فمعناه يقوم بذاتي
ومن شعره في التجنيس:
لعمرك ما الدنيا بسرعة سيرها ... بسكانها إلا طريق مجاز
حقيقتها أن المقام بغيرها ... ولكنهم قد أولعوا بمجاز
ومما يؤثر أيضاً من شعره قوله:
سهرت أعين ونامت عيون ... لأمور تكون أو لا تكون
فاطرد الهم ما استطعت عن ... النفس فحملانك الهموم جنون
إن رباً كفاك بالأمس ما كان ... فسيكفيك في غد ما يكون
مولدهولد أبو محمد قريب ظهر يوم الاثنين لثمان بقين من ذي القعدة عام ستة وخمسين وخمسماية.
وفاتهسحر ليلة السبت أو سحر يومها، ودفن إثر صلاة العصر من اليوم السابع لربيع الآخر سنة أحد عشر وستماية.
من رثاه رثاه الأديب أبو محمد عبد الله بن حسون البرجي من قصيدة حسنة طويلة:
خليلي هباً ساعداني بعبرة ... وقولاً لمن بالري ويحكم هبوا
نبكي العلى والمجد والعلم والتقي ... فمأتم أحزاني نوائحه الصحب
فقد سلب الدين الحنيفي روحه ... ففي كل سرب من نباهته نهب
وقد طمست أنوار سنة أحمد ... وقد خلت الدنيا وقد ظعن الركب
مضى الكوكب الوقاد والمرهف الذي ... يصحح في نص الحديث فما ينب
تمنى علاه النيران ونوره ... وقالا بزعم أنه لهما ترب
أأسلو وبحر العلم غيضت مباهة ... ومحيى رسوم العلم يحجبه الترب
عزيز على الإسلام أن يودع الثرى ... مسدده الأسرى وعلله الندب
بكى العالم العلوي والسبع حسرة ... أولئكم حزب الله ما فوقهم حزب
على القرطبي الحبر أستاذنا الذي ... على أهل هذا العصر فضله الرب
فقد كان فيما مضى من زمانه ... به تحسن الدنيا ويلتئم الشعب
ويجمع سرب الأنس روض حياتة ... فقد جف ذاك الروض وافترق السرب
فسحقاً لدنيا خادعتنا بمكرها ... إذا عاقدت سلما فقصدها حرب
ركبنا السهل الذلول فقادنا ... إلى كل ما في طيه مركب صعب
وتغفل عنها والردى يستفزنا ... كفى واعظاً بالموت لو كان لي لب
عبد الله بن أحمد بن سماك العامليعبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن عيسى بن أحمد بن إسماعيل بن سماك العاملي يكنى أبا محمد، مالقي الأصل.
حالهكان فقيهاً أديباً، بارع الأدب، شاعراً مطبوعاً، كثير النادر، حلو الشمايل، أدرك شيوخاً جلة، وولى قضاء غرناطة مدة.
مشيخته

روى عن جده لأمه وابن عم أبيه أبي عمر أحمد بن إسماعيل، وأبي على الغساني، وأبي الحسن علي بن عبيد الرحمن بن سمحون والمرساني الأديب،
شعرهالروض مخضر الربى متجمل ... للناظرين بأجمل الألوان
وكأنما بسطت هناك سوارها ... خود زهت بقلائد العقيان
وكأنما فتقت هناك نوافح ... من مسكة عجنت بعرف البان
والطير يسجع في الغصون كأنما ... تقرأ القيان فيه على العيدان
والماء مطرد يسيل عبابه ... كسلاسل من فضة وجمان
بهجات حسن أكملت فكأنها ... حسن اليقين وبهجة الإيمان
وكتب إلى الكاتب أبي نصر الفتح بن عبيد الله في أثناء رسالة:
تفتحت الكتابة عن نسيم ... نسيم المسك في خلق الكريم
أبا نصر رسمت لها رسوما ... تخال رسومها وضح النجوم
وقد كانت عفت فأثرت منها ... سراجاً لاح في الليل البهيم
فنحت من الصناعة كل باب ... فسارة في طريق مستقيم
فكتاب الزمان ولست منهم ... إذا راموا مرامك في هموم
فما قس بأبدع منك لفظاً ... ولا سحبان مثلك في العلوم
وفاته: في السابع والعشرين من رمضان المعظم سنة أربعين وخمسمائة وهو ابن أربع وثمانين سنة.
ومن ترجمة القضاةعبد الله بن أحمد بن العافقي عبد الله بن أحمد بن محمد بن سعيد بن أيوب بن الحسن بن منخل بن زيد العافقي من أهل غرناطة وأعيانها، يكنى أبا محمد، وينسب إلى غافق بن الشاهد بن عك بن عدنا، لا إلى حصن غافق.
حالهمن العايد كان رجلاً صحيح المذهب، سليم الصدر، قليل المصانعة، كثير الحركة والهشة، والجدة، ملازم الاجتهاد والعكوف، لا يفتر عن النسخ والتقييد والمطالعة، على حال الكبرة، قديم التعين والأصالة، ولى القضاء عمره بمواضع كثيرة، منها بيرة ورندة ثم مالقة، مضافاً إلى الخطابة بها.
مشيختهحج في حدود سبعة وثمانين وستماية، وروى عن جلة من أهل المشرق، كالإمام تقي الدين بن دقيق العيد، والحافظ أبي محمد عبد المؤمن الدمياطي، وشمس الدين المصنف أبي عبد الله بن عبد السلام. وأجازه من أهل المغرب شيخ الجماعة بالأندلس أبو جعفر بن الزبير، والقاضي ابن أبي الأحوص، والخطيب أبو الحسن بن فضيلة، الأستاذ أبو الحسن ابن الصايغ الإشبيلي، وأبو جعفر الطباع، وغيرهم.
تواليفهألف كتابا سماه بالمنهاج في ترتيب مسائل الفقيه المشاور أبي عبد الله ابن الحاج.
مولدهولد بغرناطة في حدود ستين وستماية.
وفاته: توفي بغرناطة يوم عاشوراء من عام أحد وثلاثين وسبعماية.
عبد الله بن أبي زمنين المريعبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن أبي زمنين المري يكنى أبا خالد.
حالهكان فقيهاً جليلاً، وولى القضاء ببعض جهات غرناطة.
مشيختهأخذ الفقيه عن أبي جعفر بن هلال، وأبي محمد بن سماك القاضي. والعربية عن الخضر بن رضوان العبدري. والحديث عن الحافظ أبي بكر ابن غالب بن عبد الرحمن بن عطية، والإمام أبي الحسن علي بن أحمد، والقاضي أبي الفضل عياض بن موسى بن عياض أيام قضائه بغرناطة.
مولدهولد سنة سبع وتسعين وأربعماية.
وفاته: توفي في ذي قعدة سنة أربع وأربعين وخمس ماية.
عبد الله بن يحيى بن زكريا الأنصاريعبد الله بن يحيى بن محمد بن أحمد بن زكريا بن عيسى بن محمد بن يحيى بن زكريا الأنصاري يكنى أبا محمد، من أهل غرناطة، شرقي الأصل، مرسيه، من بيوتاته النبيهة، وقد مر ذكر أخيهز
حالهكان على طريقة حسنة من دمائه الأخلاق، وسلامة السجية، والتزام الحشمة، والاشتغال بما يعنى. ولي القضاء دون العشرين سنة، وتصرف فيه عمره بالجهات الأندلسية، فأظهر فيه عدلاً ونزاهة، ولم يختلف عليه اثنان مدة حياته، من أهل المعرفة بالأحكام، والتقدم في عقد الشرط، وصناعة الفرايض، علماً وعملاً، ثاقب الذهن، نافذاً في صنعة العدد.
مشيخته

قرأ على أبيه الفاضي أبي بكر بن زكريا، وله رواية عالية عن أعلام من أهل المشرق والغرب. وقرأ على أبي الحسن بن فضيلة الولي الصالح، والقاضي أبي عبد الله بن هشام الألشي، والأستاذ أبي جعفر بن الزبير، والحاج أبي محمد بن جابر، وأبي بكر القللوسي. وقرأ العدد وما أشبهه على الأستاذ التعاليمي أبي عبد الله الرقام، ولازمه، وأجازه طايفة كبيرة. وأخبرني ولده الفاضل أبو بكر، قال: ورد سؤال من تونس مع تاجر وصل في مركب إلى مدينة المنكب أيام قضائه بها، في رجل فرط في إخراج زكاة ماله سنين متعددة، سميت في السؤال مع نسبة قدر المال، وطلب في السؤال، أن يكون عملها بالأربعة الأعداد المتناسبة، إذ عملها بذلك، أصعب من عملها بالجبر والمقابلة، فعملها وأخرجها بالعملين، وعبر عنها بعبارة حسنة، وكتبها في بطاقة بخط جميل، فذكر التاجر أنه لم يبق بتونس فقيه، إلا ونسخ منها نسخة، واستحسنها.
مولدهولد يوم الخميس السابع عشر لجمادى الآخرة عام خمسة وسبعين وستماية.
وفاته: توفي قاضياً ببسطة في التاسع عشر من رمضان عام خمسة وأربعين وسبعماية.
عبد الله بن أبي جمرة الأزديعبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الملك بن أبي جمرة الأزدي من أهل مرسيه، نزيل غرناطة، يكنى أبا محمد، وبيته بمرسية من أعلام بيوتاتها، شهير التعين والأصالة، ينكح فيه الأمراء.
حالهكان من أعلام وقته فضلاً وعدالة وصلاحا ووقاراً، طاهر النشأة، عف الطعمة، كثير الحياء، مليح التخلق. نشأ بمرسيه، ثم انتقل إلى غرناطة فتولى القضاء ببيرة وجهاتها، ثم جاز إلى سبتة، وانعقدت بينه وبين رؤسايها المصاهرة في بعض بناته. ثم آب إلى غرناطة عند رجوع إيالة سبتة إلى أميرها، فتقدم خطيبا بها.
مشيختهروى بالإجازة عن الخطيب الحافظ أبي الربيع بن سالم وأمثاله.
وفاتهالغريبة المستحسنة. قال بعض شيوخنا، كنت أسمعه عند سجوده، وتبتله وضراعته إلى الله. يقول اللهم أمتني ميتة حسنة، ويكرر ذلك. فأجاب الله دعاءه، وتوفاه على أتم وجوه التأنيب طهارة وخشوعاً وخضوعاً وتأهباً، وزماناً ومكاناً، عندما صعد أول درج من أدراج المنبر، يوم الجمعة الثالث والعشرين لشوال من عام أحد عشر وسبع ماية، فكان يوماً مشهوداً لا عهد بمثله، مارئى ألآكثر باكياً منه، وأكثر الناس من الثناء عليه.
عبد الله الحارثى الأزديعبد الله بن سليمن بن داود بن عبد الرحمن بن سليمن بن عمر بن حوط الله الأنصاري الحارثى الأزدي يكنى أبا محمد.
حالهمن الصلة: قال القاضي المحدث الجليل العالم، كان فقيهاً جليلاً أصولياً، نحوياً، كاتباً، أديباً، شاعراً، متفنناً في العلوم، ورعاً، ديناً، حافظاً، ثبتاً، فاضلاً. وكان يدرس كتاب سيبويه، ومستصفى أبي حامد، ويميل إلى الاجتهاد في نظره، ويغلب طريقة الظاهرية، مشهوراً بالعقل والفضل، معظماً عند الملوك، معلوم القدر لديهم، يخطب في مجالس الأمراء والمحافل الجمهورية، مقدماً في ذلك، بلاغة وفصاحة إلى أبعد مضمار. ولملوك الموحدين به اعتناء كبير. وهو كان أستاذ الناصر وإخوته، وكان له عند المنصور والهم، بذلك أكرم أثرة، مع ما كان مشهوراً به من العلم والدين والفل. ولي القضاء بإشبيلية وقرطبة ومرسية وسبتة وسلا وميورقة، فتظاهر بالعدل، وعرف بما أبطن من الدين والفضل، وكان من العلماء العاملين، سنياً، مجانباً لأهل البدع والأهواء، بارع الخط، حسن التقييد.
مشيختهتردد في طلب العلم، فسمع ببلنسية وشاطبة ومرسية وألمرية وقرطبة وإشبيلية ومالقة، وغيرها من البلاد الأندلسية، وتحصل له سماع جم لم يشاركه فيه أحد من أهل المغرب. قرأ القرآن على أبيه، وعلى أبي محمد عبد الصمد الغساني، وأخذ عن ابن حميد كتاب سيبويه تفقهاً. وعن غيره، وسمع عن ابن بشكموال، وقرأ أكثر من ستين تأليفاً بين كبار وصغار، وكمل له على أبي محمد بن عبد الله، بين قراءة وسما نحو من سنة وثلاثين تأليفاً، منها الصحيحان. وأكثر عن ابن حبيش، والسهيلي، وابن الفخار وغيرهم. واستيفاء مشيخته يشق.
شعرهقال الأستاذ، أنشدنيه ابن أبو القاسم، ونقلت من خطة:
أتدري أنك الخطاء حقاً ... وأنك بالذي تدري رهين

وتعتب الإلى فعلوا وقالوا ... وذاك الظن والإفك المبين
مولدهفي محرم سنة ثمان وأربعين وخمسماية.
وفاته: كان آخر عمره قد أعيد إلى مرسية، قصدها من الحضرة، مات بغرناطة سحر يوم الخميس الثاني لربيع الأول اثنتي عشرة وستماية، ونقل منها في تابوته الذي ألحد فيه، يوم السبت التاسع عشر لشعبان من السنة إلى مالقة. فدفن بها.
ابن ربيععبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الرحمن بن ربيع الأشعري من أهل قرطبة، يكنى أبا القاسم ويعرف بابن ربيع.
حالهكان رحمه الله أديبا، كاتباً شاعراً، نحوياً، فقيهاً أصولياً، مشاركاً في علوم، محباً في القراءة، وطياً عند المناطرة، متناصفا، سنياً، أشعري المذهب والنسب، مصمماً على طريقة الأشعرية، ملتزماً لمذهب أهل السنة المالكي، من بقايا الناس وعليتهم، ومن آخر طلبة الأندلس المشاركين الجلة، المصممين على مذهب أهل السنة، المنافرين للمذاهب الفلسفية، والمبتدعة، والزيغ. ولي قضاء مواضع من الأندلس، منها مدينة شريش ورندة ومالقة، وأم وخطب بجامعها. ثم ولي قضاء الجماعة بحضرة غرناطة، وعقد بها مجلسا للإقراء. فانتفع به طلبتها، واستمر على ذلك، وكانت ولايته غرناطة نحواً من سبعة أعوام.
مشيختهأخذ عن أبيه أبي عامر وتفقه به، وعن الخطيب أبي جعفر بن يحيى الحميري، وتلا عليه، وتأدب به، وعن الأستاذ أبي الحسن بن خروف، وروى مع هؤلاء عن القاضي أبي القاسم بن بقي، وأبي محمد بن حوط الله، وأبي عبد الله بن أصبغ وغيرهم، وأجاز له الشيخ المسن أبو الحسن على ابن أحمد بن على الغافقي الشقوري، وله به علو، وبالأستاذ الخطيب المسن أبي جعفر بن يحيى المتقدم.
وفاتهتوفي في الساب عشر لشوال سنة ست وستين وستماية. ولم يخلف بعده مثله، ولا من يقاربه.
عبد الله بن إبراهيم الثقفي العاصميعبد الله بن إبراهيم بن الزبير بن الحسن بن الحسين الثقفي العاصمي من ولد عاصم بن مسلم الداخل في طلعة بلج الملقب بالعريان، أخو الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، شقيقه، يكنى أبا محمد.
حالهكان طبيباً ماهراً، كاتباً شاعراً، ذاكراً للغة، صنع اليدين، متقدماً في أقرانه نباهة وفصاحة، معدوم النظير في الشجاعة والإقدام، يحضر الغزوات، فارساً وراجلاً، ولقي بفحص غرناطة ليلا، نصرانياً يتجسس، فأسره وجره، وأدخله البلد، ولم يلتفت إلى ثمنه، استكتاماً لتلك الفعلة.
مشيختهأخذ القرآن عن الأستاذ أبي عبد الله بن مستقور، وروى عن أبي يحيى بن عبد الرحيم، وأبي الوليد العطار، وأبي القاسم بن ربيع وأبي الخطار بن خليل، وأخذ عن أبي عمر بن حوط الله بمالقة، وابن أبي ريحانه. وبسبتة على أبي بكر بن مشليون. وأجاز له أبو بكر بن محرز، وأبو الحسن الثاري. وأخذ عن الأستاذ الناقد أبي الحسن علي بن محمد الكناني.
مولدهولد بغرناطة لسبع عشرة ليلة خلت من ذي قعدة سنة ثلاث وأربعين وستماية.
وفاته: توفي بها سحر أول يوم من ذي قعدة سنة ثلاث وثمانين وستماية.
عبد الله بن موسى

بن عبد الرحمن بن حماد الصنهاجي

يكنى أبا يحيى.
حالهطالب نبيل فاضل، ورع زاهد، مؤثر في الدنيا بما تملكه، تال لكتاب الله في جميع الأوقات.
أخباره في الإيثاروجه له السيد أبو إسحاق ابن الخليفة أبي يعقوب خمسماية دنير ليصلح بها من شأنه. فصرف جميعها على أهل الستر في أقل من شهر. ومر بفتى في إشبيلية، وأعوان القاضي يحملونه إلى السجن، وهو يبكي فسأله، فقال: أنا غريب، وطولبت بخمسين دنيرا، وبيدي عقود، وطولبت بضامن فلم أجده، فقال، له الله، قال نعم، قال، فدفع له خمسين دنيرا، قال أشهد لك بها، فضجر وقال إن الله إذا أعطى عبده شيئاً لم يشهد به عليه، وتركه وانصرف لشأنه، وكانت عنده معرفة وأدب.
مولده: بغرناطة في سنة إحدى وعشرين وخمسماية.
ومن ترجمة الكتاب والشعراء بين أصلي وطارئ
ابن المرابععبد الله بن إبراهيم بن عبد الله الأزدي من أهل بلش يكنى أبا محمد. ويعرف بابن المرابع
حاله

من نبهاء أدباء البادية، خشن الظاهر، منطو على لوذعية، متوارية في مظهر جفوة، كثير الانطباع عند الخبرة، قادر على النظم والنثر، متوسط الطبقة فيهما، مسترفد بالشعر، سيال القريحة، مرهوب الهجاء، مشهور المكان ببلده، يعيش من الخدم المخزنية، بين خارص وشاهد وجد بذلك وقته، يوسط رقاعته، فتنجح الوسيلة، ويتمشى له بين الرضا والسخط الغرض.
وجرى ذكره في التاج بما نصه: طويل القوادم والخوافي، كلف على كبر سنه بعقايل القوافي، شاب في الأدب وشب، ونشق ريح البيان لما هب، قحاول رفيعه، وجزله، وأجاد جده وأحكم هزله. فإن مدح صدح، وإن وصف أنصف، وإن عصف قصف. وإن أنشأ ودون، وتقلب في أفانين البلاغة وتلون، أفسد ما شاء الله وكون، فهو شيخ الطريقة الأدبية وفتاها، وخطيب حفلها كلما أتاها، لا يتوقف عليه من أغراضها غرض، ولا يضيع لديه منها مفترضِ. ولم نزل بروقه تتألق، ومعانيه بأذيال الإحسان تتعلق. حتى برز في أبطال الكلام وفرسانه، وذعرت القلوب لسطوة لسانه، وألفت إليه الصناعة زمامها، ووقفت عليه أحكامها. وعبر البحر، منتجعاً بسعره، ومنفقاً في سوق الكساد من شعره فأبرق وأرعد، وحذر وتوعد، وبلغ جهد إمكانه، في التعريف بمكانه، فما حرك، ولا هز، وذل في طلب الرقد وقد عز، وما برح أن رجع إلى وطنه الذي اعتاده، رجوع الحديث إلى قتاده.
شعرهقال في التاد، وقد أثبت من نزعاته، وبعض مخترعاته، ما يدل على سعة باعه، ونهضة ذراعه. فمن النسيب قوله:
ما للمحب دواء يذهب الألما ... عنه سوى لمم فيه ارتشاف لما
ولا يرد عليه نوم مقلته ... إلا الدنو إلى من شفه سقما
يا حاكماً والهوى فينا يؤيده ... هواك في بما ترضاه قد حكما
أشغلتني بك شغلاً شاغلا ... فلما تناسى فديتك عني بعد ذاك لما
ملكت روحي فأرفق قد علمت بما ... يلقى ولا حجة تبقى لمن علما
ما غبت عني إلا غاب عن بصري ... بدراً إذا لاح يجلى نوره الظلما
ما لحت لي فدنا طرفي لغيرك يا مولى لحا فيه جفني النوم قد حرما
طوعاً لطيعك لا أعصيك فافض بما ... ترضاه أرضى بما ترضى ولا جرما
إن الهوى يقتضي ذلاً لغيرك لو ... أفادني فيك قرباً يبرد الألما
سلمت من كل عيب يا محمد لا ... كن قلب صبك من عينيك ما سلما
ومن مخاطباته الأدبية. ما كتب به إلى شيخ الصوفية ببلده مع طالع من ولده:
مماليكم قد زاد فيكم مرابع ... من الأفق الكوني باليمن طالع
بأنواركم يهدي إلى سبل الهدى ... ويسموا لما تسمو إليه المطالع
فواسوه منكم بالدعاء فإنه ... مجاب بفضل الله للخلق نافع
أفاض عليه الله من بركاتكم ... وأبقاكم ذو العرش ماجن ساجع
فوقع له الشيخ المخاطب بها. أبو جعفر بن الزيات رحمه الله، بما نصه:
عسى الله يؤتيه من العلم حصة ... تصوب على الألباب منها ينابع
ويجعله طرفاً لكل سجية ... مطهرة للناس فيها منافع
ويلحقه في الصالحات بجده ... فيثنى عليه الكل دان وشاسع
وذو العرش جل إسما عميم نواله ... وخير الورى في نص ما قلت شافع
فما أنت دوني يا أباه مهنأ به ... فالسرور الكل بابنك جامع
وله يستدعى إلى الباكور:
بدار بدار قد آن البدار ... إلى أكواس باكور تدار
تبدت رافلات في مسوح ... له لون الدياجي مستعار
وقد رقمت بياضاً في سواد ... كأن الليل خالطه النهار
وقد نضجت وما طبخت بنار ... وهل يحتاج للباكور نار
ولا تحتاج مضغاً لا وليس ... عجيب لا يشق له غبار
فقل للخلق قل للضرس دعني ... ففي البلع اكتفاء واقتصار
ومما وقع له أثناء مقامات تشهد باقتداره، مقطوعة سهلة وهي:
رعى الله عهداً حوى ما حوى ... لأهل الوداد وأهل الهوى
أرهم أموراً حلا وردها ... وأعطاهم السؤل كيف نوا

ولما حلا الوصل صالوا له ... وراموه ملواً وما روا
وأوردهم سراً سرارهم ... وروداً إلى الكل ذا دوا
وما أمل طال إلا وها ... ولا أمل صال إلا هوا
وقال يرثي ديكاً فقده، ويصف الوجد الذي وجده، ويبكي من عدم إذانه، إلى غير ذلك من مستطرف شأنه:
أوودي به الحتف لما جاءه الأجل ... ديكاً فلا عوض منه ولا بدل
قد كان لي أمل في أن يعيش فلم ... يثبت مع الحتف في بغيالها أمل
فقدته فلعمري إنها عظة ... وبالواعظ تذري دمعها المقل
كأن مطرف وشى فوق ملبسه ... عليه من كل حسن باهر حلل
كأن إكليل كسرى فوق مفرقه ... وتاجه فهو عالي الشكل محتفل
مؤقت لم يكن بطريق ل خطأ ... فيما يرتب من ورد ولا خطل
كأن زرقيل فيما مر علمه ... علم المواقيت فيما رتب الأول
يرحل الليل يحيى بالصراخ فما ... يصده كلل عنه ولا ملل
رأيته قد وهنت منه القوى فهوى للأرض فعلا يريه الشارب الثمل
لو يفتدي بديوك الأرض قل له ... ذاك الفدا ولكن فاجأ الأجل
قالوا الدواء فلم يغن الدوام ولم ... ينفعه من ذاك ما قالوا وما فعلوا
أملت فيه ثواباً أجر محتسب ... إن قلت ذاك صح القول والعمل
وأمره السلطان أبو عبد الله سادس الملوك النصريين في بعض أسفاره، وقد نظر إلى شلير. وتردى بالثلج وتعمم، وكمل ما أراد من بزته وتمم، أن ينظم أبياتاً في وصفه، فقال بديهة:
وشيخ جليل القدر طال عمره ... وما عنده علم بطول ولا قصر
عليه لباس أبيض باهر السنا ... وليس بثوب أحكمته يد البشر
وطوراً تراه كله كاسياًُ به ... وكسوته فيها لأهل النهي عبر
وطوراً ثراه عارياً ليس يشتكي ... لحر ولا برد من الشمس والقمر
وكم مرت الأيام وهو كما ترى ... على حاله لم يشك ضعفاً ولا كبر
فذاك شلير شيخ غرناطة التي ... لبهجتها في الأرض ذكر قد انتشر
بها ملك سامي المراقي أطاعه ... كبار ملوك الأرض في حالة الصغر
تولاه رب العرش منه بعصمة ... تقيه مدى الأيام من كل ما ضرر
نثرهونثره كثير ما بين مخاطبات وخطب ومقطعات ولعب، وزرديات شأنها عجب. فمن ذلك ما خاطب به الرئيس أبا سعيد بن نصر يستجدي أضحية:

يقول شاكر الأيادي، وذاكر فخر كل نادي، وناشر غرر الغرر لعاكف والبادي، والرايح والغادي، إسمعوا مني حديثاً تلذه الأسماع، ويستطرفه الاستماع. ويشهد بحسه الإجماع. ويجب عليه الاجتماع. وهو من الأحاديث التي لم تتفق إلا لمثلي ولا ذكرت عن أحد قبلي. وذلك يا معشر الألبا، والخلصاء الأحبا. أني دخلت في هذه الأيام داري. في بعض أدواري، لأقضي من أخذ الغذاء أوطاري. على حسب أطواري. فقالت لي ربة البيت، لم جئت. وبما أتيت. قلت جيت لكذا كذا فهات الغدا، فقالت لا غذا لك عندي اليوم. ول أودى بك الصوم. حتى تسل الاستخارة، وتفعل كما فعل زوج الجارة، طيب الله نجاره. وملأ بالأرزاق وجاره. قلت وما فعل قريني. وأرني من العلامة ما أحببت أن تريني. قالت إنه فكر في العيد. ونظر في أسباب التعييد. وفعل في ذلك ولم تنظر إليه نظرة بعين اهتبالك. وعيد الأضحى في اليد. والنظر ف يشراء الأضحية اليوم أوفق من الغد. قلت صدقت، وبالحق نطقت، بارك الله فيك، وشكر جميل تحفيك. فلقد نبهت بعلك لإقامة السنة، ورفعت عنه من الغفلة منة. والآن أسير لأبحث عما ذكرت. وأنظر في إحضار ما إليه أشرت، ويتأتى ذلك إن شاء الله بسعدك. وتنالين فيه من بلوغ الأمر غاية قصدك. والجد ليس من الهزل، والأضحية للمرأة وللرجل الغزل. قالت دعني من الخرافات. وأخبار الزرافات. فإنك حلو اللسان، قليل الإحسان. تخذت الغربة صحبتك إلى ساسان. فتهاونت بالنسا، وأسأت فيمن أسا. وعودت أكل خبزك في غير منديل. وإيقاد الفتيل دون قنديل، وسكنى الخان، و عدم ارتفاع الدخان، فما تقيم موسما، ولا تعرف له ميسما. وأخذت معي في ذلك بطويل وعريض، وكلانا في طرفي نقيض، إلى أن قلت لها إزاركوردائي، فقد تفاقم بك أمر دائي، وما أظنك إلا بعض أعدائي، قالت مالك والإزار، شط بك المزار، لعلك تريد إهانه في الأضحية والأبزار، أخرج عني بيا مقيت، لا عمرت معك ولا بقيت، أو عدمت الذين، وأخذ الورق بالعين. يلزمني صوم سنة، لا أغفيت معك سنة، إلا إن رجعت بمثل ما رجع به زوج جارتي، ورأى لك الربح في تجارتي. فقمت عنها وقد لوت رأسها وولولت، وابتدرت وهرولت، وجالت في العتاب وصولت، وضمت بنتها وولدها، وقامت باللجج، والانتصار بالحجج أودها، فلم يسعني إلا أن عدوت أطوف السكك والشوارع؛ وأبارد لما غدوت بسبيله وأسارع، وأجوب الآفاق، وأسل الرفاق، وأخترق الأسواق، وأقتحم زريبة بعد زريبة، وأختبر منها البعيدة والقريبة، فما استرخصته استنقصته، وما استغليته استعليته، وما وافق غرضي، اعترضني دونه عدم عرضي، حتى انقض ثلثا يومي، وقد عييت بدوراني وهومي، وأنا لم أتحصل من الابتياع على فايدة، ولا عادت علي فيه من قضاء الأرب عايدة، فأومأت الإياب، وأنا أجد من خوفها، ما يجد صغار الغنم من الذئاب، إلى أن مررت بقصاب يقصب في مجزره، قد شد في وسطه مئزره، وقصر أثوابه حتى كشف عن ساقيه، وشمر عن ساعديه حتى أبدى مرفقيه، وبين يديه عنز قد شد يديه في رقبته، وهو يجذبه فيبرك، ويجره فما يتحرك، ويروم سيره فيرجع القهقرى، ويعود إلى ورا، والقصاب يشد على إزاره، خيفة من فراره، وهو يقول: اقتله من جان باغ، وشيطان طاغ، ما أشده وما ألذه، وما أصده، وما أجده، وما أكثره بشحم، وما أطيبه بلحم، الطلاق يلزمه، إن كان عاين تيساً مثله أو أضحية تشبهه قبله، أضحية حفيلة، ومنحة جليلة. هنأ الله من رزقها، وأخلف عليه رزقها. فاقتحمت المزدحم، أنظر مع من نظر، وأختبر فيمن اختبر. وأنا والله لا أعرف في التقليب والتخمين. ولا أفرق بين العجف والسمين، غير أني رأيت صورة دون البغل وفوق الحمار، وهيكلا يخبرك عن صورة العمار، فقلت للقصاب كم طلبك فيه، على أن تمهل الثمن حتى أوفيه، فقال ابغني فيه أجيرا، وكن له الآن من الذبح مجيرا، وخذه بما يرضى، لأول التقضي. قلت استمع الصوت، ولا تخف الفوت. قال ابتعه مني نسيه وخذه هدية، قلت نعم، فشق لي الضمير، وعاكسني فيه بالنقير والقطمير. قال تضمن لي فيه عشرين ديناراً أقبضها منك لانقضاء الحول دنيراً دنيراً. قلت إن هذا لكثير، فاسمح منه بإحاطة اليسير. قال والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لا أنقصك من هذا، وما قلت لك سمسمة، اللهم إن شئت السعة في الأجل، فأقضي لك ذلك دون أجل، فجلبني للابتياع منه، الإنساء في الأمد. وغلبني بذلك فلم أفتقر منه لرأى والد ولا ولد، ولا

أحوجت نفسي في ذلك لمشورة أحد، وقلت قد اشتريته منك، فضع البركة، ليصح النجح في الحركة. فقال فقيه، بارك الله فيه، قد بعته لك، فاقبض متاعك، وثبت ابتياعك. وها هو في قبضك، فاشدد وثاقه، وهلم لنعقد عليك الوثاقة. فانحدرت معه لدكان التوثيق، وابتدرت من السعة إلى الضيق، وأوثقني بالشادة تحت عقد وثيق، وحملني من ركوب الدين ولحاق الشين في أوعر طريق. ثم قال لي هذا تيسك فشأنك وإياه، وما أظنك إلا تعصياه، وأت بحمالين أربعة، فإنك لا تقدر أن ترفعه، ولا يتأتى لك أن يتبعك ولا أن تتبعه، ولم يبق لك من الكلفة إلا أن يحصل في محلك، فيكمل سرور أهلك. وانطلقت للحمال، وقلت هلم إلي، وقم الآن بين يدي، حتى انتهينا إلى مجزرة القصاب، والعنز يطلب فلا يصاب، فقلت أين التيس يا أبا أويس. قال إنه قد فر، ولا أعلم حيث استقر. قلت أتضيع علي مالي، لتخيب آمالي، والله لا يحزنك بالعصا كمن عصا، ولا رفعتك إلى الحكام، تجري عليك منهم الأحكام. قال مالي علم به، ولا بمنقلبه، لعله فر لأمه وأبيه، وصاحبته وبنيه، فعليك بالبريح. فاتجهت أنادي بالأسواق، وجيران الزقاق، من ثقف لي تيساً فله البشارة، بعد ما أتى بالأمارة، وإذا برجل قد خرج من دهليز، وله هدير هزيز، وهو يقول من صاحب العنز المشوم، لا عدم به الشوم، إن وقعت عليه عيني، يرتفع الكلام بينه وبيني. قلت أنا صاحبه فما الذي دهاك مني أو بلغك عني. قال إن عنزك حين شرد، خرج مثل الأسد، وأوقع الرهج في البلد، وأضر بكل أحد، ودخل في دهليز الفخارة، فقام فيه وقعد، وكان العمل فيه مطبوخاً ونيا، فلم يترك منه شيا، ومنه كانت معيشتي، وبه استقامت عيشتي، وأنت ضامن مالي، فارتفع معي إلى الوالي، والعنز مع هذا يدور وسط الجمهور، ويكر كرة العفريت المزجور، ويأتي بالكسر على ما بقي في الدهليز من الطواجن والقدور، والخلق قد انحسروا للضجيج، وكثر العياط والعجيج وأنت تعرف عفرطة الباعة، وما يحوون من الوضاعة، وأنا أحاول من أخذه ما أستطيع، وأروم الإطاعة من غير مطيع، والباعة قد أكسبته من الحماقة، ما لم يكن لي به طاقة. ورجل يقول المحتسب، واعرف ما تكتسب، وإلى من تنتسب، فقد كثر عنده بك التشكي، وصاحب الدهليز قبالته يبكي، وقد وجد عنده عليك وجد الشكوى، وأيقن أنك كسرت الدعوى، وأمر بإحضارك، وهو في انتظارك، فشد وسطك، واحفظ إبطك، وإنك تقوم على من فتح باعه للحكم على البقعة، ونصب لأرباب البراهين على أرباب الشواهين، ورفع على طبقة، ليملأ طبقة، ثم أمسكني باليمين، حتى أوصلني للأمين، فقال لي أرسلت التيس للفساد كأنك في نعم الله من الحساد. قلت إنه شرد، ولم أدر حيث ورج، قال ولم لا أخذت ميثاقه، ولم تشدد وثاقه، يا شرطى طرده، واطرح يدك فيه وجرده. قلت أتجردني الساعة، ولست من الباعة، قال لا بد من ذاك أو تضمن ما أفسده هناك. قلت الضمان الضمان، الأمان الأمان. قال قد أمنت إن ضمنت، وعليك الثقاف، حتى يقع الإنصاف، أو ضامن كاف، فابتدر أحد إخواني، بعض جيراني، فأدى عني ما ظهر بالتقدير، وآلت الحال للتكدير. ثم أردت الانصراف بالتيس، لا كان كيانه، ولا كون مكانه، وإذا بالشرطي قد دار حولي، وقال لي كلف فعلي بأداء جعلي، فقد عطلت من أجلك شغلي، فلم يك عندي بما تكسر سورته، ولا بما تطفي جمرته، فاسترهن مئزري في بيته ليأخذ مايته. وتوجهت لداري، وقد تقدمت أخباري، وقدمت بغباري، وتغير صغاري وكباري، والتيس على كاهل الحمال، يرغو كالبعير، ويزأر كالأسد إذا فصلت العير، فقلت للحمال إنزله على مهل، فهلال العيد قد استهل، فحين طرحه في الأسطوان. كر إلى العدوان، وصرخ كالشيطان، وهم أن يقفز الحيطان، وعلا فوق الجدار، وأقام الرهجة في الدار، ولم تبق في الزقاق عجوز إلا وصلت لتراه، وتسل عما اعتراه، وتقول بكم اشتراه، والأولاد قد دارت به، وأرهقهم لهفه، ودخل قلوبهم خوفه، فابتدرت ربة البيت، وقالت كيت وكيت، لا خل ولا زيت، ولا حي ولا ميت، ولا موسم ولا عيد، ولا قريب ولا بعيد، سقت العفريت إلى المنزل، ورجعت بمعزل، ومن قال لك اشتره، ما لم تره، ومن قال لك سقه حتى توثقه، ومتى تفرح زوجتك، والعنز أضحيتك، ومتى تطبخ القدور وولدك منه معذور، وبأي قلب تأكل الشوية، ولم تخلص لك فيه النية واقلة سعدها، وأخلف وعدها، والله لو كان العنز يخرج الكنز، ما عمر لي داراً، ولا قرب لي جواراً

أخرج عني يا لكع، فعل الله بك وصنع، وما حبسك عن الكباش السمان، والضأن الرفيعة الأثمان، يا قليل التحصيل، يا من لا يعرف الخياطة ولا التفصيل، أدلك على كبش سمين، واسع الصدر والجبين، أكحل عجيب، أقرن مثل كبش الخطيب، يعبق من أوداكه كل طيب، يغلب شحمه على لحمه، ويسيل الودك من عظمه، قد علف بالشعير، ودبر عليه أحسن تدبير، لا بالصغير ولا بالكبير، تصلح منه الألوان، ويستطرف شواه في كل أوان، ويستحسن ثريده وقديده في سائر الأحيان، قلت بيني لي قولك. لأتعرف فعلك. وأين توجد هذه الصفة، يا قليلة المعرفة. قالت عند مولانا، وكهفنا ومأوانا الرييس الأعلى، الشهاب الأجلى، القمر الزاهر. الملك الظاهر، الذي أعز المسلمين بنعمته، وأذل المشركين بنقمته. واسترسل في المدح فأطال وفيما ثبت كفاية. عني يا لكع، فعل الله بك وصنع، وما حبسك عن الكباش السمان، والضأن الرفيعة الأثمان، يا قليل التحصيل، يا من لا يعرف الخياطة ولا التفصيل، أدلك على كبش سمين، واسع الصدر والجبين، أكحل عجيب، أقرن مثل كبش الخطيب، يعبق من أوداكه كل طيب، يغلب شحمه على لحمه، ويسيل الودك من عظمه، قد علف بالشعير، ودبر عليه أحسن تدبير، لا بالصغير ولا بالكبير، تصلح منه الألوان، ويستطرف شواه في كل أوان، ويستحسن ثريده وقديده في سائر الأحيان، قلت بيني لي قولك. لأتعرف فعلك. وأين توجد هذه الصفة، يا قليلة المعرفة. قالت عند مولانا، وكهفنا ومأوانا الرييس الأعلى، الشهاب الأجلى، القمر الزاهر. الملك الظاهر، الذي أعز المسلمين بنعمته، وأذل المشركين بنقمته. واسترسل في المدح فأطال وفيما ثبت كفاية.
وفاتهفي كاينة الطاعون ببلده بلش في أواخر عام خمسين وسبعماية ودفن بها.
عبد الله بن الحجاري الصنهاجيعبد الله بن إبراهيم بن وزمر الحجاري الصنهاجي الأديب المصنف، يكنى أبا محمد.
حاله وأوليتهأبوه أديب مدينة الفرج بوادي الحجارة، المصنف للمأمون بن ذي النون كتاب مغنيطاس الأفكار فيما تحتوي عليه مدينة الفرج من النظم والنثر والأخبار، وكان أبو محمد هذا ماهراً، كاتباً، شاعراً، رحالا. سكن مدينة شلب، بعد استيلاء العدو على بلاده بالثغر. وله في التحول أشعار وأخبار. قدم غرناطة، وقصد عبد الملك بن سعيد صاحب القلعة من بنياتها، واستأذن عليه في زي موحش، واستخف به القاعدون ببابه، إلى أن لاطف بعضهم، وسأله أن يعرف به القايد، فما بلغ عنه، أمر بإدخاله، فأنشده قصيدة مطلعها:
عليك أحالني الذكر الجميل ... فجيت ومن ثنايك لي دليل
أتيت ولم أقدمك من رسول ... لأن القلب كان هو الرسول
منها في وصف زيه البدوي المستقل وما في طيه:
ومثلني بدن فيه خمر ... يخفف بها ومنظره ثقيل
فأكرم نزله، وأحسن إليه، وأقام عنده سنة، حتى ألف بالقلعة كتاب المسهب في غرايب المغرب، وفيه التنبيه على الحلى البلادية والعبادية. وانصرف إلى قصد ابن هود بورطة، بعد أن عذله عن التحول عنه، فقال النفس تواقة، ومالي بالتغرب طاقة، ثم أفكر وقال:
يقولون لي مإذا الملال تقيم في ... محل فعند الأنس تذهب راحلا
فقلت لهم مثل الحمام إذا شدا ... على غصن أمسى بآخر نازلا
نكبتهقال علي بن موسى بن سعيد: ولما قصد الحجارى روطة، وحل لدى أميرها المستنصر بن عماد الدولة بن هود. وتحرك لغزو من قصده من البشكنس، فهزم جيشه، وكان الحجارى أحد من أسر في تلك الوقيعة، فاستقر ببسقاية، وبقي بها مدة، يحرك ابن هود بالأشعار ويحثه على خلاصه من الإسار، فلم يجد عنده ذمامة، ولا تحرك له اهتمامه، فخاطب عبد الملك بن سعيد بقوله:
أصبحت في بسقاية مسلماً ... إلى الأعادي لا أرى مسلماً
مكلفاً ما ليس في طاقتي ... مصفدا منتهرا مرغما
أطلب بالخدمة وا حسرتي ... وحالتي تقضي بأن أخدما
فهل كريم يرتجي للأسير ... يفكه أكرم به منتما
وقوله:
أرييس الزمان أغفلت أمري ... وتلذذت تاركاً لي بأسر
ما كذا يعمل الكرام ولكن ... قد جرى على المعود دهري
فجتهد في فدايه، ولم يمر شهر إلا وقد تخلص من أسره، واستقر لديه. فكان طليق آل سعيد. وفيهم يقول:

وحدنا سعيداً منجباً خير عصبة ... هم في بني أعصارهم كالمواسم
مشنفة أسماعهم بمدايح ... مسورة أيمانهم بالصوارم
فكم لهم في الحرب من فضل ناثر ... وكم لهم في السلم من فضل ناظم
تواليفهتواليف الحجارى بديعة، منها الحديقة في البديع. وهو كتاب مشهور، ومنها المسهب في غرايب المغرب. وافتتح خطبته بقوله: الحمد لله الذي جعل العباد من البلاد بمنزلة الأرواح من الأجساد، والأسياف من الأغماد. وهو في ستة مجلدات.
عبد الله بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن سعيد

ابن الخطيب السلماني

يكنى أبا محمد.
أوليته، تنظر في اسم جده.
حالهحسن السكل. جيد الفهم، يغطى منه رماد السكون جمرة حركة، منقبض عن الناس. قليل البشاشة، حسن الخط، وسط النظم. كتب عن الأمراء بالمغرب، وأنشدهم، واقتضى خلعهم وصكوكهم بالإقطاع والإحسان. ثم لما كانت الفتنة، كتب عن سلطان وطنه، معزز الخطة بالقيادة، وأنشدهم.
مشيختهقرأ على قاضي الجماعة، الشيخ الأستاذ الخطيب أبي القاسم الحسني، والأستاذ الخطيب أبي سعيد فرج بن لب التغلبي، واستظهر بعض المبادي في العربية، واستجيز له من أدركه ميلاده من أهل المشرق والمغرب.
شعرهمترفع عن الوسط إلى الإجادة، بما يكفله عذر الحداثة، وقد ثبت في اسم السلطان لهذا العهد، أبي عبد الله بن نصر، أيده الله، ما يدل على جودة قريحته، وذكاء طبعه. ومما دون الذي ثبت له حيث ذكر قوله:
لمن طلل بالرقمتين محيل ... عفت دمنتيه شمأل وقبول
يلوح كباقي الوشم غيره البلى ... وجادت عليه السحب وهي همول
فيا سعد مهلاً بالركاب لعلنا ... نسايل رعاً فالمحب سئول
قف العيس ننظر نظرة تذهب الأسى ويشفى بها بين الضلوع غليل
وعرج على الوادي المقدس بالحمى ... فطاب لديه مربع ومقيل
فيا حبذا تلك الديار وحبذا ... حديث بها للعاشقين طويل
دعوت لها سقيا الحمى عندما سرى ... وميض وعرف للنسيم عليل
وأرسلت دمعي للغمام مساجلاً ... فسال على الخدين منه مسيل
فأصبح ذاك الربع من بعد محله ... رياضاً بها الغصن المروح يميل
لين حال رسم الدار عما عهدته ... فعهد الهوى في القلب ليس يحول
ومما شجاني بعد ما سكن الهوى ... بكاء حمامات لهن هديل
توسدن فرع البان والنجم مايل ... وقد آن من جيش الظلام رحيل
فيا صاحبي دع عنك لومي فإنه ... كلام على سمع المحب ثقيل
تقول اصطباراً عن معاهدك الأني ... وهيهات صبري ما إليه سبيل
فلله عيناً من رآني وللأسا ... غداة استقلت بالخليط حمول
يطاول ليل التم مني مسهد ... وقد بان عني منزل وخليل
فيا ليت شعري هل يعودن ما مضى ... وهل يسمحن الدهر وهو بخيل
نثرهأجابني لما خاطبت الجملة من الكتاب، والسلطان رضي الله عنه، بالمنكب، في رحلة أعملها بما نصه:

ولله من فذة المعاني، حيث مشوق الفؤاد عاني، لما أنارت بها المغاني، غنين عن مطرب الأغاني، يا صاحب الإذعاني، أجب بالله من دعاني، إذا صرت من كثرة الأماني، بالشوق والوجد مثل ماني. وردت سحات سيدي التي أنشأت لغمام الرحمة، عند اشتداد الأزمة رياحاً، وملأت العيون محاسناً، الصدور انشراحاً، وأصبح رحيب قرطاسها، وعميم فضلها ونوالها، وأيناسها لفرسان البلاغة، مغدى ومراحاً. فلم أدر أصحيفة نسخت مسطورة، أم روضة نفحت ممطورة، أطيب من المسك منشقا، وأحسن من السلك متسقا، فملكتها مقادة خاطري، وأودعتها سواد قلبي وناظري، وطلعت علي طلوع الصبح، على عقب السرى، وخلصت خلوص الخيال مع سنة الكرى. فلله ما جلبت من أنس، وأذهبت لطايفة الشيطان من مس، وهاجت من الشوق، الذي شب عمره عن الطوق، والوجد الذي أصبح وارى الزند. فأقسم بباري النسيم، وواهب الحظوظ والقسم، لو أعطيت للنفس مقادتها، وسوغها إرادتها، ما قنعت بنيابة القرطاس والمداد، عن مباشرة الأرواح والأجساد، وإن أعرضت عقبة للشعير، ورأس المزاد وشمخ بأنفه وزاد، وما بين ذلك من علم باذخ، وطود شامخ، قد أذكرت العقاب عقابه، صافحت النجوم هضابه، قد طمح بطرفه، وشمخ بأنفه، وسال الوقار على عطفه:
ملكت عنان الريح راحته ... فجيادها من تحته تجري
وأما الحمل الهايج، والبحر المتمايج، والطلل المايل، والذنب الشايل، فمساجلة مولاي في ذلك المجال، من المحال، إذ العبد قصاراه ألفاظ مركبة، غير مرتبة:
هو جهد المقل وافاك مني ... إن جهد المقل غير قليل
وأقرأ على مولاي، أبقاه الله، سلاما عميماً، تنسم روضه نسيماً، ورف نظره، وعبق شميماً، والأوفر الأذكى منه عليه معادا، ما سفح السحاب إرعادا، وأبرق الغمام رعدا والحسام أبعادا، ورحمة الله وبركاته. من عبده الشبق لوجهه، عبد الله بن الخطيب، في الخامس عشر لجمادى الأولى عام تسعة وستين وسبعماية.
مولده: بحضرة غرناطة، يوم السبت سابع عشر صفر عام ثلاثة وأربعين وسبعماية.
؟

عبد الله بن محمد بن ساره البكري

شنترينى، سكن ألمرية وغرناطة، وتردد مادحاً ومنتجعاً شرقاً ومغرباً ويضرب في كثير من البلاد.
حالهكان ذا حظ صالح من النحو واللغة، وحفظ الأشعار، أديباً ماهراً، شاعراً مجيداً، مطبوع الاختراع والتوليد. تجول في شرق الأندلس وغربها، معلماً للنحو، ومادحاً ولاتها، وكتب عن بعضهم، وتعيش بالوراقة زمانا، وكان حسن الخط، جيد النقل والضبط.
؟

مشيخته

روى عن أبي الحسن بن الأخضر.
من روى عنه: روى عنه أبو بكر بن مسعود، وأبو جعفر بن الباذش، وأبو عثمن بن هرون، وأبو الطاهر التميمي، وأبو العباس بن علي اللص، وأبو العلاء بن الجنان. وأبو محمدبن يوسف القضاعي، وإبراهيم بن محمد السبتي.
؟

شعره

وشعره كثير جيد شهير. منه في حرفة الوراقة قوله:
أما الوراقة فهي أيكة حرفة ... أغصانها وثمارها الحرمان
شبهت صاحبها بإيرة خايط ... يكسو العراة وظهره عريان
وقال في نجم الرحيم، وهو من التشبيه العقيم:
وكوكب أبصرالعفريت مسترقاً ... فانقضى يذكي سريعاً خلفه لهبه
كفارس حل إخصاراً عمامته ... تجرها كلها من خلفه عدبه
وقال منه في المواعظ:
يا من يصيخ إلى داعي السفاه وقد ... نادى به الناعيان الشيب والكبر
إن كنت لا تسمع الذكر ففيم ترى ... في رأسك الواعيان السمع والبصر
ليس الأصم ولا الأعمى سوى رجل ... لم يهده الهاديان العين والأثر
لا الدهر يبقى على حال ولا الفلك ... الأعلى ولا النيران الشمس والقمر
لأرحلن عن الدنيا ولو كرهاً ... فراقها الثاويان البدو والحضر
وقال في موت ابنة له:
ألا يا موت كنت بنا رؤوفا ... فجددت السرور لنا بزورة
حمدنا سعيك المشكور لما ... كفيت مؤنة وسترت عورة
فأنكحنا الضريح بلا صداق ... وجهزنا العروس بغير شورة
وفاتهتوفي عبد الله بن ساره سنة تسع عشرة وخمسمائة.
عبد الله بن محمد الشراطيكنى أبا محمد، من أهل مالقة.
حاله

طالب جليل، ذكي، مدرك، ظريف، كثير الصلف والختروانة والإزراء بمن دونه، حاد النادرة، مرسل عنان الدعابة، شاعر مكثر، يقوم على الأدب والعربية، وله تقدم في الحساب، والبرهان على مسايله. استدعى إلى الكتابة بالباب السلطاني، واختص بولي العهد، ونيط به من العمل، وظيف نبيه، وكاد ينمو عشبه، ويتأشب جاهه، لو أن الليالي أمهلته، فاعتبط لأمد قريب من ظهوره، وكانت بينه وبين الوزير أبي عبد الله بن الحكيم، إحنة، تخلصه الحمام لأجلها، من كف انتقامه.
شعرهوشعره كثير، لكني لم أظفر منه إلا باليسير. نقلت من خط صاحبنا القاضي المؤرخ أبي الحسن بن الحسن، من نظم أبي محمد الشراط، في معنى، كان أدباء عصره، قد كلفوا بالنظم فيه، يظهر من هذه الأبيات في شمعة:
وكنت ألفت قبل اليوم إلفاً ... أنادي مرة فيجيب ألفاً
وكنا مثل وصل العهد وصلا ... وكنا مثل وصف الشهد وصفا
ففرق بيننا صرف الليالي ... وسوغنا كؤس البين صرفا
فصرت غداة يوم البين شمعا ... وسار فصار كالفسل المصفا
فدمعي لا يتم أسى وجسمي ... يغص بنار وجدي ليس يطفا
ثم في المعنى أيضاً:
حالي وحالك أضحت آية عجبا ... إن كنت مغربا أو كنت مغتربا
إذا دنوت فإني مشعر طرباً ... وإن نأيت فإني مشعل لها
كذاك الشمع لا تنفك حالته ... إلا إلى الناس مهما فارق الضربا
ومن ذلك أيضاً:
رحلتم وخلفتم مشوفكم نسيا ... رهين هيام لا يموت ولا يحيا
فضاقت على الأرض واعتاص مذهبي ... وما زلت في قومي ولا ضاقت الدنيا
وما باختيار شتت الدهر بيننا ... وهل يملك الإنسان من أمره شياً
فذا أضلعي لم تخب من أجلكم جوى ... وذا أدمعي لم تأل من بعدكم جريا
كأنني شمع في فؤاد وأدمع ... وقد فارقت من وصلكم ريا
وذكر لي، أن هذا صدر عنه في مجلس أنس مع الوزير أبي عبد الله ابن عيسى بمالقة، بحضرة طايفة من ظرفاء الأدباء.
وفاتهكان حيا سنة سبعمائة، وتوفي بغرناطة، وهي على حاله من الكتابة، رحمه الله.
عبد الله بن يوسف بن رضوان

بن يوسف بن رضوان النجاري

يكنى أبا القاسم، ويعرف باسم جده، من أهل مالقة، وصاحب القلم الأعلى لهذا العهد بالمغرب.
حالههذا الفاضل نسيج وحده، فهماً وانطباعاً، ولوذعية، مع الدين والصون، معم، مخول في الخير، مستول على خصال حميدة، من خط وأدب وحفظ، مشارك في معارف جملة. كتب ببلده عدلاً رضي، وأنشد السلطان عند حلوله ببلده. ورحل عن بلده إلى المغرب، فارتسم في كتابة الإنشاء بالباب السلطاني، ثم بان فضله، ونبه قدره، ولطف محله، وعاد إلى الأندلس، لما جرت على سلطانه الهزيمة بالقيروان، ولم ينتشله الدهر بعدها مع جملة من خواصه. فلما استأثر الله بالسلطان المذكور، موسوم التمحيص، وصير أمره إلى ولده بعده، جنح إليه، ولحق ببابه، مقترن الوفادة، بيمن الطاير، وسعادة النصبة، مظنة الاصطناع، فحصل على الحظوة، وأصبح في الأمد القريب، محلا للبث وجليساً في الخلوة، ومؤتمنا على خطة العلامة، من رجل ناهض بالكل، جلد على العمل، حذر من الذكر، متقلص ذيل الجاه، متهيب، غزير المشاركة، مطفف في حقوق الدول، عند انخفاض الأسعار، جالب لسوق الملك ما ينفق فيها، حار النادرة. مليح التندير، حلو الفكاهة. غزل مع العفة، حافظ للعيون، مقدم في باب التحسين والتنقيح، لم ينشب الملك أن أنس منه بهذه الحال، فشد عليه يد الغبطة. وأنشب فيه فيه براثن الأثرة، ورمى إليه بمقاليد الخدمة، فسما مكانه، وعلا كعبه، ونما عشه. وهو الآن بحاله الموصوفة، من مفاخر قطره. ومناقب وطنه، كثر الله مثله.
مشيخته

قرأ ببلده على المقري أبي محمد بن أيوب، والمقري الصالح أبي عبد الله المهندس، والأستاذ أبي عبد اله بن أبي الجيش، والقاضي أبي جعفر بن عبد الحق، وروى عن الخطيب المحدث أبي جعفر الطنجالي، والقاضي أبي بكر بن منظور. وبغرناطة عن جلة، منهم شيخنا رئيس الكتاب أبو الحسنى، ولازم بالمغرب الرييس أبا محمد عبد المهيمن الحضرمي، والقاضي أبا إسحق إبراهيم بن أبي يحيى، وأبا العباس بن بربوع السبتي. وبتلمسان عن أبي عبد الله الآبلي، وأبي عبد الله بن النجار وغيرهما. وبتونس عن قاضي الجماعة أبي عبد الله بن السلام. وعن جماعة غيرهم.
شعرهونظمه ونثره متجاريان لهذا العهد في ميدان الإجادة. أما شعره فمتناسب الوضع، سهل المأخذ، ظاهر الرواء، محكم الإمرة للتنقيح. وأما نثره فطريف السجع، كثير الدالة، مطيع لدعوة البديهة، وربما استعمل الكلام المرسل، فجرى يراعه في ميدانه ملئ عنانه.
وجرى ذكره في التاج أيام لم يفهق حرضه، ولا أزهر روضه، ولا تباينت سماؤه ولا أرضه. بما نصه: أديب أحسن ما شا، وفتح قليبه فملأ الدلو وبل الرشا. وعانى على حداثته الشعر والإنشا، وله ببلده بيت معمور بفضل وأمانة، ومجد وديانة. ونشأ هذا الفاضل على أتم العفاف والصون. فما مال إلى فساد بعد الكون. وله خط بارع. وفهم إلى الغوامض مسارع. وقد أثبت من كلامه، ونفثات أقلامه، كل محكم العقود، زارياً بنت العنقود. فمن ذلك قصيدة أنشدها للسلطان أمير المسلمين، مهنيا بهلاك الأسطول الحربي بالزقاق الغربي، أجاد أغراضها وسبك المعاني وراضها، وهي قوله:
لعلكما أن ترعيا لي وسايلا ... فبالله عوجا بالركاب وسايلا
بأوطان أوطار قفا ومآربى ... وبالحب خصا بالسلام المنازلا
ألا فانشدا بين القباب من الحما ... فؤاد شد أضحي عن الجسم راحلا
وبثا صباً بات هنالك واشرحا ... لهم من أحاديثي عرضاً وطايلا
رعى الله مثواكم على القرب والنوى ... ولا زال هامي السحب في الربع هاملا
وهل لزمان باللوى سقى اللوى ... مآرب فما ألقى مدى الدهر حايلا
فحظي بعيد الدار منه بقربه ... ويورد فيه من مناه مناهلا
وحملني من صرفه ما يؤدني ... ومكن مني الخطوب شواغلا
عتبت عله فاغتدى لي عاتبا ... وقال اصخ لي لا تكن لي عاذلا
أتعتبني إذ قد أفدتك موقفا ... لدى أعظم الأملاك حلماً ونايلا
مليك جاه الله بالخلق الرضا ... وأعلى له في المكرمات المنازلا
مليك علا فوق السماك فطرفه ... غدا كهلال الأفق يبصرنا علا
إذا ما دجا ليل الخطوب فبشره ... صباح وبدر لا يرى الدهر آفلا
نماه من الأنصار غر أكابر ... لهم شيم ملء الفضاء فضايلا
تلوا سور النعماء في حزبهم كما ... جلوا صور الأيام غراً جلايلا
تسامت لهم في المعلوات مراتب ... يرى زحل دون المراتب زاحلا
عصابة نصر الله طابت أواخرا ... كما قد زكت أصلا وطابت أوايلا
لقد كان ربع المجد من قبل خالياً ... ومن آل نصر عاد يبصر آهلا
إذا يوسف منهم تلوح يمينه ... تقول سحاب الجود والبأس هاطلا
كتايبه في الفتح تكتب أسطرا ... تبين من الأنفال فيها المسايلا
عوامله بالحذف تحكم في العد ... كما حكموا في حذف جزم عواملا
يبدد جمع الكفر رعبا وهيبة ... كما بددت منه اليمين النوافلا
ومنها في وصفه الأسطول واللقاء:
ولما استقامت بالزقاق أساطل ... واستقلت للعود محافلا
رآها عدو الله فانفض جمعه ... وأبصر أمواج البحار أساطلا
ومن دهش ظن السواحل أبحرا ... ومن رعب خال البحار سواحلا
ومن جندكم هبت عليه عواصف ... تدمر أدناها الصلاب الجنادلا

تفرقهم أيدي سبا وتبيدهم ... فقد خلفت فيهم حساما وذابلا
وعهدي بمر الريح للنار موقدا ... فقد أطفأت تلك الحروب المشاعلا
وكان لهم برد العذاب ولم يكن ... سلاماً وما كادوه قد عاد باطلا
حداهم هواهم للإسار وللفنا ... فما أفلتوا من ذا وذاك حبايلا
فهم بين عان في القيود مصفد ... وفان عليه السيف أصبح صايلا
ستهلك ما بالبر منهم جنودكم ... كما أهلكت من كان بالبحر عاجلا
وقال أيضاً يمدحه:
نشرت لواء النصر واليمن والسعد ... وأطلعت وجه اليسر والأمن والرفد
أعدت لنا الدنيا نعيماً ولذة ... ألا للمعالي ما تعيد وما تبد
بنوركم والله يكلأ نوركم ... تبدت لنا سبل السعادة والرشد
تحلى لكم بالملك نحر ولبة ... فراق كذاك الجيد يزدان بالعقد
مآثركم قد سطرتها يد العلا ... على صفحات الفخر أو مفرق الحمد
بمدحكم للقرآن أثنى منزلا ... وقد حزتم مجدا بجدكم سعد
كفاكم فخارا أنه لكم أب ... ومن فخره إن أنت تدعوه بالجد
ثناؤكم هذا أم المسك نافح ... وذكركم أم عاطر العنبر الورد
أجل ذكركم أزكى وأذكى لناشق ... كما أنكم أجلى وأعلا لمشهد
طلعتن على الآفاق نورا وبهجة ... فما أنت إلا البدر في طالع السعد
وفي جملة الأملاك عز ورفعة ... ودم في خلود الملك والنصر والسعد
ولو أثنى فقت سجان وايل ... وأربيت في شعري على الشاعر الكند
لما قمت بالمعشار من بعض مالكم ... من الجود والأفضال والبذل والرفد
وقال في شيخه أبي بكر بن منظور رحمه الله.
جلالك أولى بالعلا المخلد ... وذكرك أعلى الذكر في كل مشهد
لمجدك كان العز يذخر والعلى ... وأنك للأولى بأرفع سؤدد
أبي الله إلا أن تكون مشرفاً ... بمقعد خير العالمين محمد
فهنيت بالفخر السني محله ... وهنيت بالمجد الرفيع المجدد
شهدت بما أوليتني من عوارف ... وخولت من نعمى وأسديت من يد
وما حزت من مجد كريم نجاره ... وما لك من مجد ورفعة محتد
لقد نبأتني بالرواح لعزكم ... مخايل إسعاد تروح وتغتد
تحدثني نفسي وإني لصادق ... بأن سوف تلقى كاملا كل مقصد
دليلي بهذا أنك الماجد الذي ... تسامى علوا فوق كل ممجد
ليفخر أولو الفخر المنيف بأنكم ... لهم علم أعلى به الكل مقتدي
إمام علوم معتلي القدر لم يزل ... رداء المعالي والعوارف يرتد
وقاض إذا الأحكام أشكل أمرها ... جلا لها برأي الحقيقة مرشد
إذا الحق أبدى نوره عند حكمه ... رأيت له حد الحسام المهند
وإن جميع الخلق في الحق عنده ... سواسية ما بين دان وسيد
هنياً لنا بل للقضاء وفضله ... بقاض حليم في القضاء مسدد
أمات به الرحمن كل ضلالة ... وأحيا بما أولاه شرعة أحمد
وكاين تراه لا يزال ملازما ... لأمر بعرف أو لزام بمسجد
وما زال قدماً للحقيقة حاميا ... وللشرعة البيضاء يهدي ويهتدي
ويمنح أفضالا ويولى أيادياً ... وإحسانه للمعتفين بمرصد
يقيد أحراراً بمنطق جوده ... فما إن يني عن مطلق أو مقيد
نعم إن يكن للفضل شخص فإنما ... بشيمته الغراء في الفضل يبتدي
أيا ناثراً أسى المعارف والغنا ... ويا طارقا يطوي السرى كل فدفد
ألا الق عصا التسيار واعش لناره ... تجد خر نار عندها خير موقد
ومن مقطوعاته وقوله:

تبرأت من حولي إليك وأيقنت ... برحماك آمالي فصح يقيني
فلا أرهب الأيام إذ كنت ملجأي ... وحسبي يقيني باليقين يقيني
ومن شعره لهذا العهد منقولا من خطه، قال مما نظمه فلان، يعني نفسه في كتاب الشفا، نفع الله به:
سل بالعلى وسنى المعارف يبهر ... هل زانها إلا الأيمة معشر
وهل للمفاخر غير ما شهدت به ... آي الكتاب وخارتها الأعصر
هم ما هم شرفاً ونيل مراتب ... يوم القيام إذا يهول المحشر
ورثوا الهدى عن خير مبعوث به ... فخراً هديهم للنعيم الأكبر
وعياض الأعلى قداحاً في العلى ... منهم وحوله الفخار الأظهر
بشفايه تشفى الصدور وإنه ... لرشاد نار به الشهاب النير
هو للتوالف روح صورتها وقل ... هو تاج مفرقها البهي الأنور
أفنت محاسنه المدايح مثل ما ... لمعيده بعد الثناء الأعطر
وله اليد البيضاء في تأليفه ... عند الجميع ففضلها لا ينكر
هو مورد الهيم العطاش هفت ... بهم أشواقهم فاعتاض منه المصدر
فبه ننال من الرضى ما نبتغي ... وبكونه فينا نغاث ونمطر
أنظر إليه تميمة من كل ما ... تخشى من الخطب المهول وتحذر
لكأنني بك يا عياض مهنأ ... بالفوز والملأ العلي مبشر
لكأنني بك يا عياض منعما ... بجوار أحمد يعتلي بك مظهر
لكأنني بك يا عياض متوجاً ... تاج الكرامة عند ربك تخبر
لكأنني بك راوياً من حوضه ... إذا لا صدى ترويه إلا الكوثر
فعلى محبته طويت ضمايرا ... وضحت شواهدها بكتبك تؤثر
ها إنهن لشرعة الهادي الرضا ... صدف يصان بهن منها جوهر
فجزاك رب العالمين تحية ... يهب النعيم سريرها والمنبر
وسقى هزيم الودق مضجعك الذي ... ما زال بالرحمي يؤم ويعمر
وقال في محمل الكتب:
أنا الحبر في حمل العلوم وإن تقل ... بأني حلى عن حلاهن تعدل
أقيد ضروب العلم ما دمت قايما ... وإن لم أقم فالعلم عن بمعزل
خدمت بتقوى الله خير خليفه ... فبوأني من قربه خير منزل
أبا سالم لا زال في الدهر سالما ... يسوغ من شرب المنا كل منهل
وكان قد رأى ليلة الاثنين الثانية لجمادى الأولى عام ستين وسبعماية في النوم، كأن الوزير أبا علي بن عمر بن يخلف بن عمران الفدودي، يأمره أن يجيب عن كلام من كتب إليه. فأجاب عنه بأبيات نظمها في النوم، ولم يحفظ منها غير هذين البيتين:
وإني لأجزى بما قد أتاه ... صديقي احتمالا لفعل الحرفاء
بتمكين ود وإثبات عهد ... وإجزال حمد وبذل حياء
ومن نظمه في التورية:
وبخيل لما دعوه لسكني ... منزل بالجنان ضن بذاك
قال لي مخزن بداري فيه ... جل ما لي فلست للدار شاك
لا تعرج على الجنان بسكني ... ولتكن ساكناً بمخزن مالك
ومن ذلك أيضا:
يا رب منشأة عجبت لشأنها ... وقد احتوت في البحر أعجب شان
سكنت بجنبها عصابة شدة ... حلت محل الروح في الجثمان
فتحركت بإرادة مع أنها ... في حسنها ليست من الحيوان
وجرت كما قد شاء سكانها ... فعلمت أن السر في السكان
ومن ذلك أيضاً قوله:
وذي خدع دعوه لاشتغال ... وما عرفوه غثاً من سمين
فأظهر زهده وغنى بمال ... وجيش الحرص منه في كمين
وأقسم لا فعلت بمن خب ... فيا عجباً لخلاف مهين
يقد بسيره ويمين حلف ... ليأكل باليسار وباليمين
شيء من نثرهخاطبته من مدينة سلا بما نصه، حسبما يظهر من غرضه:
مرضت فأيامي لذاك مريضة ... وبرؤك مقرون برئ اعتلالها

فما راع ذاك الذات للضر رائع ... ولا وسمت بالقسم غر خلالها
وينظر باقي الرسالة في خبر التعريف بمؤلف الكتاب فراجعني عن ذلك بما نصه:
متى شيت ألفي من علايك كل ما ... ينيل من الآمال خير منالها
كبر اعتلال من دعايك زارني ... وعادات بر لم ترم عن وصالها
أبقى الله ذلك الجلال الأعلى متطولاً بتأكيد البر، متفضلاً بموجبات الحمد والشكر. وردتني سماة سيدي المشتملة على معهود تشريفه، وفضله الغنى عن تعريفه، متحفياً في السؤال عن شرح الحال، ومعلناً ما تحلى به من كرم الخلال، والشرف العال، والمعظم على ما يسر ذلك الجلال، الوزاري، الرياسي، أجراه الله على أفضل ما عوده، كما أعلى في كل مكرمة يده، ذلك ببركة دعايه الصالح، وحبه المخيم بين الجوانح. والله سبحانه المحمود على نعمه، ومواهب لطفه وكرمه، وهو سبحانه المسئول أن يسنى لسيدي قرار الخاطر، على ما يسره في الباطن والظاهر. بمن الله وفضله، والسلام على جلاله الأعلى ورحمة الله وبركاته. كتبه المعظم الشاكر، الداعي المحب، ابن رضوان وفقه الله.
ومما خاطبني به، وقد جرت بيني وبين المتغلب على دولتهم، رقاع، فيها سلم وإيقاع ما نصه:

يا سيدي الذي علا مجده قدرا وخطرا، وسما ذكره في الأندية الحافلة ثناء وشكرا، وسما فخره في المراتب الدينية والدنيوية حمداً وأجراً، أبقاك الله جميل السعي، أصيل الرأي، سديد الرمي، رشيد الأمر والنهى، وممدوحاً من بلغاء زمانك، بما يقصر بالنوابغ والعشي، مفتوحاً لك باب القبول، عند الواحد الحق. وصلني كتابك الذي هو للإعجاز آية، وللإحسان غاية، ولشاهد الحسن تبريز، ولثوب الأدب تطريز، وفي النقد إبريز، وقفت منه على ما لا تفي العبارة بعجايبه، ولا يحيد الفضل كله عن مذاهبه، من كل أسلوب طار في الجو إعراباً وإغراباً، وملك من سحر البيان خطاباً، وحمد ثناه مطالاً وحديثاً مطاباً، شأن من قصر عن شأو البلغاء، بعد الإغياء، ووقف دون سباق البديع بعد الإعياء، فلم يشق غباره، ولا اقتفيت إلا بالوهم آثاره، فلله من سيدي إتحاف سر ما شاء، وأحكم الإنشاء، وبر الأكابر والإنشاء، فما شئت من إفصاح وكتابة، وبر ورعاية، وفهم وإفهام، وتخصيص وإبهام، وكبح لطرف النفس وقمع، وخفض في الجواب ورفع، وتحرج وتورع، وترقص وتوسع، وجماع وأصحاب، وعتب وإعتاب، وإدلال على أحباب، وإلى غير ذلك من أنواع الأغراض، والمقاصد السالمة جواهرها من الأعراض، جملة جمعت المحاسن، وأمتعت السامع والمعاين، وحلت من امتناعها مع السهولة الحرم، إلا من زاد الله تلك المعارف ظهوراً، وجعلها في شرع المكارم هدى ونوراً. وأما شكر الجناب الوزاري، أسماه الله، بحكم النيابة عن جلالكم، فقد أبلغت فيه حمدي، وبذلت ما عندي، وودي لكم ودي، ووردي لكم من المخالصة لكم وردي، وكل حالات ذلك الكمال، مجمع على تفضيله، معتمد من الثناء العاطر بإجماله وتفصيله. وأما مؤديه إليكم أخي وسيدي الفقيه المعظم، قاضي الحضرة وخطيبها، أبو الحسن، أدام الله عزته، وحفظ أخوته، فقد قرر من أوصاف كمالاتكم، ما لا تفي بتقريره الأمثلة من أولى العلم بتلك السجايا الغر، والشيم الزهر، وما تحليتم به من التقوى والبر، والعدل والفضل، والصبر والشكر، ولحمل المتاعب في أمور الجهاد، وترك الملاذ والدعة في مرضاة رب العباد، والإعراض عن الفانية، والإقبال على الباقية، فيا لها من صفات خلعت السعادة عليكم مطارفها، وأجزلت عوارفها، وجمعت لكم تالدها وطارفها، زكى الله ثوابها وجدد أثوابها، ووصل بالقبول أسبابها. وذكر لي أيضاً من حسناتكم، المنقبة الكبيرة، والقربة الأثيرة، في إقامة المارستان بالحضرة، والتسبب في إنشاء تلك المكرمة المبتكرة، التي هي من مهمات المسلمين بالمحل الأعلى، ومن ضروريات الدين بالمزية الفضلى، وما ذخره القدر لكم من الأجر، في ذلك السعي المشكور، والعمل المبرور، فسرني لتلك المجادة، إحراز ذلك الفضل العظيم، والفوز بثوابه الكريم، وفخره العميم. ومعلوم، أبقكم الله، ما تقدم من ضياع الغربا ولاضعفا، من المضي فيما سلف هنالك، وقبل ما قدر لهم من المرتفق العظيم وبذلك، حتى أن من حفظ قول عمر رضي الله عنه، والله لو ضاعت نخلة بشاطئ الفرات، لخفت أن يسأل الله عنها عمر. لا شك في أن من تقدم من أهل الأمر هنالكم، لا بد من سؤاله عمن ضاع لعدم القيام بهذا الواجب المغفل. والحمد لله على ما خصكم به من مزية قوله صلى الله عليه وسلم، " إذا أراد الله بخليفة خيراً، جعل ل وزيراً صالحاً، إن نسي ذكره، وإن ذكر أعانه " .

وأما كتاب المحبة فقد وقف المعظم على ما وجهتهم منه، وقوفاً ظهر بمزية التأمل، وعلم منه ما ترك للآخر للأول، ولم يشك في أن الفضل للحاكي، وشتان بين الباكي والمتباكي. حقا لقد فاق التأليف جمعاً وترتيباً، وذهب في الطرق الصوفية مذهباً عجيباً. ولقد بهرت معانيه كالعرائس المجلوة حسناً ونضارة، وبرعت بدايعه وروايعه سنى وإنارة، وألفاظاً مختارة، وكؤوسا مدارة، وغيوثاً من البركات مدرارة، أحسن بما أدته تلك الغرر السافرة، والأمثال السايرة، والخمايل الناظرة، واللآلئ المفاخرة، والنجوم الزاهرة. وأما إنه لكتاب تضمن زبدة العلوم، وثمرة الفهوم، وإن موضعه للباب اللباب، وخلاصة الألباب، وفذلكة الحساب، وفتح الملك الوهاب، سنى الله لكم ولنا كماله، وبلغ الجميع منا آماله، وجعل السعي فيه خالصاً لوجهه، وكفيلاً بمعرفته بمنه وكرمه، وهو سبحانه يبقى بركتكم، ويكلأ ذاتكم الكريمة وحوزتكم، بفضله وطوله وقوته والسلام الكريم يخصكم به كثيراً أثيراً، معظم مقداركم، وملتزم إجلالكم وإكباركم، ابن رضوان، وفقه الله، وكتب في الثامن والعشرين لرجب من عام سبعة وستين وسبعمائة.
وهو الآن بحاله الموصوفة، أعانه الله. وله تردد إلى حضرة غرناطة، واجتياز وإلمام.
؟؟

عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الملك

بن سعيد بن خلف بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار ين ياسر غرناطي، قلعي الأصل، سكن مالقة.
حالهقال صاحب الطالع هو المشهور باليربطول. زاد على أخيه بخفة الروح، وطيب النوادر، واختار سكنى مالقة، فما زال بها، يمشي على كواهل ما تعاقب فيها من الدول، ويقلب طرفه، مما نال من ولاياتها، بين الخيل والخول، حتى أن ابن عسكر، قاضى مالقة وعالمها، كان من جملة من مدحه، وتوسل به إلى بلوغ أغراضه عند القوم، وصنف له شجرة الأنساب السعيدية. وكان قبيح المنظر، مع كونه من رياحين الفضل والأدب. فمن الحكايات المتعلقة بذلك، أنه كونه من رياحين الفضل والأدب. فمن الحكايات المتعلقة بذلك، أنه دخل يوماً على الوالي بغرناطة، السيد أبي إبراهيم، وجعل يساره، وكان مختصاً به، واقتضى ذلك أن رد ظهره للشيخ الفقيه الجليل، عميد البلدة، أبي الحسن سهل بن مالك، ثم التفت فرد وجهه إليه، وقال اعتذر لكم بأمر ضروري فقال أبو الحسن، إنما تعتذر لسيدنا، فانقلب المجلس ضحكاً. ومنها أنه خرج إلى سوق الدواب مع ابن يحيى الحضرمي المشهور أيضاً بخفة الروح، وكان مسلطاً على بني سعيد، فبينما هو واقف، إذ النخاس ينادي على فرس، فم يشرب من القادوس، وعين تحصد بالمنجل، فقال له يا قايد أبا محمد، سر بنا من هنا لئلا تؤخذ من يدي، ولا أقدر لك بحيلة، فعلم مقصده، ولم يخفف عليه أن تلك صورته، فقال سل جارتك عنها، فمضى لأمه، وأوقع بينها وبينه، فحلف أن لا يدخل عليها الدار. قال أبو عمران بن سعيد، واتفق أن جزت بدار أم الحضرمي، فرأيته إلى ناحية، وهو كثيب منكسر، فقلت له ما خبرك يا أبا يحيى، فقال لي عن أمه وعن نفسه، النساء يرمين أبناء الزنا صغارا، وهذه العجوز الفاعلة الصانعة، ترميني ابن خمسين سنة، فقلت له وما سبب ذلك، فقال ابن عمك يوسف الجمال، لا أخذ الله له بيد، فما زلت حتى أصلحت بينها وبينه.
ومن نوادر أجوبته المسكتة، أنه كان كثير الخلطة بمراكش لأحد السادة، لا يفارقه، إلى أن ولي ذلك السيد، وتمول، واشتغل بدنياه عنه، فقيل له، نرى السيد فلاناً أصرب عن صحبتك ومنادمتك، فقال، كان يحتاج إلى وقتاً كان يتبخر بي، وأما اليوم فإنه يتبخر بالعود والند والعنبر. وقال له شخص كان يلقب بفسيوات في مجلس خاص، أي فائدة في اليربطول، وفيم ذا يحتاج إليه، فقال له لا تقل هذا، فإنه يقطع رايحة الفسا، فود أنه لم ينطق. وتكلم شخص من المترفين فقال، أمس بعنا الباذنجان التي بدار خالتي، بعشرين مثقالا، فقال لو بعتم الكريز التي فيها لساوي أكثر من ماية.

وأخباره شهيرة، قال أبو الحسن علي بن موسى، وقعت في رسايل الكاتب الجليل، شيخ الكتاب أبي زيد الفازازي، على رسايل في حق أبي محمد اليربطول، ومنه إليه، فمنها في رسالة عن السيد أبي العلاء صاحب قرطبة، إلى أخيه أبي محمد اليربطول، ومنه إليه، فمنها في رسالة عن السيد أبي العلاء صاحب قرطبة، إلى أخيه أبي موسى صاحب مالقة، ويصلكم به إن شاء الله، القايد الأجل الأكرم، الحسيب الأمجد الأنجد، أبو محمد أدام الله كرامته، وكتب سلامته، وهو الأكيد الحرمة، القديم الخدمة، المرعى الماتة والذمة المستحق البر في وجوه كثيرة، ولمعان أثيرة، منها أنه من عقب عمار بن ياسر رضوان الله عليه، وحسبكم هذا مجداً مؤثلاً، وشرفاً موصلاً، ومنها تعين بيته وسلفه، واختصاصهم من النجابة والظهور، بأنوه الإسم وأشرفه، وكونهم بين معتكف على مضجعه، أو مجاهد بمرهفه ومثقفه، ومنها سبقهم إلى هذا الأمر العزيز، وتميزهم بأثرة الشفوف والتمييز، ومنها سبقهم إلى هذا الأمر العزيز، وتميزهم بأثرة الشفوف والتمييز، ومنها الانقطاع إلى أخيكم، ممد مورده ومصدره، وكرم مغيبه ومحضره، وهذه وسايل شتى، وأذمة قل ما تتأتى لغيره.
وفاتهكانت وفاته بمالقة بعد عشرين وستماية، قال الرييس، أبو عمر بن حكم، شاهدته قد وصل إلى السيد أبي محمد البياسي أيام ثورته، وهو بشنتلية مع وفد مالقة بالبيعة سنة ثنتين وعشرين وستماية.
ومن الصوفية والفقراء
ابن أبي المجدعبد الله بن عبد البر بن سليمن بن محمد بن أشعث الرعيني من أهل أرجدونه من كورة ريه، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن أبي المجد.
حالهكان من أعلام الكور سلفاً، وترتباً، وصلاحاً، وإنابة، ونية في الصالحين، متسع الذرع للوارد، كثير الإيثار بما تيسر، مليح التخلق، حسن السمت، طيب النفس، حسن الظن، له حظ من الطلب، من فقه وقراءات وفريضة، وخوض في طريقة الصوفية، وأدب لا بأس به، قطع عمره خطيباً وقاضياً ببلده، ووزيراً، وكتب بالدار السلطانية، في كل ذلك لم يفارق السداد.
مشيختهقرأ على الأستاذ الجليل أبي جعفر بن الزبير. رحل إليه من وطنه عام اثنين وتسعين وستماية، ولازمه وانتفع به، أخذ عنه الكتاب العزيز والعربية، وسمع عليه الكثير من الحديث، وعلى الخطيب الصوفي المحقق أبي الحسن فضل بن محمد بن فضيلة المعافري، وعلى الخطيب المحدث أبي عبد الله محمد بن عمر بن رشيد، وسمع على الشيخ القاضي الراوية أبي محمد النبعي، والوزير المعمر المحدث الحسيب أبي محمد عبد المنعم بن سماك العاملي، والعدل الراوية أبي الحسن بن مستقور. وقرأ بمالقة على الأستاذ أبي بكر بن الفخار، وأجازه من أهل المشرق طائفة.
شعرهمما حدثني ابن أخته صاحبنا أبو عثمن بن سعيد. قال نظم الفقيه القاضي الكاتب أبو بكر بن شبرين ببيت الكتاب مألف الجملة، رحمهم الله، هذين البيتين:
ألا يا محب المصطفى زد صبابة ... وضمخ لسان الذكر منه بطيبه
ولا تعبأن بالمبطلين فإنما ... علامة حب الله حب حبيبه
فأخذ الأصحاب في تذييل ذلك. فقال الشيخ أبو الحسن بن الجياب رحمه الله:
فمن يعمر الأوقات طراً بذكره ... فليس نصيب في الهدى كنصيبه
ومن كان عنه معرضاً طول دهره ... فكيف يرجيه شفيع ذنوبه
وقال أبو القاسم بن أبي القاسم بن أبي العافية:
أليس الذي جلى دجا الجهل هديه ... بنور أقمنا بعده نهتدي به
ومن لم يكن من دأبه شكر منعم ... فمشهده في الناس مثل مغيبه
وقال أبو بكر بن أرقم:
نبى هدانا من ضلال وحيرة ... إلى مرتقى سامي المحل خصيبه
فهل يذكر الملهوف فضل مجيره ... ويغمط شاكي الداء شكر طبيبه
وانتهى القول إلى الخطيب أبي محمد بن أبي المجد فقال رحمه الله مذيلاً كذلك:
ومن قال مغروراً حجابك ذكره ... فذلك مغمور طريد عيوبه
وذكر سول الله فرض مؤكد ... وكل محق قايل بوجوبه
وقال يوماً شيخنا أبو الحسن بن الجياب هذين البيتين على عادة الأدباء في اختيار الأذهان:
جاهد النفس جاهدا فإذا ما ... فنيت عنك فهي عين الوجود

وليكن حكمك المسدد فيها ... حكم سعد في قتله لليهود
قال، فأجابه أبو محمد بن أبي المجد:
أيها العارف المعبر ذوقا ... عن معان غزيرة في الوجود
إن حال الفنا عن كل غير ... لمقام المراد غير المريد
كيف لي بالجهاد غير معان ... وعدوه مظاهر بجنود
ولو أني حكمت فيمن ذكرتم ... حكم سعد لكنت جد سعيد
فأراها صبابة بي فتوناً ... وأراني في حبها كيزيد
سوف أسلو بحبكم عن سواها ... ولو أبدت فعل المحب الودود
ليس شيء سوى إلآهك يبقى ... واعتبر صدق ذا بقول لبيد
وفاتهتوفي رحمه الله، ليلة النصف من شعبان المكرم عام تسعة وثلاثين وسبعماية. وكان يجمع الفقراء ويحضر طائفتهم، وتظهر عليه حال، لا يتمالك معها، وربما أوحشت من لا يعرفه بها.
عبد الله بن فارس بن زيانمن بني عبد الوادي، تلمساني يكنى أبا محمد، وينتمي إلى بني زيان من بيت أمرائهم.
كذا نقلت من خط صاحبنا الفقيه القاضي أبي الطاهر قاضي الجماعة أبي جعفر بن جعفر بن فركون، وله بأحواله عناية، وله إليه تردد كثير وزيارة. قال ورد الأندلس مع أبيه، وهو طفل صغير، واستقر بقتورية في ديوان غزانها. ولما توفي أبوه، سلك مسلكه برهة، ورفض ذلك، وجعل يتردد بين الولد، وانقطع لشأنه.
حالههذا الرجل غريب النزعة في الانقطاع عن الخلق، ينقطع ببعض جبال بني مشرف، واتخذ فيها كهوفاً وبيوتاً من الشعر أزيد من أربعين عاماً، وهلم جرا، منفردا، لا يداخل أجدا، ولا يلابسه من العرب، ويجعل الحلفاء في عنقه أختلف فيه، فمن ناسب ذلك إلى التلبيس وإلى لوثة تأتيه، وربما أثاب بشيء، ويطلبون دعاه ومكالمته، فربما أفهم، وربما أبهم.
محنتهذكروا أنه ورث عن أخ له ما لا غنياً، وقدم مالقة، وقد سرق تاجر بها ذهباً عينا، فاتهم بها، فجرت عليه محنة كبيرة من الضرب الوجيع، ثم ظهرت براءته، وطلب الحاكم الجاير منه العفو، فعفا عنه، وقال لله عندي حقوق وذنوب، لعل بهذا أكفرها، وصرف عليه المال فأباه، وقال لا حاجة لي به مال سوء، وتركه وانصرف، وكان من أمر انقطاعه ما ذكر.
شيء من أخباره: استفاض عنه بالجهة المذكورة شفاء المرضى، وتفريج الكربات إلى غير ذلك من أخبار لا تحصى كثيرة. وهو إلى هذا العهد بحاله الموصوفة، وهو عام سبعين وسبعماية.
مولده: بتلمسان عام تسعين وستماية. ودخل غرناطة غير ما مرة. قال الفقيه أبو الطاهر منها في عام عشرة وسبعماية.
ابن العسالعبد الله بن فرج بن غزلون اليحصبي يعرف بابن العسال، ويكنى أبا محمد، طليطلي الأصل. سكن غرناطة واستوطنها، الصالح المقصود التربة، المبرور البقعة، المفزع لأهل المدينة عند الشدة.
حالهقال ابن الصيرفي، كان رحمه الله، فذا في وقته، غريب الجود، طرفاً في الخير والزهد والورع، له في كل جو متنفس، يضرب في كل علم بسهم، وله في الوعظ تواليف كبيرة، وأشعاره في الزهد مشهورة، جارية على ألسنة الناس، أكثرها كالأمثال جيدة الرصعة، صحيحة المباني والمعاني. وكان يلحق في الفقه. ويجلس للوعظ. وقال الغافقي، كان فقيهاً جليلاً، زاهداً، متفنناً، فصيحاً لسنا، الأغلب عليه مطبوعا. كان له مجلس، يقرأ عليه فيه الحفظ والتفسير، ويتكلم عليه، ويقص من حفظه أحاديث. وألف في أنواع من العلوم، وكان يغظ الناس بجامع غرناطة، غريباً في وقته، فذا ي دهره، عزيز الوجود.
مشيختهروى عن أبي محمد مكي بن أبي طالب، وأبي عمرو، المقري الداني، وأبي عمر بن عبد البر، وأبي إسحق إبراهيم بن مسعود الإلبيري الزاهد، وعن أبيه فرج، وعن أبي زيد الحشا القاضي، وعن القاضي أبي الوليد الباجي.
شعرهوشعره كثير، ومن أمثل ما روى منه قوله:
لست وجيهاً لدي إلهي ... في مبدإ الأمر والمعاد
لو كنت وجيهاً لما براني ... في عالم الكون والفساد
وفاته

توفي رحمه الله يوم الاثنين لعشر خلون من رمضان عام سبعة وثمانين وأربعمائة وألحد ضحى يوم الثلاثاء بعده بمقبرة باب إلبيرة بين الجبانتين. ويعرف المكان إلى الآن بمقبرة العسال. وكان له يوم مشهود، وقد نيف على الثمانين رحمه الله، ونفع به.
ومن الملوك والأمراء والأعيان والوزراء
عبد الرحمن بن عبد الله بن معاويةبن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية، أمير المؤمنين الناصر لدين الله الخليفة الممتع، المجدود، المظفر، البعيد الذكر، الشهير الصيت.
حالهكان أبيض، أشهل، حسن الوجه، عظيم الجسم، قصير الساقين. أول من تسمى أمير المؤمنين، ولي الخلافة، فعلا جده، وبعد صيته، وتوطأ ملكه، وكأن خلافته كانت شمسا نافية للظلمات، فبايعه أجداده وأعمامه وأهل بيته، على حداثة السن، وجدة العمر، فجدد الخلافة، وأحيا الدعوة، وزين الملك، ووطد الدولة، وأجرى الله له من السعد، ما يعظم عنه الوصف، ويجل عن الذكر، وهيأ له استنزال الثوار والمنافقين، واجتثاث جراثيمهم.
بنوه: أحد عشر، منهم الحكم الخليفة بعده، والمنذر، وعبد الله، وعبد الجبار.
حجابه: بدر مولاه، وموسى بن حدير.
قضاته: جملة منهم أسلم بن عبد العزيز، وأحمد بن بقي، ومنذر ابن سعيد البلوطي.
نقش خاتمة: عبد الرحمن بقضاء الله راض.
أمه: أم ولد تسمى مزنة. وبويع له في ربيع الأول من سنة تسع وتسعين ومائتين.
دخوله إلبيرهقال المؤرخ، أول غزوة غزاها بعد أن استحجب بدرا مولاه، وخرج إليها يوم الخميس رابع عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ثلاثمائة مفوضاً إليه، ومستدعياً نصره، واستيلاف الشاردين، وتأمين الخايفين إلى ناحية كورة جيان، وحصن المنتلون، فاستنزل منه سعيد بن هذيل، وأناب إليه من كان نافراً عن الطاعة، مثل ابن اللبانة وابن مسرة ودحون الأعمى، وانصرف إلى قرطبة، وقد تجول، وأنزل كل من بحصن من حصون كورة جيان. وبسطة وناجرة وإلبيرة وبجانة والبشرة وغيرها بعد أن عرض نفسه عليها. وعلى عهده توفي ابن حفصون. وجرت عليه هزيمة الخندق في سنة سبع وعشرين وثلاثماية، وطال عمره، فملك نيفا وخمسين سنة، ووجد بخطه، أيام السرور التي صفت لي دون كدر يوم كذا ويوم كذا، فعدت، فوجدت أربعة عشر يوماً.
وفاتهفي أول رمضان من سنة خمسين وثلاثمائة.
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله

بن عبد الرحمن الناصر لدين الله بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن

معاوية
يكنى أبا المطرف، ويلقب بالمرتضى.
حاله وصفته
كان أبيض أشقر أقنى، مخفف البدن، مدور اللحية، خيراً، فاضلاً، من أهل الصلاح والتقى، قام بدولته خيران العامري، بعد أن كثر السؤال عن بني أمية، فلم يجد فيهم أسداً للخلافة منه، بورعه وعفافه، ووقاره، وخاطب في شأنه ملوك الطوائف على عهده، فاستجاب الكل إلى الطاعة، بعد أن جمع الفقهاء والشيوخ، وجعلوها شورى، وانصرفوا يريدون قرطبة، وبدأوا بصنهاجة بالقتال، فكان نزوله بجبل شقشتر على محجة واط.
وفاتهيوم الثلاث خلون من جمادى الأولى سنة تسع وأربعمائة. وكانت الهزيمة على عساكر المرتضى، فتركوا المحلات وهربوا، وفشي فيهم القتل، وظفرت صنهاجة من المتاع والأموال، بما يأخذه الوصف، وقتل المرتضى في تلك الهزيمة، فلم يوقع له على أثر، وقد بلغ سنه نحو أربعين.
عبد الرحمن بن معاويةبن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاصي بن أمية بن عبد شمس يكنى أبا المطرف، وقيل أبا زيد، وقيل أبا سليمن، وهو الداخل إلى الأندلس، والمجدد الخلافة بها لذريته، والملقب بصقر بني أمية.
حاله

قال ابن مفرج، كان الأمير عبد الرحمن بن معاوية، راجح العقل، راسخ العلم، ثابت الفهم، كثير الحزم، فذ العزم، بريئاً من العجز، مستخفا للثقل، سريع النهضة، متصل الحركة، لا يخلد إلى راحة، ولا يسكن إلى دعة، ولا يكل الأمور إلى غيره، ثم لا ينفرد بإبرامها برأيه. وعلى ذلك فكان شجاعاً، مقداماً، بعيد الغور، شديد الحذر، قليل الطمأنينة، بليغاً، مفوهاً، شاعراً محسنا، سمحاً، سخياً، طلق اللسان، فاضل البنان، يلبس البياص، ويعتم به ويؤثره. وكان أعطى هيبة من وليه وعدوه لم يعطها واحد من الملوك في زمانه. وقال غيره، وألفى الأمير عبد الحمن الأندلسي ثغراً من أنأي الثغور القاصية، غفلاً من سمة الملك، عاطلاُ من حليه الإمامة، فأرهب أهله بالطاعة السلطانية، وحركهم بالسيرة الملوكية، ورفعهم بالآداب الوسطية، فألبسهم عما قريب المودة، وأقامهم على الطريقة. وبدأ يدون الدواوين، وأقام القوانين، ورفع الأواوين. وفرض الأعطية، وأنفد الأقضية، وعقد الألوية، وجند الأجناد، ورفع العماد، وأوثق الأوتاد، فأقام للملك آلته، وأخذ للسلطان عدته.
نبذة من أوليتهلما ظهر بنو العباس بالمشرق، ونجا فيمن نجا من بني أمية، معروفاً بصفته عندهم، وخرج بؤم المغرب لأمر كان في نفسه، من ملك الأندلس، اقتضاه حدثان. فسار حتى نزل القيروان، ومعه بدر مولاه، ثم سار حتى لحق بأخواله من نفزة، ثم سار بساحل العدوة، في كنف قوم من زناته، وبعث إلى الأندلس بدراً، فداخل له بها من يوثق به، وأجاز البحر إلى المنكب، وسأل عنها، فقال نكبوا عنها، ونزل بشاط من أحوازها، وقدم إليه أول دعوته، وعقد اللوا، وقصد قرطبة في خبر يطول، حروب مبيرة، وهزم يوسف الفهري، واستولى على قرطبة، فبويع له بها يوم عيد الأضحى من سنة ثمان وثلاثين ومائة، وهو ابن خمس وعشرين سنة.
دخوله إلبيرةقالوا، ولما انهزم الأمير يوسف بن عبد الرحمن الفهري، لحق بإلبيرة فامتنع بحصن غرناطة، وحاصره الأمير عبد الرحمن بن معوية، وأحاط به، فنزل على صلح، وانعقد بينهما عقد، ورهنه يوسف ابنيه أبا زيد وأبا الأسود، وشهد في الأمان وجوه العسكر، منهم أمية بن حمزة الفهري، وحبيب بن عبد الملك المرواني، ومالك بن عبد الله القرشي، ويحيى بن يحيى اليحصبي، ورزق بن النعمان الغسالي، وجدار بن سلامة المذحجي. وعمر بن عبد الحميد العبدري، وثعلبة بن عبيد الجذامي، والحريش ابن حوار السلمي، وعتاب بن علقمة اللخمي، وطالوت بن عمر اليحصبي، والجراح بن حبيب الأسدي، وموسى بن خالد، والحصين بن العقيلي، وعبد الرحمن بن منعم الكلبي، إلى آخر سواهم، بتاريخ يوم الأربعاء لليلتين خلتا من ربيع الأول سنة تسع وثلاثين ومائة. نقلت أسماء من شهد، لكونهم مممن دخل البلد، ووجب ذكره، فاجتزأت بذلك، فرارا من الإطالة، إذ هذا الأمر بعيد الأمد، والإحاطة لله.
بلاغته ونثره وشعرهقال الرازي، قام بين يديه رجل من جند قنسرين، يستنجد به، وقال له، يا ابن الخلايف الراشدين والسادات الأكرمين، إليك فررنا، وبك عذت من زمن ظلوم، ودهر غشوم، قلل المال، وذهب الحال، وصير إلي بذاك المنال، فأنت ولي الحمد، وربي المجد، والمرجو للرفد. فقال له ابن معاوية مسرعاً، قد سمعنا مقالتك، فلا تعودن ولا سواك لمثله، من إراقة وجهك، بتصريح المسلة، والإلحاف في الطلبة، وإذا ألم لك خطب أو دهاك أمر، أو أحرقتك حاجة فارفعه إلينا في رقعة لا تعدو ذكياً، تستر عليك خلتك، وتكف شماتة العدو بك، بعد رفعها إلى مالكنا ومالكها، عن وجهه، بإخلاص الدعاء، وحسن النية. وأمر له بجائزة حسنة. وخرج الناس يعجبون من حسن منطقه، وبراعة أدبه.
ومن شعره قوله، وقد نظر إلى نخلة بمنية الرصافة، مفردة، هاجت شجنه إلى تذكر بلاد المشرق:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة ... تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى ... وطول التنائي عن بنيي وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة ... فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقتك غوادي المزن من صوبها الذي ... يسح ويستمرئ السماكين بالوبل
وفاته

توفي بقرطبة يوم الثلاثاء الرابع والعشرين لربيع الآخر سنة اثنتين وسبعين وماية، وهو ابن تسعة وخمسين عاماً، وأربعة أشهر، وكانت مدة ملكه ثلاثاً وثلاثين سنة وأربعة أشهر، وأخباره شهيرة.
وجرى ذكره في الرجز المسمى بقطع السلوك، في ذكر هذين من بني أمية، قولي في ذكر الداخل:
وغمر الهول كقطع الليل ... بفتنة الفهري والصميل
وجلت الفتنة في أندلس ... فأصبحت فريسة المفترس
فأسرع السير إليها وابتدر ... وكل شيء بقضاء وقدر
صقر قريش عابد الرحمن ... باني المعالي لبني مروان
جدد عهد الخلفاء فيها ... وأسس الملك لمترفيها
ثم أجاب داعي الحمام ... وخلف الأمر إلى هشام
وقام بالأمر الحفيد الناصر ... والناس محصور بها وحاصر
فأقبل السعد وجاء النصر ... وأشرق الأمن وضاءت القصر
وعادت الأيام في شباب ... وأصبح العدو في تباب
سطى وأعطى وتغاضى ووفا ... وكلما أقدره الله عفا
فعاد من خالف فيها وانتزا ... وحارب الكفار دأبا وغزا
وأوقع الروم به في الخندق ... فانقلب الملك بسعي مخفق
واتصلت من بعد ذا فتوح ... تغدو على مثواه أو تروح
فاغتنموا السلم لهذا الحين ... ووصلت إرسال قسطنطين
وساعد السعد فنال واقتنا ... ثم بني الزهرا فيما قد بنا
حتى إذا ما كملت أيامه ... سبحان من لا ينقضي دوامه
عبد الرحمن بن إبراهيم اللخمي

بن يحيى بن سعيد بن محمد اللخمي

من أهل رندة وأعيانها، يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن الحكيم، وجده يحيى، هو المعروف بابن الحكيم، وقد تقدم ذكر جملة من هذا البيت.
حالهكان رحمه الله عين بلده المشار إليه، كثير الانقباض والعزلة، مجانباً لأهل الدنيا، نشأ على طهارة وعفة، مرضى الحال، معدودا في أهل النزاهة والعدالة، وأفرط في باب الصدقة، بما انقطع عنه أهل الإثراء من المتصدقين، ووقفوا دون شأوه. ومن شهير مايروى من مناقبه في هذا الباب. أنه أعتق بكل عضو من أعضائه رقبة، وفي ذلك يقول بعض أدباء عصره:
أعتق بكل عضو منه رقبة ... واعتد ذلك ذخراً ليوم العقبة
لا أجد منقبة مثل هذه المنقبة
مشيختهروى عن القاضي الجليل أبي الحسن بن قطرال، وعن أبي محمد بن ابن عبد اله بن عبد العظيم الزهري، وأبي البركات بن مودود الفارسي، وأبي الحسن الدباج، سمع من هؤلاء وأجازوا له. وأجاز له أبو أمية ابن سعد السعود بن عفير، وأبو العباس بن مكنون الزاهد، قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير، وكان شيخنا القاضي العالم الجليل أبو الخطاب ابن خليل، يطنب في الثناء عليه، ووقفت على ما خاطبه به معربا عن ذلك
شعرهمنقولاً من طرفة العصر من قصيدة يرددها المؤذنون منها:
كم ذا أعلل بالتسويف والأمل ... قلبا تغلب بين الوجد والوجل
وكم أجرد أذيال الصبا مرحاً ... في مسرح اللهو وفي ملعب الغزل
وكم أماطل نفسي بالمتاب ... ولا عزم فيوضح لي عن واضح السبل
ضللت والحق لا تخفى معالمه ... شتان بين طريق الجد والهزل
وفاتهيوم الاثنين التاسع والعشرين لجمادى الأولى عام ثلاثة وسبعين وستماية
عبد الرحيم بن إبراهيم بن عبد الرحيم الخزرجييكنى أبا القاسم، ويعرف بابن الفرس، ويلقب بالمهر، من أعيان غرناطة.
حاله

كان فقيهاً جليل القدر، رفيع الذكر، عارفاً بالنحو واللغة والأدب، ماهر الكتابة، رايق الشعر، بديع التوشيح، سريع البديهة، جارياً على أخلاق الملوك في مركبه وملبسه وزيه، قال ابن مسعدة: وطيء من درجات العز والمجد أعلاها، وفرع من الأصالة منتماها. ثم علت همته إلى طلب الرياسة والملك. فارتحل إلى بلاد العدوة، ودعا إلى نفسه، فأجابه إلى ذلك الخلق الكثير. والجم الغفير، ودعوه باسم الخليفة، وحيوه بتحية الملك. ثم خانته الأقدار، والدهر بالإنسان غدار، فأحاطت به جيوش الناصر بن المنصور، وهو في جيش عظيم من البربر، فقطع رأسه، وهزم جيشه، وسيق إلى باب الخليفة، فعلق على باب مراكش، في شبكة حديد، وبقي به مدة من عشرين سنة.
قال أبو جعفر بن الزبير، كان أحد نبهاء وقته، لولا حدة كانت فيه، أدت به إلى ما حدثني به بعض شيوخي من صحبه. قال: خرجنا معه يوماً على باب من أبواب مراكش برسم الفرجة، فلما كان عند الرجوع نظرنا إلى رؤوس معلقة، وتعوذنا بالله من الشر وأهله، وسألناه سبحانه العافية. قال: فأخذ يتعجب منا، وقال: هذا خور طريقة وخساسة همه، والله ما الشرف والهمة إلا في تلك. يعني في طلب الملك، وإن أدى الاجتهاد فيه إلى الموت دونه على تلك الصفة. قال: فما برحت الليالي والأيام، حتى شرع في ذلك، ورام الثورة، وسيق رأسه إلى مراكش، فعلق في جملة تلك الرؤوس، وكتب عليه، أو قيل فيه:
لقد طمح المهر الجموح لغاية ... فقطع أعناق الجياد السوابق
جرى وجرت رجلاه لكن رأسه ... أتى سابقاً والجسم ليس بسابق
وكانت ثورته ببعض جهات درعة من بلاد السوس.
مشيختهأخذ عن صهره القاضي أبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم. وعن غيره من أهل بلده، وتفقه بهم، وبهر في العقليات والعلوم القديمة، وقرأ على القاضي المحدث أب يبكر بن أبي زمنين، وتلا على الأستاذ الخطيب أبي عبد الله بن عروس، والأدب والنحو على الأستاذ الوزير أبي يحيى بن مسعدة. وأجازه الأستاذ الخطيب أبو جعفر العطار. ومن شعره في الثورة:
قولوا لأولاد عبد المؤمن بن علي ... تأهبوا لوقوع الحادث الجلل
قد جاء فارس قحطان وسيدها ... ووارث الملك والغلاب للدول
ومن شعره القصيدة الشهيرة وهي:
الله حسبي لا أريد سواه ... هل في الوجود الحق إلا الله
ذات الإله بها تقوم دولتنا ... هل كان يوجد غيره لولاه
يا من يلوذ بذاته أنت الذي ... لا تطمع الأبصار في مرآه
لا غرو أنا قد رأيناه بها ... فالحق يظهر ذاته وتراه
يا من له وجب الكمال بذاته ... فالكل غاية فوزهم لقياه
أنت الذي لما تعإلى جده ... قصرت خطا الألباب دون حماه
أنت الذي امتلأ الوجود بحمده ... لما غدا ملآن من نعماه
أنت الذي اخترع الوجود بأسره ما بين أعلاه إلى أدناه
أنت الذي خصصتنا بوجودنا ... أنت الذي عرفتنا معناه
أنت الذي لو لم تلح أنواره ... لم تعرف الأضداد والأشباه
لم أفش ما أودعتنية إنه ... ما صان سر الحق من أفشاه
عجز الأنام عن امتداحك إنه ... تتضاءل الأفكار دون مداه
من كان يعلم أنك الحق الذي ... بهر العقول فحسبه وكفاه
لم ينقطع أحد إليك محبة ... إلا وأصبح حامدا عقباه
وهي طويلة......
من أهل غرناطة يكنى أبا ورد ويعرف بابن القصجة عديم رواء الحس، قريب العهد بالنجعة، فارق وطنه وعيصه، واستقبل المغرب الوفادة، وقدم على الأندلس في أخريات دولة الثاني من الملوك النصريين، فمهد جانب البر له، وقرب مجلسه، ورعى وسيلته، وكان على عمل بر، من صوم واعتكاف وجهاد.
نباهته

ووقف بي ولده الشريف أبو زيد عبد الرحيم، على رسالة كتب بها أمير مكة على عهده إلى سلطان الأندلس ثاني الملوك النصريين رحمهم الله، وعبر فيها عن نفسه، من عبد الله المؤيد بالله محمد بن سعد الحرسني، في غرض المواصلة والمودة والمراجعة عن بر صدر عن السلطان رحمه الله من فصولها: ثم أنكم رضي الله عنكم، بالغنم في الإحسان للسيد الشريف أبي القاسم الذي انتسب إلينا، وأويتموه من أجلنا، وأكرمتموه، ورفعتموه احتراماً لبيته الشريف، جعل الله عملكم معه وسيلة بين يدي جدنا عليه السلام وهي طويلة وتحميدها ظريف، من شنشنة أحوال تلك البال بمكة المباركة.
وفاته: توفي شهيداً في الوقيعة بين المسلمين والنصارى بظاهر ألمرية عندما وقع الصريخ لإنجادها، ورفع العدو البرجلوني عنها في السادس والعشرين من شهر ربيع الأول عام عشرة وسبعمائة.
ومن ترجمة المقريين والعلماء والطلبة النجباء من ترجمة الطارئين منهم
عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمدبن أبي الحسن أصبغ بن حسن بن سعدون بن رضوان بن فتوح الخثعمي مالقى يكنى أبا زيد، وأبا القاسم، وأبا الحسين، وهي قليلة، شهر بالسهيلي.
حالهكان مقرياً مجوداً، متحققاً بمعرفة التفسير، غواصاً على المعاني البديعة، ظريف التهدي إلى المقاصد الغريبة، محدثاً واسع الرواية، ضابطاً لما يحدث به، حافظاً متقدما، ذاكراً للأدب والتواريخ والأشعار والأنساب، مبرزاً في الفهم، ذكياً، أديباً بليغاً، شاعراً مجيداً، نحوياً عارفاً بارعاً، يقظاً، يغلب عليه علم العربية والأدب. استدعي آخراً إلى التدريس بمراكش، فانتقل إليها من مالقة، محل إقرائه، ومتبوأ إفادته، فأخذ بها الناس عنه، إلى حين وفاته.
مشيختهتلا بالحرمين على خال أبيه الخطيب أبي الحسن بن عباس، وبالسبع على أبي داود بن يحيى، وعلى أبي علي منصور بن علاء، وأبي العباس بن خلف بن رضي، وروى عن أبي بكر بن طاهر، وابن العربي، وابن قندلة، وأبي الحسن شريح، وابن عيسى، ويونس بن مغيث، وأبي الحسن بن الطراوة، وأكثر عن في علوم اللسان، وأبي عبد الله حفيد مكي، وابن يمن الله، وأبوي القاسم ابن الأبرش، وابن الرماك، وأبوي محمد ابن رشد، والقاسم بن دحمان، وأبوي مروان بن بونة، وأبي عبد الله بن بحر. وناظر في المدونة على ابن هشام. وأجاز له ولم يلقه، أبو العباس عباد بن سرحان، وأبو القاسم بن ورد.
من روى عنهروى عنه أبو إسحق الزوالي، وأبو إسحق الجاني، وأبو أمية بن عفير، وأبو بكر بن دحمان، وابن قنتوال، والمحمدون ابن طلحة، وابن عبد العزيز، وابن علي جويحمات، وأبو جعفر بن عبد المجيد، والحفار وسهل بن مالك، وابن العفاص، وابن أبي العافية، وأبو الحسن السراج، وأبو سليمن بن حوط الله، والسماتي. وابن عياش الأندرشي، وابن عطية، وابن يربوع، وابن رشيد، وابن ناجح، وابن جمهور، وأبو عبد الله بن عياش الكاتب، وابن الجذع، وأبو علي الشلوبين، وسالم بن صالح، وأبو القاسم بن بقي، وأبو القاسم بن الطيلسان، وعبد الرحيم بن الفرس، وابن الملجوم، وأبو الكرم جودى، وأبو محمد بن حوط الله، إلى جملة لا يحصرها الحد.
دخل غرناطة. وكان كثير التأميل والمدح لأبي الحسن بن أضحى قاضيها ورييسها. وله في مدحه أشعار كثيرة، وذكر لي من أرخ في الغرناطيين، وأخبرني بذلك صاحبنا القاضي أبو الحسن بن الحسن كتابة عمن يثق به.
تواليفهمنها كتاب الشريف والإعلام بما أبهم في القرآن من أسماء الأعلام. ومنها شرح آية الوصية، ومنها الروض الآنف والمشرع الروا فيما اشتمل عليه كتاب السيرة واحتوى. وابتدأ إملاءه في محرم سنة تسع وستين وخمسماية، وفرغ منه في جمادى منها. ومنها حلية النبيل في معارضة ما في السبيل. إلى غير ذلك.
شعرهقال أبو عبد الله بن عبد الملك: أنشدني أبو محمد القطان، قال أنشدني أبو علي الرندي، قال أنشدني أبو القاسم السهيلي لنفسه:
أسايل عن جيرانه من لقيته ... وأعرض عن ذكراه والحال تنطق
ومالي إلى جيرانه من صبابة ... ولكن قلبي عن صبوح يوفق
ونقلت من خط الفقيه القاضي أبي الحسن بن الحسن، من شعر أبي القاسم السهيلي، مذيلاً بيت أبي العافية في قطعة لزومية:

ولما رأيت الدهر تسطو خطوبه ... بكل جليد في الورى وهدان
ولم أر من حرز ألوذ بظله ... ولا من له بالحادثات يدان
فزعت إلى من تملك الدهر كفه ... ومن ليس ذو ملك له بمران
وأعرضت عن ذكر الورى متبرماً ... إلى الرب من قاص هناك ودان
وناديته سراً ليرحم عبرتي ... وقلت رجائي قادني وهدان
ولم أدعه حتى تطاول مفضلاً ... علي بالهام الدعاء وعان
وقلت أرجي عطفه متمثلاً ... ببيت لعبد صايل بردان
تغطيت من دهري بظل جناحه ... فعسى ترى دهري وليس براني
قلت، وما ضره، غفر الله له، لو سلمت أنباته من بردان، ولكن أبت صناعة النحو إلا أن تخرج أعناقها.
ومن شعره قوله:
تواضع إذا كنت تبغي العلا ... وكنت راسياً عند صفو الغضب
فخفض الفتى نفسه رفعة ... له واعتبر برسوب الذهب
وشعره كثير، وكتابته كذلك، وكلاهما من نمط يقصر عن الإجادة.
وقال ملغزا في محمل الكتب، وهو مما استحسن من مقاصده:
حامل للعلوم غير فقيه ... ليس يرجوا أمراً ولا يتقيه
يحمل العلم فاتحاً قدميه ... فإذا التقتا فلا علم فيه
ومن ذلك قوله في المجنبات:
شغف الفؤاد نواعم أبكار ... بردت فؤاد الصب وهي حرار
أذكى من المسك العتيق لنا ... نشقاً وألذ من صباً حين تدار
وكأن من صافى اللجين بطونها ... وكأنما ألوانهن نضار
صفت البواطن والظواهر كلها ... لكن حكت ألوانها الأزهار
عجباً لها وهي النعيم يصوغها ... نار وأين من النعيم النار
ومن شعره وثبت في الصلة:
إذا قلت يوماً سلام عليك ... ففيها شفاء وفيها سقام
شفاً إذ قلتها مقبلاً ... وإن قلتها مدبراً فالحمام
فاعجب لحال اختلافيهما ... وهذا سلام وهذا سلام
مولده: عام سبعة أو ثمانية وخمسماية.
وتوفي في مراكش سحر ليلة الخامس والعشرين من شعبان أحد وثمانين وخمسماية، ودفن لظهره بجبانة الشيوخ خارج مراكش، وكان قد عمى سبعة عشرة عاماً من عمره.
عبد الرحمن بن هانئ اللخمييكنى أبا المطرف، من أهل فرقد من قرى إقليم غرناطة.
حالهكان فقيهاً فاضلاً، وتجول في بلاد المشرق. قال أنشدني إمام الجامع بالبصرة:
بلاء ليس بشبهه بلاء ... عداوة غير ذي حسب ودين
ينيلك منه عرضاً لم يصنه ... ويرتع منك في عرض مصون
ابن القصيبعبد الرحمن بن أحمد بن أحمد بن محمد الأزدي من أهل غرناطة، يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن القصيب
حالهكان فقيهاً جليلاً، بارع الأدب، عارفاً بالوثيقة، نقادا لها، صاحب رواية ودراية، تقلب ببلاد الأندلس، وأخذ الناس عنه بمرسية وغيرها. ورحل إلى مدينة فاس، وإفريقية، وأخذ بها، وولى القضاء يتقرش من بلاد الجريد.
مشيختهروى عن أبيه القاضي أبي الحسن بن أحمد، وعن عمه أبي مروان، وعن أبوي الحسن ابن دري، وابن الباذش، وأبي الوليد بن رشد، وأبي إسحق بن رشيق الطليطلي نزيل وادي آش، وأبي بكر بن العربي، وأبي الحسن ابن وهب، وأبي محمد عبد الحق بن عطية، وأبي عبد الله بن أبي الخصال، وأبي الحسن يونس بن مغيث، وأبي القاسم بن ورد، وأبي بكر بن مسعود الخشن، وأبي القاسم بن بقي، وأبي الفضل عياض بن موسى بن عياض، وغيرهم.
تواليفهله تواليف وخطب ورسائل ومقامات، وجمع مناقب من أدركه من أهل عصره، واختصر كتاب الجمل لابن خاقان الإصبهاني، وغير ذلك، وألف برنامجاً يضم رواياته.
من روى عنهروى عنه ابن الملجوم، واستوفى خبره
وفاتهركب البحر قاصداً الحج، فتوفي شهيداً في البحر، قتله الروم بمرسى توسن مع جماعة من المسلمين، صبح يوم الأحد، في العشر الوسط من شهر ربيع الآخر سنة ست وسبعين وخمسماية.
ابن الفصالعبد الرحمن بن إبراهيم بن محمد الأنصاري يكنى أبا بكر، ويعرف بابن الفصال.
حاله

هذا الرجل فاضل عريق في العدالة، ذكي، نبيل، مختصر الجرم، شعلة من شعل الإدراك، مليح المحاورة، عظيم الكفاية، طالب متقن، قرأ على مشيخة بلده، واختص منهم بمولى النعمة على أبناء جنسه، أبي سعيد ابن لب، واستظهر من حفظه كتباً كثيرة، منها كتاب التفريع في الفروع، وارتسم في العدول، وتعاطى لهذا العهد الأدب، فبرز في فنه.
أدبهمما جمع فيه بين نظمه ونثره، وقوله يخاطب الكتاب، ويسحر ببراعته الألباب:
لعل نسيم الريح يسري عليله ... فأهدى صحيح الود طي سقيم
لتحملا عني وأزكى تحية ... لقيته كهف مانع ورقيم
ويذكر ما بين الجوانح من جوى ... وشوق إليهم مقعد ومقيم
يا كتاب المحل السامي، والإمام المتسامي، وواكف الأدب البسامي، أناشدكم بانتظامي في محبتكم وارتسامي، وأقسم بحقكم علي وحبذا إقسامي، ألا ما أمددتم بأذهانكم الثاقبة، وأسعدتم بأفكاركم النيرة الواقية، على إخراج هذا المسمى، وشرح ما أبهمه المعمى، فلعمري لقد أخرق مزاجي، وفرق امتزاجي، وأظلم به وهاجي، وغطى على مرآة ابتهاجي، فأعينوني بقوة ما استطعتم، وأقطعوني من مددكم ما قطعتم، وآتوني بذلك كله إعانة وسداً. وإلا فها هو بين يديكم، ففكوا غلقه، واسردوا خلقه، واجمعوا مضغه المتباينة وعلقه، حتى يستقيم جسداً قايماً بذاته، متصفاً بصفاته المذكورة ولذاته، قايلاً بتسلية أسلوباً مصحفاً كان أو مقلوباً. وإن تأبى عليكم وتمنع، وأدركه الحياء فتستر وتقنع، وضرب على إذان الشهدا، وربط على قلوبهم من الإرشاد له والاهتداء، فابعثوا أحدكم إلى المدينة ليسأل عنه خدينه:
أحاجي ذوي العلم والحلم ممن ... ترى شعلة الفهم من زنده
عن اسم هو الموت مهما دنا ... وإن بات يبكي على فقده
لذيذ وليس بذي طعم ... ويومر بالغسل من بعده
وأطيب ما يجتنيه الفتى ... لدى ربة الحسن أو عبده
مضجعه عشر الثلث في حساب ... المصحف من خده
وإن شيت قل مطعم ذمه ... الرسول وحض على بعده
وقد جاء في الذكر إخراجه ... لقوم نبي على عهده
وتصحيف ضد له آخر ... لقوم نبي على عهده
وتصحيف ضد له آخر ... يبارك للنحل في شهده
وتصحيف مقلوبه ربه ... تردد م قبل في رده
فهاكم معانيه قد بدت ... كنار الكريم على نجده
وكتب للولد أسعده الله، يتوسل إليه، ويروم قضاء حاجته:
أيها السيد العزيز تصدق ... فيالمقام العلي لي بالوسيلة
عند رب الوزارتين أطال الله ... أيامه حساناً جميلة
عله أن يجيرني من زمان ... مسنى الضر من خطاه الثقيلة
واستطالت علي بالنهب جوراً ... من يديه الخفيفة المستطيلة
لم تدع لي بضاعة غير مزجاة ... ونزر أهون به من قليله
وإذا ما وفى لي الكيل يوما ... حشفاً ما يكيله سوء كيله
فشفى بي غليله لا شفى بي ... دون ابنايه الجميع غليله
من لهذا الزمان مذ نال مني ... ليس لي بالزمان والله حيلة
غير أن يشفع الوزير ويدعي ... عبده أو خديمه أو خليله
دمت يا بن الوزير في عزك ... السامي ودامت به الليالي كفيلة

سيدي الذي بعزة جاهه أصول، وبتوسلي بعنايته أبلغ المأمول والسول، وأروم لما أنا أحوم عليه الوصول، ببركة المشفوع إليه والرسول، المرغوب من مجدك السامي الصريح، والمؤمل من ذلك الوجه السني الصبيح، أن تقوم بين نجوى الشفاعة، هذه الرقاعة، وتعين بذاتك الفاضلة النافعة، من لسانك مصقاعة، حتى ينجلي حالي عن بلج، وأتنسم من مهبات القبول طيب الأرج، وتتطلع مستبشرات فرحتي من ثنيات الفرج، فإن سيد الجماعة الأعلى، وملاذ هذه البسيطة وفحلها الأجلي، فسح اله تعإلى في ميدان هذا الوجود بوجوده، وأضفى على هذا القطر ملابس الستر برأيه السديد وسعوده، وبلغه في جميعكم غاية أمله ومقصوده، قلما تضيع عنده شفاعة الأكبر من ولده، أو يخيب لديه من توسل إليه بأزكى قطع كبده، وبحقك ألا ما أمرت هذه الرقعة بالمثول بين يدي ذلك الزكي الذات الطاهر البقعة، وقل لها قبل الحلول بين يدي هذا المولى الكريم، والموئل الرحيم، بعظيم التوقير والتبجيل، اعلمي ياأيتها السايل، أن هذا الرجل هو المؤمل، بعد الله تعإلى في هذا الجيل، والحجة البالغة في تبليغ راجيه أقصى ما يؤملونه بالتعجيل، وخاتمة كلام البلاغة، وتمام الفصاحة، الموقف عليه ذلك كله بالتسجيل، وغرة صفح دين الإسلام المؤيد بالتحجيل. وهذا هو مدبر فلك الخلافة العالية بإيالته، وحافظ بدر سمايها السامية بهالته، فقرى بالمثول بين يديه عيناً، ولقد قضيت على الأيام بذلك ديناً، وإذا قيل ما وسيلة مؤملك، وحاجة متوسلك، فوسيلته تشيعه في أهل ذلك المعنى، وحاجته يتكفل بها مجدكم الصميم ويعنى، وليست تكون بحرمة جاهكم من العرض الأدنى، وتمن فإن للإنسان هنالك ما تمنى، وتولى تكليف مرسلي بحسب ما وسعكم، وأنتم الأعلون، والله معكم. ثم أثن العنان، والله المستعان، وأعيدي السلام، ثم عودي بسلام.
وخاطب قاضي الحضرة، وقد أنكر عليله لباس ثوب أصفر: أبقى الله المثابة العلية، ومثلها أعلى، وقدحها في المعلوات المعلي، ما لها أمرت، لا زالت بركاتها تنثال، ولأمر ما يجب الأمتثال، بتغيير ثوبي الفاقع اللون، وإحالته عن معتاده في الكون، وإلحاقه بالأسود الجون أصبغة حداداً، وأيام سيدي أيام سرور، وبنو الزمان بعدله ضاحك ومسرور، ما هكذا شيمة البرور، بل لو استطعنا أن نزهو له كالميلاد، ونتزيا في أيامه بزي الأعياد، ونرفل من المشروع في محبر وموروس، ونتجلى في حلل العروس، حتى تقر عين سيدي بكتيبة دفاعه، وقيمة نوافله وإشفاعه، ففي علم سيدي الذي به الاهتداء، وبفضله الاقتداء، تفضيل الأصفر الفاقع، حيثما وقع من المواقع، فهو مهما حضر نزهة الحاضرين، وكفاه فاقع لونها تسر الناظرين. ولقد اعتمه جبريل عليه السلام، وبه تطرز المحبرات والأعلام، وإنه لزي الظرفاء، و شارة أهل الرفاء، اللهم إلا إن كان سيدي، دام له البقاء، وساعده الارتقاء، ينهى أهل التبريز، عن مقاربة لون الذهب الإبريز، خيفة أن تميل له منهم ضريبة، فيزنوا بريبة، فنعم إذا ونعمى عين، وسمعاً وطاعة لهذا الأمر الهينن اللين، أتبعك لا زيداً وعمراً، ولا أعصى لك أمراً، ثم لا ألبس بعدها إلا طمراً، وأتجرد لطاعتك تجريداً، وأسلك إليك فقيراً ومزيداً، ولا أتعرض للسخط بلبس شفيف، استنشق هباه، وألبس عباه، وأبرأ من لباس زي ينشئ عتابا، يلقى على لسان مثل هذا كتاباً، وأتوب منه متاباً، ولولا أني الليلة صفر اليدين، ومعتقل الدين، لباكرت به من حانوت صباغ رأس خابية، وقاع مظلمة جابية، وقاع مظلمة جابية، فأصيره حالكاً، ولا ألبسه حتى استفتى فيه مالكاً، ولعلى أجد فأرضى سيدي بالتزيي بشارته، والعمل بمقتضى إشارته، والله تعإلى يبقيه للحسنات، ينبه عليها، ويومي بعمله وحظه إليها، والسلام.
وخاطبني وقد قدم في شهادة المواريث بحضرة غرناطة:
يا منتهى الغايات دامت لنا ... غايتك القصوى بلا فوت
طلبت إحيائي بكم فانتهى ... من قبله حالي إلى الموت
وحق ذلك الجاه جاه العلا ... لامت إلا أن أتى وقت

مولاي الذي أتأذى من جور الزمان بذمام جلاله، وأتعوذ من نقص شهادة المواريث بتمام كماله، شهادة يأباها المعسر والحي، ويود أن لا يوافيه أجله عليها الحي، مناقضة لما العبد بسبيله، غير مربح قطميرها من قليله، فإن ظهر لمولاي إعفاء عبده، فمن عنده، والله تعإلى يمتع الجميع بدوام سعده، والسلام الكريم، يختص بالطاهر من ذاته ومجده، ورحمة اله وبركاته، من عبد إنعامكم ابن الفصال لطف الله به:
قد كنت أسترزق الأحياء ما رزقوا ... شيئاً ولا وفوني بعض أقوات
فكيف حالي لما أن شكوتهم ... رجعت أطلب قوتي عند أموات
والسلام يعود على جناب مولاي ورحمة الله وبركاته: وخاطب أحد أصحابه، وقد استخفى لأمر قرف به، برسالة افتتحا بأبيات على حرف الصاد، أجابه المذكور عن ذلك بما نصه، وفيه إشارة لغلط وقع في الإعراب:
يا شعلة من ذكاء أرسلت شررا ... إلى قريب من الأرجاء بعد قص
وشبهة حملت دعوى السفاح على ... فحل يليق به مضمونها وخص
رحماك بي فلقد جرعتني غصصا ... أثار تعريضها المكتوم من غص
بليتني بنكأة القرح في كبدي ... كمثل مرتجف المجذوم بالبرص
أيها الأخ الذي رقى ومسح، ثم فصح، وغش ونصح، ومزق ثم نصح، وتلاعب بأطراف الكلام المشقق فما أفصح، ما لسحاتك ذات الجيد المنصوص، وتونس على العموم، وتوحش على الخصوص، لا در دره من باب برضاع مفتاحه، وتأنيس حر سبق بالسجن استفتاحه، ومن الذي أنهى إلى أخي خبر ثقافي، ووثيقة تحبيسي وإيقافي، وقد أبى ذلك سعد فرعه باسق، وعز عقده متناسق. ويا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ، بل المثوى والحمد الله جنات وغرف، والمنتهى مجد وشرف، فإن كان وليي مكترثاً فيحق له السرور، أو شامتاً، فلي الظل وله الحرور. أنا لا أزن والحمد لله بها من هناه، ولما أدين بها من عزي ومناه، ولا تمر لي ببال فلست بذي سيف، ولست بنكال نفسي أرق شيمة، وأكرم مشيمة، وعيني أغزر ديمة، لو كان يسئل لسان عن إنسان، أو مجاولته بملعبه خوان، أوقفني إخوان لا بمأزق عدوان، لارتسمت منه بديوان. لا يغنى في حرب عوان، عين هذا الشكل والحمد لله فراره، وعنوان هذا الحد غراره. وأما كوني من جملة الصفرة. وممن أجهز سيدي الفقار على ذي الفقرة، فأقسم لو ضرب القتيل ببعض البقرة، لتعين مقدار تلك الغفرة. اللهم لو كنت مثل سيدي ممن تتضاءل النخلة السحوق لقامته، ويعترف عوج لديه بقماءته ودمامته، مقبل الظعن كالبدور في سحاب الخدور، وخليفة السيد الذي بلغت سراويله تندوة العدو الأيد، لطلت بباع مديد، وساعدني الخلق بساعد شديد، وأنا لي جسم شحت، يحف به بخت، وحسب مثلي أن يعلم في ميدان هوى، تسل فيه سيوف اللحاظ على ذوي الحفاظ، وتشرع سيوف القدود. إلى شكاة الصدود، وتسطو أولو الجفون السود بالأسود، فكيف أخشى تبعة تزل عن صفاتي، وتنافى صفاتي، ولا تطمع أسبابها في التفاتي، ولا تستعمل في حربها قنا ألفاتي. والله يشكر سيدي على اهتباله، ويحل كريم سباله، على ما ظهر لأجلى من شغف باله، إذ رفع ما يتصب، وغير ما لو غيره الحجاج، لكان مع الهيبة يحصب، ونكت بأن نفقت بالحظ سوقي. وظهر لأجله فسوقي ويا حبذا هو من شفيع رفيع، ووسيلة لا يخالفها الرعي، ولا يخيب لها السعي. ولله در القايل.
لله بالإنسان في تعليمه ... بوساطة القلم الكريم عناية
فالخط خط والكتابة لم تزل ... في الدهر عن معنى الكمال كناية
وما أقرب يا سيدي هذه الدعوى لشهامتك. وكبر هامتك:
لو كنت حاضرهم بخندق بلج ... ولحمل ما قد أبرموه فصال
لخصصت بالدعوى التي عموا بها ... ولقيل فصل جلاه الفصال
وتركت فرعون بن موسى عبرة ... تتقدمنه بسيفه الأوصال
فاحمد الله الذي نجاك من حضور وليمتها، ولم تشهد يوم حليمتها.

وأما اعتذارك عما يقال من تفقد الكنز، ومنتطح العنز، فورع في سيدي أتم من أن يتهم بغيبة، ولسانه أعف من أن ينسب إلى ريبة، لما اتصل به من فضل ضريبة، ومقاصد في الخير غريبة، إنما يستخف سيدي أفرط التهم، رمى العوامل بالتهم، فيجري أصح مجرى أختها، ويلبسها ثياب تحتها، بحيث لا إثم يترتب، ولا هو ممن تعتبه، وعلى الرجال فجنايته عذبة الجناء، ومقاصده مستطرفة لفصح أو كنى. أبقاه الله رب نفاضة وجرادة، ولا أخلى مبرده القاطع من برادة، وعوده الخير عادة، ولا أعدمه بركة وسعادة، بفضل الله، والسلام عليه من وليه المستزيد من ورش وليه، لا بل من قلايد حليه. محمد بن فركون القرشي. ورحمة الله وبركاته فراجعه المترجم بما نصه، وقد اتهم أن ذلك من إملايي:
يا ملبس النصح ثوب الغش متهما ... يلوى النصيحة عنه غير منتكص
وجاهلاً باتخاذ الهزل مأدبة ... أشد ما يتوقى محمل الرخص
نصحته فقصاني فانقلبت إلى ... حال يغص بها من جملة الفصص
بالأمس أنكرت آيات القصاص له ... واليوم يسمع فيه سورة القصص
ممن استعرت يا بابلي هذا السحر، ولم تسكن بناصية السحر، ولا أعملت إلى بابل هاروت امتطاء ظهر، ومن أين جيت بقلايد ذلك النحر، أمن البحر، أو مما وراء النهر. ما لمثل هذه الأريحية الفاتقة، استنشقنا مهبك، ولا قبل هذه البارقة الفايقة، استكثرنا غيك. يا أيها الساحر ادع لنا ربك. أأضغاث أحلام ما تريه الأقلام، أم في لحظة تلد الأيام، فرايد الأعلام. لقد عهدت بربعك محسن دعابة، ما فرعت شعابه، أو مصيباً في صبابة، ما قرعت بابه، ولا استرجعت قبل أن أعبر عبابه. اللهم إلا أن تكون تلك الآيات البينات، من بنات يراعتك، لا براعتك ومفترس تلك الزهر، الطالعة كالكواكب الزهر، مختلس يد استطاعتك، لا زراعتك، وإلا فنطرح مصايد التعليم والإنشاء، وننتظر معنى قوله عز وجل، يؤتى الحكمة من يشاء، أو نتوسل في مقام الإلحاح والإلحاف. أن ننقل من غايلة الحسد إلى الإنصاف، وحسبي أن أطلعت بالحديقة الأنيقة، ووقفت من مثلي تلك الطريقة على حقيقة، فألفيت بها بياناً قد وضح تبياناً أو أطلق عناناً، ومحاسن وجدت إحساناً، فتمثلت إنساناً، سرح لساناً، وأجهد بناناً، إلا أن صادح أيكتها يتململ في قيظ، ويكاد يتميز من الغيظ، فيفيض ويغيض، ويهيض وينهض، ثم يهيض، ويأخذ في طويل وعريض، بتسبيب وتعريض، ويتناهض في ذلك بغير مهيض، وفاتن كمايمها تسل عن الصادح، ويتلقف عصا استعجاله ما يفكه المادح، ويحرق بناره زند القادح، ويتلقف عصا استعجاله ما يفكه المادح، ويحرق بناره زند القادح، ويتعاطى من نفسه بالإعجاب، ويكاد ينادي من وراء حجاب، إن هذا لشيء عجاب، إيه بغير تمويه، رجع الحديث الأول، إلى ما عليه المعول، لا در درها من نصيحة غير صحيحة، ووصية مودة صريحة، تعلقت بغير ذي قريحة، فهي استعجلتني بداهية كاتب، واستطالة ظالم عاتب قد سل مرهفه واستنجد مترفه، وجهزها نحو كتيبته تسفر عن تحجيل، بغير تبجيل وسحابة سجل ترمى بسجيل ما كان إلا أن استقلت، ورمتني بدائها وانسلت، وألقت ما فيها وتخلت، فحسبي الله، تغلب على فهمي، ورميت بسهمي، وقتلت بسلاحي، وأسكرت براحي، بريت بريت، مما به دهيت، أنت أبقاك الله لم تدن بها مني منالاً وعزاً، فكيف بها تنسب إلى بعدك وتعزا، نفسي التي هي أرق وأجدر بالمعالي وأحق، وشكلى أخف على القلوب وأدق، وشمايلي أملك فلا تسترق، ولساني هو الذي يسئل فلا يفل، وقدري يعزه ويجل، عما فخرت أنت به من ملعب مايدة، ومجال رقاب متمايدة، فحاشى سيدي أن يقع منه بذلك مفخر، إلا أن يكون يلهو ويسخر، وموج بحره بالطيب والخبيث تزخر، وعين شكلي هي بحمد الله، عين الظرف المشار إليه بالبنان والطرف. وأما تعريض سيدي بصغر القامة، وتكبيره لغير إقامة، فمطرد قول، ومدامة غول، وفريضة نشأ فيها عول، إذ لا مبالاة تجسم كاينا ما كان، أو ما سمعت أن السر في السكان، وإنما الجسد للروح مكان ولم يبق إليه فقد يروح، وقد قال، ويسئلونك عن الروح، والمرء بقلبه ولسانه، لا بمستظهر عيانه، والله در القايل:
لم يرضني أني بجسم هايل ... والروح ما وفت له أغراضه
ولقد رضيت بأن جسمي ناحل ... والروح سابغة به فضفاضة

ولما وقع سيدي بمكتوبي على المرفوع والمنصوب، وظفرت يده بالمغصوب، والباحث المعصوب، لم يقلها زلة عالم. وإني وقد وجدتها منية حالم، فعدد وأعاد، وشدد وأشاد، هلأ عقل ما قال، وعلم أن المقيل سيكون مقال، وزلة العلم لا تقال وأن الحرب سجال. وقبضة غيره هو المتلاعب في الحجال، وبالجملة فلك الفضل يا سيدي، ما اعتنى بمعناك، وارتفع بين مغاني الكرام مغناك، فمدة ركوبك الحمران لا تجاري، ولا يشق أحد لك غبارا. أبقاك الله تحفظ عرى هذا الوداد، ويشمل الجميع بركة ذلك الناد، والسلام عليك من ابن الفصال، ورحمة الله وبركاته.
وجعلا إلى التحيم، وفوضا لنظري التفضيل فكتبت:
بارك عليها بذكر الله من قصص ... واذكر ما أى في سورة القصص
حيث اغتدي السحر يلهو بالعقول ... وقد أحال بين حال كيده وعص
عقايل العقل والسحر الحلال قوت ... من كافل الصون بعد الكون حجروص
وأقبلت تتهادى كالبدور إذا ... بسحر من فلك النذور في حصص
من للبدور وربات الخدور بها ... المثل غير مطيع والمثلان عص
ما قرصة البدر والشمس المنيرة أن ... قيست بمن سوى من جملة القرص
تا لله ما حكمها يوماً بمنتقض ... كلاً ولا بدرها يوماً بمنتقص
إن قافل حكمي فيها بالسواد فقد ... أمنت ما يحذر القاضي من الغصص
أو كنت أرخصت في الترجيح مجتهداً لم يقبل الورع الفتيا مع الرخص
يا مدلج ليل الترجيح قف، فقد خفيت الكواكب، ويا قاضي طرف التحسين والتقبيح، تسامت والحمد لله المناكب، ويا مستوكف خبر الوقيعة من وراء أقتام القيعة، تصالحت المواكب. حصحص الحق فارتفع اللجاج، وتعارضت الأدلة فسقط الاحتجاج، ووضعت الحرب أوزارها فسكن العجاج، وطاب نحل الأقلام بأزهار الأحلام، فطاب المجاج، وقل لفرعون البيان وإن تأله، وبلد العقول وبله، وولي بالغرور ودله. أوسع الكناين نثلا، ودونك أيدا شثلاً، وشحرا حثلا، لا خطما ولا أثلا. إن هذان لساحران إلى قوله، ويذهبا بطريقتكم المثلى، وإن أثرت أدب الحليم مع قصة الكليم، فقل لمجمل جياد التعاليم، وواضع جغرافياً الأقاليم، أندلسا ما علمت بلد الأجم، لا سود العجم، ومداحض السقوط، على شوك قتاد القوط، ولم يذر إن محل ذات العجايب والأسرار، التي تضرب إليها أباط النجاب في غير الإقليم الأول. وهذا الوطن بشهادة القلب الحول. إنما هو رسم دارس، ليس عليه من معول. فهنالك يتكلم الحق فيفصح ويعجم، ويرد المدد على النفوس الجريبة، من مطالع الأضواء فيحدث ويلهم، ويجود خازن الأمداد، على المتوسل بوسيلة الاستعداد، فيقطع ويسهم. وأما إقليمنا الرابع والخامس، بعد أن تكافأت المناظر والملامس، وتناصف الليل الدامس واليوم الشامس، باعتدال ربيعي، ومجرى طبيعي، وذكى بليد، ومعاش وتوليد، وطريف في البداوة وتليد، ليس به برباه ولا هرم، يخدم بها درب محترم، ويشب لقرياته حرم، فيفيد روحانيا يتصرف، ورييساً يتعرض ويتعرف، كلما استنزل صاب، وأعمل الانتصاب، وجلب المآرب، وأذهب الأوصاب، وعلم الجواب، وفهم الصواب. ولو فرضنا هذه المدارك ذوات أمثال، أو مسبوقة بمثال، لتلقينا منشور القضاء بامتثال، لا كنا نخاف أن نميل بعض الميل، فنجني بذلك أبخس الجري وإرضا الذميل، ونجر تنازع الفهري مع الصميل. فمن خير ميز، ومن حكم أزرى به وتهكم، وما سل سيوف الخوارج في الزمن الدارج، إلا التحكيم، حتى جهل الحكيم، وخلع الخطام، ونزع الشكيم، وأضر بالخلق نافع، وذهب الطفل لجراه واليافع، وذم الذمام ورد الشافع، وقطر سيف قطري بمسجد الثقفي وهو محصور، وانتهبت المقاصير والقصور، إلا أن مستأهل الوظيفة الشرعية، عند الضرورة يجبر، والمنتدب للبرمحي عند الله ويجبر، واجعلني على خزائن الأرض، وهو الأوضح والأشهر، فيها به يستظهر. وأنا فإن حكمت على التعجيل، فغير مشهد على نفسي بالتسجيل، إنما هو تلفيق يرضى وتطفيل، يعتب عليه من تصدع بالحق ويمضي إلا أن يغضى، ورأيي فيها المراضاة والاستصلاح، وإلا فالسلاح والركاب الطلاح، والصلح خير، وما استدفع بمثل التسامح ضير. ومن وقف عليه، واعتبر ما لديه، فليعلم أني صدعت وقطعت، والحق أطعت، وإن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، والسلام.

عبد الرحمن بن محمد الحضرمي

بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد بن جابر ابن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي من ذرية عثمن أخي كريب المذكور في نبهاء، ثوار الأندلس. وينتسب سلفهم إلى وائل بن حجر، وحاله عند القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم معروف.
أوليتهقد ذكر بعض منها. وانتقلسلفه من مدينة إشبيلية عن نباهة وتعين وشهرة عند الحادثة بها، أو قبل ذلك، واستقر بتونس منهم ثالث المحمد بن الحسن، وتناسلوا على سراوة وحشمة ورسوم حسنة، وتصرف جد المترجم به لملوكها في القيادة.
حالههذا الرجل الفاضل حسن الخلق، جم الفضائل باهر الخصل، رفيع القدر، ظاهر الحياء، أصيل المجد، وقور المجلس، خاصي الزي، عالي الهمة، عزوف عن الضيم، صعب المقادة، قوى الجأش، طامح لقنن الرياسة، خاطب للحظ، متقدم في فنون عقلية ونقلية، متعدد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور، بارع الخط، مغري بالتجلة، جواد الكف، حسن العشرة، مبذول المشاركة، مقيم لرسوم التعين، عاكف على رعي خلال الأصالة، مفخرة من مفاخر التخوم المغربية.
مشيختهقرأ القرآن ببلده على المكتب ابن برال، والعربية على المقرى الزواوي وابن العربي، وتأدب بأبيه، وأخذ عن المحدث أبي عبد الله بن جابر الوادي آش، وحضر مجلس القاضي أبي عبد الله بن عبد السلام، وروى عن الحافظ عبد الله السطي، والرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي، ولازم العالم الشهير أبا عبد الله الآبلى، وانتفع به.
توجهه إلى المغربانصرف عن إفريقية منشئه. بعد أن تعلق بالخدمة السلطانية على الحداثة وإقامته لرسم العلامة بحكم الاستنابة عام ثلاثة وخمسين وسبعمائة. وعرف فضله، وخطبه السلطان منفق سوق العلم والأدب أبو عنان فارس بن علي ابن عثمن، واستقدمه، واستحضره بمجلس المذاكرة، فعرف حقه، وأوجب فضله، واستعمله في الكتابة أوائل عام ستة وخمسين، ثم عظم عليه حمل الخاصة من طلبة الحضرة لبعده عن حسن التأني، وشفوفه بثقوب الفهم، وجودة الإدراك، فأغروا به السلطان إغراء عضده ما جبل عليه عند ئذ من إغفال التحفظ، مما يريب لديه، فأصابته شدة تخلصه منها أجله؛ كانت مغربة في جفاء ذلك الملك، وهناة جواره، وإحدى العواذل لأولى الهوى في القبول بفضله، واستأثر به الاعتقال باقي أيام دولته على سنن الأشراف من الصبر وعدم الخشوع، وإهمال التوسل، وإبادة المكسوب في سبيل النفقة، والإرضاخ على زمن المحنة، وجار المنزل الخشن، إلى أن أفضى الأمر إلى السعيد ولده، فأعتبه قيم الملك لحينه، وأعاده إلى رسمه. ودالت الدولة إلى السلطان أبي سالم، وكان له به الاتصال، قبل تسوغ المحنة، بما أكد حظوته، فقلده ديوان الإنشاء مطلق الجرايات، محرر السهام، نبيه الرتبة، إلى آخر أيامه. ولما ألقت الدولة مقادها بعده إلى الوزير عمر بن عبد الله، مدبر الأمر وله إليه قبل ذلك وسيلة، وفي حليه شركة، وعنده حق رابه تقصيره، عما ارتمى إليه أمله، فساء ما يبينهما إلى أن إلى إلى انفصاله عن الباب المريني.
دخوله غرناطةورد على الأندلس في أوائل شهر ربيع الأول من عام أربعة وستين وسبعماية، واهتز له السلطان، وأركب خاصته لتلقيه، وأكرم وفادته، وخلع عليه، وأجلسه بمجلسه الخاص. ولم يدخر عنه برا ومؤاكله ومطايبة وفكاهة.
وخاطبني لما حل بظاهر الحضرة مخاطبة لم تحضرني الآن فأجبته عنها بقولي:
حللت حلول الغيث في البلد المحل ... على الطائر الميمون والرحب والسهل
يميناً بمن تعنو الوجوه لوجهه ... من الشيخ والطفل المهدإ والكهل
لقد نشأت عندي للقياك غبطة ... تنسى اغتباطي بالشبيبة والأهل

أقسمت بمن حجت قريش لبيته، وقبر صرفت أزمة الأحياء لميته، الذي زيازته الأمنية السنية، والعارفة الوارفة، واللطيفة المطيفة، بين رجع الشباب يقطر ماء، ويرف نماء، ويغزل عيون الكواكب، فضلاً عن الكواعب، إشارة وإيماء، بحيث لا الوخط يلم بسياج لمته، أو يقدح ذبالة في ظلمته، أو يقوم حواريه في ملته، من الأحابش وأمته، وزمانه روح وراح، ومغدى في النعيم ومراح، وقصف صراح، ورفى وجراح، وانتخاب واقتراح، وصدور ما بها إلا انشراح، ومسرات تردفها أفراح. وبين قدومك خليع الرسن، ممتعاً والحمد لله، باليقظة والوسن، محكماً في نسك الجنيد، أو فتك الحسن، ممتعاً بظرف المعارف، مالئاً أكف الصيارف، ما حيا بأنوار البراهين شبه الزخارف لما اخترت الشباب، وإن شاقني زمنه، وأعياني ثمنه، وأجرت سحاب دمعي دمنه. فالحمد لله الذي رقى جنون اغترابي، وملكني أزمة آرابي، وغبطني بمائي وترابي، ومألف أترابي، وقد أغصني بلذيذ شرابي، ووقع على سطوره المعتبرة إضرابي، وعجلت هذه مغبطة بمناخ المطية، ومنتهى الطية، وملتقى للسعود غير البطية، وتهنى الآمال الوثيرة الوطية، فما شئت من نفوس عاطشة إلى ريك، متجملة بزيك، عاقلة خطى مهريك، ومولى مكارمه نشيدة أمثالك، ومظان مثالك، وسيصدق الخبر ما هنالك، ويسع فضل مجدك في التخلف عن الأصحار، لا بل اللقاء من وراء البحار، والسلام.
ولما استقر بالحضرة، جرت بيني وبينه مكاتبات، أقطعها الظرف جانبه، وأوضح الأدب فيها مذاهبه. فمن ذلك ما خاطبته به، وقد تسرى جارية رومية إسمها هند صبيحة الابتناء بها.
أوصيك بالشيخ أبي بكره ... لا تأمنن في حالة مكره
واجتنب الشك إذا جئته ... جنبك الرحمن من تكره
سيدي، لا زلت تتصف بالوالج، بين الخلاخل والدمالج، وتركض فوقها ركض الهمالج. اخبرني كيف كانت الحال، وهل حطت بالقاع من خير البقاع الرحال، وأحكم بمرود المراودة الاكتحال، وارتفع بالسقيا الإمحال، وصح الانتحال، وحصحص الحق وذهب المحال، وقد طولعت بكل بشرى وبشر، وزفت هند منك إلى بشر، فلله من عشية تمتعت من الربيع بفرشي موشية، وابتذلت منها أي وساد وحشية وقد أقبل ظبي الكناس من الديماس، ومطوق الحمام من الحمام، وقد حسنت الوجه الجميل النظرية، وأزيلت عن الفرع الأثيث الأبرية، وصقلت الخدود فهي كأنها الأمرية، وسلط الدلك على الجلود، وأغريت النورة بالشعر المولود، وعادت الأعضاء يزلق عنها اللمس، ولا تنالها البنان الخمس، والسحنة يجول في صفحتها الفضية ماء النعيم، والمسواك يلبي من ثنية التنعيم، والقلب يرمى من الكف الرقيم بالمقعد المقيم، وينظر إلى نجوم الوشوم، فيقول إني سقيم. وقد تفتح ورج الخفر، وحكم لزنجي الظفيرة بالظفر، واتصف أمير الحسن بالصدود المغتفر، ورش بماء الطيب، ثم أعلق بباله دخان العود الرطيب. وأقبلت الغادة يهديها اليمن. وتزفها السعادة، فهي تمشي على استحياء، وقد ذاع طيب الريا، وراق حسن المحيا، حتى إذا نزع الخف، وقبلت الأكف، وصحب المزمار وتجاوب الدف، وذاع الأرج، وارتفع الحرج، وتجوز اللوا والمنعرج، ونزل على بشر بزيارة هند الفرج، اهتزت الأرض وربت، وعوصيت الطباع البشرية فأبت، ولله در القائل:
ومرت فقالت متى نلتقي ... فهش اشتياقاً إليها الخبيث
وكاد بمزق سرباله ... فقلت إليك بساق الحديث
فلما انسدل جنح الظلام، وانتصفت من غريم العشاء الأخيرة فريضة الإسلام، وخاطت خيوط المنام، عيون الأنام، تأتى دنو الجلسة، ومسارقة الخلسة، ثم عضة النهد، وقبله الفم والخد، وإرسال اليد من النجد إلى الوهد، وكانت الإمالة القلية قبل المد، ثم الإفاضة فيما يغبط ويرغب، ثم الإماطة لما يشوش ويشغب، ثم إعمال المسير إلى السرير.
وصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا ... ورضت فذلت صعبة أي إذلال

هذا بعد منازعة للأطواق يسيرة، يراها الغيد من حسن السيرة، ثم شرع في حل التكة، ونزع الشكة، وتهيئة الأرض الغرار عمل السكة، ثم كان الوحى والاستعجال. وحمى الوطيس والمجال، وعلا الجزء الخفيف، وتضافرت الخصور الهيف، وتشاطر الطبع العفيف، وتواتر التقبيل، وكان الأخذ الوبيل، وامتاز الأنوك من النبيل، ومنها جائر وعلى الله قصد السبيل، فيا لها من نعم متداركة، ونفوس في سبيل القحة متهالكة، ونفس يقطع حروف يقطع حروف الحلق، وسبحان الذي يزيد في الخلق. وعظمت الممانعة، وكثرت باليد المصانة، وطال الترواغ والتزاور، وشكى التجاور وهنالك تختلف الأحوال، وتعظم الأهوال، وتخسر أو تربح الأموال، فمن عصا تنقلب ثعباناً مبيناً، ونونه تصير تنيناً، وبطل لم يهله المعترك الهائل، والوهم الزائل، ولا حال بينه وبين قرته الحائل، فتعدى فتكة السليك إلى فتكة البراض، وتقلد مذهب الأزارقة من الخوارج في الاعتراض، ثم شق الصف، وقد خضب الكف، بعد أن كاد يصيب البرى بطعنه، ويبوء بمقت الله ولعنته:
طعنت ابن عبد الله طعنة ثائر ... لها نفذ لولا الشعاع أضاءها
وهناك هدأ القتال، وسكن الخبال، ووقع المتوقع فاستراح البال، وتشوف إلى مذهب الثنوية، من لم يكن للتوحيد بسبال، وكثر السؤال عن البال بما بال، وجعل الجريح يقول، وقد نظر إلى دمه يسيل على قدمه:
أنى له عن دمي المسفوك معتذر ... أقول حملته في سفكه تعبا
ومن سنان عاد عنانا، وشجاع صار هدانا جباناً، كلما شابته شائبة ريبة، أدخل يده في جيبه، فانجحرت الحية، وماتت الغريزة الحية، وهناك يزيغ البصر، ويخذل المنتصر، ويسلم الأسر، ويغلب الحصر، ويجف اللباب، ويظهر العاب، ويخفق الفؤاد، ويكبو الجواد، ويسيل العرق، ويشتد الكرب والأرق، وينشأ في محل الأمن الفرق، ويدرك فرعون الغرق. ويقوي اللجاج ويعظم الخرق. فلا تزيد الحال إلا شدة، ولا تعرف تلك الجارحة المؤمنة إلا ردة:
إذا لم يكن عون من الله للفتى ... فأكثر ما يجنى عليه اجتهاده
فكم مغري بطول اللبث، وهو من الخبث، يؤمل الكرة، ليزيل المعرة، ويستنصر الخيال، ويعلم باليد الاحتيال:
إنك لا تشكو إلى مصمت ... فاصبر على الحمل الثقيل أو مت
ومعتذر بمرض أصابه، جرعه أو صابه. ووجع طرقه، جلب أرقه، وخطيب أرتج عليه أحياناً، فقال سيحدث الله بعد عسر يسرا، وبعد عي بياناً، اللهم إنا نعوذ بك من فضائح الفروج إذا استغلقت أقفالها، ولم تسم بالنجيع أعفالها، ومن معرات الأقدار والنكول عن الأبكار، ومن النزول عن البطون والسرر، والجوارح الحسنة الغرر، قبل ثقب الدر، ولا تجعلنا من يستحي من البكر بالغداة، وتعلم منه كلال الأداة، وهو مجال فضحت فيه رجال، وفراش شكيت فيه أو جال، وأعملت روية وارتجال. فمن قائل:
أرفعه طورا على إصبعي ... ورأسه مضطربة أسفله
كالحنش المقتول يلقى على ... عود لكي يطرح في مزبله
أو قايل:
عدمت من أيري قوى حسه ... يا حسرة المرء على نفسه
تراه قد مال على أصله ... كحائط خر على أسه
وقايل:
أيحسدني إبليس داءين أصبحا ... برجلي ورأسي دملاً وزكاما
فليتها كانا به وأزيده ... رخاوة أير لا يريد قياما
وقائل:
أقول لأيري وهو يرقب فتكة ... به خبت من أير وغالتك داهية
إذا لم يكن للأير بخت تعذرت ... عليه وجوه ......من كل ناحية
وقايل:
تعفف قوق الخصيتين كأنه ... رشاء إلى جنب الركية ملتف
كفرخ ابن ذي يومين يرفع رأسه ... إلى أبويه ثم يدركه الضعف
وقايل:
تكرش أيري بعد ما كان أملسا ... وكان غنياً من قواه فأفلسا
وصار جوابي للمها أن مررن بي ... مضى الوصل إلا منية تبعث الأسى
وقايل:
بنفسي من حييته فاستخف بي ... ولم يخطر الهجران منه على بال
وقابلني بالهزء والنجة بعدما ... حططت به رجلي وجردت سريالي
وما ارتجى من موسر فوق دكة ... عرضت له شيئاً من الحشف البالي

علل لا تزال تبكي، وعلل على الدهر تشكي، وأحاديث تقص وتحكي. فإن كنت أعزك الله من النمط الأول، ولم تقل، وهل عند رسم دارس من معول، فقد جنيت الثمر. واستطبت السمر، فاستدع الأبواق من أقصى المدينة، واخرج على قومك في ثياب الزينة، واستبشر بالوفود، وعرف السمع عارفة الجود، وتبجح بصلابة العود، وإنجاز الوعود، واجن رمان النهود، من أغصان القدود، واقطف ببنان اللثم أقاح الثغور وورد الخدود. وإن كانت الأخرى، فاخف الكمد، وأرض الثمد، وانتظر الأمد، واكذب التوسم، واستعمل التبسم، واستكتم النسوة، وأفض فيهن الرشوة، وتقلد المغالطة وارتكب، وجئ على قميصك بدم كذب، واستنجد الرحمن، واستعن على أمورك بالكتمان
لا تظهرن لعاذل أو عاذر ... حاليك في السراء والضراء
فلرحمة المتفجعين حرارة ... في القلب مثل شماتة الأعداء
وانتشق الأرج، وارتقب الفرج. فكم غمام طبق وما همي، وما رميت إذ رميت، ولكن الله رمى، وأملك بعدها عنان نفسك، حتى تمكنك الفرصة، وترفع إليك القصة، ولا تشتره إلى عمل لا تفئ منه بتمام، وخذ عن إمام، ولله در عروة بن حزام.
الله يعلم ما تركتن قتالهم ... حتى رموا مهري بأشقر مزبد
وعلمت أني إن أقاتل دونهم ... أقتل ولم يضرر عدوي مشهدي
ففررت منهم والأحبة فيهم ... طمعاً لهم بعقاب يوم مفسد
واللبانات تلين وتجمح، والمآرب تدنو وتنزح، وتحرن ثم تسمح، وكم من شجاع خام. ويقظ نام، ودليل أخطأ الطريق، وأضل الفريق، والله عز وجل يجعلها خلة موصولة، وشملاً أكنافه بالخير مشمولة، وبنية أركانها لركاب اليمن مأمولة، حتى يكثر خدم سيدي وجواريه، وأسرته وسراريه، وتضفو عليه نعمة باريه، ما طورد قنيص، واقتحم عبص، وأدرك مرام عويص، وأعطي زاهد وحرم حريص. والسلام.
تواليفهشرح القصيدة المسماة بالبردة شرحاً بديعاً، دل فيه على انفساح ذرعه، وتفنن إدراكه، وغزارة حفظه. ولخص كثيراً من كتب ابن رشد. وعلق للسلطان أيام نظره في العلوم العقلية، تقييداُ مفيداً في المنطق، ولخص محصل الإمام فخر الدين ابن الخطيب الرازي. وبذلك داعبته أول لقيته بعض منازل الأشراف، في سبيل المبرة بمدينة فاس، فقلت له لي عليك مطالبة، فإنك لخصت محصلي. وألف كتاباً في الحساب. وشرع في هذه الأيام في شرح الرجز الصادر عني في أصول الفقه، بشيء لا غاية وراءه في الكمال. وأما نثره وسلطانياته، مرسلها ومسجعها، فخلج بلاغة، ورياض فنون، ومعادن إبداع، يفرغ عنها يراعه الجريء، شبيهة البداءات بالخواتم، في نداوة الحروف، وقرب العهد بجرية المداد، ونفوذ أمر القريحة، واسترسال الطبع. وأما نظمه، فنهض لهذا العهد قدماً في ميدان الشعر. وأغر نقده باعتبار أساليبه، فانثال عليه جوه، وهان عليه صعبه، فأتى منه بكل غريبة، من ذلك قوله يخاطب السلطان ملك المغرب ليلة الميلاد الكريم عام اثنين وستين وسبعمائة بقصيدة طويلة:
أسرفن في هجري وفي تعذيبي ... وأطلن موفق عبرتي ونحيبي
وأبين يوم البين موقف ساعة ... لوداع مشغوف الفؤاد كثيب
لله عهد الظاعنين وغادروا ... قلبي رهين صبابة ووجيب
غربت ركائبهم ودمعي سافح ... فشرقت بعدهم بماء غروبي
يا ناقعاً بالعتب غلة شوقهم ... رحماك في عذلي وفي تأنيبي
يستعذب الصب الملام وإنني ... ماء الملام لدي غير شريب
ما هاجني طرب ولا اعتاد الجوى ... لولا تذكر منزل وحبيب
أهفو إلى الطلال كانت مطلعاً ... للبدر منهم أو كناس ربيب
عبثت بها أيدي البلى وترددت ... في عطفها للدهر آي خطوب
تبلى معاهدها وإن عهودها ... ليجدها وصفي وحسن نسيبي
وإذا الديار تعرضت لمتيم ... هزته ذكراها إلى التشبيب
إيه على الصبر الجميل فإنه ... ألوى بدين فؤادي المنهوب
لم أنسها والدهر يثني صرفه ... ويغض طرفي حاسد ورقيب

والدار مونقة محاسنها بما ... لبست من الأيام كل قشيب
يا سائق الأظعان تعتسف الفلا ... وتواصل الآساد بالتأويب
متهافتاً عن رحل كل مذلل ... نشوان من أين ومس لغوب
تتجاذب النفحات فضل ردائه ... في ملتقاها من صباً وجنوب
إن هام من ظما الصبابة صحبة ... نهلوا بمورد دمعه المسكوب
في كل شعب منية من دونها ... هجر الأماني أو لقاء شعوب
هلا عطفت صدورهن إلى التي ... فيها لبانة أعين وقلوب
فتؤم من أكناف يثرب مأمنا ... يكفيك ما تخشاه من تثريب
حيث النبوة آيها مجلوة ... تتلو من الآثار كل غريب
سر غريب لم تحجبه الثرى ... ما كان سر الله بالمحجوب
يا سيد الرسل الكرام ضراعة ... تقضى من نفس وتذهب حوبى
عاقت ذنوبي عن جنابك والمنى ... فيها تعللني بكل كذوب
لا كاللآلئ صرفوا العزائم للتقى ... فاستأثروا منها بخير نصيب
لم يخلصوا لله حتى فرقوا ... في الله بين مضاجع وجنوب
هب لي شفاعتك التي أرجو بها ... صفحاً جميلاً عن قبيح ذنوبي
إن النجاة وإن أتيحت لامرئ ... فبفضل جاهك ليس بالتسبيب
إني دعوتك واثقاً بإجابتي ... يا خير مدعو وخير مجيب
قصرت في مدحي فإن يك طيباً ... فبما لذكرك من أريج الطيب
مإذا عسى يبغي المطيل وقد حوى ... في مدحك القرآن كل مطيب
يا هل تبلغني الليالي زورة ... تدني إلي الفوز بالمرغوب
أمحو خطيئاتي بإخلاصي بها ... وأحط أوزاري وإصر ذنوبي
فثي فتية هجروا المنى وتعودوا ... إنضاء كل تجيبة ونجيب
يطوى صحائف ليلهم فوق الفلا ... ما شئت من خبب ومن تقريب
إن رنم الحادي بذكرك رددوا ... أنفاس مشتاق إليك طروب
أو غرد الركب الخلي بطيبة ... حنوا لمغناها حنين النيب
ورثوا اعتساف البيد عن آبائهم ... إرث الخلافة في بني يعقوب
الطاعنون الخيل وهي عوابس ... يغشى مثار النقع كل سبيب
والواهبون المقربات هواتناً ... من كل خوار العنان لعوب
والمانعون الجار حتى عرضهم ... في منتدى الأعداء غير معيب
تخشى بوادرهم ويرجى حملهم ... والعز شيمة مرتجى ومهيب
ومنها بعد كثير:
سائل به طامي العباب وقد سرى ... تزجى بريح العزم ذات هبوب
تهديه شهب أسنة وعزائم ... يصدعن ليل الحادث المرهوب
حتى انجلت ظلم الضلال بسعيه ... وسطا الهدى بفريقها المغلوب
يا ابن الإلى شادوا الخلافة بالتقى ... واستأثروك بتاجها المعصوب
جمعوا بحفظ الدين آي مناقب ... فلقد شهدنا منه كل عجيب
كم رهبة أو رغبة لك والعلا ... تقتاد بالترغيب والترهيب
لا زلت مسروراً بأشرف دولة ... يبدو الهدي من أفقها المرقوب
تحيي المعالي غادياً أو رائحاً ... وجديد سعدك ضامن المطلوب
وقال من قصيدة خاطبه بها عند وصول هدية ملك السودان، وفيها الحيوان الغريب المسمى بالزرافة:
قدحت يد الأشواق من زندي ... وهفت بقلبي زفرة الوجد
ونبذت هلواني على ثقة ... بالقرب فاستبدلت بالبعد
ولرب وصل كنت آمله ... فاعتضت منه مؤلم الصد
لا عهد عند الصبر أطلبه ... إن الغرام أضاع من عهدي
يلحي العذول فيما أعنفه ... وأقول ضل فأبتغي رشدي

وأعارض النفحات أسألها ... برد الجوى فتزيد في الوقد
يهدي الغرام إلى مسالكها ... لتعللي بضعيف ما تهدى
يا سائق الوجناء معتسفاً ... طي الفلاة لطية الوجد
أرح الركاب ففي الصبا نبأ ... يغنى عن المستنة الجرد
وسل الربوع برامة خبراً ... عن ساكني نجد وعن نجد
ما لي تلام على الهوى خلقي ... وهي التي تأبى سوى الحمد
لأبيت إلا الرشد مذ وضحت ... بالمستعين معالم الرشد
نعم الخليقة في هدى وتقى ... وبناء عز شامخ الطود
نجل السراة الغر شأنهم ... كسب العلا بمواهب الوجد
ومنها في ذكر خلوصه إليه، ومنا ارتكبه فيه:
لله مني إذ تأوبني ... ذكراه وهو بشاهق فرد
شهم يفل بواتر قضبا ... وجموع أقيال أولي أيد
أوريت زند العزم في طلبي ... وقضيت حق المجد من قصدي
ووردت عن ظمأ مناهله ... فرويت من عز ومن رفد
هي جنة المأوى لمن كلفت ... آماله بمطالب المجد
لو لم أعل بورد كوثرها ... ما قلت هذى جنة الخلد
من مبلغ قومي ودونهم ... قذف النوى وتنوفة البعد
إني أنفت على رجائهم ... وملكت عز جميعهم وحدي
ومنها:
ورقيمة الأعطاف حالية ... موشية بوشائج البرد
وحشية الأنساب ما أنست ... في موحش البيداء بالقود
تسمو بجيد بالغ صعداً ... شرف الصروح بغير ما جهد
طالت رؤوس الشامخات به ... ولربما قصرت عن الوهد
قطعت إليك تنائفاً وصلت ... آسادها بالنص والوخد
نحدي على استصعابها ذللاً ... وتبيت طوع القن والقد
بسعودك اللائي ضمن لنا ... طول الحياة بعيشة رغد
جاءتك في وفد الأحابش لا ... يرجون غيرك مكرم الوفد
وافوك أنضاء تقلبهم ... أيدي السري بالغور والنجد
كالطيف يستقري مضاجعه ... أو كالحسام يسل من غمد
يثنون بالحسنى التي سبقت ... من غير إنكار ولا جحد
ويرون لحظك من وفادتهم ... فخراً على الأتراك والهند
يا مستعيناً جل في شرف ... عن رتبة المنصور والمهدي
جازاك ربك عن خليقته ... خير الجزاء فنعم ما يسدي
وبقيت للدنيا وساكنها ... في عزة أبداً وفي سعد
وقال يخاطب صدر الدولة فيما يظهر من غرض المنظوم:
يا سيد الفضلاء دعوة مشفق ... نادى لشكوى البث خير سميع
مالي وللإقصاء بعد تعلة ... بالقرب كنت لها أجل شفيع
وأرى الليالي رتقت لي صافيا ... منها فأصبح في الأجاج شروعي
ولقد خلصت إليك بالقرب التي ... ليس الزمان لشملها بصدوع
ووثقت منك بأي وعد صادق ... إني المصون وأنت غير مضيع
وسما بنفسي للخليفة طاعة ... دون الأنام هواك قبل نزوع
حتى انتحاني الكاشحون بسعيهم ... فصددتهم عني وكنت منيعي
رغمت نفوسهم بنجح وسائلي ... وتقطعت أنفاسهم بصنيعي
وبغوا بما نقموةا علي خلائقي ... حسداً فراموني بكل شنيع
لا تطمعنهم ببذل في الستي ... قد صنتها عنهم بفضل قنوع
أني أضام وفي يدي القلم الذي ... ما كان طيعه لهم بمطيع
ولي الخصائص ليس تأبى رتبة ... حسبي بعلمك ذاك من تفريعي
قسماً بمجدك وهو خير ألية ... اعتدها لفؤادي المصدوع
إني لتصطحب الهموم بمضجعي ... فتحول ما بيني وبين هجوعي
عطفاً علي بوحدتي عن معشر ... نفث الإباء صدودهم في روعي

أغدو إذا باكرتهم متجلداً ... وأروح أعثر في فضول دموعي
حيران أوجس عند نفسي خيفة ... فتسر في الأوهام كل مروع
أطوي على الزفرات قلباً إده ... حمل الهموم تجول بين ضلوعي
ولقد أقول لصرف دهر رابني ... بحوادث جاءت على تنويع
مهلاً عليك فليس خطبك ضائري ... فلقد لبست له أجن دروع
إني ظفرت بعصمة من أوحد ... بذ الجميع بفضله المجموع
وأنشد السلطان أمير المسلمين أبا عبد الله بن أمير المسلمين أبا الحجاج، لأول قدومه ليلة الميلاد الكريم، من عام أربعة وستين وسبعمائة:
حي المعاهد كانت قبل تحييني ... بواكف الدمع يرويها ويظميني
إن الإلى نزحت داري ودارهم ... تحملوا القلب في آثارهم دوني
وقفت أنشد صبراً ضاع بعدهم ... فيهم وأسأل رسماً لا يناجيني
أمثل الربع من شوق وألثمه ... وكيف والفكر يدنيه ويقصيني
وينهب الوجد مني كل لؤلؤة ... ما زال جفني عليها غير مأمون
سقت جفوني مغاني الربع بعدهم ... فالدمع وقف على أطلاله الجون
قد كان للقلب عن داعي الهوى شغل ... لو أن قلبي إلى السلوان يدعوني
أحبابنا هل لعهد الوصل مدكر ... منكم وهل نسمة منكم تحييني
ما لي وللطيف لا يعتاد زائره ... وللنسيم عليلاً لا يداويني
يا أهل نجد وما نجد وساكنها ... حسناً سوى جنة الفردوس والعين
أعندكم أنني ما مر ذكركم ... إلا انثنيت كأن الراح تثنيني
أصبوا إلى البرق من أنسحاء أرضكم ... شوقاً ولولاكم ما كان يصبيني
يا نازحاً والمنى تدنيه من خلدي ... حتى لأحسبه قرباً يناجيني
أسلى هواك فؤادي عن سواك وما ... سواك يوماً بحال عنك يسليني
ترى الليالي أنستك ادكاري يا ... من لم يكن ذكره الأيام تنسيني
ومنها في ذكر التفريط:
أبعد مر الثلاثين التي ذهبت ... أولى الشباب بإحساني وتحسيني
أضعت فيها نفيساً ما وردت به ... إلا سراب غرور ليس يرويني
وا حسرتا من أماني كلها خدع ... تريش غيي ومر الدهر يبريني
ومنها في وصف المشور المبتنى لهذا العهد:
يا مصنعاً شيدت منه السعود حمى ... لا يطرق الدهر مبناه بتوهين
صرح يحار لديه الطرف مفتتنا ... فما يروقك من شكل وتلوين
بعداً لإيوان كسرى إن مشورك السامي لأعظم من تلك الأواوين
ودع دمشق ومغناها فقصرك ذا ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون
ومنها في التعريض بالوزير الذي كان انصرافه من المغرب لأجله:
من مبلغ عني الصحب الإلى جهلوا ... ودي وضاع حماهم إذ أضاعوني
إني أويت من العليا إلى حرم ... كادت مغانيه بالبشرى تحييني
وإنني ظاعن لم ألق بعدهم ... دهراً أشاكي ولا خصماً يشاكيني
لا كالتي أخفرت عهدي ليالي إذ ... أقلب الطرف بين الخوف والهون
سقياً ورعياً لأيامي التي ظفرت ... يداي منها بحظ غير مغبون
ارتاد منها ملياً لا يماطلني ... وعداً وأرجو كريماً لا يعنيني
وهاك منها قواف طيها حكم ... مثل الأزاهر في طي الرياحين
تلوح إن جليت دراً وإن تليت ... تثنى عليك بأنفاس البساتين
عانيت منها بجهدي كل شاردة ... لولا سعودك ما كانت تواتيني
يمانع الفكر عنا ما تقسمه ... من حزن بطي الصدر مكنون
لكن بسعدك ذلت لي شواردها ... فرضت منها بتحبير وتزيين
بقيت دهرك في أمن وفي دعة ... ودام ملكك في نصر وتمكين

وهو الآن قد بدا له في التحول، طوع أمل ثاب له في الأمير أبي عبد الله ابن الأمير أبي زكريا بن حفص، لما عاد إليه ملك بجاية، وطار إليه بجناح شراع، تفيأ ظله، وصك من لدنه رآه مستقراً عنده، يدعم ذلك بدعوى تقصير خفي أحس به، وجعله علة منقلبه، وتجن سار منه في مذهبه وذلك في ...... من عام ثمانية وستين وسبعمائة. ولما بلغ بجاية صدق رأيه، ونجحت مخيلته، فاشتمل عليه أميرها، وولاه الحجابة بها. ولم ينشب أن ظهر عليه ابن عمه الأمير أبو العباس صاحب قسنطينة، وبملك البلدة بد مهلكه، وأجرة المترجم به على رسمه بما طرق إليه الظنة بمداخلته في الواقع. ثم ساء ما بينه وبين الأمير أبي العباس، وانصرف عنه، واستوطن بسكرة، متحولاً إلى جوار رييسها أبي العباس بن مزنى، متعللاً برفده إلى هذا العهد.
وخاطبته برسالة في هذه الأيام، تنظر في اسم المؤلف في آخر الديوان.
مولدهبمدينة تونس بلده، حرسها الله، في شهر رمضان من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة.
عبد الرحمن بن الحاج بن القميي الإلبيري

حاله

كان شاعراً مجيداً، هجا القاضي أبا الحسن بن توبة قاضي غرناطة، ومن نصره من الفقهاء، فضربه القاضي ضرباً وجيعاً، وطيف به على الأسواق بغرناطة، فقال فيه الكاتب أبو إسحاق الإلبيري الزاهد، وكان يومئذ كاتباً للقاضي المذكور، الأبيات الشهيرة:
السوط أبلغ من قول ومن قيل ... ومن نباح سفيه بالأباطيل
من الدار كحر النار أبراه ... يعقل التقاضي أي تعقيل
عبد الرحمن بن يخلفتن

بن أحمد بن تفليت الفازازي

يكنى أبا زيد.
حالهكان حافظاً نظاراً ذكياً ذا حظ وافر من معرفة أصول الفقه وعلم الكلام، وعناية بشأن الرواية، متبذلاً في هيئته ولباسه، قلما يرى راكباً في حضر إلا لضررة، فاضلاً، سنياً، شديد الإنكار والإنحاء على أهل البدع، مبالغاً في التحذير منهم، عامرالإتاء، يطلب العلم شغفاً به، وانطباعاً إليه، وحباً فيه، وحرصاً عليه، آية من آيات الله في سرعة البديهة، وارتجال النظم والنثر وفور ماده، وموالاة استعمال، لا يكاد يقيد، ولا يصرفه عنه، إلا نسخ أومطالعة علم، أو مذاكرة فيه، حي صار له ملكة، لا يتكلف معها الإنشاء، مع الإجادة، وتمكن البراعة. وكان متلبساً بالكتابة عن الولاة والأمراء، ملتزماً بذلك، كارهاً له، حريصاً على الانقطاع عنه، واختص بالسيد أبي إسحق بن المنصور، وبأخيه أبي العلاء، وبملازمتهما استحق الذكر فيمن دخل غرناطة، إذ عد ممن دخلها من الأمراء.
مشيختهروى عن أبيه أبي سعيد، وأبي الحسن جابر بن أحمد، وابن عتيق بن مون، وأبي الحسن بن الصايغ، وأبي زيد السهيلي، وأبي عبد اله التجيبي، وأبي عبد الله بن الفخار، وأبي محمد بن عبيد الله، وأبي المعالي محمود الخراساني، وأبي الوليد بن يزيد بن بقى وغيرهم. وروى عنه ابنه أبو عبد الله، وأبو بكر بن سيد الناس، وابن مهدي، وأبو جعفر بن علي ابن غالب، وأبو العباس بن علي بن مروان، وأبو عمرو بن سالم، وأبو القاسم عبد الرحيم بن سالم، وابنه عبد الوهاب بن عبد الرحمن ابن سالم، وأبو القاسم عبد الكريم بن عمران، وأبو يحيى بن سليمن ابن حوط الله، وأبو محمد بن قاسم الحرار، وأبو الحسن الرعيني، وأبو علي الماقري.
تواليفه ومنظوماته

له المعشرات الزهدية، التي ترجمها بقوله: المعشرات الزهدية، والمذكرات الحقيقية الجدية، ناطقة بألسنة الوجلين المشفقين، شايقة إلى مناهج السالكين المستبقين. نظمها متبركاً بعبادتهم متيمناً بأغراضهم وإشاراتهم، قابضاً عنان الدعوىعن مداناتهم ومجاراتهم، مهتدياً إهداء السنن الخمس، بالأشعة الواضحة من إشاراتهم، مخلداً دون أفقهم العالي، إلى حضضه، جامعاً لحسن أقواله، وقبح أفعاله، بين الشيء ونقضيه. عبد الرحمن. وله المعشرات الحبية، وترجمتها النفحات القلبية، واللفحات الشوقية، منظمة على ألسنة الذاهبين وجداً، الذايبين كمداً وجهداً، الذين غربوا، وبقيت أنوارهم، واحتجبوا وظهرت آثارهم، ونطقوا وصمتت أخبارهم، ووفوا العبودية حقها، ومحضوا المحبة مستحقها، نظم من نسج على منوالهم، ولم يشاركهم إلا في أقوالهم فلان. والقصايد، في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، التي كل قصيدة منها عشرون بيتاً، وترجمتها الوسايل المتقبلة، والآثار المسلمة المقبلة، مودعة في العشرنية النبيوية، والحقايق اللفظية والمعنوية، نظم من اعتقدها من أزكى الأعمال، وأعدها لما يستقبله من مدهش الأهوال، وفرع خاطره لها، على توالي القواطع، وتتابع الأشغال، ورجا بركة خاتم الرسالة، وغاية السؤدد والجلالة، محو ما لسلفه من خطأ في الفعل، وزلل في المقال، والله سبحانه ولي القبول للتوبة، والمنان بتسويغ هذه المنة المطلوبة، فذلك يسير في جنب قدرته، ومعهود رحمته الواسعة ومغفرته.
شعرهوشعره كثير جداً، ونثره مشهور وموجود. فمن شعره في غرض الشكر لله عز وجل، على غيث جاء بعد قحط:
نعم الإله بشره تتقيد ... فالله يشكر في النوال ويحمد
مدت إليه أكفنا محتاجة ... فأنالها من جوده ما نعهد
وأغاثنا بغمايم وكافة ... بالبشر تشرق والبشاير ترعد
حملت إلى ظما البسيطة ريه ... فلها عليه منة لا تجحد
فالجو براق والشعاع مفضض ... والماء فياض الأثير معسجد
والأرض في حلى الأتي كأنما ... نطف الغمام لؤلؤ وزبرجد
والروض مطلول الخمايل باسم ... والقضب لينه الحمايل ميد
تاهت عقول الناس في حركاتها ... ألشكرها أم سكرها تتأود
فيقول أرباب البطالة تنثني ... ويقول أرباب الحقيقة تسجد
وإذا اهتديت إلى الصواب فإنها ... في شكر خالقها تقوم وتقعد
هذا هو الفضل الذي لا ينقضي ... هذا هو الجود الذي لا ينفد
إحضر فؤادك القيام بشكره ... إن كنت تعلم قدر ما تتقلد
والفض يديك من العباد فكلهم ... عجز الحل وأنت جهلا تعقد
وإذا افتقرت إلى سواه فإنما ... الذي بخاطرك المجال الأبعد
نعم الإله كما تشاهد حجة ... والغائبات أجل مما يشهد
فانظر إلى آثار رحمته التي ... لا يمتري فيها ولا يتردد
يا ليت شعري والدليل مبلغ ... من أي وجه يستريب الملحد
من ذا الذي يرتاب إن إلهة ... أحد وألسنة الجماد توحد
كل يصرح حاله ومقاله ... أن ليس إلا الله رب يعبد
ومن شعره أيضاً قوله:
عجباً لمن ترك الحقيقة جانباً ... وغدا لأرباب الصواب مجانبا
وابتاع بالحق المصحح حاضرا ... ما شاء للزور المعلل عسايبا
من بعد ما قد صار أنفذ أسهما ... وأشد عادية وأمضي قاضبا
لا تخدعنك سوابق من سابق ... حتى ترى الإحضار منه عواقبا
فلربما اشتد الخيال وعاقه ... دون الصواب هوى وأصبح غالبا
ولكم إمام قد أضر بفهمه ... كتب تعب من الضلال كتايبا
فانحرف بأفلاطون وأرسطا ... طاليس ودونهما تسلك طريقاً لاحبا
ودع الفلاسفة الذميم جميعهم ... ومقالهم تأتى الأحق الواجبا
يا طالب البرهان في أوضاعهم ... أعزز علي بأن تعمر جانبا

أعرضت عن شط النجاة ملججاً ... في بحر هلك ليس ينجي عاطبا
وصفا الدليل فما نفعت بصفوه ... حتى جعلت له الحبر شايبا
فانظر بعقلك هل ترى متفلسفا ... فيمن ترى إلا دعياً كاذبا
أعيته أعباء الشريعة شدة ... فارتد مسلوبا ويحسب سالبا
والله أسل عصمة وكفاية ... من أن أكون عن المحجة ناكبا
ومن شعره:
إليك مددت الكف في كل شدة ... ومنك وجدت اللطف في كل نايب
وأنت ملاذ والأنام بمعزل ... وهل مستحيل في الرجاء كرآيب
فحقق رجائي فيك يا رب واكفني ... شماتة عدو أو إساءة صاحب
ومن أين أخشى من عدو إساءة ... وسترك ضاف من جميع الجوانب
وكم كربة نجيتني من غمارها ... وكانت شجاً بين الحشا والترايب
فلا قوة عندي ولا لي حبلة ... سوى حسن ظني بالجميل المواهب
فيا منجي المضطر عند دعايه ... أغشني فقد سدت على مذاهب
رجاؤك رأس المال عندي وربحه ... وزهد في المخلوق أسنى المواهب
إذا عجزوا عن نفعهم في نفوسهم ... فتأميلهم بعض الظنون الكواذب
فيا محسناً فيما مضى أنت قادر ... على اللطف في حالي وحسن العواقب
وإني لأرجو منك ما أنت أهله ... وإن كنت حطا في كثير العواقب
وإني لأرجو منك ما أنت أهله ... وإن كنت حطا في كثير المعايب
فصل على المختار من آل هاشم ... إمام الورى عند اشتداد النوايب
وقال في مدعي قراءة الخط دون نظر:
وأدور مياس العواطف أصبحت ... محاسنه في الناس كالنوع في الجنس
يدير على القرطاس أنمل كفه ... فيدرك أخفى الخط في أيسر اللمس
فقال فريق سحر بابل عنده ... وقال فريق ليس هذا من الإنس
فقلت لهم لم تفهموا سر دركه ... على أنه للعقل أجلى من الشمس
ستكفه حب القلوب فأصبحت ... مداركها أجفان أنمله الخمس
وفاته: استقدمه المأمون. على حال وحشة، كانت بينه وبينه، فورد ورود الرضا على مراكش في شعبان سنة سبع وعشرين وستماية. وتوفي في ذي قعدة بعده، ودفن بجبانة الشيوخ مع أخيه عبد الله وقرنايهما، رحم الله جميعهم.
انتهى السفر التاسع بحمد الله
ومن السفر العاشرالعمال الأثرا في هذا الحرف
عبد الرحمن بن أسباطالكاتب المنجب، كاتب أمير المسلمين، يوسف بن تاشفين.
حالهلحق به بالعدوة، فاتصل بخدمته، وأغراه بالأندلس، إذ ألقى إليه أمورها على صورتها، حتى كان ما فرغ الله عز وجل، من استيلانه على ممالكها، وخلعه لرؤسايها. وكان عبد الرحمن قبل اتصاله به، مقدوراً عليه في رزقه، يتحرف بالنسخ، ولم يكن حسن الخط، ولا معرب اللفظ، إلى أن تسير للكتابة في باب الديوان بألمرية، ورأى خلال ذلك، في نومه، شخصاً يوقظه، ويقول له قم يا صاحب ربع الدنيا، وقص رؤياه على صاحب له بمثواه، فبشره، فطلب من ذلك الحين السمو بنفسه، فأجاز البحر، وتعلق بحاشية الحرة العليا زينب، فاستكتبته. فلما توفيت الحرة، أقره أمير المسلمين كاتباً، فنال ما شاء، مما ترتمي إليه الهمم، جاهاً ومالاً وشهرة. وكان رجلاً حصيفاً، سكوتاً، عاقلاً، مجدي الجاه، حسن الوساطة، شهير المكانة.
توفي فجأة بمدينة سبتة، في عام سبعة وثمانين وأربعمائة. وتقلد الكتابة بعده، أبو بكر بن القصير. ذكره ابن الصيرفي.
عبد الرحمن بن محمد المعافريعبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن مالك المعافري وتكر مالك في نسبه
أوليتهقالوا من ولد عقبة بن نعيم الداخل إلى الأندلس، من جند دمشق، نزيل قرية شكنب من إقليم تاجرة الجمل من عمل بلدنا لوشة، غرناطي يكنى أبا محمد.
حاله

كان أبو محمد هذا أحد وزراء الأندلس، كثير الصنايع، جزل المواهب، عظيم المكارم، على سنن عظماء الملوك، وأخلاق السادة الكرام. لم ير بعده مثله في حال الأندلس، ذاكراً للفقه والحجيث، بارعاً في الأدب، شاعراً مجيداً وكاتباً بليغا، حلو الكتابة والشعر، هشاً مع وقار، ليناً على مضاء، عالي الهمة، كثير الخادم والأمل.
من آثاره المائلة إلى اليوم الحمام، بجوفي الجامع الأعظم من غرناطة. بدأ بناه أول يوم من جمادى الأولى سنة تسع وخمسماية. شرع في الزيادة في سقف الجامع من صحنه سنة ست عشرة، وعوض أرجل قسيه، أعمدة الرخام، وجلب الروس والموايد من قرطبة، وفرش صحنه بكذان الصخيرة. ومن مكارمه أنه لما ولي مستخلص غرناطة وإشبيلية، وجهه أميره علي بن يوسف بن تاشفين إلى طرطوشة برسم بنايها، وإصلاح خللها، فلما استوفى الغاية فيها، قلده، واستصحب جملة من ماله لمؤنته المختصة به، فلما احتلها سال قاضيها، فكتب إليه جملة من أهلها ممن ضعف حاله وقل تصرفه، من ذوي البيوتات، فاستعملهم أمناء في كل وجه جميل، ووسع أرزاقهم، حتى كمل له ما أراد من عمله. ومن عجز أن يستعمله، وصله من ماله، وصدر عنها وقد أنعش خلقاً كثيراً.
شعرهمن قوله في مجلس أطربه سماعه، وبسطه احتشاد الأنس فيه واجتماعه:
لا تلمني إذا طربت لشجو ... يبعث الأنس فالكريم طروب
ليس شق الجيوب حقاً علينا ... إنما الحق أن تشق القلوب
وقال: وقد قطف غلام من غلمانه نوارة، ومد بها يده إلى أبي نصر الفتح بن عبيد الله. فقال أبو نصر:
وبدر بدا والطرف مطلع حسنه ... وفي كفه من رايق النور كوكب
يروح لتعذيب النفوس ويغتدي ... ويطلع في أفق الجمال ويغرب
فقال أبو محمد بن مالك:
ويحسد منه الغصن أي مهفهف ... يجيء على مثل الكتيب ويذهب
نثرهقال أبو نصر، كتبت إليه مودعاً، فكتب إلي مستدعياً، وأخبرني رسوله أنه لما قرأ الكتاب وضعه، وما سوى ولا فكر ولا روى: يا سيدي، جرت الأيام بجمع افتراقك، وكان الله جارك في انطلاقك، فغيرك روع بالظعن، وأوقد للوداع جامح الشجن، فأنت من أبناء هذا الزمن، خليفة الخضر، لا يستقر على وطن، كأنك والله يختار لك ما تأتيه وما تدعه، موكل بفضاء الأرض تذرعه، فحسب من نوى بعشرتك الاستمتاع، أن يعدك من العواري السريعة الارتجاع، فلا يأسف على قلة الثوى وينشد: وفارقت حتى ما أبالي من النوى.
وفاتهاعتل بإشبيلية فانتقل إلى غرناطة، فزادت علته بها، وتوفي رحمه الله بها في غرة شعبان سنة ثمان عشرة وخمسمائة، ودفن إثر صلاة الظهر من يوم الجمعة المذكورة بمقبرة باب إلبيرة، وحضر جنازته الخاصة والعامة.
ومن رثاه: رثاه ذو الوزارتين أبو عبد الله بن أبي الخصال رحمه الله، فقال:
إن كنت تشفق من نزوح نواه ... فهناك مقبرة وذا مثواه
قسم زمانك عبرة أو عبرة ... وأحل تشوقه على ذكراه
وأعدده ما امتدت حياتك غايباً ... أو عاتباً إن لم تزر زرناه
أو نائماً غلبت عليه رقدة ... لمسهد لم تغتمض عيناه
أو كوكباً سرت الركاب بنوره ... فمضى وبلغنا المحل سناه
فمتى تبعد والنفوس تزوره ... ومتى تغيب والقلوب تراه
يا واحداً عدل الجميع وأصلحت ... دنيا الجميع ودينهم دنياه
طالت إذاتك بالحياء كرامة ... والله يكرم عبده بإذاه
لشهادة التوحيد بين لسانه ... وجنانه نور يرى مسراه
ويوجهه سيمى أغر محجل ... مهما بدا لم تلتبس سيماه
وكأنما هو في الحياة سكينة ... لولا اهتزاز في الندى يغشاه
وكأنه لحظ العفاة توجعا ... فتلازمت فوق الفؤاد يداه
أبدي رضي الرحمن عنك ثناؤهم ... إن الثناء علامة لرضاه
يا ذا الذي شفف القلوب به ... وذا لا ترتجيه وذاك لا تخشاه
ما ذاك إلا أنه فرع زكا ... وسع الجميع بظله وحناه

فاليوم أودى كل من أحببته ... ونعى إلى النفس من ينعاه
مإذا يؤمل في دمشق مسهد ... قد كنت ناظره وكن تراه
يعتاد قبرك للبكا أسفاً بما ... قد كان أضحكه الذي أبكاه
يا تربة حل الوزير ضريحها ... سقاك بل صلى عليك الله
وسرى إليك ومنك ذكر ساطع ... كالمسك عاطرة به الأفواه
عبد الرحمن بن عبد الملك الينشتييكنى أبا بكر، أصله من مدينة باغة، ونشأ بلوشة، وهو محسوب من الغرناطيين.
حالهكان شيخاً يبدو على مخيلته النبل والدهاء، مع قصور أدواته. ينتحل النظم والنثر، في أراجيز يتوصل بها إلى غرضه، من التصرف في العمل.
وجرى ذكره في التاج المحلى، وغيره بما نصه: قارض هاج، مداهن مداج، أخبث من نظر من طرف خفي، وأغدر من تلبس بسعار وفي، إلى مكيدة مبثوتة الحبايل، وإغراء يقطع بين الشعوب والقبايل، من شيوخ طريقة العمل، المتقلبين من أحوالها، بين الصحو والثمل، المتعللين برسومها، حين اختلط المرعي والهمل. وهو ناظم أرجاز، ومستعل حقيقة ومجاز. نظم مختصر السيرة، في الألفاظ اليسيرة، ونظم رجزاً في الزجر والفال، نبه به تبك الطريقة بعد الإغفال، فمن نظمه ما خاطبني، به مستدعياً إلى إعذار ولده:
أريد من سيدي الأعلى تكلفه ... على الوصول إلى داري صباح غد
يزيدني شرفاً منه ويبصر لي ... صناعة القاطع الحجام في ولدي
فأجبته:
يا سيدي الأوحد الأسمى ومعتمدي ... وذا الوسيلة من أهل ومن بلد
دعوت في يوم الاثنين الصحاب ضحى ... وفيه ما ليس في بيت ولا أحد
يوم السلام على المولى وخدمته ... فاصفح وإن عثرت رجلي فخذ بيدي
والعذر أوضح من نار على علم ... فعد إن غبت عن لوم وعن فند
يقيت في ظل عيش لا نفاد له ... مصاحبا غير محصور إلى أمد
ومنه أيضاً:
قل لابن سيد والديه لقد علا ... وتجاوز المقدار فيما يفخر
ما ساد والده فيحمد أمره ... إلا صغير العنز حتى يكبر
وصدرت عنه مقطوعات في غير هذا المعنى مما عذب به المجني، منها قوله:
إن الولاية رفعة لكنها ... أبدا إذا حققتها تنتقل
فنظر فضايل من مضى من أهلها ... تجد الفضايل كلها لا تعزل
وقال:
هنيا أبا إسحق دمت موفقاً ... سعيداً قرير العين بالعرس والعرس
فأنت كمثل البدر في الحسن والتي ... تملكتها في الحسن أسنى من الشمس
وقالوا عجيب نور بدرين ظاهر ... فقلت نعم إن ألف الجنس للجنس
وكتب إلي:
إذا ضاق ذرعي بالزمان شكوته ... لمولاي من آل الخطيب فينفرج
هو العدة العظمى هو السيد الذي ... بأوصافه الحسنى المكارم تبتهج
وزير علا ذاتاً وقدرا ومنصبا ... فمن دونه أعلا الكواكب يندرج
وفي بابه نلت الأماني وقادني ... دليل رشادي حيث رافقني الفرج
فلا زال في سعد وعز ونعمة ... تصان به الأموال والأهل والمهج
توفي في الطاعون عام خمسين وسبعماية بغرناطة وفي سائر الأسماء التي بمعني عبد الله وعبد الرحمن، وأولاد الأمراء
عبد الأعلى بن موسى بن نصير

مولى لخم

أوليته

أبوه المنسوب إليه فتح الأندلس، ومحله من الدين والشهرة، وعظم الصيت معروف.
حالهكان عبد الأعلى أميرا على سنن أبيه في الفضل والدين، وهو الذي باشر فتح غرناطة ومالقة، واستحق الذكر لذلك. قال الرازي، وكان موسى بن نصير، قد أخرج ابنه عبد الأعلى فيمن رتبه من الرجال إلى إلبيرة وتدمكير، لفتحها، ومضى إلى إلبيرة ففتحها، وضم بها إلى غرناطة اليهود، مستظهراً بهم على النصر، ثم مضى إلى كورة ريه، ففتحها
عبد الحليم بن عمر

بن عثمن بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو

يكنى أبا محمد، أوليته معروفة.

وفسد ما بين أبيه وبين جده، أمير المسلمين، بما أوجب انتباذه إ، لى سكني مدينة سجلماسة، معززة له ألقاب السلطان بها، مدوخاً ما بأحوازها من أماكن الرياسة، منسوبة إليه بها الآثار، كالسد الكبير الشهير، وقصور الملك. فلما نزل عنها على حكم أخيه أمير ا لمسلمين أبي الحسن، وأمضى قتلته بالفصاد، نشأ ولده، وهم عدة بباب عمهم، يسعهم رفده، ويقودهم ولده، ثم جلاهم إلى الأندلس إبنه السلطان أبو عنان، عندما تصير الأمر إليه، فاستقروا بغرناطة، تحت بر وجراية، قلقاً بمكانهم من جلاهم ومن بعده، لإشارة عيون الترشيح إليهم، مغازلة من كثب، وقعودهم بحيث تعثر فيهم المظنة، إلى أن كان من أمرهم ما هو معروف.
حالههذا الرجل م ن أهل الخير والعفاف والصيانة، ودمث الخلق، وحسن المداراة، يألف أهل الفضل، خاطب للرتبة بكل جهد وحيلة، وسد عنه باب الأطماع. حذر من كان له الأمر بالأندلس من لدن وصوله. كي لا تختلف أحوال هذا الوطن في صرف وجوه أهله إلى غزو عدو الملة، ومحولي القبلة، وإعراضهم عن الإغماض في الفتنة المسلمة، وربما بميت عنهم الحركات والهموم. فثقفوا من فيها عليهم، إلى أن تبرأ ساحتهم ويظن به السكون. فلما دالت الدولة، وكانت للأخابث الكرة، واستقرت بيد الرئيس الغادر الكرة، وكان ما تقدم الإلماع به من عمل السلطان أبي سالم ملك المغرب، على إجازة السلطان ولي ملك الأندلس، المزعج عنها بعلة البغي، ذهب الدايل الأخرق إلى المقارضة، فعندما استقر السلطان أبو عبد الله بجبل الفتح، حاول إجازة الأمير عبد الحليم إلى تلمسان بعد مفاوضة. فكان ذلك في أخريات ذي قعدة، وقد قضى الأمر في السلطان أبي سالم، وانحلت العقدة، وانتكثت المريرة، وولي الناس الرجل المعتوه، وفد إلى تلمسان من لم يرض محله من الإدالة، ولا قويت نفسه على العوض، ولا صابرت غض المخافة، وحرك ذلك من عزمه، وقد أنجده السلطان مستدعيه بما في طوقه. ولما اتصل خبره بالقايم بالأمر بفاس، ومعول التدبير على سلطانه. أعمل النظر فيهم، زعموا بتسليم الأمر، ثم حذر من لحق به من أضداده، فصمم على الحصار، واستراب بالقبيل المريني، وأكثف الحجاب دونهم بما يحرك أنفتهم، فنفروا عنه بواحدة أول عام ثلاثة وستين وسبعماية، واتفق رأيهم على الأمير عبد الحليم، فتوجهت إليه وجهوهم اتفاقا، وانثالوا عليه اضطرارا، ونازل البلد الجديد، دار الملك من مدينة فاس، يوم السبت السادس لشهر المحرم من العام. واضطربت المحلات بظاهره، وخرج إليه أهل المدينة القدمى، فأخذ بيعتهم، وخاطب الجهات، فألقت إليه قواعدها باليد، ووصلت إليه مخاطبتها.
ومن ذلك ما خوطب به من مدينة سلا، وأنا يومئذ بها:
يا إمام الهدى وأي إمام ... أوضح الحق بعد إخفاء رسمه
أنت عبد الحليم نر ... جوفا لمسمى له نصيب من اسمه

وسلك مسلكا حسنا في الناس، وفسح الآمال، وأجمل اللقاء، وتحمل الجفاء، واستفز الخاصة بجميل التأني وأخذ العفو، والتظاهر بإقامة رسوم الديانة، وحارب البلد المحصور في يوم السبت الثالث عشر لشهر الله المحرم المذكور، كانت الملاقاة التي برز فيها وزير الملك ومدير رحاه بمن اشتملت عليه البلدة من الروم والجند الرحل، واستكثر من آلات الظهور وعدد التهويل، فكانت بين الفريقين حرب مرة تولى كبرها الناشبة، فأرسلت على القوم حواصب النبل، غارت لها الخيل، واقشعرت الوجوه، وتقهقرت المواكب. وعندها برز السلطان المعتوه، مصاحبة له نسمة الإقدام، وتهور الشجاعة عند مفارقة الخلال الصحية، وتوالت الشدات، وتكالبت الطايفة المحصورة، فتمرست بأختها. ووقعت الهزيمة ضحوة اليوم المذكور على قبيل بني مرين ومن لف لفهم، فصرفوا الوجوه إلى مدينة تازي، واستقر بها سلطانهم، ودخلت مكناسة في أمرهم، وضاق ذرع فاس للملك بهم، إلى أن وصل الأمير المستدعي، طية الصبر، وأجدى دفع الدين، ودخل البلد في يوم الاثنين الثاني والعشرين لصفر من العام. وكان اللقاء بين جيش السلطان، لنظر الوزير، مطعم الإمهال ومعود الصنع. وبين جيش بني مرين، لنظر الأخ عبد المؤمن ابن السلطان أبي علي. فرحل القوم من مكناسة، وفر عنهم الكثير من الأولياء، وأخذوا العرصة، واستقروا أخيراً ببلد أبيهم سجلماسة، فكانت بين القوم مهادنة. وعلى أثرها تعصب للأخ عبد المؤمن معظم عرب الجهة، وقد برز إليهم في شأن استخلاص الجباية، فرجعوا به إلى سجلماسة. وخرج لمدافعتهم الأمير عبد الحليم، بمن معه من أشياخ قبيله والعرب أولى مظاهر، فكانت بينهم حرب أجلت عن هزيمة الأمير عبد الحليم، واستلحم للسيف جملة من المشاهير. كالشيخ الخاطب في حبله، خدن النكر وقادح زند الفتنة، الداين بالحمل على الدول على التفصيل والجملة، المعتمد بالمغرب بالرأي والمشورة، يحيى بن مسطي وغيره. وأذعن عبد الحليم بعدها للخلع، وخرج عن الأمر لأخيه، وأبقى عليه، وتحرج من قتله. وتعرف لهذا الوقت صرفه عنه إلى الأرض الحجازية على صحراء القبلة، فانتهى أمره إلى هذه الغاية.
دخوله غرناطةقدم على الحضرة مع الجملة من إخوته وبني عمه في ............ جلاهم السلطان أبو عنان، عندما تصير له الأمر، فاستقروا بها، يناهز عبد الحليم منهم بلوغ أشده.
وتوفي ......... ....... وستين وسبعماية
عبد المؤمن بن عمر

بن عثمن بن يعقوب بن عبد الحق بن محيو

أخو الأمير عبد الحليم يكنى أبا محمد
حالهكان رجلا وقوراً، سكونا، نحيفا، آية الله في جمود الكف، وإيثار المسك، قليل المداخلة للناس، مشتغلا بما يغنيه من خويصة نفسه، موصوفاً ببسالة وإقدام، حسن الهيئة. دخل الأندلس مع أخيه، وعلى رسمه، وتحرك معه، وابن أخ لما، فتولى كثيرا من أمره، ولقي الهول دونه. ولما استقروا بسجلماسة، كان ما تقرر من توبته على أمره، والعمل على خلعه، معتذرا زعموا إليه، موفيا حقه، موجبا تجلته إلى حين انصرافه، ووصل الأندلس خطابه، يعرف بذلك بما نصه في المدرجة.
ولم ينشب أن أحس بحركة جيش السلطان بفاس إليه، فخاطب عميد الهساكره، عامر بن محمد الهنتاتي، وعرض نفسه عليه، فاستدعاه. وبذل له أماناً. ولما تحصل عنده، قبض عليه، وثقفه، وشد عليه يده، وحصل على طلبه دهية، من التوعد بمكانه، واتخاذ اليد عند السلطان بكف عاديته إلى هذا التاريخ.
ومن الأفراد أيضاً في هذا الحرف وهم طارؤون
عبد الحق بن علي

بن عثمن بن أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق

الأمير المخاف بعد أبيه أمير المسلمين أبي الحسن بمدينة الجزائر، بعد ما توجه إلى المغرب، وجرت عليه الهزيمة من بني زيان.
حاله

كان صبيا ظاهر السكون والأدب، في سن المراهقة، لم ينشب أن نازله جيش عدوه، ومالأه أهل البلد، وأخذ من معه لأنفسهم وله الأمان، فنزل عنها ولحق بالأندلس. قال في كتاب طرفة العصر، وفي ليلة العاشر من شهر ربيع الأول اثنين وخمسين وسبعمائة، اتصل الخبر من جهة الساحل، بنزول الأمير عبد الحق ابن أمير المسلمين أبي الحسن ومن معه، بساحل شلوبانية، مفلتين من دهق الشدة، بما كان من منازلة جيش بني زيان مدينة الجزائر، وقيام أهلها بدعوتهم، لما سيموه من المطاولة، ونهكهم من الفتنة، وامتنع الأمير ومن معه بقصبتها، وأخذوا لأنفسهم عهدا، فنزلوا وركبوا البحر، فرافقتهم السلامة، وشملهم ستر العصمة. ولحين اتصل بالسلطان خبره، بادر إليه بمركبين ثقيلي الحلية، وما يناسب ذلك من بزة، وعجل من خدامه بمن يقوم ببره، وأصحبه إلى منزل كرامته، ولرابع يوم من وصوله، كان قدومه، وبرز له السلطان بروزاً فخما. ونزل له، قارضاً إياه أحسن القرض، بما أسلفه من يد، وأسداه من طول، وأقام ضيفا في جواره، إلى أن استدعاه أخوه ملك المغرب، فانصرف عن رضي منه، ولم ينشب أن هلك مغتالا في جملة أرادهم الترشيح
عبد الواحد بن زكريا بن أحمد اللحيانييكنى أبا ملك. وبيته في الموحدين الملوك بتونس. وأبوه سلطان إفريقية المترقى إليها من رتبة الشياخة الموحدية.
حالهكان رجلا طوالا نحيفا، فاضلا حسيبا، مقيما للرسوم الحسبية، حسن العشرة، معتدل الطريقة، نشأ بالبلاد المشرقية، ثم اتصل بوطنه إفريقية، وتقلد الإمارة بها برهة يسيرة، ثم فر عنها ولحق بالمغرب، وجاز إلى الأندلس، وقدم على سلطانها، فرحب به، وقابله بالبر، ونوه محله، وأطلق جرايته، ثم ارتحل أدراجه إلى العدوة، ووقعت بيني وبينه صحبة، أنشدته عند وداعه:
أبا ملك أنت نجل الملوك ... غيوث الندى وليوث النزال
ومثلك يرتاح للمكرمات ... ومالك بين الورى من مثال
عزيز بأنفسنا أن نرى ... ركابك مؤذنة بارتحال
وقد خبرت منك خلقاً كريماً ... أناف على درجات الكمال
وفازت لديك بساعات أنس ... كما زار في النوم طيف الخيال
فلولا تعللنا أننا نزورك فسوق بساط الجلال
ونبلغ فيك الذي نشتهي ... وذاك على السهل المنال
لما فترت أنفس من أسى ... ولا برحت أدمع في انهمال
تلقتك حيث احتللت السعود وكان لك الله على كل حال
ومن ترجمة الأعيان والوزراء والأماثل والكبرا
عبد الحق بن عثمن

بن محمد بن عبد الحق بن محيو

يكنى أبا إدريس، شيخ الغزاة بالأندلس.
حاله

كان شجاعاً عفيفاً تقيا، وقوراً جلداً، معروف الحق، بعيد الصيت. نازع الأمر قومه بالمغرب، وانتزى بمدينة تازى، على السلطان أبي الربيع، وأخذ بها البيعة لنفسه. ثم ضاق ذرعه، فعبر فيمن معه إلى تلمسان. ولما هلك أبو الربيع، وولي السلطان أبو سعيد، قدم للكتب في شأنه إلى سلطان الأندلس، وقد تعرف عزمه على اللحاق، ولم ينشب أن لحق بألمرية من تلمسان، فثقف بها، قضاء لحق من خاطب في شأنه. ثم بدا للسلطان في أمره، فأوعز لرقبايه في الغفلة عنه، وفر فلحق ببلاد النصرى فأقام بها، إلى أن كانت الوقيعة بالسلطان بغرناطة، بأحواز قرية العطشا على يد طالب الملك أمير المسلمين أبي الوليد، وأسر يومئذ شيخ الغزاة حمو بن عبد الحق، وترجح الرأي في إطلاقه وصرف، إعلانا للتهديد. فنجحت الحيلة، وعزل عن الخطة، واستدعى عبد الحق هذا إليها، فوصل غرناطة، وقدم شيخا على الغزاة. ولما تغلب السلطان أبو الوليد على الأمر، واستوسق له، وكان ممن شمله أمانه، فأقره مرؤساً بالشيخ أبي سعيد عثمن بن أبي العلاء برهة. ثم لحق بأميره المخلوع نصر، المستقر موادعاً بوادي آش، وأوقع بجيش المسلمين مظاهر الطاغية، الوقيعة الشنيعة بقرمونة، وأقام لديه مدة. ثم لحق بأرض النصرى، وأجاز البحر إلى سبتة. مظاهراً لأميرها أبي عمرو يحيى بن أبي طالب العزفي، وقد كشف القناع في منابذة طاعة السلطان، ملك المغرب، وكان أملك لما بيده، وأتيح له ظفر عظيم على الجيش المضيق على سبتة، فبيته وهزمه. وتخلص له ولده، الكاين بمضرب أمير الجيش في بيت من الخشب رهينة، فصرف عليه، فما شئت من ذياع شهرة، وبعد صيت، وكرم أحدوثة. ثم بدا له في التحول إلى تلمسان، فانتقل إليها، وأقام في إيالة ملكها عبد الرحمن بن موسى بن تاشفين إلى آخر عمره.
وفاتهتوفي يوم دخول مدينة تلمسان عنوة، وهو يوم عيد الفطر من عام ثمانية وثلثين وسبعماية، قتل على باب منزله، يدافع عن نفسه، وعلى ذلك فلم يشهر عنه يومئذ كبير غناء، وكور واستلحم، وحز رأسه. وكان أسوة أميرها في المحيا والممات، رحم الله جميعهم، فانتقل بانتقاله وقتل بمقتله. وكان أيضاً علماً من أعلام الحروب، ومثلا في الأبطال، وليثا من ليوث النزال.
عبد الملك بن علي وعبد الله أخوه

بن هذيل الفزاري وعبد الله أخوه

حالهما

قال ابن مسعدة، أبو محمد وأبو مروان توليا خطة الوزارة في الدولة الحبوسية، ثم توليا القيادة بثغور الأندلس، وقهرا ما جاورهما من العدو، وغلباه، وسقياه كأس المنايا، وجرعاه، ولم يزالا قائمين على ذلك، ظاهرين علمين، إلى أن استشهدا رحمهما الله.
عبد القهار بن مفرج

بن عبد القهار بن هذيل الفزاري

حاله

قال ابن مسعدة، كان بارع الأدب، شاعر، نحويا، لغويا، كاتبا متوقد الذهن، عنده معرفة بالطب، ثم اعتزل الناس، وانقبض، وقصد سكنى البشارات، لينفرد بها، ويخفى نفسه، فرارا من الخدمة، فتهيأ له المراد.
شعرهوكان شاعرا جيد القريحة سريع الخاطر، ومن شعره:
يا صاح لا تعرض لزوجية ... كل البلا من أجلها يعترى
الفقر والذل وطول الأسى ... لست بما أذكره مفترى
ما في فم المرأة شيء سوى ... اشتر لي واشتر لي واشتر
القضاة الفضلاء وأولا الأصليون
عبد الحق بن غالب

بن عطية بن عبد الرحمن بن غالب بن عبد الرؤوف بن تمام بن عبد الله بن

تمام بن عطية بن خالد بن عطية بن خالد بن خفاف بن أسلم بن مكتوم المحاربي
أوليتهمن ولد زيد بن محارب بن عطية، نزل جده عطية بن خفاف بقرية قسلة من زاويه غرناطة، فأنسل كثيراً ممن له خطر، وفيه فضل.
حالهكان عبد الحق فقيها، عالما بالتفسير والأحكام والحديث والفقه، والنحو والأدب واللغة، مقيدا حسن التقيد، له نظم ونثر، ولى القضاء بمدينة ألمرية في المحرم سنة تسع وعشرين وخمسماية، وكان غاية في الدهاء والذكاء، والتهمم بالعلم، سرى الهمة في اقتناء الكتب. توخى الحق، وعدل في الحكم، وأعز الخطة.
مشيختهروى عن الحافظ أبيه، وأبوي على الغساني والصدفي، وأبي عبد الله محمد بن فرج مولى الطلاع، وأبي المطرف الشعبي، وأبي الحسين بن البيان، وأبي القاسم بن الحصار المقري، وغيرهم.
تواليفه=

الاحاطة 8.

مجلد 8. من كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة لسان الدين ابن الخطيب

ألف كتابه المسمى بالوجيز في التفسير فأحسن فيه وأبدع، وطار بحسن نيته كل مطار. وألف برنامجاً ضمنه مروياته، وأسماء شيوخه، وجرز وأجاد.
شعرهقال الملاحي، ما حدثني به غير واحد من أشياخه عنه، قوله:
وليلة جيت فيها الجذع مرتديا ... بالسيف أسحب أذيالا من الظلم
والنجم حيران في بحر الدجا غرق ... والبدر في طيلسان الليل كالعلم
كأنما الليل زنجي بكاهله ... جرح فيثغب أحيانا له بدم
وقال يندب عهد شبابه:
سقياً لعهد شباب ظلت أمرح ... في ريعانه وليالي العيش أسحار
أيام روض الصبا لم تذو أغصنه ... ورونق العمر غض والهوى حمار
والنفس تركض في تضمين ثرتها ... طرفاً له في زمان اللهو إحضار
عهداً كريماً لبسنا منه أردية ... كانت عيوناً ومحيت فهي آثار
مضى وأبقى بقلبيي منه نار أسى ... كوني سلاماً أو برداً فيه يا نار
أبعد أن نعمت نفسي وأصبح في ... ليل الشباب لصبح الشيب أسفار
ونازعتني الليالي وانثنت كسراً ... عن ضيغم ماله ناب وأظفار
ألا سلاح خلال أخلصت فلها ... في منهل المجد إيراد وإصدار
أصبو إلى روض عيش روضه خضل ... أو ينثني بي عن اللقيا إقصار
إذا تعطلت كفى من شبا قلم ... آثاره في رياض العلم أزهار
من روى عنهروى عنه أبو بكر بن أبي جمرة، وأبو محمد بن عبد الله، وأبو القاسم بن حبيش، وأبو جعفر بن مضاء، وأبو محمد عبد المنعم، وأبو جعفر ابن حكم، وغيرهم.
مولده: ولد سنة إحدى وثمانين وأربع ماية.
وفاته: توفي في الخامس والعشرين لشهر رمضان سنة ست وأربعين وخمس ماية بمدينة لورقة. قصد مرسية يتولى قضاءها، فصد عنها، وصرف منها إلى لورقة، اعتداء عليه.
عبد المنعم بن محمد

بن عبد الرحيم بن فرج الخزرجي

من أهل غرناطة، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن الفرس، وقد تقدم ذكر طايفة من أهل بيته.
حالهكان حافظاً جليلاً، فقيها، عارفا بالنحو واللغة، كاتبا بارعا، شاعراً مطبوعا، شهير الذكر، عالي الصيت. ولي القضاء بمدينة شقر، ثم بمدينة وادي آش، ثم بجيان، ثم بغرناطة، ثم عزل عنها، ثم وليها الولاية التي كان من مضمن ظهيره بها، قول المنصور له، أٌول لك ما قاله موسى عليه السلام لأخيه هرون، إخلفني في قومي، واصلح ولا تتبع سبيل المفسدين، وجعل إليه النظر في الحسبة، والشرطة، وغير ذلك، فكان إليه النظر في الدماء فما دونها، ولم يكن يقطع أمر دونه ببلده وما يرجع إليه.
وقال ابن عبد الملك، كان من بيت علم وجلالة، مستبحراً في فنون المعارف، على تفاريقها، متحققاً بها، نافذا فيها، ذكي القلب، حافظاً للفقه. استظهر أوان طلبه للكتابين، المدونة، وكتاب سيبويه وغيرهما، وعني به أبوه وجده عناية تامة. وقال أبوة الربيع بن سالم، سمعت أبا بكر ابن الجد، وحسبك شاهدا، يقول غير ما مرة، ما أعلم بالأندلس، أحفظ لمذهب مالك من عبد المنعم بن الفرس، بعد أبي عبد الله بن زرقون.
مشيختهروى عن أبيه الحافظ أبي عبد الله، وعن جده أبي القاسم، سمع عليهما وقرأ، وعن أبي بكر بن النفيس، وأبي الحسن بن هذيل، وأبي عبد الله ابن سعادة، وأبي محمد عبد الجبار بن موسى الجذامي، وأبي عامر محمد ابن أحمد الشلبي، وأبي العباس أحمد وأخيه أبي الحسن ابني زيادة الله. هذه جملة من لقى من الشيوخ وشافهه وسمع منه، وأجاز له من غير لقاء وبعضهم باللقاء من غير قراءة، ابن ورد، وابن بقى، وأبو عبد الله ابن سليمن التونسي، وأبو جعفر بن قبلال، وأبو الحسن بن الباذش، ويونس بن مغيث، وابن معمر، وشريح، وابن الوحيدي، وأبو عبد الله ابن صاف، والرشاطي، والحميري، وابن واضاح، وابن موهب، وأبو مروان الباجي، وأبو العباس بن خلف بن عيشون، وأبو بكر بن طاهر، وجعفر بن مكي، وابن العربي، ومساعد بن أحمد بن مساعد، وعبد الحق بن عطية، وأبو مروان بن قزمان، وابن أبي الخصال، وعياض ابن موسى، والمازري، وغيرهم.
تواليفه

ألف عدة تواليف، منها كتاب الأحكام، ألفه وهو ابن خمسة وعشرين عاماً، فاستوفى ووفي، واختصر الأحكام السلطانية، وكتاب النسب لأبي عبيد بن سلام، وناسخ القرآن ومنسوخه لابن شاهين، وكتاب المحتسب لابن جنى. وألف كتابا في المسايل التي اختلف فيها النحويون من أهل البصرة ولاكوفة، وكتابا في صناعة الجدل، ورد على ابن غرسية في رسالته في تفضيل العجم على العرب. وكتب بخطه من كتب العربية واللغة والأدب والطب وغير ذلك.
من روى عنهحدث عنه الحافظ أبو محمد القرطبي، وأبو علي الرندي، وإبنا حوط الله، وأبو الربيع ين سالم، والجم الغفير.
شعرهأبى ما بقلبي اليوم أن يتكتما ... وحسبك بالدمع السفوح مترجما
وأعجب به من أخرس بات مفصحا ... يبين للواشين ما كان مبهما
فكم عبرة في نهر شقر بعثتها ... سباقا فأمسى النهر مختضبا دما
يرجع ترجيع الأنين اضطراره ... كشكوى الجريح للجريح تألما
كملن بصحبي في قوفة الدمع ناثر ... شقايق نعمان على متن أرقما
ولله ليل قد لبست ظلامه ... راداُ بأنوار النجوم منمنما
أناوح فيه الورق فوق غصونها ... فكم أورق منهن قد بات معجما
وممالي إلا للفرقدين مصاحب ... ويا بعد حالي في الصبابة منهما
أبيت شتيت الشمل والشمل فيهما ... جميع كما أبصرت عقدا منظما
فيا قاصداً تدمير عرج مصافحا ... نسألك رسما بالعقيق ومعلما
وأعلم بأبواب السلام صبابتي ... كما كان عرف المسك بالمسك علما
وإن طفت في تلك الأجارع لا تضع ... بحق هواها إن لم تلم مسلما
وما ضرها لو جاذبت ظبية النقا ... فضول رداء قد تغشته معلما
فيثني قضيباً أثمر البدر مايساً ... بحقف مسيل لفه السيل مظلما
وما كنت إلا البدر وافي غمامة ... فما لاح حتى غاب فيها مغيما
وما ذاك من هجر ولكن لشقوة ... أبت أن يكون الوصل منها متمما
فياليتني أصبحت في الشعر لفظة ... ترددني مهما أردت تفهما
ولله ما أذكى نسيمك نفحة ... أأنت أعرت للروض طيباً تنسما
ولله ما أشفى لقاك للجوى ... كأنك قد أصبحت عيسى بن مريما
وما الراح بالماء القراح مشوبة ... بأطيب من ذكراك إن خامرت فما
فمالي وللأيام قد كان شملنا ... جميعاً فأضحى في يديها مقسماً
وما جنيت الطيب من شهد وصلها ... جنيت من التبديد للوصل علقما
وق ذقت طعم البين حتى كأنني ... لألفة من أهواه ما ذقت مطعما
فمن لفؤاد شطره حازه الهوى ... وشطر لإحراز الثواب مسلما
ويا ليت أن الدار حان مزارها ... فلو صح قرب الدار أدركت مغنما
ولو صح قرب الدار لي لجعلته إلى ... مرتقى السلوان والصبر سلما
فقد طال ما ناديت سراً وجهرة ... عسى وطن يدنو بهم ولعلما؟
سلام على من شفني بعد داره ... وأصبحت مشغوفاً بقرب مزاره
ومن هو في عيني ألذ من الكرى ... وفي النفس أشهى من أمان المكاره
سلام عليه كلما ذر شارق ... ينم كعرف الزهر غب فطاره
لعمرك ما أخشى غداة وداعنا ... وقد سعرت في القلب شعلة ناره
وسال على الخدين دمع كأنه ... بقية ظل للروض في جلناره
وعانقت منه غصن بان منعماً ... ولاحظت منه الصيح عند اشتهاره
وأصبحت في أرض وقلبي بغيرها ... وما حال مسلوب الفؤاد مكاره
نأى وجه من أهوى فأظلم أفقه ... وقد غاب عن عينيه شمس نهاره
سل البرق عن شوقي يخبرك بالذي ... ألاقيه من برح الهوى وأواره
وهل هو إلا نار وجدي وكلما ... تنفست عم الجو ضوء شراره
ومن شعره أيضاً رحمة الله عليه:

أقرأ على شنجل سلام ... أطيب من عرفه نسيما
من مغرم القلب ليس ينسى ... منظره الرايق الوسيما
إذا رأى منظرا سواه ... عاف الجنى منه والشميما
وإن أتى مشربا حميدا ... كان وإن راقه ذميما
وقف بنجد وقوف صب ... يستذكر الخدن والحميما
وأندب أركاً بشعب رضوى ... قد رجعت بعدنا مشيما
وأذكر شباباً مضى سريعا ... أصبحت من بعده سقيما
هيهات ولي وجاء شيب ... وكيف للقلب أن يهيما
ما يصلح الشيب غير تقوى ... تحجب عن وجهه الجحيما
في كل يوم له ارتحال ... أعجب به ظاعناً مقيما
ما العمر إلا لديه دين ... قد آن أن يقضى الغريما
فعد إلى توبة نصوح ... وارج إلهاً بنا رحيما
قد سبق الوعد منه حتى ... أطمع ذا الشقوة النعيما
مولده في سنة أربع وعشرين وخمسماية وفاته: عصر يوم الأحد الرابع من جمادى الآخرة سنة سبع وتسعين وخمسماية. وشهد دفنه بباب إلبيرة الجم الغفير، وازدحم الناس على نعشه حتى حملوه على أكفهم ومزقوه. وأمر أن يكتب على قبره:
عليك سلام الله يا من يسلم ... ورحمته مازرتني تترحم
أتحسبني وحدي نقلت إلى هنا ... ستلحق بي عما قريب فتعلم
فيا لمن يمسي لدنياه مؤثرا ... ويهمل أخراه ستشقى وتندم
فلا تفرحن إلا بتقديم طاعة ... فذاك الذي ينجي غدا ويسلم
ومن غير الأصلبين
عبد الحكيم بن الحسين

بن عبد الملك بن يحيى بن باسيو بن تادرت الشمالي اليدرازتيني ثم

الواغدينى
أصله من تينملل من نظر مراكش، وانتقل جده عبد الملك مع الخليفة عبد المؤمن بن علي إلى إقليم بجاية. ونشأ عبد الملك ببجاية، وانتقل إلى تونس في حدود خمسة وثمانين. وورد أبو محمد الأندلس في حدود سبعمائة.
حالهمن تعريف شيخنا أبي البركات: كان من أهل المعرفة، بالفقه وأصوله، على طريقة المتأخرين. وكان مع ذلك رجلا كريم النفس، صادق الهجة، سليم الصدر، منصفا في المذاكرة. قلت يجمع هذا الرجل إلى ما وصفه به، الأصالة ببلده إفريقية، وثبت اسمه في عايد الصلة بما نصه: الشيخ الأستاذ القاضي، يكنى أبا محمد. كان رحمه الله من أهل العلم بالفقه، والقيام على الأصلين، صحيح الباطن، سليم الصدر، من أهل الدين والعدالة والأصالة. بث في الأندلس علم أصول الفقه، وانتفع به. وتصرف في القضاء في جهات.
مشيختهمنقولا من خط ولده الفقيه أبي عبد الله صاحبنا، الكاتب بالدار السلطانية، قرأ ببلده على الفقيه الصدر أبي علي بن غنوان، والشيخ أبي الطاهر بن سرور، والإمام أبي علي ناصر الدين المشدالي، والشيخ أبي الشمل جماعة الحلبي، والشيخ أبي الحجاج بن قسوم وغيرهم. ومن خط المحدث أبي بكر بن الزيات، يحمل عن أبي الطاهر بن سرور، وعن أبي إسحق بن عبد الرفيع.
تواليفهمن تواليفه: المعاني المبتكرة الفكرية في ترتيب المعالم الفقهية. والإيجاز في دلالة المجاز، ونصرة الحق، ورد الباغي في مسألة الصدقة ببعض الأضحية، والكراس المرسوم بالمباحث البديعة في مقتضى الأمر من الشريعة.
مولدهببجاية في أحد لجمادى الأولى من عام ثلاثة وستين وستمائة.
وتوفي قاضيا بشالش يوم الجمعة، و الرابع عشر لجمادى الأولى من عام ثلاثة وعشرين وسبعماية. ودفن بجبانة باب إلبيرة بمقربة من قبر ولي الله أبي عبد الله التونسي. وكانت جنازته مشهورة.
ومن المقريين والعلماء

عبد الملك بن حبيب

بن سليمن بن هرون بن جلهمة بن العباس بن مرداس السلمي

أصله من قرية قورت، وقيل حصن واط من خارج غرناطة، وبها نشأ وقرأ.
حاله

قال ابن عبد البر. كان جماعا للعلم، كثير الكتب، طويل اللسان، فقيها، نحويا، عروضيا، شاعرا، نسابة، إخبارياًُ. وكان أكثر من يختلف إليه، الملوك وأبناؤهم. قال ابن مخلوف، كان يأتي إلى معالي الأمور. وقال غيره، رأيته يخرج من الجامع، وخلفه نحو من ثلاثمائة، بين طالب حديث، وفرايض، وفقه، وإعراب، وقد رتب الدول عليه، كل يوم ثلاثين دولة، لا يقرأ عليه فيهغا شيء إلا تواليفه، وموطأ مالك. وكان يلبس الخز والسعيد. قال ابن نمير، وإنما كان يفعله إجلالا للعلم، وتوقيرا له. وكان يلبس إلى جسمه ثوب شعر، وكان صواماً قواماً. وقال المغاسي، لو رأيت ما كان على باب ابن حبيب، لزدريت غيره. وزعم الزبيدي، أنه نعى إلى سحنون فاسترجع، وقال مات عالم الأندلس. قال ابن الفرضي، جمع إلى إمامته في الفقه، التبحبح في الأدب، والتفنن في ضروب العلوم، وكان فقيها مفتيا. قال ابن خلف أبو القاسم الغافقي، كان له أرض وزبتون بقرية بيرة من طوق غرناطة، حبس جميع ذلك على مسجد قرطبة. وله ببيرة مسجد ينسب إليه. وكان يهبط من قرية قورت يوم الاثنين والخميس إلى مسجده ببيرة، فيقرأ عليه، وينصرف إلى قريته.
مشيختهروى عن صعصعة بن سلام، والغازي بن قيس، وزياد بن عبد الرحمن. ورحل إلى المشرق سنة ثمان ومائتين. وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وكانت رحلته من قريته بفحص غرناطة. وسمع فيها من عبد الملك بن الماجشون، ومطرف بن عبد الله، وأصبغ بن الفرج، وابنه موسى، وجماعة سواهم، وأقام في رحلته ثلاثة أعوام وشهورا. وعاد إلى إلبيرة، إلى أن رحله عبد الرحمن بن الحكم إلى قرطبة، في رمضان سنة ثمان عشرة ومائتين.
من روى عنه: سمع منه إبناه محمد وعبد الله، وسعيد بن نمر، وأحمد بن راشد، وإبراهيم بن خالد، وإبراهيم بن شعيب، ومحمد بن قطيس. وروى عنه من عظماء القرطبيين، مطرف بن عيسى، وبقي بن مخلد، ومحمد بن وضاح، والمقامي في جماعة.
تواليفهقال أبو الفضل عياض بن موسى، في كتابه في أصحاب مالك قال بعضهم، قلت لعبد الملك بن حبيب. كم كتبك التي ألفت، قال ألف كتاب وخمسون كتابا. قال عبد الأعلى، منها كتب المواعظ سبعة، وكتب الفضايل سبعة، وكتب أجواد قريش وأخبارها وأنسابها خمسة عشر كتابا، وكتب السلطان وسيرة الإمام ثمانية كتب، وكتب الباه والنساء ثمانية، وغير ذلك. ومن كتب سماعاته في الحديث والفقه، وتواليفه في الطب، وتفسير القرآن، ستون كتابا. وكتاب المغازي، والناسخ والمنسوخ، ورغايب القرآن، وكتاب الرهون والحدثان، خمسة وتسعون كتابا، وكتاب مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، اثنان وعشرون كتابا، وكتاب في النسب، وفي النجوم، وكتاب الجامع، وهي كتب فيها مناسك النبي، وكتاب الرغايب، وكتاب الورع في المال، وكتاب الربا. وكتاب الحكم والعدل بالجوارح. ومن المشهورات الكتاب المسمى بالواضحة. ومن تواليفه كتاب إعراب القرآن، وكتاب الحسبة في الأمراض، وكتاب الفرايض، وكتاب السخاء واصطناع المعروف، وكتاب كراهية الغناء.
شعرهأنشد ابن الفرضي مما كتب بها إلى أهله من المشرق سنة عشر ومايتين:
أحب بلاد الغرب والغرب موطني ... ألا كل غربي إلي حبيب
فيا جسداً أضناه شوق كأنه ... إذا انتضيت عنه الثياب قضيب
ويا كبداً عادت زمانا كأنما ... يلذغها بالكاويات طبيب
بليت وأبلاني اغترابي ونأيه ... وطول مقامي بالحجاز أجوب
وأهلي بأقصى مغرب الشمس دارهم ... ومن دونهم بحر أجش مهيب
وهول كريه ليله كنهاره ... وسير حثيث للركاب دؤوب
فما الداء إلا أن تكون بغربة ... وحسبك داء أن يقال غريب
فيا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بأكناف نهر الثلج حين يصوب
وحولي أصحابي وبنتي وأمها ... ومعشر أهلي والرؤوف مجيب
وكتب إلى الأمير عبد الرحمن في ليلة عاشوراء:
لا تنسى لا ينسك الرحمن عاشوراء ... واذكره لا زلت في الأحياء مذكورا
قال الرسول صلاة الله تشمله ... قولا وجدنا عليه الحق والنورا
من بات في ليل عاشوراء ذا سعة ... يكن بعيشه في الحول محبورا

فارغب فديتك فيما فيه رغبتنا ... خير الورى كلم حياً ومقبورا
وفاتهتوفي في ذي الحجة سنة ثماني وثلاثين. وقيل تسع وثلاثين ومايتين. قال ابن خلف، كان يقول في دعائه، إن كنت يا رب راضياً عني، فاقبضني إليك قبل انقضاء سنة ثمان وثلاثين، فقبضه الله في أحب الشهور إليه، رمضان من عام ثمانية وثلاثين، وهو ابن أربع وستين سنة، وصلى عليه ولده محمد، ودفن بمقبرة أم سلمة بقبلي محراب مسجد الضيافة من قرطبة. قالوا، والخبر متصل، إنه وجد جسده وكفنه وافرين لم يتغيرا بعد وفاته، بتسع وأربعين سنة، وقطعت من كفنه وافرين لم يتغيرا بعد وفاته، بتسع وأربعين سنة، وقطعت من كفنه قطعة، رفعت إلى الأمير عبد الله. ورثاه أبو عبد الله الرشاش وغيره، فقال:
لئن أخذت منا المنايا مهذبا ... وقد قل فيها من يقال المهذب
لقد طاب فيه الموت والموت غبطة ... لمن هو مغموم الفؤاد معذب
ولأحمد بن ساهي فيه:
مإذا تضمن قبر أنت ساكنه ... من التقى والندى يا خير مفقود
عجبت للأرض في أن غيبتك ... وقد ملأتها حكماً في البيض والسود
قلت، فلو لم يكن من المفاخر الغرناطية إلا هذا الخبر لكفى.
ومن الطارئين عليها
عبد الواحد بن محمد

بن علي بن أبي السداد الأموي المالقي، الشهير بالباهلي

حاله

كان رحمه الله بعيد المدى، منقطع القرين في الدين المتين والصلاح. وسكون النفس، ولين الجانب، والتواضع، وحسن الخلق، إلى وسامة الصورة، وملاحة الشيبة، وطيب القراءة، مولى النعمة على الطلبة من أهل بلده، أستإذا حافلا، متفننا، مضطلعا، إماما في القراءات، حايز خصل السباق إتقانا، وأداء، ومعرفة، ورواية، وتحقيقا. ماهرا في صناعة النحو، فقيها، أصولياً، حسن التعليم، مستمر القراءة، فسيح التحليق، نافعاً، متحبباً، مقوم الأزمنة على العلم وأهله، كثير الخضوع والخشوع، قريب الدمعة، أقرأ عمره، وخطب بالمسجد الأعظم من مالقة أو أخذ عنه الكثير من أهل الأندلس.
مشيختهقرأ على الأستاذ الإمام أبي جعفر بن الزبير، وكان من مفاخره. وعلى القاضي أبي علي بن أبي الأحوص، وعلى المقرئ الضرير أبي عبد الله محمد بن علي بن الحسن بن سالم بن خلف السهيلي، والراوية أبي الحجاج ابن أبي ريحانة المربلي. وكتب له بالإجازة العامة، الراوية أبو الوليد العطار، والإمام أبو عبد الله بن سمعون الطائي. وسمع على الراوية أبي عمر عبد الرحمن بن حوط الله الأنصاري، وقرأ على القاضي أبي القاسم، قاسم ابن أحمد بن حسن الحجري الشهير بالسكوت المالقي، وأخذ عن الشيخ الصالح أبي جعفر أحمد بن يوسف الهاشمي الطنجالي، وغيرهم ممن يطول ذكرهم. ويحمل عن خاله ولي الله أبي محمد عبد العظيم ابن ولي الله محمد بن أبي الحجاج ابن الشيخ رحمه الله.
تواليفه: شرح التيسير في القراءات. وله تواليف غيره في القرآن والفقه.
شعرهحدث الشيخ الفقيه القاضي أبو الحجاج المنتشافري. قال، رأيت في النوم أبا محمد الباهلي أيام قراءتي عليه بمالقة في المسجد الجامع بها، وهو قائم يذكر الناس ويعظهم. فعقلت من قوله، أتحسبونني غنياً فقيرا، أنا فقير، أنا، فاستيقظت وقصصتها عليه، فاستغفر الله، وقال، يا بني حقا ما رأيت. ثم رفع إلى ثاني يوم تعريفه، رقعة فيها مكتوب:
لئن ظن قوم من أهل الدنا ... بأن لهم قوة أو غنا
لقد غلطوا ويحهم بجمع مالهم ... فتاهوا عقولا وعموا أعينا
فلا تحسبوني إلى رأيهم ... فإني ضعيف فقير أنا
وليس افتقاري وفقري معا ... إلى الخلق فما عند خلق غنا
ولكن إلى خالقي وحده ... وفي ذاك عز ونيل المنا
فمن ذل للحق يرقى العلا ... ومن ذل للخلق يلق العنا
وفاتهببلده مالقة رضي الله عنه، ونفع به. في خامس ذي القعدة من عام خمسة وسبعماية. وكان الحفل في جنازته عظيما. وحف الناس بنعشه، وحمله الطلبة وأهل العلم على رؤوسهم، سكن غرناطة وأقرأ بها.
ومن الكتاب والشعراء في هذا الحرف
عبد الحق بن محمد

بن عطية بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب بن

عطية المحاربي
صاحبنا الكاتب للدولة الغادرة.
حالهكان هذا الرجل في حال الدعة التي استصحبها، وقبل أن تبعته أيدي الفضول، بعفاف وطهارة، إلى خصل خط، نشط البنان، جلد على العمل. ونظمه وسط، ونثره جمهورى عامى، مبين عن الأغراض. وولي ببلده الخطابة والقضاء ... في الحداثة. ثم انتقل إلى غرناطة، فجاجأت به الكتابة السلطانية باختياري، مستظهرة منه ببطل كفاية، وباذل حمل كلفة، فانتقل رئيسا في غرض إعانتي، وانتشالي من الكلفة، على الضعف وإلمام المرض، والترفع عن الابتذال، والأنفة من الاستخدام، فرفع الكل، ولطف من الدولة محله. ثم لما حال الأمر، وحتم التمحيص، وتسورت القلعة، وانتثر النظم، واستأثر به الاصطناع، كشفت الخبرة منه عن سوءة لا تواري، وعورة لا يرتاب في أشنوعتها ولا يتمارى، فسبحان من علم النفس فجورها وتقواها، إذ لصق بالدايل الفاسق، فكان آلة انتقامه، وجارحة صيده، وأحبولة كيده، فسفك الدما، وهتك الأستار، ومزق الأسباب، وبدل الأرض غير الأرض، وهو يزقه في أذنه، فيؤم النصيحة، ويمحله لقب الهداية، ويبلغ في شد أزره إلى الغاية: عنوان عقل الفتى اختياره. يجري في جميل دعوته. طوالاً، أخرق، بسيء السمع، وينسى الإجابة، بدوياً، قحاً، جهورياً، ذاهلاً عن عواقب الدنيا والآخرة: طرقاً في سوء العهد، وقلة الوفا، مردوداً في الحافزة، منسلخا من آية السعادة، تشهد عليه بالحمل يده، ويقيم عليه الحجج شرهه، وتبوه هفوات الندم جهالته. ثم أسلم المحروم مصطنعه، أحوج ما كان إليه، وتبرأ منه، ولحقته بعده مطالبة مالية. لقي لأجلها ضغطا، وهو الآن بحال خزي، واحتقاب تبعات، خلصنا الله من ورطات الدنيا والآخرة.
أوليته وشيوخهوبسط كثير من مجمل حاله حسبما نقلت من خطه.
قال يخاطبني بما نصه:
يا سيداً فاق في مجد وفي شرف ... وفات سبقاً بفضل الذات والسلف
وفاضلا عن سبيل الذم منحرفاً ... وعن سبيل المعالي غير منحرف
وتحفة الزمن الآتي فلقد ... أربى بما حازه منها على التحف
ومعدناً لنفيس الدر فهو لما ... حواه منه لدى التشبيه كالصدف
وبحر بعلم جميع الناس مغترف ... منه ونيل المعالي حظ مغترف
وسابقاً بذ أهل العصر قاطبة ... فالكل في ذاك منهم غير مختلف
من ذا يخالف في نار على علم ... أو يجحد الشمس نوراً وهو غير خف
ما أنت إلا وحيد العصر في شيم ... وفي ذكاء وفي علم وفي ظرف
لله من منتم للمجد منتسب ... بالفضل متسم بالعلم متصف
لله من حسب عد ومن كرم ... قد شاده السلف الأخيار لخلف
أيه أيا من به تبأى الوزارة إذ ... كنت الأحق بها في الذات والشرف
يا صاحب القلم الأعلى الذي جمعت ... فيه المعالي ببعض البعض لم أصف
يا من يقصر وصفي في علاه ولو ... أنسى مديح حبيب في أبي دلف
شرفتني عندما استدعيت من قبلي ... نظما تدونه في أبدع الصحف
وربما راق ثغر في مباسمه حتى ... إذا ناله إلمام مرتشف
أجل قدرك أن ترضى لمنتجع ... بسوء كليلته حظا مع الحشف
هذا ولو أنني فيما أتيت به ... نافحت في الطيب زهر الروضة الأنف
لكنت أفضى إلى التقصير من خجل ... أخليت بالبعض مما تستحق أف
فحسبي العجز عما قد أشرت به ... والعجز حتماً قصارى كل معترف
لكن أجبت إلى المطلوب ممتثلا ... وإن غدوت بمرقى القوم كالهدف
فانظر إليها بعين الصفح عن زلل ... واجعل تصفحها من جملة الكلف
بقيت للدهر تطويه وتنشره ... تسمو من العز باسم غير منصرف

جيتك، أعزك الله، ببضاعة مزجاة، وأعلقت رجاي من قبولك بأمنية مرتجاة، وما مثلك يعامل بسقط المتاع، ولا يرضى له بالحشف مع بخس المد والصاع. لكن فضلك يغضي عن التقصير ويسمح، ويتجاوز عن الخطإ ويصفح، وأنت في كل حال إلى الأدنى من الله أجنح. ولولا أن إشارتك واجبة الامتثال، والمسارعة إليها مقدمة على ساير الأعمال، لما أتيت بها تمشي على استحياء، ولا عرضت نفسي أن أقف موقف حشمة وحياء، فما مثلي فيما أعرضه عليك، أو أقدمه من هذا الهذر بين يديك، إلا مثل من أهدى الخرز لجالب الدر، أو عارض للوشل موج البحر، أو كاثر بالحصى عدد الأنجم الزهر. على أني لو نظمت الشعرى شعراً، وجبتك بالسحر الحلال نظماً ونثراً، ونافحتك بمثل تلك الروضة الأدبية، التي تعبق أزاهرها نثرا، لما وصفتك ببعض البعض من نفايس حلاك، ولا وفيت ما يجب من نشر مآثر علاك. فما عسى أن أقول في تلك المآثر العلمية، والذات الموسومة باسم التعريف والعلمية، أو أعبر عنه في وصف تلك المحاسن اأدبية، والمفاخر الحسبية. إن وصفت مالك من شرف الذات، ملت إلى الاختصار، وقلت آية من الآيات. وإن ذهبت إلى ذكر مفاخرك الباهرة الآيات، بلغت في مدى الفخر والحب إلى أبعد الغايات، وإن حليتك ببعض الحلا والصفات، سلبت محاسن الروض الأريج النفحات. فكم لك من التصانيف الرايقة، والبدائع الفائقة، والآداب البارعة، والمحاسن الجامعة، فما شيت من حدايق ذات بهجة، كأنما جادتها سحب نيسان، وجنات ثمراتها صنوان وغير صنوان، تزري ببدايع بديع الزمان، وتخجل الروض كما يخجل الورد ابتسام الأقحوان. نظم كما انتثر الدر، ونثر تتمنى الجوزاء، أن تتقلده والأنجم الزهر، ومعان أرق من نسيم الأسحار، تهب على صفحات الأزهار. فأهلاً بك يا روضة الآداب، ورب البلاغة، التي شمس آياتها لا تتوارى بالحجاب، فما أنت إلا حسنة الزمان، ومالك أزمة البيان، وسباق غايات الحسن والإحسان. وقد وجدت مكان القول ذا سعة في أوصافك، وما في تحليك بالفضائل واتصافك. لكني رأيت أني لو مددت في ذلك باع الإطناب، وأتيت فيه بالعجب العجاب، فليس لي إلا تقصير عن المطاولة وإمساك، والعجز عن درك الإدراك إدراك. إيه أيها السيد الأعلى، والفاضل الذي له في قداح الفخر، القدح المعلى، فإنك أمرت أن أعرض عليك لتعريف بنفسي ومولدي، وذكر أشياخي الذين بأنوارهم أقتدي، فعلمت أن هذا إنما هو تهمم منك بشأني، وجري على معتاد الفضل الذي يقصر عنه لساني، وفضل جميل لا أزال أجري في الثناء عليه ملء عناني. وإلا فمن أنا في الناس حتى أنسب، أو من يذهب إلا أنت هذا المذهب.
أما التعريف بنفسي، فأبدأ فيه باسم أبي. هو أبو القاسم محمد بن عطيه بن يحيى بن عبد الله بن طلحة بن أحمد بن عبد الرحمن بن غالب ابن عطية المحاربي. وجدي عطية هو الداخل إلى الأندلس عام الفتح، نزل بإلبيرة، وبها تفرع من تفرع من عقبه، إلى أن انتقلوا إلى غرناطة، فتأثل بها حالهم، واستمر بها استيطانهم، إلى حدود المائة السابعة، فتسبب في الانتقال من بقي منهم، وهو جدي الأقرب الأنساب، وقضى ارتحاله إلى مدينة وادي آش، ولك أجل كتاب. وذلك أنه استقضى بنظر ما في دولة أمير المسلمين الغالب بالله، أول ملوك هذه الدولة النصرية، نصر الله خلفها، ورحم سلفها، فاتخذ فيها صهراً ونسبا، وكان ذلك لاستيطانه بها سببا، واستمر مقامه بها إلى أن ارتحل إلى المشرق لأداء الفريضة، فكان إلى أشرف الحالات مرتحله، وقضى في إيابه من الحج أمله. واستمرت به الاستيطان. وتعذرت بعوده إلى غرناطة بعدما نبت فيها الأوطان. على أنه لم يعدم من الله الستر الجميل، ولا حظ من عنايته بإيصال النعمة كفيل، فإنه سبحانه حفظ من سلف فيمن خلف، وجعلهم في حال الاغتراب، فيمن اشتهر بنباهة الحال واتصف، وقبض لمصاهرتهم من خيار المجد والشرف، وبذلك حفظ الله بيتهم، وشمل باتصال النعمة حيهم وميتهم. فالحمد لله، بجميع محامده، على جميل عوايده. وتخلف بوادي آش أبي وأعمامي، تغمدهم الله وإياي برحمته، وجمع شملنا في جنته.

وأما التعريف بهم، فأنت أبقاك الله، بمن سلف قديما منهم أعلم، وسبيلك في معرفتهم أجدى وأقوم، بما وهبكم الله من عوارف المعارف، وجعل لكم من الإحاطة بالتالد منها والطارف. وأما من يقع به تعريف، ممن بعدهم، فمن اقتفى رسمهم في الطريقة العلمية، ولم يتجاوز جدهم وهو جدي أبو بكر عبد الله بن طلحة ورابع أجدادي. كان رحمه الله ممن جرى على سنن آبايه، وقام بالعلم أحسن قيام، ونهض بأعبايه. ألف كتابا في الرقايق، ففات في شأوه سبق السابق، وتصدر ببلده للفتيا، وانتفع به الناس، وكان شيخهم المقدم. ولم أقف على تاريخ مولده ولا وفاته، غير أنه توفي في حدود المائة الخامسة رحمه الله، وأما من بيني وبينه من الآباء، كجدي الأقرب وأبيه ومن خلفه من بنيه. فما منهم من بلغ رتبة السابق، ولا قصر أيضا عن درجة اللاحق، وإنما أخذ في الطلب بنصيب، ورمى فيه بسهم مصيب.
وأما مولدي فبوادي آش في أواخر عام تسعة وسبع ماية. وفي عام ثلاثة وعشرين، ابتدأت القراءة على الأستاذ أبي عبد الله الطرسوني وغيره ممن يأتي ذكره. ثم كتبت بعد ستة أعوام على من وليها من القضاة أولى العدالة والسير المرتضاة، ولم يطل العهد حتى تقدمت في جامعها الأعظم خطيبا وإماما، وارتسمت في هذه الخطة التي ما زالت على من أحسن تماما، وذلك في أواخر عام ثمانية وثلاثين. ثم وليت القضاء بها، وبما يرجع إليها من النظر، في شهر ربيع الأول من عام ثلاثة وأربعين، واستمرت الولاية إلى حين انتقالي للحضرة، آخر رجب من عام ستة وخمسين، أسأل الله الإقالة والصفح عما اقترفت من خطإ أو زلل، أو ارتكبته من عمد وسهو، في قول أو عمل بمنه.
وأما أشياخي، فإني قرأت بالحضرة على الأستاذ الخطيب أبي الحسن القيجاطي. والأستاذ الخطيب أبي القاسم بن جزى. وبمالقة على الأستاذ القاضي أبي عمرو بن منظور. وبألمرية على الأستاذ القاضي أبي الحسن بن أبي العيش، وسيدي القاضي أبي البركات بن الحاج، والأستاذ أبي عثمن بن ليون، وبوادي آش على الأستاذ القاضي أبي عبد الله بن غالب، والأستاذ أبي عامر بن عبد العظيم. كل هؤلاء قرأت قراءة تفقه، وعرضت على أكثرهم جملة كتب في النحو والفقه والأدب، أكبرها كتاب المقامات للحريري. وأما من لقيته من المشايخ واستفدت، منهم أبو الحسن بن الجياب بالحضرة، وبمالقة القاضي أبو عبد الله بن بكر، والقاضي أبو عبد الله بن عياش، والأستاذ أبو عبد الله بن حفيد الأمين. ومن لقيته لقاء بترك، سيدي أبو جعفر بن الزيات ببلش، وبمالقة الخطيب أبو عبد الله الساحلي، والصوفي أبو الطاهر بن صفوان، والمقري أبو القاسم بن درهم. وبألمرية الخطيب أبو القاسم بن شعيب، والخطيب ابن فرحون. ولقيت أيضا القاضي أبا جعفر بن فركون القرشي، والقاضي الخطيب أبا محمد بن الصايغ. وممن رأيته بوادي آش، وأنا إذ ذاك في المكتب، وأخذت بحظ من التبرك به، سيدي أبو عبد الله الطنجالي نفع الله به. والحمد لله رب العالمين.
شعرهمن مطولاته قوله. ومن خطه نقلت:
ألا أيها الليل البطي الكواكب ... متى ينجلي صبح بنيل المسارب
وحتى متى أرعى النجوم مراقبا ... فمن طالع منها على إثر غارب
وحتى متى أرعى النجوم مراقبا ... فمن طالع منها على إثر غارب
أحدث نفسي أن أرى الركب سايرا ... وذنبي يقصيني بأقصى المغارب
فلا فزت من نيل الأماني بطايل ... ولا قمت من حق الحبيب بواجب
وكم حدثتني النفس أن أبلغ المنا ... وكم عللتني بالأماني الكواذب
وما قصرت بي عن زيارة قبره ... معاهد أنس من وصال الكواعب
ولا حب أوطان نبت بي ربوعها ... ولا ذكر خل فيها وصاحب
ولكن ذنوب أثقلتني فهأنا من الوجد قد ضاقت على مذاهب
إليك رسول الله شوقي مجدد ... فيا ليتني يممت صدر الركايب
وأعملت في تلك الأباطح والربى ... سراى مجداً بين تلك السباسب
وقضيت من لثم البقيع لبانتي ... وجبت الفلى ما بين ماش وراكب
ورويت من ماء زمزم غلتي ... فلله ما أشهاه يوماً لشارب

حبيبي شفيعي منتهى غايتي التي ... أرجى ومن يرجوهن ليس بخايب
محمد المختار والحاشر الذي ... بأحمد حاز الحمد من كل جانب
رؤوف رحيم خصه الله باسمه ... وأعظم لاج في الثناء وعاقب
رسول كريم رفع اله قدره ... وأعلى له قدرا رفيع الجوانب
وشرفه أصلاً وفرعاً ومحتداً ... يزاحم آفاق السهى بالمناكب
سراج الهدى ذو الجاه والمجد والعلا ... وخير الورى الهادي الكريم المناسب
هو المصطفى المختار من آل هاشم ... وذو الحسب العدل الرفيع المناصب
هو الأمد الأقصى هو الملجأ الذي ... ينال به مرغوبه كل راغب
إمام النبيين الكرام وإنه لكالبدر فيهم بين تلك المواكب
بشير نذير مفضل متطول ... سراج منير بذ نور الكواكب
عظيم المزايا ما له من مماثل ... كريم السجايا ماله من مناسب
ملاد منيع ملجأ عاصم لمن ... يلوذ به من بين آت وذاهب
حليم جميل الخلق والخلق ما له ... نظير وصف الله حجة غالب
ناهيك من فرع لمته أصوله ... إلى خير مجد من لؤى بن غالب
أولى الحسب العد الرفيع جنابه ... بدور الدياجي أو بدور الركايب
له معجزات مالها من معارض ... وآيات صدق ما لها من مغالب
تهدي بهن الخلق شرقا ومغربا ... وما ذاك عمن حاد عنها بعايب
فدونكها كلأنجم الزهر عدة ... ونور سنى لا تختفي للمراقب
فإحصارها مهما تتبعت معوز ... وهل بعد نور الشمس نور لطالب
لقد شرف الله الوجود بمرسل ... له في مقام الرسل أعلى المراتب
وشرف شهراً فيه مولده الذي ... جلا نوره الأسنى دياجي الغياهب
فشهر ربيع في الشهور مقدم ... فلا غرو أن للفخر ضربة لازب
فلله منه ليلة قد تلألأت ... بنور شهاب نير الأفق ثاقب
ليهن أمير المسلمين بها المنا ... وإن نال من مولاه أسنى الرغايب
على حين أحياها بذكر حبيبه ... وذكر الكرام الطاهرين الأطايب
وألف شملاً للمحبين فيهم ... فسار على نهج من الرشد لاحب
فسوف يجازي عن كريم صنيعه ... بتخليد سلطان وحسن عواقب
وسوف يريه الله في لهم دينه ... غرايب صنع فوق كل الغرايب
فيحمي حمى الإسلام عمن يرومه ... بسمر العوالي أو بيض القواضب
ويعتز دين اله شرقا ومغربا ... بما سوف يبقى ذكره في العجايب
إلا هي مالي بعد رحماك مطلب ... أراه بعين الرشد أسنى المطالب
سوى زورة القبر الشريف وإنها ... لموهبة فاتت جميع المواهب
عليه سلام الله مالح كوكب ... وما فارق الإظعان حادي الركايب
وقال في غرض المدح والتهنئة بعرض الجيش، وتضمن ذلك وصف حاله في انتقاله إلى الحضرة:
يا قاطع البيد يطوى السهل والجبلا ... ومنضيا في الفيافي الخيل والإبلا
يبكي في آفاق أرض لا يونسه ... إلا تذكر عهد للحبيب خلا
أو ظبية أذكرت عهد التواصل تحكي ... اللحاظ التي عاهدت والمقلا
أستغفر الله في تلك اللحاظ فقد ... أربى بها الحسن عن ضرب المها مثلا
أو هادل فوق غصن البان تحسبه ... صبا لفقد حبيب بان قد ثكلا
أو لامع البرق إذ تحكى إنارته ... كفا خضيباً مشيرا بالذي عذلا
مإذا عسى أن يقضي من زمانك في ... قطع المهامه ترجو أن تنال علا
وكم معالم أرض أو مجاهلها ... قطعتها لا تمل الريث والعجلا
إن كنت تأمل عزاً لا نظير له ... وتبتغي السؤل فيما شيت والأملا

فالعز مرسي بعيد لا ينال سوى ... بعزم من شد عزم البين وارتحلا
والدر في صدف قلت نفاسته ... ولم يبن فخره إلا إذا انتقلا
فاربأ بنفسك عن أهل وعن وطن ... ... ... ... ... ... ... ... ...
وانس الديار التي منها نأى وطني ... وعهد أنس به قلب المحب سلا
وعد عن ذكر محبوب شغفت به ... ولا تلم به مدحا ولا غزلا
واقصد إلى الحضرة العليا وحط بها ... رحلاً ولا تبغ عن أرجائها حولا
غرناطة لا عفا رسم بها أبداً ... ولا سلا قلب من يبغي بها بدلا
فهي التي شرف الله الأنام بمن ... في مقعد الملك من حمرائها نزلا
خليفة الله مولانا وموئلنا ... وخير من أمن الأرجاء والسبلا
محمد بن أبي الحجاج أفضل من ... قد قام فينا بحق الله إذ عدلا
من آل نصر أولى السلك الذي ... بهرت علاه كالشمس لما حلت الحملا
هو الذي شرف الله البلاد ومن ... فيها بدولته إذ فاقت الدولا
أقام عدلا ورفقا في رعيته ... وكان أرحم من آوى ومن كفلا
فهو المجار به من لا مجير له ... لم يخش إحن الليالي فادحا جللا
إن المدائح طرا لا تفي أبدا ببعض ... ما قد تحلا من نفيس علا
بالحزم والفهم والإقدام شيمته ... والجود مما على أوصافه اشتملا
إن قال أجمل في قول وأبدعه ... والفعل أجمل منه كلما فعلا
يولي الجميل ويعطي عز نايله ... من قد رجاه ولا استجدى ولا سألا
من سائلي ع بني نصر فما أحد ... منهم بأبلغ منهم كلما فعلا
يولي الجميل ويعطي عز نايله ... من قد رجاه ولا استجدى ولا سألا
من سائلي عن بني نصر فما أحد ... منهم بأبلغ منهم كلما سئلا
هم الذين إذا ما استمنحوا منحوا ... أسنى العطا وأبدوا بعده الخجلا
هم الإلى مهدوا أرجاء أندلس ... إذ حكموا في الأعادي البيض والأملا
فإن تسل عنهم يوم الرهان فلم ... يعدل بأحدثهم في سنه بطلا
من ذا يجاريهم في كل مكرمة ... أيشبه البحر في تمثيله الوشلا
مولاي يا خير من للنصر قد رفعت ... راياته ولواء الفخر قد حملا
لله عيني لما أبصرتك وقد أعددت بين يديك الخيل والخولا
وأنت في قبة يسمو بها عمد ... أقام منا دامر الدين فاعتدلا
والجيش يعش عيون الخلق منظره ... لما اكتسى منك نور الحق مكتملا
لا غرو أن شعاع الشمس يشمل ما ... أضحى عليه إذا ما لاح منسدلا
وراية النصر والتأييد خافقة ... قد أسبل الله منها النصر فانسدلا
والخيل قد كسيت أثواب زينتها ... فمن براقعها قد ألبست حللا
ترى الحماة عليها يوم عرضهم ... يمشون من فرط زهو مشية الخيلا
فمن رماة قسي العرب عدتها ... تحكي الأهلة مهما نورها اكتملا
ومن كماة شداد البأس شأنهم ... أن يعملوا البيض والخطية الذبلا
بسعدك انتظمت تلك الجيوش لأن ... أسهمت في نظمها أسلافك الأولا
وخلد الله ملكا أنت ناصره ... ما عاقبت بكر من دهرنا الأصلا
لا زلت تزداد بها نعمى مضاعفة ... لتملأ الأرض منها السهل والجبلا
ومن ذلك قوله:
يا عاذلي في الهوى أقصر عن العذل ... وعن حديثي مع المحبوب لا تسل
فكيف أصغي إلى عذل العذول وقد ... تقلص القلب مني صايد المقل
تملكته كما شاءت بنظرتها ... فتانة الطرف والألحاظ تنهدل

معبرة عن نفيس الدر فاضحة ... بقدها الغض المياس في الميل
من نور غرتها شمس تروق سنى ... تحتل منها محل الشمس في الحمل
يا حبذا عهدنا والشمل منتظم ... بجانب الغور في أيامنا الأول
أيام أعين هذا الدهر نائمة ... عنا وأحداثه منا على وجل
وحبذا أربع قد طال ما نظمت ... عقد التواصل في عيش بها خضل
قضيت منها أماني النفس في دعة ... من الزمان موفى الأنس والجذل
سطى الغمام رباها كل منهمر ... وكم سطتها دموعي كل منهمل
وجادها من سماء الجود صوب حياً ... بالعارض الهطل ابن العارض الهطل
خليفة الله والماحي بسيرته ... رسم الضلا ومحيي واضح السبل
محمد بن أبي الحجاج أفضل من ... سارت أحاديث علياه سرى المثل
والباعث الجيش في سهل وفي جبل ... حتى تغص نواحي السهل والجبل
من آل نصر أولى الفخر الذين لهم ... مزية أورثت من خاتم الرسل
مهما أردت غناء في الأمور به ... شاهدت منه جميع الخلق في رجل
لن يستظل بعلياه أخو أمل ... إلا غدا تحت ظل منه منسدل
ولا استجار به من لا مجير له ... إلا كفاه انتياب الحادث الجلل
ينمى إلى معشر شاد الآله لهم ... ملكاً على سالف الأعصار لم يزل
بملكهم قد تحلى الدهر فهو به ... والله واليه لا يخشى من العطل
هم الإلى نصروا أرجاء أندلس ... بالمشرفيات والخطية الذبل
هم الإلى مهدوا دين الهدى فسمت ... في الخلق ملته العليا على الملل
من أمهم صادى الآمال نال بهم ... جودا كفيلا له بالمعل والنهل
أو أمهم ضاحياً أضحى يجر من ... فضل النوال ذيول الوشي والحلل
إن الفضايل أضحت لاسمه تبعاً ... كالنعت والتأكيد والبدل
مولاي خذها تروق السامعين لها ... بما أجادته من مدح ومن غزل
لكنني باعتبار عظم ملكك لم أجد ... لعمري في مدحي ولم أطل
فإن خبرت كذاك الخلق أجمعهم ... سيان محتفل أو غير محتفل
لا زلت فخر ملوك الأرض كلهم ... تسمو بك الدولة العليا على الدول
ودمت للدهر تطويه وتنثره ... مبلغا كلما تبغى من الأمل
ومن ذلك ما نظمه لينقش في بعض المباني التي أنشأتها:
أنا مصنع قد فاق كل المصانع ... فما منزل زهى بمثل بدائع
فرسمي إذا حققته واعترته ... لكل المعاني جامع أي جامع
فقد جمع اله المحاسن كلها ... لدي فيا لله إبداع صانع
ظل كما جمعت كل الفضائل في الذي ... بسكناي قد وافاه أيمن طالع
وزير أمير المسلمين وحسبه ... مزية فخر ما لها من مدافع
وذو القلم الأعلى الذي فعله ... لمن يؤمله مثل السيوف القواطع
ومطلع آيات البيان لمبصر ... كشمس الضحى حلت بأسنى المطالع
وإنسان عين الدهر قرت لنابه ... عين وطابت منه ذكرى المسامع
هو ابن الخطيب السيد المنتمى ... إلى كرام سموا ما بين كهل ويافع
لقد كنت لولا عطفة من حنانه ... أعد زمانا في الرسوم البلاقع
فصيرني مغني كريما ومربعا ... لشمل بأنس من حبيبي جامع
فها أنا روض يروق نسيمه ... كما رق طبعاً ما له من منازع
وقد جمعتنا نسبة الطبع عندما ... وقعت لمرآه بأسنى المواقع
فأشبه إزهاري بطيب ثنايه ... وفضل هواي باعتدال الطبايع

فلا زلت معموراً به في مسرة ... معداً لأفراح وسعد مطالع
ولا زال من قد حلني أو يحلني ... موفي الأماني من جميل الصنايع
ودام لمولانا المؤيد سعده ... فمن نوره لنا كل ساطع
وفي التهنئة يإبلال من مرض:
الآن قد قامت الدنيا على قدم ... لما استقل رئيس السيف والقلم
والآن قد عادت الدنيا لبهجتها ... مذ أنست برؤه من طارق الألم
والآن قد عمت البشرى براحته ... فلم تزل للورى من أعظم النعم
لا سيما عند مثلي ممن اتضحت ... منه دلايل صدق غير متهم
فكيف لي وأيادي فضله ملكت ... رقي بما أجزلت من وافر القسم
وصيرتني في أهلي وفي وطني ... وبين أهل النهى ناراً على علم
وأحسبت أملي الأقصى لغايته ... إذ صرت من جاهه المأمول في حرم
ومإذا عسى أن أوفي من ثناي أو ... أنهى إلى مجده من فاضل الشيم
ولو ملكت زمام الفضل طوع يدي ... قصرت في ضمن منثور ومنتظم
يهنيك بشرى قد استبشرت مذ وردت بها لعمرك وهو البر في الضيم
ومذ دعت هذ البشرى بتهنية ... فنحن أولى ومحض العهد والكرم
لا زلت للعزة القعساء لممتطيا ... لمستصحبا لعلاء عبر المنصرم
دمت بدر سنى تهدى إنارته ... في حيث يعضل خطب أو يحار عم
ولا عدمت بفضل الله عافية ... تستصحب النعم المنهلة الديم
وليس لهذا العهد للرجل انتحال لغير الشعر والكتابة. وغير هذا للشعر فراره. فقل أن ينتهي الشعر والكتابة. وغير هذا النمط، فهو بعير ثان، شعراً وشكلاً وبلداً، لطف الله به. وهو لهذا العهد، على ما تقدم من النكبة، واتصال السخط من الدولة، تغمدنا الله وإياه بلطفه، ولا نكص عنا ل عنايته وستره.
مولده: حسبما تقدم من بسط حاله مما قيده بخطه في عام تسعة وسبعماية.
عبد الرزاق بن يوسف

بن عبد الرزاق الأشعري

من أهل قرية الأنجرون من إقليم غرناطة، أبو محمد.
حالهفقيه أديب كاتب سري، موصوف بكرم نفس، وحسن خلق لقي أشياخا وأخذ عنهم
شعرهيا منعماً ما زال من أمه ... يرفل في السابغ من أميته
ويا حساماً جردته العلا ... فربع صرف الدهر من سكوته
عبدك قد ساءت هنا حاله ... شوقا لمن خلف من إخوته
شوقها يبث الجمر في قلبه ... ويخلع للعهد على مقلته
فسكن المؤلم من شوقه ... وانسى المقلق من وحشته
وامنن عليه ببلوغ المنا ... في علمكم من مقتضى بغيته
وها كها نفشة ذي خجلة ... تفهم ما يلقيه من نفثته
إذا شدا مداحكم ساجعاً ... يحسده الطيار في نغمته
وفاته: سنة إحدى وسبعين وخمسماية عن سن عالية.
عبد الملك بن سعيد ين خلف العنسيمن أهل قلعة يحصب من عمل إلبيرة.
حاله ونسبه

هو عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد ابن الحسن بن عثمن بن محمد بن عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان عينا من أعيان الأندلس، مشاراً إليه في البيت والرأي، والجزالة والفضل، علقت به الآمال، ورفعت إليه الممادح، وحطت لديه الرحال، وكان من أولى الجلالة والنباهة، والطلب والكتابة الحسنة، والخط البارع. واشتمل على حظوة الأمير يحيى بن غانية اللمتوني، وكتب عنه. بلده قلعة بني سعيد، فثقفها، وجعل بها أكبر بنيه عبد الرحمن ضابطا لها وحارسا، فحصنها أبو مروان ومهدها بالعمارة، فكانت في الفتنة مثابة وأمنا. وحرزا له ولبنيه، فانجلت الناس إليها من كل مكان. ولما قبض ابن غانية على القمط مرين وأصحابه النصارى عندما وصلوا لاستنجاز الوعد في الخروج عن جيان، وتحصلوا بيده بإشارة عبد الملك ابن سعدي، حسبما ثبت في اسم الأمير يحيى، ثقفهم بالقلعة بيد ثقته المذكور وأمينه أبي مروان، فتحصلوا في معقل حريز، عند أمير وافر العقل، سديد الرأي. ومات ابن غانية بغرناطة لأيام قلائل، واختلف قومه، فنظر أبو مروان لنفسه، وعاهد القمط مرين ومن معه من الزعماء على عهود، أخذها عليهم وعلى سلطانهم، أن يكون تحت أمن وحفظ طول مدته، فأجريت القلعة في الأمن والحماية، وكف أيدي التعدي مجرى ما لملك النصرى من البلاد، فشمل أهلها الأمن، واتسعت فيها العمارة، وتنكبتها النكبات، تحاشتها الغارات. ولم يزل أبو مروان بها إلى أن دخل في أمر الموحدين. ووصل هو وابنه إلى السيد أبي سعيد بغرناطة، وحضر معه غزوة ألمرية، ثم دخل بجملته، فكمل له الأمن، وأقر على القلعة، وأمر بسكني غرناجة بولده. ثم وصل ثانية إلى مراكش صحبة السيد أبي سعيد، ولقي من إلبير ولطف المكانة عادته، واستكتب ابنه أحمد بن أبي مروان الخليفة في هذه الوجهة، وانتظم في جملة الكتاب والأصحاب.
محنتهوعاد أبو مروان وبنوه إلى غرناطة صحبة واليها السيد أبي سعيد، فبقى في جملة العسكر عند دخول ابن مردنيش وصهره غرناطة، وقد اضطربت الفتنة، وفسد ما بين السيد وبين أبي جعفر بن أبي مروان منهم، بما تقدم في اسمه من حديث حفصة. ولما ظهرت دلايل التغير، وخافوا على أنفسهم، أداروا الرأي في الانحياز إلى خدمة ابن مردنيش، ونهاهم والدهم أبو مروان، وأشار عليهم بمصابرة الأمر، فلحق عبد الرحمن بالقلعة، وفر أحمد لما انكشف الأمر، وعثر عليه بجهة مالقة، فقتل، وانجرت بسبب ذلك النكبة على عبد الملك وابنه محمد، فبقيا بغرناطة، ومن يشار إليه من أهل بيتهما، واستصفيت أموالهما، واستخلصت ضياعهما، إلى أن ورد كتاب الخليفة أبي يوسف يعقوب بن عبد المؤمن بن علي بإطلاقهم ورد أموالهم، بما اقتضته السياسة من استمالة من نزع منهم عن الطاعة، وأمر عبد الملك باستيلاف نافرهم. ولما هلك ابن مردنيش، ورد من اتصل به صحبة المستأمنين من أولاد الأمير الهالك، فقدموا على رحب وسعة، وثاب جاه أبي مروان، واتصل عزه، واتسعت حظوته، إلى أن هلك بعد أن ولي بمراكش النظر في العدة والأسلحة، والقيام على دار الصنعة.
وفاته: بغرناطة سنة ستين وخمسماية.
عبد العزيز بن عليبن أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد العزيز بن يست من أهل غرناطة، يكنى أبا سلطان.
حالهفاضل، حيي، حسن الصورة، بادي الحشمة، فاضل البيت، سريه. كتب في ديوان الأعمال، وترقى إلى الكتب مع الجملة بالدار السلطانية، وسفر في بعض الأغراض الغربية، ولازم الشيخ أبا بكر بن عتيق بن مقدم، من شيوخ الصوفية بالحضرة، فظهرت عليه آثار ذلك في نظمه ومقاصده الأدبية.
شعرهوشعره لا بأس به، ومن أمثله قوله ما أنشد له في ليلة الميلاد الأعظم:
القلب يعشق والمدامع تنطق ... برح الخفاء فكل عضو منطق
قلت، قد ذكرها ابن الخطيب في جملة ما أنشد في الميلاد الأعظم في السفر الخامس، فلا فائدة في تكرارها هنا.
ومما خاطبني به:
أطلت عبت زمان فل من أمل ... وسمته الذم في حل ومرتحل
عاتبته ليلين للعتب جانبه ... فما تراجع عن مطل ولا بخل
فعدت أمنحه العتبى ليشفق بي ... فقال لي إن سمعي عنك في شغل

فالعتب عندي والعتبى فلست أرى ... أصغى لمدحك إذ لم أصغ للعذل
فقلت للنفس كفى عن معاتبة لا ... تنقضي وجواب صيغ من وجل
من يعتلق بالدنا بابن الخطيب فقد ... سما عن الذل واستوى على الجدل
فقلت من لي بتقريبي لخدمته ... فقد أجاب قريبا من جوابك ل
قد اشتغلت عن الدنيا بآخرتي ... وكان ما كان في أيامي الأول
وقد رعيت وما أهملت من منح ... فكيف يختلط المرعى بالهمل
ولست أرجع للدنيا وزخرفها ... بعد شيب غدا في الرأس مشتعل
ألست تبصر أطماري وبعدي عن ... نيل الحظوظ وإعداد إلى أجل
فقال ذلك قول صح مجمله ... لكن من شأنه التفصيل للجمل
ما أنت طالب أمر تستعين به ... على المظالم في حال ومقتبل
ولا تحل حراماً أو تحرم ما ... أحل ربك في قول ولا عمل
ولا تبغ آجل الدنيا بعاجلها ... كما الولاة تبيع السيم بالوشل
وأين عنك الرشا إن كنت تطلبها ... هذا لعمري أمر غير منفعل
هل أنت تطلب إلا أن تعود إلى ... كتب المقام الرفيع القدر في الدول
فما لأوحد أهل الكون قاطبة ... وأسمح الخلق من حاف ومنتعل
لم يلتفت نحو ما تبغيه من وطر ... ولم يشد الذي قد بان من خلل
إن لم تقع نظرة منه عليك فما ... يصبو لديك للذي أملت من أمل
فدونك السيد الأعلى فمطلبكم ... قد نيط منه بفضل غير منفضل
فقد خبرت بني الدنيا بأجمعهم ... من عالم وحكيم عارف دول
فما رأيت له في الناس من شبه ... قل النظير له عندي فلا تسل
فقد قصدتك يا أسمى الورى نسباً ... وليس لي عن علياك من حول
فما سواك لما أملت من أمل ... وليس لي عنك من زيغ ولا ميل
فانظر لحالي فقد رق الحسود لها ... واحسم زمانة ما قد ساء من علل
قدمك لنا ولدين الله ترفعه ... ما أعقبت بكر الإصباح بالأصل
لا زلت معتليا عن كل حادثة ... كما علت ملة الإسلام في الملل
عبد البر بن فرسان

بن إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن الغساني

وادي آشي الأصل. يكنى أبا محمد.
حالهكان من جلة الأدباء، وفحول الشعراء، وبرعة الكتاب، كتب عن الأمير أبي زكريا يحيى بن إسحق بن محمد بن علي المسوفي الميورقي. الثائر على المنصور بني عبد المؤمن، ثم على من بعده من ذريته إلى أيام الرشيد منهم، وانقطع إليه وصحبه في حركاته. وكان آية في بعد الهمة، والذهاب بنفسه، والعنا، ومواقف الحرب، فإنه دهم في المثل. أشبه امرءاً يعض بزه، فقد كان أليق الناس بصحبة الميورقي، وأنسبهم إلى خدمته.
مشيخته: روى عن أبي زيد بن السهيلي.
بعض أخبارهفي البأو والصرامة. حدثنا أبو الحسن بن الجياب عمن حدثه من أشياخه، قال، وجهه الميورقي في عشية يوم من أيام حروبه إلى المأزق. وقد طال العراك، وكاد يكل الناس عن الحرب. إلى أن يباكروها من الغد، فنفذ لما أمر به. ولما بلغ الصدر، اشتد على الناس، وذعر أرباب الحفيظة، وأنهى إليهم العزم من أميرهم في الحملة. فانهزم عدوهم شر هزيمة، ولم يعد أبو محمد إلا في آخر الليل بالأسلاب والغنيمة. وقال له ما حملك على ما صنعت. فقال له، الذي عملت هو شأني. وإذا أردت من يصرف الناس عن الحرب ويذهب ريحهم. فانظر غيري.

وحدثني كذلك أن ولدا له صغيرا، تشاجر مع ترب له من أولاد أميره أبي زكريا، فنال منه ولد الأمير. وقال وما قدر أبيك. ولما بلغ ذلك أباه. خرج مغضبا لحينه، ولقي ولد الأمير المخاطب لولده، فقال حفظك الله، لست أشك في أني خديم أبيك. ولكني أحب أن أعرفك بمقداري ومقداره، إعلم أن أباك وجهني رسولا إلى الخليفة ببغداد بكتاب عن نفسه. فلما بلغت بغداد نزلت في دار اكتريت لي بسبعة دراهم في الشهر، وأجرى على سبعة دراهم في اليوم. وطولع بكتابي، وقيل من الميورقي الذي وجهه. فقال بعض الحاضرين، هو رجل مغربي ثائر على أستاذه. وأقمت شهرا، ثم استدعيت إلى الانصراف، ولما دخلت دار الخلافة، وتكلمت مع من بها من الفضلاء، أرباب المعارف والآداب، اعتذروا لي. وقالوا اللخليفة، هذا رجل جهل مقداره، فأعدت إلى محل، اكتريت بسبعين درهما، وأجري على مثلها في اليوم، ثم استدعيت، فودعت الخليفة، واقتضيت ما تيسر من جوابه. وصدر لي شيء له خطر من صلته. وانصرفت إلى أبيك. والمعاملة الأولى كانت على قدر أبيك عند من يعرف الأقدار، والثانية كانت على قدري والمنة لله. وأخبار ابن فرسان كثيرة.
شعرهوقد نعم الأمير بعمامة بيضاء، ولبس غفارة حمراء على جبة خضراء، فقال:
فديتك بالنفس التي قد ملكتها ... بما أنت موليها من الكرم الغض
توددت للحسن الحقيقي بهجة ... فصار بها الكلى في ذاك البعض
ولما تلألأ نور غرتك التي ... تقسم في طول البلاد وفي العرض
تلقفتها خضراء أحسن ناظر ... نبت عنك إجلالا وذاك من الفرض
وأسدلت حمر الملابس فوقها ... بمفرق تاج المجد والشرف المحض
وأصبحت بدرا طالعا في غمامة ... على شفق دان إلى خضرة الأرض
ومن شعره، ولا خفاء ببراعته:
ندى مخضلا ذاك الجناح المنمنما ... وسقياً وإن لم تشك يأسا جعاضما
أعدهن ألحانا على سمع معرب ... يطارح مرتاحا على القضب معجما
وطر غير مقصوص الجناح مرفها ... مسوغ أشتات الحبوب منعما
وقال أيضاُ رحمه الله:
كفى حزنا أن الرماح صقيلة ... وأن الشبا رهن الصدا بدمايه
وأن بياذيق الجوانب فرزنت ... ولم يعد رخ الدست بيت بنايه
عبد العظيم بن عمر

بن عبد الله بن حسان الغساني

جلياني من أهل وادي آش، وترد إلى غرناطة، يكنى أبا محمد، وأبا الفضل.
حالهتجول ببلاد المشرق سائحا، وحج ونزل القاهرة، وكان أديبا، بارعا حكيما، ناظما ناثرا.
تواليفهوله مصنفات منها جامع أنماط السايل في العروض والخطب والرسايل، أكثر كلامه فيه نظما ونثرا.
مشيخته ومن روى عنه. روى عنه أبو الحسن علي بن عبد الله ابن عبد الرحيم الخطيب بضريح الخليل، وأبو عبد الله بن يحيى المرسي.
شعرهقال من شعره:
ألا إنما الدنيا بحار تلاطمت ... فما أكثر الغرقى على الجنبات
وأكثر من لاقيت يغرق إلفه ... وقل فتى ينجو من الغمرات
وفاته: سنة ثلاث وستماية.
/ومن الغرباء
عبد المهيمن بن محمد الحضرميبن عبد المهيمن بن محمد بن علي بن محمد بن عبد الله بن محمد الحضرمي يكنى أبا محمد، شيخنا الرئيس صاحب القلم الأعلى بالمغرب.
حالهمن عائد الصلة: كان رحمه الله خاتمة الصدورن ذاتاً وسلفاً وتربية وجلالة. له القدح المعلى في علم العربية، والمشاركة الحسنة في الأصلين، والإمامة في الحديث، والتبريز في الأدب والتاريخ واللغة، والعروض والمماسة في غير ذلك. نشأ فارس الحلبة، وعروس الوليمة، وصدر المجلس، ووفور الجاه والإغراق في النعمة، كثير الاجتهاد والملازمة، والتفنن والمطالعة، مقصور الأوقات على الإفادة والاستفادة، إلى أن دعته الدولة المرينية بالمغرب، إلى كتابة الإنشاء، فاشتملت عليه اشتمالاً، لم يفضل عنه من أوقاته، ما يلتمس فيه ما لديه، واستمرت حاله، موصوفاً بالنزاهة والصدق، رفيع الرتبة، مشيد الحظوة، مشاركاً للضيف فاضلاً، مختصر الطعمة والحلية، يغلب عليه ضجر يكاد يخل به، متصل الاجتهاد والتقييد، لا يفتر له قلم، إلى أن مضى بسبيله.

وجرى ذكره في الإكليل الزاهر من تأليفنا بما نصه: تاج المفرق وفخر المغرب على المشرق، أطلع منه نور أضاءت له الآفاق، وأثرى منه بذخيرة حملت أحاديثها الرفاق. ما شيت من مجد سامي المصاعد والمراقب، عزيز عن لحاق المجد الثاقب، وسلف زينت سماؤث بنجوم المناقب. نشأ بسبتة بين علم يفيده، وفخر يشيده، وطهارة يلتحف مطارفها، ورياسة يتفيأ وارفها، وأبوه رحمه الله قطب مدارها، ومقام حجها واعتمارها، فسلك الوعوث من المعارف والسهول، وبذل على حداثة سنه الكهول، فلما تحلى من الفوايد العلمية بما تحلى، واشتهر اشتهار الصباح إذا تجلى، تنافست فيه همم الملوك الأخاير، واستأثرت به الدول على عادتها في الاستئثار بالذخاير، فاستقلت بالسياسة ذراعه، وأخدم الذوابل والسيوف يراعه، وكان عين الملك التي بها يبصر، ولسانه الذي به يسهب أو يختصر. وقد تقدمت له إلى هذه البلاد الوفادة، وجلت به عليها الإفادة، وكتب عن بعض ملوكهان وانتظم في عقودها الرفيعة وسلوكها، وله في الأدب الراية الخافقة، والعقود المتناسقة.
مشيختهقرأ ببلدة سبتة على الأستاذ الإمام أبي إسحق الغافقي المديوني، وعلى الأستاذ المقري أبي القاسم محمد بن عبد الرحيم بن عبد الرحمن الطيب، والأستاذ النحوي أبي بكر بن عبيدة الإشبيلي، وعلى الأستاذ العارف أبي عبد الله محمد بن عمر بن الدارج التلمساني، وعلى ابن خال أبيه الأمير الصالح أبي حاتم العزفي، والعدل الرضا أبي فارس عبد الرحمن ابن إبراهيم الجزيري.
وقرأ بغرناطة على الشيخ العلامة أبي جعفر بن الزبير، وروى عن الوزير الراوية أبي محمد عبد الله المرادي ابن المؤذن وعلى الأستاذ أبي بكر القللوسي. وأخذ عن الشيخ الوزير أبي الوليد الحضرمي القرطي. وممالقة عن الإمام الولي أبي عبد الله الطناجلي. وببلش عن الخطيب الصالح أبي جعفر بن الزيات، وعن الخطيب أبي عبد الله بن شعيب المروي، والعلامة أبي الحسين بن أبي الربيع، وأبي الحكم بن منظور، وابن الشاطج وابن رشيد، وابن خميس، وابن برطال، وابن ربيع، وابن البنا، وسميه ابن البنا المالقي، وابن خميس النحوي، وأبي أمية بن سعد السعود بن عفير الأمدي. هؤلاء كلهم لقيهم وسمع منهم، وأجازوا له ما عندهم. وممن أجاز له مشافهة أو مكاتبة من أهل المغرب، الأستاذ أبو عبد الله محمد بن عمر الأنصاري التلمساني ابن الدارج، والكاتب ابو علي الحسين بن عنيق، وتناول تواليفه، والأديب الشهير أبو الحكم مالك بن المرحل، والشريف أبو عبد الله محمد بن يحيى بن أبي الشرف الحسيني، وأبو بكر بن خليل السكوني، وأبو العباس المطري، والجزاري، وشرف الدين بن معطي، وابن الغماز، وابن عبد الرفيع القاضي، وأبو الشمل جماعة بن مهيب، وأبو عبد الله محمد بن أحمد التجاني وأبناء عمه عمر وعلي، وابن عجلان، ومحمد بن إبراهيم القيسي السلولي ومحمد بن حماد اللبيدي، وابن سيد الناس، وابنه أبو الفتح، وابن عبد النور، والمومناني، والخطيب ابن صالح الكتاني، وابن عياش المالقي، والمشدالي، وابن هرون، والخلاسي، والدباغ، وابن سماك، وابن أبي السداد، وابن رزين، وابن مستقور، وأبو الحسن بن فضيلة، وأبو بكر بن محزز. وكتب له من أهل المشرق جماعة منهم: الأبرقيشي وابن أبي الفتح الشيباني، وابن حمادة، وابن الطاهري، وابن الصابوني، وابن تيمية، وابن عبد المنعم المفسر، وابن شيبان، وابن عساكر، والرضى الطبري، وابن المخزومي، وابن النحاس. قلت من أراد استيفاءهم ينظر الأصل. فقد طال على استيفاء ما ذكره الشيخ رحمه الله وقد ذكر جماعة من النساء، ثم قال بعد تمام ذلك، ولو قصدنا الاستقصاء لضاق عن مجاله المتبع.
شعرهوشعره متخل عن محله من العلم والشهرة، وإن كان داخلاً تحت طور الإجادة.
فمن ذلك قوله:
تراءى سحيراً والنسيم عليل ... وللنجم طرف بالصباح كليل
وللفجر بحر خاضه الليل فاعتلت ... شوى أدهم الظلماء منه خجول
بريق بأعلى الرقمتين كأنه ... طلائع شهب في السواد تجول
فمزق ساجي الليل منه شرارة ... خرق ستر الغيم منه نصول
تبسم ثغر الروض عند ابتسامه ... وفاضت عيون للغمام همول

ومالت غصون البان نشوى كأنها ... يدار عليها من صباه شمول
وغنت على تلك الغصون حمايم ... لهن حفيف فوقها وهديل
إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت ... يطيح خفيف دونها وثقيل
سقى الله ربعاً لا تزال تشوقني ... إليه رسوم دونه وطلول
وجاد رياه كلما ذر شارق ... من الودق هتان أجش هطول
ومالي استسقي الغمام ومدمعي ... سفوح على تلك العراص همول
وعاذلة ظلت تلوم على السرى ... وتكثر من تعذالها وتطيل
تقول إلى كم ذا فراق وغربة ... ونأي على ما خيلت ورحيل
ذريني أسعى لنتى تكسب العلا ... سناء وتبقى الذكر وهو جميل
فإما تريني من ممارسة الهوى ... نحيلاً فحد المشرفي نحيل
وفوق أنابيب اليراعة صفرة ... تزين وفي قد القناة ذبول
ولولا السرى لم يجتل البدر كاملاً ... ولا بات منه للسعود نزيل
ولولا اغتراب المرء في طلب العلا ... لما كان نحو المجد منه وصول
ولولا نوال ابن الحكيم محمد ... لأصبح ربع المجد وهو محيل
وزير سما فوق السماك جلالة ... وليس له إلا النجوم قبيل
من القوم أما في الندى فإنهم ... هضاب وأما في الندى فسيول
حووا شرف العلياء إرثاً ومكسباً ... وطابت فروع منهم وأثول
وماجونة هطالة ذات عيجب ... مرتها شمال مرجف وقبول
لها زجل من رعدها ولوامع ... من البرق عنها للعيون كلول
كما هدرت وسط القلاص وأرسلت ... شقاشقها عند الهياج فحول
بأجود من كف الوزير محمد ... إذا ما توالت لسنين محول
ولولا روضة بالحسن طيبة الشذا ... ينم عليها إذخر وجليل
وقد أذكيت للزهر فيها مجامر ... تعطر منها للنسيم ذيول
وفي مقل النوار للظل عبرة ... ترددها أجفانها وتحيل
بأطيب من أخلاقه الغر كلما ... تفاقم خطب للزمان يهول
حويت أبا عبد الآه مناقباً ... تفوت يداً من رامها وتطول
فغرناطة مصر وأنت خصيبها ... ونائل يمناك الكريمة نيل
فذاك رجال حاولوا درك العلا ... ببخل وهل نال العلاء بخيل
تخيرك المولى وزيراً وناصحاً ... فكان له ما أراد حصول
وألقى مقاليد الأمور مفوضاً ... إليك فلم يعدم يمينك سول
وقام بحفظ الملك منك مؤيد ... نهوض بما أعيا سواك كفيل
وساس الرعايا منك أروع باسل ... مبيد العدا للمعتفين منيل
وأبلج وقاد الجبين كأنما ... على وجنتيه للنضار مسيل
تهيم به العلياء حتى كأنها ... بثينته في الحب وهو جميل
له عزمات لو أعير مضاءها ... حسام لما نالت ظباه فلول
سرى ذكره في الخافقين فأصبحت ... إليه قلوب العالمين تميل
وأعدى قريضي جوده وثناؤه ... فأصبح في أقصى البلاد يجول
إليك أيا فخر الوزارة أرقلت ... برحلي هوجاء النجاء ذلول
فليت إلى لقياك ناصية الفلا ... بأيدي ركاب سيرهن ذميل
تسددني سهماً لكل ثنية ضوامر ... أشباه القسى نحول
وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى ... ذراك برجلي هوجل وهجول
فقيدت أفراسي به وركائبي ... ولذ مقام لي به وحلول
وقد كنت ذا نفس عزوف وهمة ... عليها لأحداث الزمان ذحول
ويهوى العلا حظي ويغري بضد ... لذاك اعترته رقة ونحول

وتأبى لي الأيام إلا إدالة ... فصونك لي إن الزمان مديل
فكل خضوع في حمامك عزة ... وكل اعتزاز قد عداك خمول
وهي طويلة، ومن شعره في الحنين إلى وطنه سبتة.
سقى ثرى سبتة بين البلاد ... وعهدها المحبوب صوب العهاد
وجاد منهل الحيا ربعها ... بوبله تلك الربى والوهاد
وكم لنا في طورسينائها ... من رائح للأنس في إثر غاد
وعينها البيضاء كم ليلة ... بيضاء فيها قد خلت لو تعاد
وبالمنارة التي نورها ... لكل من ضل دليل وهاد
نروح منها مثلما نغتدي ... للأنس والأفراح ذات ازدياد
في فتية مثل نجوم الدجى ... ما منهم إلا كريم جواد
ارتشفوا كأس الصفا بينهم ... وارتضعوا أخلاف محض الوداد
ويا لأيام بنيولش لقد ... عدت عنها صروف العواد
أدركت من لبنى بها كلما ... لبانة وساعدتني سعاد
ونلت من لذات دهري الذي ... قد شيته وللأماني انقياد
منازل ما إن على مبدل ... هاء مكان اللام فيها انتقاد
سلوتها مذ ضمني بعدها ... نادي الوزير ابن الحكيم الجواد
ومن المقطوعات قوله:
أبت همتي أن يراني امرؤ ... على الدهر يوماً له ذا خضوع
وما ذاك إلا لأني اتقيت ... بعز القناعة ذل القنوع
ومن ذلك في المشط والنشفة من آلات الحمام:
إني حسدت المشط والنشفة الذي ... لهما مزايا القرب دوني مخلصه
فأنامل من ذا تباشر صدغه ... ومراشف من ذا تقبل أخمصه
نثرهوقع هنا بياض مقدار وجهة في أصل الشيخ.
مولدهولد ببلدة سبتة في عام ستة وسبعين وستماية.
وتوفي بتونس في الثاني عشر لشوال من عام تسعة وأربعين وسبعماية في وقيعة الطاعون العام، بعد أن أصابته نبوة في مخدومه السلطان أبي الحسن. ثم استعتبه وتلطف له. وكانت جنازته مشهورة، ودفن بالزلاج من جبانات خارج تونس رحمه الله.
عبد المهيمن بن محمد الأشجعي

البلذوذي

نزيل مراكش
حالهمن كتاب المؤتمن، قال، كان شاعراً مكثراً، سهل الشعر، سريعه، كثيراً ما يستجدي به، وكان يتقلد مذهب أبي محمد علي بن حزم الفقيه الظاهري، ويصول بلسانه على من نافره. دخل الأندلس، وجال في بلادها. بعد دخوله مراكش. وكان أصله من بلذوذ. ورد مالقة أيام قضاء أبي جعفر بن مسعدة، وأ " ال بها لسانه، فحمل عليه هنالك حملاً أذاه، إلى أن كان مآل أمره ما أخبرني به شيوخ مالقة، وانسيته الآن، فتوصل إلى مآل أمره من جهة من بقي بها الآن من الشيوخ، نقلت اسمه ونسبه من خطه.
شعرهأما على ذي شرك ... في صيدنا من درك
تصيدنا لواحظ ... وما لها من حرك
والبدر إن غاب فمن ... يجلو ظلام الحلك
قد تاب القلب فما ... يدري إن لم تدرك
عدا السقام أو عدا ... وعد الذي لم يأفك
أو لن يكن حل دمي ... فلتبطي أو أترك
حاربت من لا قدرة ... لديه في المعترك
يفل غرب سيفه ... سيف لحاظ فتك
يا لفتى يا قبلتي ... يا حجتي يا نسك
إن عظم الحزن فما ... أرجل حسن فلك
أو أهديت الحي ... فلإبن عبد الملك
خطيب ومران للذي ... سلك على سلك
ركن التقا محمد ... ذو النبل والطبع الزك
منفرد في جوده ... بماله المشترك
يا نوق هذا بابه ... فهو أجل مبرك
وأنت يا حادية ... قربت ما أسعدك
فبركي وكبري ... وابركي وبرك

فقد أتينا بشراً ... له صفات الملك
كفك يهمى ملكت ... كأنها لم تملك
قصيدتي لو لم تنل ... منك حلى لم تسبك
أبكيت ديمة الندا ... فزهرها ذو ضحك
لكنني يا سيدي ... من فاقتي في شرك
وشعره على هذه الوتيرة. حدثني أبي، قال رايته رجلاً طوالاً، شديد الأدمة، حليق الرأس، دمينه، عاريه، كثير الاستجداء، والتهاتر مع المحابين من أدباء وقته، يناضل عن مذهب الظاهرية بجهده.
وفاتهمن خط الشيخ أبي بكر بن شبرين، وفي عام سبعة وتسعني وستماية توفي بفاس الأديب عبد المهيمن المكناسي، المكتني بأبي الجيوش البلذوذي، وكان ذا هذر وخرق، طوافاً على البلاد، ينظم شعراً ضعيفاً، يستمنح به الناس، وآلت حاله إلى أن سعى به لأبي فارس عزوز الملزوزي الشاعر، شاعر السلطان أبي يعقوب وخديمه، وذكر له أنه هجاه، فألقى إلى السلطان ما أوجب سجنه، ثم ضربت عنقه صبراً، نفعه الله.
عبد العزيز بن عبد الواحد

بن الملزوزي

من أهل العدوة الغربية، يكنى أبا فارس، ويعرف بعزوز.
حالهكان شاعراً مكثراً سيال القريحة، منحط الطبقة، متجنداً، عظيم الكفاية والجرأة، جسوراً على الأمرا، علق بخدمة الملوك من آل عبد الحق وأبنايهم، ووقف أشعاره عليهم، وأكثر النظم في وقايعهم وحروبهم، وخلط المعرف باللسان الزناتي في مخاطباتهم، فعرف بهم، ونال عريضاً من دنياهم، وجماً من تقريبهم. واحتل بظاهر غرناطة في جملة السلطان، أمير المسلمين أبي يعقوب، وأمير المسلمين أبيه، واستحق الذكر بذلك.
شعرهمن ذلك أرجوزة نظمها بالخضراء في شوال سنة أربع وثمانين وستماية، ورفعها إلى السلطان أمير المسلمين أبي يوسف بن عبد الحق، سماها: بنظم السلوك، في الأنبياء والخلفاء والملوك لم يقصر فيها عن إجادة.
ومن شعره: قال مخبراً عن الأمير أبي مالك عبد الواحد ابن أمير المسلمين أبي يوسف:
دعاني يوماً والسما قد ارتدت بالسحايب ... والغيث يبكي بالدموع السواكب
كأنه عاشق صد عنه حبيبه ... ففاضت دموعه عليه وكثر نحيبه
ولم يرق له مدمع ... كأنه لم يبق له فيه مطمع
فكان الوعد حسرته ... والبرق لوعته وزفرته
فقال لي ما أحسن هذا اليوم ... لو كان في غير شهر الصوم
فاقترح غاية الاقتراح علي ... وقال قل فيه شعراً بين يدي
فأنشدته هذه الأبيات:
اليوم يوم نزهة وعقار ... وتقرب الآمال والأوطار
أو ما ترى شمس النهار قد اختفت ... وتسترت عن أعين النظار
والغيث سح غمامه فكأنه ... دنف بكى من شدة التذكار
والبرق لاح من السماء كأنه ... سيف تألق في سماء غبار
لا شيء أحسن فيه من نيل المنا ... بمدامته تبدو كشعلة نار
لولا صيام عاقني عن شربها ... لخلعت في هذا النهار عذار
لو كان يمكن أن يعار أعرته ... وأصوم شهراً في مكان نهار
لكن تركت سروره ومدامه حتى ... أكون لديه ذا أفكار
ونديرها في الكأس بين نواهد ... تجلو الهموم بنغمة الأوتار
فجفونها تغنيك عن أكواسها ... وخدودها تغنيك عن أزهار
فشكره لما سمعه غاية الشكر، وقال أسكرتنا بشعرك من غير سكر. قال، وأتيته بهذه الأبيات:
أعلمت بعدك زفرتي وأنيني ... وصبابتي يوم النوى وشجون
أودعت إذ ودعت وجداً في الحشا ... ما إن تزال سهامه تصمين
ورقيب شوقك حاضر مترقب ... إن رمت صبراً بالأسى يغرين
من بعد بعدك ما ركنت لراحة ... يوماً ولا غاضت عليك شؤون
قد كنت أبكي الدمع أبيض ناصعاً ... فاليوم تبكي بالدماء جفون

قل للذين قد ادعوا فرط الهوى ... إن شيتم علم الهوى فسلون
إني أخذت كثيره عن عروة ... ورويت سايره عن المجنون
هذي روايتنا عن أشياخ الهوى ... فإن ادعيتم غيرها فأرون
يا ساكني أكناف رملة عالج ... ظفرت بظبيكم الغرير يمين
كم بات في جنح الظلام معانقي ... ومجنت في صفروي إلى مجنون
في روضة نم النسيم بعرفها ... وكذاك عرف الروض غير مصون
والورق من فوق الغصون ترنمت ... فتريك بالألحان أي فنون
تصغي الغصون لما تقول فتنثني ... طرباً لها فأعجب لميل غصون
والأرض قد لبست فلايل سندس ... قد كللت باللؤلؤ المكنون
تاهت على زهر السماء بزهرها ... وعلى البدور بوجهها الميمون
قال أبو فارس، وكان أمير المسلمين أبو يوسف سار إلى مدينة سلا، فبويع بها ولده أبو يعقوب، وذلك في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول عام أحد وسبعين وستماية، يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم، فأنشدته يوم بيعته هذه القصيدة ورفعتها إليه:
يا ظبية الوعساء قد برح الخفا ... إني صبرت على غرامك ما كفى
كم قد عصيت على هواك عواذلي ... وأناب بالتبعيد منك وبالجفا
حملتني ما لا أطيق من الهوى ... وسقيتني من غنج لحظك فرقفا
وكسوتني ثوب ألنحول فمنظري ... للناظرين عن البيان قد اختفا
هذا قتيلك فارحميه فإنه ... قد صار من فرط النحول على شفا
لهفي على زمن تقضى بالحما ... وعلى محل بالإجيرع قد عفا
أترى يعود الشمل كيف عهدته ... ويصير بعد فراقه متألقا
لله درك يا سلا من بلدة ... من لم يعاين مثل حسنك ما اشتفا
قد حزت براً ثم بحراً طامياً ... وبذاك زدت ملاحة وتزخرفا
فإذا رأيت بها القطائع خلتها ... طيراً يحوم على الورود مرفرفا
والجاذفين على الركيم كأنهم ... قوم قد اتخذوا إماماً مسرفا
جعل الصلاة لهم ركوعاً كلها ... وأتى ليشرع في السجود مخففا
والموج يأتي كالجبال عبابه ... فتظنه فوق المنازل مشرفا
حتى إذا ما الموج أبصر حده ... غض العنان عن السرى وتوقفا
فكأنه جيش تعاظم كثرة ... قد جاء مزدحماً يبايع يوسفا
ملك به ترضى الخلافة والعلا ... وبه تجدد في الرياسة ما عفا
من لم يزل يسبي الفوارس في الوغى ... إن سل في يوم الكريهة مرهفا
ألفت محبته القلوب لأنه ... ملك لنا بالجود أضحى متحفا
ألقى إليه الأمر والده الذي ... عن كل خطب في الورى ما استنكفا
يعقوب الملك الهمام المجتبا ... الماجد الأوفى الرحيم الأرأفا
يهواه من دون البنين كأنما ... يعقوب يعقوب ويوسف يوسفا
طوبى لمن في الناس قبل كفه ... والويل منه لمن غدا متوقفا
أعطاك ربك وارتضاك لخلقه ... فاقتل بسيفك من أبا وتخلفا
وامدد يمينك للوفود فكلهم ... لليوم عاد مؤملاً متشوفا
فايوم لا تخشى النعاج ذيابها ... ويعود من يسطو بها متعطفا
صلح الزمان فلا عدو يتقى ... لم يخش خلق في علاك تخوفا
لم لا وعدلك للبرية شامل ... طبعاً وغيرك لا يزال تكلفا
يا من سررت بملكه وعلايه ... اليوم أعلم أن دهري أنصفا
فإذا ملكت فكن وفياً حازماً ... واعلم بأن الملك يصلح بالوفا
وأفض بذلك للوجود وكن لهم ... كهفاً وكن ببعيدهم مستعطفا
فالجود يصلح ما تعلم في العلا ... وسواه يفسد في الخلافة ما صفا

إن البرية في يديك رمامها ... فاحذر فديتك إن تكون معنفا
يا من تسربل بالمكارم والعلا ... ما زال حاسدكم يريد تأسفا
خذها إليك قصيدة من شاعر ... في نظم فخرك كيف شا تصرفا
خضع الكلام له فصار كعبده ... ما شاء يصنع ناظماً ومؤلفا
لا زالت الأمجاد تخدم مجدكم ... ما زارت الحجاج مروة والصفا
ومن شعره في رثاء الأمير أبي مالك:
سهم المنية أين منه فرار ... من في البرية من رجاه يجار
حكم الزمان على الخلايق بالفنا ... فادار لا يبقى بها ديار
عش ما تشاء فإن غايتك الردى ... يبلى الزمان وتذهب الأعمار
فاحذر مسالمة الزمان وأمه ... إن الزمان بأهله غدار
وانظر إلى الأمراء قد سكنوا الثرى ... وعليهم كأس المنون تدار
تركوا القصور لغيرهم تورحلوا ... ومن اللحود عليهم أستار
قد وسدوا بعد الحرير جنادلاً ... ومن اللحود عليهم أستار
منعوا السرى للقباب وأسكنوا ... بطن الثرى حكمت بذاك عليهم الأقدار
لم تنفع الجرد الجياد ولا القنا ... يوم الردى والعسكر الجرار
في موت عبد الواحد الملك الرضا ... لجميع أملاك الورى إنذار
أن ليس يبقى في الملوك مملك ... إلا أتته منية وبوار
ناديته والحزن خامر مهجتي ... والقلب فيه لوعة وأوار
يا من ببطن الأرض أصبح آفلاً ... أتغيب في بطن الثرى الأقمار
أين الذين عهدت صفو ودادهم ... هل فيهم بعد الردى لك جار
تركوك في بطن الثرى وتشاغلوا ... بعلا سواك فهجرهم إنكار
لما وقفت بقبره مترحماً ... حان العزا وهاجني استعبار
فبكيت دمعاً لو بكت بمثاله ... غر السحاب لم تكن أمطار
يا زايريه استغفروا لمليككم ... ملك الملوك فإنه غفار
وفاتهتوفي خنقاً بسجن فاس بسعاية سعيت به، جناها تهوره في وسط عام سبعة وتسعين وستماية، وقد كان جعل له النظر في أمور الحسبة ببلاد المغرب.
ومن العمال
عبد العزيز بن عبد الله

بن عبد العزيز الأسدي العراقي

من أهل وادي آش، نزل سلفه طرش من أحوازها، وجده استوطنها، وذكروا أنه كان له بها سبعون غلاماً. وجده للأم أبو الحسن بن عمر شارح الموطأ ومسلم، ومصنف غير ذلك. كذا نقلته عن أبي عبد الله العراقي، قريبه.
حالهكان طبيباً، شاعراً مجيداً، حسن الخط، ظريف العمل، مشاركاً في معارف. تولى أعمالاً نبيهة.
شعرهنقلته من خطة ما نصه:
صرفت لخير صدر في الزمان ... عريق في أصالته عنان
كريم المنتمي من خير بيت ... سليل مجادة ورفيع شان
رحيب بنا فضل غير وان ... عن الأفضال في هذا الأوان
ومن هذا أذاك هو ابن عيسى ... محمد المعان على المعان
أبو عبدلي إنه المنتمي من ... مساوئ الفضل في سوى العنان
ذراني في مجادته محباً ... فهش لما به يحوي جنان
فأنس ثم بشر بالأماني ... ورفع بعد تأنيس مكان
سر لله ما أولى لير ... وليس كمن رآني فازدران
ويوجب ذو الفضايل كل فضل ... بما فيها ترشحت الأوان
وكم زهر رآه وسط روض ... وكم هاذ يدي بين الدنان
بمالقة وبالأقطار أضحت ... معاليكم مشيدة المبان
فأيدوا الآلة لسوف يأتي ... لكم مني سوابق في الرهان
قواف من الحكم قواف ... محامد للسماع وللعيان

يفوق نظيمها من كل معنى ... سلوك الدر من حلي الحسان
متى خف ازدحام من همومي ... ورجيت الأمان مع أمان
شكرت الله ثم صفا فؤادي ... وأملي ما تحب على لسان
فهأنذا ببركم غذائي ولي ... منكم على بعدي تدان
محبك حيث كنت بلا سلو ... وضيفك في البعاد وفي التوان
ثنائي ثابت يبقى بقاي ... ومن بعدي على طول الزمان
وما تهب الأكف قراك فان ... وما تهب الطروس فغير فان
هنيئاً بالنزاهة في سرور ... ومع من لا له في الفضل ثان
فلا زالت مسرته توالي ... ولا زالت تزف لك التهان
وفاته: ببلدة وادي آش عام خمسة عشر وسبعماية.
عبد القادر بن عبد الله بن عبد الملك بن سوار المحاربي
حالههذا الرجل دمث الأخلاق، سكون، وقور. خدم أبوه بغرناطة كاتباً للغزاة، منوهاً به، مشهوراً بكرم وظرف. وانتقل إلى العدوة، ونشأ ابنه المذكور بها، وارتسم بخدمة ولي العهد الأمير أبي زيان، وورد على الأندلس في وسط عام سبعة وخمسين وسبعماية في بعض خدمه، وأقام بغرناطة أياماً يحاضر محاضرة يتأنس به من أجلها الطالب، وينتظم بها مع أولى الخصوصية من أهل طريقه، وينقل حكايات مستطرفة. فمنم ذلك أن الشيخ عبد الرحمن بن حسن القروي الفاسي كان مع أبي القاسم الزياني بجامع القرويين ليلة سبع وعشرين من رمضان، فدخل عليهم ابن عبدون المكناسي، فتلقاه الزياني وتأيده، وتوجهوا إلى الثريا بالقرويين وقد أوقدت، وهي تحتوي على نحو ألف كاس من الزجاج، فأنشد الزياني:
أنظر إلى نارية نورها يصدع بالألإ حجب الغسق.
فقال ابن عبدون:
كأنها في شكلها زهرة ... انتظم النور بها فاتسق
وحكيت القصة للأديب الشهير أبي الحكم مالك بن المرحل، فقال لو حضرت أنا لقلت:
أعيذها من شر ما يتقى ... من فجأة العين برب الفلق
واستنشد من شعره في الثامن والعشرين لربيع الآخر من العام بقصر نجد، فقال من حكايات، إن السلطان أمير المسلمين وجد يوماً على رجل أمر بتنكيله، ثم عطف عليه في الحال وأحسن إليه، وكان حاضراً مجلسه أبو الحسن المزدغى رحمه الله، فأنشده بديهة:
لا تونسنك من عثمن سطوته ... وإن تطاير من أثوابه الشرر
فإن سطوته والله يكلاه ... كالبرق والرعد يأتي بعده المطر
قال المترجم به، فحدثني بذلك والدي، فتعقبتها عليه عام تسعة وعشرين وسبعماية، لموجب جر ذلك بقولي:
لا تيأسن من رجا كهف الملوك ... أبي سعيد المرتجى للنفع والضرر
وإن بدا منه سخط أو رأيت له ... من سطوة أقبلت ترميك بالشرر
فإنما شيء مثل الرعد يتبعه ... برق ومن بعده ينهل المطر
وأنشدني لبعض الأحداث من طلبة فاس، يخاطب صاحبنا الفقيه الكاتب أبا عبد الله بن جزى، وقد توعده على مطل باستنساخ كتاب كان يتناول له وهو بديع:
إذا ما أتت أبطال قيس وعامر ... وأقيال عبس من بغمام وقسور
تصادمني وسط الفلا لا تهولني ... فكيف أبالي بابن جزء مصغر
مولده: بفاس في العشر الأول لذي حجة عام تسعة وسبعماية.
ومن الزهاد والصلحاء وأولا الأصليون عبد الأعلى بن معلا يكنى أبا المعلى الإلبيري، من قرى القلعة، ونشأ بالحاضرة، وكان ينسب إلى خولان. ويذكر أنه أسلم على يدي رجل من خولان، فتولاه وانتسب إليه، وخرج إلى البيرة، ونشأ بها، وشغف بكتب عبد الملك بن حبيب، ولم يكن أحد في عصره يشبهه في فضله وزهده وورعه، وتواضعه وانقباضه، وتستره. أرسل إليه حسين بن عبد العزيز أخو هاشم بن عبد العزيز، وهو بإلبيرة يرغب إليه في أن يشهد جنازة ابنة توفيت له، كان يشغف بها، فتعذر عليه إذ خشي الشهرة.

وقال لبعض جلسائه، ما علمت أن حسيناً يعرفني، وعمل على الخروج من إلبيرة، وتهيأ للخروج للحج، فحج، فلما كان منصرفه، ونزل في بعض السواحل، وجد هنالك مركبين يشحنان، فرغب كل من أصحاب المركبين، أن يركب عنده، وتنافسا في ذلك، حتى خشي أن تقع الفتنة بينهم، فاهتم لذلك، ثم اصطلح أرباب المركبين، على أن يخرج كل واحد منهما قاربه إلى البر، فمن سبق قاربه إليه دخل عنده. ونزل في منصرفه ببجاية وسكنها إلى أن توفي سنة ثلاث وتسعين ومائتين.
عبد المنعم بن علي

بن عبد المنعم بن إبراهيم بن سدراي بن طفيل

يكنى أبا العرب، ويشهر بالحاج، ويدعى بكنيته
حالهكان عالماً فاضلاً صالحا، منقطعاً متبتلاً، بارع الخط، مجتهداً في العبادة، صاحب مكاشفات، وكرامات. نبذ الدنيا وراء ظهره، ولم يتلبس منها بشيء. ولا اكتسب مالاً ولا زوجة، وورث عن أبيه مالاً خرج عن جميعه، وقطع زمن فتايه في السياحة وخدمة الصالحين، وزمان شيخوخته، في العزلة والمراقبة، والتزام الخلوة. ورحل إلى الحج، وقرأ بالمشرق، وخدم مشايخ من الصالحين، منهم الفخر الفارسي، وأبو عبد الله القرطبي وغيرهما، وكان كثير الإقامة بالعدوة، وفشا أمره عند ملوكها، فكانوا يزورونه، ويتبركون به، فيعرض عنهم، وهو أعظم الأسباب في جواز أهل المغرب لنصرة من بالأندلس في أول الدولة النصرية، إذ كان الروم قد طمعوا في استخلاصها، فكان يحرض على ذلك، حتى عزم صاحب العدوة على الجواز، وأخذ في الحركة، بعد استدعاء سلطان الأندلس إياه. وعندما تعرف يغمور بن زيان ملك تلمسان ذلك كله على بلاده بما منع من الحركة، فخاطبه الحاج أبو العرب مخاطبته المشهورة، التي كفت عدوانه، واقتصرته عما ذهب إليه.
وكان حياً في صفر عام ثلاثة وستين وستماية، وهو تاريخ مخاطبته أبا يحيى يغمور بن زيان.
ومن الطارئين وغيرهم
عبد الحق بن إبراهيم

بن محمد بن نصر بن فتح بن سبعين العكي

مرسي، رقوطي الأصل، سكن بآخرة مكة، يكنى أبا محمد، ويعرف بابن سبعين.
حالهقال ابن عبد الملك، درس العربية والأدب بالأندلس، عند جماعة من شيوخها. ثم انتقل إلى سبتة، وانتحل التصوف، بإشارة بعض أصحابه، وعكف برهة على مطالعة كتبه، وتعرض بعد لإسماعها، والتكلم على بعض معانيها، فمالت إليه العامة، وغشيت محله. ثم فصل عن سبتة، وتجول في بلاد المغرب منقطعاً إلى طريقة التصوف، داعياً إليها، محرضاً عليها. ثم رحل إلى المشرق، وحج حججاً، وشاع ذكره، وعظم صيته هنالك، وكثر أتباعه على مذهبه، الذي يدعو إليه من التصوف نحلة. ارتسموا بها من غير تحصيل لها، وصنف في ذلك أوضاعاً كثيرة، تلقوها منه، وتقلدوها عنه، وبثوها في البلاد شرقاً وغرباً، ولا يخلو أحد منها بطايل، وهي إلى وساوس المخبولين، وهذيان الممروضين أقرب منها إلى منازع أهل العلم، ولفظه غير ما بلد وصقع، لما كان يرمى به من بلايا الله أعلم بحقيقتها، وهو الملطع على سريرته فيها. وكان حسن الأخلاق، صبوراً على الأذى، آية في الإيثار، أبدع الناس خطاً.
وقال أبو العباس الغبريني في كتاب عنوان الدراية عند ذكره، وله علم وحكمة ومعرفة، ونباهة وبلاغة وفصاحة. ورحل إلى العدوة، وسكن بجاية مدة، ولقيه من أصحابنا ناس كثير، وأخذوا عنه، وانتفعوا به في فنون خاصة له، مشاركة في معقول العلوم ومنقولها، ووجاهة لسان، وطلاقة قلم، وفهم جنان، وهو آخر الفضلاء، وله أتباع كثيرة من الفقراء، ومن عامة الناس، وله موضوعات كثيرة، موجودة بأيدي الناس، وله فيها ألغاز وإشارات بحروف أبي جاد، وله تسميات مخصوصات في كتبه هي نوع من الرموز وله تسميات ظاهرة كالأسامي المعهودة، وله شعر في التحقيق، وفي مراقي أهل الطريق، وكتابته مستحسنة في طريقة الأدباء. وله من الفضل والمزية، ملازمته لبيت الله الحرام، والتزامه الاعتمار على الدوام، وحجته مع الحجاج في كل عام، وهذه مزية لا يعرف قدرها ولا يرام. ولقد مشى به للمغاربة بحظ في الحرم الشريف، لم يكن لهم في غير مدته. وكان أصحاب مكة شرفها الله، يهتدون بأفعاله، ويعتمدون على مقاله.

قلت، وأغراض الناس في هذا الرجل متباينة، بعيدة عن الاعتدال، فمنهم الموهن المكفر، ومنهم المقلد المعظم، وحصل لطرفي هذين الاعتقادين من الشهرة والذياع ما لم يقع لغيره. والذي يقرب من الحق، أنه كان من أبناء الأصالة ببلده، وولى أبوه خطة المدينة، وبيته نبيه، ونشأ ترفاً مبجلاً، في ظل جاه، وعز نعمة، لم تفارق معها نفسه البلد، ثم قرأ وشدا. ونظر في العلوم العقلية، وأخذ التحقيق عن أبي إسحق ابن دهاق، وبرع في طريقة الشوذية، وتجرد واشتهر، وعظم أتباعه، وكان وسيماً جميلاً، ملوكي البزة، عزيز النفس، قليل التصنع، يتولى خدمته الكثير من الفقراء السفارة، أولى العبا والدقاقيس، ويحفون به في السكك، فلا يعدم ناقداً، ولا يفقد متحاملاً. ولما توفرت دواعي النقد عليه من الفقهاء زياً وانتباذاً ونحلة وصحبة واصطلاحاً، كثر عليه التأويل، ووجهت لألفاظه المعاريض، وفليت موضوعاته، وتعاورته الوحشة، ولقيه فحول من منتابى تلك النحلة، قصر أكثرهم عن مداه في الإدراك والاضطلاع، والخوض في بحار تلك الأغراض، وساءت منه لهم في الملاطفة السيرة، فانصرفوا عنه مكظومين يندرون في الآفاق عليه من سوء القيلة، ما لا شيء فوقه. ورحل إلى المشرق، وجرت بينه وبين الكثير من أعلامه خطوب. ثم نزل مكة شرفها الله تعالى واختارها قراراً، وتلمذ له أميرها، فبلغ من التعظيم الغاية، وعاقه الخوف من أمير المدينة المعظمة النبوية، عن القدوم عليها، إلى أن توفي، فعظم عليه الحمل لأجل ذلك، وقبحت الأحدوثة.
شهرته ومحله من الإدراك أما اضطلاعه، فمن وقف على البد من كتبه، رأى سعة ذرعه وانفساح مدى نظره، لما اضطلع به من الآراء والأوضاع والأسماء، والوقوف على الأقوال، والتعمق في الفلسفة، والقيام على مذاهب المتكلمين، بما يقضي منه العجب. ولما وردت على سبتة المسائل الصقلية، وكانت جملة من المسايل الحكمية، وجهها علماء الروم تبكيتاً للمسلمين، انتدب إلى الجواب عنها، على فتى من سنه، وبديهة من فكرته. وحدثني شيخنا أبو البركات، قال حدثني أشياخنا من أهل المشرق، أن الأمير أبا عبد اللهبن هود، سالم طاغية النصارى، فنكث عهده، ولم يف بشرطه، فاضطره ذلك إلى مخاطبته إلى القومس الأعظم برومة، فوكل أبا طالب بن سبعين، أخا أبي محمد، المتكلم عنه، والاستظهار بالعقود بين يديه، قال فلما بلغ باب ذلك الشخص المذكور برومة، وهو بلد لا تصل إليه المسلمون، ونظر إلى ما بيده، وسئل عن نفسه، كلم ذلك القس من دنا منه محله من علمايهم بكلام، ترجم لأبي طالب بما معناه، اعلموا أن أخا هذا ليس للمسلمين اليوم أعلم بالله منه.
دعواه وإزراؤهوقد شهر عنه في هذا الباب كثير والله أعلم باستحقاقه رتبة ما ادعاه أو غير ذلك. فقد ذكروا أنه قال، وقد مر ذكر الشيخ أبي مدين رحمه الله، شعيب عبد عمل، ونحن عبيد حضرة.وقال لأبي الحسن الششتري عندما لقيه، وقد سأله عن وجهته، وأخبره بقصده الشيخ أبا أحمد، إن كنت تريد الجنة فشأنك ومن قصدت، وإن كنت تريد رب الجنة فهلم إلينا، وفي كتاب البد ما يتشوف إليه من هذا الغرض عند ذكره حكماء الملة. وأما ما ينسب إليه من آثار السيمياء والتصريف فكثير.
تواليفه

وتواليفه كثيرة تشذ عن الإحصاء، منها المسمى بالبد بد العارف، وكتاب الدرج، وكتاب الصفر، والأجوبة اليمنية، والكل والإحاطة. وأما رسايله في الأذكار، كالنورية في ترتيب السلوك، وفي الوصايا والعقايد فكثير، يشتمل على ما يشهد بتعظيم النبوة، وإيثار الورع، كقوله من رسالة: سلام الله عليك ورحمته. سلام الله عليك ثم سلام مناجاتك. سلام الله ورحمته الممتدة على عوالمك كلها، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، وصلى الله عليك كصلاة إبراهيم من حيث شريعتك، وكصلاة أعز ملائكته من حيث حقيقتك ، وكصلاته من حيث حقه ورحمانيته. السلام عليك يا حبيبه. السلام عليك يا قياس الكمال، ومقدمة السعد، ونتيجة الحمد، وبرهان المحمود، ومن إذا نظر الذهن إليه قد أنعم العيد، السلام عليك يا من هو الشرط في كمال الأولياء، وأسرار مشروطات الأزكياء الأتقياء. السلام عليك يا من جاوز في السماء مقام الرسل والأنبياء، وزاد رفعة، واستولى على ذوات الملأ الأعلى، ولم يسعه في وجهته تلك إلا ملاحظة الرفيق الأعلى، وذلك قوله، سبح اسم ربك الأعلى إلى الأخرى والأولى، لا إلى الآخرة والأولى، وبلغ الغاية والمطلوب، التي عجزت عنه قوة ماهية النهى، وزاد بعد ذلك، حتى نظر تحته من ينظر دونه سدرة المنتهى، إلى استغراق كثير، أفضى إلى حال من مقام.
ومن وصاياه يخاطب تلاميذه وأتباعه: حفظكم الله، حافظوا على الصلوات، وجاهدوا النفس في اجتناب الشهوات، وكونوا أوابين، توابين، واستعينوا على الخيرات بمكارم الأخلاق، واعملوا على نيل الدرجات السنية، ولا تغفلوا عن الأعمال السنية، وحصلو مخصص الأعمال الإلهية ومهملها، وذوقوا مفصل الذات الروحانية ومحملها، ولازموا المودة في الله بينكم، وعليكم بالاستقامة على الطريقة، وقدموا فرص الشريعة على الحقيقة، ولا تفرقوا بينهما، لأنهما من الأسماء المترادفة، واكفروا بالحقيقة التي في زمانكم هذا، وقولوا عليها وعلى أهلها لعنة الله، لأنها حقيقة كما سمى اللديغ سليما، وأهلها مهملون حد الحلال والحرام، مستخفون بشهر الصوم والحجج وعاشوراء والإحرام، قاتلهم الله أنى يؤفكون.
ومنها: واعلموا أن القريب إلي منكم، من لا يخالف سنة أهل السنة ويوافق طاعة رب العزة والمنة، ويؤمن بالحشر والنار والجنة، ويفضل الرؤية على كل نعمة، ويعلم أن الرضوان بعدها، أجل كل رحمة، ثم يطلب الذات بعد الأدب مع الصفات والأفعال، ويغبط نفسه بالمشاهدة في النوم والبرزخ والأحوال، وكل مخالف سخيف، متهم منه الفساد، وإن كان من إخوانكم، فاهجروه في الله، ولا تلتفتوا إليه، ولا تسلموا له في شيء، ولا تسلموا عليه حتى يستغفر الله العظيم بمحضر الكل منهم، ويرضى عن نفسه وحاله وعنكم، ويخرج من صفاته المذمومة، ويترك نظام دعوته المحرومة. وأنا مذ أشهدت الله العظيم، أني قد خرجت من كل مخالف متخلف العقل واللسان، ولا نسبة بيني وبينه في الدنيا والآخرة، فمن زل قدمه يستغفر الله، ولا يخدعه قدمه، وأمثال هذا كثير.
دخوله غرناطةأخبرني غير واحد من أصحابنا المعتنين بهذا، أنه دخل غرناطة في رحلته، وأظنه يجتاز إلى سبتة، وأنه حل وسطه، على اصطلاح الفقراء، برابطة العقاب من خارجها، في جملة من أتباعه.
شعرهوشعره كثير، مما حضرني منه الآن قوله:
كم ذا تموه بالشعبين والعلم ... والأمر أوضح من نار على علم
وكم تعير عن سلع وكاظمة ... وعن زرود وجيرن بذي سلم
ظللت تسئل عن نجد وأنت بها ... وعن تهامة هذا فعل متهم
في الحي حتى ولا سوى ليلى ... وتسألها عنها سؤالك وهم جر للعدم
وفاتهتوفي بمكة شرفها الله تعالى يوم الخميس التاسع لشوال من عام تسعة وستني وستماية.
فيما يسمى بإحدى عيون الإسلام من الأسماء العينية وهم عتيق وعمر وعثمن وعلي، وأولا الأمراء والملوك وهم ما بين طارئ وأصلي وغريب
عمر بن حفصون

بن عمر بن جعفر الإسلامي بن كسمسم بن دميان

ابن فرغلوش بن أذفونش كبير الثوار، وعظيم النتزين، ومنازع الخلفاء بالأندلس.
أوليته وحاله

قال صاحب التاريخ، أصله من رندة، من كورة تاكرنا، وجده جعفر إسلامي، وانتقل إلى رندة، لأمر دار عليه بها في أيام الحكم بن هشام، فسكن قرية طرجيلة من كورة ريه المجاورة لحصن أوطة، فاستوطن بها، وأنسل بها عمر، ثم أنسل بها عمر حفصاً، وفخم فقيل حفصون. ثم أنسل عمر هذا الثاير مع أخوة له، منهم أيوب وجعفر. ولما ترعرع عمر، ظهر له من شراسته وعتوه، ما لم يعدم معه أبواه هرباً عن مواضعهما فزالا عن وطنهما، فذكر أنه لم يمسك من حين كان عن أحد ممن ناظره، ولا سكت عن أقبح ما يمكن من السب لمن عاتبه، وأنه قتل أحد جيرانه على سبب يسير دافعه عنه، فتغرب لذلك عن الموضع زماناً.
وذكر ابن القوطية، أن عامل ريه، عاقبه في جناية، وفر إلى العدوة، وصار يتهرب عند خياط كان من أهل ريه، فبينا هو جالس في حانوته يوماً، إذ أتاه شخص بثوب يقطعه، فقام إليه الخياط، فسأل ذلك الشخص الخياط عن عمر فقال له هو رجل من جيراني، فقال الشيخ متى عهدك بريه، فقال له، منذ أربعين يوماً، فقال له، أتعرف جبلاً يقال له ببشتر، فقال أنا ساكن عند أهله، فقال أله حركة، قال لا، قال الشيخ قد أذن ذلك. ثم قال، تعرف فيما يجاوره رجلاً يقال له عمر بن حفصون، ففزع من قوله، فأحد الشيخ النظر فيه وقال، يا منحوس، تحارب الفقر بالإبرة، إرجع إلى بلدك، فأنت صاحب بني أمية، وستملك ملكاً عظيماً، فقام من فوره، وأخذ خبزه في كمه، ورجع إلى الأندلس. فداخل الرجال، حتى ضبط الجبل المذكور، وانضوى إليه كل من يتوقع التهمة على نفسه، أو تشهره إلى الانتزاء بطبعه، وضم إلى القلعة كل من كان حولها من العجم والمولدين. ثم تملك حصن أوطة وميجش، ثم تلمك قمارش وأرجدونة. ثم اتسع نظره، حتى تملك كورة ريه، والخضراء، وإلبيرة، إلى بسطة وأبدة وبياسة وقبرة، إلى كل حصن بلى، المطل على قرطبة، وأشرق الخلافة بريقها، وقطع الزمان من استكانة إلى عهد، وكشف الوجه في ختر، وتشمير الساعد عن حرب، وحسر اللثام عن أيد وبسطة وشد الحزام على جهد وصبر ونازله الخلايف والقواد، فلم يحل بطايل، وأصابته جراحات مثخنة في الوقايع وأصبحت فتنته سمر الركاب، وحديث الرفاق، شدة أسر، وثقل وطأة، وسعة ذرع، واتصال حبل، وطول إملاء، استغرق بها السنين، وطوى الأعمار، وأورث ذلك ولده بعده، وعند الله جزاء وحساب، وإن امتد المآب، لا إله إلا هو.
دخوله غرناطة وإلبيرةقال ابن الفياض وغيره، ودخل إلبيرة مرات، عندما ثار بدعوته، قاتل، وانضوى إلى حصن منتشافر، من إقليم برجيلة قيس، في نحو ستة آلاف، وتغلب على يحيى بن صقالة، ثم نازله سوار بن حمدون أمير العرب بغرناطة، حتى غلبه، وأخذه أسيراً، ثم أوقع بجعد ومن معه من أهل إلبيرة وقايع مستأصلة، وتملك بعدها بياسة وأبدة، في أخبار تطول. قال أبو مروان، قصد ابن حفصون حاضرة إلبيرة وحصونها، وناصب الحرب سواراً، وقد استمد سوار رجالات العرب، من كورني جيان وريه وإلبيرة، فوقعت الهزيمة على ابن حفصون، وجرح جراحات مثخنة، وأصيب جماعة من فرسانه، وانقلب منهزماً، فغضب عند ذلك على أهل إلبيرة فأغرمهم مغرماً فدحهم، واستعمل عليهم، حفص بن الرة، فلم يزل لعمل الحيل على سوار، حتى أوقع به، وأتى بجثته إلى إلبيرة، وحمل رأسه إلى ببشتر، واستشرى داؤه، وأعيا أمره، فاتصل ملكه بالقواعد والأقطار، وغلب أكثر المدن، ما بين الموسطة والغرب، وأحدق ملكه بقرطبة، وحجر عليها الخيل من حصن بلى، من حصون قبرة، فجلت الكنبانية، وامتد إلى بنيان المعاقل. ولما رأى الأمير محمد ما أحاط به منه، تأهب إلى غزوه، ونزل حصن بلى، وناهضه، فأوقع به، وهزمه وألجأه إلى أن سلم في حصنه، فلما خرج منه بمن معه، تطيرهم ريح الفرار والسيوف تأخذهم، استولى الخليفة على الحصن. وفي ذلك يقول أحمد بن عبد ربه، شاعر دولتهم:
وله يوم بلى وقعة لم ... تدع للكفر رأساً في ثبج
لم يجد إبليس في حومتها ... نفعاً من رهبة حيث بلج
دفعتهم حملة السيل إلى ... كافح الأمواج مخض اللجج
فتح الله على الدين به ... وعلى الإسلام يا عام تتج
وكان هذا الفتح سنة سبع وسبعين ومائتين. ثم استخلص مدينة إستجة.
وفاته

قال، ومن هذا العهد، أدبر أمر ابن حفصون، وتوقف ظهوره، بعد تخبط شديد، ولجاج كبير، وشر مبير، وكانت وفاته ببشتر، موضع انتزائه على عهد الخليفة عبد الرحمن في سنة ست وثلاثمائة، بعد مرض شمل النفخ به جسده، حتى تشقق جلده، وانتقل أمره إلى ولده جعفر، ثم إلى ولده سليمان، ثم إلى ولده حفص. وعلى حفص انقرض أمرهم.
عمر بن محمد التجيبي

بن عبد الله بن محمد بن مسلمة التجيبي

يطليوسي، مكناسي الأصل، من مكناسة الجوف، الأمير بالثغر الغربي، الملقب من ألقاب السلطنة بالمتوكل على الله، المكنى بأبي محمد، المنبز بابن الأفطس.
أوليتهقال ابن حيان، كان جدهم عبد الله بن مسلمة المعروف بابن الأفطس، أصله من فحص البلوط، من قوم لا يدعون نباهة، غير أنه كان من أهل المعرفة التامة، والعقل، والدهاء، والسياسة. ثم كان هذا الصقع الغربي، بطليوس وأعمالها، وشنترين والأشبونة، وجميع الثغر الجوفي في أمر الجماعة، رجل من عبيد الحكم المستنصر، يسمى سابور. فلما وقعت الفتنة، وانشقت العصا، انتزى سابور على ما كان بيده، وكان عبد الله يدبر أمره إلى أن هلك سابور، وترك ولدين لم يبلغا الحلم، فاشتمل عبد الله على الأمر، واستأثر به على ولديه، فحصل على ملك غرب الأندلس، واستقام أمره، إلى أن مضى بسبيله، وأعقبه ابنه المظفر محمد بن عبد الله، وكان ملكاً شهيراً عالماً شجاعاً أديباً، وهو مؤلف الكتاب الكبير المسمى بالمظفري، فاستقامت أموره إلى أن توفي فقام بأمره ولده عمر هذا المترجم به.
حالهقال ابن عبد الملك، كان أديباً بارع الخط، حافظاً للغة، جواداً، راعياً حقوق بلده، مواخياً لهم، محبباً فيهم، مرت لهم معه أيام هدنة وتفضل إلى حين القبض عليه.
وقال الفتح في قلائده: ملك جند الكتائب والجنود، وعقد الألوية والبنود، وأمر الأيام فائتمرت، وطافت بكعبته الآمال واعتمرت، إلى لسن وفصاحة، ورحب جناب للوافدين وساحة، ونظم يزرى بالدر النظيم، ونثر تسرى رقته سري النسيم، وأيام كأنها من حسنها جمع، وليال كان فيها على الأنس حضور ومجتمع، راقت إشراقاً وتبلجاً، وسالت مكارمه فيها أنهاراً وخلجاً، إلى أن عادت الأيام عليه بمعهود العدوان، ودبت إليه دبيبها لصاحب الإيوان، وانبرت إليه انبراءها لابن زهير وراء عمان.
شعرهبلغه أنه ذكر في مجلس المنصور يحيى أخيه بسوء، فكتب إليه بما نصه
فما بالهم لا أنعم الله بالهم ... ينيطون بي ذماً وقد علموا فضلي
يسيئون لي في القول جهلاً وضلة ... وإني لا أرجو أن يسيئهم فعلي
لئن كان حقاً ما أذاعوا فلا مشت ... إلى غاية العلياء من بعدها رجلي
ولم ألق أضيافي بوجه طلاقة ... ولم أمنح العافين في زمن المحل
وكيف وراحي درس كل غريبة ... وورد التقى شمي وحرب العدى نقلي
وإلى خلق في السخط كالشرى طعمه ... وعند الرضى أحلى جنى من جنى النحل
فيا أيها الساقي أخاه على النوى ... كؤوس القلى مهلاً رويدك بالعل
نلطفئ ناراً أضرمت في صدورنا ... فمثلي لا يقلي ومثلك لا يقلي
وقد كنت تشكيني إذا جئت شاكياً ... فقل لي لمن أشكو صنيعك بي قل لي
فبادر إلى الأولى وإلا فإنني ... سأشكوك يوم الحشر للحكم العدل
وكتب جواباً لأبي محمد بن عبدون مع مركوب عن أبيات ثبتت في القلايد:
بعثت إليك جناحاً فطر ... على خفية من عيون البشر
على ذلل من نتاج البروق ... في ظل من نسيج الشجر
فحسبي ممن نأى ومن دنا ... فمن غاب كان كمن قد حضر
قال الفتح، أخبرني الوزير أبو أيوب بن أمية، أنه مر في بعض أيامه بروض مفتر المباسم، معطر الرياح النواسم، فارتاح إلى الكون به بقية نهاره، والتنعم ببنفسجه وبهاره. فلما حصل من أنسه في وسط المدى، عمد إلى ورقة كرنب قد بللها الندى، وكتب فيها بطرف غصن، يستدعي الوزير أبا طالب بن غانم أحد ندمائه، ونجوم سمائه:
أقبل أبا طالب إلينا ... واسقط سقوط الندى علينا
فنحن عقد بغير وسطى ... ما لم تكن حاضراً لدينا

نثره

وهو أشف من شعره، وإنه لطبقة تتاقصر عنها أفذاذ الكتاب، ونهاية من نهاية الآداب، قال، كان ليلة مع خواصه للأنس معاطياً، ولمجلس كالشمس واطياً، قد تفرغ للسرور، وتفرغ عيشاً كالأمل المزرور، والمنى قد أفصحت ورقها، وأومص برقها، والسعد تطلع مخايله، والملك يبدو زهوه وتخايله، إذ ورد عليه كتاب بدخول أشبونة في طاعته، وانتظامها في سلك جماعته، فزاد في مسرته، وبسط من أسرته وأقبل خدامه، وأسبل نداه على جلسائه وندامه، فقال له ابن خيرة، وكان يدل بالشباب، وينزل منه منزلة الأحباب، لمن توليها، ومن يكون واليها، فقال له، أنت، فقال فاكتب الآن بذلك، فاستدعى الدواة والرق، وكتب وما جف له قلم، ولا توقف له كلم: لم يسوغ أولياء النعم، مثل الذي سوغتموه من التزام الطاعة، والدخول في نهج الجماعة، وذلك لا آلوكم ونفسي فيكم نصحاً فيمن أتخيره، للنيابة عني في تدبيركم، والقيام بالدقيق والجليل من أموركم، وقد وليت عليكم، من لم أوثر والله فيه دواعي التقريب، على بواعث التجريب، ولا فوات التخصص، على لوازم التمحيص، وهو الوزير القائد أبو عبد الله بن خيرة، ابني دربة، وبعضي صحبة، ونشأتي سكة وقرية، وقد رسمت له من وجوه الذب والحماية، ومعالم الرفق والرعاية، ما التزم الاستيفاء بعهده، والوقوف بجده عند حده، والمسؤول في عونه من لا عون إلا من عنده، ولن أعرفكم من حميد خصاله، وسديد فعاله، إلا بما سيبدو للعيان، ويزكو مع الامتحان. ويفشو من قبلكم إن شاء الله على كل لسان، وقد حددت له أن يكون لناشئكم أباً ولكهلكم أخاً. ولذي النفوس والكبرة إبناً، ما أعنتموه على هذا المراد، ولزوم الجواد، وركوب الانقياد. وأما من شق العصا، وبان عن الطاعة، وظهر منه المراد والهوى، فهو القصي منه، وإن مت إليه بالرحم الدنيا، فكونوا خير رعية، بالسمع والطاعة في جميع الأحوال، يكن لكم بالبر والموالاة خير وال إن شاء الله عز وجل.
وصوله إلى غرناطةوصلها صحبة حليفه ابن عباد، لما قبض يوسف بن تاشفين على صاحبها ونزل بالمشيجة من خارجها في رجب من عام ثلاثة وثمانين وأربعمائة ورابهما الأمر، كما تقدم في ذكر المعتمد بن عباد، فتعجلا الرجوع إلى وطنهما بحيلة دبراها.
نكبته ووفاتهولما اشتد خوفه من أمير لمتونة، ورأى أنه أسوة ابن عباد في الخلع عن ملكه، وضيقت الخيل على أطرافه وانتزعتها، داخل طاغية الروم، وملكه من مدينة الأشبونة، رغبة في دفاعه عنه، فاستوحشت لذلك رعيته، وراسلت اللمتونيين، واقتحمت عليه مدينة بطليوس، واعتصم بالقصبة، وخانه المحاربة، فدخلت عليه عنوة، وتقبض عليه وعلى بنيه وعبيده، وتحصلوا في ثقاف قائد الجيش اللمتوني. وبادر إعلام الأمير سير بن أبي بكر، فلحق بها. واستخرج ما كان عند المتوكل من المال والذخيرة، وأزعجه إلى إشبيلية مع ابنين له، فلما تجاوز وبعد عن حضرته، أنزل وقيل له تأهب للموت، فسأل أن يقدم ابناه يحتسبهما عند الله، فكان ذلك، وقتلا صبراً بين يديه، ثم ضرب عنقه، وذلك صدر سنة سبع وثنانين واربعمائة، وانقرضت دولة بني الأفطس.
وممن رثاهم، فبلغ الأمد وفاء وشهرة وإجادة، أبو محمد عبد المجيد ابن عبدون بقصيدته الفريدة:
الدهر يفجع بعد العين بالأثر ... فما البكاء على الأشباح والصور
أنهاك أنهاك لا آلوك موعظة ... عن نومة بين ناب الليث والظفر
فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة ... والبيض والسمر مثل البيض والسمر
ولا هوادة بين الرأس تأخذه ... يد الضراب وبين الصارم الذكر
فلا تغرنك من دنياك نومتها ... فما صناعة عينيها سوى السهر
ما لليالي أقال الله عثرتنا ... من الليالي وخانتها يد الغير
في كل حين لها في كل جارحة ... منا جراح وإن زاغت عن البصر
تسر بالشيء لكن تغربه ... كالأيم ثار إلى الجاني من الزهر
كم دولة وليت بالنصر خدمتها ... لم تبق منها وسل ذكراك من خبر
هوت بداراً وفلت غرب قاتله ... وكانت غصباً على الأملاك ذا أثر

واسترجعت من بني ساسان ما وهبت ... ولم تدع لبني يونان من أثر
وأتبعت أختها طسماً وعاد على ... عاد وجرهم منها ناقص المرر
وما أقالت ذوي الهيئات من يمن ... ولا أجارت ذوي الغايات من مضر
ومزقت سبأ في كل قاصية ... فما التقى رائح منهم بمبتكر
وأنفذت في كليب حكمها ورمت ... مهلهلاً بين سمع الأرض والبصر
ولم ترد على الضليل صحته ... ولا ثنت أسداً عن ربها حجر
ودوهت آل ذبيان وإخوتهم ... عبساً وعضت بني بدر على النهر
وألحقت بعدي بالعراق على ... يد ابنه أحمر العينين والشعر
وأهلكت أبرويزا بابنه ورمت ... بيزد جرد إلى مرو فلم يحر
وأشرفت بحبيب فوق قارعة ... وألحقت طلحة الفياض بالعفر
ومزقت جعفراً بالبيض واختلست ... من غيلة حمزة الظلام للجزر
وبلغت يزدرجرد الصين واختزلت ... عنه سوى الفرس جمع الترك والخزر
ولم ترد مواضي رستم وقنا ... ذي حاجب عنه سعداً في ابنة الغير
وخضبت شيب عثمان دماً وخطت ... إلى الزبير ولم تستحي من عمر
وما رعت لأبي اليقظان صحبته ... ولم تزوده إلا الضح في الغمر
وأجزرت سيف أشقاها أبا حسن ... وأمكنت من حسين راحتي شمر
وليتها إذ فدت عمراً بخارجة ... فدت علياً بمن شاءت من البشر
وفي ابن هند وفي ابن المصطفى حسن ... أتت بمعضلة الألباب والفكر
فبعضنا قائل ما اغتاله أحد ... وبعضنا ساكت لم يؤت من حصر
وعمت بالردى فودى أبي أنس ... ولم ترد الردى عنه قنا زفر
وأردت ابن زياد بالحسين فلم ... يبؤ بشسع له قد طاح أو ظفر
وأنزلت مصعباً من رأس شاهقة ... كانت بها مهجة المختار في وزر
ولم تراقب مكان ابن الزبير ولا ... راعت عياذته بالبيت والحجر
ولم تدع لأبي الزيان قاضبة ... ليس اللطيم لها عمرو بمنتصر
وأظفرت بالوليد بن اليزيد ولم ... تبق الخلافة بين الكاس والوتر
حبابة حب رمان ألم بها ... وأحمر قطرته نفحة القطر
ولم تعد قضب السفاح نابية ... عن رأس مروان أو أشياعه الفجر
وأسبلت دمعة الروح الأمين على ... دم يثج لآل المصطفى هدر
وأشرقت جعفراً والفضل ينظره ... والشيخ يحيى بريق الصارم الذكر
وأخفرت في الأمين العهد وانتدبت ... لجعفر بابنه بالأعبد الغدر
وروعت كل مأمون مؤتمن ... وأسلمت كل منصور ومنتصر
وأعثرت آل عباس لعالهم ... بذل زباء من بيض ومن سمر
ولا وفت بعهود المستعين ولا ... بما تأكد للمعتز من مرر
وأوثقت في عراها كل معتمد ... وأشرقت بقذاها كل مقتدر
بني المظفر والأيام ما برحت ... مراحل والورى منها على سفر
سحقاً ليومكم يوماً وما حملت ... بمثله ليلة في سالف العمر
من للأسرة أو من للأعنة أو ... من للأسنة يهديها إلى الثغر
من لليراعة أو من للبراعة أو ... من للسماحة أو للنفع والضرر
من للظبي وعوالي الخط قد عقدت ... أطراف ألسنها بالعي والحصر
وطوقت بالمنايا السود بيضهم ... أعجب بذاك وما منها سوى ذكر
أو رفع كارثة أو دفع حادثة ... أو قمع آزفة تعيي على القدر
ويح السماح وويح الجود لو سلما ... وحسرة الدين والدنيا على عمر

سقت ثرى الفضل والعباس هامية ... تعزى إليهم سماحاً لا إلى المطر
ثلاثة ما ارتقى النسران حيث رقوا ... وكل ما طار من نسر ولم يطر
ثلاثة كذوات الدهر منذ نأوا ... عني مضى الدهر لم يربع ولم يحر
ومر من كل شيء فيه أطيبه ... حتى التمتع بالآصال والبكر
من للجلال الذي عمت مهابته ... قلوبنا وعيون الأنجم الزهر
أين الإباء الذي أرسوا قواعده ... على دعائم من عز ومن ظفر
أين الوفاء الذي أصفوا شرائعه ... فلم يرد أحد منهم على كدر
كانوا رواسي أرض الله مذ نأوا ... عنها استطارت بمن فيها ولم تقر
كانوا مصابيحها دهراً فمذ خبوا ... هذي الخليقة تالله في سدر
كانوا شجى الدهر فاستهوتهم خدع ... منه بأحلام عاد في خطا الخضر
من لي ولا من بهم إن أظلمت نوب ... ولم يكن ليلها يفضى إلى سحر
من لي ولا من بهم إن طبقت محن ... ولم يكن ورودها يفضي إلى صدر
من لي ولا من بهم إن عطلت سنن ... وأخفيت ألسن الآثار والسير
ويلمه من طلوب الثأر مدركه ... لو أن ديناً على الأيام ذي عسر
على الفضائل إلا الصبر بعدهم ... تسليم مرتقب للأجر منتظر
يرجو عسى وله في أختها طمع ... والدهر ذو عقب شتى وذو غير
قرطت آذان من فيها بفاضحة ... على الحسان حصى الياقوت والدرر
سيارة في أقاصي الأرض قاطعة ... شقاشقاً هذرت في البدو والحضر
مطاعة الأمر في الباب قاضية ... من المسامع ما لم يقض من وطر
ومن الغرباء
عثمن بن عبد الرحمن

بن يحيى بن يغمراسن الدايل بتلمسان، يكنى أبا سعيد.

حاله

كان شيخاً مخيلاً بسمة الخير، متظاهراً بالنسف، بقية آل زيان، متقدماً في باب الدهاء والذكر، بالغاً أقصى المبالغ في ذلك. سكن غرناطة ووادي آش، وولد بغرناطة، وكان أبوه ممن هلك في وقيعة فرتونة، فارتزق مع الجند الغربي بديوانها في حجر أبيه وبعده، ثم ثنى عنانه إلى وطنه، وتخطته المتالف عند تغلب السلطان صاحب المغرب على بلده تلمسان، وغاص في عرض من تهنأ الإبقاء من قبيله. وكان ممن شمله حصار الجزيرة، ووصل قبله ممداً مع الجيش الغربي بجيش غرناطة عند منازلة القلعة. ولما جرت على واترهم السلطان أبي الحسن الهزيمة بظاهر القيروان، وبعد الطمع في انتشاله وجبره، ولحق كل بوطنه، حوم الفل من بني زيان على ضعفهم، ومذ رحل عنه السلطان القايم بملك المغرب أبو عنان، إلى محل الأمر ودار الملك، وسد تلمسان بشيخ من قبيلتهم يعرف بابن حرار، له شهرة وانتفاخ لتنسيق رياح الاختلاف، فذ في إدارة الحيلة، وإحالة قداح السياسة، رأس الركب الحجازي غير ما مرة، وحل من الملوك ألطف محلة. ولما نهد القوم إلى تلمسان، ناهضهم ابن الحرار بمن استركب من جنده، وانضم إليه من قومه، فدارت عليهم الهزيمة، وأحيط به، فتملك البلد، وتحصل في الثقاف، إلى أن هلك به مغتالاً، واستولى عثمن بن يحيى على المدينة، وانقاد إليه ما يرجع إليها من البلاد والقبايل، فثاب لهم ملك لم تكد شعلته تقد حتى خبت، وعلى ذلك فبلغوا في الزمان القريب، من وفور العدة، واستجادة الآلة، وحسن السيرة، ما يقضى منه العجب، وانفرد عثمن بالأمر، وعين أخاه أبا ثابت الزعيم إلى إمارة الجيش، فاستقام الصف، وانضم النشر، وترتبت الألقاب، واستأنفوا الدولة، وتلقفوا الكرة. وقل ما أدبر شيء فأقبل. وبادر السلطان بالأندلس مفاتحته مهنياً، وللحلف مجدداً، بكتاب من أنشائي من فصوله:

بعد الصدر والتحميد، ولا وزايد بفضل الله المرجو في الشدايد، لجميل العوايد، إلا ما شرح الصدور، وأكد السرور، وبسط النفوس، وأضحك الرسن العبوس، من اتساق أمور ذلك الملك لديكم، واجتماع كلمته عليكم، وما تعرفنا أن الدولة الزيانية، وصل الله لبدورها استيناف الكمال، وأعلى أعلامها في هضاب اليمن والإقبال، تذكرت الرسايل القديمة الأذمة، وألقت إلى قومها بالأزمة، وحنت إلى عهدهم على طول النوى، وانشد لسان حالها، نقل فؤادك حيث شئت من الهوى، فأصبح شتيتك بأهلها مجموعاً، وعلم عليائها بأيدي أوليائها مرفوعاً، وملابس اعتزازها بعد ابتزازها جديدة، وظلال سعودها على أغوارها ونجودها مديدة، وقبيلها قد أنجح الله في ائتلافه أمل الآمل، ومبتداها مرفوعاً مع وجود العوامل، والكثير من أوطانها قد سلكت مسلكها في الطاعة، وتبادرت إلى استباق فضيلة الوفاق بحسب الاستطاعة، فعظم الاستبشار بأن كان لكم ما لها، وفي إيالتكم انتيالها، من غير ان يعلق باسبابها من ليس من أربابها، ويطمع في اكتسابها من لم يكن في حسابها. وقلنا موارث وجب، وعاصب حجب، وركب علج من بعد القفول، وشمس طلعت من بعد الأفول، وجيد حلى بعد ما اشتكى العطل، وغريم قضى بعد ما مطل، وطرف تنبه بعد ما سجع، ودرى استقام سيره عقب ما رجع، وقضية انصرف دليلها عن حدود القواطع، وطرحت عليه أشعة السعود السواطع، لا بل عبد أبق لقدر سبق، حتى إذا راجع نهاه، وعذله العقل ونهاه، جنح بعد هجره، إلى كنف من نشأ في حجره. وعلمنا أن الدولة التي عرفنا مكارمها، قد دالت، والغمامة التي شكرنا مواقعها قد انثالت، فجرينا في المسرة ملء الأعنة، وشاركنا في شكر هذه المنة، وأصدرنا إليكم هذا الخطاب مهنياً، وعن الود الكريم والولاء الصميم منبيا، وفي تعزيز ما بين الأسلاف، جدد الله عليهم ملابس الرضوان معيداً مبدياً، وإن تأخر منه الغرض،وقضى بهذا العهد واجبه المفترض، والأعذار واضحة، وأدلتها راجحة، وللضرار أحكام تمضى، والفروض للفوات تقضى، فكيف والاعتقاد الجميل مسير مسكن، والوقت والحمد لله متمكن، وما برحنا في مناط اجتهاد، وترجيح استشهاد، والأخبار يضطرد مفهومها، والألفاظ لا يتخصص عمومها، والأحاديث يجول في متعارضها النظر، ولا يلزم العمل ما لم يصح الخبر. فلما تحققنا الأمر من قصة، وتعاضد قياسه بنصه، لم نقدم على المبادرة عملاً، وبينا لكم من حسن اعتقادنا ما كان مجملا، فليهن تلك الإيالة ما استأنفته من شبابها، وتسربلته من جديد أثوابها، وليستقبل العيش خضراً، والدهر معتذراً، والسعد مسفراً.
وتمادى ملكه من الثامن والعشرين لجمادى الآخرة من عام تسعة وأربعين وسبعماية إلى أن استوسق ملك المغرب للسلطان أبي عنان، واستأثر إليه أبيه، وتحرك إلى منازلة تلمسان في جمادى الآخرة عام ثلاثة وخمسين وسبعماية، وكسر جمعهم، واستولى على ملكهم حسبما يأتي، وبرز إليه سلطانها المذكور، مؤثراً الإصحار على الاجتحار، واللقاء على الانحصار، وكانت بين الفريقين حرب ضروس، ناشب الزيانيون محلات المغرب القتال، بموضع يعرف بإنكاد، على حين غفلة، وبين يدي شروع في تنقل وسكون، وتفرق من الحامية في ارتداد الخلا، وابتغاء الماء، فلم يرع إلا إطلال الرايات، وطلوع نواصي الخيل، فوقع الصراخ، وعلا النداء، وارتفع القتام، وبادر السلطان بمن معه من الخالصة، وروم الركاب الصدمة، ومضى قدماً، وقد طاش الخبر بهزيمته، وفعاثت العربان في محلته، وكانوا على الأموال أعدى من عدوه، وفر الكثير إلى جهة المغرب بسوء الأحدوثة.

ولما تقاربت الوجوه، وصدق المصاع، قذف الله في قلوب الزيانيين الرعب، واستولى عليهم الإدبار، فانهزموا أقبح هزيمة، وتفرقوا شذر مذر، واختفى سلطانهم عثمن المترجم به، وذهب متنكراً وقد ترجل، فعثر عليه من الغد، وأوتي به فشد وثاقه، وأسرع السلطان اللحاق بتلمسان، وقد تلقاه أهلها معلنين بطاعته. ولائذين بجناب عفوه، وتنكبها الجيش المفلول، لنظر الأمير أبي ثابت، فاستفر بأحواز جزاير بني مزغناي. ودخل السلطان تلمسان في يوم الأحد، الحادي عشر من ربيع الأول عام ثلاثة وخمسين وسبعماية، وتدامر بنو مرين، واستدركوا دحض الوصمة في اتباع أضدادهم المحروبين، فكان اللقاء بينهم، وبين الجيش المفلول وحكم الله باستيصالهم، فمضى عليهم السيف،وأوتي بزعيمهم الزعيم، فاحتمل مع أخيه في لمة من أوليائهم، ونفذ الأمر لأقتالهم من بني حرار بأخذ حقهم، فقتل عثمن والزعيم رحمهما الله بخارج تلمسان ذبحاً، وألحق بهما عميد الدولة يحيى بن داود، بعد أن استحضر عثمن بين يدي السلطان، واسمع تأنيباً، حسن عنه دوابه، بما دل على ثبات وصبر. وانقضى أمر كرتهم الثانية، وخلت منهم الأوطان، وخلصت لبني مرين الجهة،وصفت العمالة. والله يعطي ملكه من شاء سبحانه لا إله إلا هو، وكان مقتل عثمن وأخيه في أوايل شهر ربيع الآخر عام ثلاثة وخمسين وسبعماية.
علي بن حمود

بن ميمون بن حمود بن علي بن عبيد الله بن إدريس بن إدريس بن عبد الله بن

حسن بن علي بن أبي طالب.
أول ملوك بني هاشم بالأندلس، يكنى أبا الحسن، ويلقب من الألقاب السلطانية، بالناصر لدين الله.
حالهكان شهماً لبيباً، جريء اللقاء، باطش السيف، شديد السطوة، أسمر، أعين، نحيف الجسم، طويل القامة، حاد الذهن، من أولي الحزم والعزم.
خلافتهذكروا أن هشام بن الحكم، لما ضيق به الحجر، كتب إليه في السر بعهد ولايته، وأهله للأخذ بثاره، فكان كذلك، وأجاز البحر من سبتة، مظهراً القيام بنصر هشام عندما خلع، فانحاش غليه كثير من الناس، وقصد قرطبة، وبرز إليه الخليفة سليمن خالع هشام ومغتاله، فظهر عليه علي بن حمود وهزمه، ودخل قرطبة، فقتل سليمن، وبحث عن هشام، وقد فات فيه الأمر، وتسمى بأمير المؤمنين. وأنس به أهل قرطبة، لقهره من كان لنظره من البرارة، وإمضاء الأحكام عليهم. قال المؤرخ، فبرقت للعدل يومئذ بارقة، لم تكد تقد حتى خبت. وكان الأغلب عليه السخاء والشجاعة.
ومدحه الكثير من الشعراء، منهم أبو عمر بن دراج، وفيه يقول:
لعلك يا شمس عند الأصيل ... تحن بشجو الغريب الذليل
فكوني شفيعي إلى أين الشفيع ... وكوني رسولي إلى أين الرسول
فأما شهدت فأزكى شهيد ... وأما دللت فأهدى دليل
إلى الهاشمي إلى الطالبي ... إلى الفاطمي العطوف الوصول
وصوله إلى إلبيرةقل، ولما استوسق الأمر، واضطرب عليه خيران صاحب ألمرية، أغراه وأذن لحربه، فخرج من قرطبة يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من جمادى الآخرة من سنة ثمان وأربع ماية، وسار إلى أن بلغ وادي آش، وتردفت عليه الأمطار والسيول، وانصرف إلى إلبيرة ثم إلى قرطبة.
وفاتهقال المؤرخ، وفي سنة ثمان وأربعماية كان مقتل علي بن حمود، وذلك أن صقالبته قتلوه بموضع أمنه. في حمام قصره، وكانوا ثلاثة من أغمار صبيان قصره، منهم نجح وصاحباه، وسدوا باب الحمام عليه، وتسللوا، ولم يحس أحد بهم، واستطال نساؤه بقاءه، فدخلوا عليه، ودمه يسيل فصح خبر مقتله، وبعثت زناتة إلى أخيه بإشبيلية، فخاف أن يكون حيلة، حتى كشف عن الأمر، ولحق بقرطبة، فأخرج جسده، وصلى عليه، وأنفذه إلى سبتة، فدفن بها، وبني عليه مسجد هو الآن بسوق الكتان، وقبض من قاتليه على صبيين عذبا بأنواع العذاب، ثم قتلا وصلبا.
علي بن يوسف

بن تاشفين بن توحرت

وينظر اتصال نسبه في اسم أبيه هو أمير المسلمين بالعدوة والأندلس بعد أبيه، يكنى أبا الحسن، تصير إليه الملك بالعهد من أبيه عام سبعة وتسعين وأربعمائة، ثم ولى أمره يوم وفاته وهو يوم الإثنين مستهل محرم عام خمسماية.
حاله

وكان ملكاً عظيماً علي الهمة رفيع القدر، فسيح المعرفة شهير الحلم، عظيم السياسة، أنفذ الحق، واستظهر بالأزكياء، ووالى الغزو، وسد الثغور، إلى أن دهمه من أمر الدولة الموحدية ما دهمه، وكل شيء إلى مدى، فأمهل السرح، وحالف الإدبار، وجاز إلى الأندلس، وغزا فيها بنفسه، ودخل غرناطة وباشرها.
قال ابن عذارى، تقدم الأمير أبو الحسن لذلك فاستعان بالله واستنجده وسأله حسن الكفاية فيما قلده، فوجده ملكاً مؤسساً، وجنداً مجنداً، وسلطاناً قاهراً، ومالاً وافراً، فاقتفى إثر أبيه، وسلك سبيله، في عضد الحق، وإنصاف المظلوم، وأمن الخائف، وقمع المظالم، وسد الثغور، ونكاية العدو، فلم يعدم التوفيق في أعماله، والتسديد في حسن أفعاله.
دخوله غرناطةوفي سنة خمس وخمسماية، جاز البحر إلى الجهاد. قال المؤرخ، قدم علي بن يوسف غرناطة مرات مع أبيه. وفي سنة خمس وخمسماية تلوم بها ريثما تلاحقت حشوده، وتأهبت مطوعته وجنوده، فافتتح مدينة طلبيرة عنوة ثم عبر البحر عام أحد عشر وخمسماية، فغزى قولمرية.
ظهور الموحدين في أيامهقال ابن عذارى، في سنة أربع عشرة وخمسماية، كان ابتداء أمر الثاير على الدولة، الجالب للفتن الجمة، الجار لها منذ ثلاثين سنة، حتى أقفر المعمور، وأصار الضياء كالديجور، محمد بن ترمرت السوسي الملقب بالمهدي. قلت، وأخباره عجيبة، وما زال أمره في ظهور، وأمر هذه الدولة، في ثبار وإدبار، إلى أن محا رسومها، وقطع دابرها، والملك لله، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، سبحانه.
وفاتهقال، وفي سنة سبع وثلاثين وخمسماية، توفي أمير المسلمين علي ابن يوسف، لسبع خلون من رجب، ولم يشهر موته إلا لخمس خلون من شوال، فكانت مدته من حين قدمه أبوه، تسعاً وثلاثين سنة واشهراً. وعمره إحدى وستون سنة، قال ابن حماد، ولما يئس من نفسه، عهد أن يدفن بين قبور المسلمين، ودفن بها في جملتهم، رحمه الله.
الأعيان والوزراء والأماثل والكبرا

عتيق بن زكريا

بن مول التحبيبي

قرطبي الأصل، يمت إلى الإمارة النصرية بقربى صهر، يكنى أبا بكر.
حالهكان شهماً جرياً مقداماً، جهورياً، ذا أنفة وشارة، مليح التجند، ظاهر الرجولية، معروف الحق، نبيه الولاية، فصيح اللسان، مطبوعاً، ذكياً، مؤثراً للفكاهة. ولى القيادة بمدينة وادي آش، عقب الريس المنتزى بها، ثم عزل عنها بسعاية رفعت فيه إلى ذي الوزارتين أبي عبد الله ابن الحكيم، فساء ما بينهما لذلك، وأعمل عليه التدبير، بمداخلة الأمير نصر، وإغرايه بالأمر. فتم له التوثب على ملك أخيه، وخلعه يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعماية، وقتل الوزير ابن الحكيم بين يديه، وانتهبت منازله، واستقل بعد بالتدبير والوزارة، وحصل من صنايع الحاين ومتوقعي الضغط، على مال عريض، وقام بوظيف الوزارة محذور الشبا، مرهوب المدية، مسنو الفتكة، فلم ينشب أن عين للرسالة إلى باب السلطان ملك المغرب، وسد باب الإياب لوجهته، وأقام بالعدوة، تحت الحظوة، مشاراً إليه في وجوه الدولة، وزير المداخلة والرتبة. وقد كان في ريان حداثته، لحق بطاغية الروم، وركب في جملته، وعلقته جارية من بنات زعماء الروم، لفضل جماله، وزين شبيبته، ففر بها تحت حماية سيفه، ولحق ببلاد المسلمين، وكانت من أهل الأصالة والجمال، فاتصل بمحلة أمير المسلمين أبي يوسف بن عبد الحق، وكان جاز إلى الأندلس غازياً، فاستخلصت منه لمزية الحسن، واستقرت بقصر السلطان، حظية لطيفة المحل، وجد أثر رفدها وانتفع، هو وبنوه بعايد جاهها، وقد هلك السلطان. وقامت لمن خلفه مقام الأمومة، فنالوا بها دنيا عريضة، وباشر بالمغرب أهوالاً، وخاض في فتن، إلى أن أسن، وقيدته الكبرة، واستولت على بصره الزمانة، ولما ولي الوزارة ولده على عهد سادس الأمراء من بني نصر، استقدمه في ربيع الثاني من عام تسعة وعشرين وسبعماية، فقدم شيخاً، قد استثن أديمه واحقوقب، ومسحة الظرف واللوذعية، تتعلق منه بطلل بايد. ثم اقتضى تقلص ظل الولاية عن ولده، انصرف جميعهم إلى العدوة، فكان ذلك في رجب أو أول شعبان من العام، وبها هلك.
وفاتهتوفي بمدينة فاس رابع محرم عام ثلاثين وسبعماية. وكان كثيراً يتمثل بقول الشاعر:

نصحت فلم أفلح وخانوا فأفلحوا ... فأنزلني نصحي بدار هوان
فإن عشت لم أنصح وإن مت فالعنوا ... دون النصح من بعدي بكل لسان
أخبرني بذلك شيخنا أبو الحسن بن الجياب وغيره.
عمر بن يحيى بن محلى البطوييكنى أبا علي
حالهكان يمت إلى السلطان ملك المغرب رحمه الله، بالخؤولة، وله جرأة وجرم واضطلاع بالمهمة، إلى نكراء وخفوف إلى الفتنة، واستسهال العظيمة، ولما تصيرت مالقة إلى إيالة السلطان أمير المسلمين أبي يوسف بن عبد الحق من قبل رؤسايها من بني إشقيلولة، استظهر عليها من عمر هذا بحجاج رجاله، وقدمه بقصبتها، وجعل لنظره جيشاً أخشن، يقوده رجل من كبار وصفانه. وداخل السلطان ثاني الملوك من آل نصر، عمر بن محلى هذا بوساطة أخيه طلحة السابق إلى إيالته، فأحكم بينهما صرف مالقة إليه، وانتقال عمر إلى خدمته، معوضاً عن ذلك بمال له بال، مسلماً إليه حصن شلوبانية، ولأخيه طلحة مدينة المنكب، على أرزاق مقررة، وأحوال مرتبة مقدرة. فتم ذلك، وتحمل ثقات السلطان بقصبة مالقة ليلاً مع عمر، واستدعي للغداة قايد الجيش ومثله من الوجوه، مورياً بمعارضتهم، فسقط الغشاء بهم على سرحان، وأخذهم اعتقاله، رهينة استخلص بها من كان من عياله بالعدوة، وجاء بها جلواة عارية، أعربت عن لؤمه وخبث أمانته، وانتقل له موفى له بعهده، فحل بحصن شلوبانية منتصف عام سبعة وستني وسبعماية، حسبما كتب لي بعض الشيوخ من مسني بقية أهله، واحتل أخوه طلحة بمدينة المنكب، ولم يلبث أن خرج عنها للسلطان معوضاً بالمال، وأعمل الانصراف إلى الحج. وأقام عمر بشلوبانية وما يليها من العمالة، مظهراً للطاعة تمام العام المذكور، وفسد ما بينه وبين السلطان المذكور، وظهر الخلاف وأخيفت الطرق،وتحرك السلطان إلى منازلته لأشهر ثلاثة من خلافه، وحاصره أياماص شد فيها منخقه، فلما رأى عزمه، خاطب سلطانه، الذي نزع عنه أمير المسلمين أبا يوسف، وعرض الحصن عليه، فبادر إليه بالأسطول، فلما احتل بمرسى حصنه، واتصلت به يده، ونشرت عنده بنوده، أفرج عنه السلطان، وأنبت طعمه فيه، وصرف وجهه إلى حضرته، وبدا لعمر في أمره، فصرف الأسطول متعللاً ببعض الأعذار، وأقام على سبيله، واتصل ذلك بالسلطان، فرتب عليه الحصن، وضيق السبل، وتحرك في صايفة العام إلى منازلته في عدة عظيمة، وحاصره ورماه بالمجانيق، وتتبع بها مجاثمه، فأعياه الصبر،وأعمل الحيلة بإظهار الإنابة، وعرض على السلطان التخلي عن الحصن، وطلب منه أن يوجه لقبضه وزيره، وأحظى الرؤساء لديه، وصاحب بنده، فوجههم السلطان في طايفة من حاشيتهم، وقد أكمن لهم عمر بمعرجات الطريق، بين يدي باب القلعة. فلما توسطوا الكمنا، وبرز عمر ليسلم عليهم، ثار بهم رجاله الأسودة وغيرهم، وقبضوا عليهم بمرأى من السلطان، وأدخلوهم الحصن وعاد السلطان إلى قتاله، فتوعد بقتلهم، وجعلهم بأعلى السور، ورمى عليه بحجر، فطرح أحدهم الحين، وعلا صراخهم يسترحمون السلطان، فكف عنه، وانصرف مكظوماً. ولأيام وقعت المهادنة على تخليه عن شلوبانية في جملة شروط صعبة، منها العقد له على بنت السلطان المسماة بشمس، وانتقاله إلى مدينة المنكب، فتم ذلك في وسط ثمانية وستين بعده، وتمادت المهادنة شهوراً أربعة، ثم ثاب خلافه، وضيقت عليه الحصص المرتبة، وخرج للسلطان عن منكب على مال وعهد، وصرف بعد وجهه إلى سلطانه، وتطارح عليه، وهو بجزيرة طريف،بعد أن أخذ أمانه، زعموا، وقد كان أخوه طلحة سبق إليه، فاعتقل يسيراً. ثم حل اعتقاله إيثاراً للعفة، ورعياً للمتات. ولما توفي السلطان أبو يوسف، اضطره حاله، وآل أمره إلى العود إلى الأندلس، وبها الأشياخ من بني عبد الله بن عبد الحق، مطالبو أبيه بدم عمهم، سبقوا مقدمه على السلطان بإيعاز منه، وقد نزل بقرية أرملة على وادي أفلم، واعتصم منهم ببرج فقاتلوه واستنزلوه فقتلوه، فانقضى أمره على هذه الوتيرة، والبقاء لله سبحانه
عامر بن عثمن

بن إدريس بن عبد الحق

شيخ الغزاة بالأندلس، وابن شيخها، يكنى أبا ثابت، أجري مجرى الأصليين لولادته بالأندلس أوليته. تأتي في اسم أبيه.
حاله

كان رييساً جليلاً، فذاً في الكفاية والإدراك، نسيج وحده في الدهاء والنكراء، مشاراً إليه في سعة الصدر، ووفور العقل، وانفساح الذرع. وبعد الغور، باسلاً مقداماً، صعب الشكيمة على الهمة، لين الكلمة، ريش جناح العز، وافر أسباب الرياسة، مجرباً، محتنكاً، عارفاً بلسان قومه وأغراضهم. جاعلاً جفوات أخلاقهم دبر أذنه، مهيباً على دماثة وإلحاح سقام. تولى الأمر بعد أبيه فقام به أحمد قيام، مسلماً لبقية من مسني القرابة وأكابر الإخوة، اعترافاً بالفضل، وإيثاراً لمزية العتاقة على الهجنة، فحل أرفع المحال. وتبنك على حال الضنا نعيماً، وغزا غزوات شهيرة، إلى أن تناسى الأمر، وكبا بهم الجد، وحملهم قرب مخيفهم بالثارالمنيم ملك المغرب، لما اقتحم فرضة المجاز إلى الجهاد على المبايتة ومراسلة الطاغية، فساءت القالة، وفسد ما بينهم وبين سلطانهم، وأعمل عليهم التدبير.
نكبته

ثبت في الكتاب المسمى بطرفة العصر: ولما تتصلت ليدي المسلمين، وفصل أميرهم من ملك المغرب، تنمر أضدادهم النماوؤون له المعاندون قدرة الله فيه، المتهيئون إلى القاصمة بمشاحنته، فأظهروا النفور والحذر،وكانوو قد داخلوا ملك قشتالة وواعدوه اللحاق به، إن راعهم رايع، ووصلتهم مخاطبته بقبولهم. فلما تخلف المسلمون عنا للحاق به، نسب لهم الفشل والتكاسل، فانطلقت الألسن، ولمت القلوب، وتشوف إلى الفتك بهم، وهم عصابة بأسها شديد، أشهروا فروسية ونجدة وأتباعاً، فعظم الخطب، وأعملت الشورى في أمرهم، وصرفت الحيل إلى كف عاديتهم، ومعالجة أمرهم، فتم ذلك. ولما كان يوم السبت التاسع والعشرون من ربيع الأول، قعد لهم السلطان على عادته، ووجه عنهم في غرض الاستشارة في حال السفر إلى إمداد ملك المغرب، وقد عبر ونازل جزيرة طريف،وفاوضهم فيما عليه الناس من إنكار التلوم، ثم قام السلطان من مجلسه، وثارت بهم الرجال، فأحيط بهم، ونزعت سيوفهم عن عواتقهم، وطارت الخيل في ضم من شذ عنهم، فتقبض على طايفة من أعلامهم، كانوا بين غر يباشر قنصاً، أو مفلت لم يجد مهرباً، وطارت الكتب إلى مالقة في شأن من بها منهم، فشملهم الاعتقال، ثم نقلوا إلى مدينة المنكب، فجعلوا في مطبق الأسرى بها، إبلاغاً في النكال، وتناهياً في المثلة، فلم تجر عليهم مصيبة أعظم منها، لاضطرارهم إلى قضاء حاجة الإنسان برأي عين من أخيه، خطة خسف سيموها، مع العلم بنفور نفوسهم عن مثلها، وفيهم صدور البيت وأعلامه، كأبي ثابت المترجم به، وأخيه كبيره إبراهيم، وابن عمهم زين المواكب، وقريع السيوف، وعروس الخيل، حمو بن عبد الله، وسواهم، وقانا الله شر الهلكات، وأشرأب مخيفهم للسلطان صاحب المغرب،وولى الثرة، إلى صرفهم إليه، وقد استوجب من ملك الأندلس الملاطفة لالتفاته لسيئ البرد، واقتحامه باب القطر. وأخفق السعي، وضن بهم موقع النقمة عن إسلامهم إليه، سيرة أحسنها في جنسهم من أولى الجهالف، فأجلاهم عما قريب في البحر إلى إفريقية، فاستقروا ببجاية، ثم استقدموا إلى تونس تحت إرصاد ورقبة، وأخفر فيهم ملكها الذمة، وهم لديه، فوجههم على بعد الدار، ونزوح المزار، إلى السلطان صاحب المغرب، مصحبين بشفاعة فيهم، كانت قصارى ما لديه، فاستقروا في الجملة تحت فلاح وكفاية، لا تلفت إليهم عين، ولا يتشبث بذمل حظوتهم أمل. ثم نكبوا بظاهر سبتة نكبة ثقيلة البرك، مغارة البرك الحمل، وأودعوا شر السجون بمدينة مكناسة، فأصبحوا رهن قيود عديدة، ومسلحة مرتبة، جر ذلك عليهم ذرة من القول في باب طموحهم إلى الثورة، وعملهم على الانتزاء بسبتة، الله أعلم بحقه من مينه. ولما صير الله ملك المغرب إلى السلطان، أمير المؤمنين أبي عنان، واضطره الحال إلى الاستظهار بمثلهم، انتشلهم من النكبة، وجبرهم بعد الصدعة، وأعلق يد كبيرهم المترجم به بعروة العزة، واستعان بآرائه على افتراع الهضبة، فألفى منه نقاباً قد هذبته التجربة، وأرهقته المحنة، وأخلصته الصنيعة، فسل منه سيفاً على أعدايه، وزعموا أنه انقاد إلى هوى نفسه، واستفزته قوة الثرة، ولذة التشفي، وذهب إلى أن يكل للسلطان ناكبه. المجاراة صاعا بصاع، فانتدب إلى ضبط ما بالأندلس من عمالة راجعة إلى ملك المغرب، فانقلب يجر وراءه الجيش، ويجنب القوة، فقطع به عن أمله القاطع بالآمال، وأحانه الله ببعض مراحل طريقه مطعوناً لطفاً من الله به، وبمن استهدف إلى النصب بمجادته. وهو سبحانه مليء بالمغفرة عن المسرفين، سبحانه
وفاتهفي الأخريات من عام تسعة وأربعين وسبعماية.
علي بن بدر الدين

بن موسى بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق

يكنى أبا الحسن.
حاله

هذا الرجل نسيج وحده في الفضل والتخلق، والوفاء، ونصح الجيب، وسلامة الصدر، وحسن الخلق، راجح العقل، سري الهمة، جميل اللقاء، رفيع البزة، كريم الخصال، يكتب ويشعر، ويحفظ ويطالع غرايب الفنون، صادق الموقف، معروف البسالة، ملوكي الصلات، غزل، كثير الفكاهة، على تيقور وحشمة، قدمه السلطان شيخ الغزاة بمدينة وادي آش، فلما وقعت به المحنة، وركب الليل مفلتاً إليها. اتفق لقاؤه إياه صباحاً على أميال منها، وجاء به، وأدخله المدينة على حين غفلة من أهلها، فاستقر بقصبتها وما كاد، وأخذ له صفقة أهلها، وشمر في الذب عنه تشميراً نبا فيه سمعه عن المصانعة، ودهيه عن الجملة، وكفه عن قبول الأعواض، فلم يلف فيه العدو مغمزاً، ولا المكيدة معجماً، ولا استأثر عنه بشيء مما لديه، إلى أن كان انتقال السلطان عنها إلى المغرب، فتبعه مشيعاً إلى مأمنه، فتركها غريبة في الوفاء، شاع خبرها وتعوطي حديثها، على حين نكر المعروف، وجحدت الحقوق، وأخوت بروق الأمل. ثم قلق المتغلب على الدولة بمكانه، فصرفه إلى العدوة الغربية، فاستقرت به الدار هنالك، في أوايل عام ثلاثة وستين أو أواخر العام قبله.
وخاطبته من مدينة سلا لمكان الود الذي بيني وبينه بما نصه:
يا جملة الفضل والوفا ... ما بمعاليك من خفاء
عندي بالود فيك عقد ... صححه الدهر باكتفاء
ما كنت أقضي علاك حقاً ... لو جيت مدحاً بكل فاء
فأول وجه القبول عذري ... وجنب الشك في صفاء
سيدي، الذي هو فضل جنسه، ومزية يومه على أمسه، فإن افتخر الدين من الله ببدره، أفتخر منه بشمسه، رحلت عن المنشأ والقرارة، ومحل الصبوة والغرارة، فلم تتعلق نفسي بذخيرة، ولا عهد حيرة خيرة، كتعلقها بتلك الذات، التي لطفت لطافة الراح، واشتملت بالمجد الصراح، شفقة أن تصيبها معرة، والله يقيها ويحفظها ويبقيها، إذ الفضايل في الأزمان الرذلة غوامل، والضد عن ضده منحرف بالطبع ومايل. فلما تعرفت خلاص سيدي من ذلك الوطن، وإلقاه وراء الفرضة بالعطن، لم تبق لي تعلة، ولا أجرضتني علة، ولا أتي جمعي من قلة. فكتبت أهنئ نفسي الثانية، بعد هناء نفسي الأولى، وأعترف للزمن باليد الطولى، بالحمد لله الذي جمع الشمل بعد شتاته، وأحيا الأنس بعد مماته، سبحانه لا مبدل لكلماته، وإياه أسئل أن يجعل العصمة حظ سيدي ونصيبه، فلا يستطيع حادث أن يصيبه، وأنا أحدج عن بث كمين، ونصح أنابه قمين، بعد أن أسبر غوره، وأخبر طوره، وأرصد دوره، فإن كان له في التفريق أمل، وفي ركب الحجاز ناقة وجمل، والرأي فيه، قد نجحت منه نية وعمل، فقد غني عن عوف والبقرات، بأزكى الثمرات، وأطفأ هذه الجمرات برمي الجمرات، وتأنس بوصل السري، ووصال السراه، وأناله إن رضي أرضى مرافق، ولو أغري به خافق، وإن كان على السكون بناؤه، وانصرف إلى الإقامة اعتناؤه، فأمر له ما بعده، والله يحفظ من الغير سعده. والحق أن تحذف الأبهة وتختصر، وتحفظ اللسان وبغيض البصر، وينخرط في الغمار، ويخلى عن المضمار، ويجعل من المحظور مداخلة من لا خلاق له، ممن لا يقبل الله قوله ولا عمله، فلا يكتم سراً، ولا يتطرق من الرجولة زمراً، ورفض الصحبة زمام السلامة، وترك النجاة علامة، وأما حالي فما علمتم ملازم كن، ومبهوظ تجربة وسن، أزجي الأيام، وأروم بعد التفرق الالتئام، خالي اليد، مالي القلب والخلد، بفضل الواحد الصمد، عامل على الرحلة الحجازية التي أختارها لكم ولنفسين وآمل في التماس الإعانة عليها يومي بأمسي، أوجب ما قررته لكم ما أنتم أعلم به من ود قررته الأيام والشهور، والخلوص المشهور، وما أطلت في شيء عند قدومي على هذا الباب الكريم، إطالتي فيما يختص بكم من موالاته. وبذل مجهود القول والعمل في مرضاته. وأما ذكركم في هذه الأوضاع، فهو مما يقر عين المجادة، والوظيفة التي تنافس فيها أولو السيادة. والله يصل بقاءكم، وييسر لقاءكم والسلام.

وهذا الفاضل ممن جال فيه لاختيار الإمارة أيام مقامه بالعدوة الغربية، لذياع فضله، وكرم خلاله. وقفل إلى الأندلس، عند رجوع الدولة، فجنى ثمرة ما أسلفه، وقدم شيخ الغزاة بمالقة. ثم نقل إلى التي لا فوقها، من تقديمه شيخ الغزاة بحضرته، منة لا على ميادين حظوته، مقطعاً جانب تجلته، فبلى الناس على عهد ولايته الفتوح الهنية، والنعم السنية. ولما قفل السلطان أيده الله، من فتح قاعدة جيان، أصابه مرض، توفي منه في ثالث صفر من عام تسعة وستين وسبعماية. فتأثر الناس لفقده، لما بلوه من يمن طائره، وحسن موارده، ومصادره. وكان قد صدر ه المنشور الكريم، من إملائي، بما ينظر في اسم المؤلف، في آخر هذا الديوان.
علي بن مسعود

بن علي بن أحمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مسعود المحاربي

الوزير، يكنى أبا الحسن.
حالهكان من أعيان أهل الحضرة، وذوي الهيآت والنباهة من بيوتها، أيدا، حسن الشكل، جهير الصوت، فصيح اللسان، ثرثاره، جيد الخط، حلو الدعابة، طيب النفس، لبقاً، ذكياً، أديباً، فاضلاً، لوذعياً، مدركاً. وزر للسلطان أبي الوليد، نزع إليه لما دعا إلى نفسه بمالقة من إيالة مخدوعه بعد اصطناعه، وصرف وجهته إلى جهته، فتغلب على هواه، وأشركه في الوزارة، مع القايد الوزير أبي عبد الله بن أبي الفتح الفهري، وقد مر ذكره، فأبر عليه بمزيد المعرفة بالأمور الاشتغالية، وجماح عنان اللسان والجرأة، في أبواب المداخلات الوزارية. فلم يزل يضم أذيال الخطة، ويقلصها عن قسيمه، إلى أن لم يبق له منها إلا الاسم إلى حين وفاته.
وفاتهواستمرت حاله على رسمه من القيام بالوزارة إلى أن فتك بسلطانه قرابته بباب داره كما تقدم في اسم السلطان أبي الوليد في حرف الألف فكر أدراجه وهاج بالباطشين، وسل سيفه، يدافع عنه، فمالت إليه الأيدي، وانصرفت إليه الوجوه، وأصيبت بجراحات مثخنة، أتى عليه مها جرح دماغي لأيام. وعلى ذلك فلم يبرح من سدة السلطان، حتى تعجل ثأره، وشمل السيف قتلته. وأخذ البيعة لولده. وكانت وفاته في السابع والعشرين لشعبان من عام خمسة وعشرين وسبعماية. ودفن بباب إلبيرة. وكان الحفل في جنازته عظيماً، والثناء عليه كثيراً، والرحمة له مستفيضة.
ورثاه شيخنا أبو الحسن بن الجياب رحمه الله بقوله:
أيا زفرتي زيدي ويا عبرتي جودي ... على فاضل الدنيا على ابن مسعود
على الشامخ الأبيات في المجد والعلا ... على السابق الغايات في البأس والجود
على غرة العصر التي جمعت إلى ... مهابة مرغوب طلاقة مودود
على من له في الملك غير منازع ... وزارة ميمون النقيبة محمود
على من إذا عد الكرام فإنه ... بواجب حق الفضل أول معدود
ومن كعلي ذي الشجاعة والرضا ... لإصراخ مذعور وإيواء مطرود
ومن كعلي ذي السماحة والندا ... لإسباغ إنعام وإنجاز موعود
ومن كعلي للوزارة قايماً عليها ... بتصويب عليها وتصعيد
ومن كعلي للإدارة سالكاً لها ... نهج تليين مشوب بتشديد
ومن كعلي للسياسة منفذاً ... أوامر تنفيذ وأحكام توطيد
ومن كعلي في رضا الله حاكماً ... بإنجاد معدوم وإعدام موجود
ومن كعلي واصل الرحم التي ... تمت بتقريب له أو بتبعيد
ومسدي الأيادي البيض بدأ وعودة ... مرددة تمحو دجا الثوب السود
أيا كافي السلطان كل عظيمة ... بآراء تسديد وأعمال تمهيد
ويا حامي الملك المشيد بناؤه ... بصولة محذورة وغرة مقصود
ويا كافل الأيتام يجري عليهم ... جراية نعمى بابها غير مسدود
ذكرتك في نادي الوزارة صادعاً ... بأمر مطاع حكمه غير مردود
كرتك في صدر الكتيبة قائماً ... بخدمة مولى بعد طاعة معبود

ذكرتك في المحراب والليل دامس ... تردد آي الذكر أطيب ترديد
ودمعك مرفض وقلبك واجب ... لخشية يوم بين عينيك مشهود
عفا على الدنيا ولا در درهماً ... فما جمعها إلا رهين بتبديد
فمهما حلت منها لديك مسرة ... ففي إثرها فارقب مرارة تنكيد
ألهفاً على الوجه الجميل معطراً ... بدار البلى رهين الأساود والدود
وعهدي به مستبشراً ومبشراً ... بتفريج مكروب وراحة مجهود
لأظلمت الدنيا علي لفقده ... فها أنا أرعاها بمقلة مرصود
وقلص من ظل الرجا فراقه ... فظل رجائي بعده غير ممدود
وكم سبحت فلك المنا في بحارها ... مواخر فاليوم استوت على الجود
وهون عندي كل خطب مصابه ... فبعد علي لست أبكي لمفقود
ولا أدعي أني وفيت بعهده ... فما بالردى عار فكل امرئ مود
ولا سيما إذا مات ميتة عزة ... بعيداً شهيداً ماضياً غير رعديد
وفياً لمولاه مطيعاً لربه وقد ... بطلت ذعراً رقاب الصناديد
فبشرى له أن فاز حياً وميتاً ... بميتة مفقود وعيشة محسود
عليه سلام الله ما ذر شارق ... وما صدعت ورقاء في فرع أملود
وجادت ثرى اللحد الزكي سحايب ... مجددة الرحمى بأحسن تجديد
علي بن لب

بن محمد بن عبد الملك بن سعيد العنسي

غرناطي، قلعي
حالهكان ظريفاً، مليح الحظ، حار التندير، عيناً من عيون القطر ووزرائه
شعرهحدث أبو الحسن بن سعيد، قال، تمشينا معاً أيام استيلاء النهب والتهدم، على معظم ديار مراكش بالفتنة المتصلة، قال، فانتهينا إلى قصر من قصور أحد كبرايهم، وقد سجدت حيطانه، وتداعت أركانه، وبقايا النهب والأصبغة والمقربسات، تثير الكمد، ولا تبقي جلداً لأحد، فوجدنا على بعضها مكتوباً بفحم:
ولقد مررت على رسوم ديارهم ... فبكيتها والربع قاع صفصف
وذكرت مجرى الجور في عرصاتهم ... فعلمت أن الدهر منهم منصف
فتناول أبو الحسن بياضاً من بقية جيار، وكتب تحتها ما نصه:
لهفي عليهم بعدهم فمثالهم ... بالله قل لي في الورى هل يخلف
من ذا يجيب منادياً لوسيلة ... أم من يجير من الزمان ويعطف
إن جار فيهم واحد من جملة ... كم كان فيهم من كريم ينصف
توفي بمراكش سنة سبع وعشرين وستماية.
علي بن يوسف

بن محمد بن كماشة

القايد والوزير بين القتادة والخرط، يكنى أبا الحسن
أوليته

كان جده من المنتزين ببعض حصون الأندلس، طلياطيه، وخدم طاغية الروم ببعضها، وانخرط في جملته، يشهد بذلك مكتوبات تلقاها بشماله، ووراء ظهره، صانها حافده المترجم به، في خرقة من السرق لا يزال، يعرضها في سبيل الفخر، على من يصل إلى باب السلطان من رسل الروم. ولقد عرضها أيام سفارته إلى ملك قشتالة على وزيره شمويل اللبي اليهودي، وطلب تجديدها، فقال له هذا يتضمن خدمة جدك للسلطان مولاي جد مولاي السلطان بجملة من بلاد المسلمين، وفيها الشكر له والرعاية على ذلك، فاذهب أنت هذا المذهب، الذي ذهبه جدك، يتجدد لك ذلك إن شاء الله، فلما هلك ووري بين مدافن الروم، بعد أن علق زماناً على سور الحصن في وعاء، توفية لشرط لا أحققه الآن، ولحق ولده بباب السلطان، فتفيئوا ظل كفالته، ونشئوا في عداد صبيته، ولما صلحوا للاستعمال، استخدم منهم كبيرهم في العمل، فاستظهر به على حفزه بحمى ألمرية، وما إليها، فأثرى ورآه استغنى، وطالت مدة ولايته، واستعمل أخاه يوسف والد المترجم به، في القيادة، وكان رجلاً مضعوفاً، فاستمرت حاله إلى أن فقد بصره، وجنى عليه شؤم ولده، الجلا شيخاً زمناً. ثم عاد إلى الأندلس فتوفي بها، حسبما يذكر في إسميهما. وكانوا يتبجحون بنسبة إلى معن بن زائدة. طوق جدهم بتلك النسبة، بعض أولي التنفق والكدية، فتعللوا منها بنسيج العناكب، وأكذبوها بالخلق الممقوت، والبخل بفتات القوت، والتعبد لعبدة الطاغوت، إن أكرمكم عند الله أتقاكم.
حالههذا الرجل حسن الشكل، كثير الهشة، جيد الرياش، كثير التعلق والتوسل، لصقت بشجرات الدول سمغته، وثبت بأسبابها قراده، شديد الملاطفة لحجبة الأبواب، والمداخلة لأذيال الأمراء، متصامم على أغراضهم، مكذب لمحسوس جفوتهم، متنفق بالسعاية، متبذل في أسواق الخدمة، يسبق في الطيالس، ويلفظ الزبير، ويصرخ بالإطراء، ويولول بالدعاء، مدل في الأخونة، محكم في نفسه للنادرة التي تضحكهم، بذي مهذار، قليل التصنع، بعيد عن التسمت، أطمع خلق الله وأبخلهم بما لديه، وابعدهم في مهاوي الخسة، أما فلسه فمخزون، وأما خوانه فمحجوب، وأما زاده فممنوع محجور، وأما رفده فمعدوم العين والأثر. وأما ثوبه فحبيس التخت إلى يوم القيامة، قد جعل لكل فصل من فصول معاشه، ونفاضة مخاليه، وسور دوابه مؤنة ما. فالنخالة بينة المصرف، وللسرجين معين الجهة، وفتات المنديل، وقفة على فطور الغد، ودهن الاستصباح جار في التجلة والادخار مجرى دهن البلسان.
أخبارهفي هذا الباب مغربة، ولزمت كعبة المنحسة، وعلق في عنقه طاير الشؤم، فلم تنجح له وجهة، ولا سعدت له حركة، واستقر عند الكاينة على الدولة بباب السلطان بالمغرب، خاطباً في حبل الغادر، المتوثب على الملك، ومعيناً للدهر على الأحب الحق وولي النعمة. ثم بدا له في المقام بالمغرب أمناً واضطراباً. ولما رحل السلطان أبو عبد الله بن نصر المذكور، إلى طلب حقه، وقد أعتبه، سدد به رسم الوزارة في طريقه، كما اضطر صياد إلى صحبة كلب مخابت آماله، ولحقت به المشأمة، وتبر الجد، واشتهر ذلك، فعلقت به الشفقة، إلى أن خاطب السلطان بعض من يهمه أمره بهذه الأبيات:
كماشكم من أجله انكمش السعد ... إذا ما اطرحتم شومه نجز الوعد
ومن لم تكن للسعد في بدء أمره ... مخيلة نجح كيف ترجى له بعد
وتصريفه المشئوم فلتتذكروا ... وما قلت إلا بالتي علمت سعد

واقتضى أمره تبرماً به، أن صرف من رندة، وقد استقر أمره بها رسولاً إلى باب ملك المغرب، لأمور منها استخلاص ولده وإيصاله إليه. فتعذر القصد، وسدت الأبواب، وأزفت بدار المغرب عهد بذ الآزفة، وترىخى مخنق مرسله لخلو دسته منه، فثاب الرجاء وقرب الفتح، وساعد السعد مما طال منه التعجب. ولما بلغ خبر صنع الله، وإفاقة الأيام وجبر السلطان بدخول مالقة في طاعته، لحق به، وقد قلقت به الجوانب، وتنكرت الوجوه، وساءت لطيرته الظنون، فتوفر العزم على صرفه عن الأندلس في أوليات رمضان عام ثلاثة وستين وسبعماية، فقبض عليه، وصرف إلى البلاد الشرقية، وقد شرع في إغراء سلطان قشتالة بالمسلمين، وكان آخر العهد به، وذكروا أنه حج وقفل والعودة تتبعه، والنفوس لمتوقع شومه مكرهة، ورجي أن يكون ماء زمزم، وضوء النقع، أو أن مشاهدته الآثار الكريمة، تصلح ما فسد من حاله، فآب شر إياب ، وربما نبض له شريان من جده، الذي تقدم في خدمة النصارى ذكره. فأجاز البحر إلى ملك برجلونة، فجعل تقبيل كفه، لاستلام الحجر الأسود، وسيلة ثانية، وقربة مزلفة، والقول بفضل وطنه حجة صادقة، ثم قلق لخيبة قصده، وخلو يده، من الزقوم، الذي كان قد احتجنة للمهم من أمره، واستيلاء النحس على بيت سعده، فصرف وجهه المشوم إلى المغرب، فاحتل به، وجعل يطوق كل من اسلف له بدا الذام، ويشيع عنه سوء القيلة، ويجهر في المجتمعات والدكاكين، بكل شنيع من القول، بالغاً في ألفاظ السغيلة، أقصى مبالغ الفحش، لطف الله بنا أجمعين.
عثمن بن إدريس

بن عبد الله بن عبد الحق بن محيو

من قبيل بني مرين، يكنى أبا سعيد، شيخ الغزاة بجزيرة الأندلس على عهده
أوليتهجدج هؤلاء الأقيال الكرام، الذي يشترك فيه الملوك الغر من بني مرين بالعدوة، مع هؤلاء القرابة، المنتبين عنهم أضرار التراث، ودواعي المنافسات، عبد الحق بن محيو، وكان له من الولد إدريس وعثمن وعبد الله ومحمد وأبو يحيى ويعقوب، فكان الملوك بالمغرب من ولد يعقوب، وهؤلاء من ولد عبد الله، وإدريس ويعقوب ورحو. ولما قتل جدهم يعقوب، بيد ابن عمه عبد الحق بن يعقوب، أجفل أخواه ومن معهم، وانتبذوا، واستقروا بتلمسان، بعد أمور يطول شرحها. ثم اجتاز الشيخ أبو سعيد في جملة من اجتاز منهم إلى الأندلس، فنال بها العزة والشهرة.
حاله

كان رجل وقته جلالة وأصالة، ودهاء وشهرة وبسالة، مرمى لاختيار عتاقة وفراهة، واحد الزمن أبهة ورواء. وخلقاً ورجاحة، أيداً، عظيم الكراديس، طوالاً، عريض المنكب، أقنى الأنف، تقع العين منه على أسد عيص، وفحل هجمة، بعيد الصيت، ذائع الشهرة، منجب الولد، يحمي السرح، ويزين الدست. لحق بتلمسان مع زوج أمه وعمهن موسى بن رحو، عندما فروا من الجبل بأحواز ورغة، شاباً كما اجتمع، وأجاز البحر منها، وخدم مرتزقاً بها. ثم عاد إلى العدوة، برضاً من عمه السلطان بها. ثم فر عنه ولحق بالأندلس، واستقر بها،وولى خطة الشياخة العامة، وهي ما هي، من سمو الهضبة، وورود الرزق، وانفساح الإقطاع، فشارك وتبنك النعيم، وأقبل ما استظهر به على ما وراء مدينة سبتة، عند انتظامها في الإيالة النصرية. فشن الغارة، ودعا إلى نفسه، وخلا فطلب النزال، فغلبت غارته أحواز وادي سبو. ثم رجع أدراجه إلى الأندلس، وذمر السلطان أبا الوليد، منفق حظوته على طلب الملك، ففازت به قداحه، واستولى على الجم من ريق دنياه، وسل الكثير من ماله وذخيرته في أبواب من العبادة، والاسترضاء والاستهداء، ولما توفي، تضاعف لطف محله من ولده، إلى أن ساء ما بينه وبين مدبر أمره ابن المحروق، ونفر عنه، مؤاخذاً بألقيات، كانت سلماً إلى تجنبه، يحسب أن الافتقار إليه، يعبد له كل وعث. فاغتنم المذكور نفرته، واستبصر في الانتباذ عنه، مطيعاً دواعي الخور والرهبة، من شؤوب حاله، وأجلى الأمير عن رحيله وولده إلى ساحل ألمرية، موادعاً، مزمعاً الرحيل عن الأندلس، وارتاد الجهات، وراسل الملوك بالعدوة، فكل صم عن ندايه، وسد السبيل إليه، فداخل قوماً من مشيخة حصن أندرش حاضرة وطن الجباية، فاستولى عليه، وانتقل إليه بجملته، وراسل الطاغية، فتحرك إلى منازلة حصن وبرة من الحصون التاكرونية. ففازت به قداحه، واستعدي عم السلطان، وهو الرئيس أبو عبد الله بن فرج ابن نصر من تلمسان، فدعا إليه، وشملت الفتنة، وكانت بنه وبين جيش الحضرة وقايع، تناصف فيها القوم خطتي المساجلة إلى أن نفد فعوهد على التخلي عن الحصن، وصرف أميره إلى متبوئه الأقصى، وانتقاله إلى مدينة وادي آش، ليكون سكنه بها، تحت جرايات مقدرة، وذلك في شهر رمضان ثمانية وعشرين وسبعماية، وعلى تفية ذلك، عدا على منايه أميره، ففتك به، واستقدم الشيخ أبا سعيد فأعاده إلى محله، واستمرت على ذلك حياته إلى مدة حياته، إلى أن توفي في أخريات أيامه.
وفاتهولما نزل العدو ثغر أطيبة، ونهض جيش المسلمين إلى مضايقته، أصابه المر ض. ولما أشفي ونقل إلى مالقة، فكانت بها وفاته يوم الأحد ثاني ذي حجة من عام ثلاثين وسبعماية عن سن عالة تنيف على الثمانين سنة، ونقل إلى غرناطة، فووري بها، وبنيت عليه بنية ضخمة، وصار أمره إلى ولده، ونقش على قبره في الرخام: هذا قبر شيخ الحماة، وصدر الأبطال الكماة، واحد الجلالة، ليث الإقدام والبسالة، علم الأعلام، حامي ذمار الإسلام، صاحب الكتايب المنصورة، والأفعال المشهورة، والمغازي المسطورة، وإمام الصفوف، القايم بباب الجنة تحت ظلال السيوف، سيف الجهاد، وقاصم الأعاد، وأسد الآساد، العالي الهمم، الثابت القدم، الإمام المجاهد الأرضي، البطل الباسل الأمضى، المقدم، المرحوم، أبي سعيد عثمن، ابن الشيخ الجليل، الإمام الكبير، الأصيل الشهير، المقدس، المرحوم أبي العلاء إدريس، ابن عبد الله بن عبد الحق. كان عمره ثمانياً وتسعين سنة، أنفقه ما بين روحة في سبيل الله، وغدوة، حتى استوفى في المشهور. سبع ماية واثنتين وثلاثين غزوة، وقطع عمره جاهداً مجاهداً، في طاعة الرب، محتسباً في إدارة الحرب، ماضي العزايم في جهاد الكفار، مصادماً من تدفق التيار، وصنع الله له فيهم، من الصنايع الكبار، ما صار ذكره في الأقطار، أشهر من المثل السيار، حتى توفي رحمه الله، وغبار الجهاد طي أثوابه، وهو مراقب لطافية الكفار وأحزابه، فمات على ما عاش عليه، وفي ملحمة الجهاد قبضه الله إليه، واستأثر به، سعيداً مرتضاً، وسيفه على رأس ملك الروم منتضاً، مقدمة قبول وإسعاد، ونتيجة جهاد وجلاد، ودليلاً عن نيته الصالحة، وتجارته الرابحة، فارتجت الأندلس لفقده، أتحفه الله رحمة من عنده، توفي يوم الأحد الثاني لذي الحجة من عام ثلاثين وسبعماية.
القضاة الأصليون

عتيق بن أحمد

بن محمد بن يحيى الغساني

غرناطي، يكنى أبا بكر، ويعرف بابن الفرا، ويعرف عقبة ببني الوادي آشي، وقد مر ذكر ولده أبي الفرج، وينبز بقرنيات.
حالهحدثني أبي رضي الله عنه، وكان صديقاً لأبيه، أنه كان من أهل الجلالة والفضل، حسن السمت، عظيم الوقار، جميل الرواء، فاضلاً، حسن العشرة، وقال القاضي ابن عبد الملك كان جامعاً لفنون من المعارف من معروف الفضل في كل ما يناول من الأمور العلمية، وقيد كثيراً، وعني بالعلم العناية التامة، واستقضي بالمنكب، وعرف في ذلك بالعدالة والنزاهة.
تواليفهصنف نزهة الأبصار في نسب الأنصار، ونظم الحلي في أرجوزة أبي علي، يعني ابن سينا.
شعرهقال ومما نظمته ووجهته به صحبة رسالتين:
يا راكباً يبغي الجناب الأشرفا ... ومناه أن يلقى الكريم المسعفا
عرج بطيبة مرة لترى بها ... علمي قبول رحمة وتعطفا
وإذا حللت بها فقبل تربها ... وارغب جلالهم عسى أن يسعفا
وأسل دموعك رغبة وتضرعاً ... وأطل بها عند التضرع موقفا
واذكر ذنوبك واعترف بعظيمها ... فعسى الذي ترجو له أن يعطفا
واجعل شفيعك إن قصدت عناية ... قبراً تقدس تربة وتشرفا
قبر حوى النور المبين ونوره ... يهدي به سبل السلام من اقتفا
قبر به الهاشمي محمد أبهى ... الأنام سناً وأوفى من وفا
خير الورى علم التقى شمس الهدى المنتقى والمجتبا والمصطفا
سلم عليه وخصه بتحية ... واقرأ عليه من السلام مضاعفا
واذكر هديت أخا البطالة عمره كم نقض العهود وأخلفا
ولكم تيقن بالدليل فماله ... ركب العناد لجاجة وتعسفا
وعصى فأسلم للقطيعة والجوى ... حق على من خان أو لا يعرفا
هل للعفو تنفح نحوه يوماً ... فيضحى بالرضا متعرفا
وأعد حديث مشوق قلب عنده ... من لم يذب شوقاً له ما أنصفا
إخبره عن حبي وطول تشوقي ... تفديك عطفة نفسي مخبراً ومعرفا
وتشك من جاء إليه فإن لي ... نفساً تسوفني المتاب تسوفا
مولده: بغرناطة في ذي حجة خمس وثلاثين وستماية.
وفاتهذكر أنه كان حياً سنة خمس وثمانية وستماية.
علي بن محمد بن توبةيكنى أبا الحسن
حالهكان من العلماء الجلة الفقهاء الفضلاء. ولي قضاء غرناطة لباديس ابن حبوس، وعلى يديه كان عمل منبر جامعها، وكان عمله في شهر ربيع الأول سنة سبع وأربعين وأربعمائة. وكان من قضاة العدل، وإليه تنسب قنطرة القاضي بغرناطة، والمسجد المتصل بها في قبلتها. وكان كاتبه الزاهد أبا إسحق الإلبيري، وفيه يقول:
بعلي بن توبة فاز قدحي ... وسمت همتي على الجوزاء
فهنياً لنا وللدين قاض ... مثله عالم بفضل القضاء
يحسم الأمر بالسياسة والعدل ... كحسم الحسام للأماء
لو أنا سيرناه قال اعترافا ... غلط الواصفون لي بالذكاء
أو رأى أحنف وأكبر منه ... حلمه ما انتموا إلى الحلماء
أو رأى المنصفون بحر نداه ... جعلوا حاتماً من البحر لاء
هو أوفى من الشمول عهداً ... ولما زال مغرماً بالوفاء
وحيا المزن وحيا أخاه ... أهملت كفه بوبل العطاء
يشهد العالمون في كل فن ... أنه كان كالشهاب في العلماء
وقضاة الزمان أرض لديهم ... وهو من فوقهم كمثل السماء
لتعرضت مدحه فكأني ... رمت بحراً مساجلاً بالدلاء
فانا معجم على أن خيلي ... لا تجاري في حلبة الشعراء
لكساني محبراً ثوب فخر ... طال حتى حررته من وراء
ولو أنصفته وذاك قليل ... كان خدي لنعله كالحذاء
فأنا عبده وذاك فخاري ... وجمالي بين الورى وبهاء
وثناء وقف عليه وشكري ... ودعائي له بطول البقاء

علي بن عمر

بن محمد بن مشرق بن محمد بن أضحى بن عبد اللطيف بن الغريب بن يزيد بن

الشمر بن عبد شمس بن الغريب الهمداني
والغريب بن يزيد هو أول مولود ولد للعرب اليمانيين بالأندلس يكنى أبا الحسن.
ولي غرناطة. وكان من أهل العلم والفهم، والمشاركة في الطب، والكفاية الجيدة، والشعر في ذروة همدان، وذوايبهما، حسن الحظ، كريم النفس، جواد بما يماري، عطاياه جزلة، ومواهبة سنية، وخلقه سهلة، كثير البشاشة، مليح الدعابة، موطأ الأكناف، على خلق الأشراف والسادة.
مشيختهروي بألمرية عن القاضي أبي محمد بن سمحون وبه، تفقه. وقرأ الأدب على ابن بقنة، وعلى الإمام الأستاذ أبي الحسن علي بن أحمد بن الباذش، وسمع الحديث على الحافظ أبي بكر بن غالب بن عبد الرحمن ابن عطية وغيره.
شعرهمن شعره يخاطب الوزير ابن أبي ويعتذر إليه، وكان الفقيه أبو جعفر المذكور، قد خاطبه شافعاً في بعض الأعيان، فتلقى شفاعته بالقبول، ثم اعتقد أنه قد جاء مقصراً، فكتب إليه:
ومستشفع عندي بخير الورى ... عندي وأولاهم بالشكر مني وبالحمد
وصلت فلما لم أقم بجزايه ... لففت له رأسي حياء من المجد
وكتب يخاطب أبا نصر بن عبد الله، وقد كان أبو نصر خاطبه قبل ذلك:
أتتني أبا نصر نتيجة خاطر ... سريع كرجع الطرف في الخطرات
فأعربت عن وجد كمين طويته ... بأهيف طاو فاتر اللحظات
غزال أحم المقلتين عرفته ... نحيف مني للحسن أو عرفات
رماك فأصمى والقلوب رمية ... لكل كحيل الطرف ذي فتكات
وظن بأن القلب منك محصب ... فلباك من جنابه بالجمرات
تقرب بالنساك في كل منسك ... وضحى غداة النحر بالمهجات
وكانت له جيان مثوى فأصبحت ... ضلوعك مثواه بكل فلات
يعز علينا أن تهيم فتنطوي ... كبيباً على الأشجان والزفرات
فلو قبلت للناس في الحب فدية ... فديناك بالأموال والبشرات
وخاطب أحد أوليائه شافعاً في رجل طلق امرأته، ثم علقت بها نفسه، فلم تسعفه، وكتب إليه:
ألا أيها السيد المجتبا ... ويا أيها الألمعي العلم
أتتني أبياتك المعجزات ... بما قد حوت من بديع الحكم
ولم أر من قبلها بابلاً ... وقد نفثت سحرها في الكلم
ولكنه الدين لا يشترى ... بنثر ولا بنظام نظم
وكيف أبيح حماً مانعاً ... وكيف أحلل ما قد حرم
ألست أخاف عقاب الإله ... وناراً مؤججة تضطرم
أأصرفها طالقة بتة ... على أنوك قد كعني واجترم
ولو أن ذاك الغبي الخمول ... تثبت في أمري ما ندم
ولكنه طاش مستعجلاً ... فكان أحق الورى بالندم
ومن شعره أيضاً قوله رحمه الله:
يا عليماً بمضمرات القلوب ... أنا عبد مثقل بالذنوب
فاعف عني وتب علي وفرج ... ما أنا فيه من أليم الكروب
حالما أشتكي سواك طبيب ... كيف أشجي به وأنت طبيب
أنا ممن دعا قريب مجيب ... فأرح ما بمهجتي عن قريب
تواليفهقال أبو القاسم بن خلف الغافقي، حدثني عنه الفقيه أبو خالد ابن يزيد بن محمد وغيره بتواليف، منها كتاب قوت النفوس، وأنيس الجليس وهو كتاب حسن، ضمن فيه كثيراً من شمايل النبي عليه الصلاة والسلام.
توفي بغرناطة في سنة أربعين وخمسماية، وهو يحاصر الملثمين بقصبة غرناطة حسبما ثبت في اسم ابن هود أحمد.
ومن الطاريين والغرباء

عثمن بن يحيى

بن محمد بن منظور القيسي

من أهل مالقة، يكنى أبا عمرو، ويعرف بابن منظور، الأستاذ القاضي من بيت بني منظور الإشبيليين أحد بيوت الأندلس المعمور بالنباهة.
حاله

كان رحمه الله صدراً في علماء بلده، أستاذاً ممتعاً من أهل النظر والاجتهاد والتحقيق، ثاقب الذهن، أصيل البحث، مضطلعاً بالمشكلات، مشاركاً في فنون، من فقه وعربية، برز فيهما، إلى أصول وقراءات وطب ومنطق. قرأ كثيراً، ثم تلاحق بالشادين، ثم غبر في وجوه السوابق. قرأ على الأستاذ أبي عبد الله بن الفخار، ولازم الأستاذ أبا محمد بن أبي السداد الباهلي، وتزوج ابنة الفقيه أبي علي بن الحسن، فاستقرت عنده كتب والدها، فاستعان بها على العلم والتبحر في المسايل، وقيد بخطه الكثير، واجتهد وصنف، وأقرأ ببلده، متحرفاً بصناعة التوثيق، فعظم به الانتفاع، وقعد للتدريس خلفاً للراوية أبي عثمن بن عيسى في شوال عام تسعة وسبعماية وولي القضاء ببلش وقمارش، وملتماس، ثم ببلده مالقة، وتوفي قاضياً بها. لقيته، وانتفعت بلقايه، وبلوت منه أحسن الناس خلقاً، وأعذبهم فكاهة.
شعرهوكان قليلاً ما يصدر عنه، كتب على ظهر الكتاب الذي ألفه للوزير أبي بكر بن ذي الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم، مقتدياً بغيره من الأعلام في زمانه:
قد جمع الحكم وفصل الخطاب ... ما ضمه مجموع هذا الكتاب
من أدب غض ومن علية ... تسابقوا للخير في كل باب
فجاء فذاً في العلى والنهى ... ومنتقي صفو لباب اللباب
ألفه الحبر الجليل الذي ... حاز العلا إرثاً وكسباً فطاب
تواليفهألف كتاب اللمع الجدلية في كيفية التحدث في علم العربية. وله تقييد في الفرايض حسن، سماه، بغية المباحث في معرفة مقدمات الموارث، وآخر في المسح على الأنماق الأندلسي.
وفاتهتوفي يوم الثلاثاء الخامس والعشرين لذي حجة من عام خمسة وثلاثين وسبعماية، ولم يخلف بعده مثله.
علي بن أحمد

بن الحسن المذحجي

من أهل حصن ملتماس، وابن وزيره الفقيه الحافظ القاضي، يكنى أبا الحسن، ويعرف بجده.
حالهمن أولي الأصالة والصيانة والتعفف، والعكوف على الخير، والآوين إلى طعمة متوارثة، ونباهة قديمة، صناع اليد، متقن لكل ما يحاوله من تسعير ونجارة، مبذول المودة، مطعم للطعام بدار له معدة للضيفان من فضلاء من تطوه الطريق، ويغشاه من أبناء السبيل. ولي قضاء بلده في نحو عشرين سنة، فحمدت سيرته، ثم ولي قضاء مالقة، فظهرت دربته ومعرفته بالأحكام. فأعفي وعاد إلى ما كان بسبيله من القضاء بموضعه والخطابة.
مشيختهقرأ على الشيخين الصالحين، أبي جعفر بن الزيات، وأبي عبد الله بن الكماد ببلده، بلش، وأخذ عنهما.
تواليفهله أجوبة حسنة في الفقه. وصنف على كتاب البراذعي تصنيفاً حسناً، بلغ فيه إلى آخر رزمة البيوع ثلاثة عشر سفراً، واستمرت على ذلك حاله.
توفي ببلده بلشن في ............. من عام ستة وأربعين وسبعماية.
علي بن عبد الله

بن الحسن الجذامي النباهي المالقي

صاحبنا أبو الحسن.
أوليتهتنظر فيما تقدم من أهل بيته والمذكورين فيه من سلفه.
حالههذا الرجل، ولي قضاء الحضرة، وخطابة جامع السلطان، وعرض له تقزز فيما يقف عليه، من منتخب وصفه، وعدم رضاً بما يجتهد فيه من تحليته، فوكلنا التعريف بخصايصه، إلى ما اشتهر من حميدها، تحرجاً مما يجر عتبه، أو يثير عدم رضاه.
مشيخته

ذكر أنه أخذ عن الشيخ الخطيب أبي بكر الطنجالي، قريب أبيه، والناظر عليه بعده بوصاته. وكان من أهل الدراية والرواية، وعن الشيخ الفقيه أبي القاسم محمد بن أحمد الغساني، شهر بابن حفيد الأمين، وقرأ عليه الفقه والقرآن، وسمع عليه، وتلا على الشيخ الأستاذ المقري أبي محمد بن أيوب، وسمع عليه الكثير. وهو آخر من حدث عن أبي بن أبي الأحوص. وعلى الشيخ المقري أبي القاسم بن يحيى بن محمد بن درهم، وأخذ عن قريبه القاضي، نسيج وحده أبي بكر عبد الله بن بكر الأشعري. ومن أشياخه صهره القاضي الأستاذ أبو عمرو بن منظور، والأستاذ الحافظ المتكلم أبو عبد الله القطان، والصوفي أبي الطاهر محمد ابن صفوان، والقاضي الكاتب أبو القاسم محمد البناء. وصحب الشيخ أبا بكر بن الحكيم، ولازمه وروى عنه. ولقي الخطيب المقري أبا القاسم ابن جزي، وأخذ نسبته عن الشيخ أبي القاسم بن عمران. وبرندة عن القاضي المحدث المقيد أبي الحجاج يوسف المنتشافري. ورحل فلقي بتلمسان عمران أبا موسى المشدالي، وحضر مجلسه، والأخوين الإمامين أبا زيد وأبا موسى ابني الإمام. وبباجة، أبا العباس أحمد بن الرباعي، وأبا عبد الله بن هرون. وبتونس أعلاماً، كقاضي الجماعة أبي عبد الله ابن عبد السلام. قال ومن خطه نقلت، وأجازني من أهل المشرق والمغرب، عالم كثير.
شعرهقال، نظمت مقطوعتين، موطئاً بهما على البيتين المشهورين.
الأولى منهما قولي:
بنفسي من غزلان غزوي وغزالة ... جمال محياها عن النسك زاجر
تصيد بلحظ الطرف من رام صيدها ... ولو أنه النسر الذي هو طاير
معطرة الأنفاس رائقة الحلى ... هواها بقلبي في المهامة ساير
إذا رمت عنها سلوى قال شافع ... من الحب ميعاد السلو المقابر
والأخرى تقول:
وقائلة لما رأت شيب لمتي ... لئن ملت عن سلمى قعذرك ظاهر
زمان التصابي قد مضى لسبيله ... وهل لك بعد الشيب في الحب عاذر
فقلت لها كلا وإن تلف الفتى ... فما لهواها عند مثلي آخر
ستبقى لها في مضمر القلب والحشا ... سريرة ود يوم تبلى السراير
وكتب مع شكل يحذو على النعل الكريم، من شأنه أن يكتب ذلك لكل مزمع سفر:
فديتك لا يهدى إليك أجل من ... حديث نبي الله خاتم رسله
ومن ذلك الباب المثال الذي أتى ... به الأثر المأثور في شأن نعله
ومن فضله مهما يكن عند حامل ... له نال ما يهواه ساعة حمله
ولا سيما إن كان ذا سفر به ... فقد ظفرت يمناه بالأمن كله
فدونك منه أيها العلم الرضا ... مثالاً كريماً لا نظير لمثله
ومن ذلك قوله:
لا تلجأن لمخلوق من الناس ... من يافث كان أصلاً أو من الياس
وثق بربك لا تيأس ترى عجباً ... فلا أضر على عبد من الياس
ومن قوله يمدح السلطان ويصف الإعذار:
أبدى لنا من ضروب الحسن أفنانا ... هذا الزمان لمولانا ابن مولانا
يقول فيها لطف الله بنا وبه:
ولا تحرك لساناً يا أخا ثقة ... بريم رامة إن وفى وإن خانا
يظل ينشر ميت الوجد عن جدث ... من الجفون أو الأحشاء عريانا
ثم قال فيها بعد كثير يرجى عفو الله فيه:
فما النسيب أولى من حديث علا ... عن الإمام ينيل المرء رضوانا
يممه تحظ بما أملت من أمل ... يجنيك للسؤال أفناناً فأفنانا
ومنها في المدح:
ملك يخف لراجيه بنايله ... على وقار يرى كالعين ثملانا
ملك ينص له الآلاء عزته ... على السعادة في الدارين فرقانا
العاطر الذك رترتاح النفوس له ... تخال فيه لها روحاً وريحانا
الساحر المنطق في شتى العلوم ... إذا سألت منه لوجه الرشد هانا
كسا الزمان ثياب الفضل حتى ... قضا عن منكبي صرفه ظلماً وعدوانا
وعظم الشرع حتى أن داعيه ... لا يستطيع له المدعو عصيانا
ومنها في ذكر الإعذار:

لله درك يا مولاي من ملك ... شيدت بالحق للإسلام بنيانا
ولم تبال ببذل المال في غرض ... يعم بالفضل ولداناً وبلدانا
وقمت في الولد الميمون طائره ... بسنة الدين إكمالاً وإتقانا
بدا لنا قمراً ترنو العيون له ... مقلداً من نطاق المجد شعبانا
وقام يسحب أذيال الجمال على ... على بساط ملكك بالإعذار جذلانا
خجلان بالقصور عن بلوغ مداً ... من العلى بل الحسن منه قد بانا
فدته أنفسنا لو كان يقبلها ... منا وكانت على الإبلال قربانا
فيا دماً قد سال عن تقوى فعاد له ... بين الدماء طهوراً طيباً زانا
ولا دليل على الغفلة المعبر عنها بالسلامة والذهول كقوله: وقمت في الولد الميمون طائره. ومن ذلك قوله يخاطب صاح بالعلامة بالمغرب أبا القاسم بن رضوان:
لك الله قلبي في هواك رهين ... وروحي عني إن رحلت ظعين
ملكت بحكم الفضل كلي خالصاً ... وملكك للحر الصريح يزين
فهب لي من نطقي بمقدار ما به ... يترجم سر في الفؤاد دفين
فقد شملتنا من رضاك ملابس ... وسح لنا من نداك معين
أعنت على الدهر الغشوم ولم تزل ... بدنياك في الأمر المهم تعين
وقصر من لم تعلم النفس أنه ... خذول إذا خان الزمان يخون
وإني بحمد الله عنه لفي غنى ... وحسبي صبر عن سواك يصون
أبى لي مجد عن كرام ورثته ... وقوفاً بباب للكرام يهين
ونفسي سمت فوق السماكين همة ... وما كل نفس بالهوان تدين
ولما رأت عيني محياك أقسمت ... بأنك للفعل الجميل ضمين
وعاد لها الأنس الذي كان قد مضى ... برية إذ شرخ الشباب خدين
بحيث نشانا لابسين حلي التقى ... وكل بكل عند ذاك ضنين
وفتيان صدق كالشموس وكالحيا ... حديثهم ما شئت عنه يكون
لئن نزحت تلك الديار فوجدنا ... عليها له بين الضلوع أنين
إذا مر حين زاده الشوق جدة ... وليس يعاب للربوع حنين
لقد عبثت أيدي الزمان بجمعنا ... وحان افتراق لم نخله يحين
وبعد التقينا في محل تغرب ... وكل الذي دون الفراق يهون
فقابلت بالفضل الذي أنت أهله ... ومالك في حسن الصنيع قرين
وغبت وما غابت مكارمك التي ... على شكرها الرب العظيم يعين
يميناً لفد أوليتنا منك نعمة ... تلذ بها عند العيان عيون
ويقصر عنها الوصف إذ هي كلها ... لها وجه حر بالحياء مصون
ولما قدمت الآن زاد سرورنا ... ومقدمك الأسنى بذاك قمين
لأنك أنت الروح منا وكلنا ... جسوم فعند البعد كيف تكون
ولو كان قدر الحب فيك لقاؤنا ... إليك لكنا باللزوم ندين
ولكن قصدنا راحة المجد دوننا ... فراحته شمل الجميع تصون
هنيئاً هنيئاً أيها العلم الرضا ... بما لك في طي القلوب كمين
لك الحسن والإحسان والعلم والتقى فحبك دنيا للمحب ودين
وكم لك في دار الخلافة من يد ... أقرت لها بالصدق منك مرين
وقامت عليها للملوك أدلة ... فأنت لديها ما حييت مكين
فلا وجه إلا وهو بالبشر مقبل ... ولا نطق إلا عن علاك مبين
بقيت لربع الفضل تحمي ذماره ... صحيحاً كما قد صح منك يقين
ودونك يا قطب المعالي بنية ... من الفكر عن حال المحب تبين
أتتك ابن رضوان تمت بودها ... وما لسوى الإغضاء منك ركون
فخل انتقاد البحث عن هفواتها ... ومهد لها بالسمح حيث تكون

وخذها على علاتها فحديثها ... حديث غريب قد عراه سكون
ومن شعره قوله في ليلة الميلاد الكريم سن قصيدة:
خليلي مرا على أرض مأرب ... ولا تعذلاني إنني غير آيب
وهي طويلة أثبتت في الرحلة. فلينظرها هنالك من أراد استيفاء غرضها.
نثرهمن أمثل ما صدر عنه في غرض غريب، وهو وصف نخلة بإزاء باب الحمراء. ونثره كثير، ولكنا اخترنا له ما اختار لنفسه، وأشاد بشفوفه على أبناء جنسه: يا أيها الأخلاء الذين لهم الصنايع، التي تحسدها الغمايم، والبدايع التي تودها بدلاً من أزهارها الكمايم، بقيتم وشملكم جميع، وروض أملكم مريع، والكل منكم للغريب الحسن من الحديث المحب سميع،
بأرض النخل قلبي مستهام ... فكيف يطيب لي عنها المقام
لذاك إذا رأيت لها شبهاً ... أقول وما يصاحبني ملام
ألا يا نخلة من ذات عرق ... عليك ورحمة الله السلام
فسلمت يوماً تسليم المبرة، على مدنها الحرة البرة، جارة حايط الدار، الواقفة للخدمة كالمنار، على سدة الجدار، بياض النهار، وسواد الليل، المتلفعة بشعار الوقار، المكفولة الذيل، أنيسة مشيخة الجماعة، القاطنة من الحمراء العلية، بباب ابن سماعة، فحين عطفت عليها، وصرفت فناءي وفنائها، وقلت لها كيف حالك أيتها الجارة، الساكنة بنجدة الحجارة، الواعظة للقريب والبعيد، بمقامها صامتة على الصعيد.
سقاك من الغر الغوادي مطيرها ... ولا زلت في خضراء خض نظيرها
خلتها اهتزت عند النداء اهتزاز السرور، وتمايلت أكمامها تمايل الثمل المسرور، ثم قالت لسايلها بلسان وسايلها، عند مشاهدة مثلي تقول العرب، عينها فرارها، واينو جدها للناظرين اصفرارها، وجملة بخيتي، بعد إتمام تحيتي، أن الدهر عجم قناتي، ومس الكبر كدر سناتي، وما عسى أن أبث من ثكناتي، وجل علاتي من تركيب ذاتي. ولكني أجد مع ذلك، أن وقاري، حسن لدى الحي احتقاري، وكثرة قناعتي، أثمرت إضاعتي، وكمال قدي، أوجب قدي، فما أنس من الأشياء، لا أنس عدوان جعسوس من لعبوش اليهود أو المجوس، يفحص يمديته عن وريدي، ويحرص على مد جريدي، ويجدع كل عام يخنجره أنفي، وكلما رمت كف إذايته عني، كشم كف، فلو رايتم صعصعة أفناني، وسمعتم عند جذم بناني، قعقعة جناني، والدمع لما جفاني، يفيض من أجفاني، والجعسوس الخبيث المنحوس، قد شد ما حد بأمراسه، ورفعه لبيعه كفره على راسه. بعد الأمر بوضعه على أسنمة القبور، حسبما ثبت في الحديث المشهور، لحملتكم يا

بني اسم وحام على الغيرة وشايج الأرحام، فقد علمتم بنص الأثر، أني عمتكم القديمة، وإن لم أكن لذلك بأهل، فإني لكم اليوم خديمة، أو من ذرية الفريق الموجب، المضروب به المثل يوم السقيفة، لمن رام من أشراف الأندلس أن يكون إذ ذاك خليفة. وخالة أبي كانت النخلة البرشا الكبيرة، التي حادثها الأمير عبد الرحمن بالرصافة القريبة من كورة إلبيرة. فكيف يسهل اليوم عليكم إهمالي، ويجمل لديكم إخمالي، وترك احتمالي، والأيام والحمد لله مساعدة، والملك ملك بني ساعدة. فلما سمعت عتابها، وعلمت أنها قد شدت للمناضلة أقتابها، قلت لها أهلاً بك وسهلاً، ومهلاً عليك أو بهلاً، لقد دسع بعيرك، وعادت بالخيبة عيرك. فليست الحقيقة كالمجاز، ولا دليقية في النيات كالحجاز. هنا جنات من أعناب مرسلة الذيولن مكملة الأطناب، قد طاب استيارها، وحمد اختبارها واختيارها، وعذبت عيون أنهارها، وتفتحت كمايم أزهارها، عن وردها ونرجسها وبهارها، وسرت بطرف محاسنها الرفاق، حتى قلقت منها الشام واليمن والعراق. قد صرت من المنال عشبة، وأصبحت تذلي خالفة، ورذلي بالهم تالفة، لا يجتنى بلحك ولا طلعك، ولا يرتجى نفعك، فالأولى قطعك أو قلعك، وإلا فأين قنوك أو صنوك، أو تمرك أو سبرك، هلا أبقيت يا فسيلة على نفسك، وراعيته صلحة جنسك. ولقد انتهت بك المحارجة إلى ارتكاب ما لا يجوز، وفي علمك أن من أمثال الحكماء، كل هالك عجوز. حسبك بحكم العجز ملامها. وما كان إلا أن نقل مقالي. فقال المتكلم بلسان القالي، أنا أتطوع بالجواب، وعلى الله جزيل الثواب، ليعلم كل سايل، أن تفضيل النخل على العنب، من المسايل التي لا يسع فيها جحد جاحد، وإن كانا أخوين سقيا بماء واحد. وقد جرى مثل هذا الخطاب بين يدي عمر بن الخطاب، فقيل يا بني حتمة، أيهما أطيب، الرطب أم العنب، فقال ليس كالصقر، في رؤوس الرقل، الراسخات في العقل، المطعمات في المحل، تحفة الصايم، ونقلة الصبي القادم، ونزل مريم نت عمران. والنخلة هي التي مثل بها المؤمن من الإنسان، ليس كالزبيب، الذي إن أكلته ضرست، وإن تركته غربت، وكفى بهذه الرواية حجة، لمن أراد سلوك المحجة. وعلى كل تقدير، فقد لزم التفضيل للنخلة على الكرمة، لزوم الصلة للموصول، والنصب للمنادى الممطول، والعجز لكتابي المحصل والمحصول. وكم على ترجيح ذلك من قياس صحيح، ونقل ثابت صريح. قال، واعتذاركم بالمهرمة عن فعل المكرمة لأمة في تلك الطباع كامنة، وسامة للتلف لا للخلف ضامنة. وذكرتم الثمرة والبسرة، والوقت ليس بوقت عسرة، فأذكرتم قول القايل، في بعض المسايل، دعنا من تمرتان وبسرتان أو تمرتين وبسرتين، على الوجهين، المتوجهين في المسلتين، وفس ضمن ذكركم لذلك أدلة صدق على تطلع النفس الفقيرة، للأعراض التافهة الحقيرة، والإمامة العظمى، أجل عندنا وأسمى، من أن تلحظ بعينها تلك الملاحظ، ولواصل لديها مراتبها وأفكارها ببيانه وتبيانه، عمرو بن بحر الجاحظ، إذ هي كافأ الله فضلها، ولا قلص ظلها كالسحاب، نجود بغيثها على الآكام والضراب، ومنابت الشجر من التراب، فضلاً عن الخدمة والأتراب، فليس يضيع مع جميل نظرها، ذو نسب، ولا يجهل في أيامها السعيدة مقدار منتسب إلى حسب. وإن وقعت هفوة صغيرة، أعقبتها حسنة كبيرة، ومنن أثيرة، ونعم كثيرة. ولم لا، وروح أمرها، ومذهب نصرة جمرها، علم السادة للقادة الأكابر، المغرم بجبر كل كسير، وناهيك من به جابر الرازي، ذكر مآثره، بعرف أطيب الطيب. الوزير أبو عبد الله بن الخطيب. والمطلوب منه لهذه الشجرة الثرما، الغريبة الشما، التي أصلها ثابت، وفرعها في السماء، إنما هو يسير بنا، وظهير اعتنا، وخنجر يوما، لعل عباسة أديم دوها أن تذهب. وأكمام كباسة قنوها، أن تفضض بنعيم النضارة ثم تذهب، ويعود إليها شرخ شبابها، وتستحكم صفرة ثيابها، وخضرة جلبابها، وذلك كله بمن اللطيف الخبير، من أسهل العمل على مجد الأمير، وفضل الوزير، إذ هما، دام عزهما، على بينة من أن الإحسان ألقاح، والشكر نتاجه، والثناء إكليل، وهو في الحقيقة تاجه. قال المسلم، ومن يا إخوتي لعلي، بمعارضة الحافظ أبي علي، ولو أني اشتملت شملة النضر بن شميل، وأصبحت أفصح من عامل بن الطفيل، وأخطب من شبيب، وأشعر من حبيب، وجزت من طرق الجدال، منازل نقدة صدور الأبدال. وعلى أنه ما قال إلا حقاً، فبعداً للمرء وسحقاً. ولكني

أقسم عليكم بمقدر الضيا والحلك، ومسخر نجوم الفلك، بإصابة الأعراب، وأصحاب الإغراب، وأرباب فنون الإعراب، ألا ما تأملتم فصول هذه المقالة، وأفتيتم بما يترجح فيها لديكم من نسخ أو فسخ، أو إجادة أو إقالة، فأنتم علماء الكلام، وزعماء كتايب الأقلام، والمراجعات بين شقاشق الرجال، شنشنة معروفة، وطريقة إليها الوجوه في كثير من المخاطبات مصروفة، لا زلتم مذكورين في أهل البيان، مشكورين على بذل الفضل مدى الأحيان. والله سبحانه يجعل التوفيق حاديكم، ونور العلم هاديكم، ومنه نسل جل اسمه، التطهير من كل معابة، والسمح فيما تخلل هذه المقامة من دعابة، والتحية الكريمة مع السلام الطيب المعاد، يعتمد من يقف عليها من الآن إلى يوم المعاد، والرحمات والمسرات والبركات والخيرات، من كاتبها على بن عبد الله بن الحسن، أرشده الله. عليكم بمقدر الضيا والحلك، ومسخر نجوم الفلك، بإصابة الأعراب، وأصحاب الإغراب، وأرباب فنون الإعراب، ألا ما تأملتم فصول هذه المقالة، وأفتيتم بما يترجح فيها لديكم من نسخ أو فسخ، أو إجادة أو إقالة، فأنتم علماء الكلام، وزعماء كتايب الأقلام، والمراجعات بين شقاشق الرجال، شنشنة معروفة، وطريقة إليها الوجوه في كثير من المخاطبات مصروفة، لا زلتم مذكورين في أهل البيان، مشكورين على بذل الفضل مدى الأحيان. والله سبحانه يجعل التوفيق حاديكم، ونور العلم هاديكم، ومنه نسل جل اسمه، التطهير من كل معابة، والسمح فيما تخلل هذه المقامة من دعابة، والتحية الكريمة مع السلام الطيب المعاد، يعتمد من يقف عليها من الآن إلى يوم المعاد، والرحمات والمسرات والبركات والخيرات، من كاتبها على بن عبد الله بن الحسن، أرشده الله.
المقريون والعلماء

علي بن أحمد

بن خلف بن محمد بن الباذش الأنصاري

من أهل غرناطة، يكنى أبا الحسن، الشيخ الأستاذ، إمام الفريضة بجامع غرناطة.
حالهمن الملاحي، أوحد زمانه إتقاناً، ومعرفة، ومشاركة في العلوم، وانفراداً بعلم العربية. وكان حسن الحظ، كثير الكتب، ترك منها بخطه كثيراً جداً، مشاركاً في الحديث، عالماً بأسماء رجاله ونقلته، مع الدين، والفضل، والزهد، والانقباض عن أهل الدنيا، وترك الملابسة لهم.
مشيختهقرأ علي المقري بغرناطة أبي القاسم نعم الخلف بن محمد بن يحيى الأنصاري، وأبي علي الصدفي، وغيرهم ممن يطول ذكرهم. وحدث عنه القاضي أبو الفضل عياض بن موسى، والقاضي أبو محمد بن عطية، والقاضي أبو عبد الله بن عبد الرحيم، والقاضي أبو بكر جابر بن يحيى التغلبي، والقاضي أبو خالد عبد الله بن أبي زمنين، والقاضي أبو الحسن بن أضحى.
تواليفهألف في النحو كتباً كثيرة، منها على كتاب سيبويه، وعلى كتاب المقتضب، وعلى الأصول لابن السراج، وشرح كتاب الإيضاح، وكلامه على كتاب الجمل لأبي القاسم، وكلامه على الكافي لابن النحاس، مع التنبيه على وهمه في نحو مائة موضع، إلى غير ذلك.
شعرهقال أبو القاسم، وله نظم ليس بالكثير. فمن ذلك:
أصبحت تقعد بالهوى وتقوم ... وبه تقرظ معشراً وتديم
تعنيك نفسك فاشتغل بصلاحها ... إنني بغير السقام سقيم
وفاتهتوفي بغرناطة سنة ثمان وعشرين وخمسماية، وصلى عليه إثر صلاة العصر، ابنه الأستاذ أبو جعفر، ودفن بمقبرة باب إلبيرة، وازدحم الناس على نعشه، وكانت جنازته حافلة، وتفجع الناس على قبره. وقبره مشهور، يتبرك به الناس.
علي بن محمد بن دريالمقري الفقيه، الخطيب أبو الحسن، الإمام بجامع غرناطة، أصله من طليطلة.
حاله

كان من خيار الناس وفضلائهم، وأهل المعرفة منهم، عارفاً بإقراء كتاب الله عز وجل، والرواية للحديث. أخذ الناس عنه، وكانت عنده مشاركة، ومسارعة لقضاء الحوايج، والمشي للإصلاح بين الناس، والإشفاق على المساكين، كثير الصدقة، والسعي في فداء الأسرى، والوسائط الجميلة في مهمات الأمور ومشكلاتها. دخل رجل تاجر غريب الميضأة للوضوء، فنسي بها وعاء فيه جملة مال، فتذكر له، فرجع ولم يجده، فسقط مغشياً عليه، فاجتمع عليه الناس، وهو يقول مالي، ووافق خروج الأستاذ أبي الحسن المذكور من الجامع، فسأل عنه، فجالس أذنه، فقال مالك عندي وديعة تركته أنت عندي، وإذا كان بعد صلاة العصر تأخذه. فقام الرجل، فكأنما نشط من عقال، ومشى الخطيب في حينه، إلى مشرف غرناطة ابن مالك، فقال له، إني اشتريت لك قصراً في الجنة، بخمس ماية دنير، وأنا الضامن لذلك، فشكره، وأخبره الخطيب بالقصة، فدفع إليه المال، فدفعه إلى الرجل. وكان الناس لا يتوقفون له في أمر.
مشيختهروى بطليطلة عن أبي عبد الله المقامي، وعن أبي مسلم الضرير المقري، والقاضي أبي الوليد الوقشي، وأخذ عن أبوي على الصدفي والغساني، وعن أبي مروان بن سراج، وابنه سراج.
توفي بغرناطة في رممضان ستة عشرين وخمسماية، وصلى عليه القاضي أبو القاسم بن ورد، ودفن في مقبرة باب إلبيرة، وكانت جنازته حافلة، وتفجع الناس عليه، وأخلصوا الدعاء له.
وممن رثاه، أبو عبد الله بن أبي الخصال بقوله:
عتاب وما يغني العتاب على الزمن ... وشكوة كما تشكو الرياح إلى السفن
وما رضيت بعد الغضارة أيكة ... نبحت ولكن عالم الكون ممتحن
وماذا عليه والسلامة حظه ... بأن تتخطاه النوايب والمحن
فليت كريماً ينعش للناس خيره ... يعمر فيها عمرته الآن أو حضن
ولكنه يمضي كظل غمامة ... ويبقى لسم سره غير مؤتمن
يود الفتى طول البقاء وطوله ... يورثه ثكل الأحبة والبدن
وأي اغتباط في حياة مرزاً ... يروح على بث ويغدو على شجن
زيادته تغص وجدته بلى ... وراحته كرب وهدنته دهن
إذا فوق السهم المصيب فقلبه ... ومن صار فيه من أحبته فنن
فيا عجباً للمرء يلتذ عيشه ... لزت مع الموت في قرن
أرى كل حي للمنية حاملاً ... فيا ويحه مما تحمل واحتضن
إذا زادت الأيام فينا إساءة ... نزيد على علم بما ساء حسن ظن
ولم أر مثل الموت حقاً كباطل ... وكل قبالي بالموت مرتهن
أإخوتنا لم تبق إلا تحية ... أرقد بها تلك المعاهد والدمن
أإخوتنا هل تسمعون تحيتي ... وذو كلم ما تحجب السر والعلن
أبا الحسن خلد في الجنان منعماً ... جزاءً بما أسلفت من سعيك الحسن
يطير فؤادي روعة فإذا رأى ... محياك في دار الغنا والرضا سكن
وقد كنت ترتاد المواطن إذ نبت ... فبوأك الرحمن فردوسه وطن
وبت معنى بالجلاء فنلته ... وقد كان حاديه يغرد باظعن
ولم ترض إلا الأرض هجرتك التي ... تخيرها الأولياء على القنن
وفي مثلها أن الرسول لسعد ... وقد واراه أكرم مدفن
على أنك المدعو من كل بلدة ... هلم فإنا دونك الحجب والجنن
سيرضيك من أرضيته في عباده ... وجاهدت فيه بالفروض وبالسنن
ويبقى كما بقيت بعدك أنه لهم ... فلما استهوتهم روعة سكن
ويحفظهم حفظ اليتيمين أيدا ... بوقع جدار قد تداعى وقد وهن
أبا الحسن إن المدى بعد ما بدا ... طويل ولا يعتد في جنب ما بطن
وأسير وجد في فراقك أنه ... سيبقى عليك الوجد ما بقي الزمن

سقى الله والسقيا بكفيه تربة ... مباركة ضمتك أسرع ما هتن
ولا برحتها ديمة مستهلة إذا ... ركضتها الريح قام بها جرن
فلا زلت في روض وروح ورحمة ... ومقبرة تترى على ذلك الجنن
علي بن عمر

بن إبراهيم بن عبد الله الكناني القيجاطي

يكنى أبا الحسن، أصله من بسطة، واستوطن غرناطة، حتى عد من أهلها قراءة وإقراء ولزوماً
حالهمن العايد، أوحد زمانه علماً وتخلقاً وتواضعاً وتفنناً. ورد على غرناطة مستدعى عام اثني عشر وسبعماية، وقعد بمسجدها الأعظم يقرى فنوناً من العلم، من قراءات وفقه وعربية وأدب. وولى الخطابة، وناب عن بعض القضاة بالحضرة، مشكور المأخذ، حسن السيرة، عظيم النفع. وقصده الناس، وأخذ عنه البعيد والقريب. وكان أديباً لوذعياً، فكهاً، حلواً، وهو أول أستاذ قرأت عليه القرآن والعربية والأدب، إثر قراءة الكتب.
مشيختهقرأ على أبيه ببلده بسطة القرآن، بالروايات السبع، وجمعها في ختمة، وعلى الأستاذ أبي عبد الله بن مساعد الغساني. وقرأ بغرناطة القرآن على الأستاذ أبي عبد الله بن مستقور، والأستاذ أبي جعفر الطباع، والأستاذ الشهير أبي الحسن بن الضايع. والأستاذ النحوي أبي الحسن الأبدي. وعلى القاضي ابي عمرو بن الرندي، والفقيه القاضي ابي علي بن الأحوص، وعلى الفقيه النسابة أبي جعفر بن مسعدة، والأستاذ العلامة أبي جعفر بن الزبير. ولقي الشيخ الصالح ولي الله أبا إسحق بن عبيدس وحضر مجالسه العامة. وذكر أنه كان يفتتح مجلسه الذي يتكلم فيه بقوله: لا حول ولا قوة إلا بالله، كنز من كنوز الجنة، رزقنا الله الأدب مع الله، واستعملنا فيما يرضيه، ويرضي رسوله، وجعل حظنا في الدار الآخرة. ولقي الإمام بجامع بسطة الخطيب الرواية أبا الحسن بن نافع وغيرهم، وله تواليف في فنون، وشعر، ونثر، فمن شعره قوله:
روض المشيب تفتحت أزهاره ... حتى استبان ثغامه وبهاره
ودجى الشباب قد استبان صباحه ... وظلامه قد لاح فيه نهاره
فأنى حمام لا يعاف وقوعه ... ومضى غروب لا نخاف مطاره
والعمر مثل البدر يرمق حسنه ... حيناً ويعقب بعد ذاك سراره
للإخاء تقلصت أفياؤه ... ما للصفاء تكدرت آثاره
الحر يصفح إن أخل خليله ... والبر يسمح أن تجرأ جاره
فتراه يدفع إن تمكن جاهه ... وتراه يرفع إن علا مقداره
ولأنت تعلم أنني زمن الصبا ... ما زلت زنداً والحياء سواره
والهجر ما بين الأحبة لم يزل ... ترك الكلام أو السلام مثاره
ولكم تجافى عن خفاء خليله ... فطن وقد ظفرت به أظفاره
ولكم أصر على التدابر مدبر ... أفضى إلى ندم به إصراره
فأقام كالكسعي بان نهاره ... أو كالفرزدق فارقته نواره
أنكرتم من حق معترف لكم ... بالحق ما لا ينبغي إنكاره
والشرع قد منع التقاطع نصه ... قطعاً وقد رودت به أخباره
والسن سن تورع وتبرع ... وتسرع لتشرح تختاره
ما يومنا من أمسنا قطك اتبت ... ذهب الشباب فكيف يبقى عاره
هلا حظرتم أو حذرتم منه ما ... حق عليكم حظره وحذاره
عجباً لمن يجري هواه لغاية ... محدودة أضماره مضماره
يأتي ضحى ما كان يأتيه دجى ... فكأنه ما شاب منه عذاره
فبعد ما تنعى به حسناته ... ويعيد ما تبقى به أوزاره
فالنفس قد أجرته مليء عنانه ... يشتد في مضمارها إحضاره
والمرء من إخوانه في جنة ... بل جنة تجري بها أنهاره
فاليمن قد مدت إليه يمينه ... واليسر قد شدت عليه يساره
شعر به أشعرت بالنصح الذي ... يهديه من أشعاره إشعاره
ولو اختبرتم نقده بمحكة ... لامتاز بهرجه ولاح نضاره

هذا هدى فيه اقتده تنل المنا ... أو أنت في هذا وما تختاره
وعليكم مني سلام مثل ما ... أرجت بروض يانع أزهاره
ومن شعره في الرثاء قوله من قصيدة
حمام حمام فوق أيك الأسى تشدو ... نتهيج من الأشجان ما أوجد الوجد
وذلك شجو في حناجرنا جشى ... وذلك لهو في ضمايرنا جد
أرى أرجل الأرزاء تشتد نحونا ... وأيديها تسعى إلينا فتمتد
ونحن أولو سهو عن الأمر ما لنا ... سوى أمل إيجابنا عنده جحد
فإن خطرت للمرء ذكرى بخاطر ... فتسبيحه الساهي إذا سمع الرعد
مصاب به قدت قلوب وأنفس ... لدينا إذا في غيره قطعت برد
تلين له الصم الصلاب وتنهمي ... عيون ويبكي عنده الحجر الصلد
فلا مقلة ترنو ولا أذن تعي ... ولا راحة تعطو ولا قدم تعدو
وقد كان يبدو الصبر منا تجلداً ... وهذا مصاب صبرنا فيه لا يبدو
مولدهعام خمسين وستماية.
وفاتهتوفي بغرناطة ضحى يوم السبت التاسع والعشرين من شهر ذي حجة من عام ثلاثين وسبعماية، ودفن في عصر اليوم بعد بجبانة باب إلبيرة. وكان الحفل في جنازته عظيماً، حضرها السلطان، واحتمل الطلبة نعشه.
ومن الطارئين

الرندي

عمر بن عبد المجيد بن عمر الأزدي المعروف بالرندي، من أهل رندة يكنى أبا علي.
حالهكان من جملة المقريين، جهابذة الأستاذين، مشاركاً في فنون، نقاداً، فاضلاً.
مشيختهروى عن أبي زيد السهيلي، وعنه أخذ العربية والأدب، وبه تفقه، وإياه اعتمد. وعن أبي محمد القاسم بن دحمان، وأبي عبد الله بن أبان، وتلا على هؤلاء القراءات، بقراءات السبعة. وعن أبي إسحق بن قرقول، وأبي عبد الله بن الفخار، وأبي الحسن صالح بن عبد الملك الأوسي، وأبي محمد عبد الحق بن بونه. وأبي عبد الله الحميري الإستجي، وأبي العباس بن اليتيم، وأبي عبد الله بن مدرك، وأبي القاسم بن حبيش وأبي عبد الله بن حميد. أخذ عن هؤلاء بمالقة، من أهلها، ومن الواردين عليها. ورحل إلى غرناطة، فأخذ بها عن يزيد بن رفاعة، وابن كوثر، وابن عروس، وأبي محمد عبد المنعم بن عبد الرحيم بن الفرس، وأبي جعفر بن حكم. وإلى قرطبة، فأخذ بها عن ابن بشكوال، وابي القاسم المشراط. وإلى إشبيلية، فأخذ بها عن أبي بكر بن الجد، وأبي عبد الله بن رزق، وابن خير، وابن صاف. وأخذ بسبتة عن ابن عبيد الله. وبالجزيرة الخضراء عن القاضي أبي جعفر بن عزرة. هؤلاء جملة من أخذ عنهم باللقاء والمشافهة. وأجازه جمغاعة من أهل المشرق كبيرة، ذكرهم في برنامجه، كالخشوعي، والأرحي، والحرشاني، وحدث عن السلفي الحافظ بإجازته العامة.
تواليفهشرح جمل أبي القاسم الزجاجي، ورد على ابن خروف، منتصراً بشيخه أبي زيد السهيلي في مسئلة نحوية، رد فيها ابن خروف على السهيلي وقيد فيما جرى بينه وبين الأستاذ أبي محمد القرطبي، جزءاً سماه بالحقبى في أغاليط القرطبي، لم يخل فيه عم حمل وتعسف. وألف برنامجاً جامعاً. روي عنه أبو عبد الله بن تسكر القاضي، والشيخ أبو عبد الله بن عبيد الأوسي، وأبو عبد الله الطنجالي، والخطيب ابن أبي ريحانة.
مولدهسنة سبع وأربعين وخمسماية.
وفاتهتوفي سحر يوم الجمعة الموفى عشرين لشهر ربيع الثاني سنة عشر وستماية.
عثمن بن سعيد

بن عثمن بن سعيد الأموي

المقري، الحافظ المعروف بابن الصيرفي، قرطبي الأصل، يكنى أبا عمرو، ويشتهر بالداني، لاستيطانه دانية. ودخل إلبيرة، وقرأ على أبي عبد الله بن أبي زمنين، فوجب ذكره لذلك.
حالهكان أحد الأيمة الأعلام في علم القرآن، وآياته، وتفسيره، ومعانيه وإعرابه، وجمع في ذلك كله التواليف العجيبة التي يكثر تعدادها، ويطول إيرادها، وله معرفة بالحديث وطرقه، وأسماء رجاله ونقلته، وكان حسن الخط، جيد الضبط، آية في الحفظ والعلم، والذكاء والفهم ديناً عارفاً، ورعا سنياً، قال المغلي، وكان أبو عمرو مجاب الدعوة. وذكره الحميدي فقال محدث مكثر، مقرئ متقدم.
مشيخته

روي عن أبي المطرف عبد الرحمن بن عثمن القشيري بقرطبة، وعن أبي بكر حاتم بن عبد الله البزاز، وأبي عبد الله محمد بن خليفة، وأحمد ابن فتح بن الرهان، وأبي بكر بن خليل، ويونس بن عبد الله القاضي. وخلف بن يحيى، وغيرهم. وبإلبيرة عن محمد بن أبي زمنين كثيراً من رواياته وتواليفه. وسمع بإستجة، وبجانة وسرقسطة من بلاد الثغر. ورحل إلى المشرق، فلقي أبيا الحسن بن أحمد بن مراس العنقي. وسمع بمصر من أبي محمد بن النحاس، وأبي القاسم بن ميسر، وخلف بن إبراهيم ابن خاقان، وفارس بن أحمد، وطاهر بن عبد المنعم، وبالقيروان من أبي الحسن القانسي. وقدم الأندلس فاستوطن دانية.
شعرهقال أبو القاسم بن بشكوال. ومما يذكر من شعره قوله:
قد قلت إذ ذكروا حال الزمان وما ... يجر على كل من يعزى إلى الأدب
لا شيء أبلغ من ذل تجرعه ... أهل الخساسة أهل الدين والحسب
القايمين بما جاء الرسول به ... والمبغضين لأهل الزيغ والريب
مولدهقال أبو عمرو، سمعت والدي يقول إني ولدت سنة إحدى وسبعين وثلاثماية، وابتدأ طلب العلم بعد خمس وثمانين.
وفاتهمن خط أبي الحسن المقري، يوم الاثنين منتصف شوال سنة أربع وأربعين وأربعمائة بدانية، ودفن عصر اليوم المذكور ببقيعها. ومشى السلطان راجلاً أمام نعشه.
علي بن أحمد بن حزم

بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد

الإمام أبو محمد بن حزم.
أوليتهأصله من الفرس، وجده الأقصى في الإسلام اسمه يزيد، مولى ليزيد بن أبي سفيان. قال أبو مروان ابن حيان، وقد كان من عجايبه، انتماؤه في فارس، وأتباع أهل بيته له في ذلك حقبة من الدهر، تولى فيها الوزير، المفضل في زمانه، الراجح في ميزانه، أحمد بن سعيد ابن حزم، لبني أمية أولياء نعمته، لا عن صحة ولاية لهم عليه، فقد عهده الناس مولد الأرومة من عجم لبلة، جده الأدنى، حديث عهد بالإسلام، لم يتقدم لسلفه نباهة. فأبوه أحمد، على الحقيقة، هو الذي بنى بيت نفسه في آخر الدهر، برأس رايته، وعمره بالخلال الفاضلة، من الرجاجة والدهاء والمعرفة والرجولة والرأي، فأسدى جرثومة شرف لمن نماهم، أغنتهم عن الرسوخ في أولى السابقة، فما من شرف إلا مسبوق عن خارجته، ولم يكن إلا كلا ولا، حتى تخطى على هذا أوليته لبلة. فارتقى قلعة إصطخر من أرض فارس. فالله أعلم كيف ترقاها، إذ لم يكن يؤتى من خطل ولا جهالة، بل وصله بها وسع علم، ووشجة رحم معقومة، فلها يستأخر الصلة، فتناهت حاله مع فقهاء عصره إلى ما وصف، وحسابه وحسابهم على الله، الذي لا يظلم الناس مثقال ذرة. عزت قدرته.
حالهقال الحميدي، كان حافظاً، عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة، متفنناً في علوم جمة، عاملاً بعلمه، زاهداً في الدنيا، بعد الرياسة التي كانت له، ولأبيه من قبله، في الإدارة وتدبير الممالك، متواضعاً، ذا فضايل جمة، قال، وما رأينا مثله، فيما اجتمع له. مع الذكاء وسرعة الحفظ، وكرم النفس والتدين. قال أبو مروان ابن حيان، كان أبو محمد حامل فنون، من حديث وفقه ونسب، مع المشاركة في كثير من أنواع التعاليم القديمة. وله في ذلك عدة تواليف.
وقد مال أولاً به النظر في الفقه إلى رأي أبي عبد الله الشافعي، وناضل عن مذاهبه، وانحرف عن مذهب غيره، حتى وسم به، واستهدف بذلك إلى كثير من الفقهاء، وعيب بالشذوذ. ثم عدل في الآخر إلى قول أصحاب الظاهر، مذهب داود بن علي، ومن تبعه من فقهاء الأمصار، فنقحه ونهجه، وجادل عنه، ووضع الكتب في بسطه، وثبت عليه إلى أن مضى بسبيله. وكان يحمل علمه، ويجادل عنه لمن خالفه فيه، على استرسال في طباعه، واستناد إلى العهد أخذه الله على العلماء من عباده، ليبينه للناس، ولا يكتمونه، فآل أمره إلى ما عرف.
مشيختهقال، سمع سماعاً جماً، وأول سماعه من أبي عمر أحمد بن محمد بن الجسور قبل الأربع ماية.
تواليفه

قال، بلغت تواليفه أربع مائة مجلد. وقال، حمل بعير. فمنها في علم الحديث كتاب كبير سماه الإيصال في فهم الخصال، الجامعة لجمل شرائع الإسلام، في الواجب والحلال والحرام، وساير الأحكام، على ما أوجبه القرآن والسنة والإجماع. أورد فيه أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أيمة المسلمين، وبيان ذلك كله، وتحقيق القول فيه. وله كتاب الإحكام لأصول الأحكام في غاية التقصي وإيراد الحجاج. وكتاب الفصل في الملل والأهواء والنحل. وكتاب الإجماع ومسائله على أبواب الفقه. وكتاب المجلى والمحلى وكتاب في مراتب العلوم وكيفية طلبها وتعلق بعضها ببعض. وكتاب إظهار تبديل اليهود والنصارى للتوراة والإنجيل وبيان تناقض ما بأيديهم من ذلك مما لا يحتمل التأويل. وهذا مما سبق إليه، وكتاب التقريب لحد المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية. والأمثلة الفقهية. فإنه سلك في بيانه، وإزالة سوء الظن عنه، وتكذيب المنحرفين به، طريقة لم يسلكها أحد قبله فيما علمنا.
شعرهقال، وكان له في الأدب والشعر نفسٌ واسع، وباع طويل. وما رأيت من يقول الشعر على البديهة أسرع منه. وشعره كثير، وقد جمع على حروف المعجم. ومنه قوله:
هل الدهر إلا ما عرفنا وأدركنا ... فجائعه تبقى ولذاته تفنى
إذا أمكنت فيه مسرة ساعة ... تولت كمر الطرف واستخلفت حزنا
إلى تبعات في الحساب وموقف ... نود لديه أننا لم نكن كنا
حصلنا على هم وإثم وحسرة ... وفات الذي كنا نلذ به عنا
حنين لما ولى وشغل لما أتى ... وغم لما يرجى فعيشك لا يهنا
كان الذي كنا نسر بكونه ... إذا حققته النفس لفظٌ بلا معنى
ومن ذلك قوله من قصيدة في الفخر:
أنا الشمس في جو العلوم منيرة ... ولكن عيبي أن مطلعي الغرب
ولو أنني من جانب الشرق طالعٌ ... لجد على ما ضاع من ذكري النهب
ولي نحو أكناف العراق صبابة ... ولا غرو أن يستوحش الكلف الصب
فإن ينزل الرحمن رحلي بينهم ... فحينئذ يبدو التأسف والكرب
فكم قائل أغفلته وهو حاضر ... وأطلب ما عنه تجيء به الكتب
هنالك يدري أن للبعد قصة ... وأنه كساد العلم آفته القرب
ومنها في الاعتذار عن المدح لنفسه:
ولكن لي في يوسف خير أسوة ... وليس على من سار سيرته ذنب
يقول وقال والصدق أنني ... حفيظٌ عليمٌ ما على صادق عتب
ومن شعره قوله فيما كان يعتقده من المذهب الظاهري:
وذي عذل فيمن سباني حسنه ... يطيل ملامي في الهوى ويقول
أفي حسن وجه لاح لم تر غيره ... ولم تدر كيف الجسم أنت قتيل
فقلت له أسرفت في اللوم ظالماً ... وعندي ردٌ لو أردت طويل
ألم تر ظاهري وأنني ... على ما بدا حتى يقوم دليل
ومن ذلك قوله:
أين وحه قول الحق في نفس سامع ... ودعه فنور الحق يسري ويشرق
سيؤنسه رفقاً فينسى نفاره ... كما نسي القيد الموثق مطلق
ومن ذلك قوله:
لئن أصبحت مرتحلاً بشخصي ... فروحي عندكم أبداً مقيم
ولكن للعيان لطيف معنله طلبله طلب المعاينة الكليم
وفي المعنى:
يقول أخي شجاك رحيل جسم ... وروحك ماله عنا رحيل
فقلت له المعاين مطمئن ... لذا طلب المعاينة الخليل
دخوله غرناطةوصل في جملة الإمام المرتضى. ولما جرت عليه الهزيمة واستولى باديس الأمير بغرناطة على محلته، كان أبو محمد من عداد أسراه مع مثله، إلى أن أطلقه بعد لأي، وخلصه الله منه.
محنته

قال ابن حيان، استهدف إلى فقهاء وقته، فتألبوا على بغضه، ورد قوله، وأجمعوا على تضليله، وشنعوا عليه، وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونهوا أعوامهم عن الدنو إليه، والأخذ عنه، فطفق الملوك يقصونه على قربهم، ويسيرونه عن بلادهم، إلى أن انتهوا به، منقطع أثره بتربة بلده من بادية لبلة، وبها توفي غير راجع إلى ما أرادوا، به يبث علمه فيمن ينتابه بباديته من عامة المقتبسين منه من أصاغر الطلبة، الذين لا يحسون فيه الملامة بحداثتهم، ويفقههم ويدرسهم، ولا يدع المثابرة على العلم، والمواظبة على التأليف، والإكثار من التصنيف، حتى كمل من مصنفاته في فنون العلم وقر بعير، حتى لأحرق بعضها بإشبيلية، وفي ذلك يقول:
فإن تحرقوا القرطاس لا تحرقوا ... الذي تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركايبي ... وينزل إن أنزل ويدفن في قبري
مولدهسنة أربع وثمانين وثلاثمائة بقرطبة.
وفاتهتوفي سنة ست وخمسين وأربعماية
علي بن إبراهيم

بن علي الأنصاري المالقي

يكنى أبا الحسن، صاحبنا حفظه الله.
حالهآية الله في الحفظ، وثقوب الذهن، والنجابة في الفنون، وفصاحة الإلقاء، خريج طبعه، وتلميذ نفسه، ومبرز اجتهاده. إمام في العربية، لا يشق فيها غباره، حفظاً وبحثاً، وتوجيهاً واطلاعاً، وعثوراً على سقطات الأعلام، ذاكر للغات والآداب، قايم على التفسير، مقصود للفتيا، عاقد للوثيقة، مشارك في الفنون، ينظم وينثر، فلا يعدو الإجادة والسداد، سليم الصدر، أبي النفس، كثير المشاركة، مجدي الصحبة، بعيد عن التسمت. رحل عن بلده مالقة، بعد التبريز في العدالة والشهرة بالطلب، واستقر بالمغرب، فاقرأ بمدينة أنفا ، منوهاً به، ثم بسلا، واستوطن بها، رئيس المدرسة بها، مجمهراً بكرسيها، فارعاً بمنبرها، بالواردة السلطانية، يفسر كتاب الله بين العشاءين، شرحاً كثير العيون، محذوف الفضول، بالغاً أقصى مبالغ الفصاحة، مسمعاً على المحال النابية، ويدرس من الغدوات بالمدرسة، دولاً في العربية والفقه، أخذه بزمام النبل، مترامية إلى أقصى حدود الاضطلاع. وحضر المناظرة، بين يدي السلطان، فاستأثر بشقصٍ من رعيه، وأعجب بقوة جأشه، وأصالة حفظه، فأنمى جراياته، ونوه به.
مشيختهقرأ ببلده على الأستاذين، علمي القطر، القاضي العالم أبي عبد الله إبن تبر، والقاضي النظار أبي عمرو بن منظور. وتلا القرآن على المقري أبي محمد بن أيوب. وذاكر بغرناطة إمام العربية أبا عبد الله بن الفخار، وربيس الكتاب، شيخنا أبا الحسن بن الجياب. وبالمغرب كثيراً من أعلامه، كالرئيس أبي محمد الحضرمي، والقاضي أبي عبد الله المقري وغيرهم. وهو الآن بحاله الموصوفة قاضياً بشرقي مالقة، وأستاذاً بها متكلماً، معجزٌ من مفاخر قطره.
شعرهمما يؤثر من شعره منقولاً من خط صاحبنا أبي الحسن بن الحسن:
رحماك رحماك في قلب يقلبه ... شوقٌ يكاد بلفح الوجد يذهبه
هام الفؤاد بمعنىً للجمال بدا ... عليك في السر للأرواح أعجبه
ولاح منك لذي الإشراف جوهرة ... ألاحت الحسن عما كان يحجبه
فلو هم الصحب أن الروح تيمها ... ماضي الجفون برود الثغر أشنبه
يظل معتقلاً من خوط قامته ... بأسمر غالني منه مؤربه
وذي فرند يدب الموت في شطب ... منه ويوحش في جنح تلهبه
يخاله ذو الصدا ماء فيبصره ... يود في الحال أن لو كان يشربه
بالهند وانى والذي ند توشجه ... وبالصبابة والأرواح ملعبه
كساه سر الجمال المحض حلته ... إذ جاده من نكوب الجود صيبه
وقام يرفل فيها وهي ضافية ... فأقبلت نحوه الأرواح تطلبه
هيهات من دونه باب بظاهره ... يجر الفنا وجند الروح يرهبه
فمرنا والموت فيه عين عيشته ... فأوج مرقي حياة الروح مرقبه
نبدت لوايحه من بحر جوهره ... برقاً يغير على الغيران خلبه
وتستعير له روحاً مظاهره ... سر الجمال بها يبدو تحجبه

بدرٌ وفي أفق الأرواح مطلعه ... مهما أفاقت وإلا فهي مغربه
بخاطره منه سر لا يفارقه ... وإن غدا بغرام الشوق يلهبه
لي هواه والبعد ينهاني ويصدقني ... في نصحه وصريح الوجد يكذبه
سر الغرام غريب ليس يعلمه ... إلا الذي قد غدا يرضيه مغضبه
وللصبابة أقوام وموردهم بها ... من الأنس أحلاه وأعذبه
وليس يعرف هذا حق معرفة ... إلا الذي قد تجلى عنه غيهبه
وأبصر الحسن قد لاحت لاوايحه ... وغرٌّ مستبشر الأضواء كوكبه
بذات أهيف من سر الحياة ... طرسٌ يغالبه طوراً فيغلبه
وفي لجين الجمال المحض قد فعلت ... فعلاً يرد لها في الحكم مذهبه
أروم إعجامه هوناً وتطمعني ... فيه النفاسة والأنفاس تعرفه
فم لمثلي بكتمانٍ ومن نفسي ... أخو بيان مع الساعات يسهبه
لبانة السر أن تحظى بمرقبة ... إلى سبيل من الزلفى تقربه
تسمو على منكب الجوزاء ذروتها ... عن رقة بشهود الفرق تسلبه
وفي مصافات سر القبض يبسطه ... لدى الوجود الذي قد عز مطلبه
فيرتقي في مراقي الجمع مختطفاً ... إلى السقام الذي عند بغيته
فذاك أعظم ما يرجوه أن سبقت ... عنا يدٌ نحو باب العز تجذبه
ومن منظومه في النسيب قوله:
لمحمد البرقاء حسن باهر ... كل الورى حلف الصبابة فيه
السحر مفتون بغنج لحاظه ... والشهد ممزوج بريقه فيه
فسحره أضنى المتيم في الهوى ... حتى يكاد سقامه يخفيه
ولو أنه بالشهد جاد ورشفه ... لصد لكان من الصدا يشفيه
بصدوده قلبي يقطع في الهوى ... يا ليته بوصاله رافيه
وصدر كتاباً بقوله يخاطبني:
أنسياناً فديتك يا حياتي ... لمن لم ينبيك حبك للممات
ورجماً بالظنون أخا حنين ... إليك رهين شوق وانبتات
يميناً بالنهار إذا تجلى ... وبالقمر المنير وبالآيات
لقد أحللت حبك من فؤادي ... محل الروح من بث الجهات
وشعره بديع، وإدراكه عجيب، وعارضته قوية.
علي بن محمد بن علي

بن يوسف الكتامي

يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن الضايع: من أهل إشبيلية.
حالهقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير، بلغ الغاية في الفن النحوي، وفاق أصحاب الأستاذ أبي علي الشلوبين بأسرهم، وله في مشكلات الكتاب العجايب . وقرأ ببلده أيضاً علم الكلام، وأصول الفقه، وكان متقدماً في هذه العلوم الثلاثة، متصرفاً فيها. وأما فن العربية، وعلم الكلام، فلم يكن في وقته من يقاربه في هذين العلمين. وأما فهمه وتصرفه في كتاب سيبويه، فما أراه يسبقه في ذلك أحد. وله إملاءٌ على طايفة كبيرة من إيضاح الفارسي. وكان له اعتناءٌ كبير بكلام الفارسي على الجملة، وبحسب ذلك استقضى اعتراضات أبي الحسين بن الطراوة على أبي علي بالرد، واستوفى ما وقع له في ذلك، حتى لم يبق بيده شيء على طريقة من الإنصاف، ودليل الهدى. لم يسبق إليها. وكذا فعل في رد أبي محمد بن السيد، علي أبي القاسم الزجاجي. وكذا فعل في اعتراضات أبي الحسين بن الطراوة على كتاب سيبويه. وكان بالجملة إماماً في هذا كله لا يجارى. وأما اختيارات أبي الحسن بن عصفور في مغربه وغير ذلك من تعاليقه، وما قيد في ذلك، فرد عليه معظمها أو أكثرها. ولم يلق بالأندلس والعدوة، ولا سمعنا بأنبه منه، ممن وقفنا على كلامه أو شاهدناه، ولا رأيت مختلفاً عليه من أهل بلده من أترابه، ومن فوقهم. وكان إذا أخذ في فن أتى بعجايب. قال الأستاذ، لازمته، وأخذت عليه كتاب سيبويه في عدة سنين، وأكثر كتاب الإيضاح، وجمل الزجاجي. إلى غير ذلك، وجميع التلقيحات للسهر وردي. وطايفة كبيرة من إرشاد أبي المعالي، ومن كتاب الأربعين لابن الخطيب، وغير ذلك.
مشيخته

أجاز له من أهل بلده الرواية المسن، أبو الحسن بن السراج، والقاضي أبو الخطاب بن خليل. ومن غيرهم، القاضي أبو بكر بن محرز، والمقري المعمر أبو بكر الشماتي المعروف بالشريشي، وأبو عبد الله الأزدي، وأبو عبد الله بن جوبر وآخرين. وقرأ ببلده. ولازم الأستاذ أبا علي الشلوبين، حتى كمل عليه إيضاح الفارسي، وكتاب سيبويه. وسمع جمل الزجاجي وغير ذلك من كتب العربية، ممن كان يقرأ في المجلس، وقرأ عليه طائفة كبيرة من تذكرة الفارسي، مما يتعلق بمسائل الكتاب، بعد أن جردها من التذكرة. وبلغ الغاية في الفن النحوي، وفاق أصحاب أبي علي بأسرهم.
وفاتهتوفي رحمه الله، في شهر ربيع الآخر من سنة ثمانين وستماية، وقد قارب التسعين. قلت العجب من الشيخ الخطيب رحمه الله، كيف لا يذكر للمترجم به رحمه الله، شرحه لجمل الزجاجي، بل شرحه الصغير والكبير. ولم يكن اليوم على الزجاجي أجدى منها، ولا أنفع، ولا أقل فضولاً، ولا أفصح عبارة، ولا أوجز خطابة، ولا أجمل إنصافاً، ولا أجود نظراً
الكتاب والشعراءوأولا الأصليون منهم
علي بن محمد بن عبد الحق

بن الصباغ العقيلي

يكنى أبا الحسن من أهل غرناطة.
حالهصاحبنا أبو الحسن، من أهل الفضل والسراوة والرجولة والجزالة. فذ في الكفاية، ظاهر السذاجة والسلامة، مصعب لأضدده، شديد العصبة لأولي وده، في أخلاقه حدة، وفي لسانه نبلى أخلابه، مشتملٌ على خلال من خط بارع، وكتابة حسنة، وشعر جيد، ومشاركة في فقه وأدب ووثيقة، ومحاضرة ممتعة. ناب عن بعض القضاة، وكتب الشروط، وارتسم في ديوان الجند، وكتب عن شيخ الغزاة أبي زكريا بن عمر على عهده. ثم انصرف إلى العدوة سابع عشر جمادى الأولى من عام ثلاث وخمسين وسبعماية، فارتسم في الكتابة السلطانية منوهاً به، مستعملاً في خدم مجدية، بان غناؤه فيها، وظهرت كفايته.
وجرى ذكره في كتاب التاج بما نصه: اللسن العارف، والناقد لجواهر المعاني، كما يفعل بالسكة الصيارف، الأديب المجيد، الذي تملى به العصر والنحر والجيد، إن أجال جياد براعته، فضح فرسان المهارق، وأخجل بين بياض طرسه، وسواد نفسه الطور تحت المفارق. وإن جلى أبكار أفكاره وأثار طير البيازين أوكاره، سلب الرحيق المفدم فضل أبكاره، إلى نفس لا يفارقها ظرف، وهمة لا يرتد إليها طرف، وإباية لا يفل لها غرب ولا حرف. وله أدب غض، زهره عن مجتنيه مرفض. كتبت إليه أنتجز وعده في الالتحاف برايقه، والإمتاع بزهر هواتفه، وهو قولي:
عندي لموعدك افتقارٌ مجوج ... وعهودك افتقرت إلى إنجازها
والله يعلم فيك صدق مودتي ... وحقيقة الأشياء غير مجازها
فأجابني بقوله:
يا مهدي الدر الثمين منظماً ... كلما حلال السحر في إيجازها
أدركت حلبات الأوايل وانياً ... ورددت أولاها على أعجازها
أحرزت في المضمار خصل سباقها ... ولأنت أسبقهم إلى إحرازها
حليت بالسمطين مني عاطلاً ... وبعثت من فكري متات مفازها
فلأنجزن مواعدي مستعطفاً ... فاسمح وبالإغضاء منك مجازها
ومن مقطوعاته قوله:
ليت شعري والهوى أمل ... وأماني الصب لا تقف
هل لذاك الوصل مرتجع ... أو لهذا البحر منصرف
ومن ذلك:
وظبي سبا بالطرف والعطف والجيد ... وما حاز من غنج ولين ومن غيد
أتيت إليه بالدنو مداعباً ... فقال أيدنو الظبي من غابة الأسد
وقال من مبدإ قصيدة مطولة فيما يظهر منها:
حديث المغاني بعدهن شجون ... وأوجه أيام التباعد جون
لحا الله أيام الفراق فكم شجت ... وغادرت الجذلان وهو حزين
وحيا دياراً في ربى إغرناطة ... وإني بذاك القرب فيه ضنين
ليالي أنفقت الشباب مطاوعاً ... وعمري لدى البيض الحسان ثمين
فأرخصت فيها من شبابي ما غلا ... وغرمي على مال العفاف أمين
خليلي لا أمر بأربعها قفا ... فعندي إلى تلك الربوع حنين
ألم ترياني كلما ذر شارق ... تضاعف عندي عبرة وأنين

إذا لم يساعدني أخٌ منكما فلا ... حدت نحو قرن بعد ذاك أمون
أليس عجيباً في البرية من لنا ... إلى عهد إخوان للزمان ركون
فلما تثغن من ذرى وفاء بعهده ... فقد أجن السلسال وهو معين
أذلني عذر في فراق ضلوعه ... وللدمع في ترك الشئون شئون
ومن ترك الحزم المعين فإنه ... لعانٍ بأيدي الحادثات رهين
رعى الله أيامي الوثيق ذمامها ... فإن مكاني في الوفاء مكين
ولم أر مثل الدهر أما عدوه ... فخب وأما خله فخئون
ولولا أبو عمرو وجود يمينه ... لما كان في عهد الزمان معين
ومن شعره قوله:
زار الخيال ويا لها من لذة ... لكن لذات الخيال منام
ما زلت ألثم مبسماً منظومه ... در ومورده الشهي مدام
وأضم غصن البان من أعطافه ... فأشم مسكاً فض عنه ختام
مولدهعام ستة وسبعماية.
وفاتهوتوفي بمدينة فاس، وقد تخلفه السلطان كاتب ولده، عند وجهته إلى إفريقية، في شوال عام ثمانية وخمسين وسبعماية، فتوفي في العشرين لرمضان منه.
ابن الجيابعلي بن محمد بن سليمان بن علي بن سليمان بن حسن الأنصاري من أهل غرناطة، يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن الجياب، شيخنا ورئيسنا العلامة البليغ.
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه الله، على ما كان عليه من التفنن، والإمامة في البلاغة، والأخذ بأطراف الطلب، والاستيلاء على غاية الأدب، صاحب مجاهدة، وملازمة عبادة، على طريقة مثلى من الانقباض والنزاهة، وإيثار التقشف، محباً في أهل الخير والصلاح، منحاشاً إليهم، منافراً عن أضدادهم، شيخ طلبة الأندلس، رواية وتحقيقاً، ومشاركة في كثير من العلوم، قايماً على العربية واللغة، إماماً في الفرايض والحساب، عارفاً بالقراءات والحديث، متبحراً في الأدب والتاريخ، مشاركاً في علم التصوف، فذاً في المسايل الأدبية البيانية، حامل راية المنظوم والمنثور، والإكثار من ذلك، والاقتدار عليه، جلداً على الخدمة، مغتبطاً بالولاية، محافظاً على الرتبة، مراقباً لوظايف الأبواب السلطانية، متوقد الذهن، ذلق الجوانب، مشغوفاً بالأنس والمفاوضة في الأدب، محسناً للنادرة الظريفة، مليح الدعابة، غزير الحفظ، غيوراً على الخطة، كثير النشاط إلى المذاكرة، مع استغراق الكلف، وعلو السن. طال به المرض حتى أذهب جواهر بدنه، وعلى ذلك فما اختل تميزه، ولا تغير إدراكه. بعثت إليه باكور رمان، فقال لي من الغد، نعم بالهدنة زمانك، يعني نعمت الهدية رمانك. فعجب الناس من اجتماع نفسه، وحضور فكره. وهو شيخي الذي نشأت بين يديه وتأدبت به، وورثت خطته عن رضى منه. كتب عن الدول النصرية نحواً من خمسين سنة أو ما ينيف عليها، متين الجاه، رفيع المكانة، بعيد الصيت، وسفر إلى الملوك، واشتهر بالخير، والحمل على أهل الظلم، وجرى ذكره في التاج بما نصه: صدر الصدور الجلة، وعلم أعلام هذه الملة، وشيخ الكتابة وبنيها وهاصر أفنان البدايع وجانيها، اعتمدته الرياسة، فنأى بها على حبل ذراعه، واستعانت به السياسة فدارت أفلاكها على قطب من شباة يراعه. فتفيأ للعناية ظلاً ظليلاً، وتعاقبت الدول، فلم تر به بديلاً، من ندب على علوه متواضع، وحبر لثدي المعارف راضع، لا تمر مذاكرة في فن إلا وله فيه التبريز، ولا تعرض جواهر الكلام على محاكاة الأفهام، إلا وكلامه الإبريز، حتى أصبح الدهر راوياً لإحسانه وناطقاً بلسانه، وغرب ذكره وشرق، فأشام وأعرق وتجاوز البحر الأخضر والخليج الأزرق، إلى نفس هذبت الآداب شمايلها، وجادت الرياض خمايلها، ومراقبة لربه، واستباق لروح الله من مهبه. ودين لا يعجم عوده. ولا تخلف وعوده. وكل ما ظهر علينا بنيه من شارة تجلى بها العين، أو إشارة كما سبك اللجين، فهي إليه منسوبة، وفي حسناته محسوبة، فإنما هي أنفس راضها بآدابه، وأعلقها بأهدابه، وهذب طباعها، كالشمس تلقي على النجوم شعاعها، والصور الجميلة تترك في الأجسام الصقيلة انطباعها وما عسى أن أقول في إمام الأيمة، ونور الدياجي المدلهمة، والمثل الساير في بعد الصيت، وعلو الهمة.
مشيخته

نقلت من خطه، في بعض ما كتب به إلى من الأشياخ الذين ليقتهم وأجازوني عامة. الشيخ الفقيه الخطيب الصالح الصوفي المحقق صاحب الكرامات والمقامات، نسيح وحده، أبو الحسن فضل بن محمد بن علي ابن فضيلة المعافري. قرأت عليه كذا. ومنهم الشيخ الفقيه الأستاذ العالم العلم الكبير، خاتمة المسندين بالمغرب، أبو جعفر أحمد بن إبراهيم ابن الزبير الثقفي، نشأت بين يديه، وقرأت عليه كثيراً وسمعت، وأجازني. ومنهم الشيخ الفقيه الخطيب الأستاذ أبو الحسن علي بن أحمد ابن محمد بن أحمد بن محمد الخشني البلوطي. قرأت عليه القرآن العزيز بالقراءات السبع وغير ذلك. ومنهم الشيخ الفقيه الصالح أبو عبد الله محمد بن عياش الخزرجي القرطبي، لقيته بمالقة. ومنهم الشيخ أبو محمد عبد الله بن علي الغساني السعدي الخطيب الصالح، قرأت عليه وسمعت. ومنهم الشيخ العدل أبو الحسن علي بن محمد بن علي بن أحمد بن مستقور الطائي. ومنهم قاضي الجماعة الشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد العنسي، ومنهم الشيخ الفقيه الخطيب المحدث الإمام أبو عبد الله محمد ابن عمر بن رشيد. ومنهم الشيخ الخطيب أبو جعفر أحمد بن علي الأنصاري الكحيلي. ومنهم الشيخ الخطيب الأستاذ الصالح أبو محمد عبد الواحد ابن محمد بن أبي السداد الأموي الباهلي. ومنهم الشيخ الوزير الحسيب أبو عبد الله محمد بن يحيى بن ربيع الأشعري، والشيخ الخطيب الأستاذ النظار أبو القاسم بن الشاط، والشيخ الفقيه أبو عبد الله محمد بن مالك بن المرحل والشيخ المبارك أبو محمد عبد المولى بن عبد المولى الخولاني. هؤلاء كلهم لقيتهم، وأجازوني إجازة عامة، وأما من أجازني ولم ألقه، فعالم كثير من أهل المغرب والمشرق، منهم أبو العباس بن الغماز قاضي الجماعة بتونس، وأبو عبد الله بن صالح الكناني خليب بجاية، والشريف أبو علي الحسن بن طاهر بن أبي الشرف بن رفيع الحسني، وأبو فارس عبد العزيز الهواري، وأبو محمد بن هرون القرطبي، وأبو علي ناصر الدين المشدالي، وغيرهم.
شعرهوشعره كثير مدون، جمعته ودونته، يشتمل على الأغراض المتعددة من المعشرات النبويات، والقصائد السلطانيات، والإخوانيات، والمقطوعات الأدبيات، والألغاز والأحجيات.
فمن ذلك من المعشرات في حرف الجيم على وجه التبرك:
جريئاً على الزلات غير مفكر ... جباناً على الطاعات غير معرج
جمعت لما يفنى اغتراراً بجمعه ... وضيعت ما يبقى سجية أهوج
جنوناً بدار لا يدوم سرورها ... فدعها سدىً ليست بعشك فادرج
جيادك في شأو الضلال سوابقٌ ... تفوت مدىً بين الوجيه وأعوج
جهلت سبيل الرشد فاقصد دليله ... تجد دار سعد بابها غير مرتج
جناب رسول ساد أولاد آدم ... وقرب في السبع الطباق بمعرج
جمالٌ أنار الأرض شرقاً ومغرباً ... فكل سنىً من نوره المتبلج
جلا صدأ المرتاب أن سبح الحصا ... لديه بنطق ليس بالمتلجلج
جعلت امتداحي والصلاة عليه لي ... وسايل تخطيني بما أنا أرتج
ومن الأغراض الصوفية السلطانية قوله:
هات اسقني صرفاً بغير مزاج ... واحي التي هي راحتي وعلاجي
إن صب منها في الزجاجة قطرة ... شف الزجاج عن السني الوهاج
فإذا الخليع أصاب منها شربةً ... حاجاه بالسر المصون محاج
وإذا المريد أصاب منها جرعة ... ناجاه بالحق المبين مناج
تاهت به في مهمهٍ لا يهتدى ... فيه لتأديب ولا إدلاج
يرتاح من طرب بها فكأنها ... غنته بالأرمال والأهزاج
هبت عليه نفحةٌ قدسية ... في فتح باب دائم الأرتاج
فإذا انتشى يوماً وفيه بقية ... سارت به قصداً على المنهاج
وإذا تمكن منه سكر معربدٍ ... فليبصرن لمصرع الحلاج
قصرت عبارة فيه عن وجدانه ... فغدا يفيض بمنطقٍ لجلاج
أعشاه نور للحقيقة باهر ... فتراه يهبط في الظلام الداج

رام الصعود بها لمركز أصله ... فرمت به في بحرها المواج
فلئن أمد برحمة وسعادة ... فليخلصن من بعد طول هياج
وليرجعن بغنيمة موفورة ... ما شيب عذب شرابها بأجاج
ولئن تحظاه القبول لما جنى ... فليرجعن نكساً على الأدراج
ما أنت إلا درة مكنونة ... قد أودعت في نطفة أمشاج
فاجهد على تخليصها من طبعها ... تعرج بها في أرفع المعراج
واشدد يديك معاً على حبل التقى ... فإن اعتصمت به فانت الناج
ولدى العزيز ابسط بساط تذلل ... وإلى الغنى امدد يد المحتاج
هذا الطريق له مقدمتان صا ... دقتان انتجا أصح نتاج
فاجمع إلى ترك الهوى حمل الأذى ... واقنع من الإسهاب بالإدماج
حرفان قد جمعا الذي قد سطروا ... من بسط أقوال وطول حجاج
والمشرب الأصفى الذي من ذاقه ... فقد اهتدى منه بنور سراج
ألا ترى إلا الحقيقة وحدها ... والكل مضطر إليها لاج
هذي بدائع حكمة أنشأتها ... بإشارة المولى أبي الحجاج
وسع الأنام بفضله وبعدله ... وبحلمه وبجوده الثجاج
من آل نصرٍ نخبة الملك الرضا ... أمن المروع هم وغيث اللاج
من آل قبلة ناصري خير الورى ... والخلق بين تخاذل ولجاج
ماذا أقول وكل قول قاصر ... في وصف بحر زاخر الأمواج
منه لباغي العرف درٌّ فاخر ... ولمن يعادي الدين هول فاج
دامت سعودك في مزيد والمنى ... يأتيك أفواجاً على أفواج
ومن الأمداح المطولة:
لمن المطايا في السراب سوابحا ... تفلى الفلاة غوادياً وروايحا
عوج كأمثال اللقيى ضوامر ... يرمين في الآفاق مرمى نازحا
أو كالسحاب تسير مثقلة ... بما حملته من سقيا البطاح دوالحا
ركبٌ ييمم غاية بل آية ... أبدت محيا الحق أبلح واضحا
لما دعا داعي الرشاد مردداً ... لبوه شوقاً والحمام هوادحا
فلهم عجيج بالبسيطة صاعد ... يذكى بنار الشوق منك جوانحا
وإذا حدا الحادي بذكر المصطفى ... أذروا في الأكوار دمعاً سابحا
عيسٌ تهادى بالمحبين الألى ... ركبوا من العزم المصمم جامحا
طارت بهم أشواقهم سباقةٌ ... فتركن أعلام المطى روازحا
رفقاً بهن فهن خلق مثلكم ... أنضاء أسفار قطعن منادحا
قد جين للهادي وهادا جمة ... وسلكن نحو الأبطحي أباطحا
ناشدتك الرحمن وافد مكة ... ألا صرفت إلى صرفاً طامحا
وأخاً أتيت القبر قبر محمد ... وحمدت سعياً من سفارك ناجحا
وذهلت عن هذا الوجود مغيباً ... لما لمحت من الجمال ملامحا
فاقرأ سلامي عند قبر المصطفى ... وامسح بيمناك الجدار مصافحا
قسماً بوفد يزخرون رواحلاً ... قطعت سباسباً بلقعاً وضحاضحا
حتى أناخوا بالمحصب من منى ... وتأملوا النور المبين اللايحا
وتعرضوا لعوارض عرفية هبت ... بها تلك الرياح لوافحا
وآووا إلى الحرم الشريف فطافعاً ... بالبيت أو بالركن منه ماسحا
وسقوا به من ماء زمزم شربةً ... نالوا بها في الخلد حظاً رابحا
ثم انثنوا قصداً إلى دار الهدى ... يتسابقون عزايماً وجوارحا
فتبوؤا المغنى الذي بركاته ... فاضت على الآفاق بحراً طافحا
ختموا مناسكهم بزورة أحمد ... بختام مسك طاب عرفاً نافحا

إن السماحة والشجاعة والندى ... والبأس والعقل الأصيل الراجحا
وقفٌ على شمس المعالي يوسف ... أعلى الملوك خواتماً وفواتحا
فهو الذي ملأ البلاد فضايلاً ... صارت لمن بارى علاه فضايحا
إن أجملت سير الكرام فخلقه ... ما زال للإجمال منها شارحا
حامي الذمار مدافعاً وموادعاً ... كافي العدو محارباً ومصافحا
للملك بالعزم المؤيد مانعاً ... للعرف بالجود المردد مانحا
إن تلقه في يوم جود هامر ... تلق السحاب على البلاد سوابحا
أو تلقه في يوم بأس قاهر ... تلق الأسود لدى العرين كوافحا
أو تلقه في يوم فخر ظاهر ... تلق الكواكب في السماء لوايحا
من أسرة النضر الألى هم ناصحوا ... بعزايم الصدق الأمين الناصحا
هم أسسوا الملك المشيد بناؤه ... فكفوا به الإسلام خطباً فادحا
فاستفهم الأيام عن آثارهم ... تطلع عليك صحايفاً وصفايحا
كان إذا ضن الغمام سحايباً ... يهمى وإن جن الظلام مصابحا
شادوا له مجداً صميماً راسخاً ... يبقى على الأعقاب ذكراً صالحا
وسما فخر فوق أمن جهادهم ... سمكوا له سماكاً رامحا
الأعظمون مغانياً ومناقباً ... والأكرمون محامداً وممادحا
يا دولةً نصريةً قد جددت ... نصراً لأبواب المعاقل فاتحا
وأمامة سعدية قد أطلعت ... سعداً ولكن للأعادي ذابحا
فاضت جداً فكأنما أيامها ... جعلت لأرزاق العباد مفاتحا
كفت عداً فكأنما أوقاتها ... جاءت لآيات الأمان شوارحا
عدلاً لأقطار الإيالة كالباً ... ولجامحات البغي منها كافحا
بشرى بيوسف ناصر الملك الذي ... ما زال عنه مجالداً ومكافحا
جمع المواهب للمواهب مانحاً ... فوق المنى وعن الجرايم صافحا
ابن الإمام أبي الوليد وحسبنا ... مدحاً تضمن في الفخار مدايحا
يهنيك عيد النحر أسعد قادم ... وافاك من جدوى يمينك ماتحا
وفيته قربانه وصلاته وأقمت ... فيه شعايراً وذبايحا
ورجعت في الجيش الذي أخباره ... تروى غرايبها الحسان صحائحا
أسدٌ ضراغم فوق خيل ترتمي ... نحو العدو سوانحاً وبوارحا
طيارةٌ بالدارعين تخالها ... تنقض في يوم القتال جوارحا
من كل من تخذ القنا خيماً له ... بلقى العدو مماسياً ومصابحا
والشمس أضرمت السبيكة عندما ... لقي الحديد شعاعها المطارحا
فاهنأ به وانعم بدولتك التي ... ترضي الولي بها وتشجى الكاشحا
دامت ودام الحق فيها ثابتاً ... يعلو يداً والإفك فيها طالحا
وقال يمدح ويصف مصنعاً سلطانياً:
زارت تجرر نحوه أذيالها ... هيفاء تخلط بالنفار دلاها
والشمس من حسدٍ لها مصفرةٌ ... إذ قصرت عن أن تكون مثالها
وافتك تمزج لينها بقساوة ... قد أدرجت طي العتاب نوالها
كم رمت كتم مزارها لكنه ... صحت دلايل لم تطق إعلالها
تركت على الأرجاء عند مسيرها ... أرجاً كأن المسك فت خلالها
ما واصلتك محبةً وتفضلاً ... لو كان ذاك لواصلت أفضالها
لكن توقعت السلو فجددت ... لك لوعةً لا تتقي ترحالها
فوحبها قسماً بحق بروره ... لتجشمنك في الهوى أهوالها
حسنت نظم الشعر في أوصافها ... إذ قبحت لك في الهوى أفعالها
يا حسن ليلة وصلها ما ضرها ... لو أتبعت من بعدها أمثالها

لما سكرت بريقها وجفونها ... أهملت كأسك لم ترد إعمالها
هذا الربيع أتاك ينشر حسنه ... فافسح لنفسك في مداه مجالها
واخلع عذارك في البطالة جامحاً ... واقرن بأسحار المنى آصالها
في جنة تجلو محاسنها كما ... تجلو العروس لدى الزفاف جمالها
شكرت أيادي للحيا شكر الورى ... شرف الملوك همامها مفضالها
وصمها أصلاً وفرعاً خيرها ... ذاتاً وخلقاً سمحها بذالها
الطاهر الأعلى الإمام المرتضى ... بحر المكارم غيثها سلسالها
حاز المعالي كابراً عن كابر ... وجرى لغايات الكرام فنالها
إن تلقه في يوم بذل هباته ... تلق الغمايم أرسلت هطالها
أو تلقه في يوم حرب عداته ... تلق الضراغم فارقت أشبالها
ملك إذا ما صال يوماً صولة ... خلت البسيطة زلزلت زلزالها
فبسيفه وبسيفه نال المنا ... واستعجلت أعداؤه آجالها
الواهب الآلاف قبل سؤالها ... فكفى العفاة سؤالها ومطالها
القاتل الآلاف قبل قراعها ... فكفى العداة قراعها ونزالها
إن قلت بحر كفه قصرت إذ ... شبهت بالملح الأجاج نوالها
ملأ البسيطة عدله ونواله ... فالوحش لا تعدو على من غالها
وسقى البرية فيض كفيه فقد ... عم البلاد سهولها وجبالها
جمع العلوم عناية بفنونها ... آدابها وحسابها وجدالها
منقولها معقولها وأصولها ... وفروعها تفصيلها إجمالها
فإذا عفاتك عاينوك تهللوا ... لما رأوا من كفك استهلالها
وإذا عداتك أبصروك تيقنوا ... أن المنية سلطت ريبالها
بددت شملهم ببيض صوارم ... رويت من علق الكماة نصالها
وأبحت أرضهم فأصبح أهلها ... جزراً تغادر نهبة أموالها
فتحت إمارتك السعيدة للورى ... أبواب بشرى واصلت إقبالها
وبنت مصانع رايقات ذكرت ... دار النعيم جنانها وظلالها
وأجلبها قدراً وأرفعها مدىً ... هذا الذي سامى النجوم فطالها
هو جنة فيها الأمير مخلد ... بلغت إمارته بها آمالها
ولأرض أندلسٍ مفاخر أنتم ... أربابها أضفيتم سربالها
فحميتم أرجاءها وكفيتم ... أعداءها وهديتم ضلالها
فبآل نصر فاخرت لا غيرهم ... لم نعتمد من قبلهم أقيالها
بمحمد ومحمد ومحمد ... قصرت على الخصم الألد نضالها
فهم الألى ركبوا لكل عظيمة ... جرداً كسين من النجيع جلالها
وهم الألى فتحوا لكل ملمة ... باباً أراح بفتحه إشكالها
متقلدون من السيوف عضابها ... متأبطون من الرماح طوالها
الراكبون من الجياد عرابها ... والضاربون من العدا أبطالها
أولي عهد المسلمين ونخبة الأم ... لاك صفوة محضها وزلاها
إن العباد مع البلاد مقرة ... بفضايل لك مهدت أحوالها
فتفك عانيها وتحمي سربها ... وتفيد حلماً دائماً جهالها
ومن الرثاء قوله يرثي ولده أبا القاسم:
هو البين حتماً لا لعل ولا عسى ... فما بال نفسي لم تفض عنده أسى
وما لفؤادي لم يذب منه حسرة ... فتباً لهذا القلب سرعان ما قسا
ويا لجفوني لا تفيض مورداً ... من الدمع يهمى تارة ومورسا
وما للساني مفصحاً بخطابه ... وما كان لو أوفى بعهد لينبسا
أمن بعد ما أودعت روحي في الثرى ... ووسدت مني فلذة القلب مرمسا
وبعد فراق ابني أبي القاسم الذي ... كساني ثوب الثكل لا كان ملبسا
أؤمل في الدنيا حياة وارتضي ... مقيلاً لدى أبنائها ومعرسا

فآهاً وللمفجوع فيها استراحة ... ولابد للمصدور أن يتنفسا
على عمر أفنيت فيه بضاعتي ... فأسلمني للقبر حيران مفلسا
ظللت به في غفلة وجهالة ... إلى أن رمى سهم الفراق فقرطسا
إلى الله أشكو برح حزني فإنه ... تلبس منه القلب ما قد تلبسا
وصدمة خطب نازلتني عشية ... فما أغنت الشكوى ولا نفع الأسا
فقد صدعت شملي وأصمت مقاتلي ... وقد هدمت ركني الوثيق المؤسسا
ثبت لها صبراً لشدة وقعها ... فما زلزلت صبري الجميل وقد رسا
وأطمع في أن يلقى برحمته الرضا ... وأجزع أن يشقى بذنب فينكسا
أبا القاسم اسمع شجو والدك الذي ... حسا من كؤوس البين أفظع ما حسا
وقفت فؤادي مذ رحلت على الأسى ... وأشهد لا ينفك وقفاً محبسا
وقطعت آمالي من الناس كلهم ... فلست أبالي أحسن المرء أم أسا
تواريت يا شمسي وبدري وناظري ... فصار وجودي مذ تواريت حندسا
وخلفت لي عبئاً من الثكل فادحاً ... فما أتعب الثكلان نفساً وأتعسا
أحقاً ثوى ذاك الشباب فلا أرى ... له بعد هذا اليوم حولي مجلسا
فيا غصناً نضراً ثوى عندما استوى ... فأوحشني أضعاف ما كان آنسا
ويا نعمةً لما تبلغتها انقضت ... فأنعم أحوالي بها صار أبؤسا
فودعته والدمع يهمي سحابه ... كما أسلم السلك الفريدا المجنسا
وقبلت في ذاك الجبين مودعاً ... لأكرم من نفسي علي وأنفسا
وخفف من وجدي به قرب رحلتي ... وماذا عسى أن ينظر الدهر ما عسا
فيا رحمة للشيب يبكي شبيبةً ... قياس لعمري عكسه كان أقيسا
فلو أن هذا الموت يقبل فديةً ... حبوناه أموالاً كراماً وأنفسا
ولكنه حكم من الله واجب ... يسلم فيه من بخير الورى ائتسى
تغمدك الرحمن بالعفو والرضا ... وكرم مثواك الجديد وقدسا
وألف منا الشمل في جنة العلا ... فنشرب تسنيماً ونلبس سندسا
وكتب إليه قصيدة أولها:
أمستخرجا كنز العقيق بآماقي ... أناشدك الرحمن في الرمق الباقي
فقد ضعفت عن حمل صبري طاقتي ... عليك وضافت عن زفيري أطواق
فأجابني رحمة الله عليه عن ذلك:
سقاني فأهلاً بالسقاية والعناق ... سلافاً بها قام السرور على ساق
ولا نقل إلا من بدايع حكمة ... ولا كأس إلا من سطورٍ وأوراق
فقد أنشأت لي نشوة بعد نشوة ... تمد بروحانية ذات أذواق
فمن حظها الفاني متاعٌ لناظري ... وسمعي وحظ الروح من حظها الباقي
أعادت شبابي بعد سبعين حجة ... فأثوابه قد جددت بعد إخلاق
وما كنت يوماً للمدامة صاحباً ... ولا قبلتها قط نشأة أخلاق
ولا خالطت لحمي ولا مازجت دمي ... كفى شرها مولاي فالفضل للواق
وهذا على عهد الشباب فكيف لي ... بها بعد ما للشبيبة مهراق
تبصر فحكماً القهوتين تخالفاً ... فكم بين إثبات لعقل وإزهاق
وشتان ما بين المدامين فاعتبر ... فكم بين إنجاح لسعي وإخفاق
فتلك تهادى بين ظلم وظلمة ... وهذي تهادي بين عدل وإشراق
أيا علم الإحسان غير منازع ... شهادة إجماع عليها وإصفاق
فضائلك الحسنى علي تواترت ... بمنهمر من سحب فكرك غيداق
خزاين آداب بعثت بدرها ... إلى ولم تمنن بخشية إنفاق
ولا مثل بكر حرة عربية ... زكية أخلاق كريمة أعراق

فأقسم ما البيض الحسان تبرمت ... تناجيك سراً بين وحي وإطراق
بدورٌ بدت من أفق أطواقها على ... رياض شدت في قضبه ذات أطواق
فناظر منها الأقحوان ثغورها ... وقابل منها نرجس سحر أحداق
وناسب منها الورد خداً مورداً ... سقاه الشباب النضر بورك من ساق
وألبسن من صنعاء وشياً منمنماً ... وحلين من در نفايس أعلاق
بأحلىً لأفواه وأبهىً لأعين ... وأحلىً لألباب وأشهىً لعشاق
رأيت بها شهب السماء تنزلت ... إلى تحييني تحية مشتاق
ألا إن هذا السحر لا سحر بابل ... فقد سحرت قلبي المعنى فمن راق
لقد أعجزت شكري فضايل ماجد ... أبر بأحباب وأوفى بميثاق
تقاضى ديون الشعر مني منبهاً ... رويدك لا تعجل علي بإرهاق
فلو نشر الصادان من ملحديهما ... لإنصاف هذا الدين لاذا بإملاق
فخذ زمام الرفق شيخاً تقاصرت ... خطاه وعاهده بمعهود وإشفاق
فلا زلت تحيى للمكارم رسمها ... وقدرك في أهل العلا والنهى راق
وكتبت إليه في غرض العتاب والاستعتاب:
أدرنا وضوء الأفق قد صدع الفضا ... مدامة عتب بيننا نقلها الرضا
فلله عيناً من رآنا وللحيا حيى ... بآفاق البشاشة أومضا
نفر إلى عدل الزمان الذي أتى ... ونبرأ من جور الزمان الذي مضى
ونأسو كلوم اللفظ باللفظ عاجلاً ... كذا قدح الصهباء داوى وأمرضا
فراجعني بقوله:
ألا حبذا ذاك العتاب الذي مضى ... وإن جره واش بزور تمضمضا
أغارت له خيلٌ فما ذعرت حمى ... ولكنها كانت طلائع للرضا
تألق منها بارق صاب مزنة ... على معهد الحب الصميم فروضا
تلألأ نور للصداقة حافظاً ... وإن ظن سيفاً للقطعية منتضا
فإن سود الشيطان منه صحيفة ... أتى ملك الرحمى عليها فبيضا
وما كان حب أحكم الصدق عهده ... ليرمى بوسواس الوشاة فيرفضا
أعيذ وداداً زاكي القصد وافياً ... تخلص من أدرانه فتمحضا
ونية صدق في رضى الله أخلصت ... سناها بآفاق البسيطة قد أضا
من الآفك الساعي ليخفي نورها ... أيخفى شعاع الشمس قد ملأ الفضا
وكيف يحل المبطلون بإفكهم ... معاقد حب أحكمتها يد القضا
تعرض يبغي هدمها فكأنه ... لتشييد مبناها الوثيق تعرضا
وحرض في تنفيره فكأنما ... على البر والتسكين والحب حرضا
وأوقد ناراً فهو يصلى جحيمها ... يقلب منها القلب في موقد الغضا
أيا واحدي المعدود بالألف وحده ... ويا ولدي البر الزكي إن ارتضا
بعثت من الدر النفيس قلايداً ... على ما ارتضى حكم المحبة واقتضا
نتيجة آداب وطبعٍ مهذب ... أطال مداه في البيان وأعرضا
ولا مثل بكر باكرتني آنفاً ... كزورة خلٍّ بعد ما كان أعرضا
هي الروضة الغناء أينع زهرها ... تناظر حسناً مذهباً ومفضضا
أو الغادة الحسناء راقت فينقضي ... مدى العمر في وصفي لها وهو ما انقضا
تطابق منها شعرها وجبينها ... فذا الليل مسوداً وذا الصبح أبيضا
أو الشهب منها زينة وهداية ... ورجمٌ لشيطان إذا هو قيضا
أتت ببديع الشعر طوراً مصرحاً ... بأبياتك الحسنى وطوراً معرضا
ومهدت الأعذار دون جناية ... ولو أنك الجاني لكنت المغمضا

لك الله من بر وفيٍّ وصاحبٍ ... محضت له صدق الضمير فأمحضا
لسانك في شكري مفيض تفضلاً ... فيا حسن ما أهدى وأسدى وأقرضا
وقلبك فاضت فيه أنوار خلتي ... فأبقى يدي تسليمه لي مفوضا
وقصدك مشكور وعهدك ثابت ... وفضلك منشور وفعلك مرتضا
فهل مع هذا ريبةٌ في مودة ... بحال وإن رأيت فما أنا معرضا
فثق بولائي إنني لك مخلص ... هوىً ثابتاً يبقى فليس له انقضا
عليك سلام الله ما هبت الصبا ... وما بارق جنح الدجنة أومضا
وكتب إلى القاضي الشريف وهو بوادي آش:
أهزلاً وقد جدت بك اللمة الشمطاء ... وأمناً وقد ساورتها حية رقطا
أغرك طول العمر في غير طايل ... وسرك أن الموت في سيره أبطا
رويداً فإن الموت أسرع وافد ... على عمرك الفاني ركايبه حطا
فإذ ذاك لا تستطيع إدراك ما مضى ... بحال ولا قبضاً تطيق ولا بسطا
تأهب فقد وافى مشيبك منذراً ... وها هو في فوديك أحرفه خطا
فرافقت منه كاتب السر واشياً ... له القلم الأعلى يخط به وخطا
معمى كتاب فكه احذر فهذه ... سفينة هذا العمر قاربت الشطا
وإن طال ما خاضت بك اللجج التي ... خبطت بها في كل مهلكة خبطا
وما زلت في أمواجها متقلباً ... فآونة رفعاً وآونة حطا
فقد أوشكت تلقيك في قعر حفرة ... تشد عليك الجانبين بها ضغطا
ولست على علم بما أنت بعدها ... ملاقٍ أرضواناً من الله أم سخطا
وأعجب شيءٍ منك دعواك في النها ... وهذا الهوى المردي على العقل قد غطا
قسطت عن الحق المبين جهالةً ... وقد غالطتك النفس فادعت القسطا
وطاوعت شيطاناً تجيب إذا دعا ... وتقبل أن أغوى وتأخذ إن أعطا
تناءى عن الأخرى وقد قربت مدىً ... تداني عن الدنيا وقد أزمعت شحطا
وتمنحها حباً وفرط صبابة ... وما منحت إلا القتادة والخرطا
فها أنت تهوى وصلها وهي فاركٌ ... وتأمل قرباً من حماها وقد شطا
صراط هدىً نكبت عنه عمايةً ... ودار ردىً أوعيت في سجنها سرطا
فما لك إلا السيد الشافع الذي ... له فضل جاه كل ما يرتجي يعطى
دليل إلى الرحمن فانهج سبيله ... فمن حاد عن نهج الدليل فقد أخطا
محبته شرط القبول فمن خلت ... صحيفته منها فقد فقد الشرطا
وما قبلت منه لدى الله قربة ... ولا زكت الأعمال بل حبطت حبطا
به الحق وضاح به الإفك زاهق ... به الفوز مرجوٌّ به الذنب قد حطا
هو الملجأ الأحمى هو الموئل الذي ... به في غد يستشفع المذنب الخطا
إليك ابن خير الخلق بنت بديهة ... تقبل تبجيلاً أناملك السبطا
وحيدة هذا العصر وافت وحيدة ... لتبسط من شتى بدايعها بسطا
وتتلو آيات التشيع إنها ... لموثقة عهداً ومحكمة ربطا
لك الشرف المأثور يا ابن محمد ... وحسبك أن تنمي إلى سبطه سبطا
إلى شرفي دينٍ وعلمٍ تظاهرا ... تبارك من أعطى وبورك في المعطا
ورهطك أهل البيت بيت محمد ... فأعظم به بيتاً وأكرم بهم رهطا
بعثت به عقداً من الدر فاخراً ... وذكر رسول الله درته الوسطا
وأهديت منها للسيادة غادة ... نظمت من الدر الثمين بها سمطا

وحاشيتها من كل ما شأنها فإن ... تجعد حوشي تجد لفظها سبطا
وفي الطيبين الظاهرين نظمتها ... فساعدها من أجل ذلك حرف الطا
عليك سلام الله ما در شارق ... وما رددت ورقاء في غصنها لغطا
ومن غريب ما خاطبني به قوله:
أقسم بالقيسين والنابغتين ... وشاعري طيىء المولدين
وبابن حجر وزهير وابنه ... والأعشيين بعد ثم الأعميين
ثم بعشاق الثريا والرقيات ... وعزة ومي وبثين
وبأبي الشيص ودعبل ومن ... كشاعري خزاعة المخضرمين
وولد المعتز والرضى والسرى ... ثم حسن وابن الحسين
وأختم بقسٍّ وسحبان فإن ... أوجب حق أن يكونا أولين
وحليتي نثرهم ونظمهم ... في مشرقي أقطارهم والمغربين
أن الخطيب ابن الخطيب سابق ... بنثره ونظمه للحلبتين
وافتني الصحيفة الحسنى التي ... شاهدت فيها المكرمات رأي عين
تجمع من يراعة المعنى إلى ... يراعة الألفاظ كلتا الحسنيين
أشهد أنك الذي سبقت في ... طريقي الآداب أقصى الأمدين
شعر حوى جزالة ورقة ... تصاغ منه حلية للشعريين
رسايل أزهارها منثورة ... سرور قلب ومتاع ناظرين
يا أحوذياً يا نسج وحده ... شهادة تنزهت عن قول مين
بقيت في مواهب الله التي ... تقر عينيك وتملأ اليدين
ومن المقطوعات الموطنات على المثال:
لله عصر الشباب عصرا ... فتح للخير كل باب
حفظت ما شئت فيه حفظا ... كنت أراه بلا ذهاب
حتى إذا ما المشيب وافى ... ند ولكن بلا إياب
لا تعتنوا بعدها بحفظ ... وقيدوا العلم بالكتاب
ومن ذلك قوله:
يا أيها الممسك البخيل ... إلهك المنفق الكفيل
إنفق وثق بالإله تربح ... فإن إحسانه جزيل
وقدم الأقربين واذكر ... ما روي ابدأ بمن تعول
ومن ذلك قوله:
وقائلة لم عراك المشيب ... وما أن يعهد الصبا من قدم
فقلت لها لم أشب كبرة ... ولكنه الهم نصف الهرم
ومن ذلك قوله:
هي النفس إن أنت سامحتها ... رمت بك أقصى مهاوي الخديعة
وإن أنت جشمتها خطة ... تنافى رضاها تجدها مطيعة
فإن شئت فوزاً فناقض هواها ... وإن واصلتك أجزها بالقطيعة
ولا تعبأن بميعادها ... فميعادها كسراب بقيعة
ومن المقطوعات أيضاً:
من أنت يا مولى الورى مقصود ... طوبى له قد ساعدته سعوده
فليشهدنك له فؤاد صادق ... وشهوده قامت عليه شهوده
وليفنين عن نفسه ورسومه ... طراً وفي ذاك الفناء وجوده
وليخطفنه بارق يرقى به ... في أشرف المعراج ثم يعيده
حتى يظل وليس يدري دهشة ... تقريبه المقصود أو تبعيده
لكنه ألقى السلاح مسلماً ... فمراده ما أنت منه تريده
فلقد تساوى عنده إكرامه ... وهوانه ومفيده ومبيده
ومن ذلك قوله في المعنى:
يقيني أن الله جل جلاله ... يقيني فراجي الله ليس يخيب
ومن مقطوعاته في الألغاز والأحاجي قوله في حجلة:
حاجيت كل فطن لبيب ... ما اسم الأنثى من بني يعوب
ذات كرامات فزرها قربة ... فزورها أحق بالتقريب
تشركها في الإسم أنثى لم تزل ... حافظة لسرها المحجوب
وقد جرى في خاتم الوحي الرضا ... لها حديث ليس بالمكذوب
وهو إذا ما الفاء منه صحفت ... صبغ الحيا لا الحيا المسكوب
فهاكها واضحةٌ أسرارها ... فأمرها أقرب من قريب
وفي آب الشهر:

حاجيتكم ما اسم علم ... ذو نسبة إلى العجم
يخبر بالرجعة وهو ... راجع كما زعم
وصف الحميم هو ... بالتصحيف أو بدء قسم
دونكه أوضح من ... نار على رأس علم
ومن ذلك قوله في كانون:
وما اسم لسميين ... ولم يجمعهما جنس
فهذا كلما يأتي ... فبالآخر لي أنس
وهذا ما له شخص ... وهذا ماله حس
وهذا ما له سوم ... وذا قيمته فلس
وهذا أصله الأرض ... وهذا أصله الشمس
وهذا واحد من سبعة ... تحيا به النفس
فمن محموله الجن ... ومن موضوعه الإنس
فقد بان الذي ألغزت ... ما في أمره لبس
ومن ذلك قوله في نمر:
ما حيوان ما له من حرمة ... إن اسمه صحف فابن العمة
وقلبه من بعد تصحيف له ... يريك في الذكر الحكيم أمة
ومن ذلك قوله في سلم:
ما اسم مركب مفيد الوضع ... مستعمل في الوصل لا في القطع
ينصب لكن أكثر استعمال من ... يعنى به في الخفض أو في الرفع
وهو إذا خففته مغيراً ... تراه شملاً لم يزل ذا صدع
فالاسم إن طلبته تجده في ... خامسة من الطوال السبع
وهو إذا صحفته يعرب عن ... مكسر في غير باب الجمع
له أخ أفضل منه لم تزل ... آثاره محمودة في الشرع
هما جميعاً من بني النجار ... والأفضل أصل في حنين الجذع
فهاكه قد سطعت أنواره ... لاسيما لكل زاكي الطبع
ومن ذلك قوله في فنار:
ما اسم إذا حذفت منه فاءه الممنوعة ... فإنه بنت الزنا مضافة لأربعة
ومن ذلك قوله في حوت:
ما حيوان في اسمه ... إن اعتبرته فنون
حروفه ثلاثة ... والكل منها نون
تصحيفه قطع الفلا ... أو ما جناه المذنبون
أو أبيض أو أسود ... أو صفة النفس الخؤون
وقلبه مصحفاً عليه ... دارت السنون
كانت به في مضى ... عبرة قوم يعقلون
أودع فيها عنده ... سر من السر المصون
فهاكه كالنار في ... الزند لها فيه كمون
ومن ذلك قوله في مائدة:
حاجيت كل فطن نظار ... ما اسم لأنثى من بني النجار
وفي كتاب الله جاء ذكرها ... فقل ما يغفل عنها القار
في خبر المهدي فاطلبها تجد ... إن كنت من مطالعي الأخبار
ما هي إلا العيد عيد رحمة ... ونعمة ساطعة الأنوار
بشركها في الاسم وصف حسن ... من وصف قضب الروضة المعطار
فهاكه كالشمس في وقت الضحى ... قد شف عنها حجب الأستار
ومن ذلك قوله في زينب:
ما نقي العرض طاهر الجسد ... عندما خالطه ألماً فسد
خالط الماء القراح فغوى ... بعد ما كان من أهل الرشد
عجمي الأصل تم حسنه ... عندما صاد الغزالة الأسد
واسمه اسم امرأة مصحفاً ... ولقد يكون وصفاً لولد
هاكه قد بهرت أنواره ... فارم بالفكر تصب قصد الرشد
جميع هذه الأغراض المنسوبة إليه، بحر لا ينفد مدده، وقطر لا يبلغ عدده.
وأما نثره فسلطانيات مطولات، عرضت بما تخللها من الأحوال متونها، وقلت لمكان الاستعجال والبديهة عيونها. وقد اقتضبت منها أجزأً سميته تافهاً من جم ونقطة من يم
مولدهولد بغرناطة في جمادى الآخرة عام ثلاثة وسبعين وستماية.
وفاتهليلة يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شوال عام تسعة وأربعين وسبعماية. ودفن بباب إلبيرة. وكانت جنازته آخذة نهاية الاحتفال، حضرها السلطان فمن دونه.
ومما رثي به: رثيته بقصيدة أنشدتها على قبره خامس يوم دفنه ثبتت في غير ما موضع وهي:

ما لليراع خواضع الأعناق ... طرق النعي فهن في إطراق
وكأنما صبغ الشحوب وجوهها ... والسقم من جزع ومن إشفاق
ما للصحائف صوحت روضاتها ... أسفاً وكن نضيرة الأوراق
ما للبيان كؤوسه مهجورة ... غفل المدير لها ونام الساق
ما لي عدمت تجلدي وتصبري ... والصبر في الأزمات من أخلاق
خطب أصاب بني البلاغة والحجا ... شب الزفير به عن الأطواق
أما وقد أودى أبو الحسن الرضا ... فالفضل قد أودى على الإطلاق
كنز المعارف لا تبيد نقوده ... يوماً ولا تفنى على الإنفاق
من للبدائع أصبحت سمر السرى ... ما بين شامٍ للورى وعراق
من لليراع يجيل من خطبها ... سم العدا ومفاتح الأرزاق
قضب ذوابل مثمرات بالمنى ... وأراقم ينفثن بالترياق
من للرقاع الحمر يجمع حسنها ... خجل الخدود وصبغة الأحداق
تغتال أحشاء العدو كأنها ... صفحات دامية الغرار رقاق
وتهز أعطاف الولي كأنها ... راحٌ مشعشعة براحة ساق
من للفنون يجيل في ميدانها ... خيل البيان كريمة الإعراق
من للحقائق أبهمت أبوابها ... للناس يفتحها على استغلاق
من للمساعي الغر تقصد جاهه ... حرماً فينصرها على الإخفاق
كم شد من عقد وثيق حكمه ... في الله أو أفتى بحل وثاق
رحب الذراع بكل خطب فادح ... أعيت رياضته على الحذاق
صعب المقادة في الهوادة والهوى ... سهل على العافين والطراق
ركب الطريق إلى الجنان وحورها ... يلقينه بتصافح وعناق
فاعجب لأنس في مظنة وحشة ... ومقام وصل في مقام فراق
أمطيباً بمحامد العمل الرضي ... ومكفناً بمكارم الأخلاق
ما كنت أحسب قبل نعشك أن ... أرى رضوى تسير على الأعناق
ما كنت أحسب قبل دفنك في الثرى ... أن اللحود خزائن الأعلاق
يا كوكب الهدى الذي من بعده ... ركد الظلام بهذه الآفاق
يا واحداً مهما جرى في حلبة ... جلى بغرة سابق السباق
يا ثاوياً بطن الضريح وذكره ... أبداً رفيق ركائب ورفاق
يا غوث من وصل الضريح فلم يجد ... في الأرض من وزر ولا من واق
ما كنت إلا ديمةً منشورة ... من غير إرعاد ولا إبراق
ما كنت إلا روضة ممطورة ... ما شئت بن ثمر ومن أوراق
يا مزمعاً عنا العشي ركابه ... هلا لبثت ولو بقدر فواق
رفقاً أبانا جل ما حملتنا ... لا تنس فينا عادة الإشفاق
واسمح ولو بمزار لقيا في الكرى ... تبقى بها منا على الأرماق
وإذا اللقاء تصرمت أسبابه ... كان الخيال تعلة المشتاق
عجباً لنفس ودعتك وأيقنت ... أن ليس بعد ثواك يوم تلاق
ما عذرها إن لم تقاسمك الردى ... في فضل كأس قد شربت دهاق
إن قصرت أجفاننا عن أن ترى ... تبكي النجيع عليك باستحقاق
واستوقفت دهشاً فإن قلوبنا ... نهضت بكل وظيفة الآماق
ثق بالوفاء على المدى من فتية ... بك تقتدي في العهد والميثاق
سجعت بما طوقتها من منةٍ ... حتى زرت بحمايم الأطواق
تبكي فراقك خلوة عمرتها ... بالذكر في طفلٍ وفي إشراق
أما الثناء على علاك فذائع ... قد صح بالإجماع والإصفاق
والله قد قرن الثناء بأرضه ... بثنائه من فوق سبع طباق

جادت ضريحك ديمةٌ هطالة ... تبكي عليه بواكفٍ رقراق
وتغمدتك من الآله سعادة ... تسمو بروحك للمحل الراق
صبراً بني الجياب فقيدكم ... سيسر مقدمه بما هو لاق
وإذا الأسى لفح القلوب أواره ... فالصبر والتسليم أي رواق
وأنشد في هذا الغرض الفقيه أبو عبد الله بن جزي رحمه الله:
ألم تر أن المجد أقوت معالمه ... فأطنابه قد قوضت دعائمه
هوى من سماء المعلوات شهابها ... وخانت جواد المكرمات قوائمه
وثلث من الفخر المشيد عروشه ... وفلت من العز المنيع صوارمه
وعطل من حلي البلاغة قسها ... وعرى من جود الأنامل حاتمه
أجل إنه الخطب الذي جل وقعه ... وثلم غرب الدين والعلم هاجمه
وإلا فما للنوم طار مطاره ... وما للزيم الحزن قصت قوادمه
وما لصباح الأنس أظلم نوره ... وما لمحيا الدهر قطب باسمه
وما لدموع العين فضت كأنها ... فواقع زهر والجفون كمائمه
قضى الله في قطب الرياسة أن قضى ... فشتت ذاك الشمل من هو ناظمه
ومن قارع الأيام سبعين حجة ... ستنبو عراره ويندق قائمه
وفي مثلها أعيى النطاسي طبه ... وضل طريق الحزم في الرأي حازمه
تساوي جواد في رداه وباخل ... فلا الجود واقيه ولا البخل عاصمه
وما نفعت رب الجياد كرامه ... ولا منعت منه الغنى كرايمه
وكل تلاق فالفراق أمامه ... وكل طلوع فالغروب ملازمه
وكيف مجال العقل في غير منفذ ... إذا كان باني مصنع هو هادمه
لبيك علياً مستجير بعدله ... يصاخ لشكواه ويمنع ظالمه
لبيك علياً ماتح بحر علمه ... يروي بأنواع المعارف هائمه
لبيك علياً مظهر فضل نصحه ... يحلا عن ورد المآثم حايمه
لبيك علياً معتف جود كفه ... يواسيه في أمواله ويقاسمه
لبيك علياً ليله وهو قائم ... يكابده أو يومه وهو صائمه
لبيك علياً فضل كل بلاغة ... يخلده في صفحة الطرس راقمه
وشخص ضئيل الجسم يرهب نفثه ... ليوث الشرى في خيسها وضراغمه
تكفل بالرزق المقدر للورى ... إذا الله أعطى فهو للناس قاسمه
يسدده سهماً وينضوه صارماً ... ويشرعه رمحاً فكل يلائمه
إذا سال من شقيه سايل حبرة ... بما شاء منه سايل فهو عالمه
لبيك عليه الآن من كان باكياً ... فتلك مغانيه خلت ومعالمه
تقلد منه الملك عضب بلاغة ... يقد السلوقي المضاعف صارمه
وقلده مثنى الوزارة فاكتفى ... بها ألمعي حازم الرأي عازمه
ففي يده وهو الزعيم بحقها ... يراعته والمشرفي وخاتمه
سخيٌّ على العافين سهلٌ قياده ... أنى على العادين صعبٌ شكائمه
إذا ضلت الآراء في ليل حادث ... رآها برأي يصدع الحق ناجمه
وقام بأمر الملك للدين حامياً ... فذل معاديه وضل مراغمه
وقد كان نيط العلم والحلم والتقى ... به وهو ما نيطت عليه تمايمه
ودوخ أعناق الليالي بهمة ... يبيت ونجم الأفق فيها يزاحمه
وزاد على بعد المنال تواضعاً ... أبى الله إلا أن تتم مكارمه
سقيت الغوادي أي علم وحكمة ... ودين متين ذلك القبر كاتمه
وما زلت يستسقى بدعوتك الحيا ... وها هو يستسقي لقبرك ساجمه

بكت فقدك الكتاب إذ كان شملهم ... يؤلفه من روح فضلك ناعمه
وطوقتهم بالبر ثم سقيتهم ... نداك فكنت الروض ناحت حمايمه
ويبكيك مني ذاهب الصبر موجع ... فوقد في جنبيه للحزن جاحمه
فتى نال منه الدهر إلا وفاءه ... فما وهنت في حفظ عهدٍ عزايمه
عليل الذي زرت عليه جيوبه ... قريح الذي شدت عليه حزايمه
فقد كنت ألقى الخطب منه بجنة ... تعارض دوني بأسه وتصادمه
سأصبر مضطراً وإن عظم الأسى ... أحارب حزني مرة وأسالمه
وأهديك إذ عز اللقاء تحية ... وطيب ثناءٍ كالعبير نواسمه
وأنشد القاضي أبو بكر القرشي قوله من قصيدة في ذلك:
هي الآجال غايتها نفاد ... وفي الغايات تمتاز الجياد
وأنشد الفقيه الكاتب أبو بكر القاسم بن الحكيم قوله من قصيدة:
لينع الحجا والحلم من كان ناعياً ... ويرع العلا والعلم من كان راعيا
وأنشد الفقيه القاضي أبو بكر بن جزي قصيدة أولها:
أبثكما والصبر للعهد ناكث ... حديثاً أملته على الحوادث
قصائد مطولات يخرج استقصاؤها عن الغرض، فكان هذا التأبين غريباً لم يتقدم به عهد بالحضرة لكونها دار ملك، والتجلة في مثل هذا مقصورة على أولي الأمر. فمضى بسبيله رحمه الله.
ابن سعيدعلي بن موسى بن عبد الملك بن سعيد بن خلف بن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان بن عبد الله بن سعد بن عمار بن ياسر بن كنانة بن قيس بن الحصين بن لوذم ابن ثعلب بن عوف بن حارثة بن عامر الأكبر بن نام بن عبس واسمه زيد بن مالك بن أدد بن زيد العنسي المذحجي من أهل قلعة يحصب ، غرناطي قلعي ، سكن تونس، يكنى أبا الحسن، ويعرف بابن سعيد.
أوليته قد تقرر من كرم أوليته، وذكر بيته ما ينظر في محله.
حالههذا الرجل وسطي عقد بيته، وعلم أهله، ودرة قومه، المصنف الأديب، الرحال، الطرفة، الإخباري، العجيب الشأن في التجول في الأوطان، ومداخلة الأعيان، والتمتع بالخزاين العلمية، وتقييد الفوايد المشرقية والمغربية.
مشيختهأخذ عن أعلام إشبيلية كأبي علي الشلوبين، وابي الحسن الدباج، وأبي الحسن بن عصفور وغيرهم.
تواليفهوتواليفه كثيرة ، منها المرقصات والمطربات، عزيز الوجود، والمقتطف أغرب وأعجب، والطالع السعيد في تاريخ بيته وبلده. والموضوعان الغريبان المتعددا الأسفار، وهما المغرب في حلى المغرب، والمشرق في حلى المشرق، وغير ذلك مما لم يتصل إلينا، فلقد حدثني الوزير أبو بكر بن الحكيم، أنه تخلف كتاباً يسمى المرزمة ، يشتمل على وقر بعير، لا يعلم ما فيه من الفوايد الأدبية والإخبارية إلا الله
شعرهقال، تعاطى نظم الشعر في حد زمن الشبيبة، يعجب فيه من مثله، فيذكر أنه خرج مع والده، وقد مر في صحبته إلى إشبيلية، وفي صحبته سهل بن مالك، فجعل سهل يباحثه عن نظمه، إلى أن أنشده في صفة النهر والنسيم يردده، والغصون تميل عليه:
كأنما النهر صفحة كتبت ... أسطرها والنسيم ينشيها
لما أبانت عن حسن منظرها ... مالت عليها الغصون تقرؤها
فطرب أبو الحسن وأثنى عليه، ثم شدا، وناب عن أبيه في أعمال الجزيرة، ومازج الأدباء، ودون كثيراً من نظمه، وحفظ له في المدح:
يا أيها الملك الذي هباته ... وهباته شدت عرى الإسلام
لما أسال نداه سل حسامه ... فأراك برقاً في متون غمام
لله شيعتك التي ترك العدا ... أقداحهم بمواطىء الأقدام
طاروا بأجنحة السيوف إليهم ... مثل الحمام جلبن كل حمام
فهم سهام والجياد قسيهم ... وعداهم هدف وسعدك رام
وقال، ومما نظمته بالحضرة في فرس كان لهم لوباني أغر أكحل بحلية:
وأجرد تبرى أثرت به الثرى ... والفجر في خصر الظلام وشاح
عجبت له وهو الأصيل بعرفه ... ظلام وبين الناظرين صباح

رحلته المشرقية، وفيها الكثير من نظمه، قال في الطالع لما قدم الديار المصرية واشتهر، كان مما نظمه سلماً لمعرفة الأدباء والظرفاء قوله، وقد رأى بساحلها وجوهاً لا يعرفها، وألسناً غير ما عهد:
أصبحت أعترض الوجوه ولا أرى ... من بينها وجهاً لمن أدريه
ويح الغريب توحشت ألحاظه ... في عالم ليس له بشبيه
عودي على بدئي ضلالاً بينهم ... حتى كأني من بقايا التيه
ودخل القاهرة، فصنع له أدباؤها صنيعاً في ظاهرها، وانتهت بهم الفرجة إلى روض نرجس، وكان فيهم أبو الحسن الجزار، فجعل يدوس النرجس، برجله، فقال أبو الحسن:
يا واطىء النرجس بالأرجل ... ما تستحي أن تطأ الأعين بالأرجل
فتهافتوا بهذا البيت وراموا إجازته.
فقال ابن أبي الأصبغ:
فقال دعني لم أزل محرجاً ... على لحاظ الرشاد الأكحل
وكان أمثل ما حضرهم، ثم أبوا أن يجيزه غيره، فقال:
قابل جفوناً بجفون ولا ... تبتذل الأرفع بالأسفل
ثم استدعاه سيف الدين بن سابق صاحب الأشغال السلطانية إلى مجلس بضفة النيل، مبسوط بالورد، وقد قامت حوله شمامات نرجس، فقال في ذلك:
من فضل النرجس فهو الذي ... يرضى بحكم الورد إذ يرأس
أما ترى الورد غداً قاعداً ... وقام في خدمته النرجس
ووافق ذلك مماليك الترك، وقوفاً في الخدمة على عادة المشارقة، فطرب الحاضرون، من حسود ومنصف. ولقي بمصر محيي الدين بن ندا واقد التركي، الإمام زهير الحجاري بهاء الدين، وبالقاهرة جمال الدين ابن مطروح، وجمال الدين بن يغمور ، وتعرف بكمال الدين بن العديم رسول سلطان حلب، فاستصحبه يتحف به الملك الناصر صاحب حلب، فلقي بحمص وبيت المقدس وحماه أعلا ما جلة، وله معهم أخبار يطول ذكرها، ودخل على السلطان بحلب، وأنشده قصيدة أولها:
جدلي بما ألقى الخيال من الكرى ... لابد للطيف الملم من الكرا
فقال كمال الدين هذا رجل عارف مذ روى لمقصده من أول كلمة.. ثم قال بعد أبيات:
الناصر الملك الذي عزماته ... أبداً تكون مع العساكر عسكرا
ما كان أنبا الفتح يلزم لامه ... والجمع من أعدائه متكسرا
فعظم استظراف السلطان لهذه المقاصد، وأثنى عليه. ثم وصل فقال:
الدين أصلحه وعم صلاحه الدنيا ... وأصبح ناصراً ومظفرا
فكأن كنيته غدت موضوعه ... من ربه والوصف منه مقررا
وكأنما الأسماء قد عرضت على ... علياه قبل وجوده متخيرا
فقال السلطان كيف ترون واستعاده. فقال عون الدين العجمي عميد المجلس، وكاتب الإنشاء، استنباطه ما سمع الملوك بمثله يا خوند. ثم أنشد:
من آل أيوب الذين هم هم ... ورثوا الندى والبأس أكبر أكبرا
أهل الرياسة والسياسة والعلا ... بسيوفهم حلوا الذرى منحوا الذرا
سم العداة على هيافيهم ... لا تعجبوا فكذاك آساد الشرى
كادوا يقيلون العداة من الردى ... لو لم يمدوا كالحجاب العثيرا
جعلوا خواتم سمرهم من قلب ... كل معاند عد المثقف خنصرا
وببيضهم قد توجوا أعداءهم ... حتى لقد حلوا لكيما تشكرا
لو لم يخافوا تيسار نحوهم ... وهبوا الكواكب والصباح المسفرا

وهي طويلة. ثم استجلسه السلطان، وسأله عن بلاده، ومقصده بالرحلة، فأخبره أنه جمع كتاباً في الحلى البلادية والحلى العبادية المختصة بالمشرق، وأخبره أنه سماه المشرق في حلى المشرق. وجمع مثله فسماه المغرب في حلى المغرب. فقال نعينك بما عندنا من الخزاين، ونوصلك إلى ما لا عندنا. مثل خزاين الموصل وبغداد، وتضيف لنا المغرب. فخدم على عادتهم، وقال أمر مولاي بذلك، إنعام وتأنيس، ثم قال له السلطان مداعباً، إن شعراءنا ملقبون بأسماء الطيور. وقد اخترت لك لقباً يليق بحسن صوتك وإيرادك للشعر، فإن كنت ترضى به، وإلا لم يعلمه عندنا، وهو البلبل، فقال قد رضي المملوك بذلك يا خوند. فتبسم السلطان، وقال اختر واحدة من ثلاث، أما الضيافة التي ذكرتها أول شعرك، وأما جائزة القصيدة، وإما حق الإسم. فقال يا خوند المملوك ممن لا يختنق بعشر لقم، فكيف بثلاث. فطرب السلطان، وقال هذا مغربي ظريف، ثم أتبعه من الدنانير والخلع الملوكية والتواقيع بالأرزاق ما لا يوصف. ولقي بحضرته عون الدين العجمي، وهو بحر لا تنزفه الدلاء، والشهاب التلعفري الشهير الذكر، والتاج بن شقير، وابن نجيم الموصلي، والشرف بن سليمان الإربلي. وطائفة من بني الصاحب. ثم تحول إلى دمشق، ودخل الموصل وبغداد، ودخل مجلس السلطان المعظم ابن الملك الصالح بدمشق، وحضر بمجلس خلوته. وكان ارتحاله إلى بغداد في عقب سنة ثمان وأربعين وستمائة في رحلته الأولى إليها. ثم رحل إلى البصرة، ودخل أرجان، وحج. ثم عاد إلى المغرب. وقد صنف في رحلته الأولى إليها مجموعاً سماه بالنفحة المسكية في الرحلة المكية. وكان نزوله بساحل مدينة إقلنية من إفريقية في إحدى جمادين من عام اثنين وخمسين وستمائة، واتصل بخدمة الأمير أبي عبد الله المستنصر فنال الدرجة الرفيعة من حظوته، وقال عند اتصاله به لحين قدومه:
وما زلت أضرب في الخافقين ... أروم البلاد وأرعى الدول
إلى أن رجعت إلى تونس ... محل الإمام وأقصى الأمل
فقلت البلاد لهذي قرىً ... وقلت الأنام لهذا خول
نكبتهوحدثني شيخنا الوزير أبو بكر بن الحكيم، أن المستنصر جفاه في آخر عمره، وقد أسن لجراء خدمة مالية أسندها إليه، وقد كان بلاءً منه قبل جفوة، أعقبها انتشال وعناية. فكتب إليه:
يا غزالاً في الحشا منزله ... وبعيني دائماً منهله
لا ترعبني بالجفا ثانية ... ما بقي في الجسم ما يحمله
فرق له، وعاد إلى حسن النظر فيه، إلى أن توفي تحت بر وعناية. رحمه الله
مولدهولد بغرناطة ليلة الفطر في سنة عشر وستماية.
وفاتهتوفي بتونس حرسها الله في أحواز عام خمسة وثمانين وستماية.
علي بن عبد الرحمن

بن موسى بن جودي القيسي

الأديب الكاتب يكنى أبا الحسن
حالهمن أهل المعرفة بالعلوم القديمة، وأصله من عمل سرقسطة. وكان صديقاً للوزير أبي الحسن بن هاني.
مشيختهقرأ على الحكيم أبي بكر بن الصايغ، المعروف بابن باجة . وكان خليع الرسن فيما ذكر عنه.
شعرهمن شعره:
خليلي من نعمان بالله عرجا ... على الأيك من وادي العقيق فسلما
وقولا له ما حال لبني لعله ... إذا سمع النجوى بلبنى تكلما
فعهدي به والظل ينفض دوحه ... وقد خضلت عيدانه فتنعما
تباكره لبنى لإتيان موعد ... عزيز عليها أن يخان ويصرما
نبث حديثها فنبكي بعبرة ... فترسلها ماءً ونرسلها دما
ومن شعره قوله:
أدر كأس المدام فقد تغنى ... بفرع الأيك أورقها الصدوح
وهب على الرياض نسيم صبح ... يمر كما ونى ساد طليح
وسال النهر يشكو من حصاه ... جراحات كما أن الجريم
وقال:
سقى الله دهراً ضم شمل مودة ... وجمع إخوان الصفاء بلا وعد
بميناء تعلوها الرياح بليلةً ... وتنظر منها الشمس بالأعين الرمد
وفاته: توفي بغرناطة في حدود الثلاثين وخمسماية.
ومن الطاريين

عمر بن خلاف

بن سليمان بن سلمة

من أهل شابش يكنى أبا علي.

حاله

كان فقيهاً أديباً مكثراً، شهير المكان بجهته، مولعاً بمكاتبة الأدباء، وتقييد ما يصدر عنهم، مؤرخاً من أهل النباهة والعناية. ألف كتاباً سماه نخبة الأعلاق، ونزهة الأحداق في الأدباء، وحلى من ذكر فما قصر من السداد. وله نظم ونثر وخطب، وبيعات ومراجعات، تضمنها الكثير من كتبه.
شعرهما قاله يخاطب بعض إخوانه:
خذها إليك أبا إسحق تذكرة ... من ذاكر لك في قرب وفي شحط
يرعى ذمامك لا تنسى لوازمه ... ولا يمازجه بالسهو والغلط
ولا يزال بحفظ العهد معتنياً ... ولا يعامل في البحران بالشطط
فأنت عندي أولى من أذمة ربحي ... ومن صفوتي في أرفع النمط
قد طال شوقي للإعلام منك بما ... لديك إذ فيه لي تأنيس مغتبط
وقد تيت بنكري في التغافل عن ... معهود ما كنت توليه لذي الشحط
وقد عفا رسم عرفان الإخاء بما ... أوليت من كثرة الإهمال والغلط
جبر أخي وهيه وارجع لصالح ما ... عودت في الكتب من مستحسن الخطط
وجد ببسط انبساط أنت تبذله ... فإن أقبح شيء قبض منبسط
خذ سلاماً كعرف المسك نفحته ... من ذي ولاءٍ بذاك المجد مغتبط
وفي مفاتحة بعض الأدباء:
أبا جعفر وافتك في صفحة الطرس ... عقيلة ود لم تشنها يد اللمس
لها حلل الإخلاص زياً وحليها ... عطر ثنا عرف روض الربى ينبس
وموجبها ما قد فشى من محامد ... حباك بها الرحمن ذو العرش والكرسي
وغر علوم حزتها ومعارف غلوت بها ... فحيي علي البدر والشمس
فإن رزقت منك القبول تشرفت ... وفازت بتحصيل المسرة والأنس
خطابك يا قاضي العدالة بغيتي ... وروحي وريحاني وقصوي مني نفسي
إقتضبتها أعلى الله قدرك، كما أسنى في سماء المعارف والأدب التالد والطارف بدرك، عن ود ملك زمامي، وفضل في سبيل المنافسة في خطبة ودادك غاية اهتمامي، وقد تقرر لدي من محاسنك وإحسانك بالسماع ما أوجب علي مخاطبتك عند تعذر المشافهة بألسنة اليراع، فانقدت بزمام ذلك الواجب، وقصدت أداءه على أصح المذاهب، راجياً من تجاوزك وإغضايك ما يليق بباهر علايك، وفي جوابك هو الشفاء، ولدى خطابك يلقى الاعتناء والاحتفاء، والله يطلع منك السار، ويصل لك المبار. وقال يخاطب السلطان:
إلى الحضرة العليا يستبق العبد ... وفي القرب سنها والدنو هو القصد
إلى حضرة الولي الإمارية التي ... تبلح فيها العدل وابتسم السعد
وفيها وجود للدين والدنا ... وقد خصها بالرحمة الصمد الفرد
وفاتهكان حياً في سنة خمس وستماية
علي بن أحمد بن محمد

بن يوسف بن عمر الغساني

من أهل قرية أرينتيرة من قرى سند مدينة وادي آش، يكنى أبا الحسن
حالهكان من جلة الطلبة ونيهائهم وأذكيائهم وصلحائهم. عنده معرفة بالفقه، ومشاركة في الحديث، ومعرفة بالنحو والأدب. وحسن نظم ونثر، من أحسن الناس نظماً للوثائق، وأتقنهم لها. وأعرفهم بنقدها، وأقصدهم لمعانيها يستعين على ذلك بأدب وكتابة، فيأتي بأشياء عجيبة.
مشيختهروى عن الراوية أبي العباس الخروبي. والمقري أبي الحسن طاهر بن يوسف بن فتح الأنصاري. والقاضي أبي محمد بن عبد الرحيم الخزرجي
تواليفهألف كتاباً في شرح المسند الصحيح لمسلم بن الحجاج في أسفار كثيرة، أجاد فيها الإجادة. وله كتاب سماه بالوسيلة في الأسماء الحسنى. ونظم في شمايل النبي عليه أفضل الصلاة والسلام.
شعرهله شعر في الزهد وغيره فمنه قوله:
أيا كريماً لم يضع ... لديك عبد أملك
بالباب من أنت له ... وود لو كان لك
عبدٌ له أسولة ... وليستحي أن يسلك
أفواههم تسله ... ولم تحسن عملك
فإن أنت خنته ... أمانة قد حملك
ولم تكن تشكر ما ... من فضله قد خولك

وكلما أهملته من ... حقه ما أهملك
إنا كما قالوا سوى ... أنك أعلى من ملك
تلك التي تؤنسني ... وترتجي بفضلك
بشراي إن نال ... الرضا بها توسلك
علي بن محمد علي

بن هيضم الرعيني

من أهل إشبيلية، يكنى أبا الحسن.
حالهالكاتب البليغ المحدث الراوية. قال الأستاذ، كان من أهل العلم والمشاركة، وغلبت عليه الكتابة السلطانية. واعتمدها صناعة. وكتب لجلة من ملوك الأندلس والعدوة. وكان انفصاله من الأندلس قبل سنة أربعين وستماية.
قلت، وكتب للسلطان المتوكل على الله أبي عبد الله بن هود، ثم للسلطان المتوكل الغالب بالله أبي عبد الله بن نصر. وسكن بغرناطة مدة مديدة. ثم رحل إلى مراكش. فكتب عن أمير سبتة، وعن ملوك الموحدين بمراكش. ونمت حاله ونبهت رتبته، واستقل بالإنشاء، بعد شيخة أبي زيد الفازازي، وكان محدثاً عارفاً بارواية، متعدد المشيخة. فاضلاً، ديناً. مشاركاً في كثير من المعارف. حسن الخط. جيد الكتابة. متوسط الشعر. قلت هذا الرجل له مشيخة في أصل ابن الخطيب طويلة اختصرتها .
شعره ونثرهمن ذلك ما جمعفيه بين النظم والنثر:
وافى الكتاب وقد تقلد جيده ... ما أنت تحسن نظمه وتجيده
من كل معنى ضمن لفظه في حلى ... خط يزيل طلى الطروس فريده
أبا المطرف دعوة من خالص ... لعلاك غابت وده وشهيده
أنت الوحيد بلاغة وبراعة ... ولك البيان طريفه وتليده
فانثر أنت بديعه وعماده ... وانظم أنت حبيبه ووليده
إيه أيها السيد الذي جلت سيادته، وحلت صميم الفؤاد سعادته، ودامت بها ينفع الناس عادته. ألقى إلى كتاب كريم، خطته تلك اليمنى التي اليمن فيها تخطه. ونسقت جواهر بيانه، التي راق بها سمطه، فلا تسلوا عن ابتهاجي بأعاجيبه، وانتهاجي لأساليبه، وشدة كلفي بالتماح وسيمه، وجدة شغفي باسترواح نسيمه. فإنه قدم، وأنس النفس راحل، واستعاده وروض الفكر ماحل، فجاده، لا جرم أنه بما حوى من حدق النوى، وروى من طرق الهوى، وبكى الربيع المحيل، وشكى من صابح الرحيل، هيج لواعج الأشواق وأثارها، وحرك للنفس حوارها، فحنت، واستوهبت العين مدارها فما ضنت. فجاشت لوعة أسكنت، وتلاشت سلوة عنت، وكف دمع كف، وثقل عذلٌ خف، واشتد الحنين، وامتد الأنين، وعلا النحيب، وعرا الوجيب، والتقى الصب والحين، وهدى المحب قدر ما جناه البين، وطالما أعمل في احتمال المشاق عزيمه، وشد لاجتياب الآفاق حيازيمه.
وادع مثوى المقام معتزما ... لا يرى الغرام ملتزما
وأزمع الباين عن أحبته ... أشعل البين في الحشى ضرما
وهل جرى ذاك في تصوره ... فربما أحدث الهوى لمما
إلهي ألا نوى مشيئته ... شملاً من العيش كان منتظما
وعاذلٌ قال لي يعنتني ... لا تبد فيما فعلته ندما
ما حيلة في يدي فأعملها ... عدلٌ من الله كل ما حكما
أما أن القلب لو فهم حقيقة البين قبل وقوعه وعلم قدر ما يشب من الروع في روعه، لبالغ في اجتنابه، واعتقد المعفى عنه من قبيل المعتنى به. ولحا الله الأطماع، فإنها تستدرج المرء وتغره، وتغريه بما يسره. ما زالت تقتل في الغارب والذروة، وتخيل بالترغيب والثروة، حتى أنأت عن الأحباب والحبايب، ورمت بالغريب أقصى المغارب. فيا لوحشة ألوت بإيناسة، وبالغربة أحلت في غير وطنه وناسه، ويا عجباً للأيام وإساءتها، وقرب مسرتها من مساتها، كأنها لم تتحف بوصال، ولم تسعف باتصال، ولم تمتع بشباب، ولم تفتح لقضاء أوطار النفس كل باب.
عجباً للزمان عق وعاقا ... وعدمنا مسرة ووفاقا
أين أيامه وأين ليال ... كلآل تلألؤاً واتساقا
كم نعمنا بظلها فكأنا ... مرقها للصبا علينا رماقا
كم بغرناطة وحمص وصلنا ... باصطباح من السرور اغتباقا
وفي ربى نجد تلك أو نهر هدى ... والأماني تجري إلينا استباقا

في رياض راقت وراق ولكن ... حين ند الحيا لها فأراقا
رق فيها النسيم فهو نسيب ... قد سبا رقة نفوساً رفاقا
وثنا للغصون منها قدوداً ... تتلاقى تصافحاً واعتناقا
كلما هب من صباه عليل ... وتداوى بها العليل أفاقا
حكم السعد للأحبة فيه ... بكؤوس الوصال أن تنساقا
ثم كرت للدهر عادة سوء ... شق فيها خطب النوى حين شاقا
شتت الشمل بعد طول اجتماع ... وسقى الفراق كأساً دهاقا
وأعاد الأوطان قفراً ولكن ... قد أعاد القطان فيها الرفاقا
ليت شعري والعيش تطوي بالفيافي ... أشاماً تبوؤا أم عراقا
يا حداة القلوب رفقاً بصبٍّ ... بلغت نفسه السياق اشتياقا
فآه من شجوة وآه لبين ألزم ... النفس لوعة واحتراقا
هذه يا سيدي استراحة من فؤاد، وقدته الفرقة والقطيعة، واستباحته لحمى الوقار بما لم تحظره الشريعة، فقديماً تشوكيت الأحزان، وتبوكيت الأوطان، وحن المشتاق، وكن له من الوجد ما لا يطاق، فاستوقف الركب يشكو البلابل، واستوكف السحب لسقيا المنازل، وفدى الربع وإن زاده كرباً، ومن له إن يلم لائماً له تربا. حسبه دموع تفيض مجاريها، ونجوم يسامرها ويسايرها.
ألف السهاد فشأنه إدمانه ... واستغرقت أحيانه أشجانه
وشكا جفا الطيف إذ لم يأته ... هل ممكن من لم ينم إتيانه
واستعبدته صبابة وكذا الهوى ... في حكم أحراره عبدانه
كم رام كتمان المحبة جهده ... ودموعه يبدو بها كتمانه
وإذا المحب طوى حديث غرامه ... كبى الضلوع وشت به أجفانه
وهي طويلة.
وفاتهبمراكش سحر ليلة الأربعاء الرابعة والعشرين من رمضان سنة ستة وستين وستماية. ودفن عقب ظهره، بجبانة الشيوخ مقارباً باب السادة أحد أبواب قصر مراكش. وكان الحفل في جنازته عظيماً. لم يتخلف كبير أحد.
علي بن محمد بن علي بن البنامن أهل وادي آش يكنى أبا الحسن.
حالهمن الإكليل الزاهر، قال فيه، فاضل يروقك وقاره، وصقرٌ بعد مطاره. قدم من بلده وادي آش يروم اللحاق بكتاب الإنشاء، وتوسل بنظم أنيق، وأدب في نسب الإجادة عريق، تعرف براعته عن لسان ذليق، وطبع طليق، وذكاء بالأثرة خليق، وبينا هو يلحم في ذلك الغرض ويسدي، ويعيد ويبدي، وقد كادت وسايله أن تنجح، وليلة رجايه أن تصبح، اغتاله الحمام، وخانته الأيام، والبقاء لله والدوام.
شعرهمن شعره يخاطبني لما تقلدت الكتابة العليا:
هو العلا جرى باليمن طايره ... فكان منك على الآمال ناصره
ولو جرى بك ممتداً إلى أمل ... لأعجز الشمس ما أمت عساكره
لقد حباه منيع العز خالقه ... بفاضل منك لا تحصى مآثره
فليزه فخراً فما خلقٌ يعارضه ... ولا علاً مدى الدنيا يفاخره
لله أوصافك الحسنى لقد عجزت ... من كل ذي لسن عنها خواطره
هيهات ليس عجيباً عجز ذيل سن ... عن وصف بحر رمى بالدر زاخره
هل أنت إلا الخطيب ابن الخطيب ... ومن زانت حلى الدين والدنيا مفاخره
فإن يقصر عن الأوصاف ذو أدب ... فما بدا منك في التقصير عاذره
يابن الكرام الألى ما شب طفلهم ... إلا وللمجد قد شدت مآزره
مهلاً عليك فما العلياء قافية ... ولا العلا بسجعٍ أنت ناثره
ولا المكارم طرساً أنت راقمه ... ولا المناقب طباً أنت ماهره
ماذا على سابق يسري على سنن ... إن كان من نفعه خل يسايره
سر حيث شيت من العليا سيداً ... فما أمامك سابقٌ تحاذره

أنت الإمام لأهل الفخر إن فخروا ... أنت الجواد الذي عزت مفاخره
ما بعد ما حزته من عزة وعلاً ... شأو يطارد فيه المجد كابره
نادت بك الدولة الشعرى محتدها ... نداء مستجد أزراً يوازره
حلية لما برد البر مرتدياً ... وصج يمنك فجر السعد ساجره
فالملك يرفل في أبراده مرحاً ... قد عمت الأرض إشراقاً بشايره
فأضاء بها نعمة ما أن يقوم فيها ... من اللسان ببعض الحق شاكره
وليهننا أنه ألقت مقالدها ... إلى سرى زكت منه عناصره
فإنه بدر تم في مطالعها ... قد طبق الأرض بالأنوار نايره
ومن أطبع ما هز به إلى إقامة سوقه، ورعى حقوقه، قوله:
يا معدن الفضل موروثاً ومكتسبا ... فكل مجد إلى عليائها انتسبا
بباب مجدكم الأسمى أخو أدب ... مستصرخ بكم يستنجد الأدبا
ذل الزمان له طوراً فبلغه ... من بعض آماله بعض الذي طلبا
والآن أركبه من كل نابية ... صعب الأعنة لا يألو به نصبا
فحملته دواعي حبكم وكفى ... بذاك شافع صدقٍ يبلغ الأربا
فهل سرى نسمة من جاهكم ... فيها خليفة الله فينا يمطر الذهبا
وأهدى إلي قباقب خشب برسمي ومعها من جنسها صغار للأولاد من مدينة وادي آش من خشب الجوز وكتب لي معها:
هاكها ضمراً مطايا حساناً ... نشأت في الرياض قضباً لدانا
وثوت بين روضة وغدير ... مرضعات من النمير ليانا
ثم لما أراد إكرامها الله ... وسنى لها المنى والأمانا
قصدت بابك العلى ابتداراً ... ورجت في قبولك الإحسانا
قد قبلنا جيادك الدهم لما ... لما أن بلونا منها العتاق الحسانا
أقبلت خلف كل حجر ببيع ... خلعت وصفها عليه عيانا
فقبلنا برعيها وفسحنا في ... ديار العلى لها ميدانا
وأردنا امتطاها فأفخذنا ... من شراك الأديم فيها عنانا
قدمت قبلها كتيبة سحر ... من كتابٍ سبت به الأذهانا
مثلما تجنب الجيوش المذاكى ... عدة للقاء مهما كانا
لم ترق مقلتي ولا رق قلبي ... كحلاها براعة وبيانا
من يكن مهدياً فمثلك يهدى ... لم أجد للثنا عليك لسانا
وفاتهتوفي في الرابع لشعبان من عام خمسين وسبعماية معتبطاً في الطاعون لم يبلغ الثلاثين.
الواردعلي بن محمد بن علي العبدري سكن غرناطة، يكنى أبا الحسن ويعرف بالوارد، ويشهر أبوه باليربوني.
حاله

بقية مسني أدباء الأندلس في فن الهزل والمعرب، والهزل متولى شهرته، وله القدح المعلى فيه، والطريقة المثلى، ظريف المأخذ، نبيل الأغراض، حافظ للعيون، مال بآخرة إلى النسك، وصحبة الصالحين. ولم يزل بحاله الموصوفة إلى أن استولت عليه الكبرة، وظرفه يتألق خلال النسك. وجرى ذكره في الإكليل الزاهر بما نصه: أديب نار ذكايه كأنه يتوقد، وأريبٌ لا يعترض كلامه ولا ينقد. أما الهزل فطريقته المثلى، التي ركض في ميدانها وجلى، وطلع في أفقها وتجلى، فاصبح علم أعلامها، وعابر أحلامها. إن أخذ بها في وصف الكاس، وذكر الورد والآس، وألم بالربيع وفصله، والحبيب ووصله، والروض وطيبه، والغمام وتقطيبه. شق الجيوب طرباً، وعل النفوس إرباً وضرباً. وأن اشفق لاعتلال العشية، في فرش الربيع الموشية، ثم تعداها إلى وصف الصبوح، وأجهز على الرق المجروح، وأشار إلى نغمات الورق يرفلن في الحلل الزرق، وقد اشتعلت الليل نار البرق، وطلعت بنور الصباح في شرفات الشرق، سلب الحليم وقاره، وذكر الخليع كأسه وعقاره، بلسان يتزاحم على مورده الخيال، ويتدفق من حافاته الأدب السيال، وبيان يقيم أود المعاني، ويشيده صانع اللفظ محكمة المباني، ويكسو حلل الإحسان جسوم المثالث والمثاني، إلى نادرة لمثلها يشار، ومحاضرة يجنى بها الشهد ويسار.
وقد أثبت من شعره المعرب. وإن كان لا يتعاطاه إلا قليلاً، ولا يجاوره إلا تعليلاً، أبياتاً لا تخلو من مسحة جمال على صفحاتها، وهبة طيبٍ ينم في نفحاتها.
فمن ذلك قوله:
يذكرني حسن الكواعب روضة ... لها خطر قيد النواظر مونق
خدود من الورد النضير وأعين ... من النرجس السامي إليها تحدق
وخامات زرع يانع كذؤاب ... وما شقها من جدول الماء مفرق
ومن شعره قوله:
أسافرة النقاب سحرت لما ... أمطت الخز عن بدر التمام
وتيمت الفؤاد بفنج طرفٍ ... كحيل ما يفيق من المنام
لعمر أبيك ما بالنوم بعدٌ ... عن الجفن المكحل بالظلام
ومن معانيه المخترعة وأغراضه المبتدعة. وكلها كذلك:
مالي إذا غبتم تهمى لفرقتكم ... عيني بمنهمر كالغيث هتان
أشبهت نيلوفراً والشمس بهجتكم ... إن غبتم غبت في أمواه أجفان
السقم يشهد لي والدمع برح بي ... متى استوى عندكم سرٌّ وإعلان
وقال من المستحسن الذي رمى فاصاب، واستمطر طبعه فصاب:
يقولون لاح الشيب فاله عن الصبا ... وعن قهوة تصبو لها وتنيب
فقلت دعوني نصطحبها سلافة ... على صبح شيبي فالصبح عجيب
وقال كذلك:
لا تعجبن من اليليد مخولاً ... ومن اللبيب يعد في الفقراء
الماء أصل الخصب غير مدافع ... وأخو البلادة طبعه كالماء
والنار مؤثرة الجدوب وإنها ... لشبيهة بطبائع الفطناء
ومن قصائده الغربية:
ومعذرٌ لحظ المشيب بعارضي ... فتصرمت دوني حبال وصاله
هلا ثنتهه نسبة لمحبه ... إن العذار لشيبة لجماله
وقال أيضاً:
تحر الصدق إن حدثت يوماً ... وإن حدثت لا تنقل حديثاً
وكن للسر صواناً كتوماً ... وريما كان سرك أو حديثاً
قال مما يكتب في غمد سيف:
لئن راق مني منظر بان حسنه ... لقد سامني بالمهند باطن
كان أديمي رقعة من حديقة ... تلقفها صلٌّ لدى الروض كامن
وقال مما يكتب على قوس:
إن كان من وتر الألحان منبعثاً ... سرور قوم مدى الآصال والبكر
فإن حزن العدا ما نال منبعثاً ... مني وحينهم في النقر في وتر
وقال في غير هذا الغرض:
الخير كل الخير في ستة لم ... تلف إلا في كرام الرجال
الحزم والحلم وحمل الأذى ... والصبر والصمت وصدق المقال
ومما نختتم به محاسنه قوله:
ألا إن باب الله ليس بمغلق ... ولا دونه من مانع لموفق
ولكن بلينا في سلوك طريقه ... بكلبٍ من الشيطان ليس بمطرق
فمن يرم بالدنيا إليه كلقمة ... فذاك الذي من شره ليس يتق

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كتاب الفتن وأشراط الساعة باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج وفتن النهاية لابن كثير

الفتن واشراط الساعة في مسلم كتاب الفتن وأشراط الساعة باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج [2880] حدثنا عمرو الناقد حدثنا سفيان ب...