مجلد 1.من كتاب : الإحاطة في أخبار غرناطة لسان الدين ابن الخطيب
الجزء الأول
القسم الأول
في حلى المعاهد والأماكن والمنازل والمساكن
في اسم هذه المدينة
ووضعها
على إجمالٍ واختصار
يقال غرناطة ويقال إغرناطة، وكلاهما أعجمى، وهي مدينة
كورة إلبيرة، فبينهما فرسخان وثلثا فرسخ. وإلبيرة من أعظم كور الأندلس، ومتوسطة ما
اشتمل عليه الفتح من البلاد، وتسمى في تاريخ الأمم السالفة من الروم، سنام
الأندلس، وتدعى في القديم بقسطيلية. وكان لها من الشهرة والعمارة، ولأهلها من
الثروة والعدة، وبها من الفقهاء والعلماء، ما هو مشهور. قال أبو مروان ابن حيان: كان يجتمع بباب
المسجد الجامع من إلبيرة خمسون حكمة كلها من فضة لكثرة الأشراف بها. ويدل على ذلك
آثارها الخالدة، وأعلامها الماثلة، كطلل مسجدها الجامع، الذي تحامى استطالة البلى،
كسلت عن طمس معالمه أكف الردى، إلى بلوغ ما فسح له من المدى.
بناه الأمير محمد بن عبد الرحمن بن الحكم، أمير المؤمنين
الخليفة بقرطبة رحمه الله، على تأسيس حنش بن عبد الله الصنعاني الشافعي رحمه الله،
وعلى محرابه لهذا الوقت: بسم الله العظيم، بنيت لله، أمر ببنائها الأمير محمد بن
عبد الرحمن، أكرمه الله، رجاء ثوابه العظيم، وتوسيعاً لرعيته، فتم بعون الله على
يدي عبد الله بن عبد الله عامله على كورة إلبيرة في ذي قعدة سنة خمسين ومائتين.
ولم تزل الأيام تخيف ساكنها، والعفاء يتبوأ مساكنها،
والفتن الإسلامية تجوس أماكنها، حتى شملها الخراب، وتقسم قاطنها الاغتراب، وكل
الذي فوق التراب تراب. وانتقل أهلها مدة أيام الفتنة البربرية سنة أربعمائة من
الهجرة، فما بعدها، ولجأوا إلى مدينة غرناطة، فصارت حاضرة الصقع، وأم المصر، وبيضة
ذلك الحق، لحصانة وضعها، وطيب هوائها، ودرور مائها، ووفور مدتها، فأمن فيها
الخائف، ونظم النشر، ورسخت الأقدام، وتأثل المصر، وهلم جرا. فهي بالأندلس، قطب
بلاد الأندلس، ودار الملك، وقرى الإمارة، أبقاها الله متبوأ الكلمة إلى أن يرث
الله الأرض ومن عليها بقدرته.
من كتاب إلبيرة. قال: بعد ذكر إلبيرة، وقد خلفها بعد ذلك
كله مدينة غرناطة من أعظم مدنها وأقدمها، عندما انقلبت العمارة إليها من إلبيرة،
ودارت أفلاك البلاد الأندلسية، فهي في وقتنا هذا قاعدة الدنيا، وقرارة العليا،
وحاضرة السلطان، وقبة العدل والإحسان. لا يعد لها في داخلها ولا خارجها بلد من
البلدان، ولا يضاهيها في اتساع عمارتها، وطيب قرارتها، وطنٌ من الأوطان. ولا يأتي
على حصر أوصاف جمالها، وعد أصناف جلالها، قلم البيان. أدام الله فيها العز
للمسلمين والإسلام، وحرسها ومن اشتملت عليه من خلفائه، وأنصار لوائه، بعينه التي
لا تنام، وركنه الذي لا يرام.
وهذه المدينة من معمور الإقليم الخامس، يبتدىء من الشرق،
من بلاد يأجوج ومأجوج، ثم يمر على شمال خراسان، ويمر على سواحل الشأم، مما يلي
الشمال، ويمر على بلاد الأندلس، قرطبة وإشبيلية وما والاها إلى البحر المحيط
الغربي. وقال صاعد بن أحمد في كتاب الطبقات إلى معظم الأندلس في الإقليم الخامس،
وطائفة منها في الإقليم الرابع، كمدينة إشبيلية، ومالقة، وغرناطة، وألمرية ومرسية.
وذكر العلماء بصناعة الأحكام أن طالعها الذي اختطت به
السرطان، ونحلوها، لأجل ذلك، مزايا، وحظوظاً من السعادة، اقتضاها تسيير أحكام
القرانات الانتقالية على عهد تأليف هذا الموضع.
وطولها
سبع وعشرون درجة وثلاثون دقيقة، وعرضها سبع وثلاثون درجة وعشر دقائق. وهي مساوية
في الطول بأمر يسير لقرطبة، وميورقة، وألمرية، وتقرب في العرض من إشبيلية،
وألمرية، وشاطبة وطرطوشة، وسردانية، وأنطاكية، والرقة. كل ذلك بأقل من درجة. فهي
شاميةٌ في أكثر أحوالها، قريبة من الاعتدال، وبينها وبين قرطبة، أعادها الله
تعالى، تسعون ميلا. وهي منها بين شرق وقبلة. وبحر الشأم يحول ويجاجز بين الأندلس
وبلاد العدوة، وبين غربٍ وقبلة على أربعة برد. والجبال بين شرق وقبلة، والبراجلات بين
شرق وجوف، والكنبانية بين غرب وقبلة، وبين جوف وغرب، فهي لمكان جوار الساحل، ممارة
بالبواكر الساحلية، طيبة البحار، وركاب لجهاد البحر، ولمكان استقبال الجبال،
المقصودة بالفواكة المتأخرة اللحاق، معللةٌ بالمدخرات، استدبار الكنبانية واضطبار
البراجلات، بحرٌ من بحور الحنطة، ومعدنٌ للحبوب المفضلة، ولمكان شلير، جبل الثلج،
أحد مشاهير جبال الأرض، الذي ينزل به الثلج شتاءً وصيفاً، وهو على قبلة منها على
فرسخين، وينساب منه ستةٌ وثلاثون نهراً من فوهات الماء وتنبجس من سفوحه العيون، صح
منها الهواء، واضطردت في أرجائها وساحاتها المياه، وتعددت الجنات بها والبساتين،
والتفت الأدواح، وشمر الرواد على منابت العشب في مظان العقار مستودعات الأدوية والترياقية.
وبردها لذلك في المنقلب الشتوي شديد، وتجمد بسببه الأدهان والمائعات، ويتراكم
بساحاتها الثلج في بعض السنين، فجسوم أهلها لصحة الهواء صلبة، وسحانهم خشنة،
وهضومهم قوية، ونفوسهم لمكان الحر الغريزي جرية.
وهي دار منعة وكرسي ملك، ومقام حصانة. وكان ابن غانية
يقول للمرابطين في مرض موته، وقد عول عليها للامتساك بدعوتهم: الأندلس درقةٌ،
وغرناطة قبضتها، فإذا جشمتم يا معشر المرابطين القبضة، لم تخرج الدرقة من أيديكم.
ومن أبدع ما قيل في الاعتذار عن شدة بردها، ما هو غريب
في معناه، قول شيخنا القاضي أبي بكر بن شبرين رحمة الله:
رعى الله من غرناطة متبوأ ... يسر كئيباً أو يجير طريدا
تبرم منها صاحبي عندما رأى ... مسارحها بالبرد عدن جليدا
هي الثغر صان الله من أهلت به ... وما خير ثغرٍ لا يكون
برودا
وقال الرازي عند ذكر كورة إلبيرة: ويتصل بأحواز قبرة
كورة إلبيرة، وهي بين الشرق والقبلة، وأرضها سقى غزيرة الأنهار، كثيرة الثمار،
ملتفة الأشجار، أكثرها أدواح الجوز، ويحسن فيها قصب السكر، ولها معادنٌ جوهريةٌ من
ذهب، وفضة، ورصاص، وحديد. وكورة إلبيرة أشرف الكور، نزلها جند دمشق. وقال: لها من
المدن الشريفة مدينة قسطلية، وهي حاضرة إلبيرة، وفحصها لا يشبه بشيء من بقاع الأرض
طيباً ولا شرفاً إلا بالغوطة، غوطة دمشق.
وقال
بعض المؤرخين: ومن كرم أرضنا أنها لا تعدم زريعةً بعد زريعةٍ، ورعياً بعد رعى، طول
العام، وفي عمالتها المعادن الجوهرية من الذهب، والفضة، والرصاص، والحديد،
والتوتية. وبناحية دلاية من عملها، عود اليلنجوج، لا يفوقه العود الهندي ذكاً وعطر
رائحة. وقد سيق منه لخيران صاحب المرية أصلٌ كان منبته بين أحجار هناك. وبجبل شلير
منها سنبل فائق الطيب، وبه الجنطيانا، يحمل منه إلى جميع الآفاق، وهو عقيرٌ رفيع،
ومكانه من الأدوية، الترياقية مكانه. وبه المر قشينة على اختلافها،
واللازورد. وبفحصها وما يتصل به القرمز. وبها من العقار والأدوية النباتية
والمعدنية ما لا يحتمل ذكرها الإيجاز. وكفى بالحرير الذي فضلت به فخراً وقيتةً،
وغلة شريفة، وفائدة عظيمة، تمتاره منها البلاد، وتجلبه الرفاق، وفضيلة لا يشاركها
فيها إلا البلاد العراقية. وفحصها الأفيح المشبه بالغوطة الدمشقية حديث الركاب، وسمر
الليالي، قد دحاه الله في بسيط سهل تخترقه المذانب، وتتخلله الأنهار جداول،
وتتزاحم فيه القرى والجنات، في ذرع أربعين ميلاً أو نحوها، تنبو العين فيها عن
وجهه، ولا تتخطى المحاسن منها إلا مقدار رقعة الهضاب، والجبال المتطامية منه بشكل ثلثي
دارةٍ، قد عرت منه المدينة فيما يلي المركز لجهة القبلة، مستندة إلى أطواد سامية،
وهضاب عالية، ومناظر مشرفة: فهي قيد البصر، ومنتهى الحسن، ومعنى الكمال، أضفى الله
عليها، وعلى من بها من عباده المؤمنين جناح ستره، ودفع عنهم عدو الدين بقدرته.
فتح هذه المدينة
ونزول العرب الشاميين من جند دمشق بها وما كانت عليه أحوالهم، وما تعلق
بذلك
من تاريخ
قال المؤلف: اختلف المؤرخون في فتحها. قال ابن القوطية:
إن يليان الرومي الذي ندب العرب إلى غزو الأندلس طلباً لو تره من ملكها لذريق بما
هو معلوم، قال لطارق بن زياد مفتتحها عندما كسر جيش الروم على وادي لكه: قد فضضت
جيش القوم ودوخت حاميتهم، وصيرت الرعب في قلوبهم، فاصمد لبيضتهم، وهؤلاء أدلاء من
أصحابي، ففرق جيوشك في البلدان بينهم، واعمد أنت إلى طليطلة بمعظمهم، وأشغل القوم
عن النظر في أمرهم، والاجتماع إلى ولي رأيهم.
قال: ففرق طارق جيوشه من إستجة، فبعث مغثياً الرومي،
مولى الوليد ابن عبد الملك بن مروان إلى قرطبة، وبعث جيشاً آخر إلى مالقة، وأرسل
جيشاً ثالثاً إلى غرناطة مدينة إلبيرة، وسار هو في معظم الناس إلى كورة جيان يريد
طليطلة. قال فمضى الجيش الذي وجه طارق إلى مالقة ففتحها، ولجأ علوجها إلى جبال
هناك ممتنعة. ثم لحق ذلك الجيش بالجيش المتوجة إلى إلبيرة، فحاصروا مدينتها، وفتحوها عنوة،
وألفوا بها يهوداً ضموهم إلى قصبة غرناطة، وصار لهم ذلك سنة متبعة، متى وجدوا
بمدينة فتحوها يهوداً، يضمونهم إلى قصبتها، ويجعلون معهم طائعةً من المسلمين
يسدونها. ثم مضى الجيش إلى تدمير.
وكان دخول طارق بن زياد الأندلس يوم الإثنين لخمس خلون
من رجب سنة اثنين وتسعين. وقيل في شعبان. وقيل في رمضان، بموافقة شهر غشت من
شهور العجمية.
وذكر معاوية بن هشام وغيره، أن فتح ما ذكر تأخر إلى دخول
موسى ابن نصير في سنة ثلاث وتسعين.
فتوجه ابنه عبد الأعلى في جيش إلى تدمير فافتتحها، ومضى
إلى إلبيرة فافتتحها، ثم توجه إلى مالقة.
قال المؤلف رحمة الله: ولما استقر ملك الإسلام بجزيرة
الأندلس، ورمى إلى قصبتها الفتح، واشرأب في عرصاتها الدين، ونزلت قرطبة وسواها
العرب، فتبوؤوا الأوطان، وعمروا البلدان، فالداخلون على يد موسى بن نصير يسمون
بالبلديين والداخلون بعدهم مع بلج بن بشر القشيري، يسمون بالشاميين، وكان دخول بلج
بن بشر القشيري بالطالعة البلجية سنة خمس وعشرين ومائة.
ولما
دخل الشاميون مع أميرهم بلج، حسبما تقرر في موضعه، وهم أسود الشرى عزة وشهامة، غص
بهم السابقون إلى الأندلس، وهم البلديون، وطالبوهم بالخروج عن بلدهم الذي فتحوه،
وزعموا أنه لا يحملهم وإياهم، واجتمعوا لغزوهم، فكانت الحروب تدور بينهم، إلى أن
وصل الأندلس، أبو الخطار حسام بن ضرار الكلبي، عابراً إليها البحر من ساحل تونس،
وأظل على قرطبة على حين غفلة، وقد ستر خبر نفسه، والحرب بينهم، فانقاد إليه الجميع
بحكم عهد مدينه حنظلة ابن صفوان وإلى إفريقية، وقبض على وجوه الشاميين عازماً عليهم
في الإنصراف حسبما هو مشهور، ورأى تفريق القبائل في كور الأندلس، ليكون أبعد
للفتنة، ففرقهم، وأقطعهم ثلث أموال أهل الذمة، الباقين من الروم، فخرج القبائل
الشاميون عن قرطبة. قال أبو مروان: أشار على أبي الخطار، أرطباس قومس الأندلس،
وزعيم عجم الذمة، ومستخرج خراجهم لأمراء المسلمين - وكان هذا القومس شهير العلم
والدهاء - لأول الأمر، بتفريق القبائل الشاميين العلمين عن البلد، عن دار الإمارة
قرطبة، إذ كانت لا تحملهم، وإنزالهم بالكور، على شبه منازلهم التي كانت في كور
شامهم، ففعل ذلك على اختيار منهم، فأنزل جند دمشق كورة إلبيرة، وجند الأردن كورة
جيان، وجند مصر كورة باجة، وبعضهم بكورة تدمير: فهذه منازل العرب الشاميين، وجعل لهم
ثلث أموال أهل الذمة من العجم طعمةً، وبقي العرب والبلديون والبرابر شركاؤهم، فلما
رأوا بلداناً شبه بلدانهم بالشأم، نزلوا وسكنوا واغتبطوا وكبروا وتمولوا، إلا من
كان قد نزل منهم لأول قدومه في الفتوح على عنائهم موضعاً رضيا، فإنه لم يرتحل عنه،
وسكن به مع البلديين. فإذا كان العطاء أو حضر الغزو ولحق بجنده، فهم الذين كانوا
سموا الشادة حينئذ.
قال أحمد بن موسى: وكان الخليفة يعقد لواءين، لواءٌ
غازياً، ولواءً مقيماً، وكان رزق الغازي بلوائه مائتي دينار. ويبقى المقيم بلا رزق
ثلاثة أشهر، ثم يدال بنظيره من أهله أو غيرهم. وكان الغزاة من الشاميين مثل إخوة المعهود
له أو بنيه أو بني عمه، يرزقون عند انقضاء غزاته عشرة دنانير، وكان يعقد المعقود له،
مع القائد، يتكشف عمن غزا، ويستحق العطاء، فيعطى على قوله تكرمة له، وكانت خدمتهم
في العسكر، واعتراضهم إليه، ومن كان من الشاميين غازياً من غير بيوتات العقد،
ارتزق خمسة دنانير عند انقضاء الغزو. ولم يكن يعطى أحدٌ من البلديين شيئاً غير
المعقود له، وكان البلديون أيضاً يعقد لهم لواءان، لواء غاز، ولواء مقيم، وكان
يرتزق الغازي مائة دينار وازنة، وكان يعقد لغيره إلى ستة أشهر، ثم يدال بنظيره من
غيرهم، ولم يكن الديوان والكتبة إلا في الشاميين خاصة، وكانوا أحراراً من العشر،
معدين للغزو، ولا يلزمهم إلا المقاطعة على أموال الروم التي كانت بأيديهم، وكان
العرب من البلديين يؤدون العشر، مع سائر أهل البلد، وكان أهل بيوتاتٍ منهم يغزون
كما يغزو الشاميون، بلا عطاء، فيصيرهم إلى ما تقدم ذكره. وإنما كان يكتب أهل البلد
في الغزو، وكان الخليفة يخرج عسكرين، إلى ناحيتين، فيستنزلهم، وكانت طائفةٌ ثالثة
يسمون النظرا، من الشاميين والبلديين، كانوا يغزون كما يغزو أهل البلد من
الفريقين، وقد بينا نبدة من أحوال هؤلاء العرب. والاستقصاء يخرج كتابنا عن غرضه.
والإحاطة لله سبحانه.
ذكر ما آل إليه حال من ساكن المسلمين..
بهذه الكورة من النصارى المعاهدين على الإيجاز والاختصار
قال
المؤلف: ولما استقر بهذه الكورة الكريمة أهل الإسلام، وأنزل الأمير أبو الخطار
قبائل العرب الشاميين بهذه الكورة، وأقطعهم ثلث أموال المعاهدين، استمر سكناهم في
غمار من الروم، يعالجون فلاحة الأرض، وعمران القرى، يرأسهم أشياخ من أهل دينهم،
أولو حنكة ودهاء ومداراة، ومعرفة بالجباية اللازمة لرؤوسهم. وأحدهم رجل يعرف بابن
القلاس، له شهرة وصيت، وجاه عند الأمراء بها. وكانت لهم بخارج الحضرة، على غلوتين،
تجاه باب إلبيرة في اعتراض الطريق إلى قولجر، كنيسة شهيرة، اتخذها لهم أحد الزعماء
من أهل دينهم، استر كبه بعض أمرائها في جيش خشن من الروم، فأصبحت فريدة في العمارة
والحلية، أمر بهدمها الأمير يوسف بن تاشفين، لتأكد رغبة الفقهاء، وتوجه فتواهم.
قال ابن الصيرفي: خرج أهل الحضرة لهدمها يوم الإثنين عقب جمادى الآخرة من عام اثنين
وتسعين وأربعمائة، فصيرت للوقت قاعا، وذهبت كل يد بما أخذت من أنقاضها وآلاتهما.
قلت، ومكانها اليوم مشهورٌ، وجدارها مائلٌ ينبىء عن إحكام وأصالة، وعلى بعضها
مقبرةٌ شهيرة لابن سهل بن مالك رحمه الله.
ولما تحركت لعدو الله الطاغية ابن رذمير ريح الظهور، على
عهد الدولة المرابطية، قبل أن يخضد الله شوكته على إفراغة بما هو مشهور، أملت
المعاهدة من النصارى لهذه الكورة إدراك الثرة وأطمعت في المملكة، فخاطبوا ابن
رذمير من هذه الأقطار، وتوالت عليه كتبهم وتواترت رسلهم ملحة بالاستدعاء مطمعة في دخول
غرناطة. فلما أبطأ عنهم، وجهوا إليه زماماً يشتمل على إثني عشر ألفاً من أنجاد
مقاتليهم، لم يعدوا فيها شيخاً ولا غراً، وأخبروه أن من سموه، ممن شهرت أعينهم
لقرب مواضعهم، وبالبعد من يخفي أمره، ويظهر عند ورود شخصه، فاستأثروا طمعه
وابتعثوا جشعه، واستفزوه بأوصاف غرناطة، وما لها من الفضائل على سائر البلاد
وبفحصها الأفيح، وكثرة فوائدها من القمح والشعير، والكتان، وكثرة المرافق، من
الحرير والكروم، والزيتون، وأنواع الفواكه، وكثرة العيون والأنهار، ومنعة قبتها
وانطباع رعيتها، وتأتي أهل حاضرتها، وجمال إشرافها وإطلالها، وأنها المباركة التي
يمتلك منها غيرها، المسماة سنام الأندلس عند الملوك في تواريخها، فرموا حتى أصابوا
غربه، فانتخب وأحشد، وتحرك أول شعبان من عام خمسة عشر وخمسمائة وقد أخفى مذهبه،
وكتم أربه، فوافى بلنسية، ثم إلى مرسية، ثم إلى بيرة، ثم اجتاز بالمنصورة ثم إنحدر
إلى برشانة، ثم تلوم إلى وادي ناطلة، ثم تحرك إلى بسطة، ثم إلى وادي آش، فنزل
بالقرية المعروفة بالقصر، وصافح المدينة بالحرب، ولم يحل بطائل، فأقام عليها شهراً.
قال صاحب كتاب الأنوار الجلية فبدأ بحث المعاهدة بغرناطة
في استدعائه، فافتضح تدبيرهم باجتلابه، وهم أميرها بتثقيفهم، فأعياهم ذلك، وجعلوا
يتسللون إلى محلته على كل طريق، وقد أحدقت جيوش المسلمين من أهل العدوة والأندلس
بغرناطة، حتى صارت كالدائرة، وهي في وسطها كالنقطة، لما أنذروا بغرضه، وتحرك من
وادي آش فنزل بقرية دجمة، وصلى الناس بغرناطة صلاة الخوف، يوم عيد النحر من هذه
السنة في الأسلحة والأبهة، وبعيد الظهر من غده، ظهرت أخبية الروم بالقيل شرق
المدينة، وتوالى الحرب على فرسخين منها، وقد أجلى السواد، وتزاحم الناس بالمدينة،
وتوالى الجليد، وأظلت الأمطار. وأقام العدو بمحلته، بضع عشرة ليلة، لم تسرح له
سارحةٌ، إلا أن المعاهدة تجلب له الأقوات، ثم أقلع وقد ارتفع طمعه عن المدينة،
لأربع بقين من ذي الحجة عام عشرين، بعد أن تفرغ مستدعيه إليها، وكبيره يعرف بابن القلاس،
فاحتجوا ببطئه وتلومه حتى تلاحقت الجيوش، وأنهم قد وقعوا مع المسلمين في الهلكة.
فرحل عن قرية مرسانة إلى بيش، ومن الغد إلى السكة من أحواز قلعة يحصب ثم اتصل إلى
لدوبيانه، ونسكب إلى قبرة واللسانه، والجيوش المسلمة في أذياله. وأقام بقبرة
أياما، ثم تحرك إلى بلاي والعساكر في أذياله، وشيجة في بعض الرنيسول، مكافحةً في
أثنائها، مناوشةً، وظهوراً عليه.
ولما
جن الليل، أمر أميرهم برفع خبائه من وهدةً كان فيها إلى نجدة، فساءت الظنون، واختل
الأمر، ففر الناس وأسلموا، وتهيب العدو المحلة، فلم يدخلها إلا بعد هدأة من الليل
واستولى عليها. وتحرك بعد الغد منها إلى جهة الساحل فشق العمامة الآمنة من الإقليم
والشارات. فيقول بعض شيوخ تلك الجهة، إنه اجتاز بوادي شلوبانية المطل الحافات،
والمتحصن المجاز، وقال بلغته: أي قبرٍ هذا لو ألفينا من يصب علينا التراب، ثم عرج
يمنةً حتى انتهى إلى بلش، وأنشأ بها جفناً صغيراً، يصيد له حوتاً، أكل منه كأنه
نذرٌ كان عليه، وفى به، أو حديثٌ أراد أن يخلد عنه. ثم عاد إلى غرناطة، فاضطرب
بهما محلته بقرية ذكر، على ثلاثة فراسخ منها قبلة، ثم انتقل بعد ذلك بيومين إلى قرية
همدان، وبرز بالكتب جاعزسطة من المدينة، وكان بينه وبين عساكر المسلمين مواقعة
عظيمة، ولأهل غرناطة بهذا الموضع حدثان ينظرونه من القضايا المستقبلة.
قال ابن الصيرفي: وقد ذكر في بعض كتب الجفر: هذا الفحص، بخرابٍ
يجى عن يتامى وأيامي وكان هذا اليوم معرضاً لذلك، فوقي الله، وانتقل بعد يومين إلى
المرج مضيقاً عليه والخيل تحرجه، فنزل بعين أطسة، والجيوش محدقةٌ به، وهو في نهاية
من كمال التعبية، وأخذ الحذر، بحيث لا تصاب فيه فرصة، ثم تحرك على البراجلات، إلى
اللقوق، إلى وادي آش، وقد أصيب كثيرٌ من حاميته، وطوى المراحل إلى الشرق، فاجتاز
إلى مرسية، إلى جوف شاطبة، والعساكر في كل ذلك تطأ أذياله، والتناوش يتخطر به،
والوباء يسرع إليه، حتى لحق بلاده، وهو ينظر إلى قفاه، مخترماً، مفلولاً من غير
حرب، يكاد الموت يستأصل محلته وجملته.
ولما بان للمسلمين من مكيدة جيرانهم المعاهدين، ما أجلت
عنه هذه القضية، أخذهم الإرجاف، ووغرت لهم الصدور. ووجه إلى مكانهم الحزم ووجه
القاضي أبو الوليد بن رشد الأجر، وتجشم المجاز، ولحق بالأمير على بن يوسف بن
تاشفين بمراكش، فبين له أمر الأندلس، وما منيت به من معاهدها، وما جنوه عليها، من
استدعاء الروم، وما في ذلك من نقض العهد، والخروج عن الذمة، وأفتى بتغريبهم،
وإجلائهم عن أوطانهم وهو أخف ما يؤخذ به من عقابهم، وأخذ بقوله، ونفذ بذلك عهده،
وأزعج منهم إلى بر العدوة، في رمضان من العام المذكور، عددٌ جمٌّ، أنكرتهم
الأهواء، وأكلتهم الطرق، وتفرقوا شذر مذر، وأصاب كثير من الجلاء جمعتهم من اليهود،
وتقاعدت بها منهم طائفة، هبت لها بممالأة بعض الدول ريحٌ، فأمروا وأكثروا إلى عام
تسعة وخمسين وخمسمائة، ووقعت فيهم وقيعةٌ احتشتهم، إلا صابةٌ، لهذا العهد قليلة، قديمة
المذلة، وحالفت الصغار. جعل الله العاقبة لأوليائه.
ما ينسب إلى هذه الكورة من الأقاليم..
التي نزلها العرب بخارج غرناطة وما يتصل بها من العمالة
فيما اشتمل عليه خارج المدينة..
من القرى والجنات والجهات
قال
المؤلف رحمه الله: ويحف بسور هذه المدينة المعصومة بدفاع الله تعالى، البساتين
العريضة المستخلصة، والأدواح الملتفة، فيصير سورها من خلف ذلك كأنه من دون سياج
كثيفة، تلوح نجوم الشرفات أثناء خضرايه ولذلك ما قلت فيه في بعض الأغراض:
بلد يحف به الرياض كأنه ... وجهٌ جميل والرياض عذاره
وكأنما واديه معصم غادةٍ ... ومن الجسور المحكمات سواره
فليس
تعرى عن جنباته من الكروم والجنات جهة، إلا مالا عبرة به مقدار غلوة، أما ما حازه
السفل من جوفيه، فهي عظيمة الخطر، متناهية القيم، يضيق جده من عدا أهل الملك، عن
الوفاء بأثمانها، منها ما يغل في السنة الواحدة نحو الألف من الذهب، قد غصت
الدكاكين بالخضر الناعمة، والفواكة الطيبة، والثمر المدخرة، يختص منها بمستخلص
السلطان، المرور طوقاً على ترائب بلده ما بينهن منية، منها الجنة المعروفة بفدان
الميسة، والجنة المعروفة بفادان عصام، والجنة المعروفة بالمعروي، والجنة المنسوبة
إلى قداح بن سحنون، والجنة المنسوبة لابن المؤذن، والجنة المنسوبة لابن كامل، وجنة
النخلة العليا، وجنة النخلة السفلى، وجنة ابن عمران، والجنة التي إلى نافع، والجرف
الذي ينسب إلى مقبل، وجنة العرض، وجنة الحفرة، وجنة الجرف، ومدرج نجد، ومدرج
السبيكة، وجنة العريف: كلها لا نظير لها في الحسن والدمانة والربيع، وطيب التربة،
وغرقد السقيا، والتفاف الأشجار، واستجادة الأجناس، إلى ما يجاورها ويتخللها، مما يختص
بالأحباس الموقفة، والجنات المتملكة، وما يتصل بها بوادي سنجيل ما يقيد الطرف،
ويعجز الوصف، قد متلت منها على الأنهار المتدافعة العباب، المنارة والقباب، واختصت
من أشجار العاريات ذات العصير الثاني بهذا الصقع، ما قصرت عنه الأقطار. وهذا
الوادي من محاسن هذه الحضرة، ماؤه رقراق من ذوب الثلج، ومجاجة الجليد، وممره على
حصىً جوهرية، بالنبات والظلال محفوفة، يأتي من قبلة علام البلد إلى غربه، فيمر بين
القصور النجدية، ذوات المناصب الرفيعة، والأعلام الماثلة.
ولأهل الحضرة بهذه الجنات كلفٌ، ولذوي البطالة فوق نهره
أريك من دمث الرمل، وحجال من ملتف الدوح، وكان بها سطر من شجر الحور، تنسب إلى
مامل، أحد خدام الدولة الباديسية، أدركنا المكان يعرف بها.
قال أبو الحجاج يوسف بن سعيد بن حسان:
أحن إلى غرناطة كلما هفت ... نسيم الصبا تهدي الجوى
وتشوق
سقى الله من غرناطة كل منهل ... بمنهل سحبٍ ماؤهن هريق
ديارٌ يدور الحسن بين خيامها ... وأرضٌ لها قلب الشجى
مشوق
أغرناطة العليا بالله خبري ... أللهائم الباكي إليك طريق
وما شاقني إلى نضارة منظر ... وبهجة وادٍ للعيون تروق
تأمل إذا أملت حوز مؤملٍ ... ومد من الحمرا عليك شقيق
وأعلام نجدٍ والسبيكة قد علت ... وللشفق الأعلى تلوح
بروق
وقد سلّ شنيلٌ فرنداً مهندا ... نضى فوق در ذر فيه عقيق
إذا نم منه طيب نشر أراكه ... أراك فتيت المسك وهو فتيق
ومهما بكى جفن الغمام تبسمت ... ثغور أقاحٍ للرياض أنيق
ولقد ولعت الشعراء بوصف هذا الوادي، وتغالت الغالات فيه،
في تفضيله على النيل بزيادة الشين، وهو ألفٌ من العدد، فكأنه نيلٌ بألفٍ ضعفٍ، على
عادة متناهي الخيال الشعري، في مثل ذلك.
ولقد ألغزت فيه لشيخنا أبي الحسن بن الجياب، رحمه الله،
وقد نظم في المعنى المذكور ما عظم له استطرابه وهو:
ما اسمٌ إذا زدته ألفاً من العدد ... أفاد معناه لم ينقص
ولم يزد
وإنما ائتلفا من بعد ما اختلفا ... معنى بشينٍ ومن نزرٍ
ومن بلدٍ
ثم يتصل بالحسن العادي البديع، وهو على قسمين، خمسٌ من
محكم الكدان في نهاية الإبداع والإحكام يتصل به بناءٌ قديم محكم، ويستقبل الملعب،
العيدي، ما بين ذنابي الجسر إلى جدار الرابطة، وملعب بديع الشكل، عن يمينه جناحٌ
بديع، عن ميدانه عدوات النهر، وعن يساره الجنات، ويفضي بعد انتهائه إلى الرابطة، إلى
باب القصر المنسوب إلى السيد، وسيأتي ذكره، ويرتفع من هذا النهر الزلال جداول،
تدور بها أعداد من الأرحى لا نظير لها استعداداً وإفادة.
وصف مدينة غرناطة
بعض ما قيل في رياضها من الشعر
وتركب
ما ارتفع من هذه المدينة من جهاتها الثلاث، الكروم البديعة، طوقاً مرقوماً، يتصل
بما وراءها من الجبال، فتعم الربى والوهاد، وتشمل الغور والنجد، إلا ما اختص منها
بالسبل الأفيح، متصلا بشرقي باب إلبيرة، إلى الخندق العميق، وهو المسمى بالمشايخ
بسيط جليل، وجوٌ عريض، تغمي على العد أمراجه ومصانيعه، تلوح مبانيها، ناجمةً بين
الثمار والزيتون، وسائر ذوات الفواكه، من اللوز والإجاص والكمثري، محدقة من الكروم
المسحة، والرياحين الملتفة، ببحور طامية تأتي البقعة الماء، ففيها كثير من
البساتين والرياض، والحصون، والأملاك المتصلة السكنى، على الفصول، وإلى هذه الجهة
يشير الفقيه القاضي، أبو القاسم بن أبي العافية، رحمه الله، في قصيدة، يجيب بها
عروس الشعراء، الأديب الرحال أبا إسحاق الساحلي، وكان ممن نيطت عليه بهذا العهد، التمائم:
يا نازحاً لعب المطي بكوره ... لعب الرياح الهوج
بالأملود
ورمت به للطية القصوى التي ... ما وردها لسواه بالمورود
هلا حننت إلى معاهدنا التي ... كنت الحلي لنحرها والجيد
ورياض أنس بالمشايخ طارحت ... فيه الحمائم صوت سجع العود
ومبيتنا فيها وصفو مدامنا ... صفو المودة لابنة العنقود
والعيش أخضر والهوى يدني جني ... زهرات ثغرٍ أو ثمار
نهود
والقضب رافلةٌ يعانق بعضها ... بعضاً إذا اعتنقت غصون
قدود
لهفي على ذاك الزمان وطيبه ... وعلى مناه وعيشه المحسود
تلك الليالي لا ليالي بعدها ... عطلن إلا من جوى وسهود
كانت قصاراً ثم طلن فيها ... تأنى على المقصور والممدود
وأما ما استند إلى الجبل، فيتصل به البيازير في سفح
الجبل، المتصل بالكدية ابن سعد، متصلا بالكدية المبصلة، المنسوبة لعين الدمع،
منعطفةً على عين القبلة، متصلةً بجبل الفخار، ناهلةً في غمر الماء المجلوب على ذلك
السمت، الماء، والإِشراف على الأرجاء، ففيها القصور المحروسة، والمنارة المعمورة،
والدور العالية، والمباني القصبية، والرياحين النضيرة، قد فض فيها أهل البطالة، من
أولى الحبرة، الأكياس، وأرخصوا على النفقة عليها، غالي النشب، تتنازع في ذلك غير
الخادمين، من خدام الدولة على مر الأيام، حتى أصبحت نادرة الأرض، والمثل في الحسن.
ولهذه البقعة ذكرٌ يجري في المنظومات على ألسنة البلغاء من ساكنيها وزوارها، فمن
أحسن ما مر من ذلك قول شيخنا أبي البركات:
ألا قل لعين الدمع يهمي بمقتلي ... لفرقة عين الدمع
وقفاً على الدم
وذكرته في قصيدة فقلت:
يا عهد عين الدمع كم من لؤلؤ ... للدمع جاد به عساك تعود
تسري نواسمك اللدان بليلة ... فيهزني شوقٌ إليك شديد
وقلت من أبيات تكتب في قبةٍ بقصري الذي اخترعته بها:
إذا كان عين الدمع عيناً حقيقة ... فإنسانها ما نحن فيه
ولادع
فدام لخيل الأنس واللهو ملعباً ... ولا زال مثواه المنعم
مرتع
تود الثريا أن تكون له ثرًى ... وتمدحه الشعرى وتحرسه
المع
وقال صاحبنا الفقية أبو القاسم بن قطبة من قصيدة:
أجل إن عين الدمع قيد النواظر ... فسرح عيوناً في اجتلاء
النواظر
وعرج على الأوزان إن كنت ذ ... ا هوًى فإن رباه مرتعٌ
للجآذر
وصافح بها كف البهار مسلماً ... وقبل عذار الأنس بين
الأزاهر
وخذها على تلك الأباطح والربى ... معتقةً تجلو الصدا
للخواطر
مدامة حان أنسا الدهر عمرها ... فلم تخش أحداث الدهور
الدوائر
تحدث عن كسرى وساسان قبله ... وتخبر عن كرم يخلد داثر
وهي طويلة. وقال أيضاً من قصيدة طويلة:
وليلاً بعين الدمع وصلاً قطعته ... وأنجمه بين النجوم
سعود
ترى الحسن منشور اللواء بسره ... وظل الأماني في رباه
مديد
فبتنا ومن روض الخدود أزاهرٌ ... لدينا ومن ورد الرياض
خدود
وتفاحنا وسط الرياض موردٌ ... ورماننا وسط الصدور نهود
وقد
عرفت نص الهوى وذميله ... تهايم من أكبادنا ونجود
وقال في قصيدة:
ومل بنا نحو عين الدمع نشربها ... حيث السرور بكاس الأنس
يسقينى
حيث المنى وفنون اللهو راتعةٌ ... والطير من طربٍ فهيا
تناجينى
وجدول الماء يحكي في أجنته ... صوارماً جردت في يوم صفين
وأعين الزهر في الأغصان جاحظةٌ ... كأنها بهوى الغزلان
تغرينى
ومن ذلك:
سهرت بعين الدمع أرعى ربوعه ... وحسبي من الأحباب رعي
المنازل
ينافحني عرفٌ إذا هبت الصبا ... ويقنعني طيف الحبيب
المراسل
والأقاويل في ذلك أكثر من أن يحاط بها كثرة، وما سوى هذه
الجهة فغير لاحق بهذه الرتبة، مما معوله على محض الفائدة وصريح العائدة. وتذهب هذه
الغروس المغروسة قبلةً، ثم يفيض تيارها إلى غرب المدينة، وقد تركت بها الجبال الشاهقة،
والسفوح العريضة، والبطون الممتدة، والأغوار الخائفة، مكللة بالأعناب، غاصة
بالأدواح، متزاحمة بالبيوت والأبراج، بلغ إلى هذا العهد عددها في ديوان الخرص، إلى
ما يناهز أربعة عشر ألفاً، نقلت ذلك من خط من يشار إليه في هذه الوظيفة، وقاها
الله مضرة السنين، ودفع عنها عباب القوم الظالمين، وعدوان الكافرين.
قرى مدينة غرناطة
وضياعها وجناتها وأعيان دورها
ويحيط
بما خلف السور من المنى، والجنات، في سهل المدينة، العقار الثمين، العظيم الفائدة،
المتعاقبة الغلة، الذي لا يعرف الجمام، ولا يفارق الزرع من الأرض البيضاء، ينتهي
ثمن المرجع منها العلي، إلى خمسة وعشرين ديناراً من الذهب العين، لهذا العهد فيه
مستخلص السلطان، ما يضيق عنه نطاق القيمة، ذرعاً وغبطة وانتظاماً، يرجع إلى دور
ناجمة، وبروج سامية، وبيادر فسيحة، ومصابٍ للحمايم والدواجن ماثلة، منها في طوق
البلد، وحمى سورها، جملةٌ، كالدار المنسوبة إلى هذيل، والدار المنسوبة إلى أم
مرضى، والدار البيضاء، والدار المنسوبة إلى السنينات، والدار المعروفة بنبلة ووتر،
وبالمرج ما يساير جرية النهر كقرية وكروبها حصن خريز، وبستان وبشر عيون، والدار
المنسوبة إلى خلف، وعين الأبراج، والحش المنسوب إلى الصحاب، وقرية رومة وبها حصنٌ وبستان،
والدار المنسوبة إلى العطشى، وبها حصن، والدار المنسوبة لابن جزي، والحش المنسوب
لأبي علي، وقرية ناجرة، ومنها فضل بن مسلمة الحسنى، وبها حصن، وحوله ربض، فيه من
الناس أمة، وقرية سنيانة وفيها حصن، وقرية أشكر، وقريتي بيبش وواط، وبهما حصنان،
وقرية واط عبد الملك بن حبيب. وفي هذه القرى الجمل الضخمة من الرجال، والفحول من
الحيوان الحارث لآثار الأرض، وعلاج الفلاحة، وفي كثير منها الأرحى والمساجد. وما
سوى هذه من القرى، المستخلص من فضلة الإقطاع، وقصرت به الشهرة عن هذا النمط،
فكثيرٌ.
ويتخلل هذا المتاع الغبيط الذي هو لباب الفلاحة، وغير
هذه المدرة الطيبة، سائر القرى التي بأيدي الرعية، مجاورة لهذه الحدود، وبنات لهذه
الأمهات. منها ما انبسط وتمدد، فاشترك فيه الألوف من الخلق، وتعددت منه الأشكال،
ونحن نوقع الإسم منه على البقعة من غير ملاحظة للتعدد. ومنها ما انفرد بمالك
واثنين فصاعداً، وهو قليل، وتنيف أسماؤها على ثلاث مائة قرية ما عدا ما يجاور الحضرة
من كثير من قرى الإقليم أو ما استضافته حدود الحصون المجاورة.
فمن
ذلك حوز الساعدين وفيه القرى، وحوز وتر ومنها إبراهيم بن زيد المحاربي، وقرية
قلجار، وقرية ياجر الشاميين، وقرية ياجر البلديين، وقرية قشتالة، ومنها قاسم بن
أمام من أصحاب سحنون، ونزل فيها جده عطية بن خالد المحاربي، وقرية أججر، وقرية
أرملة الكبرى، وقرية أرملة الصغرى، وقرية رقاق وهمدان، منها الغريب بن يزيد الشمر
جد بني أضحى، وقرية الغيضون، وقرية لسانة، وحارة الجامع، وحارة الفراق، وقرية
غرليانة، وحش البكر، وغدير الصغرى وغدير الكبرى، من إقليم البلاط، منها يربوع بن
عبد الجليل، ونزل بها جده يربوع بن عبد الملك بن حبيب، وقرية قولر، وقرية جرليانة،
وقرية حارة عمروس، وحش الطلم، وقرية المطار، وقرية الصرمورتة، وقرية بلسانة، وقرية
الحبشان، وقرية الشوش، وقرية عرتقة، وقرية جيجانة، وقرية السيجة، وقنب قيس، وقرية
برذنار، وقرية دوير تارش، وقرية آقلة، وقرية أحجر، وقرية تجرجر، وقرية والة، وقرية
أنقر، وقرية الغروم، وقرية دار وهدان، وقرية بيرة، وقرية القصيبة، وقرية أنطس،
وقرية فنتيلان، وقرية سنبودة، وحش زنجيل، وقرية أشتر، وقرية غسان، منها مطر بن
عيسى بن الليث، وقرية شوذر، وقرية سنتشر، وقرية ابن ناطح، وقرية الملاحة، ومنها
محمد بن عبد الواحد الغافقي أبو القاسم الملاحي، وقرية القمور، منها أصبغ بن مطرف،
وقرية نفجر وغرناطة، وقرية بيرة وبها مسجد قراءة ابن حبيب، وقرية قولجر، منها سهل
بن مالك، وقرية شور، منها محمد بن هانىء الأزدي الشاعر المفلق، ومحمد بن سهل جد
هذا البيت، بني سهل بن مالك، وقرية بليانة، وقرية برقلش، وقرية ضوجر، وقرية
البلوط، وقرية أنتيانة، وقرية مرسانة، وقرية الدوير، وقرية ضوجر، وقرية البلوط،
وقرية الشلان، وقرية أنتيانة، وقرية مرسانة، وقرية الدوير، وقرية الشلان، وقرية طغنر،
منها الطغنري صاحب الفلاحة، وقرية حش الدجاج، وقرية حش نوح، وقرية حش خليفة، وحش
الكوباني، وحش المعيشة، وحش السلسلة، وقرية الطرف، وقرية إلبيرة، وقرية الشكروجة،
ومنها عيسى بن محمد بن أبي زمنين، وعين الحورة، وحش البومل، وقرية بلومال، وقرية
رق المخيض، وقرية الغيضون الحورة، وقرية أشقطمر، وقرية الديموس الكبرى، وقرية
الديموس الصغرى، وقرية دار الغازي، وقرية سويدة، وحش نصيرة، وقرية الركن، وقرية
ألفنت، ومنها صخر بن أبان، وقرية الكدية، وقرية لاقش، وقرية قربسانة، وقرية برسانة
برياط، وقرية الولجة، وقرية ماس، وحش علي، وحش بني الرسيلية، وحش رقيب، وحش
البلوطة، وحش الرواس، وحش مرزوق، وقرية قبالة، وقرية نبالة، وقرية العيران، وبرج
هلال، وقرية قلتيش وقرية القنار، وقرية أربل، وقرية بربل، وقرية قرباسة، وقرية أشكن،
وقرية قلنبيرة، وقرية سعدى، وقرية قلقاجج، وقرية فتن، وقرية مرنيط، وقرية ددشطر،
وقرية شمانس، وقرية أرنالش، وقرية وابشر، وقرية ققلولش، وقرية النبيل، وقرية
الفخار، وقرية القصر، ومنها محمد بن أحمد بن مرعياز الهلالي، وقرية بشر، وقرية
بنوط، وقرية كورة، وقرية لص، وقرية بيش وقرية قنتر، وقرية دور، وقرية قلنقر، وقرية
غلجر، ومنها هاشم بن عبد العظيم بن يزيد الخولاني، وقرية ذرذر، وقرية ولجر، وقرية
قنالش، وقرية إبتايلس، وقرية سج، وقرية منشتال وقرية الوطا، وقرية واني، وقرية
قريش، وقرية الزاوية.
وقد ذكرنا أن أكثر هذه القرى أمصار، فيها ما يناهز خمسين
خطبة، تنصب فيها لله المناير، وترفع الأيدي، وتتوجه الوجوه.
وجملة المراجع العلمية المرتفعة فيها، في الأزمنة، في
العام بتقريب، ومعظمها السقي الغبيط السمين، العالي، ما يتاألف ثنتان وستون ألفا،
وينضاف إلى ذلك مراجع الأملاك السلطانية، ومواضع أحباس المساجد، وسبل الخير، ما
ينيف على ما ذكر، فيكون الجميع باحتياط، خمسمائة ألف وستون ألفا، والمستفاد فيها
من الطعام المختلف الحبوب للجانب السلطاني، ثلاثمائة ألف قدح ويزيد، ويشتمل سورها
وما وراءه من الأرحاء الطاحنة بالماء، على ما ينيف على مائة وثلاثين رحى، الحفها
الله جناح الأمنة، ولا قطع عنها مادة الرحمة، بفضله وكرمه.
صفات أهل غرناطة
ومظاهرهم وأنسابهم وأزيائهم وطرق معيشتهم وصنوف نقدهم ووصف نسائهم
وقد
فرغنا من ذكر رسوم هذا القطر ومعاهده، وفرغنا من تصويره وتشكيله، وذكر قراه
وأجناته، وقصوره ومتنزهاته، فنحن الآن نذكر بعضا من سير أهله، وأخلاقهم، وغير ذلك
من أحوالهم بإجمال واختصار، فنقول: أحوال هذا القطر في الدين وصلاح العقائد، أحوال
سنية، والنحل فيهم معروفة، فمذاهبهم على مذهب مالك بن أنس إمام دار الهجرة جارية،
وطاعتهم للأمراء محكمة، وأخلاقهم في احتمال المعاون الجبائية جميلة، وصورهم حسنة،
وأنوفهم معتدلة غير حادة، وشعورهم سودٌ مرسلة، وقدودهم متوسطة معتدلة، إلى القصر،
وألوانهم زهر مشربة بحمرة، وألسنتهم فصيحة عربية، يتخللها غربٌ كثير، وتغلب عليهم
الإمالة، وأخلاقهم أبية في معاني المنازعات، وأنسابهم عربية، وفيهم من البربر والمهاجرة
كثير، ولباسهم الغالب على طرقاتهم الفاشي بينهم، الملف المصبوغ شتاء، وتتفاضل
أجناس البز بتفاضل الجدة، والمقدار، والكتان والحرير، والقطن، والمرعزي، والأردية
الإفريقية، والمقاطع التونسية، والمآزر المشفوعة صيفاً، فتبصرهم في المساجد، أيام
الجمع، كأنهم الأزهار المفتحة، في البطاح الكريمة، تحت الأهوية المعتدلة.
وأنسابهم حسبما يظهر من الإسترعات، والبيعات السلطانية
والإجازات، عربيةٌ: يكثر فيها القرشي، والفهري، والأموي، والأمي، والأنصاري،
والأوسي، والخزرجي، والقحطاني، والحميري، والمخزومي، والتنوخي، والغساني، والأزدي،
والقيسي، والمعافري، والكناني، والتميمي، والهذلي، والبكري، والكلابي، والنمري،
واليعمري، والمازني، والثقفي، والسلمي، والفزاري، والباهلي، والعبسي، والعنسي، والعذري،
والحججي، والضبي، والسكوني، والتيمي، والعبشمي، والمري، والعقيلي، والفهمي،
والصريحي، والجزلي، والقشيري، والكلبي، والقضاعي، والأصبحي، والهواري، والرعيني،
واليحصبي، والتجيبي، والصدفي، والحضرمي، والحمي، والجذامي، والسلولي، والحكمي،
والهمذاني، والمذحجي، والخشني، والبلوي، والجهني، والمزني، والطائي، والغافقي،
والأسدي، والأشجعي، والعاملي، والخولاني، والأيادي، والليثي، والخثعمي، والسكسكي،
والزبيدي، والتغلبي، والثعلبي، والكلاعي، والدوسي، والحواري، والسلماني، هذا ويرد
كثير في شهادتهم، ويقل من ذلك السلماني نسباً، وكالدوسي، والحواري، والزبيدي،
ويكثر فيهم، كالأنصاري، والحميدي، والجذامي، والقيسي، والغساني، وكفى بهذا شاهدا على
الأصالة، ودليلا على العروبية.
وجندهم صنفان، أندلسي وبربري، والأندلس منها يقودهم
رئيسٌ من القرابة أو حصى، من شيوخ الممالك. وزيهم في القديم شبه زي أقتالهم،
وأضدادهم، من جيرانهم الفرنج، إسباغ الدروع، وتعليق الترسة، وحفا البيضات، واتخاذ
عراض الأسنة، وبشاعة قرابيس السروج، واستركاب حملة الرايات خلفه، كلٌ منهم بصفةٍ
تختص بسلاحه، وشهرةٍ يعرف بها. ثم عدلوا الآن عن هذا الذي ذكرنا، إلى الجواشن المختصرة،
والبيضات المرهفات، والسروج العربية، والبيت اللمطية، والأسل العطفية.
والبربري منه، يرجع إلى قبائله المرينية، والزناتية،
والتجانية، والمغراوية والعجيسية، والعرب المغربية إلى أقطاب ورؤوس، يرجع أمرهم
إلى رئيس، على رؤسائهم، وقطب لعرفائهم، من كبار القبائل المرينية، يمت إلى ملك
المغرب بنسب.
والعمائم تقل في زي أهل هذه الحضرة، إلا ما شاد في
شيوخهم وقضاتهم وعلمائهم، والجند العربي منهم. وسلاح جمهورهم العصي الطويلة،
المثناة بعصى صغارٍ ذوات عري في أواسطها، تدفع بالأنامل عند قذفها تسمى بالأمداس،
وقسى الإفرنجة يحملون على التدريب بها على الأيام، ومبانيهم متوسطة، وأعيادهم حسنة،
مائلة إلى الاقتصاد، والغنى بمدينتهم فاشٍ، حتى في الدكاكين التي تجمع صنائعها،
كثيراً من الأحداث، كالخفافين ومثلهم.
وقوتهم الغالب، البر الطيب، عامة العام، وربما اقتات في
فصل الشتاء الضعفة والبوادي والفعلة في الفلاحة، الذرة العربية، أمثل أصناف
القطاني الطيبة. وفواكههم اليابسة عامة العام، متعددةٌ، يدخرون العنب سليما من
الفساد، إلى شطر العام، إلى غير ذلك من التين، والزبيب، والتفاح، والرمان،
والقسطل، والبلوط، والجوز، واللوز، إلى غير ذلك مما لا ينفد، ولا ينقطع مدده إلا
في الفصل الذي يزهد في استعماله.
وصرفهم
فضة خالصةٌ، وذهبٌ إبريزٌ طيب محفوظ، ودرهمٌ مربع الشكل، من وزن المهدي القائم
بدولة الموحدين، في الأوقية منه سبعون درهما، يختلف الكتب فيه. فعلى عهدنا، في شق،
" لا إله إلا الله، محمد رسول الله " ، وفي شق آخر، " لا غالب إلا
الله، غرناطة "
. ونصفه وهو القيراط، في شق، " الحمد لله رب
العالمين " ، وفي شق، وما النصر إلا من عند الله. ونصفه وهو الربع، في شق،
" هدى الله هو الهدى " . وفي شق العاقبة للتقوى.
ودينارهم في الأوقية منه، ستة دنانير وثلثا دينار، وفي الدينار
الواحد ثمن أوقية وخمس ثمن أوقية، وفي شق منه، قل اللهم مالك الملك بيدك الخير،
ويستدير به قوله تعالى " إلهكم إلهٌ واحدٌ، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم
" . وفي شق، الأمير عبد الله يوسف، بن أمير المسلمين أبي الحجاج، بن أمير
المسلمين أبي الوليد إسماعيل بن نصر، أيد الله أمره. ويستدير به، شعار هؤلاء الأمراء، لا
غالب إلا الله. ولتاريخ تمام هذا الكتاب، في وجه، " يا أيها الذين آمنوا
اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون " . ويستدير به، لا غالب
إلا الله. وفي وجه الأمير عبد الله الغني بالله، محمد بن يوسف بن إسماعيل بن نصر،
أيده الله وأعانه. ويستدير بربع، بمدينة غرناطة حرسها الله.
وعادة أهل هذه المدينة، الانتقال إلى حلل العصير أوان
إدراكه، بما تشتمل عليه دورهم، والبروز إلى الفحوص، بأولادهم، معولين في ذلك على
شهامتهم وأسلحتهم، وعلى كثب دورهم، واتصال أمصارهم بحدود أرضه. وحليهم في القلائد،
والدمالج، والشنوف، والخلاخل الذهب الخالص، إلى هذا العهد، في أولى الجدة، واللجين
في كثير من آلات الرجلين، فيمن عداهم، والأحجار النفيسة من الياقوت، والزبرجد
والزمرد ونفيس الجوهر، كثير ممن ترتفع طبقاتهم المستندة إلى ظل دولة، أو أصالةٍ
معروفة موفرة.
وحريمهم، حريم جميل، موصوف بالسحر، وتنعم الجسوم،
واسترسال الشعور، ونقاء الثغور، وطيب النشر، وخفة الحركات، ونبل الكلام، وحسن
المحاورة، إلا أن الطول يندر فيهن. وقد بلغن من التفنن في الزينة لهذا العهد،
والمظاهرة بين المصبغات، والتنفيس بالذهبيات والديباجيات، والتماجن في أشكال
الحلي، إلى غاية نسأل الله أن يغض عنهن فيها، عين الدهر، ويكفكف الخطب، ولا يجعلها
من قبيل الابتلاء والفتنة، وأن يعامل جميع من بها بستره، ولا يسلبهم خفي لطفه، بعزته
وقدرته.
فصل فيمن تداول هذه المدينة
من لدن أصبحت دار إمارة باختصار واقتصار
قال
المؤلف: أول من سكن هذه المدينة، سكنى استبداد، وصيرها دار ملكة ومقر أمره،الحاجب،
المنصور أبو مثنى زاوي بن زيري بن مناد لما تغلب جيش البربر، مع أميرهم سليمان بن
الحكم على قرطبة، واستولى على كثير من كور الأندلس، عام ثلاثة وأربعمائة فما
بعدها، وظهر على طوائف الأندلس، واشتهر أمره، وبعد صيته. ثم اجتاز البحر إلى بلد
قومه بإفريقية، بعد أن ملك غرناطة سبع سنين، واستخلف ابن أخيه حبوس بن ماكسن، وكان
حازماً داهية، فتوسع النظر إلى أن مات سنة تسع وعشرين وأربعمائة. وولي بعده حفيده
عبد الله بن بلكين بن باديس، إلى أن خلع عام ثلاثة وثمانين وأربعمائة، وتصير أمرها
إلى أبي يعقوب يوسف بن تاشفين ملك لمتونة عند تملكه الأندلس، ثم إلى ولد علي بن
يوسف. وتنوب إمارتها جملةٌ من أبناء الأمراء اللمتونيين وقرابتهم
كالأمير أبي الحسن علي بن الحاج وأخيه موسى، والأمير أبي زكريا يحيى بن أبي بكر بن
إبراهيم، والأمير أبي الطاهر تميم، والأمير أبي محمد مزدلي والأمير أبي بكر بن أبي
محمد، وأبي طلحة الزبير ابن عمر، وعثمان بن بدر اللمتوني، إلى أن انقرض أمرهم عام
أربعين وخمسمائة.
وتصير الأمر للموحدين، وإلى ملكهم أبي محمد عبد المؤمن
بن علي، فتناوبها جملةٌ من بنيه وقرابته، كالسيد أبي عثمان بن الخليفة، والسيد أبي
إسحاق ابن الخليفة، والسيد أبي إبراهيم بن الخليفة، والسيد أبي محمد بن الخليفة،
والسيد أبي عبد الله، إلى أن انقرض منها أمر الموحدين.
وتملكها
المتوكل على الله، أمير المؤمنين، أبو عبد الله محمد يوسف بن هود، في عام ستة
وعشرين وستمائة، ثم لم ينشب أن تملكها أمير المسلمين الغالب بالله محمد بن يوسف بن
نصر الخزرجي، جد هؤلاء الأمراء الكرام موالينا، رحم الله من درج منهم، وأعان من
خلفه، إلى أن توفي عام أحدٍ وسبعين وستمائة. ثم ولي الأمر بعده ولده وسميه محمد بن
محمد فقام بها أحمد قيام، وتوفي عام إحدى وسبعمائة. ثم ولي بعده سميه محمد إلى أن
خلع يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة، وتوفي عام أحد عشر وسبعمائة في ثالث شوال
منه. ثم ولي بعده أخوه نصر بن مولانا أمير المسلمين أبي عبد الله، فأرتب أمره،
وطلب الملك اللاحق به مولانا أمير المسلمين أبو الوليد إسماعيل بن فرج، فغلب على
الإمارة، ثاني عشر ذي القعدة من عام ثلاثة عشر وسبعمائة، وانتقل نصر إلى وادي آش
مخلوعاً، موادعاً بها إلى أن مات عام اثنين وعشرين وسبعمائة. وتمادى ملك السلطان
أمير المسلمين أبي الوليد إلى السادس والعشرين من رجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة،
ووثب عليه بعض قرابته فقتله، وعوجل بالقتل مع من حضر منهم. وتولى الملك بعده ولده
محمد، واستمر سلطانه إلى ذي الحجة من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، وقتل بظاهر جبل
الفتح. وولى بعده أخوه مولانا السلطان أبو الحجاج لباب هذا البيت، وواسطة هذا
العقد، وطراز هذه الحلية، ثم اغتاله، ممرور من أخابيث السوقة، قيضه الله إلى شهادته،
وجعله سبباً لسعادته، فأكب عليه في الركعة الآخرة من ركعتي عيد الفطر، بين يدي
المحراب، خاشعاً، ضارعاً، في الحال الذي أقرب ما يكون العبد من ربه، وهو ساجدٌ،
وضربه بخنجر مهيء للفتك به، في مثل ذلك الوقت، كان، زعموا، يحاول شخذه منذ زمان،
ضربةً واحدةً، على الجانب الأيسر من ظهره، في ناحية قلبه، فقضى عليه، وبودر به
فقتل.
وولى الأمر بعده محمد، ولده اكبر بنيه، وأفضل ذويه،
خلقاً وخلقاً وحياء وجوداً، ووقاراً وسلامة وخيرية، ودافع دولته من لا يعبأ الله
به، ثم تدارك الأمر سبحانه، وقد أشفى، ودافع وكفى، بما يأتي في محله إن شاء الله.
وهو أمير المسلمين لهذا العهد، متع الله به، وأدام مدته، وكتب سعادته، وأطلق
بالخير يده، وجعله بمراسيم الشريعة من العاملين، ولسلطان يوم الدين من الخائفين.
المراقبين، بفضله.
وقد أتينا بما أمكن من التعريف بأحوال هذه الحضرة على
اختصار. ويأتي في أثناء التعريف برجالها كثيرٌ من تفصيل ما أجمل، وتتميم ما بدأ
وإيضاح ما خفي، بحول الله تعالى.
القسم الثاني
في حلي الزائر والقاطن والمتحرك والساكن
أحمد بن خلف بن عبد الملك
الغساني القليعي
من
أهل غرناطة يكنى أبا جعفر، من جلة أعيانها، تنسب إليه الساقية الكبرى المجاورة
لطوق الحضرة إلى إلبيرة، وما والاها
حالهقال ابن الصيرفي: كان الفقيه أبو جفعر القليعي، من
أهل غرناطة، فريد عصره، وقريع دهره، في الخير والعلم والتلاوة، وله حزب من الليل،
وكان سريع الدمعة، كثير الرواية، وهو المشار إليه في كل نازلة، وله العقد والحل والتقدم
والسابقة، مع منة في جلائل الأمور، والنهضة بالأعباء وسمو الهمة.
غريبةٌ في شأنه: قال كان باديس بن حبوس أمير بلده ينفرس
فيه أن ملك دولته، ينقرض على يديه، فكان ينصب لشأنه أكلباً، ويتملط بسيفه إلى
قتله، فحماه الله منه بالعلم، وغل يده، وأغمد سيفه، ليقضي الله أمراً كان مفعولا.
مشيختهروي عن أبي عمر بن القطان، وأبي عبد الله بن عتاب،
وأبي زكريا القليعي، وأبي مروان بن سراج، وكان ثقةً صدوقاً، أخذ عنه الناس.
محنته: ولما أجاز
أمير لمتونة يوسف بن تاشفين البحر مستدعى إلى نصر المسلمين، ثاني حركاته إلى
الأندلس، ونازل حصن أليط، وسارع ملوك الطوائف إلى المسير في جملته، كان ممن وصل
إليه الأمير عبد الله بن بلكين، بن باديس صاحب غرناطة، ووصل صحبته الوزير أبو جعفر
بن القليعي، لرغبته في الأجر مع شهرة مكانه، وعلو منصبه، ولنهوض نظرائه، من زعماء
الأقطار، إلى هذا الغرض، وكان مضرب خيام القليعي قريباً من مضرب حفيد باديس،
ولمنزلته عند الأمير يوسف بن تاشفين، وله عليها الحفوف وله به استبداد، وانفرادٌ
كثير، وترددٌ كثير، حتى نفى بذلك حفيد باديس، وأنهم عنيه. قال المؤرخ، وكيفما دارت
الحال، فلم يخل من نصحٍ لله ولأمير المسلمين.
قلت: حفيد باديس كان أدرى بدائه، قصر الله خطانا من
مدارك الشرور. فلما صدر حفيد باديس إلى غرناطة، استحضره ونجهه، وقام من مجلسه
مغضباً، وتعلقت به الخدمة، وحفت به الوزعة والحاشية. وهمو بضربه، إلا أن أم عبد الله تطارحت
على ابنها في استحيائه، فأمر بتخليصه، وسجنه في بعض بيوت القصر، فاقبل فيه على
العبادة والدعاء والتلاوة، وكان جهير الصوت، حسن التلاوة، فارتج القصر، وسكنت
لاستماعه الأصوات، وهدأت له الحركات، واقشعرت الجلود. وخافت أم عبد الله على
ولدها، عقاباً من الله بسببه، فلاطفته حتى حل عقاله، وأطلقه من سجنه. ولما تخلص أعدها
غنيمةً. وكان جزلاً، قوي القلب، شديد الجزم، فقال الصيد بغراب أكيس، فاتخذ الليل
جملاً، فطلع له الصباح بقلعة يحصب، وهو لنظر ابن عباد، وحث منها السير إلى قرطبة،
فخاطب منها يوسف بن تاشفين بملىء فيه، بما حركه وأطعمه، فكان من حركته إلى
الأندلس، وخلع عبد الله بن بلكين من غرناطة، واستيلائه عليها، ما يرد في اسم عبد
الله وفي اسم يوسف بن تاشفين إن شاء الله. وبدا لحفيد باديس في أمر أبي جعر
القليعي، ورأى أنه أضاع الحزم في إطلاقه فبحث عنه من الغد، وتقصت عنه البلدة، فلم
يقع له خبر، إلى أن اتصل به خبر نجاته، ولحاقه بمأمنه. فرجع باللائمة على أمه،
ولات حين مندم. ولم يزل أبو جعفر مدته في دول الملوك، من لمتونة، معروف الحق، بعيد
الصيت والذكر، صدر الحضرة، والمخصوص بعلو المرتبة إلى حين وفاته.
أحمد بن محمد الهمداني اللخميأحمد بن محمد بن أحمد بن
يزيد الهمداني اللخمي من أهل غرناطة
حالهكان فقيهاً وزيراً جليلا حسيباً حافلا.
وفاتهتوفي بإلبيرة قبل الثلاثين وأربعمائة.
ذكره أبو القاسم الغافقي في تاريخه وابن اليسر في مختصره
واثنى عليه.
أحمد بن محمد الهمداني الإلبيريأحمد بن محمد بن أضحى بن
عبد اللطيف بن غريب بن يزيد ابن الشمر بن عبد شمس بن غريب الهمداني الإلبيري من
نزلاء قرية همدان، ذكره ابن حيان، والغافقي، وابن مسعدة، وغيرهم، فقال جميعم، كان
من أهل البلاغة، والبيان، والأدب، والشعر البارع.
مناقبهقدم على الخليفة أبي مطرف عبد الرحمن، فقام خطيباً
بين يديه، فقال: الحمد لله المحتجب بنور عظمته، عن أبصار بريته، والدال بحدوث خلقه
على أوليته، والمنفرد بما أتقن من عجائب دهره ومنن صمديته، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده، لا شريك له، إقراراً بوحدانيته، وخضوعاً لعزه وعظمته. وأشهد أن محمداً عبده
ورسوله، انتخبه من أطيب البيوتات، واصطفاه من أطيب البيوتات، حتى قبضه الله إليه، واختار
له ما لديه. وقد قبل سعيه، وأدى أمانته، فصلى الله عليه وسلم تسليما. ثم إن الله
لما أن بعثه من أكرم خلقه، وأكرمه برسالته وأنزل عليه محكم تنزيله، واختار له من
أصحابه وأشياعه مخلفاً، جعل منهم أئمة يهدون بالحق، وبه يعدلون، فجعل الله الأمير،
أعزه الله، وارث ما خلفوه من معاليهم، وباني ما أسسوه من مشاهدهم، حتى أمن
المسالك، وسكن الخائف، رحمةً من الله، ألبسه كرامتها، وطوقه فضيلتها، والله يؤتي
ملكه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
الله أعطاك التي لا فوقها ... وقد أراد الملحدون عوقها
عنك ويأبي الله إلا سوقها ... إليك حتى قلدوك طوقها
ثم أردف قوله بهذه الأبيات:
أيا ملكاً ترمي به قضب الهند ... إذا لمعت بين المغافر
والصرد
ومن
بأسه في منهل الموت واردٌ ... إذا أنفس الأبطال كلت عن الورد
ومن ألبس الله الخلافة نعمةً ... به فاقت النعما وجلت عن
الحد
فلو نظمت مروان في سلك فخرها ... لأصبح من مروان واسطة
العقد
تجلى على الدنيا فأجلى ظلامها ... كما انجلت الظلماء عن
قمر السعد
إمام هدًى أضحت به العرب غضة ... ملبسةً نوراً كواشية
البرد
كفاني لديه أن جعلت وسايلي ... ذماماً شآمي الهوى مخلص
الود
يؤكد ما يدلي به من مثابة ... خلوص أبيه عبد الفارس
الجند
تأمل رواه والرماح شواجرٌ ... وخيلٌ إلى خيلٍ بأبطالها
تردى
رأى أسداً ورداً يخف إلى الوغى ... ورأيته أربي على
الأسد الورد
فأنعم عليه اليوم يا خير منعمٍ ... بإظهار تشريفٍ وعقد
يدٍ عندي
ولا تشمت الأعداء أن جئت قاصداً ... إلى ملك الدنيا
فأحرم من قصدي
فعند الإمام المرتضى كل نعمةٍ ... وشكراً لما يلحيه من
نعمةٍ عندي
فلا زال في الدنيا سعيداً مظفراً ... وبوىء في دار العلى
جنة الخلد
وكان من بيت سماحة وفصاحة وخطابة، فعلا شرفه بهذه
الخصال، فسجل له على أرحيةٍ، وحصنٍ نبيل ببني هود وغير ذلك، فانقلب مرعى الوسائل،
ومقضى الرسائل.
قال المؤلف أرى ابن فركون قبل الست عشرة والثلاثمائة.
أحمد بن محمد هشام القرشيأحمد بن محمد بن أحمد بن هشام
القرشي من أهل غرناطة. يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن فركون
أوليتهوكفى بالنسب القرشي أولية.
حالهمن عائد الصلة: كان من صدور القضاة بهذا الصقع
الأندلسي، اضطلاعاً بالمسائل ومعرفة بالأحكام من مظانها، كثير المطالعة والدروب،
وحي الإجهاز في فصل القضايا، نافذ المقطع، كثير الاجتهاد والنظر، مشاركاً في فنون،
من عربية، وفقه، وقراءة، وفرائض، طيب النغمة بالقرآن، حسن التلاوة، عظيم الوقار،
بين طبعٍ ومكسوب، فائق الأبهة، مزرياً بمن دونه من الفقهاء، وعاقدي الشروط، مسقطاً
للكنى والتجلات، يعامل الكهول معاملة الأحداث، ويتهاون بتعاملات ذلك فيجعلها دبر
أذنيه، ويسترسل في إطلاق عنان النادرة الحارة، في مجالس حكمه، فضلا عن غيرها، وجد
ذلك من يحمل عليها سبباً للغرض منه
نباهتهترشح بذاته، وباهر أدواته، إلى قضاء المدن
النبيهة، والأقطار الشهيرة، كرندة، ومالقة، وغيرهما. ثم ولي قضاء الجماعة، في ظل
جاه وضمن حرمة. غريبة في أمره: حدث أنه كان يقرأ في شبيبته على الأستاذ الصالح أبي
عبد الله بن مستقور. بكرم له خارج الحضرة، على أميال منها في فصل العصير. قال
وجهني يوماً بغلة من الرب لأبيعه بالبلد، فأصابني مطرٌ شديد، وعدت إليه بحال سيئة،
بعد ما قضيت له وطره، وكان له أخٌ أسن منها، فعاتبه في شأني، وقال له: تأخذ صبيا
ضعيفاً يأتيك لفائدة يستفيدها، وتعرضه لمثل هذه المشقة، في حق مصلحتك، ليس هذا من
شيم العلماء، ولا من شيم الصالحين. فقال له دعه، لا بد أن يكون قاضي الجماعة
بغرناطة، فكان كذلك، وصدقت فراسته، رحمه الله تعالى.
مشيخته: قرأ بالقرية على الأستاذ أبي القاسم بن الأصفر،
وبغرناطة على العالم القاضي أبي الحسن محمد بن يحيى بن ربيع الأشعري، وعلى الشيخ المفتي
أبي بكر محمد بن أبي إبراهيم بن مفرج الأوسي بن الدباغ الإشبيلي، وعلى الخطيب
الزاهد أبي الحسن العدال، وعلى الأستاذ النحوي أبي الحسن علي بن محمد بن علي بن
يوسف ابن الصايغ، بالصاد المهملة، والغين المعجمة، وعلى الأستاذ أبي الحسن الأبدي،
وأبي عبد الله محمد بن إبراهيم الطائي، عرف بابن مستقور.
ولما دالت الدولة، كان له في مشايعة مخلوعها أمور
اقتضتها منه أريحية وحسن وفاء، أوجبت عليه الخمول بعد استقرار دايلها، السلطان أبي
الوليد رحمه الله، وأصابته أيام الهيج محن، ونسبت إليه نقائص، زورتها حسدته، فصرف
عن القضاء، وبقي مدة مهجور الفناء، مضاع المكان عاطل الدولة، منتبذاً في مليك له،
خارج الحضرة، ينحني على خرثيٍ ساقط القيمة، ودفاتر ساقطة الثمن، يتعلل بعلاتها،
ويرجي الوقت بيسيرها.
حدثني
الوزير أبو بكر بن الحكيم، قال زرته في منزله بعد عزله، ونسبة الأمور التي لا تليق
بمثله، فأنشدني بما ينبيء عن ضجره وضيق صدره:
أنا من الحكم تائبٍ ... وعن دعاويه هارب
بعد التفقه عمري ... ونيل أسنى المراتب
وبعد ما كنت أرقى ... على المنابر خاطب
أصبحت أرمي بعارٍ ... للحال غير مناسب
أشكو إلى الله أمري ... فهو المثيب المعاقب
وثبت اسمه في التاريخ المسمى بالتاج تأريخي بما نصه: شيخ
الجماعة وقاضيها، ومنفذ الأحكام وممضيها، وشايم، سيوفها الماضية ومنتضيها، رأس
بفضيلة نفسه، وأحيا دارس رسم القضاء بدرسه، وأودع في أرض الاجتهاد، بذر السهاد،
فجني ثمرة غرسه، إلى وقار يود رضوى رجاحته، وصدر تحسد الأرض الغبيطة ساحته، ونادرة
يدعوها فلا تتوقف، ويلقى عصاها فتتلقف، ولم يزل يطمح بأمانيه، ويضطلع بما يعانيه،
حتى رفع إلى الرتبة العالية، وحصل على الحال الحالية، وكان له في الأدب مشاركة،
وفي قريض النظم حصة مباركة. إنتهى إلى قوله يهنىء السلطان أبا عبد الله بن نصر،
بالإبلال من مرض في اقترانٍ بعيد وفتح، وذلك:
شفاؤك للملك اعتزازٌ وتأييد ... وبرؤك مولانا به عيدنا
عيد
مرضت فلم تأو النفوس لراحةٍ ... ولا كان للدنيا قرارٌ
وتمهيد
ولم تصبر عيني تود مولماً ... ولازمها طول اعتلالك تسهيد
وشعره مختلف عن نمط الإجادة التي تناسب محله في العلم،
وطبقته في الإدراك فاختصرته.
مولدهعام تسعة وأربعين وستمائة.
وفاتهفي السادس عشر لذي القعدة عام تسعة وعشرين
وسبعمائة: ذكرته في كتاب عائد الصلة قاضياً، وفي كتاب التاج المحلي قاضياً أدبياً.
وذكره أبو بكر بن الحكيم في كتاب الفوائد المستغربة، والموارد المستعذبة من تأليفه.
أحمد بن محمد بن جزي الكلبيأحمد بن محمد بن أحمد بن محمد
بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن ابن يوسف بن سعيد بن جزي الكلبي من أهل غرناطة،
ويعرف بابن جزي، أوليته معروفة، وأصالته شهيرة، تنظر فيما مر من ذلك عند ذكر سلفه،
وفيما يأتي في ذلك، بحول الله وقوته.
حالهمن أهل الفضل والنزاهة، والهمة، وحسن السمة،
واستقامة الطريقة، غرب في الوقار، ومال إلى الانقباض، وترشح إلى رتب سلفه، له
مشاركةٌ حسنة في فنون، من فقه وعربية، وأدب، وحفظ، وشعر، تسمو ببعضه الإجادة، إلى
غاية بعيدة.
مشيختهقرأ على والده الخطيب أبي القاسم، ولازمه،
واستظهره ببعض موضوعاته، وتأدب به، وقرأ على بعض معاصري أبيه، وروي، واستجلب له
أبوه كثيراً من أهل صقعة وغيرهم.
نباهتهثم أرسم في الكتابة السلطانية لأول دولة السابع من
الملوك النصريين، منفق سوق الحلية من أبناء جنسه، أبي الحجاج بن نصر، فوري زنده،
ودرت أحلاب قريحته، وصدر له في مدائحه شعر كثير. ثم تصرف في الخطط الشرعية، فولي
القضاء ببرجة، ثم بأندرش، وهو الآن قاضي مدينة وادي آش مشكور السيرة، معروف
النزاهة، أعانه ذلك وسوده، وبلغ به رتبة سلفه. وجرى ذكره في كتاب التاج بما نصه: فاضلٌ تحلى
بالسكينة والوقار، فمدت إليه رقاب سلفة يد الافتقار، ما شئت من هدوء وسكون، وجنوح
إلى الخير وركون، عني بالمحافظة على سمته من لدن عقل، ولزم خدمة العلم فما عاد ولا
انتقل، ووجد من أبيه رحمه الله مرعىً خصيباً فابتقل، وعمل على شاكله، سلفه في
سلامة الجانب، وفضل المذاهب، وتحلى بتلك المآثر وتوشح، وتأهل إلى الرتب في سن
الشبيبة وترشح، وله مع ذلك في لجة الفقه سبحٌ، وعلى بعض موضوعات أبيه شرحٌ، وأدبه
ساطع، وكلامه حسن المقاطع. فمن ذلك ما كتب به إلى، وقد خاطبت ما أمكن من نظمه:
فديتك يا سيدي مثلما ... فداك الزمان الذي زنته
وقوله في المقطوعات من ذلك في معنى التورية:
كم بكائي لبعد كم وأنيني ... من ظهيري على الأسى من معيني
جراح الخد دمع عيني ولكن ... عجبٌ أن يجرح ابن معين
وقال في الغنى:
أرى الناس يولون الغني كرامة ... وإن لم يكن أهلا لرفعة
مقدار
ويلوون عن وجه الفقير وجوههم ... وإن كان أهلا أن يلاقى
بإكبار
بنو
الدهر جاءتهم أحاديث جمةٌ ... فما صححوا إلا حديث ابن دينار
ومن بديع ما صدر عنه، قوله ينسج على منوال امرىء القيس
في قصيدته الشهيرة:
أقول لحزمي أو لصالح أعمالي ... إلا عم صباحا أيها الطلل
البالي
أما واعظى شيبٌ سما فوق لمتي ... سمو حباب الماء حالا
على حال
أنار به ليل الشباب كأنه ... مصابيح رهبانٍ تشب لقفال
نهاني عن غيٍ وقال منبها ... ألست ترى السمار والناس
أحوالي
يقولون غيره لتنعم برهةً ... يعمن به من كان في العصر
الخالي
أغالط دهري وهو يعلم أنني ... كبرت وأن لا يحسن اللهو
أمثالي
ومؤنس نار الشيب يقبح لهوه ... بآنسةٍ كأنها خط تمثال
أشيخاً وتأتي فعل من كان عمره ... ثلاثين شهراً في ثلاثة
أحوال
وتشغفك الدنيا وما أن شغفتها ... كما شغف المهنوءة الرجل
الطالي
ألا أنها الدنيا إذا ما اعتبرتها ... ديار لسلمى عافياتٌ
بذي خال
فأين الذين استأثروا قبلنا بها ... لناموا فما إن من
حديث ولا صال
ذهلت بها غيا فكيف الخلاص من ... لعوبٍ تنسيني إذا قمت
سربالي
وقد علمت مني مواعيد توبتي ... بأن الفتى يهذي وليس
بفعال
ومذ وثقت نفسي بحب محمد ... هصرت بغصنٍ ذي شماريخ ميال
وأصبح شيطان الغواية خاسئاً ... عليه قتام سيء الظن
والبال
ألا ليت شعري هل تقول عزائمي ... لخيلي كرى كرةً بعد
إجفال
فأنزل داراً للنبي نزيلها ... قليل همومٍ ما يبيت بأوجال
فطوبى لنفسٍ جاورت خير مرسل ... بيثرب أدنى دارها نظرٌ
عالي
ومن ذكره عند القبول تعطرت ... صباً وشمألٌ في منازل
قفال
جوار رسول الله مجدٌ مؤثلٌ ... وقد يدرك المجد المؤثل
أمثالي
ومن ذا الذي يثني عنان السرى وقد ... كفاني ولم أطلب
قليلٌ من المال
ألم تر أن الظبية استشفعت به ... تميل عليه هونةً غير
مجفال
وقال لها عودي فقالت له نعم ... ولو قطعوا رأسي لديك
وأوصالي
فعادت إليه والهوى قائلٌ لها ... وكان عداء الوحش مني
على بالي
رثى لبعيرٍ قال أزمع مالكي ... ليقتلني والمرء ليس بفعال
وثورٍ ذبيح بالرسالة شاهد ... طويل القرا والروق اخنس
ذيال
وحن إليه الجذع حنة عاطش ... لغيثٍ من الوسمي رائده خالي
وأصلين من نخلٍ قد التأما له ... فما احتبسا من لينٍ مسٍ
وتسهال
وقبضة ترب منه ذلت لها الظبا ... ومسنونةٍ زرقٍ كأنياب
أغوال
وأضحى ابن جحشٍ بالعسيب مقاتلاً ... وليس بذي رمح وليس
بنبال
وحسبك من سيف الطفيل إضاءة ... كمصباح زيتٍ في قناديل
ذبال
وبذت به العجفاء كل مطهم ... له حجبات مشرفات على الفال
ويا خسف أرضٍ تحت باغيه إذ علا ... على هيكل نهد الجزارة
جوال
وقد أخمدت نارٌ لفارس طالما ... أصابت غضى جزلاً وكفت بأجزال
أبان سبيل الرشد إذ سبل الهدى ... يقلن لأهل الحلم ضلا
بتضلال
لأحمد خير العالمين انتقيتها ... ورضت فذلت صعبةً أي
إذلال
وإن رجائي أن ألاقيه غداً ... ولست بمقلى الخلال ولا
قالي
فأدرك آمالي وما كل آمل ... بمدرك أطراف الخطوب ولا والي
ولا
خفاء ببراعة هذا النظم، وإحكام هذا النسخ، وشدة هذه الغارضة. وله تقييدٌ في الفقه
على كتاب والده، المسمى بالقوانين الفقهية، ورجزٌ في الفرائض يتضمن العمل. واحسانه
كثير. وتقدم قاضياً بخضرة غرناطة، وخطيباً بمسجد السلطان، ثامن شوال من عام ستين
وسبعمائة. ثم انصرف عنها، وأعيد إليها في عام ثلاث وستين، موصوفاً بالنزاهة
والمضاء.
مولدهفي الخامس عشر من جمادى الأولى عام خمسة عشر
وسبعمائة، وهو الآن بقيد الحياة.
أحمد بن محمد بن عبد الله العامريأحمد بن محمد بن أحمد
بن عبد الرحمن بن علي بن محمد بن سعدة ابن سعيد بن مسعدة بن ربيعة بن صخر بن
شراحيل بن عامر بن الفضل بن بكر بن بكار بن البدر بن سعيد بن عبد الله العامري
يكنى أبا جعفر، من أهل غرناطة.
أوليتهعامر الذي ينتسبون إليه، عامر بن صعصعة بن هوازنٍ
بن منصور بن عكرمة ابن حفصة بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
ومن مناقبهم، ميمونة أم المؤمنين، زوج رسول الله صلى
الله عليه وسلم، وعمر بن عامر من أصحابه، وعاصم بن عبد الله الجعلي، ويزيد بن
الحميري، وغيرهم. منزل جدهم الداخل إلى الأندلس، وهو بكر بن بكار بن البدر بن سعيد
بن عبد الله، قرية طغنر، من إقليم براجلة ابن خريز من إلبيرة.
قال ابن الصيرفي، في تاريخه الصغير: منزل بني مسعدة،
موضع كرم ومحمدة، ينتسبون في عامر وهم أعيان علية، فرسان أكابر وحجاب وكتاب
ووزراء، ولهم سابقات ومفاخر، وأوائل وأواخر. ومنهم على القدم جليلٌ ونبيه، ومنهم
كان وضيع بن جراح الفقيه، لم يدخل أحد منهم في الفتنة يداً ولا تأذي مسلماً، ولا
معاهداً، على قدرتهم على ذلك، وكفى به فخراً لا ينقطع أبداً. ودخل جدهم الأندلس
بعقد بني مروان له، سنة أربع وتسعين من الهجرة، ويأتي من ذكر أعلامهم، ما يدل على
شرف بيتهم، وأصالته، وعلوة وجلالته.
حالهكان صدراً جليلا، فقيهاً مضطلعاً، من أهل النظر
السديد والبحث، قائماً على المسائل، مشاركاً في كثير من الفنون، جزلا مهما، جارياً
على سنن سلفه، ريان من العربية. وختم سيبويه تفقهاً، وقرأ الفقه، واستظهر كتاب
التلقين، وردس الأحكام الجيدة، وعرضها في مجلس واحد، وقرأ أصول الفقه، وشرح
المستصفى شرحاً حسناً، وقرأ الإرشاد والهداية، وكان صدراً في الغرائض والحساب،
وألف تاريخ قومه وقرابته ولايته ولى القضاء بمواضع من الأندلس كثيرة من البشارات،
أقام بها أعواماً خمسة، ثم لوشة، وأقام بها ثلاثة أعوام، ثم بسطة وبرشانة. ثم
انتقل إلى مالقة، وأقام بها أعواماً خمسة. نبهت على مقدار الإقامة لما في ضمن طول
سنى الولاية من استقامة أمر الوالي. وكان له من أمير المسلمين بالأندلس حظوة لطيفة
لم تكن لغيره، استنزلها بسحر التلطف، وخطبها بلسان التملق حتى استحكمت له أسبابها.
حدثني بعض أشياخي ممن كان يباشر حال السلطان يومئذ: قال: وجه ابن
مسعدة ابنة من مالقة، بكتاب في بعض الأغراض الضرورية، ثم رغب فيه أن ينعم على ولده
بالمشافهة لإلقاء أمر ينوب عنه فيه، فلما حضر، تناول رجل السلطان فقبلها، وقال
أمرني أبي أن أنوب في تعفير الوجه، في هذه الرجل الكريمة الجهادية عنه خاصة. لبعد
عهده بها، إلى أمثال هذا، مما اقتضت الانتفاع بعاجلٍ من الدنيا زهيدٍ، لا يدري ما
الله صانعٌ فيها، والإبقاء بما تجاوز الإفراط، في تقدمه بمالقة، بعده دار الأعلام،
وديوان العقد، وهو حدثٌ خليٌ من العلم، قريب العهد بالبلوغ، فكانت على أنها غاية
الصدور ملعباً، إلى أن ضرب الدهر ضرباته، وانتقلت الحال.
مشيختهأولهم قاضي الجماعة، أبو الحسن بن أبي عامر بن
ربيع، وثانيهم القاضي أبو عامر يحيى بن عبد الرحمن بن ربيع، وثالثهم أبو يحيى بن
عبد المنعم الخزرجي، ورابعهم العدل، الراوية، أبو الوليد العطار، وخامسهم أبو
إسحاق بن إبراهيم بن أحمد الخشني، وسادسهم الأستاذ أبو الحسن الكناني الإشبيلي،
وسابعهم محمد بن إبراهيم ابن مفرج الأوسي الدباغ، وثامنهم أبو جعفر أحمد بن علي
الرعيني، وتاسعهم أبو علي بن أبي الأحوص.
وصمته:
فروي الناس أنه وجد بخزانته بعد وفاته، زمامٌ، يشتمل على مثالب أهل غرناطة، مما
يحدث على الأيام في أفرادهم، من فلتات يجريها عدم الاتصاف بالعصمة. استقر عند ولده
الفضل، زعموا، ثم خفي أثره، ستر الله عيوبنا برحمته.
وفاتهتوفي بمالقة قرب صلاة المغرب، يوم الأحد الموفى
عشرين لذي الحجة عام تسعة وتسعين وستمائة، ودفن بخارج باب قبالة في مالقة المذكورة
بمقربة من رابعة بني عمار، وبالروضة المنسوبة لبني يحيى، نقلت من خط ولده الفضل.
ابن قعنبأحمد بن محمد بن أحمد بن قعنب الأزدي يكنى أبا
جعفر، ويعرف بابن قعنب
أوليتهذكر الأستاذ ابن الزبير في صلته وغيره أن قوماً
بغرناطة يعرفون بهذه المعرفة، فإن كان منهم، فله أولية لابأس بها.
حالهكان من شيوخ كتاب الشروط معرفة بالمسائل، واضطلاعاً
بالأحكام، وانفرد بصحة الوثيقة، باقعةً من بواقع زمانه، وعيابة في مشايخ قطره،
يألف النادرة الحارة في ملاء من النوك والغفلة، فلا يهتز لموقع نادرة، ولا يضحك
عقب عقد صرعةٍ، لقلقه غير مامرة، غير مجلس من مجالس القضاء من بني مسعود المزراة أحكامهم،
المرمية بتهكمه وإزرائه، فتقتع في طريق حكمهم خطاً منفسحة، غير مكترث بهوانه، ولا
غاص بلسانه. وربما قال لبعض الوزعة من قادته بمجسه، وقد توقفوا به في بعض الطريق،
توقعاً لسكون غضب قاضيهم، إبعثوا بعضهم إلى هذا المحروم، لنرى ما عزم عليه، بكلام
كثير الفتور والاستكانة، له في هذا الباب شهرة.
ذكر بعض نزعاتهحدثني ملازمه، وقفٌ عليه، أبو القاسم بن
الشيخ الرئيس أبي الحسن بن الجياب، وقد أعمل والده، رحلةً إلى مالقة لزيارة شيخه الذي
تلمذ له، وشهر بالتشيع فيه، أبي عبد الله الساحلي، صاحب الأتباع والطريقة، وكان
مفرط الغلو فيه، واستصحب ولده الصغير، فسأله عن سفر أبيه وسعيه فقال نعم، واحتمل
أخي، فقال أظنه منذ ولد كان غير مغتطس، فحمله الشيخ، فغطسه، واستغرب كل من حضر
ضحكاً، فلم يبتسم هو كأنه لا شعور عنده بما ذهب إليه، فكانت إحدى الطوام عند الشيخ.
وحدثني، قال: جاءت امرأة تخاصم مياراً، أوصلها من بعض
المدن، في أمرٍ نشأ بينهما، وبيده عقد، فقال بعض جيرانه، من نصه حاكياً، وأنه
جامعها من موضع كذا إلى كذا ولم يرسم المد على ألف جاء، فقال الشيخ للمرأة،
أتعرفين أن هذا الميار جامعك في الطريق أي فعل بك، فقالت معاذ الله، ونفرت من ذلك،
فقال كذا شهد عليك الفقيه، وأشار إلى جاره. ومثل ذلك كثير. ولي القضاء بأماكن
عديدة كلوشة، وبسطة، والمسند، وبرجة، وأرحبة، وغير ذلك.
مشيخته: يحمل عن الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، والخطيب
الصالح أبي عبد الله بن فضيلة، وأبي محمد بن سماك، وأبي الحسن بن مستقور.
مولدهعام سبعين وستمائة. توفي قاضياً ببرجة بعد علة سدكت
به في السادس عشر من شعبان من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة، وانتقل منها في وعاء
خشب. ودفن بمقبرة إلبيرة تجاوز الله عنه ورحمه.
أحمد بن محمد بن سعيد بن زيد الغافقيمن أهل غرناطة، وجلة
بيوتها، ويأتي من ذكر ذلك ما فيه كفاية
حالههذا الرجل ممن صرفت إلى الله رجعاه، وخلصت له
معاملته، وخلص إليه انقطاعه. نازع في ذلك نفساً جامحة في الحزم، عريقة في الغفلة، فكتب الله
له النصر، عليها دفعة، فشمر وفوت الأصول للحضرة في باب الصدقة، ونبذ الشواغل، وحفظ
كتاب الله على الكبرة، واستقبل المحراب، ملغياً سواه. درأ به، فاتفق على فضله،
وغبط في حسن فيئته. وله ديوان نبيل، يتضمن كثيراً من فقه النفس والبدن، دل على
نبله، وهو بحاله الموصوفة إلى هذا العهد. نفعه الله تعالى.
مولدهبغرناطة عام تسعين وستمائة.
أحمد بن أبي سهل الخزرجيأحمد بن أبي سهل بن سعيد بن أبي
سهل الخزرجي من أهل الحمة، يكنى أبا جعفر.
حالهمن أهل الخير والعفاف والطهارة والانقباض، والصحة
والسلامة، أصيل البيت، معروف القدم ببلده، حر النادرة. قرأ بالحضرة، واجتهد وحصل،
ولازم الأستاذ أبا عبد الله الفخار وغيره من أهل عصره. وولي القضاء ببلدة الحمة،
ثم بغربي مالقة. وهو الآن قاض بها، مشكور السيرة.
أحمد بن عمر بن ورد التميميأحمد بن عمر بن يوسف بن إدريس
بن عبد الله بن ورد التميمي
من
أهل ألمرية. يكنى أبا القاسم، ويعرف بابن الورد.
حالهقال الملاحي: كان من جلة الفقهاء المحدثين. قال ابن
الزبير كذلك، وزاد: موفور الحظ من الأدب والنحو والتاريخ، متقدماً في علم الأصول
والتفسير، حافظاً متقناً، ويقال إن علم المالكية انتهت إليه الرياسة فيه، وإلى
القاضي أبي بكر بن العربي، في وقتهما. لم يتقدمهما في الأندلس أحد بعد وفاة أبي
الوليد بن رشد. قال أخبرني الثقة أبو عبد الله بن جوبر عن أبي عمر بن عات، قال: حديث ابن العربي،
اجتمع بابن ورد، وتبايتا ليلة، وأخذا في التناظر والتذاكر، فكانا عجباً. يتكلم أبو
بكر فيظن السامع أنه ما ترك شيئاً إلا أتى به، ثم يجيبه أبو القاسم بأبدع جواب
ينسي السامعين ما سمعوا قبله. وكانا أعجوبتي دهرهما. وكان له مجلسٌ يتكلم فيه على الصحيحين،
ويخص الأخمسة بالتفسير.
حلوله غرناطة، قال المؤرخون ولي قضاء غرناطة سنة عشرين،
فعدل وأحسن السيرة، وبه تفقه طلبتها إذ ذاك.
مشيخته:
روي عن أبي علي الغساني، وأبي الحسن بن سراج، وأكثر عنه،
وأبي بكر بن سابق الصقيلي، وأبي محمد بن عبد الله بن فرج المعروف بالعسال الزاهد،
ولازمه، وهو آخر من روي عنه. ورحل إلى سجلماسة، وناظر عند ابن العواد.
وروي أيضاً عن أبي الحسن المبارك المعروف بالخشاب، وكان
الخشاب يحمل عن أبي بكر بن ثابت الخطيب وغيره.
من روي عنه، وروي عنه جماعة كأبي جعفر بن الباذش، وأبي
عبيدة الله، وابن رفاعة، وابن عبد الرحيم، وابن حكيم وغيرهم. وآخر من روي عنه، أبو
القاسم ابن عمران الخزرجي بفاس.
وفاتهتوفي بالمرية في الثاني عشر لرمضان سنة أربعين
وخمسمائة.
أحمد بن محمد بن علي الأمويأحمد بن محمد بن علي بن أحمد
بن علي الأموي يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن برطال، أصله من قرية تعرف بحارة البحر من
وادي طرش نصر حصن منتماس من شرقي مالقة، من بيت خير وأصالة، وانتقل سلفه إلى
مالقة، فتوشجت لهم بها عروقٌ، وصاهروا إلى بيوتات نبيهة.
حالهكان من أهل الخير، وكان على طريقة مثلى من الصمت،
والسمت، والانقباض، والذكاء، والعدالة والتخصص، محولا في الخير، ظاهر المروءة،
معروف الأصالة، خالص الطعمة، كثيرالعفة، مشهور الوقار والعفاف، تحرف بصناعة
التوثيق على انقباض.
دخوله غرناطة: تقدم قاضياً بغرناطة، بعد ولاية القضاء
ببلده، وانتقل إليها، وقام بالرسم المضاف إلى ذلك، وهو الإمامة بالمسجد الأعظم
منها، والخطابة بجامع قلعتها الحمراء، واستقل بذلك إلى تاسع جمادى الثانية من عام
إحدى وأربعين وسبعمائة، على قصور في المعارف، وضعف في الأداة، وكلال في الجد،
ولذلك يقول شيخنا أبو البركات بن الحاج:
إن تقديم ابن برطال دعا ... طالب العلم إلى ترك الطلب
حسبوا الأشياء عن أسبابها ... فإذا الأشياء عن غير سبب
إلا إنه أعانه الدربة، والحنكة على تنفيذ الأحكام، فلم
تؤثر عنه فيها، أحدوثه، واستظهر بجزالة، أمضت حكمه، وانقباضٍ عافاه عن الهوادة،
فرضيت سيرته، واستقامت طريقته.
مشيخته، لقي والده، شيخ القضاة، وبقية المحدثين، وله الرواية
العالية، والدرجة الرفيعة، حسبما يأتي في اسمه، ولم يؤخذ عنه شيء فيما أعلم.
شعرهأنشدني الوزير، أبو بكر بن ذي الوزارتين، أبي عبد
الله بن الحكيم، قال أنشدني القاضي أبو جعفر بن برطال لنفسه، مودعاً في بعض الأسفار:
أستودع الله من لوداعهم ... قلبي وروحي إذ دنى الوداع
بانوا وطرفي والفؤاد ومقولي ... باكٍ ومسلوب العزاء وداع
فتول يا مولاي حفظهم ولا ... تجعل تفرقنا فراق وداع
وفاتهتوفي رحمه الله، وعفا عنه، أيام الطاعون الغريب
بمقالة، في منتصف ليلة الجمعة خامس صفر عام خمسين وسبعمائة، وخرجت جنازته في اليون
التالي، ليلة وفاته في ركبٍ من الأموات، يناهز الألف، وينيف بمائتين، واستمر ذلك
مدة، وكان مولده عام تسعة وثمانين وستمائة، رحمه الله تعالى.
أحمد بن عبد الله بن عميرة المخزوميأحمد بن عبد الله بن
محمد بن الحسن بن عميرة المخزومي بلنسي شقوري الأصل يكنى أبا مطرف
أوليته
لم
يكن من بيت نباهة، ووقع لابن عبد الملك في ذلك نقل، كان حقه التجافي عنه، لو وفق.
حالهقال ابن عبد الملك: كان أول طلبه العلم، شديد
العناية بشأن الرواية، فأكثر من سماع الحديث، وأخذه عن مشايخ أهله، وتفنن في
العلوم، ونظر في العقليات وأصول الفقه، ومال إلى الأدب، فبرع فيه براعة، عد بها من
كبار مجيدي النظم. وأما الكتابة، فهو علمها المشهور، وواحدها الذي عجزت عن ثانيه
الدهور، ولا سيما في مخاطبة الإخوان، هنالك استولى على أمد الإحسان، وله المطولات المنتخبة،
والقصار المقتضبة، وكان يملح كلامه نظماً ونثراً بالإشارة إلى التاريخ، ويودعه
إلماعات بالمسائل العلمية منوعة المقصد. قلت: وعلى الجملة، فذات أبي المطرف فيما
ينزع إليه، ليست من ذوات الأمثال، فقد كان نسيج وحده، إدراكاً وتفنناً، بصيراً
بالعلوم، محدثاً، مكثراً، راوية ثبتاً، سجراً في التاريخ والأخبار، ريان، مضطلعاً
بالأصلين، قائماً على العربية واللغة، كلامه كثير الحلاوة والطلاوة، جم العيون،
غزير المعاني والمحاسن، وافد أرواح المعاني، شفاف اللفظ، حر المعنى، ثاني بديع
الزمان، في شكوى الحرفة، وسوء الحظ، ورنق الكلام، ولطف المأخذ، وتبريز النثر على
النظم، والقصور في السلطانيات.
مشيختهروي عن أبي الخطاب بن واجب، وأبي الربيع بن سالم،
وأبي عبد الله بن فرج وأبي على الشلوبين، وأبي عمر بن عات، وأبي محمد بن حوط الله،
لقيهم، وقرأ عليهم، وسمع منهم، وأجازوا له، وأجاز له من أهل المشرق أبو الفتوح نصر
بن أبي الفرج وغيره.
من روي عنه، روي عنه ابنه القاسم، وأبو بكر بن خطاب،
وأبو إسحاق البلقيني الحفيد، والحسن بن طاهر بن الشقوري، وأبو عبد الله البري.
وحدث عنه أبو جعفر بن الزبير، وابن شقيف، وابن ربيع، وغيرهم مما يطول ذكره.
نباهتهصحب أبا عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن
خطاب، قبل توليته ما تولى من رياسة بلده، وانتفع به كثيراً، وكتب عن الرئيس أبي
جميل زيان ابن سعد، وغيره من أمراء شرق الأندلس. ثم انتقل إلى العدوة، واستكبته
الرشيد أبو محمد عبد الواحد بمراكش، مدة يسيرة، ثم صرفه عن الكتابة وولاه قضاء
مليانة من نظر مراكش الشرقي، فتولاه قليلا، ثم نقله إلى أقصى رباط الفتح. وتوفي
الرشيد، فأقره على ذلك الوالي بعده، أبو الحسن المعتضد أخوه، ثم نقله إلى قضاء
مكناسة الزيتون، ثم لما قتل المعتضد لحق بسبتة، وجرى عليه بطريقها ما يذكر في محنته.
ثم ركب البحر منها متوجهاً إلى إفريقية، فقدم بجاية على الأمير أبي زكريا يحيى بن
الأمير أبي زكريا. ثم توجه إلى تونس فنجحت بها وسائله، وولي قضاء مدينة الأرش. ثم
انتقل إلى قابس، وبها طالت مدة ولايته، واستدعاه المستنصر بالله محمد بن أبي
زكريا، ولطف محله منه، حتى كان يحضر مجالس أنسه، وداخله بما قرفته الألسن بسببه
حسبما يذكر في وصمته.
مناقبهوهي الكتابة والشعر، كان يذكر أنه رأى في منامه،
النبي صلى الله عليه وسلم، فناوله أقلاماً، فكان يروى له أن تأويل تلك الرؤيا، ما
أدرك من التبريز في الكتابة، وشياع الذكر، والله أعلم.
ومن بديع ما صدر عنه، فيما كتب في غرض التورية، قطعة من
رسالة، أجاب بها العباس بن أمية، وقد أعلمه باستيلاء الروم على بلنسية، فقال:
بالله أي نحو ننحو، أو مسطورٍ نثبت أو نمحو، وقد حذف الأصل والزائد، وذهبت الصلة
والعائد، وباب التعجب طال، وحال اليأس لا تخشى الانتقال، وذهبت علامة الرفع، وفقدت
نون الجمع، والمعتل أعدى الصحيح والمثلث أردى الفصيح، وامتنعت الجموع من الصرف،
وأمنت زيادتها من الحذف، ومالت قواعد الملة، وصرنا جمع القلة، وظهرت علامة الخفض،
وجاء بدل الكل من البعض.
ومن شعره في المقطوعات التي وري فيها بالعلوم قوله:
قد عكفنا على الكتابة حيناً ... وجاءت خطة القضاء تليها
وبكل لم يبق للجهد إلا ... منزلاً نابياً وعيشاً كريهاً
نسبةٌ بدلت ولم تتغير مث ... ل ما يزعم المهندس فيها
وكقوله مما افتتح به رسالة:
يا غائباً سلبتني الأنس غيبته ... فكيف صبري وقد كابدت
بينهما
دعواي أنك في قلبي فعارضها ... شوقي إليك فكيف الجمع
بينهما
وفي مثل ذلك استفتاح رسالته أيضاً:
إن
الكتاب أتى وساحة طرسه ... روحٌ موشي بالبديع مرتع
وله حقوقٌ اضق وقت وجوبها ... ومن الوجوب ضيقٌ وموسعٌ
وفي مثل ذلك في استفتاح رسالة أيضاً:
كبرت بالبشرى أتت وسماعها ... عيدي الذي لشهوده تكبيري
وكذلك الأعياد سنة يومها ... مختصة بزيادة التكبير
وفي أغراض أخر:
بايعونا مودة هي عندي ... كالمرآة بيعها بالخداع
فسأقضي بردها ثم أقضي ... بعدها من مدامعي ألف صاع
وله في معنى آخر:
شرطت عليهم عند تسليم مهجتي ... وعند انعقاد البيع قرباً
يواصل
فلما أردت الأخذ بالشرط أعرضوا ... وقالوا يصح البيع
والشرط باطل
تصانيفهله تأليفٌ في كائنة ميرقة، وتغلب الروم عليها،
نحى فيه منحى العماد الأصفهاني، في الفتح القدسي، وكتابه في تعقيبه، على فخر الدين
بن الخطيب الرازي في كتاب المعالم في أصول الفقه منه، ورده على كمال الدين أبي
محمد بن عبد الكريم السماكي في كتابه المسمى بالتبيان في علم البيان، واقتضابه النبيل،
في ثورة المريدين، إلى غير ذلك من التعاليق، والمقالات ودون الأستاذ أبو عبد الله
ابن هانىء السبتي كتابته وما يتخللها من الشعر في سفرين بديعين أتقن ترتيبهما،
وسمي ذلك بغية المستطرف، وغنيه المتطرف من كلام إمام الكتابه ابن عميرة أبي المطرف.
دخوله غرناطةقال شيخنا أبو الحسن بن الجياب. عمير أخبر
بذلك من شيوخه والرجل ممن يركن إليه في أخباره فيما أحقوا على سبيل الرواية
والإخبار، من شرق الأندلس، إلى غرناطة، إلى غربها إلى غير ذلك، عند رحلته، وهو
الأقرب، وقال: قال المخبر: عهدي به طويلاً، نحيف الجسم، مصفراً، أقنى الأنف، أصيب
بمقالة ما أحوج ما كان إليه، وقد استقبل الكبرة، ونازعه سوء الحظ، قال الشيخ أبو
الحسن الرعيني، إنه كتب إليه يعلمه بهذه الحادثة عليه، وأن المنهوب من ماله، يعدله
أربعة آلاف دينار عشرية، وكان ورقاً وعيناً وحلياً وذلك أنه لما قتل المعتضد،
اغتنم الفطرة، وفصل عن مكناسة، قاصداً سبته، فلقي الرفقة التي كان فيها جمعٌ من بني
مرين، سلبوه وكل من كان معه
مولدهبجزيرة شقر وقيل ببلنسية في رمضان اثنتين وثمانين
وخمسمائة.
وفاتهتوفي بتونس ليلة الجمعة الموفية عشرين ذي الحجة عام
ستة وخمسين وستمائة. قال ابن عبد الملك، ووهم ابن الزبير في وفاته، إذ جعلها في
حدود الخمسين وستمائة أو بعدها.
أحمد بن عبد الحق الجذليأحمد بن عبد الحق بن محمد بن
يحيى بن عبد الحق الجذلي من أهل مالقة، يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن عبد الحق
حالهمن صدور أهل العلم والتفنن، في هذا الصقع الأندلسي،
نسيج وحده في الوقار والحصافة، والتزام مثلى الطريقة، جم التحصيل، سديد النظر،
كثير التخصص، محافظ على الرسم، مقبوض العنان في التطفيف في إيجاب الحقوق لأهلها،
قريب إلى الإعتدال في معاملة أبناء جنسه، مقتصد مع ثروته، مؤثر للترتيب، في كافة أمره،
متوقد الفكرة مع سكون، لين العريكة مع مضاء، مجموع خصال حميدة مما يفيد التجريب
والحنكة، مضطلع بصناعة العربية، حائز قصب السبق فيها، عارف بالفروع والأحكام،
مشارك في فنون من أصول، وطب، وأدب، قائم على القراءة، إمام في الوثيقة، حسن الخط،
مليح السمة والشيبة عذب الفكاهة، حسن العهد، تام الرجولية.
نباهتهتصدر للاقراء ببلده على وفور أهل العلم، فكان سابق
الحلبة، ومناخ الطية، إمتاعاً، وتفنناً، وحسن إلقاء. وتصرف في القضاء ببلش وغيرها
من غربي بلده، فحسنت سيرته، واشتهرت طريقته، وحمدت نزاهته. ثم ولي خطة القضاء
بمالقة، والنظر في الأحباس بها، على سبيل من الحظوة والنباهة، مرجوعاً إليه في كثير
من مهمات بلده، سائمةً وجوه السعادة، ناطقةً ألسن الخاصة والعامة بفضله، جماعة
نزاهته، آوياً إلى فضل بيته. واتصلت ولايته إياها إلى هذا العهد، وهي أحد محامد
الوالي، طول مدة الولاية، لا سيما القاضي، مما يدل على الصبر، وقلة القدح، وسد
أبواب التهم، والله يعينه، ويمتع به بمنه.
مشيخته
قرأ
على الأستاذ أبي عبد الله بن بكر، وهو نجيب حلبته، والسهم المصيب من كنانته، لازمه
وبه تفقه وانتفع، وتلا القرآن عليه وعلى محمد بن أيوب، وعلى أبي القاسم بن درهم
علمي وقتهما في ذلك، وعلى غيرهما، وتعلم الوثيقة على العاقد القاضي أبي القاسم بن
العريف. وروي عن الخطيبين المحدثين أبي عثمان ابن عيسى وأبي عبد الله الطنجالي
وغيرهما.
دخوله غرناطةتردد إليها غير ما مرة، منها في أمور عرضت
في شئونه الخاصة به، ومنها مع الوفود الجلة، من أهل بلده، تابعاً قبل الولاية،
متبوعاً بعدها. ومن شعره قوله في جدول:
ومقارب الشطين أحكم صقله ... كالمشرفي إذا اكتسى بفرنده
فحمائل الديباج منه خمائل ... ومعانقٌ فيها البهار بورده
وقد اختفى طرفٌ له في دوحةٍ ... كالسيف رد ذبابه في غمده
وقوله في شجر نارنج مزهر:
وثمار نارنج ترى أزهارها ... مع ناتىء النارنج في تنضيد
فإذا نظرت إلى تألفها أتت ... كمباسم أومت للثم خدود
وفاتهفي زوال يوم الجمعة السابع والعشرين لرجب عام خمسة
وستين وسبعمائة.
مولدهثامن شوال عام ثمانية وتسعين وستمائة.
أحمد بن الصقر الأنصاري الخزرجيأحمد بن عبد الرحمن بن
محمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن الصقر الأنصاري الخزرجي يكنى أبا العباس، من أهل
الثغر الأعلى.
أوليتهمن سرقسطة، حيث منازل الأنصار هنالك، انتقل جد
أبيه عبد الرحمن بابنه الصغير منها لحدوث بعض الفتن بها إلى بلنسية، فولد له ابنه
عبد الرحمن أبو العباس هذا، ثم انتقل أبوه إلى ألمرية، فولد أبو العباس بها، ونقله
أبوه إلى سبتة فأقام بها مدة
حالهكان محدثاً مكثراً ثقةً، ضابطاً، مقرئاً، مجوداً، حافظاً
للفقه، ذاكراً للمسائل، عارفاً بأصولها، متقدماً في علم الكلام، عاقداً للشروط،
بصيراً بعللها، حاذقاً بالأحكام، كاتباً بليغاً، شاعراً محسناً، أتقن أهل عصره
خطا، وأجلهم منزعاً، ما اكتسب قط شيئاً من متاع الدنيا، ولا تلبس بها، مقتنعاً
باليسير، راضياً بالدون، مع الهمة العلية، والنفس الأبية، على هذا قطع عمره، وكتب
من دواوين العلم ودفاتره، ما لا يحصى كثرة، بجودة، وضبط وحسن خط، وعني به أبوه في
صغره، فأسمعه كثيراً من الشروح، وشاركه في بعضهم، نفعه الله.
نباهتهاستدعاه أبو عبد الله بن حسون، قاضي مراكش، إلى
كتابته، إلى أن صرف، واستقر هو متولى حكمها وأحكامها، والصلاة في مسجدها، ثم ترك
الأحكام، واستقر في الإمامة. ولما تصير الأمر إلى الموحدين، ألحقه عبد المؤمن
منهم، بجملة طلبة العلم، وتحفا به، وقدمه إلى الأحكام بحضرة مراكش، فقام بها مدة،
ثم ولاه قضاء غرناطة، ثم نقله إلى إشبيلية قاضياً بها مع ولي عهده. ولما صار الأمر
إلى أبي يعقوب، ألزمه خدمة الخزانة العلمية وكانت عندهم من الخطط التي لا يعين لها
إلا كبار أهل العلم وعليهم، وكانت مواهب عبد المؤمن له جزلة، وأعطياتهم مترافهة كثيرة.
مشيختهقرأ القرآن على أبيه، وأكثر عنه، وأجاز له، وعلى
أبي الحسن التطيلي، قال: وهو أول من قرأت عليه.
من روي عنه، روى عنه أبو عبد الله، وأبو خالد يزيد بن
يزيد بن رفاعة، وأبو محمد بن محمد بن علي بن وهب القضاعي.
دخوله غرناطةصحبة القاضي أبو القاسم بن حمزة، ونوه به
واستخلفه إذ وليها، وقبض عليه بكلتي يديه، ثم استقضى بها أبو الفضل عياض بن موسى،
فاستمسك به، واشتمل عليه، لصحبة كانت بينهما وقرابة، إلى أن صرف عنها أبو الفضل عياض،
فانتقل إلى وادي آش، فتولى أحكامها والصلاة بها، ثم عاد إلى غرناطة سنة ست وثلاثين،
إلى أن استقضى بغرناطة في دولة أبي محمد بن عبد المؤمن بن علي، فحمدت سيرته، وشكر
عدله، وظهرت نزاهته، ودام بها حتى ظن من أهلها.
شعرهوشعره في طريقة الزهد وهي لا ينفذ فيها إلا من قويت
عارضته، وتوفرت مادته:
إلهي لك الملك العظيم حقيقةً ... وما للورى مهما منعت
نقير
تجافي بنو الدنيا مكاني فسرني ... وما قدر مخلوق جداه
حقير
وقالوا فقيرٌ وهم عندي جلالةٌ ... نعم صدقوا إني إليك
فقير
وشعره
في هذا المعنى كثير، وكله سلس المقادة، دالاً على جودة الطبع. ومن شعره قوله:
إرض العدو بظاهر متصنع ... إن كنت مضطراً إلى استرضائه
كم من فتًى ألقى بوجه باسمٍ ... وجوانحي تتقد من بغضائه
تصانيفهله تصانيف مفيدة، تدل على إدراكه وإشرافه، كشرحه
الشهاب، فإنه أبدع فيه، وكتابه أنوار الأفكار فيمن دخل جزيرة الأندلس من الزهاد
والأبرار، ابتدأ تأليفه، وتوفي دون إتمام غرضه فيها، فكمله عبد الله أبنه.
محنتهكان ممن وقعت عليه المحنة العظمى بمراكش يوم دخول
الموحدين إياها، يوم السبت لإثني عشر لية بقيت من شوال عام إحدى وأربعين وخمسمائة،
على الوجه المشهور في استباحة دماء كل من اشتملت عليه من الذكور البالغين، إلا من
تستر بالاختفاء في سرب أو غرفة أو مخبأ. وتمادى القتل فيها ثلاثة أيام، ثم نودي
بالعفو عمن أشارته الفتكة الكبرى، فظهر من جميع الخلق بها، ما يناهز السبعين رجلاً،
وبيعوا بيع أسارى المشركين، هم وذراريهم، وعفى عنهم، فكان أبو العباس ممن تخطته
المنية، واستنقذه من الرق العفو، وحسبك بها محنة، نفعه الله، وضاعت له في ذلك وفي
غيره، كتب كثيرة بخطه وبغير خطه، مما تجل عن القيمة.
مولدهبألمرية في أواخر شهر ربيع سنة اثنين وخمسمائة
وفاتهتوفي بمراكش بين صلاة الظهر والعصر، في يوم الأحد
لثمان خلون من جمادى الأولى سنة تسع وخمسين وخمسمائة. ودفن يوم الإثنين بعده عقب
صلاة الظهر، وصلى عليه القاضي أبو يوسف حجاج، وكانت جنازته عظيمة المحفل، كثيرة
الجمع، برز إليها الرجال والنساء، ورفعوا نعشه على الأيدي. رحمه الله.
ومما رثاه به جاره وصديقه أبو بكر بن الطفيل وهو
بإشبيلية، بعث بها إلى ابنه مع كتاب في غرض العزاء:
لأمرٍ ما تغيرت الدهور ... وأظلمت الكواكب والبدور
وطال على العيون الليل حتى ... كأن النجم فيه لا يغور
أحمد بن أبي القاسم بن القبابأحمد بن أبي القاسم بن عبد
الرحمن، يعرف بابن القباب من أهل فاس، ويكنى أبا العباس.
حالههذا الرجل، صدر عدول الحضرة الفاسية، وناهض عشهم،
طالب، فقيه، نبيه، مدرك، جيد النظر، سديد الفهم، حضر الدرس بين يدي السلطان، وولي
القضاء بجبل الفتح، متصفاً فيه بجزالة وانتهاض. تعرفت به بمدينة فاس، فأعجبتني
سيمته، ووصل مدينة سلا في غرض اختبار واستطلاع الأحوال السلطانية، واستدعيته
فاعتذر ببعض ما يقبل، فخاطبته بقولي:
أبيتم دعوتي إما لشأوٍ ... وتأبي لومه مثلى الطريقة
وبالمختار للناس اقتداء ... وقد حضر الوليمة والعقيقة
وغير غريبةٍ أن رق حرٌ ... على من حاله مثلى رقيقة
وإما زاجر الورع اقتضاها ... ويأبى ذاك دكان الوثيقة
وغشيان المنازل لاختبارٍ ... يطالب بالجليلة والدقيقة
شكرت مخيلة كانت مجازاً ... لكم وحصلت بعد على الحقيقة
وتفرع الكلام على قولي: ويأبى ذاك دكان الوثيقة، بما دعي
إلى بيانه بتصنيفي فيه الكتاب المسمى بمثلى الطريقة في ذم الوثيقة.
دخوله غرناطةفي عام اثنين وستين وسبعمائة، موجهاً من قبل
سلطان المغرب أبي سالم بن أبي الحسن لمباشرة صدقة عهد بها لبعض الربط، وهو إلى
الآن، عدلٌ بمدينة فاس، بحال تجلة وشهرة. ثم تعرفت أنه نسك ورفض العيش من الشهادة
ككثير من الفضلاء.
أحمد بن إبراهيم بن كعب الثقفيأحمد بن إبراهيم بن الزبير
بن محمد بن إبراهيم بن الحسن ابن الحسين بن الزبير بن عاصم بن مسلم بن كعب الثقفي
يكنى أبا جعفر
أوليتهكعبٌ الذي ذكر، هو كعب بن مالك بن علقمة بن حباب
بن مسلم بن عدي ابن مرة بن عوف بن ثقيف، أصله من مدينة جيان منزل قنسرين، من العرب
الداخلين إلى الأندلس، ونسبه بها كبير، وحسبه أصيل، وثروته معروفة. خرج به أبوه
عند تغلب العدو عليها عام ثلاثة وأربعين وستمائة، ولأبيه إذ ذاك إثراء وجدة أعانته
على طلب العلم، وإرفاد من أحوجته الأزمة في ذلك الزمان من جالية العلماء عن قرطبة
وإشبيلية كأبي الحسن الصائغ وغيره، فنصحوا له، وحطبوا في حبله.
حاله
كان
خاتمة المحدثين، وصدور العلماء والمقرئين، نسيج وحده، في حسن التعليم، والصبر على التسميع،
والملازمة للتدريس، لم تختل له، مع تخطي الثمانين، ولا لحقته سآمة، كثير الخشوع
والخشية، مسترسل العبرة، صليباً في الحق شديداً على أهل البدع، ملازماً للسنة،
جزلا، مهيباً، معظماً عند الخاصة والعامة عذب الفكاهة، طيب المجالسة، حلو النادرة،
يؤثر عنه في ذلك حكايات، لا تخل بوقار، ولا تحل بجلال منصب.
فنونه، إليه انتهت الرياسة بالأندلس في صناعة العربية،
وتجويد القرآن، ورواية الحديث، إلى المشاركة في الفقه، والقيام على التفسير،
والخوض في الأصلين.
مشيخته، أخذ عن الجلة المقرئين، كالمقرى أبي عبد الله
محمد بن ابراهيم بن مستقور الغرناطي الطائي.
نباهته وخططهولي قضاء المناكح، والخطبة بالحضرة، وبلغ من
الشهرة والإشادة بذكره، ما لم يبلغه سواه.
تصانيفهمن تأليفه كتاب صلة الصلة لابن بشكوال التي
وصلتها بعده، وسميت كتابي بعائد الصلة، وافتتحت أول الأسماء فيه باسمه، وكتاب ملاك
التأويل، في المتشابه اللفظ في التنزيل غريبٌ في معناه، والبرهان في ترتيب سور
القرآن وشرح الإشارة للباجي في الأصول، وسبيل الرشاد في فضل الجهاد، وردع الجاهل
عن اغتياب المجاهل، في الرد على الشودية، وهو كتاب جليل ينبى عن التفنن والأضطلاع،
وكتاب الزمان والمكان، وهو وصمةٌ، تجاوز الله عنه.
شعرهوشعره مختلف عن نمط الإجادة، مما حقه أن يثبت أو ثبت
في كتاب شيخنا أبي البركات المسمى شعر من لا شعر له مما رواه، ممن ليس الشعر له
بضاعة، من الأشياخ الذي عد صدر عنهم هو. فمن شعره:
مالي وللتسئال لا أم لي ... إن سألت من يعزل أو من يلي
حسبي ذنوبٌ أثقلت كاهلي ... ما إن أرى إظلامها ينجلي
يا رب عفواً إنها جمةٌ ... إن لم يكن عفوك لا أم لي
محنتهنشأت بينه وبين المتغلب بمالقة من الرؤساء
التجيبيين من بني إشقيلولة، وحشة أكدتها سعاية بعض من استهواهم رجلٌ ممخرق من بني
الشعوذة، ومنتحلي الكرامة، يمتطيها زعموا إلى النبوة، يعرف بالفزاري، واسمه
إبراهيم، غري المنزع، فذ المآخذ، أعجوبة من أعاجيب الفتن، يخبر بالقضايا
المستقبلة، ويتسور سور حمى العادة في التطور، من التقشف والخلابة، تبعه ثاغية
وراغية، من العوام الصم البكم، مستفزين فيه حياته، وبعد زمن، من مقتله، على يد
الأستاذ بغرناطة، قرعه بحقه، وبادره بتعجيل نكيره، فاستغاث بمفتونه الرئيس، ظهير
محاله فاستعصى له، وبلغ الأستاذ النياحة، ففر لوجهه، وكبس منزله لحينه، فاستولت الأيدي
على ذخائر كتبه، وفوائد تقييده عن شيوخه، على ما طالت له الحسرة، وجلت فيه الرزية،
ولحق بغرناطة آوياً إلى كنف سلطانها الأمير أبي عبد الله بن الأمير الغالب بالله
بن نصر، فأكرم مثواه، وعرف حقه، وانثال عليه الجم الغفير لالتماس الأخذ عنه، إلى
أن نالته لديه سعاية، بسبب جارٍ له، من صلحاء القرابة النصرية، كان ينتابه لنسبة
الخيرية، نميت عنه في باب تفضيله، واستهالت للأمر كلمة، أوجبت امتحانه وتخلل تلك
الألقية من الشك، ما قصر المحنة على إخراجه من منزله. المجاور لذلك المتهم به،
ومنعه من التصرف، والتزامه قعر منزل، انتقل إليه بحال اعتزال من الناس، محجوراً
عليه مداخلتهم، فمكث على ذلك زماناً طويلاً، إلى أن سريت عنه النكبة، وأقشعت الموجدة،
فتخلص من سرارها بدره، وأقل من شكاتها جاهه، وأحسنت أثرها حاله، وكثر ملتمسه، وعظمت
في العالم غاشيته، فدون واستمع، وروى ودرب، وخرج وأدب وعلم، وحلق وجهر، وكانت له
الطايلة على عدوه، والعاقبة للحسنى، بعد ثبات أمره، والظفر بكثير من منتهب كتبه.
وآلت الدولة للأمير أبي عبد الله نصر بمالقة، فطالب الفزاري المذكور، واستظهر
بالشهادات عليه، وبالغ في دحض دعوته، إلى أن قتل على يده بغرناطة.
حدثنا شيخنا أبوالحسن بن الجياب، قال: لما أمر بالتأهب
للقتل وهو في السجن الذي أخرج منه إلى مصرعه، جهر بتلاوة ياسين، فقال له أحد
الذعرة، ممن جمع السجن بينهم، اقرأ قرآنك، على أي شيء تتطفل على قرآننا اليوم أو
ما هو معناه. فتركها مثلاُ للوذعيته.
مولدهببلده جيان في أواخر عام سبع وعشرين وستمائه
وتوفي
بغرناطة في الثامن لشهر ربيع الأول عام ثمانية وسبعمائة. وكانت جنازته جنازة
بالغةً أقصى مبالغ الإحتفال، نفر لها الناس من كل أوب، واحتمل طلبه العلم نعشه على
رؤوسهم، إلى جدثه، وتبعه ثناء جميل، وجزع كبير، رحمه الله.
ورثاه طائفة من طلبته، وممن أخذ عنه منهم، القاضي أبو
جعفر بن أبي حبل في قصيدة أولها:
عزيزٌ على الإسلام والعلم ماجدٌ ... فكيف لعيني أن يلم
بها الكرا
وما لمآقي لا تفيض شئونها ... نجيعاً على قدر المصيبة
أحمرا
فوالله ما تقضي المدامع بعض ما ... يحق ولو كانت سيولا
وأبحرا
حقيقٌ لعمري أن تفيض نفوسنا ... وفرضٌ على الأكباد أن
تتفطرا
أحمد بن عبد الوالي بن أحمد الرعينييكنى أبا جعفر، ويعرف
بالعواد، صنعةٌ لأبيه الكاتب الصالح
حالههو من بيت تصاون، وعفاف، ودين، والتزام السنة، كانوا
في غرناطة في الأشعار، وتجويد القرآن، والامتياز بحمله، وعكوفهم عليه، نظراء بني
عظيمة بإشبيلية، وبني الباذش بغرناطة، وكان أبو جعفر هذا، المترجم له ممن تطوى
عليه الخناصر، معرفةً بكتاب الله، وتحقيقاً لحقه، واتقاناً لتجويده، ومثابرةً على
تعليمه، ونصحا في إفادته، على سنن الصالحين، انقباضاً عن الناس، وإعراضاً عن ذوي
الوجاهة، سنياً في قوله وفعله، خاصياً في جميع أحواله، مخشوشناً في ملبسه، طويل
الصمت إلا في دست تعليمه، مقتصراً في مكسبه، متقياً لدينه، محافظاً على أواده. سأل
منه رجل يوماً كتب رقعة، ففهم من أمره، فقال يا هذا والله ما كتبت قط يميني إلا
كتاب الله، فأحب أن ألقاه على سجيتي بتوفيقه إن شاء الله وتسديده.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، والأستاذ أبي
جعفر الحزموني الكفيف، وأبي عبد الله بن رشيد وغيرهم.
وفاتهتوفي في شهر ذي الحجة من عام خمسين وسبعمائة، ودفن
بجبانة باب الفخارين في أسفل السفح تجاه القصور الحكمية، وأتبعه الناس أحسن الثناء.
أحمد بن علي بن خلف الأنصاريأحمد بن علي بن أحمد بن خلف
الأنصاري من أهل غرناطة، يكنى أبا جعفر، ويعرف بتابن الباذش أوليته، أصله من جيان
من بيت خيرية، وتصون
حالهقال القاضي أبو محمد بن عطية، إمامٌ في المقرئين،
ومقدم في جهابذة الأستاذين، راويةٌ، مكثر، متفنن في علوم القراءة، مستبحر، عارف
بالأدب والإعراب، بصير بالأسانيد، نقاد لها، مميزٌ لشاذها من معروفها. قال ابن
الزبير، وما علمت فيما انتهى إليه نظري وعلمي، أحسن انقياداً لطرق القراءة، ولا
أجل اختياراً منه، لا يكاد أحد من اهل زمانه، ولا ممن أتى بعده أن يبلغ درجته في
ذلك.
مشيختهتفقه بأبيه الإمام أبي الحسن، وأكثر الرواية عنه،
واستوفى ما كان عنده، وشاركه في كثير من شيوخه. أخذ القراءات عرضاً عن الإمام المقري
أبي القاسم ابن خلف بن النحاس، رحل إلى قرطبة ولازمه، وعلى المقرى أبي جعفر هابيل
بن محمد الحلاسي، وأبي بكر بن عياش بن خلف المقري، وابي الحسن بن زكريا، وأبي
الحسن شريح بن محمد، وأبي محمد عبد الله بن أحمد الهمداني الجياني رحل إليه إلى جيان،
وتلا على جميع من ذكر، وروي بالقراءة والسماع والإجازة على عالمٍ كثير، كأبي داود
وأبي الحسن بن أخي الرش المقرئين، أجازا له، وأبي علي الغساني في الإمامة
والإتقان، وقد أسمع عليه، وأبي القاسم خلف ابن صواب المقري، وأبي عامر محمد بن
حبيب الجياني، وأبي عبد الله محمد بن أحمد التجيبي الشهير، وأبي محمد بن السيد،
وأبي الحسن بن الأخضر، وأبي محمد عبد الله بن أبي جعفر الحافظ، وعالمٍ كثير غير
هؤلاء يطول ذكرهم.
من روي عنه: روي عنه أبو محمد عبد الله، وأبو خالد بن
رفاعة، وأبو علي القلعي المعدي وأبو جعفر بن حكم، وأبو الحسن بن الضحاك، وابنه أبو
محمد عبد المنعم، وهو آخر من حدث عنه.
تصانيفهألف كتاب الإقناع في القراءات، لم يؤلف في بابه
مثله، وألف كتاب الطرق المتداولة في القراءات، وأتقنه كل الإتقان، وحرر أسانيده
وأتقنها، وانتقى لهان ولم يتسع عمره لفرش حروفهم وخلافهم من تلك الطرق. وألف غير
ما ذكر.
مولدهفي ربيع الأول سنة إحدى وتسعين وأربعمائة
وفاته،
توفي ثاني جمادى الآخرة سنة أربعين وخمسمائة، وكان عمره تسعاً وأربعين سنة.
أحمد بن عبد النور بن أحمد بن راشديكنى أبا جعفر، من أهل
مالقة، ويعرف بيته بها ببني راشد، قال شيخنا أبو البركات: نقلت اسم هذا من خطه،
ولا نعلم له نسباً إذ لم يكتبه، وشهر بابن عبد النور.
حالهكان قيماً على العربية إذ كانت جل بضاعته، يشارك مع
ذلك في المنطق، على رأي الأقدمين، وعروض الشعر، وفرايض العبادات من الفقه، وقرض
الشعر، وكان له اعتناء بفك المعمي، والتنقير عن اللغوز. وكان ذكي الصوت عند قراءة
القرآن، خاشعاً به. رحل من بلده مالقة إلىة سبتة، ثم انتقل إلى الأندلس وأقرأ
بوادي آش مدة، وتردد بين إلمرية وبرجة، يقرىء بها القرآن، وغير ذلك مما كان يشارك
فيه. وناب عن بعض القضاة وقتاً، ودخل غرناطة أثناء هذا السفر.
مشيختهقال: أخذ القرآن قراءةً على طريقة أبي عمرو
الداني، على الخطيب أبي الحسن الحجاج بن أبي ريحانة المربلي، ولا يعلم له في بلده
شيخ سواه، إذا لم يكن له اعتناء بلقاء الشيوخ، والحمل عنهم، ومن علمي أنه لقي أبا
الحسن ابن الأخضر المقري العروضي بسبتة، وذاكره في العروض، ولا أعلم هل أخذ عنه أم
لا. ورأيت في تقاييدي أن القاضي أبا عبد الله بن برطال حدثني أن ابن النور قرأ معه
الجزولية على ابن مفرج المالقي تفقهاً، وقيد عليه تقييداً عرضه بعد ذلك، على ابن
مفرج هذا، وهو محمد بن يحيى بن علي بن مفرج المالقي. وروي عن أبي الحجاج المتقدم
الذكر تيسير أبي عمرو الداني، وجمل الزجاجي، وأشعار الستة، وفصيح أحمد بن يحيى بن
ثعلب، وقفت في ذلك على رق أجاز فيه بعض الآخذين عنه، ولم ينص فيه على كيفية أخذه
لهذا الكتيب عن أبي الحجاج. قال: ورأيت في ذلك الرق أوهاماً، تدل على عدم شعوره
بهذا الباب جملة، وقبول التلقين فيها، فلا ينبغي أن يركن إلى مثله فيه. ورأيت بخط
بعض أصحابه، أنه تفقه على أبي ريحانة، ولعل ذلك في صغره قبل أن يتحكم طلبه ويتفنن،
إذ الفنون التي كان يأخذ منها لم يكن أبو ريحانة، ملياً بها، ولا منسوباً إليها.
تصانيفهمنها كتاب الحلية في ذكر البسملة والتصلية. وكتاب
رصف المباني في حروف المعاني، وهو أجل ما صنف، ومما يدل عى تقدمه في العربية.
وجزءٌ في العروض، وجزءٌ في شواذه، وكتابٌ في شرح الكوامل لأبي موسى الجزولي، يكون
نحو الموطأ في الجرم، وكتاب شرح مغرب أبي عبد الله بن هشام الفهري المعروف بابن
الشواش، ولم يتم، انتهى فيه إلى همزة الوصل، يكون نحو الإيضاح لأبي علي. وله
تقييدٌ على الجمل غير تام.
شعرهقال: وشعره وسطٌ، بعيدٌ عن طرفي الغث، والثمين أبعد،
وكان لا يعتني فيه ولا يتكلفه، ولا يقصد قصده، وإن ذلك لعذر في عدم الإجادة. قال
الشيخ، ولدي جزءٌ منه تصفحته على أن أستجيد منه شيئاً أثبته له في هذا التعريف،
فرأيته بعضه أشبه ببعض من الغرابة، فكتبت من ذلك، لا مؤثراً له على سواه من شعره،
بل لمرجح كونه أول خاطر بالبال، ومتلمح خطه بالبصر، فمن ذلك قوله من قصيدة، ومن
خطه نقلت:
محاسن من أهوى يضيق لها الشرح ... له الهمة العلياء
والخلق السمح
له بهجةٌ يغثي البصائر نورها ... وتعشي بها الأبصار إن
غلس الصبح
إذا ما رنى فاللحظ سهمٌ مفوقٌ ... وفي كل عضو من إصابته
جرح
إذ ما انثني زهواً وولي تبختراً ... يغار لذاك القد من
لينه الرمح
وإن نفحت أزهاره عند روضةٍ ... فيخجل ريا زهرها ذلك
النفح
هو الزمن المأمول عند ابتهاجه ... فلمته ليلٌ وغرته صبح
لقد خامرت نفسي مدامة حبه ... فقلبي من سكر المدامة لا
يصح
وقد هام قلبي في هواه فبرحت ... بأسراره عينٌ لمدمعها
سبح
غفلته
ونوكه: كان هذا الرجل من البله في أسباب الدنيا، له في ذلك حكايات دائرة على ألسنة
الثقاة من الملازمين له وغيرهم، لولا تواترها لم يصدق أحد بها، تشبه ما يحكى عن
أبي علي الشلوبين. منها أنه اشترى فضلة ملف فبلها، فانتقصت كما يجري في ذلك،
فذرعها بعد البل فوجدها تنقصت، فطلب بذلك بائع الملف، فأخذ يبين له سبب ذلك فلم
يفهم. ومنها أنه سار إلى بعض بساتين ألمرية مع جماعة من الطلبة واستصحبوا أرزاً
ولبناً، فطلبوا قدراً لطبخه، فلم يجدوا، فقال اطبخوا في هذا القدر، وأشار إلى قدر
بها بقية زفت مما يطلي به السواني عندهم فقالوا له: وكيف يسوغ الطبخ بها، ولو طبخ
بها شيء مما تأكله البهائم لعافته، فكيف الأرز باللبن، فقال لهم، اغسلوا معائدكم،
وحينئذ تدخلون فيها الطعام، فلم يدروا مما يعجبون، هل من طيب نفسه بأكله مما يطبخ
في تلك القدر، أم من قياسه المعدة عليها. ومنها أنهم حاولوا طبخ لحمٍ مرة أخرى في بعض
النزه فذاق، الطعام من الملح بالمغرفة، فوجده محتاجاً للملح، فجعل فيه ملحاً وذاقه
على الفور، قبل أن ينحل الملح ويسري في المرقة الأولى، فزاد ملحاً إلى أن جعل فيه
قدر ما يرجح اللحم، فلم يقدروا على أكله. ومنها أنه أدخل يده في مفجر صهريج فصادفت
يده ضفدعاً كبيراً، فقال لأصحابه تعالوا إن هنا حجراً رطباً. ومنها أنه استعار
يوماً من القائد أبي الحسن بن كماشة، جواداً ملوكياً، قرطاسي اللون، من مراكب
الأمراء، فقال وجه لي تلك الدابة، فتخيل أنه يريد الركوب إلى بعض المواضع، ثم تفطن
لغفلته، وقال: أي شيء تصنع به، قال: أجعله يسني شيئاً يسيراً في السانية، فقال:
تقضي الحاجة إن شاء الله بغيره، ووجه له حماراً برسم السانية وهو لا يشعر بشيء من
ذلك كله.
قلت، وفي موجودات الله تعالى عبرٌ، وأغربها عالم
الإنسان، لما جبلوا عليه، من الأهواء المختلفة، والطباع المشتتة، والقصور عن فهم
أقرب الأشياء، مع الإحاطة بالغوامض.
حدثنا غير واحد، منهم عمي أبو القاسم، وابن الزبير، إذناً
في الجملة، قالا: حدثنا أبو الحسن بن سراج عن أبي القاسم بن بشكوال، أن الفقيه،
صاحب الوثائق أبا عمر بن الهندي، خاصم يوماً عند صاحب الشرطة والصلاة، إبراهيم ابن
محمد، فنكل وعجز عن حجته، فقال له الشرطي: ما أعجب أمرك أبا عمر أنت ذكي لغيرك،
بكيٌّ في أمرك، فقال أبو عمر: كذلك يبين الله آياته للناس. ثم أنشد متمثلاً:
صرت كأني ذبالة نصبت ... تضيء للناس وهي تحترق
قال، وحدثني الشيخ أبو العباس بن الكاتب ببجاية، وهو آخر
من كتبنا معه الحديث من أصحاب ابن العمار، قال: كنت آويا إلى أبي الحسن حازم
القرطجاني بتونس، وكنت أحسن الخياطة، فقال لي: إن المستنصر خلع علي جبة جربية من
لباسه، وتفصيلها ليس من تفصيل أثوابنا بشرق الأندلس، وأريد أن تحل أكمامها، وتصيرها
مثل ملابسنا. فقلت له: وكيف يكون العمل، فقال: تحل رأس الكم، ويوضع الضيق بالأعلى،
والواسع بالطرف. فقلت: وبم يحير الأعلى، فإنه إذا وضع في موضع واسع، سطت علينا فرج
ما عندنا، ما يصنع فيها إلا أن رقعنا بغيرها، فلم يفهم. فلما يئست منه تركته
وانصرفت. فأين هذا الذهن الذي صنع المقصورة وغيرها من عجائب كلامه.
مولدهفي رمضان من عام ثلاثين وستمائة
وفاتهتوفي بألمرية يوم الثلاثاء السابع والعشرين لربيع
الآخر من عام اثنين وسبعمائة ودفن بخارج باب بجاية بمقبرة من تربة الشيخ الزاهد
أبي العباس بن مكنون.
أحمد بن محمد بن مصادفأحمد بن محمد بن علي بن محمد بن
يحيى بن محمد ابن مصادف بن عبد الله يكنى أبا جعفر ويعرف بابن مصادف، من أهل بسطة،
واستوطن غرناطة، وقرأ وأقرأ بها.
حاله
من
أهل الطلب والسلاطة والاجتهاد، وممن يقصر محصله عن مدى اجتهاده، خلوب اللسان، غريب
الشكل، وحشيه، شتيت الشعر معفيه، شديد الاقتحام والتسور، قادر على اللصوق بالأشراف.
رمي بنفسه على مشيخة الوقت يطرقههم طروق الأمراض الوافدة، حتى استوعب الأخذ عن
أكثرهم، يفك عن فايدته فك المتبرم، وينتزعها بواسطة الحيا، ويسلط على قنصها جوارح التبذل
والإطراء، إلى أن ارتسم في المقريين بغرناطة، محولاً عليه بالنحب والملق، وسد
الترتيب المدني، ولوثة تعتاده في باب الركوب والثقافة، وهو لا يستطيع أن يستقر بين
دفتي السرج، ولا يفرق بين مبسوط الكف، أخذ نفسه في فنون، من قرآن، وعربية، وتفسير،
وامتحن مرات لجرأ حركة القلقة الذي لا يملك عنانه، ثم تخلص من ذلك، وهو على حاله
إلى الآن.
مشيختهقرأ على الخطيب ببسطة، وأبي الأصبغ بن عامر،
والخطيبين بها أبي عبد الله وأبي إسحاق ابن عمه، وأبي عبد الله بن جابر، وعلى أبي
عثمان بن ليون بالمرية، والخطيب أبي عبد الله بن الغربي بحمة، وتلا القرآن
بقراءاته السبع على شيخنا أبي عبد الله بن الوالي العواد، وروي عن شيخنا أبي الحسن
بن الجياب. وعلى الحاج أبي الحجاج الساحلي فكتب الإقراء، وأخذ الفقه عن الأستاذ
أبي عبد الله البياني. وقرأ على قاضي الجماعة أبي القاسم البياني، وقرأ على قاضي
الجماعة أبي القاسم الحسني، ولازم أستاذ الجماعة أبا عبد الله الفخار، وقرأ عليه العربية،
وصاهره على بنته الأستاذ المذكور، وانتفع به، إلى أن ساء ما بينهما عند وفاة الشيخ
فرماه بترمية بيضاء تخلقها، مثيرة عجبٍ، مرة. وحاله متصلة على ذلك، وقد ناهز
الاكتهال.
أحمد بن حسن بن باصة الأسلميالمؤفت بالمسجد الأعظم
بغرناطة أصله من شرق الأندلس، وانتقل إليها والده، يكنى أبا جعفر.
حالهكان نسيج وحده، وقريع دهره، معرفة بالهيئة، وإحكاماً
للآلة الفلكية، ينحت منها بيده ذخائر، يقف عندها النظر والخبر، جمال خط، واستواء
صنعة، وصحة وضع، بلغ في ذلك درجة عالية، ونال غاية بعيدة، حتى فضل بما ينسب إلأيه
من ذلك كثيراً من الأعلام المتقدمين، وأزرت آلاته بالحمايريات والصفاريات وغيرها من
آلات المحكمين، وتغالي الناس في أثمانها، اخذ ذلك عن والده الشيخ المتفنن شيخ
الجماعة في هذا الفن.
وفاتهفي عام تسع وسبعمائة.
الحباليأحمد بن محمد بن يوسف الأنصاري من أهل غرناطة،
يكنى أبا جعفر، ويعرف بالحبالي.
حالهعكف صدراً من زمانه منتظماً في العدول، آوياً إلى
تخصيص وسكون ودمائة، وحسن معاملة، له بصر بالمساحة والحساب، وله بصر بصناعة
التعديل وجداول الأبراج، وتدرب في أحكام النجوم، مقصودٌ في العلاج بالرقا
والعزايم، من أولي المس والخبال، تعلق بسبب هذه المنتحلات بأذيال الدول، وانبت من
شيمته الأولى، فنال استعمالا في الشهادات المخزنية، وخبر منه أيام قربه من مبادىء
الأمور والنواهي، ومداخلة السلطان، صمتٌ، وعقلٌ، واقتصارٌ على معاناة ما امتحن به،
وهو الآن بقيد الحياة.
مشيختهأخذ تلك الصناعة عن الشيخ أبي عبد الله الفخار
المعروف بأبي خزيمة، أحد البواقع الموسومين بصحة الحكم فيها، وعلى أبي زيد بن
مثنى، وقرأ الطب على شيخنا أبي زكريا هذيل رحمه الله، ونسب إليه عند الحادثة على
الدولة وانتقالها إلى يد المتغلب، اختيار وقت الثورة وضمان تمام الأمر، وشهد بذلك
بخطٍ، وغيب من إيثارها، فلما عاد إلى السلطان المزعج بسببها إلى العدوة، أوقع به
نكيراً كثيراً، وضربه بالسياط التي لم يخلصه منها إلا أجله، وأجلاه إلى تونس في
جملة المغربين في أواخر عام ثلاثة وستين وسبعمائة.
وأخبرني السلطان المذكور أن المترجم به كتب إليه بمدينة
فاس، قبل شروعه في الوجهة، يخبره بعودة الملك إليه، وبإيقاعه المكروه الكبير به،
بما شهد بمهارته في الصنعة، إن صح ذلك كله من قوانينها، نسأل الله أن يضفي علينا
لبوس ستره، ويقينا شر عثرات الألسن بمنه.
أحمد بن محمد الكرنيمن أهل غرناطة
حاله
شيخ
الأطباء بغرناطة على عهده، وطبيب الدار السلطانية. كان نسيج وحده، في الوقار
والنزاهة، وحسن السمت، والتزام مثلى الطريقة، واعتزاز الصنعة، قائماً على صناعة
الطب، مقرئاً لها، ذاكراً لنصوصها، موفقاً في العلاج، مقصوداً فيه، كثير الأمل
والمثاب، مكبوح العنان عما تثبت به أصول صناعته من علم الطبيعة، سنياً، مقتصراً
على المداواة، أخذ عن الأستاذ أبي عبد الله الرقوطي، ونازعه بالباب السلطاني، لما
شد، واحتيج إلى ما لديه في حكم بعض الأموال المعروضة على الأطباء، منازعةً أوجبت
من شيخه يميناً أن لا يحضر معه بمكان، فلم يجتمعا بباب السلطان بعد، مع التمسك بما
لديهما، وأخذ عن ابن عروس وغيره، وأخذ عنه جملةٌ من شيوخنا كالطبيب أبي عبد الله
بن سالم، والطبيب أبي عبد الله بن سراج وغيرهما.
حدثني والدي بكثير من أخباره في الوقار وحسن الترتيب،
قال، كنت آنس به، ويعجبني استقصاؤه أقوال أهل هذا الفن من صنعته، على مشهوره، فلقد
عرض عليه، لعليل لنا، بعض ما يخرج، وفيه حية، فقال على فتور، وسكونة، ووقار كثير:
هذا العليل يتخلص، فقد قال الرئيس ابن سينا في أرجوزته:
إن خرج الخلط مع الحيات ... في يوم بحران فعن حياة
وهذا اليوم من أيام البحرانية، فكان كما قال.
وفاتهكان حياً سنة تسعين وستمائة.
أحمد بن محمد بن أبي الخليل مفرج
الأموي
مولاهم
من أهل إشبيلية، يكنى أبا العباس، وكناه ابن فرتون أبا جعفر وتفرد بذلك، يعرف
بالعشاب، وابن الرومية، وهي أشهرهما وألصقهما به.
أوليتهقال القاضي أبو عبد الله، كان والد جده أطباء
قرطبة، وكان قد تبناه، وعن مولاه أخذ علم النبات.
حالهكان نسيج وحده، وفريد دهره، وغرة جنسه، إماماً في
الحديث، حافظاً ناقداً، ذاكراً تواريخ المحدثين، وأنسابهم وموالدهم ووفاتهم،
وتعديلهم، وتجريحهم، عجيبة نوع الإنسان في عصره، وما قبله، وما بعده، في معرفة علم
النبات، وتمييز العشب، وتحليتها، وإثبات أعيانها، على اختلاف أطوار منابتها، بمشرق
أو مغرب حساً، ومشاهدةً وتحقيقاً، لا مدافع له في ذلك، ولا منازع، حجةٌ لا ترد ولا
تدفع، إليه يسلم في ذلك ويرجع. قام على الصنعتين، لوجود القدر المشترك بينهما،
وهما الحديث والنبات، إذ موادهما الرحلة والتقييد، وتصحيح الأصول وتحقيق المشكلات
اللفظية، وحفظ الأديان والأبدان، وغير ذلك. وكان زاهداً في الدنيا، مؤثراً بما في
يديه منها، موسعاً عليه في معيشته، كثير الكتب، جماعاً لها، في كل فن من فنون
العلم، سمحاً لطلبه العلم، ربما وهب منها لمتلمسه الأصل النفيس، الذي يعز وجوده
احتساباً وإعانةً على التعليم، له في ذلك أخبار منبئة عن فضله، وكرم صنعه، وكان
كثير الشغف بالعلم، والدؤوب على تقييده، ومداومته سهر الليل من أجله، مع استغراق
أوقاته، وحاجات الناس إليه، إذ كان حسن العلاج في طبه المورود، الموضوع، لثقته ودينه.
قال ابن عبد الملك، إمام المغرب قاطبة فيما كان سبيله،
جال الأندلس، ومغرب العدوة، ورحل إلى المشرق، فاستوعب المشهور من إفريقية، ومصره،
وشامه، وعراقه، وحجازه، وعاين الكثير مما ليس بالمغرب، وعاوض كثيراً فيها، كل ما
أمكنه، بمن يشهد له الفضل في معرفته، ولم يزل باحثاً على حقائقه، كاشفاً عن
غوامضه، حتى وقف منه على ما لم يقف عليه غيره، ممن تقدم في الملة الإسلامية، فصار
واحد عصره فرداً، لا يجاريه فيه أحد بإجماع من أهل ذلك الشأن.
مذاهبهكان سنياً ظاهري المذهب، منحياً على أهل الرأي، شديد
التعصب لأبي محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، على دين متين، وصلاح تام، وورع
شديد، انتشرت عنه تصانيف أبي محمد بن حزم، واستنسخها، وأظهرها، واعتنى بها، وأنفق
عليها أموالاً جمة، حتى استوعبها جملة، حتى لم يشذ له منها إلا ما لا خطر، متقدماً
ومقتدراً على ذلك بجدته ويساره، بعد أن تفقه طويلاً على أبي الحسن محمد بن أحمد بن
زرقون في مذهب مالك.
مشيخته
البحر
الذي لا نهاية له: روي بالأندلس عن أبي إسحاق الدمشقي، وأبي عبد الله اليابري،
وأبي البركات بن داود، وأبي بكر بن طلحة، وأبي عبد الله ابن الحر، وابن العربي،
وأبي علي الحافظ، وأبي زكريا بن مرزوق، وابن يوسف، وابن ميمون الشريشي، وأبي الحسن
بن زرقون، وأبي ذر مصعب، وأبي العباس ابن سيد الناس، وأبي القاسم البراق، وابن
جمهور، وأبي محمد بن محمد بن الجنان، وعبد المنعم بن فرس، وأبي الوليد بن عفير،
قرأ عليهم وسمع. وكتب إليه مجيزاً من أهل الأندلس والمغرب، أبو البقاء بن قديم،
وأبو جعفر حكم الجفار، وأبو الحسن الشقوري، وأبو سليمان بن حوط الله، وأبو زكريا
الدمشقي، وأبو عبد الله الأندرشي، وأبو القاسم بن سمجون، وأبو محمد الحجري. ومن
اهل المشرق جملةٌ، منهم أبو عبد الله الحمداني بن إسماعيل بن أبي صيف، وأبو الحسن الحويكر
نزيل مكة. وتأدي إليه أذن طائفة من البغداديين والعراقيين له في الرواية، منهم ظفر
بن محمد، وعبد الرحمن بن المبارك، وعلي بن محمد اليزيدي، وفناخسرو فيروز بن سعيد،
وابن سنية، ومحمد بن نصر الصيدلاني، وابن تيمية.
وابن عبد الرحمن الفارسي، وابن الفضل المؤذن، وابن عمر
بن الفخار، ومسعود بن محمد بن حسان المنيغي، ومنصور بن عبد المنعم الصاعدي، وابن
هوازن القشيري، وأبو الحسن النيسابوري.
وحج سنة اثني عشر وستمائة، فأدى الفريضة ثلاثة عشر، ولقب
بالمشرق بحب الدين. وأقام في رحلته نحو ثلاثة أعوام، لقي فيها من الأعلام العلماء،
أكابر جملة، فمنهم ببجاية أبو الحسن بن نصر، وأبو محمد بن مكي، وبتونس أبو محمد
المرجاني، وبالإسكندرية أبو الأصبغ بن عبد العزيز، وأبو الحسن بن جبير الأندلس،
وأبو الفضل بن جعفر بن أبي الحسن بن أبي البركات، وأبو محمد عبد الكريم الربعي،
وأبو محمد العثماني أجاز له ولم يلقه، وبمصر أبو محمد بن سحنون الغماري ولم يلقه،
وأبو الميمون بن هبة الله القرشي، وبمكة أبو علي الحسن ابن محمد بن الحسين، وأبو
الفتوح نصر بن أبي الفرج الحصري، وببغداد أحمد ابن أبي السعادات، وأحمد بن أبي
بكر، وابن أبي خط طلحة، وأبو نصر القرشي، وإبراهيم بن أبي ياسر القطيعي، ورسلان
المسدي، والأسعد بن بقاقا، وإسماعيل بن باركش الجوهري، وإسماعيل بن أبي البركات.
وبرنامج مروياته وأشياخه، مشتملٌ على مئين عديدة، مرتبة
أسماؤهم على البلاد العراقية وغيرها، لو تتبعتها، لاستبعدت الأوراق، وخرجت عما
قصدت.
قال القاضي أبو عبد الله المراكشي بعد الإتيان على ذلك،
منتهى الثقاة أبو العباس النباتي، من التقييد الذي قيد، وعلى ما ذكره في فهارس له
منوعة، بين بسط، وتوسط، واقتضاب، وقفت منها بخطه، وبخط بعض أصحابه، والآخذين عنه
من أخذ عنه حدث ببغداد، برواية واسعة، فأخذ عنه بها أبو عبد الله بن سعيد اللوشي
وبمصر الحافظ أبو بكر القط. وبغيرها من البلاد أمة وقفل برواية واسعة، وجلب كتباً
غريبة.
تصانيفه: له فيما ينتحله من هذين الفنين تصانيف مفيدة،
وتنبيهات نافعة، واستدراكات نبيلة بديعة، منها في الحديث رجالة المعلم بزوائد
البخاري على مسلم، واختصار غريب حديث مالك للدار قطني، ونظم الدراري فيما تفرد به
مسلم عن البخاري، وتوهين طرق حديث الأربعين، وحكم الدعاء في إدبار الصلوات، وكيفية
الأذان يوم الجمعة، واختصار الكامل في الضعفاء والمتروكين لأبي محمد بن عدي،
والحافل في تذييل الكامل، وأخبار محمد بن إسحاق ومنها في النبات، شرح حشائش
دياسقوريدوس وأدوية جالينوس، والتنبيه على أوهام ترجمتها، والتنبيه على أغلاط
الغافقي، والرحلة النباتية والمستدركه، وهو الغريب الذي اختص به، إلا أنه عدم عينه
بعده، وكان معجزة في فنه، إلى غير ذلك من المصنفات الجامعة، والمقالات المفيدة
المفردة، والتعاليق المنوعة.
مناقبهقال ابن عبد الملك وابن الزبير، وغيرهما، عني تلميذه،
الآخذ به، الناقد، المحدث، أبو محمد بن بن قاسم الحرار، وتهمم بجمع أخباره، ونشر
مآثره،وضمن ذلك مجموعاً حفيلاً نييلاً.
شعره
ذكره
أبو الحسن بن سعيد في القدح المعلى، وقال: جوالٌ بالبلاد المشرقية، والمغربية،
جالسته بإشبيلية بعد عوده من رحلته، فرأيته متعلقاً بالأدب مرتاحاً إليه ارتياح
البحتري لحلب، وكان غير متظاهر بقول الشعر، إلا أن أصحابه يسمعون منه، ويروون عنه،
وحملت عنه في بعض الأوقات، فقيدت عنه هذه الأبيات:
خيمٌ تخلق بين الكأس والوتر ... في جنة هي ملء السمع
والبصر
ومتع الطرف في مرأى محاسنها ... بروض فكرك بين الروض
والزهر
وانظر إلى ذهبيات الأصيل بها ... واسمع إلى نغمات الطير
في السحر
وقل لمن لام في لذاته بشراً ... دعني فإنك عندي من سوى
البشر
قال، وكثيراً ما يطنب على دمشق، ويصف محاسنها، فما انفصل
عني إلا وقد امتلأ خاطري من شكلها، فأتمني أن أحل مواطنها، إلى أن أبلغ الأمل قبل المنون.
ولو أني نظرت بألف عينٍ ... لما استوفت محاسنها العيون
دخوله غرناطةدخلها غير ما مرة لسماع الحديث، وتحقيق
النبات، ونقر عن عيون النبات بجبالها، أحد خزاين الأدوية، ومظان الفوايد الغريبة،
يجري ذلك في تواليفه بما لا يفتقر إلى شاهد.
مولدهفي محرم سنة إحدى وستين وخمسمائة.
وفاتهتوفي بإشبيلية عند مغيب الشفق من ليلة الإثنين
مستهل ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين وستمائة. وكان مما رثي، قال ابن الزبير، ورثاه
جماعة من تلامذته كأبي محمد الحرار، وأبي أمية إسماعيل بن عفير، وأبي الأصبغ عبد
العزيز الكبتوري وأبي بكر محمد بن محمد بن جابر السقطي، وأبي العباس بن سليمان، ذكر
جميعهم الحرار المذكور في كتاب ألفه في فضايل الشيخ أبي العباس، رحمه الله.
أحمد بن عبد الملك بن عمار بن ياسرأحمد بن عبد الملك بن
سعيد بن خلف بن سعيد بن خلف ابن سعيد بن محمد بن عبد الله بن سعيد بن الحسن بن عثمان
ابن محمد بن عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم
أوليتهبيت بني سعيد العنسي، بيتٌ مشهور في الأندلس بقلعة
يحصب، نزلها جدهم الأعلى، عبد الله بن سعيد بن عمار بن ياسر، وكان له حظوة لمكانه
من اليمانية بقرطبة، وداره بقرب قنطرتها، كانت معروفة، وهو بيت القيادة والوزارة،
والقضاء والكتابة، والعمل وفيما يأتي، وما مر كفاية من التنبيه عليه.
حالهقال الملاحي، كان من جلة الطلبة، ونبهائهم، وله حظ بارع
من الأدب، وكتابة مفيدة، وشعر مدون. قال أبو الحسن بن سعيد في كتابه المسمى
بالطالع نشأ محباً في الأدب، حافظاً للشعر، وذاكراً لنظم الشريف الرضي، ومهيار،
وابن خفاجة، وابن الزقاق، فرقت طباعه، وكثر اختراعه وإبداعه، فاشتد بها غرامه،
وطال حبه وهيامه، وكانت بينهما منادمات ومغازلات أربت على ما كان بين علوة وأبي
عبادة يمر من ذلك إلمام في شعر حفصة إن شاء الله.
نباهته وحظوتهولما وفدت الأندلس، على صاحب أمر الموحدين
في ذلك الأوان، وهو محتلٌ بجبل الفتح، واحتفل شعراؤها في القصائد، وخطباؤها في الخطب
بين يديه، كان في وفد غرناطة، أبو جعفر هذا المترجم به، وهو حدث السن في جملة أبيه
وإخوته وقومه، فدخل معهم على الخليفة، وأنشده قصيدة، قال أبو الحسن بن سعيد، كتبت
منها من خط والده قوله:
تكلم فقد أصغى إلى قولك الدهر ... وما لسواك اليوم نهيٌ
ولا أمرٌ
ورم كل ما قد شئته فهو كائنٌ ... وحاول فلا برٌ يفوت ولا
بحر
وحسبك هذا البحر فألا فإنه ... يقبل ترباً داسه جيشك
الغمر
وما صوته إلا سلامٌ مرددٌ علي ... ك وعن بشرٍ بقربك
اليوم يفتر
بجيش لكي يلقى أمامك من غدا ... يعاند أمراً لا يقوم له
أمر
أطل على أرض الجزيرة سعدها ... وجدد فيها ذلك الخبر
الخبر
فما طارقٌ إلا لذلك مطرقٌ ... ولابن نصير لم يكن ذلك
النصر
هما مهداها كي تحل بأفقها ... كما حل عند التم بالهالة
البدر
قال: فلما
أتمها أثنى عليه الخليفة، وقال لعبد الملك أبيه: أيهما خيرٌ عندك في ابنيك، فقال
يا سيدنا: محمدٌ دخل إليكم مع أبطال الأندلس وقوادها، وهذا مع الشعر، فانظروا ما
يجب أن يكون خيراً عندي، فقال الخليفة: كل ميسرٌ لما خلق له، وإذا كان الإنسان
متقدماً في صناعة فلا يؤسف عليه، إنما يؤسف على متأخر القدر، محروم الحظ. ثم أنشد
فحول الشعراء والأكابر ثم لما ولي غرناطة ولده السيد أبو سعيد، استوزر أبا جعفر
المذكور، واتصلت حظوته إلى أن كان ما يذكر من نكبته
محنتهقال قريبه وغيره: فسد ما بينه وبين السيد أبي سعيد
لأجل حفصة الشاعرة، إذ كانت محل هواه، ثم اتصلت بالسيد، وكان له بها علاقة، فكان
كل منهما على مثل الرضف للآخر، ووجد حساده السبيل، إلى إغراء السيد به، فكان مما
نمي به عنه، أن قال لحفصة يوماً: وما هذا الغرام الشديد به، يعني السيد، وكان شديد
الأدمة، وأنا أقدر أن أشتري لك من المعرض أسوداً خيراً منه بعشرين ديناراً، فجعل
السيد يتوسد له المهالك، وأبو جعفر يتحفظ كل التحفظ. وفي حالته تلك يقول:
من يشتري مني الحياة وطيبها ... ووزارتي وتأدبي وتهذبي
بمحل راعٍ في ذرًى ملمومة ... زويت عن الدنيا بأقصى مرتب
لا حكم يأخذه بها إلا لمن ... يعفو ويرؤف دائماً بالمذنب
فلقد سئمت من الحياة مع امرىء ... متغضب متغلبٍ مترتب
الموت يلحظني إذا لاحظته ... ويقوم في فكري أوان تجنبي
لا أهتدي مع طول ما حاولته ... لرضاه في الدنيا ولا
للمهرب
وأخذ في أمره مع أبيه وأخوته، وفتنة ابن مردنيش مضطربة،
فقال له أخوه محمد وأبوه، إن حركنا حركة كنا سبباً لهلاك هذا البيت، ما بقيت دولة
إلا هؤلاء وأخذ مع أخيه عبد الرحمن، واتفقا على أن يثورا في القلعة باسم ابن
مردنيش، وساعدهما قريبهما على ذلك حاتم بن حاتم بن سعيد، وخاطبوا ابن مردنيش، وصدر
لهم جوابه بالمبادرة، ووصلت منه خيلٌ ضاريةٌ، وتهيأ لدخول القلعة، وتهيأ الحصول في
القلعة، وخافوا من ظهور الأمر، فبادر حاتم وعبد الرحمن إلى القلعة، وتم لهما
المراد، وأخر الجبن أبا جعفر ففاتاه، وتوقع الطلب في الطريق إلى القلعة، فصار
متخفياً إلى مالقة، ليركب منها البحر إلى جهة ابن مردنيش، ووضع السيد عليه العيون
في كل جهة، فقبض عليه بمالقة، وطولع بأمره فأمر بقتله صبراً، رحمه الله.
جزالته وصبرهقال أبو الحسن بن سعيد، حدثني الحسين بن
دويرة، قال: كنت بمالقة لما قبض على أبي جعفر، وتوصلت إلى الاجتماع به، ريثما
استؤذن السيد في أمره حين حبس، فدمعت عيني لما رأيته مكبولا، قال: أعلى تبكي بعد
ما بلغت من الدنيا أطايب لذاتها، فأكلت صدور الدجاج، وشربت في الزجاج، وركبت كل
هملاج، ونمت في الديباج، وتمتعت بالسراري والأزواج، واستعملت من الشمع، السراج
الوهاج، وهأنا في يد الحجاج، منتظراً محنة الحلاج، قادمٌ على غافرٍ، لا يحوج إلى
اعتذار ولا احتجاج. فقلت: ألا أبكي على من ينطق بمثل هذا، ثم تفقد، فقمت عنه، فما
رأيته إلا مصلوباً، رحمه الله.
شعرهأتاني كتابٌ منك يحسده الدهر ... أما حبره ليلٌ أما
طرسه فجر
به جمع الله الأماني لناظري ... وسمعي وفكري فهو سحرٌ
ولا سحر
ولا غرو أن أبدي العجايب ربه ... وفي ثوبه برٌ وفي كفه
بحر
ولا عجب أن أينع الزهر طيه ... فما زال صوب القطر يبدو
به الزهر
ومن شعره ما يجري مجرى المرقص، وقد حضر مع الرصافي
والكتندي ومعهم مغن بروطة.
لله يومٌ مسرةٍ ... أضوى وأقصر من ذباله
لما نصبنا للمنى ... فيه من أوتارٍ حباله
ظل النهار بها كمر ... تاعٍ وأجفلت الغزاله
وشعره مدون كما قلنا، وهذا القدر عنوانٌ على نبله.
غريبةٌ في أمره مع حفصة
قال
حاتم بن سعيد، وكان قد أجرى الله على لسانه، إذا حركت الكأس بها غرامه، أن يقول،
والله لا يقتلني أحدٌ سواك، وكان يغني بالحب، والقدر موكل بالمنطق، قد فرغ من قتله
بغيره من أجلها. قال، ولما بلغ حفصة قتله لبست الحداد، وجهرت بالحزن، فتوعدت
بالقتل، فقالت في ذلك:
هددوني من أجل لبس الحداد ... لحبيبٍ أردوه لي بالحداد
وسقته بمثل جود يديه ... حيث أضحى من البلاد الغواد
رحم الله من يجود بدمعٍ ... أو ينوح على قتيل الأعاد
ولم ينتفع بعد بها، ثم لحقت به بعد قليل.
وفاتهتوفي على حسب ما ذكر، في جمادى الأولى من سنة تسع
وخمسين وخمسمائة.
أحمد بن سليمان بن فركونأحمد بن سليمان بن أحمد بن محمد
بن أحمد القرشي المعروف بابن فركون يكنى أبا جعفر
أوليتهقد مر ذلك في اسم جده قاضي الجماعة، وسيأتي في اسم
والده.
حالهشعلة من شعل الذكاء والإدراك، ومجموع خلال حميدة،
على الحداثة، طالب نبيل، مدرك، نجيب، بذ أقرانه كفاية، وسما إلى المراتب، فقرأ
وأعرب، وتمر، وتدرب، واستجاز له والده شيوخ بلده، فمن دونهم، ونظم الشعر، وقيد
كثيراً، وسبق أهل زمانه في حسن الخط، سبقا أفرده بالغاية القصوى، فيراعه اليوم،
المشار إليه، بالظرف، والإتقان، والحوا، والإسراح، اقتضى ذلك كله ارتقاؤه إلى الكتابة
السلطانية، ومزية الشفوف بها، بالخلع والاستعمال، واختص بي، وتأدب بما انفرد به من
أشياخ تواليفي، فآثرته بفوائد جمة، وبطن حوضه من تحلمه، وترشح إلى الاستيلاء على
الغاية.
شعرهأنشد له بين يدي السلطان في الميلاد الكريم:
حي المعاهد بالكثيب وجادها ... غيثٌ بروي حيها وجمادها
مولدهفي ربيع الآخر من عام سبعة وأربعين وسبعمائة.
أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صفوانمن أهل مالقة، يكنى أبا
جعفر، ويعرف بابن صفوان.
حالهبقية الأعلام، أديب من أدباء، هذا القطر، وصدرٌ من
صدور كتابه، ومشيخة طلبته، ناظمٌ، ناثر، عارف، ثاقب الذهب، قوي الإدراك أصيل
النظر، إمام الفرايض والحساب والأدب والتوثيق، ذاكرٌ للتاريخ واللغة، مشارك في
الفلسفة والتصوف، كلفٌ بالعلوم، الإلهية، آية الله في فك المعمى، لا يجاريه في ذلك
أحد ممن تقدمه، شأنه عجبٌ، يفك من المعميات والمستنبطات، مفصولاً وغير مفصول، شديد
التعصب لذي ود، وبالعكس، تام الرجولة، قليل التهيب، مقتحم حمى أهل الجاه والحمد
والمضايقة، إذا دعاه لذلك داع، حبل نقده على غاربه، راضٍ بالخمول، متبلغ بما تيسر،
كثير الدؤوب والنظر، والتقييد والتصنيف، على كلال الجوارح، وعائق الكبرة، متقارب
نمطي الشعر والكتابة، مجيد فيهما، ولنظمه شفوف على نثره.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي محمد الباهلي، أستاذ الجملة
من أهل بلده، ومولى النعمة عليهم، لازمه وانتفع به، ورحل إلى العدوة، فلقي جملة، كالقاضي
المؤرخ أبي عبد الله بن عبد الملك، والأستاذ التعالمي أبي العباس بن البنا، وقرأ
عليهم بمراكش.
نباهتهاستدعاه السلطان، ثاني الملوك من بني نصر إلى الكتابة
عنه مع الجلة، ببابه، وقد نما عشه، وعلا كعبه، واشتهر ذكاؤه وإدراكه. ثم جنح إلى
العودة، لبلده. ولما ولي الملك، السلطان أبو اليد، ودعاه إلى نفسه، ببلده مالقة،
استكتبه رئيساً مستحقاً، إذ لم يكن ببلده، فأقام به واقتصر على كتب الشروط، معروف
القدر، بمكان من القضاة ورعيهم، صدراً في مجالس الشورى، وإلى الآن يجعل إلى زيارة
غرناطة، حظاً من فصول بعض السنين، فينصب، بها العدالة، ثم يعود إلى بلده في الفصل
الذي لا يصلح لذلك. وهو الآن بقيد الحياة، قد علقته أشراك الهرم، وفيه بعد
مستمتعٌ، بديع، كبير.
تصانيفهمن تواليفه مطلع الأنوار الإلهية، وبغية
المستفيد، وشرح كتاب القرشي في الفرايض، لا نظير له. وأما تقاييده على أقوال
يعترضها، وموضوعات ينتقدها، فكثيرة.
شعرهقال في غرض التصوف، وبلغني أنه نظمها بإشارة من
الخطيب، ولي الله، أبي عبد الله الطنجالي، كلف بها القوالون والمسمعون بين يديه:
بان الحميم فما الحمى والبان ... بشفاء من عنه الأحبة
بانوا
لم
ينقضوا عهداً ببينهم ولا ... أنساهم ميثاقك الحدثان
لكن جنحت لغيرهم فأزالهم ... عن أنسهم بك موحشٌ غيران
لو صح حبك ما فقدتهم ولا ... سارت بهم عن حبك الأظعان
تشتاقهم، وحشاك هالة بدرهم ... والسر منك لخلهم ميدان
ما هكذا أحوال أرباب الهوى ... نسخ الغرام بقلبك السلوان
لا يشتكي ألم البعاد متيمٌ ... أحبابه في قلبه سكان
ما عندهم إلا الكمال وإنما ... غطى على مرآتك النقصان
شغلتك بالأغيار عنهم مقلةٌ ... إنسانها عن لمحهم وسنان
غمض جفونك عن سواهم معرضاً ... إن الصوارم حجبها الأجفان
واصرف إليهم لحظ فكرك شاخصاً ... ترهم بقلبك حيث كنت
وكانوا
ما بان عن مغناك من ألطافه ... يهمي عليها سحابها الهتان
وجياد أنعمه ببابك ترتمي ... تسري إليك بركبها الأكوان
جعلوا دليلاً فيك منك عليهم ... فبدا على تقصيرك البرهان
يا لامحاً سر الوجود بعينه ... السر فيك بأسره والشان
ارجع لذاتك إن أردت تنزهاً ... فيها لعيني ذي الحجا
بستان
هي روضةٌ مطلولةٌ بل جنةٌ ... فيها المني والروح
والريحان
كم حكمة صارت تلوح لناظرٍ ... حارت لباهر صنعها الأذهان
حجبت بشمسك عن عيانك شمسها ... شمسٌ محاسن ذكرها التبيان
لولاك ما خفيت عليك آياتها ... والجو من أنوارها ملآن
أنت الحجاب لما تؤمل منهم ... ففناؤك الأقصى لهم وجدان
فأخرج إليهم عنك مفتقراً لهم ... إن الملوك بالافتقار
تدان
واخضع لعزهم ولذلهم يلح ... منهم علك تعطفٌ وحنان
هم رشحوك إلى الوصول إليهم ... وهم على طلب الوصال عوان
عطفوا جمالهم على أجمالهم ... فحلى المشوق الحسن
والإحسان
يا ملبسين عبيدهم حلل الضنا ... جسمي بما تكسونه يزدان
لا سخط عندي للذي ترضونه ... قلبي بذاك مفرح جذلان
فبقربكم عين الغنا وببعدكم ... محض الفنا ومحبكم ولهان
إني كتمت عن الأنام هواكم ... حتى دهيت وخانني الكتمان
ووشت بحالي عند ذاك مدامعٌ ... أدنى مواقع قطرها طوفان
وبدت على شمايل عذرية ... تقضي بأني فيكم هيمان
فإذا نطقت فذكركم لي منطقٌ ... ما عن سواكم للسان بيان
وإذا صمت فأنتم سرى الذي ... بين الجوانح في الفؤاد يصان
فبباطني وبظاهري لكم هوى ... من جنده الإسرار والإعلان
وجوانحي وجميع أنفاسي وما ... أحوى على لحبكم أعوان
وإليكم مني المفر فقصد كم ... حرمٌ به للخائفين أمان
وقال يذم الدنيا ويمدح عقبي من يقلل منها:
حديث الأمان في الحياة شجون ... إن أرضاك شأنٌ أحفظتك
شئون
يميل إليها جاهلٌ بغرورها ... فمنه اشتياقٌ نحوها وأنين
وذو الحزم ينبو عن حجاه فحالها ... يقيه إذا شكٌ عراه
يقين
إليك صريع الأمن سنحه ناصح ... على نصحه سبما الشفيق
تبين
تجاف عن الدنيا ودن باطراحها ... فمركبها بالمطمعين حرون
وترفيعها خفضٌ وتنعيمها أذى ... ومنهلها للواردين أجون
إذا عاهدت خانت وإن هي أقسمت ... فلا ترج براً باليمين
يمين
يروقك منها مطمعٌ من وفائها ... وسرعان ما إثر الوفاء
تخون
وتمنحك الإقبال كفة حابلٍ ... ومن مكرها في طي ذاك كمين
سقاه لعمر الله إمحاضك الهوى ... لمن أنت بالبغضاء فيه
قمين
ومن
تصطفيه وهو يقطعك القلا ... وتهدي له الإعزاز وهو يهين
ألا إنها الدنيا فلا تغترر بها ... ولود الدواهي بالخداع
تدين
يعم رداها الغر والخب ذا الدها ... ويلحق فيها بالكناس
عرين
وتشمل بلواها نبيلاً وخاملاً ... ويلقى مذالٌ غدرها
ومصون
أبنها لحاها الله كم فتنةٍ لها ... تعلم صم الصخر كيف
يلين
فلا ملكٌ سام أقالت عثاره ... ولو أنه للفرقدين خدين
ولا معهد إلا وقد نبهت به ... بعيد الكرى للثاكلات جفون
أبيت لنفسي أن يدنسها الكرى ... سكونٌ إليها موبقٌ وركون
فليس قرير العين فيها سوى امرىءٍ ... قلاه لها رأى يراه
ودين
أبيت طلاق الحرص فالزهد دائباً ... خليلٌ له مستصحبٌ
وقرين
إذا أقبلت لم يولها بشر شيقٍ ... ولا خف للإقبال منه
رزين
وإن أدبرت لم يلتفت نحوها بها ... وادٍ على ما لم توات
حزين
خفيف المطا من حمل أثقال همها ... إذا ما شكت ثقل الهموم
متون
على حفظه للفقر أبهى ملاءةٍ ... سنى حليها وسط الزرى
يدين
برجف تخال الخائفين منازلٌ ... لهن مكانٌ حيث حل مكين
منازل نجدٍ عندها وتهامةٍ ... سوى واستوى هندٌ لديه وصين
يرود رياضاً أين سار وورده ... زلالٌ اعتاض الورود معين
فهذا أنيل الملك لا ملك ثائرٍ ... لأعدائه حربٌ عليه
زبون
وهذا عريض العز لا عز مترفٍ ... له من مشيدات القصور سجون
حوت شخصه أوصافها فكأنه ... وإن لم يمت فوق التراب دفين
فيا خابطاً عشواء والصبح قد بدا ... إلام تغطى ناظريك
دجون
أفق من كرى هذا التعامي ولا تضع ... بجلك علق العمر فهو
ثمين
إذا كان عقبي ذي جدة إلى بلى ... وقصارى ذي الحياة منون
ففيم التفاني والتنافس ضلة ... وفيم التلاحي والخصام
يكون
إلى الله أشكوها نفوساً عمية ... عن الرشد والحق اليقين
تبين
وأسأله الرجعي إلى أمره الذي ... بتوفيقه حبل الرجاء
متين
فلا خير إلا من لدنه وجوده ... لتيسير أسباب النجاة ضمين
وجمعت ديوان شعره أيام مقامي بمالقة عند توجهي صحبة
الركاب السلطاني إلى إصراخ الخضراء عام أربعة وأربعين وسبعمائة، وقدمت صدره خطبة،
وسميت الجزء بالدرر الفاخرة، واللجج الزاخرة، وطلبت منه أن يجيزني، وولدي عبد
الله، رواية ذلك عنه فكتب بخطه الرائق بظهر المجموع ما نصه:
الحمد
لله مستحق الحمد، أجبت سؤال الفقيه، الأجل، الأفضل، السري، الماجد، الأوحد،
الأحفل، الأديب، البارع، الطالع في أفق المعرفة والنباهة، والرفعة المكينة
والوجاهة، بأبهى المطالع، المصنف، الحافظ، العلامة، الحائز في فني النظم والنثر،
وأسلوبي الكتابة والشعر، رتبة الرياسة، الحامل لراية التقدم والإمامة، محلي جيد العصر
بتواليفة الباهرة الرواء، ومجلى محاسن بنيه، الرائقة على منصة الإشهاد والإنباء،
أبي عبد الله بن الخطيب، وصل الله سعادته ومجادته، وسني من الخير الأوفر، والصنع
الجميل الأبهر، مقصده وإرادته، وبلغه في نجله الأسعد، وابنه الراقي، بمحتده
الفاضل، ومنشئه الأطهر، محل الفرقد، أفضل ما يؤمل نحلته إياه في المكرمات وإفادته،
وأجزت له، ولابنه عبد الله المذكور، أبقاهما الله تعالى، في عزةٍ سنية الجلال،
وعافية ممتدة الأوفياء، وارفة الظلال، رواية جميع ما تقيد في الأوراق، المكتتب على
ظهر أول ورقة منها، من نظمي ونثري، وما توليت إنشاءه، واعتمدت بالارتحال والرواية،
اختياره وانتقاءه، أيام عمري، وجميع مالي من تصنيف وتقييد، ومقطوعةٍ وقصيدةٍ،
وجميع ما أحمله عن أشياخي رضي الله عنهم، من العلوم، وفنون المنثور والمنظوم، بأي
وجه تأتي ذلك، وصح حملي له، وثبت إسناده لي، إجازةً تامة، في ذلك كله عامة، على
سنن الإجازات الشرعية، وشرطها المأثور عند أهل الحديث المرعي، والله ينفعني
وإياهما بالعلم وحمله، وينظمنا جميعاً في سلك حزبه المفلحين وأهله، ويفيض علينا من
أنوار بركته وفضله. قال ذلك وكتبه بخط يده الفانية، العبد الفقير إلى الغني به،
أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن صفوان، ختم الله له بخير، حامداً لله تعالى، ومصلياً
ومسلماً على محمد نبيه المصطفى الكريم، وعلى آله الطاهرين ذوي المنصب العظيم،
وصحبه البررة، أولى المنصب والأثرة والتقديم، في سادس ربيع الآخر عام أربعة
وأربعين وسبعمائة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
واشتمل هذا الجزء الذي أذن بحمله عنه من شعره على جملة
من المطولات، منها قصيدة يعارض بها الرئيس أبا علي بن سينا في قصيدته الشهيرة في
النفس التي مطلعها: هبطت إليك من المحل الأرفع، أولها: أهلا بمسراك المحب الموضع.
وأول قصيدة:
لمعناك في الأفهام سرٌ مكتمٌ ... عليه نفوس العارفين
تحوم
وأول أخرى:
أزهى حجابك رؤية الأغيار ... فامح الدجى بأشعة الأنوار
وأول أخرى:
ثناء وجودي في هواكم هو الخلد ... ومحو رسومي حسن ذاتي
به يبدو
ومطلع أخرى:
ألا في الهوى بالذل ترعى الوسائل ... ودمعي أن أنادي
مجيب وسائل
ومطلع أخرى:
هم القصد جادوا بالرضى أو تمنعوا ... صلوا اللوم فيما
أودعوا القلب أودعوا
ومن أخرى:
سقى زمن الرضا هامٌ من السحب ... ولله العود من أثوابه
القشب
ومن أخرى:
يا فوز نفسي في هواك هواؤها ... رقت معانيها وراق مناؤها
ومن أخرى:
أما الغرام فبالفؤاد غريم ... هيهات مني ما العذول يروم
ومن شعره في المقطوعات قوله:
رشق العذار لجينه بنباله ... فغدا يدور على المحب الواله
خط العذار بصفحتيه لامه ... خطا توعده بمحو جماله
فحسبت أن جماله شمس الضحى ... حسناً وذاك الخط خط زواله
فدنا إلي تعجباً وأجابني ... والروع يبدو من خلال مقاله
إن الجمال آخره اللام فعج ... عن رسمه واندب على أطلاله
ومن أبياته في التورية بالفنون قوله:
كففت عن الوصال طويل شوقي ... إليك وأنت للروح الخليل
وكفك للطويل فدتك نفسي ... قبيحٌ ليس يرضاه الخليل
وقال في التورية بالعروض:
يا كاملاً شوقي إليه وافر ... وبسيط خدي في هواه عزيز
عاملت أسبابي لديك فقطعتها ... والقطع في الأسباب ليس
يجوز
وقال في التورية بالعربية:
أيا قمراً مطالعه جناني ... وغرته تواري عن عيان
أأصرف في هواك عن اقتراحي ... وسهدي وانتحابي علتان
وقال أيضاً:
لا تصحبن يا صاحبي غير الوفي ... كل امرىء عنوانه من
يصطفي
كم
من خليلٍ بشره زهر الربي ... وطي ذاك البشر حد المرهف
ظاهره يريك سر من رأى ... وأنت من إعراضه في أسف
ووقعت بينه وبين قاضي بلده أبي عمرو بن المنظور مقاطعة،
انبرى بها إلى مطالبته بما دعاه إلى التحول مضطراً إلى غرناطة، وأخذ بكظمه، وطوقه
الموت في أثناء القطيعة، فقال في ذلك متشفياً، وهو من نبيه كلامه، وكله نبيه:
تردى ابن منظورٍ وحم حماه ... وأسلمه حامٌ له ونصير
تبرأ منه أولياء غروره ... ولم يقه بأس المنون ظهير
وأودع بعد الأنس موحش بلقعٍ ... فحياه فيه منكرٌ ونكير
ولا رشوةٌ يدلي القبول رشادها ... فينسخ بالسير المريح
عسير
ولا شاهدٌ يغضي له عن شهادةٍ ... تخللها إفكٌ يصاغ وزور
ولا خدعةٌ تجدي ولا مكرٌ نافعٌ ... ولا غشٌ مطويٌ عليه
ضمير
ولكنه حقٌ يصول وباطلٌ ... يحول ومثوى جنةٍ وسعير
وقالوا قضاء الموت حتمٌ على الورى ... يدير صغيرٌ كأسه
وكبير
فلا تنتسم ريح ارتياح لفقده ... فإنك عن قصد السبيل تحور
فقلت بلى حكم المنية شاملٌ ... وكل إلى رب العباد يصير
ولكن تقدم الأعادي إلى الردى ... نشاطٌ يعود القلب منه
سرور
وأمنٌ ينام المرء في برد ظله ... ولا حيةٌ للحقد نم نثور
وحسبي بيتٌ قاله شاعرٌ مضى ... غدا مثلاً في العالمين
يسير
وإن بقاء المرء بعد عدوه ... ولو ساعةً من عمره لكثير
مولده: قال بعض شيوخنا، سألته عن مولده فقال لي في آخر
خمسة وتسعين وستمائة، أظن في ذي قعدة منه الشك.
وفاتهبمالقة في آخر جمادى الثانية من عام ثلاثة وستين
وسبعمائة.
أحمد بن أيوب اللمايمن أهل مالقة، يكنى أبا جعفر.
حالهقال صاحب الذيل، كان أديباً ماهراً، وشاعراً جليلا،
وكاتباً نبيلا.
كتب عن أول الخلفاء الهاشميين بالأندلس، على بن جمود، ثم
عن غيره من أهل بيته، وتولي تدبير أمرهم، فحاز لذلك صيتاً شهيراً، وجلالة عظيمة.
وذكره ابن بسام في كتاب الذخيرة، فقال: كان أبو جعفر هذا في وقته أحد أئمة الكتاب،
وشهب الأدب، ممن سخرت له فنون البيان، تسخير الجن لسليمان، وتصرف في محاسن الكلام،
تصرف الرياح بالغمام، طلع من ثناياه، واقتعد مطاياه، وله إنشاءات سرية، في الدولة
الحمودية، إذ كان علم أدبائها، والمضطلع بأعبائها، إلا أني لم أجد عند تحريري هذه
النسخة، من كلامه، إلا بعض فصول من منثور، وهي ثمادٌ من بحور.
فصل: من رقعة خاطب بها أبا جعفر بن العباس: غصن ذكرك عندي
ناضرٌ، وروض شكرك لدي عاطرٌ، وريح إخلاصي لك صباً، وزمان آمالي فيك صباً، فأنا
شاربٌ ماء إخاثك، متفييٌ ظل وفائك، جان منك ثمرة فرعٍ طاب أكله، وأجناني البر
قديماً أصله، وسقاني إكراماً برقه، ورواني أفضالاً ودقه، وأنت الطالع في فجاجه،
السالك لمنهاجه، سهمٌ في كنانة الفضل صائبٌ، وكوكبٌ في سماء المجد ثاقبٌ، إن أتبعت
الأعداء نوره أحرق، وإن رميتهم به أصاب الحدق، وعلى الحقيقة فلساني يقصر عن جميل
أنشره، ووصف ود أضمره.
شعرهقال ومما وجد بخطه لنفسه:
طلعت طلائع للربيع فأطلعت ... في الروض ورداً قبل حين
أوانه
حيا أمير المسلمين مبشراً ... ومؤملاً للنيل من إحسانه
ضنت سحائبه عليه بمائها ... فأتاه يستسقيه ماء بنانه
دامت لنا أيامه موصولةً ... بالعز والتمكين في سلطانه
قال: وأنشدني الأديب أبو بكر بن معن، قال أنشدني أبو الربيع بن
العريف لجده الكاتب أبي جعفر اللماي، وامتحن بداء النسمة من أمراض الصدر، وأزمن
به، نفعه الله، وأعياه علاجه، بعد أن لم يدع فيه غاية، وفي ذلك يقول:
لم يبق من شيء أعالجها به ... طمع الحياة وأين من لا يطمع
وإذا
المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمةٍ لا تنفع
ودخل عليه بعض أصحابه فيها، وجعل يروح عليه فقال له
بديهة:
روحني عائدي فقلت له ... لا تزدني على الذي أجد
ما ترى النار وهي خامدةٌ ... عند هبوب الرياح تتقد
ودخل غرناطة غير مامرة، منها متردداً بين أملاكه، وبين
من بها من ملوك صنهاجة، قالوا ولم تفارقه تلك الشكاية حتى كانت سبب وفاته.
وفاتهمالقة عام خمسن وستين وأربعمائة. ونقل منها إلى حصن
الورد، وهو عند حصن منت ميور إذ كان قد حصنه، واتخذه لنفسه ملجأ عند شدته، فدفن
به، بعهدٍ منه بذلك، وأمر أن يكتب على قبره بهذه الأبيات:
بنيت ولم أسكن وحصنت جاهداً ... فلما أتي المقدور صيره
قبري
ولم يكن حظي غير ما أنت مبصرٌ ... بعينك ما بين الذراع
إلى الشبر
فيا زائراً قبري أوصيك جاهداً ... عليك بتقوى الله في
السر والجهر
فلا تحسنن بالدهر ظنا فإنما ... من الحزم ألا يستنام إلى
الدهر
أحمد بن محمد بن طلحةمن أهل جزيرة شقر، يكنى أبا جعفر،
ويعرف بابن جده طلحة.
حالهقال صاحب القدح المعلى، من بيت مشهور بجزيرة شقر من
عمل بلنسية كتب عن ولاة الأمر من بني عبد المؤمن، ثم استكتبه ابن هود، حين تغلب
على الأندلس، وربما استوزره، وهو ممن كان والدي يكثر مجالسته، وبينهما مزاورة، ولم
أستفد منه إلا ما كنت أحفظه من مجالسته.
شعرهقال، سمعته يوماً يقول، تقيمون القيامة بحبيب،
والبحتري، والمتنبي، وفي عصركم من يهتدي إلى ما لم يهتد إليه المتقدمون ولا
المتأخرون، فانبرى إليه شخص له همة وإقدام، فقال يا أبا جعفر: أين برهان ذلك، فما
أظنك تعني إلا نفسك، فقال ما أعني إلا نفسي، ولم لا، وأنا الذي أقول:
يا له ترى الظرف من يومنا ... قلد جيد الأفق طوق العقيق
وأنطق الورق بعيدانها ... مطربةً كل قضيبٍ وريق
والشمس لا تشرب خمر الندى ... في الروض إلا بكأس الشقيق
فلم ينصفوه في الاستحسان، وردوه في الغيظ كما كان، فقلت
له: يا سيدي هذا والله السحر الحلال، وما سمعت من شعراء عصرنا مثله، فبالله ألا ما
لازمتني وزدتني من هذا النمط، فقال لي لله درك، ودر أبيك من منصف ابن منصف. اسمع، وافتح
أذنيك. ثم أنشد:
أدرها فالسماء بدت عروساً ... مضمخة الملابس بالغوال
وخد الأرض خفره أصيلٌ ... وجفن النهر كحل بالظلال
وجيد الغصن يشرق في لآلٍ ... تضيء بهن أكناف الليال
فقلت بالله أعد وزد، فأعاد والارتياح قد ملأ عطفه،
والتيه قد رفع أنفه، ثم قال:
لله نهرٌ عند ما زرته ... عاين طرفي منه سحراً حلال
إذا أصبح الطل به ليلة ... وجال فيه الغصن مثل الخيال
فقلت ما على هذا مزيدٌ من الاستحسان، فعسى أن يكون
المزيد في الانشاد فزاد ارتياحه وأنشد:
ولما ماج بحر الليل بيني ... وبينكم وقد جددت ذكرا
أراد لقاكم إنسان عيني ... فمد له المنام عليه جسرا
فقلت إيه زادك الله إحساناً، فزاد:
ولما أن رأى إنسان عيني ... بصحن الخد منه غريق ماء
أقام له العذار عليه جسراً ... كما مد الظلام على الضياء
فقلت فما تكرر ويطول، فإنه مملول، إلا ما أوردته آنفاً،
فإنه كنسيم الحياة، وما أن يمل، فبالله ألا ما زدتني، وتفضلت علي بالإعادة، فأعاد
وأنشد:
هات المدام إذا رأيت شبيهها ... في الأفق يا فرداً بغير
شبيه
فالصبح قد ذبح الظلام بنصله ... فغدت حمائمه تخاصم فيه
دخوله غرناطة: دخلها مع مخدومه المتوكل على الله ابن هود
وفي جملته، إذ كان يصحبه في حركاته، ويباشر معه الحرب، وجرت عليه الهزائم، وله في
ذلك كله شعر.
محنته
قالوا
لم يقنع بما أجرى عليه أبو العباس الينشتي من الإحسان، فكان يوغر صدره من الكلام
فيه، فذكروا أن الينشتي قال يوماً في مجلسه: رميت يوماً بسهمٍ من كذا، فبلغ إلى
كذا، فقال ابن طلحة لشخص كان إلى جانبه: والله لو كان قوس قزح، فشعر أبو العباس
إلى قوله ما يشبه ذلك، واستدعى الشخص، وعزم عليه، فأخبره بقوله، فأسرها في نفسه،
إلى أن قوى الحقد عليه، ما بلغه من عنه من قوله يهجوه:
سمعنا بالموفق فارتحلنا ... وشافعنا له حسبٌ وعلم
ورميت يداً أقبلها وأخرى ... أعيش بفضلها أبداً وأسمو
فأنشدنا لسان الحال عنه ... يدٌ شلا وأمرٌ لا يتم
فزادت موجدته عليهن وراعى أمره إلى أن بلغته أبياتٌ
قالها في شهر رمضان، وهو على حال الاستهتار:
يقول أخو الفضول وقد رآنا ... على الإيمان بلغنا الحجون
أنشكو شهر الصوم هلا ... حماه منكم عقلٌ ودين
فقلت اصحب سوانا فنحن قوم ... زنادقة مذاهبنا فنون
ندين بكل دين غير دين ال ... رعاع فما به أبداً ندين
فنحن على صفوح الدهر ندعو ... وإبليس يقول لنا آمين
أيا شهر الصيام إليك عنا ... ففيك أكفر ما نكون
قال: فأرسل إليه من هجم عليه، وهو على هذا الحال، وأظهر إرضاء
العامة بقتله، وذلك في سنة إحدى وثلاثين وستمائة. ولا خفاء أنه من صدور الأندلس،
وأشدهم عثوراً على المعاني الغريبة المخترعة، رحمه الله.
ابن خاتمة الأنصاريأحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمد
بن خاتمة الأنصاري من أهل ألمرية يكنى أبا جعفر، ويعرف بابن خاتمة.
حالههذا الرجل صدرٌ يشار إليه، طالبٌ متفننٌ، مشاركٌ،
قوي الإدراك، سديد النظر، قوي الذهن، موفور الأدوات، كثير الاجتهاد، معين الطبع،
جيد القريحة، بارع الخط، ممتع المجالسة، حسن الخلق، جميل العشرة، حسنةٌ من حسنات
الأندلس، وطبقةٌ في النظم والنثر، بعيد المرقى في درجة الاجتهاد، وأخذه بطرق الإحسان،
عقد الشروط، وكتب عن الولاة ببلده، وقعد للاقراء ببلده، مشكور السيرة، حميد
الطريقة، في ذلك كله.
وجرى ذكره في كتاب التاج بما نصه ناظم درر الألفاظ،
ومقلد جواهر الكلام، نحور الرواة، ولبات الحفاظ والآداب، التي أصبحت شواردها، حلم
النائم، وسمر الأيقاظ، وكم من بياض طرسها، وسواد مقسها سحر الألحاظ، رفع في قطره
راية هذا الشأن على وفور حلبته، وقرع فنه البيان علىسمو هضبته، وفوق سهمه إلى بحر
الإحسان، فأتثبته في لبته، فإن أطال شأن الأبطال، وكاثر المنسجم الهطال، وإن أوجز،
فضح وأعجز، فمن نسيب تهيج به الأشواق، وتضيق عن زفراتها الأطواق، ودعابهٍ تقلص ذيل
الوقار، وتزري بأكواس العقار، إلى انتماء للمعارف، وجنوح إلى ظلها الوارف، ولم تزل
معارفه ينفسح آمادها، وتحوز خص السباق جيادها.
مشيختهحسبما نقل بخطه في ثبت استدعاه منه من أخذ عنه،
الشيخ الخطيب، الأستاذ مولى النعمة، على أهل طبقته بألمرية، أبو الحسن علي بن محمد
بن أبي العيش المري، قرأ عليه ولازمه، وبه جل انتفاعه، والشيخ الخطيب الأستاذ
الصالح أبو إسحاق إبراهيم بن العاص التنوخي. وروي عن الرواية المحدث المكثر
الرحال، محمد بن جابر بن محمد بن حسان الوادي آشي، وعن شيخنا أبي البركات ابن
الحاج، سمع عليه الكثير، وأجازه إجازة عامة، والشيخ الخطيب أبو القاسم عبد الرحمن
بن محمد بن شعيب القيسي من أهل بلده، والقاضي أبو جعفر القرشي بن فركون. وأخذ عن الوزير
الحاج الزاهد، أبي القاسم محمد ابن محمد بن سهل بن مالك. وقرأ على المقرى أبي جعفر
الأغر، وغيرهم.
كتابتهمما خاطبني به بعد إلمام الركب السلطاني ببلده،
وأنا صحبته، ولقائه إياي، بما يلقى به مثله من تأنيس، وبر، وتودد، وتردد:
يا من حصلت على الكمال بما رأت ... عيناي منه من الجمال
الرائع
مرأى يروق وفي عطافي برده ... ما شئت من كرمٍ ومجدٍ بارع
أشكو إليك من الزمان تحاملا ... في فض شملٍ لي بقربك
جامع
هجم البعاد عليه ضنا باللقا ... حتى تقلص مثل برق لامع
فلو
أنني ذو مذهب لشفاعة ... ناديته يا مالكي كن شافعي
شكواي إلى سيدي ومعظمي، أقر الله تعالى بسنائه أعين
المجد، وأدر بثنائه ألسن الحمد، شكوى الظمآن صد عن القراح العذب، لأول وروده،
والهيمان رد عن استرواح القرب لمعضل صدوده، من زمانٍ هجم علي بعاده، على حين
النفادة، ودهمني بفراقه غب إنارة أفقي به وإشراقه، ثم لم يكفه ما اجترم في ترويع خياله
الزاهر، حتى حرم عن تشييع كماله الباهر، فقطع عن توفية حقه، ومنع من تأدية مستحقه،
لا جرم أنه أنف لشارع ذكائه من هذه المطالع النافية عن شريف الإنارة، وبخل
بالإمتاع بذكائه عن هذه المسامع النائية، عن لطيف العبارة، فراجع أنظاره، واسترجع
معاره، وإلا فعهدي بغروب الشمس إلى طلوع، وأن البدر ينصرف بين الاستقامة والرجوع.
فما بال هذا النير الأسعد، غرب ثم لم يطلع من الغد، ما ذاك إلا لعدوى الأيام
وعدوانها، وشأنها في تغطية إساءتها وجه إحسانها، وكما قيل عادت هيفٌ إلى أديانها،
أستغفر الله أن لا يعد ذلك من المغتفر في جانب ما أوليت من الأثر، التي أزرى
العيان فيها بالأثر، وأربى الخبر على الخبر، فقد سرت متشوفات الخواطر، وأقرت
متشرفات النواظر، بما جلت من ذلكم الكمال الباهر، والجمال الناضر، الذي قيد خطى
الأبصار، عن التشوف والاستبصار، وأخذ بأزمة القلوب، عن سبيل كل مأمول ومرغوب، وأني
للعين بالتحول عن كمال الزين، أو للطرف بالتحول عن خلال الظرف، أو للمسع من مراد، بعد
ذلك الإصرار والإيراد، أو للقلب من مراد، غير تلكم الشيم الرافلة من ملابس الكرم
في حلل وأبراد، وهل هو إلا الحسن جمع في نظام، والبدر طالع التمام، وأنوار الفضائل
ضمها جنس اتفاقٍ والتآم، فما ترعى العين منه في غير مرعى خصيب، ولا تستهدف الآذان
لغير سهمٍ في حدق البلاغة مصيب، ولا تطلع النفس سوى مطلعٍ له في الحسن والإحسان
أوفر نصيب. لقد أزرى بناظم حلاه فيما تعاطاه التقصير. وانفسح من أعلاه بكل باعٍ
قصير، وسفه حلم القائل: إن الإنسان عالمٌ صغير، شكراً للدهر على يد أسداها بقلب
مزاره، وتحفة ثناء أهداها بمطلع أنواره على تغاليه في ادخار نفائسه، وبخله بنفائس
ادخاره، ولا غرو أن يضيق عنا نطاق الذكر، ولما يتسع لنا سوار الشكر، فقد عمت هذه الأقطار
بما شاءت من تحفٍ، بين تحف وكرامة، واجتنت أهلها ثمرة الرحلة في ظل الإقامة، وجرى
الأمر في ذلك مجرى الكرامة، ألا وإن مفاتحتي لسيدي ومعظمي، حرس الله تعالى مجده،
وضاعف سعده، مفاتحة من ظفر من الدهر بمطلوبه، وجرى له القدر على وفق مرغوبه، فشرع
له إلى أمله باباً، ورفع له من خجله جلباباً، فهو يكلف بالاقتحام، ويأنف من
الإحجام، غير أن الحصر عن درج قصده يقيده، فهو يقدم والبصر يبهرج نقده فيقعده، فهو
يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، ويجدد عزماً ثم لا يتحرى، فإن أبطأ خطابي فلواضحٌ
الاعتذار، ومثلكم لا يقبل حياة الأعذار، والله عز وجل يصل إليكم عوايد الإسعاد
والإسعاف، ويحفظ لكم ما للمجد من جوانب وأكناف، إن شاء الله تعالى، كتب في العاشر
من ربيع الأول من عام ثمانية وأربعين وسبعمائة.
دخوله غرناطة: دخل غرناطة غير ما مرة، منها في استدعاء
شمال الخواص من أهل الأقطار الأندلسية، عند إعذار الأمراء في الدولة اليوسفية، في
شهر شعبان من عام إحدى وخمسين وسبعمائة.
شعرهكان مجلياً، وأنشد في حلبة الشعراء قصيدةً أولها:
أجنان خلدٍ زخرفت أم مصنع ... والعيد عاود أم صنيعٌ يصنع
ومن شعره
من لم يشاهد موقفاً لفراق ... لم يدر كيف توله العشاق
إن كنت لم تره فسائل من رأى ... يخبرك عن ولهي وهول سياق
من حر أنفاسٍ وخفق جوانح ... وصدوع أكبادٍ وفيض مآق
دهى الفؤاد فلا لسانٌ ناطقٌ ... عند الوداع طايع متراق
ولقد أشير لمن تكلف رحلةً ... أن عج على ولو بقدر فواق
على أراجع من ذماي حشاشةً ... أشكو بها بعض الذي أنا لاق
فمضى ولم تعطفه نحوي ذمةٌ ... هيهات لابقيا على مشتاق
يا صاحبي وقد مضى حكم النوى ... روحا على بمشيمة العشاق
واستقبلابي
نسمةً عن أرضكم ... فلعل نفحتها تحل وثاق
إني ليشفيني النسيم إذا سرى ... متضوعاً من تلكم الآفاق
من مبلغ بالجزع أهل مودتي ... أني على حكم الصبابة باق
ولئن تحول عهد قربهم نوى ... ما حلت عن عهدي ولا ميثاق
أنفت خلايقي الكرام لخلتي ... نسباً إلى الإخلاق
والإخراق
قسماً به ما استغرقتني فكرةٌ ... إلا وفكري فيه واستغراق
لي آهة عند العشي لعله ... يصغي لها وكذا مع الإشراق
أبكي إذا هب النسيم فإن تجد ... بللاً به فبدمعي المهراق
أوما ما تكتب إليه مع الصبا ... فالذكر كتبي والرفاق
رفاق
من لي وقد شحط المزار بنازح ... أدنى لقلبي من جوى أشواق
إن غاب عن عيني فمثواه الحشا ... فسراه بين القلب
والأحداق
جارت على يدي النوى بفراقه ... آهاً لما جنت النوى بفراق
أحباب قلبي هل لماضي عيشنا ... ردٌ فينسخ بعدكم بتلاق
أم هل لأثواب التجلد راقعٌ ... إذ ليس من داء المحبة راق
ما غاب كوكب حسنكم عن ناطري ... إلا وأمطرت الدما آماق
إيه أخي أدر على حديثهم ... كأساً ذكت عرفاً وطيب مذاق
وإذا جنحت لماء أو طربٍ فمن ... دمعي الهموع وقلبي
الخفاق
ذكراه راحي والصبابة خضرتي ... والدمع ساقيني وأنت الساق
فليله عني من لحاني إنني ... راض بما لاقيته وألاق
وقال:
وقفت والركب قد زمت ركائبه ... وللنفوس مع النوى تقطيع
وقد تمايل نحوي للوداع وهل ... للراحل القلب صدر الركب
توديع
أضم منه كما أهدي لغير نوى ... ريحانةً في شذاها الطيب
مجموع
يهفو فأذعر خوفاً من تقلصها ... إن الشفيق بسوء الظن
مولوع
هل عند من قد دعي بالبين مقلته ... إن الردى منه مرئيٌ
ومسموع
أشيع القلب عن رغمٍ على وما ... بقاء جسم له للقلب تشييع
أرى وشاتي أني لست مفتقراً ... لما جرى وصميم القلب
مصروع
الوجد طبعٌ وسلواني مصانعة ... هيهات يشكل مصنوع ومطبوع
إن الجديد إذا ما زيد في خلقٍ ... تبين الناس أن الثوب
مرقوع
وقال أيضاً:
لولا حيائي من عيون النرجس ... للثمت خد الورد بين
السندس
ورشفت من ثغر الأقاحة ريقها ... وضممت أعطاف الغصون
الميس
وهتكت أستار الوقار ولم أبل ... للباقلاء تلحظ بطرفٍ
أشوس
مالي وصهباء الدنان مطارحاً ... سجع القيان مكاشفاً وجه
المس
شتان بين مظاهرٍ ومخاتل ... ثوب الحجا ومطهر ومدنس
ومجمجمٍ بالعذل باكرني به ... والطير أفصح مسعد بتأنس
نزهت سمعي عن سفاهة نطقه ... وأعرته صوتاً رخيم الملمس
سفهت في العشاق يوماً إن أكن ... ذاك الذي يدعي الفصيح
الأخرس
أعذول وجدي ليس عشك فادرجي ... ونصيح رشدي بان نصحك فاجلس
هل تبصر الأشجار والأطيار والأزه ... ار تلك الخافضات
الأروس
نالله وهو إليتي وكفى به ... قسماً يفدي بره بالأنفس
ما ذاك من شكوٍ ولا لخلالةٍ ... لكن سجود مسبحٍ ومقدس
شكراً لمن برأ الوجود بجوده ... فثني إليه الكل وجه
المفلس
وسما بساط الأرض فمده ... ودحا بسيط الأرض أوثر مجلس
ووشى بأنواع المحاسن هذه ... وأنار هذي بالجوار الكنس
وأدر أخلاف العطاء تطولاً ... وأنال فضلا من يطيع ومن
يسى
حتى
إذا انتظم الوجود بنسبةٍ ... وكساه ثوبي نوره والحندس
واستكملت كل النفوس كمالها ... شفع العطايا بالعطاء
الأنفس
بأجل هادٍ للخلائق مرشدٍ ... وأتم نورٍ للخلائق مقبس
بالمصطفى المهدي إلينا رحمةً ... مرمى الرجا ومسكة
المتيئس
نعمٌ يضيق الوصف عن إحصائها ... فل الخطيب بها لسان
الأوجس
إيه فحدثني حديث هواهم ... ما أبعد السلوان عن قلب الأسى
إن كنت قد أحسنت نعت جمالهم ... فلقد سها عني العذول بهم
وسى
ما إن دعوك ببلبل إلا لما ... قد هجت من بلبال هذي الأنفس
سبحان من صدع الجميع بحمده ... وبشكره من ناطق أو أخرس
وامتدت الأطلال ساجدةً له ... بجبالها من قائمٍ أو أقعس
فإذا تراجعت الطيور وزايلت ... أغصانها بأن المطيع من
المسى
فيقول ذا سكرت لنغمة منشد ... ويقول ذا سجدت لذكر مقدس
كل يفوه بقوله والحق لا ... يخفي على نظر اللبيت الأكيس
وقال:
زارت على حذر من الرقباء ... والليل ملتحف بفضل رداء
تصل الدجا بسواد فرع فاحم ... لتزيد ظلماءً إلى ظلماء
وشى بها من وجهها وحليها ... بدر الدجا وكواكب الجوزاء
أهلا بزائرةٍ على خطر السرى ... ما كنت أرجوها ليوم لقاء
أقسمت لولا عفة عذريةٌ ... وتقىً على له رقيبٍ راء
لنقعت غلة لوعتي برضا بها ... ونضحت ورد خدودها ببكائي
ومن ذلك ما قاله أيضاً:
أرسلت ليل شعرها من عقص ... عن محيا رمى البدور بنقص
فأرتنا الصباح في جنح ليلٍ ... يتهادى ما بين غصنٍ ودعص
وتصدت برامحات نهودٍ ... أشرعت للأنام من تحت قمص
فتولت جيوش صبري انهزاما ... وبودي ذاك اللقاء وحرص
ليس كل الذي يفر بناجٍ ... رب ظعن فيه حياةٌ لشخص
كيف لي بالسلو عنها وقلبي ... قد هوى حلمه بمهوى لخرص
ما تعاطيت ظاهر الصبر إلا ... ردني جيدها بأوضح نص
ومن ذلك قوله أيضاً:
أنا بين الحياة والموت وقفٌ ... نفسٌ خافتٌ ودمعٌ ووكف
حل بي من هواك ما ليس ينبى ... عنه نعتٌ ولا يعبر وصف
عجباً لانعطاف صدغيك والمع ... طف والجيد ثم ما منك عطف
ضاق صدري بضيق حجلك واستو ... قف طرفي حيران ذلك الوقف
كيف يرجى فكاك قلب معني ... في غرام قيداه قرطٌ وشنف
ومن ذلك قوله أيضاً:
رق السنا ذهباً في اللازوردي ... فالأفق ما بين مرقوم
وموشي
كأنما الشهب والإصباح ينهبها ... لآلىء سقطت من كف زنجي
ومن شعره في الحكم قوله:
هو الدهر لا يبقى على عائذ به ... فمن شاء عيشاً يصطبر
لنوائبه
فمن لم يصب في نفسه فمصابه ... لفوت أمانيه وفقد حبائبه
ومن ذلك قوله:
ملاك الأمر تقوى الله فاجعل ... تقاه عدةً لصلاح أمرك
وبادر نحو طاعته بعزمٍ ... فما تدري متى يمضي بعمرك
ومن ذلك أيضاً:
دماءٌ فوق خدك أم خلوق ... وريقٌ ما بثغرك أم رحيق
وما ابتسمت ثنايا أم أقاحٌ ... ويكنفها شفاه أم شقيق
وتلك سناة نومٍ ما تعاطت ... جفونك أم هي الخمر العتيق
لقد أعدت معاطفك انثناءً ... وقلبي سكره ما إن يفيق
جمالك حضرتي وهواك راحي ... وكأسك مقلتي فمتى أفيق
ومن شعره في الأوصاف:
أرسل الجو ماء وردٍ رذاذا ... وسمع الحزن والدمايث رشا
فانثني حول أسوق الدوح حجلا ... وجرى فوق بردة الروض
رقشا
وسما في الغصون حلي بنان ... أصبحت من سلافة الطل رعشا
فترى
الزهر ترقم الأرض رقما ... وترى الريح تنقش الماء نقشا
فكأن المياه سيفٌ صقيلٌ ... وكأن البطاح غمدٌ موشي
وكتب عقب انصرافه من غرناطة في بعض قدماته عليها ما نصه:
مما قلته بديهةً عند الإشراف على جنابكم السعيد، وقدومي مع النفر الذين أتحفتهم
السيادة سيادتكم بالإشراف عليه، والدخول إليه، وتنعيم الأبصار في المحاسن المجموعة
لديه، وإن كان يوماً قد غابت شمسه، ولم يتفق أن كمل أنسه، وأنشده حينئذ بعض من حضر،
ولعله لم يبلغكم، وإن كان قد بلغكم ففضلكم يحملني في إعادة الحديث:
أقول وعين الدمع نصب عيوننا ... ولاح لبستان الوزارة
جانب
أهذي سماءٌ أم بناء سما به ... كواكب غضت عن سناها
الكواكب
تناظرت الأشكال منه تقابلاً ... على السعد وسطى عقده
والجنائب
وقد جرت الأمواه فيه مجرة ... مذانبها شهبٌ لهن ذوائب
وأشرف من علياء بهو تحفه ... شماسيٌ زجاج وشيها متناسب
يطل على ماءٍ به الآس دائراً ... كما افتر أو كما اخضر
شارب
هنالك ما شاء العلي من جلالةٍ ... بها يزدهي بستانها
والمراتب
ولما أحضر الطعام هنالك، دعى شيخنا القاضي أبو البركات
إلى الأكل، فاعتذر بأنه صائم، قد بيته من الليل، فحضرني أن قلت:
دعونا الخطيب أبا البركا ... ت لأكل طعام الوزير الأحل
وقد ضمنا في نداه جنان ... به احتفل الحسن حتى كمل
فأعرض عنا لعذر الصيام ... وما كل عذرٍ له مستقل
فإن الجنان محل الجزاء ... وليس الجنان محل العمل
وعندما فرغنا من الطعام أنشدت الأبيات شيخنا أبا
البركات، فقال: لو أنشدتنيها، وأنتم بعد لم تفرغوا منه لأكلت معكم برا بهذه
الأبيات، والحوالة في ذلك على الله تعالى.
ولما قضى الله عز وجل، بالإدالة ورجعنا إلى أوطاننا من العدوة،
واشتهر عني ما اشتهر من الانقباض عن الخدمة، والتية على السلطان والدولة، والتكبر
على أعلى ربت الخدمة، وتطارحت على السلطان في استنجاز وعد الرحلة، ورغبت في تفويت
الذمة، ونفرت عن الأندلس بالجملة، خاطبني بعد صدر بلغ من حسن الإشارة، وبراعة
الإستهلال الغاية، بقوله:
وإلى
هذا يا سيدي، ومحل تعظيمي وإجلالي، أمتع الله تعالى الوجود بطول بقائكم، وضاعف في العز
درجات ارتقائكم، فإنه من الأمر الذي لم يغب عن رأي المقول، ولا اختلف فيه أرباب
المحسوس والمعقول، أنكم بهذه الجزيرة شمس أفقها، وتاج مفرقها، وواسطة سلكها، وطراز
ملكها، وقلادة نحرها، وفريده دهرها، وعقد جيدها المنصوص، وكمال زينتها علىلأ
المعلوم والمخصوص، ثم أنتم مدار أفلاكها، وسر سياسة أملاكها، وترجمان بيانها،
ولسان إحسانها، وطبيب مارستانها، والذي عليه عقد إدارتها، وبه قوام إمارتها، فلديه
يحل المشكل، وإليه يلجأ في الأمر المعضل، فلا غرو أن تتقيد بكم الأسماع والأبصار،
وتحدق نحوكم الأذهان والأفكار، ويزجر عنكم السانح والبارح، ويستنبأ ما تطرف عنه
العين وتختلج الجوارح، استقراءً لمرامكم، واستطلاعاً لطالع اعتزامكم، واستكشافاً
لمرامي سهامكم، لا سيما مع إقامتكم على جناح خفوق، وظهوركم في ملتمع بروق واضطراب الظنون
فيكم مع الغروب والشروق، حتى تستقر بكم الدار، ويلقى عصاه التسيار، وله العذر في
ذلك إذ صدعها بفراقكم لم يندمل، وسرورها بلقائكم لم يكتمل، فلم يبر بعد جناحها
المهيض، ولا جم ماؤها المغيض، ولا تميزت من داجيها لياليها البيض، ولا استوى
نهارها، ولا تألقت أنوارها، ولا اشتملت نعماؤها، ولا نسيت غماؤها، بل هي كالناقة،
والحديث العهد بالمكاره، تستشعر نفس العافية، وتتمسح منكم باليد الشافية، فبحياتكم
عليها، وعظيم حرمتكم على من لديها، لا تشوبوا لها عذب المجاج بالأجاج، وتقنطوها
مما عودت من طيب المزاج، فما لدائها، وحياة قربكم، غير طبكم من علاج، وإني ليخطر
بخاطري محبةً فيكم، وعنايةً بما يعنيكم، ما نال جانبكم صانه الله بهذا الوطن من الجفاء،
ثم أذكر ما نالكم من حسن العهد وكرم الوفاء، وأن الوطن إحدى المواطن الأظآر التي
يحق لهن جميل الاحتفاء، وما يتعلق بكم من حرمة أولياء القرابة وأولى الصفاء، فيغلب
على ظني، أنكم لحسن العهد أجنح، وبحق نفسكم على أوليائكم أسمح، والتي هي أعظم
قيمةً في فضائلكم أوهب وأمنح، وهب أن الدر لا يحتاج في الإثباب إلى شهادة النحور
واللبات، والياقوت غني المكان، عن مظاهرة القلائد والتيجان، أليس أنه أعلى للعيان
وأبعد عن مكابرة البرهان، تألقها في تاج الملك أنو شروان، والشمس وإن كانت أم
الأنوار وجلاء الأبصار، مهما أغمي مكانها من الأفق، قيل الليل هو أم نهار، وكما في
علمكم ما فارق ذو الأحلام، وأولو الأرحام، مواطن استقرارهم، وأماكن قرارهم، إلا برغمهم
واضطرارهم، واستبدال دراهي خير من دراهم، ومتى توازن الأندلس بالمغرب، أو يعوض
عنها إلا بمكة أو يثرب، ما تحت أديمها أشلاء أولياء وعباد، وما فوقه مرابط جهاد،
ومعاقد ألوية في سبيل الله،ومضارب أوتاد، ثم يبوىء ولده مبوأ أجداده، ويجمع له بين
طرافه وتلاده أعيذ أنظاركم المسددة من رأى فائل، وسعي طويل لم يحل منه بطائل
فحسبكم من هذا الإياب السعيد، والعود الحميد. وهي طويلة.
فأجبته عنها بقولي:
لم في الهوى العذري أو لا تلم ... فالعذل لا يدخل أسماعي
شأنك تعنيفي وشأني الهوى ... كل أمرىءٍ في شأنه ساعي
أهلا بتحفة القادم، وريحانة المنادم، وذكرى الهوى
المتقادم، لا يصغر الله مسراك، فما أسراك، لقد جلبت إلى من همومي ليلا، وجبت خيلا
ورجلا، ووفيت من صاع الوفا كيلا، وظننت بي الأسف على ما فات، فأعملت الالتفات،
لكيلا، فأقسم لو أن الأمر اليوم بيدي، أو كانت اللمة السوداء، من عددي ما أفلت
أشراكي المنصوبة لأمثالك حول المياه وبين المسالك، ولا علمت ما هنالك، لكنك طرقت حمى
كسحته الغارة الشعواء، وغيرت ربعه الأنواء، فخمد بعد ارتجاجه، وسكت أذين دجاجه،
وتلاعبت الرياح والهوج فوق فجاجه، وطال عهده بالزمان الأول، وهل عند رسمٍ دارس من
معول، وحيا الله ندباً إلى زيارتي ندبك، وبآدابه الحكيمة أدبك:
فكان وقد أفاد بك الأماني ... كمن أهدى الشفاء إلى
العليل
وهي شيمةٌ بوركت من شيمة، وهبة الله قبله،من لدن
المشيمة، ومن مثله في صلة رعى، وفضل سعي، وقولٍ ووعي:
قسما بالكواكب الزهر ... والزهر عاتمة
إنما الفضل ملةٌ ... ختمت بابن خاتمة
كساني
حلة وصفه، وقد ذهب زمان التجمل، وحملني ناهض شكره، وكتدي واهٍ عن التحمل، ونظرني
بالعين الكليلة عن العيوب فهلا أجاد التأمل واستطلع طلع نثي، ووالي في مركب
المعجزة حثى، وإنما أشكوبني: ولو ترك القطا ليلا لناما وما حال شمل وتده مفروق،
وقاعدته فروق، وصواع بني أبيه مسروق، وقلب قرحه من عضة الدهر دامٍ، وجمرة حسرته
ذات احتدام، هذا وقد صارت الصغرى، التي كانت الكبرى، لمشيبٍ لم يرع أن هجم، لما
نجم، ثم تهلل عارضه وانسحم:
لا تجمعي هجراً علي وغربةً ... فالهجر في تلف الغريب
سريع
نظرت فإذا الجنب ناب، وانلفس فريسة ظفر وناب، والمال
أكيلة انتهاب، والعمر رهن ذهاب، واليد صفرٌ من كل اكتساب، وسوق المعاد متراميةٌ،
والله سريع الحساب.
ولو نعطي الخيار لما افترقنا ... ولكن لا خيار مع الزمان
وهب أن العمر جديدٌ، وظل الأمن مديدٌ، ورأى الاغتباط
بالوطن سديدٌ، فما الحجة لنفسي، إذا مرت بمطارح جفوتها، وملاعب هفوتها، ومناقب
قناتها، ومظاهر عزاتها ومناتها، والزمان ولود، وزناد الكون غير صلود.
وإذا امرؤ لدغته أفعى مرة ... تركته حين يجر حبل يفرق
ثم أن المرغب قد ذهب، والدهر قد استرجع ما وهب، والعارض
قد اشتهب، وآراء الاكتساب مرجوحة مرفوضةٌ، وأسماؤه على الجوار مخفوضةٌ، والنية مع
الله على الزهد فيما بأيدي الناس معقودةٌ، والتوبة بفضل الله عز وجل شروطها غير معارضة
ولا منقودة، والمعاملة سامرية، ودروع الصبر سابرية، والاقتصاد قد قرت العين
بصحبته، والله قد عوض حب الدنيا بمحبته، فإذا راجعها مثلي من بعد الفراق، وقد رقي
لدغتها ألف راق، وجمعتني بها الحجرة، ما الذي تكون الأجرة، جل شأني، وقد رضي
الوامق وسخط الشاني، إني إلى الله تعالى مهاجر، وللغرض الأدنى هاجر، ولأظعان السرى
زاجر، لأحد إن شاء الله وحاجر، ولكن دعاني إلى الهوى، لهذا المولى المنعم هوى،
خلعت نعلي الوجود وما خلعته، وشوق أمرني فأطعته، وغالب والله صيري فما استطعته،
والحال والله أغلب، وعسى أن لا يخيب المطلب، فإن يسره رضاه فأمل كمل، وراحل احتمل،
وحاد أشجى الناقة والجمل، وإن كان خلاف ذلك، فالزمان جم العوائق، والتسليم بمقامي لائق.
ما بين غمضة عين وانتباهتها ... يصرف الأمر من حال إلى
حال
وأما تفضيله هذا الوطن على غيره، ليمن طيره، وعموم خيره،
وبركة جهاده، وعمران رباه ووهاده، بأشلاء عباده وزهاده حتى لا يفضله إلى أحد
الحرمين، فحقٌ بريٌ من المين، لكنى للحرمين جنحت، وفي جو الشوق إليهما سرحت، فقد
أفضت إلى طريق قصدي محجته، ونصرتني والمنة لله حجته، وقصد سيدي أسنى قصد، توخاه الشكر
والحمد، ومعروفٌ عرف به النكر، وأملٌ انتحاه الفكر، والآمال والحمد لله بعد تمتار،
والله يخلق ما يشاء ويختار ودعاؤه يظهر الغيب مدد، وعدة وعدد، وبره حالي الظعن
والإقامة معتملٌ معتمد، ومجال المعرفة بفضله، لا يحصره أحد، والسلام.
وهو الآن بقيد الحياة وذلك ثاني عشر شعبان عام سبعين
وسبعمائة.
أحمد بن عباس بن أبي زكرياويقال ابن زكريا. ثبت بخط ابن
التيانى، أنصارى النسب، يكنى أبا جعفر.
حالهكان كاتباً حسن الكتابة، بارع الخط فصيحاً، غزير
الأدب، قوي المعرفة، شارعاً في الفقه، مشاركا في العلوم، حاضر الجواب، ذكي الخاطر،
جامعاً للأدوات السلطانية، جميل الوجه، حسن الخلقة، كلفاً بالأدب، مؤثراً له على
سائر لذاته، جامعاً للدواوين العلمية، معنياً بها مقتنياً للجيد منها مغالياً فيها،
نفاعا من خصه بها، لا يستخرج منها شيئاً، لفرط بخله بها، إلا لسبيلها، حتى لقد
أثرى كثيرٌ من الوراقين والتجار معه فيها، وجمع منها ما لم يكن عند ملك.
يساره، يقال إنه لم يجتمع عند أحد من نظرائه ما اجتمع
عنده من عين وورق ودفاتر وخرق، وآنية، ومتاع وأثاث وكراع.
مشيختهروي عن أبي تمام غالب التياني، وأبي عبد الله بن
صاحب الأحباس.
نباهته وحظوتهوزر لزهير العامري الآتي ذكره، وراثاً
الوزارة عن أبيه، وهي ما هي في قطر متحر بينابيع السخلية، وثر بهذه الأمنة مستنداً
إلى قعساء العزة، فتبنك نعيماً كثيراً، تجاوز الله عنه.
دخوله غرناطةالذي اتصل علمي أنه دخل غرناطة منكوباً
حسبما يتقرر.
نكبته
زعموا
أنه كان أقوى الأسباب فيما وقع بين أميره زهير، وبين باديس، أمير غرناطة، من
المفاسدة، وفصل صحبه إلى وقم باديس وقبيله، وحطه في حيز هواه وطاعته، وكان من شاء
الله من استيلاء باديس على جملتهم، ووضع سيوف قومه فيهم، وقتل زهير، واستئصال
محلته، وقبض يومئذ على أحمد بن عباس، وجيء به إلى باديس، وصدره يغلي حقداً عليه،
فأمر بحبسه، وشفاؤه الولوغ في دمه، وعجل عليه بعد دون أصحابه من حملة الأقلام. قال
ابن حيان حديث ابن عباس أنه، كان قد ولع ببيت شعر صيره هجواه أوقات لعبه بالشطرنج،
أو معنى يسنح له مستطيلاً بجده.
عيون الحوادث عني نيامٌ ... وهضمي على الدهر شيء حرام
وشاع بيته هذا عند الناس، وغاظهم حتى قلب له مصراعه بعض
الشعراء فقال: سيوقظها قدرٌ لا ينام فما كان إلا كلا ولا حتى تنبهت الحواث لهضمه،
إنتباهةً انتزعت منه نخوته وعزته، وغادرته أسيراً ذليلاً يرسف في وزن أربعين رطلاً
من قيده، منزعجاً من عضه لساقه البضة، التي تألمت من ضغطة جوربه، يوم أصبح فيه أميراً
مطاعاً أعتى الخلق على بابه، وآمنهم بمكره، فأخذه أخذ مليكٍ مقتدرٍ، والله غالبٌ
على أمره.
وفاتهقال أبو مروان: كان باديس قد أرجأ قتله مع جماعة من
الأسرى، وبذلك في فداء نفسه ثلاثين ألف دينار من الذهب العين، مالت إليها نفس
باديس، إلا إنه عرض ذلك على أخيه بلكين، فأنف منه، وأشار عليه بقتله، لتوقعه إثارة
فتنة أخرى على يديه، تأكل من ماله أضعاف فديته. قال فانصرف يوماً من بعض ركباته مع
أخيه، فلما توسط الدار التي فيها أحمد بقصبة غرناطة، لصق القصر، ووقف هو وأخوه
بلكين، وحاجبه على بن القروى، وأمر بإخراج أحمد إليه، فأقبل يرسف في قيده حتى وقف
بين يديه، فأقبل على سبه وتبكيته بذنوبه، وأحمد يتلطف إليه، ويسأله إراحته مما هو فيه،
فقال له: اليوم تستريح من هذا الألم، وتنتقل إلى ما هو أشد، وجعل يراطن أخاه
بالبربرية، فبان لأحمد وجه الموت، فجعل يكثر الضراعة، ويضاعف عدد المال، فأثار
غضبه، وهز مزراقه، وأخرجه من صدره، فاستغاث الله، زعموا، عند ذلك، وذكر أولاده
وحرمه، للحين أمر باديس بحز رأسه ورمي خارج القصر.
حدث خادم باديس، قال: رأيت جسد ابن عباس ثاني يوم قتله،
ثم قال لي باديس، خذ رأسه ووراه مع جسده، قال: فنبشت قبره، وأضفته إلى جسده، بجنب
أبي الفتوح قتيل باديس أيضاً. وقال لي باديس: ضع عدواً إلى جنب عدو، إلى يوم
القصاص، فكان قتل أبي جعفر عشية الحادي والعشرين من ذي الحجة سنة سبع وعشرين وأربعمائة،
بعد اثنين وخمسين يوماً من أسره. وكان يوم مات ابن ثلاثين. نفعه الله ورحمه.
ابن عطية القضاعيأحمد بن أبي جعفر بن محمد بن عطية
القضاعي من أهل مراكش، وأصله القديم من طرطوشة ثم بعد، من دانية يكنى أبا جعفر.
حالهكان كاتباً بليغاً، سهل المأخذ منقاد القريحة، سيال
الطبع
مشيختهأخذ عن أبيه، وعن طائفة كبيرة من أهل مراكش.
نباهته
كتب
عن علي بن يوسف بن تاشفين، وعن إبه تاشفين، وعن أبي إسحاق وكان أحظى كتابهم. ثم
لما انقطعت دولة لمتونة، دخل في لفيف الناس، وأخفى نفسه. ولما أثار الماسي الهداية
بالسوس، ورمي الموحدين بحجرهم الذي رموا به البلاد، وأعيا أمره، وهزم جيوشهم، التي
جهزوها إليه وانتدب منهم إلى ملاقاته، أبو حفص عمر بن يحيى الهنتاتي، في جيش خشن
من فرسان ورجاله، كان أبو جعفر بن عطية، من الرجالة، مرتسما بالرماية، والتقى
الجمعان، فهزم جيش الماسي، وظهر عليه الموحدون. وقتل الدعي المذكور، وعظم موقع
الفتح عند الأمير الغالب يومئذ أبو حفص عمر، فأراد إعلام الخليفة عبد المؤمن، بما
سناه الله، فلم يلق في جميع من استصحبه من يجلي عنه، ويوفي ما أراده، فذكر له أن
فتًى من الرماة يخاطر بشيء من الأدب والأشعار والرسايل فاستحضره، وعرض عليه غرضه. فتجاهل
وظاهر بالعجز، فلم يقبل عذره، واشتد عليه، فكتب رسالة فائقة مشهورة، فلما فرغ منها
وقرأها عليه اشتد إعجابه بها وأحسن إليه، واعتنى به، واعتقد أنه ذخرٌ يتحف به عبد
المؤمن وأنفذ الرسالة، فلما قرئت بمحضر أكابر الدولة، عظم مقدارها، ونبه فضل
منشيها، وصدر الجواب ومن فصوله الاعتناء بكاتبها، والإحسان إليه واستصحابه مكرماً.
ولما أدخل على عبد المؤمن سأله عن نفسه، وأحظاه لديه وقلده خطة الكتابة، وأسند
إليه وزارته، وفوض إليه النظر في أموره كلها، فنهض بأعباء ما فوض إليه، وظهر فيه
استقلاله وغناؤه، واشتهر بأجمل السعي للناس واستمالتهم بالإحسان وعمت صنايعه، وفشا
معروف، فكان محمود السيرة، منحب المحاولات، ناجح المساعي، سعيد المأخذ، ميسر المآرب،
وكانت وزارته زيناً للوقت، كمالا للدولة.
محنتهقالوا، واستمرت حالته إلى أن بلغ الخليفة عبد
المؤمن أن النصارى غزوا قصبة ألمرية، وتحصنوا بها، واقترن بذلك تقديم ابنه يعقوب
على إشبيلية، فأصحبه أبا جعفر بن عطيه، وأمره أن يتوجه بعد استقرار ولده بها إلى
ألمرية، وقد تقدم إليها السيد أبو سعيد بن عبد المؤمن، وحصر من بها النصارى، وضيق
عليهم، ليحاول أمر إنزالهم، ثم يعود إلى إشبيلية، ويتوجه معها مع واليها، إلى
منازلة الثائر بها على الوهيبي، فعمل على ما حاوله من ذلك، واستنزل النصارى من
ألمرية على العهد بحسن محاولته، ورجع السيد أبو سعيد إلى غرناطة، مزعجين إليها،
حتى يسبقا جيش الطاغية، ثم انصرف إلى إشبيلية ليقضي الغرض من أمر الوهيبي. فعندما خلا منه
الجو، ومن الخليفة مكانه، وجدت حساده، السبيل إلى التدبير عليه، والسعي به، حتى
أوغروا صدر الخليفة، فاستوزر عبد المؤمن ابن عبد السلام بن محمد الكومي. وانبرى
لمطالبة ابن عطية، وجد في التماس عوراته، وتشنيع سقطاته، وأغرى به صنايعه، وشحن
عليه حاشيته، فبروا وراشوا وانقلبوا، وكان مما نقم على أبي جعفر، نكاة القرح
بالقرح، في كونه لم يقف في اصطناع العدد الكثيرمن اللمتونيين، وانتياشهم من
خمولهم، حتى تزوج بنت يحيى الحمار من أمرائهم، وكانت أمهم زينب بنت علي بن يوسف،
فوجدوا السبيل بذلك إلى استئصال شأنته والحكام. حتى نظم منهم مروان بن عبد العزيز،
طليقه ومسترق اصطناعه، أبياتاً طرحت بمجلس عبد المؤمن.
قل للإمام أطال الله مدته ... قولاً تبين لذي لب حقائقه
إن الزراجين قوم قد وترتهم ... وطالب الثأر لم تؤمن
بوائقه
وللوزير إلى آرائهم ميلٌ ... لذاك ما كثرت فيهم علائقه
فبادر الحزم في إطفاء نارهم ... فربما علق عن أمر عوائقه
هم العدو ومن والاهم كهم ... فاحذر عدوك واحذر من يصادقه
الله يعلم أني ناصحٌ لكم ... والحق أبلج لا تخفى طرايقه
قالوا،
ولما وقف عبد المؤمن على هذه الأبيات البليغة في معناها وغر صدره على وزيره الفاضل
أبي جعفر، وأسر له في نفسه تغيراً، فكان ذلك من أسباب نكبته. وقيل أفضى
إليه بسر فأفشاه. وانتهى ذلك كله إلى أبي جعفروهو بالأندلس، فقلق وعجل بالانصراف
إلى مراكش، فحجب عند قدومه، ثم قيد إلى المسجد في اليوم الثاني بعده، حاسر
العمامة، واستحضر الناس على طبقاتهم وقرروا ما يعلمون من أمره وما صار إليهم منه،
فأجاب كل بما اقتضاه هواه، فأمر بسجنه، ولف معه أخوه أبو عقيل عطية، وتوجه عبد
المؤمن في إثر ذلك زايراً إلى تربة المهدي. فاستصحبهما منكوبين بحال ثقاف، وصدرت
عن أبي جعفر في هذه الحركة، من لطايف الأدب، نظما ونثرا في سبيل التوسل بتربة
إمامهم، عجائب لم تجد، مع نفوذ قدر الله فيه، ولما انصرف من وجهته أعادهما معه،
قافلاً إلى مراكش، فلما حاذى تاقمرت، أنفذ الأمر بقتلهما، بالشعراء المتصلة بالحصن
على مقربة من الملاحة هنالك، فمضيا لسبيلهما رحمهما الله.
شعره وكتابتهكان مما خاطب به الخليفة عبد المؤمن
مستعطفاً كما قلناه من رسالة: تالله لو أحاطت بي خطيئةٌ، ولم تنفك نفسي عن الخيرات
بطيئةً، حتى سخرت بمن في الوجود، وأنفت لآدم من السجود، وقلت إن الله لم يوح إلى
الفلك إلى نوح، وبريت لقرار ثمود نبلاً، وأبرمت لحطب نار الخليل حبلاً، وحططت عن
يونس شجرة اليقطين، وأوقدت مع هامان على الطين، وقبضت قبضةً من الطير من أثر
الرسول فنبذتها، وافتريت على العذراء البتول فقذفتها، وكتبت صحيفة القطيعة بدار
الندوة، وظاهرت الأحزاب بالقصوى من العدوة، وذممت كل قرشي، وأكرمت لأجل وحشى كل
حبشي، وقلت إن بيعة السقيفة لا توجب لإمام خليفة، وشحذت شفرة غلام المغيرة بن شعبة،
واعتقلت من حصار الدار وقتل أشمطها بشعبة، وغادرت الوجه من الهامة خضيباً، وناولت
من قرع سن الخمسين قضيباً، ثم أتيت حضرة المعصوم لائذاً، وبقبرالإمام المهدي
عائذاً لقد آن لمقالتي أن تسمع، وأن تغفر لي هذه الخطيئات أجمع:
فعفواً أمير المؤمنين فمن لنا ... بحمل قلوبٍ هدها
الخفقان
عطفاً علينا أمير المؤمنين فقد ... بان العزاء لفرط البث
والحزن
قد أغرقتنا ذنوبٌ كلها لججٌ ... وعطفةٌ منكم أنجى من
السفن
وصادفتنا سهامٌ كلها غرضٌ ... لها ورحمتكم أوقى من الجنن
هيهات للخطب أن تسطو حوادثه ... بمن أجازته رحماكم من
المحن
من جاء عندكم يسعى على ثقة ... بنصره لم يخف بطشاً من
الزمن
فالثوب يطهر بعد الغسل من درن ... والطرف ينهض بعد الركض
من وسن
أنتم بذلتم حياة الخلق كلهم ... من دون من عليهم لا ولا
ثمن
ونحن من بعض من أحييت مكارمكم ... تلك الحياتين من نفسٍ
ومن بدن
وصبية كفراخ الورق من صغر ... لم يألفوا النوح في فرع
ولا فتن
قد أوجدتهم أيادٍ منك سابغة ... والكل لولاك لم يوجد ولم
يكن
ومن فصول رسالته التي كتب بها عن أبي حفص، وهي التي
أورثته الكتابة العلية والوزارة كما تقدم قوله: كتبنا هذا من وادي ماسة بعد ما
تزحزح أمر الله الكريم، ونصر الله المعلوم، وما النصر إلا من عند الله العزيز
الحكيم. فتح بمسرى الأنوار إشراقاً، وأحدق بنفوس المؤمنين إحداقاً، ونبه للأماني النائمة
جفوناً وأحداقاً، واستغرق غاية الشكر استغراقاً، فلا تطيق الألسن كنه وصفه إدراكاً
ولا لحاقاً، جمع أشتات الطب والأدب وتقلب في النعم أكرم منقلب، وملأ دلاء الأمل
إلى عقد الكرب:
فتحٌ تفتح أبواب السماء له ... وتبرز الأرض في أثوابها
القشب
وتقدمت
بشارتنا به جملة، حين لم تعط الحال بشرحه مهلة. كان أولئك الضالون المرتدون قد
بطروا عدواناً وظلماً، واقتطعوا الكفر معني وإسماً، وأملى لهم الله ليزدادوا
إثماً، وكان مقدمهم الشقي قد استمال النفوس بخزعبلاته، واستهوى القلوب بمهولاته،
ونصب له الشيطان من حبالاته، فأتته المخاطبة من بعد وكثب، ونسلت إليه الرسل من كل
حدب، واعتقدته الخواطر أعجب عجب، وكان الذي قادهم لذلك، وأوردهم تلك المهالك، وصول
من بتلك السواحل، ممن ارتسم برسم الانقطاع عن الناس، فيما سلف من الأعوام، واشتغل
على رغمه بالصيام والقيام، آناء الليل والأيام، لبسوا الناموس أثواباً، وتدرعوا
الرياء جلباباً، فلم يفتح الله لهم إلى التوفيق باباً.
ومنها في ذكر صاحبهم: فصرع والحمد لله لحينه، وبادرت إليه
بوادر منونه، وأتته وافدات الخطيئات عن يساره، ويمينه، وكان يدعي أن المنية في هذه
الأعلام لا تصيبه، ويزعم أنه يبشر بذلك والنوائب لا تنوبه، ويقول في سواه قولاً
كثيراً، ويختلق على الله إفكاً وزوراً، فلما عاينوا هيئة اضطجاعه، ورأوا ما خطته
الأسنة في أعضائه، ونفذ فيه من أمر الله ما لم يقدروا على استرجاعه، هزم لهم من
كان لهم من الأحزاب، وتساقطوا على وجوههم كتساقط الذباب، وأعطوا عن بكرة أبيهم
صفحة الرقاب، ولم تقطر كلومهم إلا على الأعقاب، فامتلأت تلك الجهات بأجسادهم،وأذنت
الآجال بانقراض آمالهم، وأخذهم الله بكفرهم وفسادهم، فلم يعاين منهم إلا من خر
صريعاً، وسقى الأرض نجيعاً، ولقي من وقع الهنديات أمراً فظيعاً، ودعت الضرورة
باقيهم إلى الترامي في الوادي، فمن كان يؤمل الفرار منهم ويرتجيه، ويسبح طامعاً في
الخروج إلى ما ينجيه، اختطفته الأسنة اختطافاً، وأذاقته موتاً ذعافاً، ومن لج في
الترامي على لججه، ورام البقاء في ثجه، قضى عليه شرقه، وألوى فرقته غرقه. ودخل
الموحدون إلى الباقية الكائنة فيه، يتناولون قتالهم طعناً وحرباً، ويلقونهم بأمر
الله هوناً عظيماً وكرباً، حتى سطت مراقات الدماء على صفحات الماء، وحكت حمرتها علىزرقه،
حمرة الشفق على زرق السماء، وظهرت العبرة للمعتبر، في جرى الماء جرى الأبحر.
دخوله غرناطةاحتل بغرناطة عام إحدى وخمسين وخمسمائة، لما
استدعى أهل جهات ألمرية، السيد أبا سعيد إلى منازلة من بها النصارى، وحشد، ونزل
عليها، ونصب المجانيق على قصبتها، واستصرخ من بها الطاغية، فأقبل إلى نصرهم،
واستمد السيد أبو سعيد الخليفة، فوجه إليه الكبير أبا جعفر بن عطية صحبة السيد أبي
يعقوب ابنه، فلحق به، واتصل الحصار شهوراً سبعة، وبذل الأمن لمن كان بها، وعادت
إلى ملكة الإسلام، وانصرف الوزير أبو جعفر صحبة السيد أبي يعقوب إلى إشبيلية، وجرت
أثناء هذه الأمور يطول شرحها، ففي أثناء هذه الحركة دخل أبو جعفر غرناطة، وعد فيمن
ورد عليها.
مولدهبمراكش عام سبعة وعشرين وخمسمائة
وفاتهعلى حسب ما تقدم ذكره، لليلة بقيت من صفر سنة ثلاث
وخمسين وخمسمائة.
محمد بن شعيب الكريانيمن أهل فاس، يكنى أبا العباس،
ويعرف بابن شعيب من كريانة، قبيلة من قبائل الريف الغربي.
حالهمن عائد الصلة: من أهل المعرفة بصناعة الطب، وتدقيق
النظر فيها، مشاركاً في الفنون، وخصوصاً في علم الأدب، حافظاً للشعر، ذكر أنه حفظ
منه عشرين ألف بيت للمحدثين، والغالب عليه العلوم الفلسفيه، وقد مقت لذلك، وتهتك
في علم الكمياء، وخلع فيه العذار، فلم يحل بطائل، إلا أنه كان تفوه بالوصول، شنشنة
المفتونين بها على مدى الدهر. وله شعر رائق، وكتابة حسنة، وخط ظريف. كتب في ديوان
سلطان المغرب مرئسا، وتسرى جارية رومية إسمها صبح، من أجمل الجواري حسناً، فأدبها
حتى لقنت حظاً من العربية، ونظمت الشعرن وكان شديد الغرام بها، فهلكت أشد ما كان
حباً لها، وامتداد أمل فيها، فكان بعد وفاتها لا يرى إلا في تأوه دائم، وأسف
متمادٍ، وله فيها أشعار بديعة في غرض الرثاء.
مشيختهقرأ في بلده فاس على كثير من شيوخها، كالأستاذ أبي
عبد الله بن أجروم نزيل فاس، والأستاذ أبي عبد الله بن رشيد، ووصل إلى تونس، فأخذ
منها الطب والهيئة على الشيخ رحلة وقته في تلك الفنون، يعقوب بن الدراس.
وكان
مما خاطب به الشيخ أبا جعفر بن صفوان، وقد نشأت بينهما صداقة أوجبها القدر المشترك
من الولوع بالصنعة المرموزة، يتشوق إلى جهة كانوا يخلون بها للشيخ فيها ضيعة بخارج
مالقة كلأها اللهك
رعى الله وادي شنياية ... وتلك الغدايا وتلك الليال
ومسرحنا بين خضر الغصون ... وودق المياه وسحر الظلال
ومرتعنا تحت أدواحه ... ومكرعنا في النمير الزلال
نشاهد منها كعرض الحسام ... إذا ما انتشت فوقه كالعوال
ولله من در حصبائه ... لآلٍ وأحسن بها من لآل
وليلٍ به في ستور الغصون ... كخودٍ ترنم فوق الحجال
وأسحاره كيف راقت وص ... ح النسيم بها في اعتدال
ولله منك أبا جعفر ... عميد الحلال حميد الخلال
تطارحني برموز الكنو ... ز وتسفر لي عن معاني المعال
وتبدلني في شجون الحديث ... ويا طيبة كل سحرٍ حلالٍ
فألقط من فيك سحر البيان ... مجيباً به عن عريض النوال
أفدت الذي دونها معشرٌ ... كثير المقال قليل النوال
فأصبحت لا أبتغي بعدها ... سواك وبعد كما لا أبال
وخاطب الفقيه العالم أبا جعفر بن صفوان يسأله عن شيء من
علم الصناعة بما نصه:
دار الهوى نجدٌ وساكنها ... أقصى أماني النفس من نجد
ومما صدر به رسالة:
أيجمع هذا الشمل بعد شتاته ... ويوصل هذا الحبل بعد
انبتاته
أما للبلي آية عيسويةٌ ... فينشر ميت الأنس بعد مماته
ويورد عيني بعد ملح مدامعي ... برؤيته في عذبه وفراته
وأنشد له صاحبنا الفقيه الجليل صاحب العلامة بالمغرب،
أبو القاسم بن صفوان قوله:
يا رب ظبي شعاره نسك ... ألحاظه في الورى لها فتك
يترك من هام به مكتئباً ... لا تعجبوا أن قومه الترك
أشكو له ما لقيت من حرق ... فيمش لاهياً إذا أشكو
صبرت حتى أطل عارضه ... فكان صبري ختامه مسك
ومن المعاتبة والفكاهة قوله:
وبائعٌ للكتب يبتاعها ... بأرخص السوم وأغلاه
في نصف الاستذكار أعط ... يته ومحض العين وأرضاه
وله أيضاً:
يا من توعدني بحادث هجره ... إن السلو لدون ما يتوعد
هذا عذارك وهو موضع سلوتي ... فأكفف فقد سبق الوعيد الموعد
وأظن سلوتنا غداً أو بعده ... فبذاك خبرنا الغراب الأسود
وله أيضاً:
قال العذول تنقصاً لجماله ... هذا حبيبك قد أطل عذاره
لا بل بدا فصل الربيع بخده ... فلذا تساوي ليله ونهاره
وله يرثي:
يا قبر صبحٍ حل فيك ... بمهجتي أسنى الأمان
وغدوت بعد عيانها ... أشهى البقاع إلى العيان
أخشى المنية إنها ... تقصي مكانك عن مكان
كم بين مقبور بف ... اس وقابر بالقيروان
وله أيضاً يرثيها:
يا صاحب القبر الذي أعلامه درست ... وثابت حبه لم يدرس
ما اليأس منك على التصبر حاملي ... أيأستني فكأنني لم
أيأس
لما ذهبت بكل حسن أصبحت ... نفسي تعاني شجو كل الأنفس
أصباح أيامي ليال كلها ... لا تنجلي عن صبحك المتنفس
وقال في ذلك:
أعلمت ما صنع الفراق ... غداة جد به الوفاق
ووقفت منهم حين للنا ... ظرات والدمع استباق
سبقت مطاياهم فما ... أبطى بنفسك في السباق
أأطقت حمل صدودهم ... للبين خطبٌ لا يطاق
عن ذات عرق أصعدوا ... أتقول دارهم العراق
نزلوا ببرقة ثمهد ... فلذاك ما شئت البراق
وتيامنوا عفان أن ... يقفوا بمجتمع الرفاق
ما
ضرهم وهم المنى ... لو وافقوا بعض الرفاق
قالوا تفرقنا غداً ... فشغلت عن وعد التلاق
عمداً رأوا قتل العمي ... د فكان عيشك في اتفاق
أولى لجسمك أن يرق ... وجمع عينك أن يراق
أما الفؤاد فعندهم ... دعه ودعوى الاشتياق
أعتاد حب محلهم ... فمحل صدرك عنه ضاق
واها لسالفة الشبا ... ب مضت بأيامي الرقاق
أبقت حرارة لوعةٍ ... بين الترايب والتراق
لا تنطفي وورودها ... من أدمعي كأسٌ دهاق
وقال أيضاً:
يا موحشي والبعد دون لقائه ... أدعوك عن شحطٍ وإن لم
تسمع
يدنيك مني الشوق حتى إنني ... لأراك رأى العين لولا
أدمعي
وأحن شوقاً للنسيم إذا سرى ... لحديثكم وأصيح كالمستطلع
كان اللقا فكان حظي ناظري ... وسط الفراق فصار حظي مسمع
فابعث خيالك تهده نار الحشي ... إن كان يجهل من مقامي
موضع
واصحبه من نومي بتحفة قادم ... فصدى فليل ركابكم لم تجمع
دخوله غرناطةدخل غرناطة على عهد السابع من ملوكها الأمير
محمد لقربٍ من ولايته في بعض شئونه، وحقق بها تغيير أمر الأدوية المنفردة التي
يتشوف الطيب إليها والشحرور وهي بقرية شون من خارجها.
وفاته رحمه الله، توفي بتونس في يوم عيد الأضحى من سنة
تسع وأربعين وسبعمائة.
ابن عرفة اللخميأحمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن
محمد بن أحمد ابن محمد بن حسين بن علي بن سليمان بن عرفة اللخمي الفقيه، الرئيس،
المتفنن، حامل راية مذهب الشعر في وقته، المشار إليه بالبنان في ذلك ببلده، يكنى
أبا العباس.
حالهكان فذاً في الأدب، طرفاً في الإدراك، مهذب الشمايل،
ذلق اللسان، ممتع المجالسة والمحاضرة، حلو الفكاهة، يرمي كل غرضٍ بسهم، إلى شرف
النشأة وعز المرتبة، وكرم المحتد، وأصالة الرياسة.
حدثني الشيخ أبو زكريا بن هذيل، قال: حضرت بمجلس ذي
الوزارتين أبي عبد الله بن الحكيم، وأبو العباس بدر هالته، وقطب جلالته، فلم يحر
بشيءٍ إلا ركض فيه، وتكلم بملىء فيها. ثم قمنا إلى زبارين يصلحون شجرة عنب، فقال
لعريفهم حق هذا أن يقصر، ويطال هذا، ويعمل كذا. فقال الوزير، يا أبا العباس ما
تركت لهؤلاء أيضاً، حظاً من صناعتهم، يستحقون به الأجرة، فعجبنا من استحضاره
ووساعة ذرعه، وامتداد حظ كفايته.
قدومه على غرناطةقدم عليها مع الجملة من قومه عند تغلب
الدولة النصرية على بلدهم، ونزول البلاء والغلاء والمحنة بهم، والجلاء بهم في آخر عام
خمسة وسبعمائة، ويأتي التعريف بهم، بعد إن شاء الله، وكان أوفر الدواعي في
الاستعطاف لهم بما تقدم بين يدي أدعيائهم، ودخولهم على السلطان، أن الذي تنخل
بمثله السخائم، وتذهب الإحن، وخطب لنفسه، فاستمرت، حاله لطيف المنزلة، معروف
المكانة، ملازماً مجلس مدبر الدولة، مرسوماً بصداقته، مشتملاً عليه ببره، إلى أن
كان من تقلب الحال، وإدالة الدولة، ما كان.
شعرهوشعره نمطٌ عال، ومحل البراعة حال، لطيف الهبوب،
غزير المائية، أنيق الديباجة، جم المحاسن، فمنه في مذهب المدح، يخاطب ذا الوزارتين
أبا عبد الله ابن الحكيم:
تملكت رقي بالجمال فأجمل ... وحكمت قلبي بجورك فاعدل
أنت الأمير على الملاح ومن يجر ... في حكمه إلا جفونك
يعزل
إن قيل أنت البدر فالفضل الذي ... لك بالكمال ونقصه لم
يجهل
لولا الحظوظ لكنت أنت مكانه ... ولكان دونك في الحضيض
الأسفل
عيناك نازلنا القلوب فكلها ... إما جريحٌ أو مصاب المقتل
هزت ظباها بعد كسر جفونها ... فأصيب قلبي في الرعيل
الأول
ما زلت أعذل في هواك ولم يزل ... سمعي عن العذال فيك
بمعزل
أصبحت في شغل بحبك شاغلٍ ... عن أن أصيخ إلى كلام العذل
لم أهمل الكتمان لكن أدمعي ... هملت ولو لم تعصني لم
تهمل
جمع
الصحيحين الوفاء مع الهوى ... قلبي وأملي الدمع كشف المشكل
ما في الجنوب ولا الشمال جواب ما ... أهدي إليك مع الصبا
والشمال
خلساً له من طيب عرفك نفحة ... تجيء بها دماء عليلها
المتعلل
إن كنت بعدي حلت عما لم أحل ... عنه وأهملت الذي لم أهمل
أو حالت الأحوال فاستبدلت بي ... فإن حبي فيك لم يستبدل
لاقيت بعدك ما لو أن أقله ... لاقي الثرى لأذاب صم
الجندل
وحملت في حبك ما لو حملت ... شم الجبال أخفه لم تحمل
من حيف دهرٍ بالحوادث مقدمٍ ... حتى على حبس الهزبر
المشبل
قد كنت منه قبل كر صروفه ... فوق السنام فصرت تحت الكلكل
ونصول شيبٍ قد ألم بلمتي ... وخضاب أبي شيبة لم تنصل
ينوي الإقامة ما بقيت وأقسمت ... لا تنزل اللذات ما لم
يرحل
ومسير ظعنٍ ودان حميمه ... لاقي الحمام وإنه لم يفعل
يطوي على جسدي الضلوع فقلبه ... بأواره يغلي كغلي المرجل
في صدره ما ليس في صدري له ... من مثله مثقال حبة خردل
أعرضت عنه ولو أشف لذمة ... شعري لجرعة نقيع الحنظل
جليت في حلبات سبق لم يكن ... فيها بمرتاح ولا بمرمل
ما ضره سبقيه في زمن مضى ... أن المجلي فيه دون الفسكل
ساءته مني عجرفية قلبٍ ... باقٍ على مر الحوادث حول
متحرقٌ في البذل مدة سيره ... متجلدٌ في عسره متجمل
حتى يثوب له الغنى من ماجد ... بقضاء حاجات الكرام موكل
مثل الوزير ابن الحكيم وماله ... مثلٌ يقوم مقامه متمثل
ساد الورى بحديثه وقديمه ... في الحال والماضي وفي
المستقبل
من بيت مجد قد سمت بقبابه ... أقيال لخمٍ في الزمان
الأول
سامي الدعائم طال بيت وزارة ... ومشاجع وأبي الفوارس
نهشل
يلقى الوفود ببسط وجهٍ مشرق ... تجلو طلاقته هموم
المجتلى
فلآملي جدواه حول فنائه ... لقط القطا الأسراب حول
المنهل
وإذا نحى بالعدل فصل قضية ... لم تحظ فصلا من إطالة مفصل
يقضي على سخب الخصوم وشغبهم ... ويقيم مغريهم مقام
المزمل
ويلقن الحج العيى تحرجاً ... من رامحٍ عند اللجاج وأعزل
فإذا قضى صور المحق بحقه ... عنه وحاق عقابه بالمبطل
عجلٌ على من يستحق مثوبةً ... فإذا استحق عقوبة لم يعجل
يا كافي الإسلام كل عظيمة ... ومعيده غضاً كأن لم يذبل
وقال أيضاً يمدحه بقصيدة من مطولاته، وإنما اجتلبت من
مدحه للوزير ابن الحكيم لكونه يمدح أديباً ناقداً، وبليغاً بالكلام بصيراً،
والإجادة تلزم فيه منظومه، إذ لا يوسع القريحة فيه عذراً، ولا يقبل من الطمع
قدماً، وهي:
أما الرسوم فلم ترق لما بي ... واستعجمت عن أن ترد جوابي
واستبدلت بوحوشها من أن ... سٍ بيض الوجوه كواعب أتراب
ولقد وقفت بها أرقرق عبرةً ... حتى اشتكي طول الوقوف
صحاب
يبكي لطول بكاي في عرصاتها ... صحبي ورجعت الحنين ركاب
ومن شعره في المقطوعات غير المطولات:
لم يبق ذو عين لم يسبه ... وجهك من زين بلا مين
فلاح بينهما طالعاً ... كأنه القمر بلامين
ومن ذلك قوله:
كأنما الخال مصباحٌ بوجنته ... هبت عواصف أنفاسي فعطف
أو نقطةٌ قطرت في الخد إذ رسمت ... خط الجمال بخط اللام
والألف
ومن ذلك قوله:
وعدتني أن تزور يا أملي ... فلم أزل للطريق مرتقبا
حتى
إذا الشمس للغروب دنت ... وصيرت من لجينها ذهبا
أنسني البدر منك حين بدا ... لأنه لو ظهرت لاحتجبا
ومن ذلك قوله:
هجركم ما لي عليه جلد ... فأعيدوا إلى الرضى أو فعدوا
ما قسى قلبي من هجرانكم ... ولقد طال عليه الأمد
ومن ذلك قوله:
أبدي عذارك عذري في الغرام به ... وزادني شغفاً فيه إلى
شغف
كأنه ظن أني قد نسيت له ... عهداً فعرض باللام والألف
ومما هو أطول من المزدوجات قوله:
ويوم كساه الدجى دكن ثيابه ... وهبت نسيم الروض وهو عليل
ولاحت بأفلاك الأفق كواكبٌ ... لها في البدور الطالعات
أفول
وجالت جياد الراح بالراح جولةً ... فلم تحل إلا والوقار
قتيل
ومن ذلك:
عذلوني فيمن أحب وقالوا ... دب ثمل العذار في وجنتيه
وكذا النمل كلما حل شيئاً ... منع النفس أن تميل إليه
قلت قبل العذار أعذر فيه ... ثم من بعده ألام عليه
إنما دب نحو شهدٍ بفيه ... فلذاك انتهى إلى شفتيه
وإحسانه كثير، ومثله لا يقنع منه بيسير.
وفاتهقال في عائد الصلة: ولما كان من تغلب الحال، وإدالة
الدولة، وخلع الأمير، وقتل وزيره، يوم عيد الفطر من سنة سبع وسبعمائة، وانتهبت دار
الوزير، ونالت الأيدي يومئذ، من شمله دهليز بابه، من أعيان الطبقات، وأولى الخطط
والرتب، ومنهم أبو العباس هذا رحمه الله، فأفلت تحت سلاحٍ مشهورٍ، وحيز مرقوف،
وثوب مسلوف، فأصابته بسبب ذلك علة أياماً، إلى أن أودت به، فقضت عليه بغرناطة، في
الثامن والعشرين لذي حجة من سنة سبع وسبعمائة، ودفن بمقبرة الغرباء من الربيط عبر
الوادي تجاه قصور نجد، رحمة الله عليه.
أحمد بن علي المليانيمن أهل مراكش، يكنى أبا عبد الله
وأبا العباس.
صاحب العلامة بالمغرب، الكاتب الشهير البعيد الشأن في
اقتضاء الثرة، المثل المضروب في العفة، وقوة الصريمة، ونفاذ العزيمة.
حالهكان نبيه البيت، شهير الأصالة، رفيع المكانة، على
سجية غريبة كانت فيه من الوقار والانقباض، والصمت. أخذ بحظ من الصب، حسن الخط،
مليح الكتابة، قارضاً للشعر، يذهب نفسه في كل مذهب.
وصمتهفتك فتكة شنيعة أساءت الظن بحملة الأقلام على مر
الدهر، وانتقل إلى الأندلس بعد مشقة، وجرى ذكره في كتاب الإكليل بما نصه: الصارم،
الفاتك، والكاتب الباتك، أبي اضطرابٍ في وقار، وتجهمٍ تحته أنس عقار، اتخذه صاحب
المغرب، صاحب علامته. وتوجه تاج كرامته، وكان يطالب جملة من أشياخ مراكش بثأر عمه،
ويطوقهم دمه بزعمه، ويقصر على الاستبصار منهم بنات همه، إذ سعوا فيه حتى اعتقل، ثم
جدوا في أمره حتى قتل، فترصد كتاباً إلى مراكش يتضمن أمراً جزماً، ويشل من أمور الملك
عزماً، جعل الأمر فيه بضرب رقابهم، وسبي أسبابهم، ولما أكد على حامله في العجل
وضياقه في تقدير الأجل، تأنى حتى علم أنه قد وصل، وأن غرضه قد حصل، فر إلى تلمسان،
وهي بحال حصارها، فاتصل بأنصارها، حالا بين أنوفها وأبصارها، وتعجب من فراره، وسوء
اغتراره، ورجحت الظنون في آثاره. ثم اتصلت الأخبار بتمام الحيلة، واستيلاء القتل
على أعلام تلك القبيلة، وتركها شنعة على الأيام، وعاراً في الأقاليم على حملة
الأقلام، وأقام بتلمسان إلى أن حل مخنق حصارها، وأزيل اللقيان الضيقة عن خصرها،
فلحق بالأندلس، فلم يعدم براً ورعياً مستمراً، حتى أتاه حمامه، وانصرمت أيامه.
شعرهمن الذي يدل على بره وانفساخ خطاه في النفاسة، وبعد
شأوه، قوله:
العز ما ضربت عليه قبابي ... والفضل ما اشتملت عليه
ثيابي
والزهر ما أهداه غصن براعتي ... والمسك ما أبداه نقش
كتابي
والمجد يمنع أن يزاحم موردي ... والعزم يأبى أن يسام
جناني
فإذا بلوت صنيعةً جازيتها ... بجميل شكري أو جزيل ثوابي
وإذا عقدت مودة أجريتها ... مجرى طعامي من دمي وشرابي
وإذا طلبت من الفراقد والسهى ... ثأراً فأوشك أن أنال
طلابي
وفاته
توفي
رحمه الله يوم السبت تاسع ربيع الآخر عام خمسة عشر وسبعمائة، ودفن بجبانة باب
إلبيرة، تجاوز الله عنه.
الزياتأحمد بن محمد بن عيسى الأموي يكنى أبا جعفر، ويعرف
بالزيات
حالهمن أهل الخير والصلاح والأتباع، مفتوح عليهأع في
طريق الله، نير الباطن والظاهر، مطرح التصنع، مستدل، مجانب للدنيا وأهلها، صادق
الخواطر، مرسل اللسان بذكر الله، مبذول النصيحة، مثابر على اتباع السنة، عارف
بطريق الصوفيه، ثبت القدم عند زلاتها، ناطق بالحكمة على الأمية، جميل اللقاء، متوغل
في الكلف بالجهاد، مرتبط للخيل، مبادر للهيعة، حريص على الشهادة، بركة من بركات
الله في الأندلس، يعز وجوده مثله.
وفاتهتوفي رحمه الله ببلده غرناطة، يوم الخميس الثاني
والعشرين لجمادى الثانية من عام خمسة وستين وسبعمائة، وشارف الإكتهال.
الزيات الكلاعيأحمد بن الحسن بن علي بن الزيات الكلاعي
من أهل بلش مالقة، يكنى أبا جعفر، ويعرف بالزيات، الخطيب، المتصوف الشهير.
حالهمن عائد الصلة: كان جليل القدر كثير العبادة، عظيم
الوقار، حسن الخلق، مخفوض الجناح، متألق البشر، مبذول المؤانسة، يذكر بالسلف الصالح،
في حسن شيمته، وإعراب لفظه، مزدحم المجلس، كثير الإفادة، صبوراً على الغاشية، واضح
البيان فارس المنابر غير مدافع مستحق التصدر في ذلك، بشروط قلما كملت عند غيره، منها
حسن الصورة، وكمال الأبهة، وجهورية الصوت، وطيب النغمة، وعدم التهيب، والقدرة على
الإنشاء، وغلبة الخشوع، إلى التفنن في كثير من المآخذ العلمية، والرياسة في تجويد
القرآن، والمشاركة في العربية، والفقه، والعربية، والأدب، والعروض، والمحاسة في
الأصلين، والحفظ للتفسير.
قال لي شيخنا أبو البركات بن الحاج، وقد جرى ذكر
الخطابة: ما رأيت في استيفائها مثله.
كان يفتح مجالس تدريسه أكثر الأحيان، بخطب غريبة، يطبق
بها مفاصل الأغراض، التي يشرع في التكلم فيها، وينظم الشعر دائماً في مراجعاته
ومخاطباته، وإجازاته، من غير تأن ولا روية، حتى اعتاده ملكةً بطبعه، واستعمل في السفارة
بين الملوك، لدحض السخائم، وإصلاح الأمور، فكانوا يوجبون حقه، ويلتمون بركته،
ويلتمسون دعاءه.
مشيختهتحمل العلم عن جملة، منهم خاله الفقيه الحكيم أبو
جعفر أحمد بن علي المذحجي من أهل الحمة، من ذوي المعرفة بالقرآن والفرائض، ومنهم
القاضي أبو علي الحسين بن أبي الأحوص الفهري، أخذ عنه قراءةً وإجازة، ومنهم العارف
الرباني، أبو الحسن فضل بن فضيلة، أخذ عنه طريقة الصوفيه وعليه سلك، وبه تأدب،
وبينهما في ذلك مخاطبات، ومنهم أبو الزهر ربيع بن محمد بن ربيع الأشعري، وأبو عبد
الله محمد بن يحيى أخوه، ومنهم أبو الفضل عياض ابن محمد بن عياض بن موسى، قرأ عليه
ببلش وأجاز له، ومنهم الأستاذ أبو جعفر ابن الزبير، والأستاذ أبو الحسن التجلي،
وأبو محمد بن سماك، وأبو جعفر بن الطباع، وأبو جعفر بن يوسف الهاشمي الطنجلي، والأستاذ
النحوي أبو الحسن بن الصائغ، والكاتب الأديب أبو علي بن رشيق التغلبي، والراوية
أبو الحسن بن مستقور الطائي، والإمام أبو الحسن بن أبي الربيع، والأستاذ أبو إسحاق
الغافقي الميربي، والإمام العارف أبو محمد عبد العظيم بن الشيخ البلوي، بما كان من
إجازته العامة لكل من أدرك عام أحد وأربعين وستمائة، وغير هؤلاء ممن يشق إحصاؤهم.
تصانيفه
كثيرة،
منها المسماة بالمقام المخزون في الكلام الموزون، والقصيدة المسماة بالمشرف الأصفى
في المأدب الأوفى، وكلاهما ينيف على الألف بيت، ونظم السلوك في شيم الملوك،
والمجتني النضير والمقتني الخطير، والعبارة الوجيزة عن الإشارة، واللطائف
الروحانية والعوارف الربانية. ومن تواليفه: أس مبنى العلم، وأس معنى الحلم، في
مقدمة علم الكلام، ولذات السمع من القراءات السبع، نظماً، ورصف نفائس اللآلى، ووصف
عرائس المعالي، في النحو، وقاعدة البيان وضابطة اللسان، في العربية، ولهجة اللافظ
وبهجة الحافظ، والأرجوزة المسماة بقرة عين السائل وبغية نفس الآمل، في اختصار
السيرة النبوية، والوصايا النظامية في القوافي الثلاثية، وكتاب عدة الداعي، وعمدة
الواعي، وكتاب عليه السلام عوارف الكرم، وصلات الإحسان، فيما حواه العين من لطائف
الحكم وخلق الإنسان، وكتاب جوامع الأشراف والعنايات، في الصوادع والآيات، والنفحة
الوسيمة والمنحة الجسيمة، تشتمل على أربع قواعد اعتقادية وأصوليه وفروعية
وتحقيقية، وكتاب شروف المفارق في اختصار كتاب المشارق، وتلخيص الدلالة في تخليص الرسالة،
وشذور الذهب في صروم الخطب، وفائدة الملتقط وعائدة المغتبط، وكتاب عدة المحق وتحفة
المستحق.
نثرهمن ذلك خطبة ألغيت الألف من حروفها، على كثرة ترددها
في الكلام وتصرفها، وهي: حمدت ربي جل من كريم محمود، وشكرته عز من عظيم موجود،
ونزهته عن جهل كل ملحد كفور، وقدسته عن قول كل مفسد غرور، كبير لو تقدم، في فهم
نجد، قدير لو تصور في رسم لحد، لو عدته فكرة التصور لتصور ولو حدته فكرة لتعذر،
ولو فهمت له كيفية لبطل قدمه، ولو علمت له كيفية لحصل عدمه، ولو حصره، طرفٌ لقطع
بتجسمه، ولو قهره وصفٌ لصدع بتقسمه، ولو فرض له شبحٌ لرهقه كيف، ولو عرض له، للحق
عجلٌ وريث، عظيم من غير تركب قطر، عليمٌ من غير ترتب فكر، موجود من غير شيء يمسكه،
معبود من غير وهم يدركه، كريمٌ من غير عوض يلحقه، حكيم من غير عرضٍ يلحقه، قوي من
غير سببٍ يجمعه، عليٌّ من غير سبب يرفعه، لو وجد له جنس لعورض في قيموميته، ولو
ثبت له حسٌّ لنوزع في ديموميته.
ومنها: تقدس عن لم فعله، وتنزه عن سم فضله، وجل عن ثم
قدرته، وعز عن عم عزته، وعظمت عن من صفته، وكثرت عن كم منته، فتق ورتق صور وحلق،
وقطع ووصل، ونصر وخذل، حمدته حمد من عرف ربه، ورهب ذنبه، وصفت حقيقة يقينه قلبه،
وذكرت بصيرة دينه لبه، فنهض لوعي بشروط نفضته وحد، وربط سلك سلوكه وشيد، وهدم صرح
عتوه وهد، وحرس معقل عقله وحد، طرد غرور غرته ورذله، علم علم تحقيق فنحا نحوه،
وتفرد له عز وجل بثبوت ربوبيته وقدمه، ونعتقد صدور كل جوهر وعرض عن جوده وكرمه،
ونشهد بتبليغ محمد صلى ربه عليه وسلم، رسوله وخير خلقه، ونعلن بنهوضه في تبيين
فرضه، وتبليغ شرعه، ضرب قبة شرعه، فنسخت كل شرع، وجدد عزيمته فقمع عدوه خير قمع،
قوم كل مقوم بقويم سمته، وكريم هديه، وبين لقومه كيف يركنون فوره بقصده، وسديد
سعيه، بشر مطيعه، فظفر برحمته، وحذر عاصيه فشقي بنقمته.
وبعد فقد نصحتم لو كنتم تعلقون، وهديتم لو كنتم تعملون،
وبصرتم لو كنتم تبصرون، وذكرتم لو كنت تذكرون، وظهرت لكم حقيقة نشركم وبرزت لكم
خبيئة حشركم، فلم تركضون في طلق غفلتكم، وتغفلون عن يوم بعثكم، وللموت عليكم سيفٌ
مسلول، وحكم عزم غير معلوم، فكيف بكم يوم يؤخذ كل بذنبه، ويخبر بجميع كسبه، ويفرق
بينه وبين صحبه، ويعدم نصرة حزبه، ويشغل بهمه وكربه، عن صديقه وتربه، وتنشر له
رقعته وتعين له بقعته، فربح عبدٌ نظر وهو في مهل لنفسه، وترسل في رضى عمله جنةً لحلول
رمسه، وكسر صم شهوته ليقر في بحبوحة قدسه، وحصر بنظر ينزله سرير سروره بين عقله
وجسمه.
ومنها: فتنبه ويحك من سنتك ونومك وتفكر فيمن هلك من صحبك
وقومك، هتف بهم من تعلم، وشب عليهم من حرق مظلم، فخربت بصيحته ربوعهم، وتفرقت
لهوله جموعهم، وذل عزيزهم، وخسي رفيعهم، وصم سميعهم، فخرج كل منهم عن قصره، ورمي
غير موسد في قبره، فهم بين سعيدٍ في روضته مقرب، وبين شقي في حفرته معذب، فنستوهب
منه عز وجل عصمته من كل خطيئة، وخصوصية تقي من كل نفس جريئة.
كتب إلى شيخنا الوزير، ابن ذي الوزارتين، ابن الحكيم،
جواباً عن مخاطبة كتبها إليه يلتمس منه وصايته ونصحه هذا الشعر:
جل
اسم مولانا اللطيف الخبير ... وعز في سلطانه عن نظير
هو الذي أوجد ما فوقها ... وتحتها وهو العليم الخبير
ثم صلاة الله تترى على ... ياقوتة الكون البشير النذير
وصحبه الأولى نالوا مرأى ... يرجع عنه العرف وهو الحسير
وبعد فأنفسهم جوهر ... للأرواح منه ما للأثير
فإنك استدعيت من ناصر ... نصحاً طويلاً وهو منه قصير
ولست أهلا أن أرى ناصحاً ... لقلة الصدق وخبث الضمير
وإنما يحسن نصح الورى ... من ليس للشرع عليه نكير
ومستحيلٌ أن يقود امرأً ... يد امرىءٍ واهي المباني ضرير
واعجبا يلتمس الخير من ... معتقل العقل مهيض كسير
لكن إذا لم يكن بدٌّ فعن ... جهد أوفيك بتبر يسير
فالقنه إن كنت به قانعاً ... درا نظيماً يزدري بالنثير
لازم أبا بكر على منهج ... ذاك تفز منه بخير كثير
واقنع بما يكفي ودع غيره ... فإنما الدنيا هباءٌ نشير
بني لا يخدعنك هذي الدنا ... فإنها والله شيء حقير
أين المشيدات أما زلزلت ... أين أخو الإيوان أين السدير
أين أبو شروان أضحى كأن ... لم يك أين المعتدي أزدشير
هذا مقالٌ من وعاه اهتدي ... وحيط من كل مخوف مبير
وصى أبو بكر به أحمدا ... وأحمد في الوقت شيخ كبير
إنقرضت أيامه وانتهى ... وهناً ومن قبل أتاه النذير
وها هو اليوم على عدة ... مبرمه للشر وما من عذير
ومن شعره في طريقة الذي كان ينتحله:
شهود ذاتك شيء عنك محجوب ... لو كنت تدركه لم يبق مطلوب
علوٌ وسفل ومن هذا وذاك معا ... دور على نقطة الإشراق
منصوب
ومنزل النفس منه ميمٌ مذكرة ... إن صح للغرض الظنى مرغوب
وإن تناءت مساويها فمنزلها ... أوج الكمال وتحت الروح
تقليب
والروح إن لم تخنه النفس قام له ... في حضرة الملك تخصيص
وتقريب
ومن شعره:
دعني على حكم الهوى أتضرع ... فعسى يلين لنا الحبيب
ويخشع
إني وجدت أخا التضرع فايزاً ... بمراده ومن الدعا ما
يسمع
أهلا وما شيء بأنفع للفتى ... من أن يذل عسى التذلل ينفع
وامح اسم نفسك طالباً إثباته ... واقنع بتفريقٍ لعلك
تجمع
واخضع فمن دأب المحب خضوعه ... ولربما نال المنى من يخضع
ومن شعره:
مالي ببابٍ غير بابك موقف ... لا ولا لي عن فنائك مصرف
هذا مقامي ما حييت فإن أمت ... فالذل مأوى للضراعة مألف
غرضي وأنت به عليم لمحةٌ ... تذر الشتيت الشمل وهو مؤلف
وعليك ليس على سواك معولي ... جاروا على لأجل ذا أو
أنصفوا
ومن المقطوعات في التجنيس:
يقال خصال أهل العلم ألفٌ ... ومن جمع الخصال الألف سادا
ويجمعها الصلاح فمن تعدي ... مذاهبه فقد جمع الفسادا
ومنه في المعنى:
إن شئت فوزاً بمطلوب الكرام غداً ... فاسلك من العمل
المرضى منهاجا
واغلب هوى النفس لا تغررك خادعة ... فكل شيء يحط القدر
منهاجا
دخوله غرناطة: دخل غرناطة مراراً عدة تشذ عن الحصر،
أوجبتها الدواعي بطول عمره، من طلب العلم وروايته، وحاجة عامة، واستدعاء سلطان،
وقدوم من سفارة. كان الناس ينسالون عليه ويغشون منزله، فيما أدركت، كلما تبوأ
ضيافة السلطان، تبر كابه، وأخذاً عنه.
مولدهولد ببلش بلده في حدود تسع وأربعين وستمائة.
وفاتهتوفي ببلش سحر يوم الأربعاء السابع عشر من شوال عام
ثمانية وعشرين وسبعمائة. وممن رثاه شيخنا، نسيج وحده، العالم الصالح الفاضل، أبو الحسن
بن الجياب بقصيدة أولها:
على
مثله خضابة الدهر فاجع ... تفيض نفوسٌ لا تفيض المدامع
ورثاه شيخنا القاضي أبو بكر بن شبرين رحمه الله، بقصيدة
أولها:
أيساعد رائده الأمل ... أم يسمع سائله الطلل
يا صاح فديتك ما فعلت ... ذا من الأحباب وما فعلوا
فأجاب الدمع مناديه ... أما الأحباب فقد رحلوا
ورثاه من هذه البلدة طائفة، منهم الشيخ الأديب أبومحمد
بن المرابع الآتي اسمه في العيادة له، بحول الله، بقصيدة أولها:
أدعوك ذا جزع لو أنك سامع ... ماذا أقول ودمع عيني هامع
وأنشد خامس يوم دفنه قصيدة أولها:
عبرة تفيض حزناً وثكلا ... وشجونٌ تعم بعضاً وكلا
ليس إلا صبابة أضرمتها ... حسرةٌ تبعث الأسى ليس إلا
وهي حسنة طويلة.
إبراهيم بن محمد بن مفرج
بن همشك
المتأمر،
رومي الأصل.
أوليتهمفرج أو همشك، من أجداده، نصراني أسلم على يدي أحد
ملوك بني هود بسرقسطة، نزح إليهم، وكان مقطوع إحدى الأذنين، فكان النصارى إذا رأوه
في القتال عرفوه، وقالوا هامشك، معناه ترى المقطوع الأذن، إذ ها عندهم قريب مما هي
في اللغة العربي، والمشك المقطوع الأذنين في لغتهم.
نباهته وظهورهولما خرج بنو هود عن سرقسطة، نشأ تحت خمول،
إلا أنه شهم متحرك، خدم بعض الموحدين في الصيد، وتوسل بدلالة الأرض، ثم نزع إلى
ملك قشتالة واستقر مع النصارى، ثم انصرف إلى بقية اللمتونيين بالأندلس بعد شفاعة
وإظهار توبة. ولما ولي يحيى بن غانية قرطبة، إرتسم لديه برسمه. ثم كانت الفتنة عام
تسعة وثلاثين وثار ابن حمدين بقرطبة، وتسمى بأمير المؤمنين، فبعثه رسولا ثقة
بكفايته ودربته وعجمة لسانه، لمحاولة الصلح بينه وبين ابن حمدين، فأغنى ونبه قدره،
ثم غلى مرجل الفتنة وكثر الثوار بالأندلس، فاتصل بالأمير ابن عياض بالشرق وغيره، إلى
أن تمكن له الامتزاز بحصن شفوبش، ثم تغلب على مدينه شقورة وتملكها وهي ما هي من
النعمة، فغلظ أمره، وساوى محمد بن مردنيش أمير الشرق وداخله، حتى عقد معه صهراً
على ابنته، فاتصلت له الرياسة والإمارة. وكان يعد سيفاً لصهره المذكور، مسلطاً على
من عصاه، فقاد الجيوش، وافتتح البلاد إلى أن فسد ما بينهما، فتفاتنا وتقاطعا،
وانحاز بما لديه من البلاد والمعاقل، وعد من ثوار الأندلس أولى الشوكة الحادة، والبأس
الشديد، والشبا المرهوب. وآثاره بعد انقباض دولته تشهد بما تأمل من ملك وسلف من
الدولة والدار الآخرة خير لمن اتقى. قال ابن صفوان:
وديار شكوى الزمان فتشك ... حدثتنا عن عزة ابن همشك
حالهقال محمد بن أيوب بن غالب، المدعو بابن حمامة: أبو
إسحاق الرئيس، شجاع بهمة من البهم. كان رئيساً شجاعاً مقداماً شديد الحزم، سديد
الرأي، عارفاً بتدبير الحرب، حمى الأنف، عظيم السطوة، مشهور الإقدام مرتكباً
للعظيمة، قال بعض من عرف به من المؤرخين، وهو وإن كان قائد فرسان، هو حليف فتنه
وعدوان، ولم يصحب قط متشرعاً، ولا نشأ في أصحابه من كان متورعاً، سلطه الله على
الخلق، وأملى له فأضر بمن جاوره من أهل البلاد، وحبب إليه العيث في العباد.
سيرتهكان جباراً قاسياً، فظا غليظاً، شديد النكال، عظيم
الجرأة والعبث بالخلق، بلغ من عيثه فيهم، إحراقهم بالنار، وقذفهم من الشواهق
والأبراج، وإخراج الأعصاب والرباطات عن ظهورهم، عن أوتار القسي بزعمه، وضم أغصان
الشجر العادي بعضها إلى بعض، وربط الإنسان بينها، ثم تسريحها، حتى يذهب كل غصن
بحظه من الأعضاء، ورآه بعض الصالحين في النوم بعد موته، وسأله ما فعل الله بك فأنشده:
من سره العيث في الدنيا بخلقة من ... يصور الخلق في
الأرحام كيف يشا
فليصبر اليوم صبري تحت بطشته ... مغللا يمتطي جمر الغضا
فرشا
شجاعته
زعموا
أنه خرج من المواضع التي كانت لنصره متصيداً، وفي صحبته محاولو اللهو، وقارعو
أوتار الغناء، في مائة من الفرسان، ونقاوة أصحابه، فما راعهم إلا خيل العدو هاجمه
على غرة، في مائتي فارس ضعف عددهم، فقالوا العدو في مائتي فارس، فقال وإذا كنتم
أنتم لمائة، وأنا لمائة، فنحن قدرهم، فعد نفسه بمائة. ثم استدعى قدحاً من شرابه، وصرف وجهه
إلى المغني، وقال أعد لي تلك الأبيات، كان يغنيه بها فتعجبه:
يتلقى الندا بوجهٍ حي ... وصدور القنا بوجه وقاح
هكذا هكذا تكون المعالي ... طرق الجد غير طرق المزاح
فغناه بها، واستقبل العدو، وحمل عليه بنفسه وأصحابه،
حملة رجل واحد، فاستولت على العدو الهزيمة، وأتى على معظمهم القتل، ورجع غانماً
إلى بلده. ثم ضربت الأيام، وعاود التصيد في موضعه ذلك، وأطلق بازه على حجلة،
فأخذها وذهب ليذكيها، فلم يحضره خنجر ذلك الغرض في الوقت، فبينما هو يلتمسه، إذ
رأى نصلاً من نصال المعترك من بقايا يوم الهزيمة، فأخذه من التراب، وذبح به الطائر،
ونزل واستدعى الشراب، وأمر المغني فغناه بيتي أبي الطيب:
تذكرت ما بين العذيب وبارقٍ ... مجر عوالينا ومجرى
السوابق
وصحبة قوم يذبحون قنيصهم ... بفضلات ما قد كسروا في
المفارق
وقد رأيت من يروي هذه الحكاية عن أمراء بني مردنيش، وعلى
كل حال فهي من مستظرف الأخبار.
دخوله غرناطةقالوا وفي سنة ست وخمسين وخمسمائة، في جمادى
الأولى منها، قصد إبراهيم ابن همشك بجمعه مدينة غرناطة، وداخل طائفة من ناسها، وقد
تشاغل الموحدون بما دهمهم من اختلاف الكلمة عليهم بالمغرب، وتوجه الوالي بغرناطة السيد
أبي سعيد إلى العدوة، فاقتحمها ليلاً واعتصم الموحدون بقصبتها، فأجاز بهم بأنواع
الحرب، ونصب عليهم المجانيق، ورمى فيها من ظفر به منهم وقتلهم بأنواع من القتل.
وعندما اتصل الخبر بالسيد أبي سعيد، بادر إليها فأجاز البحر، والتف به السيد أبو
محمد بن أبي حفص بجميع جيوش الموحدين والأندلس، ووصل الجميع إلى ظاهر غرناطة،
وأصحر إليهم ابن همشك، وبرز منها، فالتقى الفريقان بمرج الرقاد من خارجها، ودارت
الحرب بينهم، فانهزم جيش الموحدين، واعترضت الفل تخوم الفدادين وجداول المياه التي
تتخلل المرج، فاستولى عليهم القتل، وقتل في الوقيعة السيد أبو محمد، ولحق السيد
أبو سعيد، بمالقة، وعاد ابن همشك إلى غرناطة فدخلها بجملةٍ من أسرى القوم، أفحش
فيهم المثلة، بمرأى من إخوانهم المحصورين، واتصل الخبر بالخليفة بمراكش، وهو
بمقربة سلا، قد فرغ من أمر عدوه، فجهز جيشاً، أصحبه السيد أبا يعقوب ولده، والشيخ
أبا يوسف بن سليمان زعيم وقته، وداهية زمانه، فأجازوا البحر والتقوا بالسيد أبي سعيد
بمالقة، وتتابع الجمع، والتف بهم من أهل الجهاد من المطوعة، واتصل منهم السير إلى
قرية دلر من قرى غرناطة، وكان من استمرار الهزيمة على ابن همشك الذي أمده بنفسه
وجيشه، من نصارى وغيرهم، ما يأتي ذكره عند اسم ابن مردنيش في الموحدين، في حرف
الميم بحول الله تعالى.
إنخلاعه للموحدين عما بيده وجوازه للعدوة، ووفاته بها
قالوا، ولما فسد ما بينه وبين ابن مردنيش بسبب بنته التي كانت تحت الأمير أبي محمد
بن مردنيش إلى أن طلقها، وانصرفت إلى أبيها، وأسلمت إليه ابنها منه، مختارة كنف
أبيها إبراهيم، نازعة في انصرامه إلى عروقها، فلقد حكي أنها سئلت عن ولدها، وإمكان
صبرها عنه، فقالت: جرو كلبٍ، جرو سوءٍ، من كلب سوءٍ لا حاجة لي به، فأرسلت كلمتها في
نساء الأندلس مثلاً، فاشتدت بينهما الوحشة والفتنة، وعظمت المحنة، وهلك بينهما من
الرعايا الممرورين، المضطرين، بقنينه الثوار ممن شاء الله بهلاكه، إلى أن كان أقوى
الأٍسباب في تدمير ملكه.
ولما صرف ابن سعد عزمه إلى بلاده، وتغلب على كثير منها،
خدم ابن همشك الموحدين ولاذ بهم وساتجارهم، فأجاز البحر، فقدم على الخليفة عام
خمسة وستين وخمسمائة، وأقره بمواضعه، إلى أوائل عام أحد وسبعين، فطولب بالانصراف
إلى العدوة بأهله وولده، وأسكن مكناسة وأقطع بها سآماً لها خطر واتصلت تحت عنايته
إلى أن هلك.
وفاته:
قالوا، واستمر مقام ابن همشك بمكناسة غير كبير، وابتلاه الله بفالج غريب الأغراض،
شديد سوء المزاج، إلى أن هلك، فكان يدخل الحمام الحار، فيشكو حره بأعلى صراخه،
فيخرج فيشكو البرد كذلك، إلى أن مضى سبيله.
إبراهيم ابن أمير المسلمين أبي الحسنإبراهيم بن أمير
المسلمين أبي الحسن بن أمير المسلمين أبي سعيد عثمان بن أمير المسلمين أبي يوسف
يعقوب بن عبد الحق يكنى أبا سالم.
أوليتهالشمس تخبر عن حلي وعن حلل. فهو البيت الشهير،
والجلال الخطير، والملك الكبير، والفلك الأثير ملاك المسلمين، وحماة الدين، وأمراء
المغرب الأقصى من بني مرين، غيوت المواهب، وليوث العرين، ومعتمد الصريخ، وسهام
الكافرين. أبوه السلطان أبو الحسن، الملك الكبير، البعيد شأو الصيت والهمة
والعزيمة، والتحلي بحلى السنة، والإقامة لرسوم الملك، والاضطلاع بالهمة، والصبر
عند الشدة. وأخوة أمير المسلمين، فذلكة الحسب، ونير النصبة، وبدرة المعدن، وبيت
القصيد، أبو عنان، فارس الملك الكبير، العالم المتحير، العامل النظار الجواد،
الشجاع، القسور، الفصيح، مدد السعادة، الذي خرق الله به سياج العادة، فما عسى أن
يطلب اللسان، وأين تقع العبارة، وماذا يحصر الوصف، عين هذا المجد فوارة، وحسب هذا
الحسب اشتهاره، قولا بالحق، وبعداً عن الإطراء، ونشراً للواء النصفة، حفظ الله على
الإسلام ظلهم، وزين ببدور الدين والدنيا هالتهم، وأبقى الكلمة فيمن اختاره منهم.
حالهكان شاباً كما تطلع وجهه، حسن الهيئة، ظاهر الحياء
والوقار، قليل الكلام، صليفة عن اللفظ، آدم اللون، ظاهر السكون والحيرية والحشمة،
فاضلاً، متخلقاً، قدمه أبوه، أمير الرتبة، موفي الألقاب، بوطن سجلماسة، وهي عمالة
ملكهم، فاستحق الرتبة في هذا الباب بمزيد هذه الرتبة المشترط لأول تأليفه. ولما قبضه
الله عليه، واختار له ما عنده، أحوج ما كانت الحال إلى من ينظم الشت، ويجمع
الكلمة، ويصون الدما سبحانه أحوج ما كانت الدنيا إليه، وصير إلى وارثه طواعيه
وقسراً ومستحقاً وغلاباً، وسلماً، وذاتاً وكسباً، السلطان أخيه، تحصل هو وأخ له
اسمه محمد، وكنيته أبو الفضل، يأتي التعريف بحاله في مكانه إن شاء الله، فأبقى،
وأغضى، واجتنب الهوى، وأجاب داعي البر والشفقة والتقوى، فصرفهما إلى الأندلس،
باشرت إركابها البحر بمدينة سلا ثاني اليوم الذي انصرفت من بابه، وصدرت عن بحر
جوده، وأفضت بإمامة عنايته، مصحباً بما يعرض لسان الثناء من صنوف كرامته، في غرض
السفارة عن السلطان بالأندلس، تغمده الله برحمته، ونزل مربلة من بلاد الأندلس
المصروفة إلى نظره، واصلاً السير إلى غرناطة.
دخوله غرناطة
قدم
هو وأخوه عليها، يوم عشرين من جمادى الأولى، من عام اثنين وخمسين وسبعمائة. وبرز
السلطان إلى لقائهما، إبلاغا في التجلة، وانحطاطاً في ذمة التخلق، فسعياً إلى
مرتجلين، وفاوضهما، حتى قضيت الحقوق، واستفرجت تفقده وجرايته، وخلا بأحظى الأمكنة،
واحتفيا في سرير مجلسه مقسومٌ بينهما الحظ، من هشته ولحظته، فأما محمد فسولت له
نفسه الأطماع، واستفزته الأهواء، أمراً كان قاطع أجله، وسعد أخيه اختاره الله من دونه.
وأما إبراهيم المترجم به، فجنح إلى أهل العافية، بعد أن ناله اعتقال، بسبب إرضاء
أخيه أمير المسلمين فارس، في الأخريات لشهر ذي الحجة من عام تسعة وخمسين وسبعمائة،
وتقديم ولده الصبي، المكنى بأبي بكر، المسمى بسعيد، لنظر وزيره في الحزم والكفاية،
حركه الاستدعاء، وأقلقته الأطماع وهب به السائل. وعرض بغرضه إلى صاحب الأمر
بالأندلس، ورفق عن صبوحه، فشكا إلى غير مصمت، فخرج من الحضرة ليلا من بعض مجاري
المياه، راكباً للخطر، في أخريات جمادى الأولى من العام بالحضرة المكتبة الجوار،
من ثغور العدو، ولحق بملك قشتالة، وهو يومئذ بإشبيلية، قد شرع في تجريةٍ إلى عدوه
من برجلونه، فطرح عليه نفسه، وعرض عليه مخاطبات استدعائه، ودس له المطامع المرتبطة
بحصول غايته، فقبل سعايته، وجهز له جفناً من أساطيله، أركب فيه، في طائفة تحريكه،
وطعن بحر المغرب إلى ساحل أزمور، وأقام به منتظراً إلى إنجاز المواعد، ممن بمراكش،
فألفى الناس قد حطبوا في حبل منصور بن سليمان، وبايعوه بجملتهم، فأخفق مسعاه،
وأخلف ظنه، وقد أخذ منصور بمخنق البلد الجديد دار ملك فاس، واستوثق له الأمر،
فانصرف الجفن أرداجه. ولما حاذى لبلاد غمارة من أحواز أصيلاً، تنادوا به قومٌ
منهم. وانحدروا إليه، ووعدوه الوفاء له فنزل إليهم، واحتملوه فوق أكتادهم، وأحدقوا
به في سفح جبلهم، وتنافسوا في الذب عنه، ثم كبسوا أصيلاً فملكوها وضيق بطنجة، فدخلت
في أمره، واقتدت بها سبتة، وجبل الفتح، واتصل به بعض الخاصة، وخاطبة الوزير المحصور،
وتخاذل أشياع منصور، فخذلوه، وفروا عنه جهاراً، بغير علة، وانصرفت الوجوه إلى
السلطان أبي سالم، فأخذ بيعاتهم عفوا،ودخل البلد المحصور، وقد تردد بينه وبين
الوزير المحصور، مخاطبات في رد الدعوة إليه، فدخل البلد يوم الخميس خامس عشرة
شعبان من عام التاريخ، واستقر وجدد الله عليه أمره، وأعاد ملكه، وصرف عليه حقه،
وبلى هذا الأمير من سير الناس إلى تجديد عهد أبيه، وطاعتهم إلى أمره، وجنوحهم إلى
طاعته، وتمني مدته، حال غريبة، صارت عن كثبٍ إلى أضدادها، فصرف ولده إلى اجتناث
شجرة أبيه، فالتقط من الصبية بين مراهق ومحتلم ومستجمع، طائفة تناهز العشرين،
غلماناً ردنة، قتلوا إغراقاً من غير شفعة توجب إباحة قطرة من دمائهم، ورأى أن قد
خلاله الجو، فتواكل، وآثر الحجبة، وأشرك الأيدي في ملكه، فاستبيحت أموال الرعايا،
وضافت الجبايات، وكثرت الظلامات، وأخذ الناس حرمان العطاء، وانفتحت أبواب الإرجاف،
وحدت أبواب القواطع، إلى أن كل من أمره ما هو معروف.
وفي أول من شهر رجب عام واحد وستين وسبعمائة، تحرك
الحركة العظمى إلى تلمسان، وقد استدعى الجهات، وبعض البلاد، ونهد في جيوش تجر
الشوك والحجر، ففر سلطانها أمام عزمه، وطار الذعر بين يدي الضلالة، وكنا قد
استغثنا القرار في إيالته، وانتهى بنا الإزعاج إلى ساحل سلا من ساحل مملكته،
فخاطبته وأنا يومئذٍ مقيم بتربة أبيه، متذممٌ بها، في سبيل استخلاص أملاكي
بالأندلس، في غرض التهنئة والتوسل: مولاي فتاح الأقطار والأمصار، فائدة الزمان
والأعصار، أثير هبات الله الآمنة من الاعتصار، قدوة أولى الأيدي والأبصار.
وفاته
وفي
ليلة العشرين من شهر ذي قعدة من عام اثنين وستين وسبعمائة، ثار عليه بدار الملك،
وبلد الإمارة المعروف بالبلد الجديد، من مدينة فاس، الغادر مخلفه عليها عمر بن عبد
الله بن علي، نسمة السوء، وجملة الشؤم، المثل البعيد في الجرأة على قدر، اهتبل غرة
انتقاله، إلى القصر السلطاني، بالبلد القديم، محتولا إليه حذراً من قاطع فكلي
الجدر منه استعجله ضعف نفسه، وأعانه على فرض صحته به، وسد الباب في وجهه، ودعا
الناس إلى بيعة أخيه المعتوه، وأصبح حائراً بنفسه، يروم استرجاع أمر ذهب من يده،
ويطوف بالبلد، يلتمس وجهاً إلى نجاح حيلته، فأعياه ذلك ورشقت من معه السهام، وفرت
عنه الأجناد والوجوه، وأسلمه الدهر، وتبرأ منه الجد، وعندما جن عليه الليل، فر على
وجهه، وقد التفت عليه الوزراء، وقد سفهت أحلامهم، وفالت آرائهم، ولو قصدوا به بعض الجبال
المنيعة، لو لوا وجوههم شطر مظنة الخلاص، واتصفوا بعذار الإقلاع، ولكنهم نكلوا
عنه،ورجعوا أدراجهم، وتسللوا راجعين إلى بر غادر الجملة، وقد سلبهم الله لباس
الحياء والرجلة، وتأذن الله لهم بسوء العاقبة، وقصد بعض بيوت البادية، وقد فضحه
نهار الغداة، واقتفى البعث أثره، حتى وقعوا عليه، وسيق إلى مصرعه، وقتل بظاهر
البلد، ثاني اليوم الذي كان غدر فيها، جعلها الله له شهادة ونفعه بها، فلقد كان
بقية البيت، وآخر القوم، دماثة وحياء، وبعداً عن الشر، وركوناً للعافية.
وأنشدت على قبره الذي ووريت به جئته بالقلعة من ظاهر
المدينة، قصيدة أديت فيها بعض حقه:
بني الدنيا بني لمع السراب ... لدوا للموت وابنوا للخراب
إبراهيم بن يحيى الهنتانيإبراهيم بن يحيى بن عبد الواحد
بن أبي حفص عمر بن يحيى الهنتاني، أبو إسحاق أمير المؤمنين بتونس، وبلاد إفريقية،
ابن الأمير أبي زكريا، أمير إفريقية، وأصل الملوك المتأثلين العز بها، والفرع الذي
دوح بها، من فروع الموحدين بالمغرب، واستجلابه بها أبا محمد عبد المؤمن بن علي، أبا
الملوك من قومه، وتغلب ذريته على المغرب وإفريقية والأندلس معروف كله يفتقر بسطه
إلى إطالة كثيرة، تخرج عن الغرض.
وكان جد هؤلاء الملوك من أصحاب المهدي، في العشرة الذين
هبوا لبيعته وصحبوه في غربته، أبو حفص، عمر بن يحيى، ولم يزل هو وولده من بعده
مرفوع القدر معروف الحق.
ولما صار الأمر للناصر أبي عبد الله بن المنصور، أبي
يوسف يعقوب بن عبد المؤمن بن علي، صرف وجهه إلى إفريقية ونزل بالمهدية، وتلوك إليه
ابن غانية فيمن لغه من العرب والأوباش، في جيش يسوق الشجر والمدر، فجهز إلى لقائه
عسكراً لنظر الشيخ أبي محمد عبد الواحد، بن أبي حفص، جدهم الأقرب، فخرج من ظاهر
المهدية في أهبة ضخمة، وتعبية محكمة، والتقى الجمعان فكانت على ابن غانية، الدايرة،
ونصر الشيخ محمد نصراً لا كفاء له، وفي ذلك يقول أحمد بن خالد من شعر عندهم:
فتوحٌ بها شدت عرى الملك والدين ... تراقب منا منكم غير
ممنون
وفتحت المهدية على هيئة ذلك الفتح، وانصرف الناصر إلى
تونس، ثم تفقد البلاد، وأحكم ثقافها، وشرع في الإياب إلى المغرب، وترجج عنده تقديم
أبي محمد بن أبي حفص المصنوع له بإفريقية، على ملكها، مستظهراً منه بمضاء وسابقة
وحزم، بسط يده في الأموال وجعل إليه النظر في جميع الأمور، سنة ثلاث وستمائة، ثم كان
اللقاء بينه وبين ابن غانية في سنة ست بعدها، فهزم ابن غانية، واستولى على محلته،
فاتصل سعده، وتوالى ظهره، إلى أن هلك مشايعاً لقومه من بني عبد المؤمن، مظاهراً
بدعوتهم عام تسعة وعشرين وستمائة.
وولي
أمره بعده، كبير ولده، عبد الله، على عهد المستنصر بالله بن الناصر من ملوكهم، وقد
كان الشيخ أبو محمد زوحم، عند اختلال الدولة، بالسيد أبي العلاء الكبير، عم أبي
المستنصر على أن يكون له اسم الإمارة بقصبة تونس، والشيخ أبو محمد على ما لسائر
نظره، فبقي ولده عبد الله على ذلك بعد، إلى أن كان ما هو أيضاً معروف من تصير
الأمر إلى المأمون أبي العلاء إدريس، ووقعه السيف في وجوه الدولة بمراكش، وأخذه
بثرة أخيه وعمه منهم. وثار أهل الأندلس على السيد أبي الربيع بعده بإشبيلية
وجعجعوا بهم، وأخذوا في التشريد بهم، وتبديد دعوتهم، واضطربت الأمور، وكثر الخلاف،
ولحق الأمير أبو زكريا بأخيه بإفريقية، وعرض عليه الاستبداد، فأنف من ذلك، وأنكره
عليه إنكاراً شديداً، خاف منه على نفسه، فلحق بقابس فاراً، واستجمع بها مع شيخها
مكى، وسلف شيوخها اليوم من بني مكي، فمهد له، وتلقاه بالرحب، وخاطب له الموحدين
سراً، فوعدوه بذلك، عند خروج عبد الله من تونس إلى الحركة، من جهة القيروان. فلما
تحرك نحوا عليه، وطلبوا منه المال، وتلكأ فاستدعوا أخاه الأمير أبا زكريا، فلم
يرعه وهو قاعد في خبائه آمنٌ في سربه، إلا ثورة الجند به، والقبض عليه، ثم طردوه إلى
مراكش، وقعد أخوه الأمير أبو زكريا مقعده، وأخذ بيعة الجند والخاصة لنفسه، مسبتداً
بأمره، ورحل إلى تونس، فأخذ بيعة العامة، وقتل السيد الذي كان بقصبتها، وقبض أهل
بجاية حين بلغهم الخبر على واليها السيد أبي عمران، فقبلوه تغريقاً، وانتظمت
الدولة، وتأثل الأمر، وكان حازماً داهية مشاركا في الطلب أديباً راجح العقل، أصيل
الرأي، حسن السياسة، مصنوعاً له، موفقاً في تدبيره، جبي الأموال، واقتنى العدد،
واصطنع الرجال، واستكثر من الجيش، وهزم العرب، وافتتح البلاد، وعظمت الأمنة بينه
وبين الخليفة بمراكش الملقب بالسعيد، وعزم كل منهما على ملاقاة صاحبه، فأبى القدر
ذلك، فكان من مهلك السعيد بظاهر تلمسان، ما هو معروف، واتصل بأبي زكريا هلك ولده
ولي العهد أبي يحيى ببجاية، فعظم عليه حزنه وأفرط جزعه، واشتهر من رثائه فيه قوله:
ألا جازعٌ يبكي لفقد حبيبه ... فإني لعمري قد أضر بي
الثكل
لقد كان لي مالٌ وأهل فقدتهم ... فهأنا لا مالٌ لدي أهل
ولا أهل
سأبكي وأرثي حسرةً لفراقهم ... بكاء قريحٍ لا يمل ولا
يسل
فلهفي ليوم فرق الدهر بيننا ... ألا فرجٌ يرجى فينتظم
الشمل
وإني لأرضى بالقضاء وحكمه ... وأعلم ربي أنه حاكم عدل
نسبه ابن عذاري المراكشي في البيان المغرب. واعتل بطريقه
فمات ببلد العناب لانقضاء أربعة من مهلك السعيد، وكان موت السعيد، يوم الثلاثاء
منسلخ صفر سنة ست وأربعين وستمائة. وبويع ولده الأمير أبو عبد الله بتونس وسنه
إحدى وعشرين سنة، فوجد ملكاً مؤسساً، وجنداً مجنداً، وسلطاناً قاهراً، ومالا وافراً،
فبلغ الغاية في الجبروت والتيه والنخوة والصلف، وتسمي بأمير المؤمنين. وتلقب
بالمستنصر بالله، ونقم عليه أرباب دولته أموراً، أوجبت مداخلة عمه أبي عبد الله بن
عبد الواحدالمعروف باللحياني، ومبايعته سراً بداره، وانتهى الخبر للمستنصر، فعاجل
الأمر قبل انتشاره برأي الحزمة من خاصته، كابن أبي الحسين، وأبي جميل بن أبي
الحملات بن مردنيش، وظافر الكبير، وقصدوا دار عمه فكبسوها، فقتلوا من كان بها،
وعدتهم تناهز خمسين، منهم عمه، فسكن الإرجاف، وسلم المنازع، وأعطت مقادها، واستمرت
أيامه، وأخباره في الجود والجرأة، والتعاظم على ملوك زمانه، مشهورة. وكانت وفاته سنة
أربع وسبعين وستمائة. وولي أمره بعده ابنه الملقب بالواثق بالله، وكان مضعوفاً ولم
تطل مدته.
عاد الحديث، وكان عمه المترجم، لما اتصل به مهلك أخيه
المستنصر، قد أجاز البحر من الأندلس، ولحق بتلمسان، وداخل كثيراً، من الموحدين
بها، كأبي هلال، فهيأ له أبو هلال تملك بجاية، ثم تحرك إلى تونس فتغلب عليها، فقتل
الواثق، وطائفة من إخوته وبنيه، منهم صبيٌ يسمى الفضل، وكان أنهضهم، واستبد
بالأمر، رتمت بيعته بإفريقية، وكان من الأمر ما يذكر.
حاله
كان
أيدا، جميلاً وسمياً، ربعة بادنا، آدم اللون، شجاعاً بهمةً، عجلاً غير مراخٍ، ولا
حازم، منحطا في هوى نفسه، منقاداً للذته، بريئاً من التشمت في جميع أمره. وولي
الخلافة في حال كبره، ووخطه الشيب، وآثر اللهو، حتى زعموا أنه فقد فوجد في مزرعة
باقلاً مزهرةٍ ألفى فيها بعد جهد نائماً بينها، نشوان يتناثر عليه سقطها، واحتجب
عن مباشرة سلطانه، فزعموا أن خالصته أبا الحسن بن سهل، داخل الناس بولده أبي فارس،
في خلعه، والقيام مكانه، وبلغه ذلك، فاستعد وتأهب، واستركب الجند، ودعا ولده،
فأحضره ينتظر الموت من يمينه وشماله، وأمر للحين فقتل وطرح بأزقة المدينة، وعجل
بإزعاج ولده إلى بجاية، وعاد إلى حاله.
دخوله غرناطةقالوا، ولما أوقع الأمير المستنصر بعمه أبي عبد
الله، كان أخوه أبو إسحاق، ممن فر بنفسه إلى الأندلس، ولجأ إلى أميرها أبي عبد
الله بن الغالب بالله أبي عبد الله بن نصر، ثاني ملوكهم فنوه به، وأكرم نزله،
وبوأه بحال عنايته، وجعل دار ضيافته لأول نزوله القصر المنسوب إلى السيد خارج
حضرته، وهو آثر قصوره لديه، وحضر غزوات أغزاها ببلاد الروم، فظهر منه في نكاية
العدو وصدامه سهولة وغناء.
ولما اتصل به موت أخيه تعجل الانصراف، ولحق بتلمسان،
وداخل منها كبيراً من الموحدين، يعرف بأبي هلال بباجة كما تقدم، فملكه أبو هلال
منها بجاية، ثم صعد تونس فملكها، فاستولى على ملك ابن أخيه وما ثم من ذمه، وارتكب
الوزر الأعظم فيمن قتل معه، وكان من أمره ما يأتي ذكره إن شاء الله.
إدبار أمره بهلاكه على يد الدعي الذي قيضه الله لهلاك
حينه قالوا، واتهم بعد استيلائه على الأمر فتًى من أخصاء فتيان المستنصر، اسمه
نصير، بمال وذخيرة، وتوجه إليه طلبه، ونال منه. وانتهز الفتى فرصةً لحق فيها
بالمغرب واستقر بحلال المراعمة من عرب دباب، وشارع الفساد عليه، بجملة جهده،
حريصاً على إفساد أمره، وعثر لقضاء الله وقدره بدعي من أهل بجاية يعرف بابن أبي
عمارة.
حدثني الشيخ المسن الحاج أبو عثمان اللواتي من عدول
المياسين متأخر الحياة إلى هذا العهد، قال خضت مع ابن أبي عمارة ببعض الدكاكين
بتونس، وهو يتكهن لنفسه ما آل إليه أمره، ويعد بعض ما جرى به القدر، وكان أشبه
الخلق بأحد الصبية الذين ماتوا ذبحاً، بالأمير أبي إسحاق، وهو الفضل، فلاحت لنصير
وجه حيلته، فبكى حين رآه، وأخبره بشبهه بمولده ووعده الخلافة، فحرك نفساً مهيأة في
عالم الغيب المحجوب إلى ما أبرزته المقادر، فوجده منقاداً لهواه، فأخذ في تلقينه
ألقاب الملك، وأسماء رجاله، وعوايده، وصفة قصوره، وأطلعه على إماراتٍ جرت من المستنصر
لأمراء العرب، سراً كان يعالجها نصير، وعرضه على العرب، بعد أن أظهر العويل، ولبس
الحداد، وأركبه، وسار بين يديه حافياً حزناً لما ألفاه عليه من المضيعة، وأسفاً
لما جرى عليه، فبايعته العرب النافرة، وأشادوا بذكره، وتقووا بما قرره من إمارته
فعظم أمره، واتصل بأبي إسحاق نبأه فبرز إليه، بعد استدعاء ولده من بجاية، فالتقى
الفريقان، وتمت على الأمير أبي إسحاق الهزيمة، واستلحم الكثير ممن كان معه، وهلك
ولده، ولجأ أخوه الأمير أبو حفص لقلعة سنان، وفر هو لوجهه، حتى لحق ببجاية، وعاجله
ابن أبي عمارة، فبعث جريدة من الجند لنظر أشياخ من الموحدين، وأغرت إليهم الإيقاع،
فوصلت إلى بجاية، فظن من رآه من الفل المنهزم، فلم يعترضه معترض عن القصبة. وقبض على
الأمير أبي إسحاق، فطوقه الحمام، واحتز رأسه، وبعث إلى ابن أبي عمارة به، وقد دخل
تونس، واستولى على ملكها، وأقام سنين ثلاثة، أو نحوها في نعماء لا كفاء له، واضطلع
بالأمر، وعاث في بيوت أمواله، وأجرى العظائم على نسائه ورجاله إلى أن فشا أمره،
واستقال الوكن من تمرته فيها، وراجع أرباب الدولة بصايرهم في شأنه، ونهد إليه
الأمير أبو حفص طالباً بثأر أخيه، فاستولى، ودحض عاره، واستأصل شأفته، ومثل به،
والملك لله، الذي لا تزن الدنيا جناح بعوضة عنده.
وفي هذا قلت عند ذكر أبي حفص في الرجز المسمى بنظم
الملوك المشتمل على دول الإسلام أجمع، على اختلافها إلى عهدنا، فمنه في ذكر بني حفص:
ولهم يحيى بن عبد الواحد ... وفضلهم ليس له من جاحد
وهو الذي استبد بالأمور ... وحازها ببيعة الجمهور
وعظمت
في صقعه آثاره ... ونال ملكاً عالياً مقداره
ثم تولى ابنه المستنصر ... وهو الذي علياه لا تنحصر
أصاب ملكا رئيساً أوطانه ... وافق عزاً سامياً سلطانه
ودولةً أموالها مجموعة ... وطاعةً أقوالها مسموعة
فلم تخف من عهدها انتكاثاً ... وعاث في أموالها عياثا
هبت بنصر عزه الرياح ... وسقيت بسعده الرماح
حتى إذا أدركه شرك الردى ... وانتحب النادي عليه والندا
قام ابنه الواثق بالتدبير ... ثم مضى في زمن يسير
سطا عليه العم إبراهيم ... والملك في أربابه عقيم
وعن قريبٍ سلب الإمارة ... عنه الدعي ابن أبي عمارة
عجيبةٌ من لعب الليالي ... ما خطرت لعاقل ببال
واخترم السيف أبا إسحاقا ... أبا هلال لقي المحاقا
واضطربت على الدعي الأحوا ... ل والحق لا يغلبه المحال
ثم أبو حفص سما عن قرب ... وصير الدعي رهين الترب
ورجع الحق إلى أهليه ... وبعده محمد يليه
وهذه الأمور تستدعي الإطالة، مخلةٌ بالغرض، ومقصدي أن
أستوفي ما أمكن من التواريخ التي لم يتضمنها ديوان، وأختصر ما ليس بقريب، والله
ولي الإعانة بمنه.
إبراهيم بن محمد بن مالك الأزديإبراهيم بن محمد بن أبي
القاسم بن أحمد بن محمد ابن سهل بن مالك بن أحمد بن إبراهيم بن مالك الأزدي يكنى
أبا إسحاق.
أوليتهمنزل جدهم الداخل إلى الأندلس قرية شون من عمل، أو
قيل من إقليم إلبيرة. قال ابن البستي: بيتهم في الأزد، ومجدهم ما مثله مجد، حازوا الكمال،
وانفردوا بالأصالة والجلال، مع عفة وصيانة ووقار، وصلاح وديانة، نشأ على ذلك
سلفهم، وتبعهم الآن خلفهم. وذكرهم مطرف بن عيسى في تاريخه، في رجال الأندلس، وقال
ابن مسعدة، وقفت على عقد قديم لسلفي فيه ذكر محمد بن إبراهيم بن مالك الأزدي، وقد
حلى فيه بالوزير الفقيه أبي أحمد بن الوزير الفقيه أبي عمرو إبراهيم، وتاريخ العقد
سنة ثلاث وأربعمائة، فناهيك من رجال تحلوا بالجلالة والطهارة منذ أزيد من أربعمائة
سنة، ويوصفون في عقودهم بالفقه والوزارة منذ ثلاثمائة سنة في وقت كان فيه هذا
المنصب في تحلية الناس، ووصفهم، في نهاية من الضبط والحرز، بحيث لا يتهم فيه
بالتجاوز لأحد، لا سيما في العقود، فكانوا لا يصفون فيه الشخص إلا بما هو الحق فيه
والصدق، وما كان قصدي في هذا إلا أن شرفهم غير واقف عليه، أو مستندٌ في الظهور
إليه، بل ذكرهم على قديم الزمان شهير وقدرهم خطير.
قلت، ولما عقد لولدي عبد الله أسعده الله، على بنت
الوزير أبي الحسن بن الوزير أبي الحسن القاسم بن الوزير أبي عبد الله بن الفقيه
العالم الوزير حزم فخارهم، ومجدد آثارهم، أبي الحسن سهل بن مالك، خاطبت شيخنا أبا
البركات بن الحاج، أعرض ذلك عليه، فكان من نص مراجعته، فسبحان الذي أرشدك لبيت
الستر والعافية والأصالة، وشحوب الأبرار، قاتلك الله ما أجل اختيارك، وخلف هذا
البيت الآن على سنن سلفهم من التحلي بالوزارة، والاقتياد من العظمة الزاكية،
والاستناد القديم الكريم، واغتنام العمر بالنسك، عناية من الله أطرد لهم قانونها، واتصلت
عادتها والله ذو الفضل العظيم.
حالهكل من أهل السر والخصوصية، والصمت والوقار، ذا حظ
وافر من المعرفة، بلسان العرب، ذكي الذهن، متوقد الخاطر، مليح النادرة، شنشنته
معروفة فيهم. سار بسيرة أبيه، وأهل بيته، في الطهارة والعدالة، والعفاف والنزاهة.
وفاته
ابن حرة
إبراهيم
بن فرج بن عبد البر الخولاني من أهل قرطبة، يكنى أبا إسحاق، ويعرف بابن حرة.
أوليتهمن أهل البيوتات بالحضرة، ولي أبوه القهرمة، لثاني
الملوك من بني نصر، فتأثل مالاً ونباهةً.
حاله
هذا
الرجل من أعيان القطر، ووزراء الصقع، وشيوخ الحضرة، أغنى هذه المدرة يداً، وأشغلهم
بالعرض الأدنى نفساً، تحرف بالتجر المربوب في حجر الجاه، ونما ماله، تحاط به الجدات،
وتنمو الأموال، ففار تنورها، وفهق حوضها، كثير الخوض في التصاريف الوقتية، والأدات
الزمانية، وأثمان السلع، وعوارض الأسعار، متبجح بما ظهرت به يده من علق مضنة هرى
المدينة، الذي ينفق على أسواقها، عند ارتفاع القيم، وتمييز الأسعار، وبلوغها الحد
الذي يراه كفؤ حبته، ومنتهى ثمن غلته، غرض الفكر، يخاطب الحيطان والشجر والأساطين،
محاسباً إياها على معاملات وأغراض فنية، يرى من التلبس شيئاً من المعارف والآداب والصنائع،
وحجة من الحجج في الرزق، تغلب عليه السذاجة والصحة، دمثٌ، متخلق، متنزل، مختصر
الملبس والمطعم، كثير التبذل، يعظم الانتفاع به في باب التوسعة، بالتسلف
والمداينة، حسن الخلق كثير التجمل مبتلى بالموقب والطانز: يسمع ذي القحة، ويصم على ذوي المسألة.
ظهوره وحظوتهلبس الحظوة شملة، لم يفارق طرقها رقبته، إذ
كان صهراً للمتغلب على الدولة أبي عبد الله بن المحروق، صار بسهم في جذور خطته،
وألقى في مرقه حظوته، مشتملا على حاله، بعباءة جاهه، ثم صاهر المصير الأمر إليه
بعده القائد الحاجب أبا النعيم رضوان، مولى الدولة النصرية، وهلم جرا، بعد أن
استعمل في السفارة إلى العدوة وقشتالة، في أغراض تليق بمبعثه، مما يوجب فيه
المياسير والوجوه، مشرفين معززين بمن يقوم بوظيفة المخاطبة والجواب، والرد
والقبول، وولى وزارة السلطان، لأول ملكه في طريق من ظاهر جبل الفتح إلى حضرته،
وأياماً يسيرة من أيام اختلاله، إلى أن رغب الخاصة من الأندلسيين في إزالته، وصرف الأمر
إلى الحاجب المذكور، الذي تسقط مع رياسته المنافسة، وترضي به الجملة
محنتهوامتحن هو وأخوه، بالتغريب إلى تونس، عن وطنهما،
على عهد السلطان الثالث من بني نصر. ثم آب عن عهد غير بعيد، ثم أسن واستسر أديمه،
وضجر عن الركوب إلى فلاحته التي هي قرة عينه، وحظ سعادته، يتطارح في سكة المترددين
بإزاء بابه، مباشرٌ الثرى بثوبه، قد سدكت به شكايةٌ شائنة، قلما يفلت منها الشيوخ،
ولا من شركها، فهي تزفه بولاء، بحال تقتحمها العين شعثاً، وبعداً عن النظر، فلم
يطلق الله يده من جدته على يده، فليس في سبيل دواء ولا غذاء إلى أن هلك.
وفاتهفي وسط شوال عام سبعة وخمسين وسبعمائة.
مولدهفي سنة خمس وسبعين وستمائة
ابن المرأةإبراهيم بن يوسف بن دهاق الأوسي إبراهيم بن
يوسف بن محمد بن دهاق الأوسي يكنى أبا إسحاق، ويعرف بابن المرأة.
حالهسكن مالقة دهراً طويلا، ثم انتقل إلى مرسية،
باستدعاء المحدث أبي الفضل المرسي والقاضي أبي بكر بن محرز، وكان متقدماً في علم
الكلام، حافظا ذاكراً للحديث والتفسير، والفقه والتاريخ، وغير ذلك. وكان الكلام
أغلب عليه، فصيح اللسان والقلم، ذاكراً لكلام أهل التصوف، يطرز مجالسه بأخبارهم.
وكان بحراً للجمهور بمالقة ومرسية، بارعاً في ذلك متفنناً له، متقدماً فيه، حسن
الفهم لما يلقيه، له وثوب على التمثيل والتشبيه، فيما يقرب للفهم، مؤثراً للخمول،
قريباً من كل أحد، حسن العشرة، مؤثراً بما لديه. وكان بمالقة يتجر بسوق الغزل، قال
الأستاذ أبو جعفر وقد وصمه، وكان صاحب حيل ونوادر مستظرفة، يلهى بها أصحابه،
ويؤنسهم، ومتطلعاً على أشياء غريبة من الخواص وغيرها، فتن بها بعض الحلبة، واطلع
كثير ممن شاهده على بعض ذلك، وشاهد منه بعضهم ما يمنعه الشرع من المرتكبات
الشنيعة، فنافره وباعده بعد الاختلاف إليه، متهم شيخنا القاضي العدل المسمى الفاضل
أبو بكر بن المرابط رحمه الله، أخبرني من ذلك بما شاهد مما يقبح ذكره، وتبرأ منه
من كان سعى في انتقاله إلى مرسية، والله أعلم بغيبه وضميره.
تواليفهمنها شرحه كتاب الإرشاد لأبي المعالي، وكان يعلقه
من حفظه من غير زيادة وامتداد، وشرح الأسماء الحسنى، وألف جزءا في إجماع الفقهاء،
وشرح محاسن المجالس لأبي العباس أحمد بن العريف. وألف غير ذلك. وتواليفه نافعة في
أبوابها، حسنة الرصف والمباني.
من روى عنه، أبو عبد الله بن أحلى، وأبو محمد عبد الرحمن
بن وصلة.
وفاتهتوفي بمرسية سنة أحد عشر وستمائة.
التلمساني
إبراهيم
بن أبي بكر الأصاري إبراهيم بن أبي بكر بن عبد الله بن موسى الأنصاري تلمساني
وقرشي الأصل، نزل بسبتة، يكنى أبا إسحاق ويعرف بالتلمساني.
حالهكان فقهياً عارفاً بعقد الشروط، مبرزاً في العدد
والفرايض، أديباً، شاعراً، محسنا، ماهراً في كل ما يحاول. نظم في الفرايض وهو ابن
ثمانية وعشرين سنة أرجوزة محكمة بعلمها، ضابطة، عجيبة الوضع. قال ابن عبد الملك،
وخبرت منه في تكراري عليه، تيقظا وحضور ذهن، وتواضعاً، وحسن إقبال وبر، وجميل لقاء
ومعاشرة، وتوسطاً صالحاً فيما يناظر فيه من التواليف، واشتغالاً بما يعنيه من أمر
معاشه، وتخاملا في هيئته ولباسه، يكاد ينحط عن الاقتصاد، حسب المألوف والمعروف بسبتة.
قال ابن الزبير، كان أديباً لغوياً، فاضلا، إماماً في الفرائض.
مشيختهتلا بمالقة علي أبي بكر بن دسمان، وأبي صالح محمد
بن محمد الزاهد، وأبي عبد الله ابن حفيد، وروي بها عن أبي الحسن سهل بن مالك، ولقي
أبا بكر بن محرز، وأجاز له، وكتب إليه مجيزاً، أبو الحسن بن طاهر الدباج، وأبو علي
الشلوبين، ولقي بسبتة، الحسن أبا العباس بن علي بن عصفور الهواري، وأبا المطرف
أحمد ابن عبد الله بن عفيرة، فأجازوا له، وسمع علي بن أبي يعقوب بن موسى الحساني
الغماري.
من روى عنه، روي عنه الكثير ممن عاصره، كأبي عبد الله بن
عبد الملك وغيره.
تواليفهمن ذلك الأرجوزة الشهيرة في الفرائض، لم يصنف في
فنها أحسن منها. ومنظوماته في السير، وأمداح النبي، صلى الله عليه وسلم، من ذلك
المعشرات على أوزان العرب، وقصيدة في المولد الكريم، وله مقالة في علم العروض
الدوبيتي.
شعرهوشعره كثير، مبرز الطبقة بين العالي والوسط، منحازاً
أكثر إلى الإجادة جمة، وتقع له الأمور العجيبة فيه كقوله:
الغدر في الناس شيمة سلفت ... قد طال بين الورى تصرفها
ما كل من سرت له نعمٌ ... منك يرى قدرها ويعرفها
بل ربما أعقب الجزاء بها ... مضرةٌ عنك عز مصرفها
أما ترى الشمس تعطف بالن ... ور على البدر وهو يكسفها
دخوله غرناطةأخبر عن نفسه أن أباه انتقل به إلى الأندلس،
وهو ابن تسعة أعوام، فاستوطن به غرناطة ثلاثة أعوام، ثم رحل إلى مالقة، فسكن بها
مدة، وبها قرأ معظم قراءته. ثم انتقل إلى سبتة، وتزود بها أخت الشيخ أبي الحكم
مالك بن المرحل. وهذا الشيخ جد صاحبنا وشيخنا أبي الحسين التلمساني لأبيه، وهو ممن
يطرز به التأليف، ويشار إليه في فنون لشهرته.
ومن شعره، وهو صاحب مطولات مجيدة، وأمادح مبدية في
الإحسان معيدة، فمن قوله يمدح الفقيه أبا القاسم العزفي أمير سبتة:
أرأيت من رحلوا وزموا العيسا ... ولا نزلوا على الطلول
حسيساً
أحسبت سوف يعود نسف ترابها ... يوماً بما يشفى لديك
نسيساً
هل من مؤنسٍ ناراً بجانب طورها ... لأنيسها أم هل تحس
حسيساً
مولدهقال ابن عبد الملك، أخبرني أن مولدهعو بتلمسان سنة
تسع وستمائة.
وفاتهفي عام تسعين وستمائة بسبتة، على سن عالية، فسحت
مدى الانتفاع به.
إبراهيم بن محمد الأنصاريإبراهيم بن محمد بن إبراهيم
الأنصاري الساحلي المشهور بالطويجن من غرناطة
حالهمن كتاب عائد الصلة، كان رحمه الله، نسيج وحده في
الأدب، نظماً ونثراً، لا يشق فيهما غباره، كلام صافي الأديم، غزير المائية، أنيق
الديباجة، موفور المادة، كثير الحلاوة، جامعٌ بين الجزالة والرقة، إلى خط بديع،
ومشاركة في فنون، وكرم نفس، واقتدار على كل محاولة. رحل بعد أن اشتهر فضله، وذاع
أوجه، فشرق، وجال في البلاد. ثم دخل إلى بلد السودان، فاتصل بملكها، واستوطنها زماناً
طويلا، بالغاً فيها أقصى مبالغ المكنة، والحظوة، والشهرة، والجلالة، واقتنى مالا
دثراً، ثم آب إلى المغرب، وحوم على وطنه، فصرفه القدر إلى مستقره من بلاد السودان،
مستزيداً من المال. وأهدى إلى ملك المغرب هدية تشتمل على طرف، فاثأبه عليها مالا
خطيراً، ومدحه بشعر بديع كتبناه عنه.
وجرى ذكره في كتاب التاج بما نصه:
جواب
الآفاق، ومحالف الإباق، ومنفق سعد الشعر كل الإنفاق، رفع ببلده للأدب رأية لا
تحجم، وأصبح فيها يسوي ويلجم، فإن نسب، جرى ونظم نظم الجمان المحامد، وإن ابن
ورثى، غبر في وجوه السوابق، وحنا، ولما اتفق كساد سوقه، وضياق حقوقه، أخذ بالحزم،
وأدخل على حروف علايه عوامل الجزم، يسقط على الدول سقوط الغيث، ويحل كناس الظبا
وغاب الليث، شيع العجائب، وركض النجائب، فاستضاف بصرام، وشاهد البرابي والأهرام، ورمى
بعزمته الشأم، فاحتل ثغوره المحوطة، ودخل دمشق، وتوجه الغوطة، ثم عاجلها بالعراق،
فحيا بالسلام مدينة السلام، وأورد بالرافدين رواحله، ورأى اليمن وسواحله، ثم عدل
إلى الحقيقة عن المجاز، وتوجه إلى شأنه الحجاز، فاستلم الركن والحجر، وزار القبر
الكريم لما صدر، وتعرف بمجتمع الوفود بملك السود، فغمره بإرفاده، وصحبه إلى بلاده،
فاستقر بأول أقاليم العرض، وأقصى ما يعمر من الأرض، فحل بها محل الحمر في الغار،
والنور في سواد الأبصار، وتقيد بالإحسان، وإن كان غريب الوجه واليد واللسان، وصدرت
عنه رسائل أثناء إغرابه، تشهد بجلالة آدابه، وتعلق الإحسان بأهدابه.
نثره فمن ذلك ما خاطب به أهل غرناطة بلده، وقد وصل إلى
مراكش: سلام ليس دارين شعاره، وحلق الروض والنضير به صداره، وأنسى نجداً شمه الزكي
وعراره، جر ذيله على الشجر فتعطر، وناجى غصن البان فاهتز لحديثه وتأطر، وارتشف
الندى من ثغور الشقائق، وحيا خدود الورد تحت أردية الحدائق، طربت له النجدية
المستهامة، فهجرت صباها ببطن تهامة، وحن ابن دهمان لصباه، وسلا به التميمي عن
رياه، وأنسى النميري ما تضوع برقيب من بطن نعمايه، واستشرف السمر والبان، وتخلق
بخلوقة الآس والظيان، حتى إذا راقت أنفاس تحياته ورقت، وملكت نفائس النفوس، واستشرقت،
ولبست دارين في ملائها، ونظمت الجوزاء في عقد ثنائها، واشتغل بها الأعشى عن روضه
ولهى، وشهد ابن برد شهادة أطراف المساويك لها، خيمت في ربع الجود بغرناطة ورقت،
وملأت دلوها إلى عقد ركبه، وأقبلت منابت شرقها عن غربه، لا عن عرفه، هناك تترى لها
صدور المجالس تحمل صدوراً، وترايب المعالي تحلى عقوداً نفيسة وجذوراً، ومحاسن
الشرف تحاسن البروج في زهرها، والأفنية في إيوانها، والأندية في شعب بوانها، لو
رآها النعمان لهجر سديره، أو كسرى لنبذ إيوانه وسريره، أو سيف لقصر عن غمدانه، أو
حسان جلق لغسانه.
بلاد بها نيطت على تمائمي ... وأول أرض مس جلدي ترابها
فإذا قضيت من فرض السلام ختما، وقضت من فاره الثناء
حتما، ونفضت طيب عرارها على تلك الأنداء، واقتطفت أزاهر محامدها أهل الود القديم
والإخاء، وعمت من هنالك من الفضلاء، وتلت سور آلائها على منبر ثنائها، وقصت وعطفت
على من تحمل من الطلبة بشارتهم، وصدرت عن إشارتهم، وأنارت نجماً حول هالتهم المنيرة
ودارتهم، فهناك تقص أحاديث وجدى على تلك المناهج، لا إلى صلة عالج، وشوقي إلى تلك
العليا، لا إلى عبلة، والجزا إلى ذلك الشريف الجليل، فسقى الله تلك المعاهد
غيداقاً يهمي دعاؤها، ويغرق روضها إغراقاً، حتى تتكلل منه نحور زندها دراً، وترنو
عيون أطراف نرجسها إلى أهلها سرراً، وتتعانق قدود أغصانها طرباً، وتعطف خصور
مذانبها على أطراف كثبانها لعباً، وتضحك ثغور أقاحها عند رقص أدواحها عجباً، وتحمر
خدود وردها حياءً، وتشرق حدائق وردها سناء، وتهدي إلى ألسنة صباها خبر طيبة،
وإنباء حتى تشتغل المطرية عن روضتها المردودة، والمتكلىء، عن مشاويه المجودة،
والبكرى عن شقائق رياض روضته الندية، والأخطل عن خلع بيعته الموشية. فما الخورنق
وسراد والرصافة وبغداد، وما لف النيل في ملأته كرماً إلى أفدين سقايته، وحارته
غمدان عن محراب، وقصر وابرية البلقاء عن غوطة ونهر، بأحسن من تلك المشاهد التي
تساوي في حسنها الغائب والشاهد، وما لمصر تفخر بنيلها، والألف منها في شنيلها،
وإنما زيدت الشين هنالك ليعد بذلك:
ويا لله من شوق حثيث ... ومن وجدٍ تنشط بالصميم
إذا ما هاجه وجدٌ حديث ... صبا منها إلى عهدٍ قديم
أجنح
إنساني في كل جانحة. وأنطق لساني من كل جارحة، وأهيم وقلبي رهين الأنين، وصريع
البين، تهفق به الرياح البليلة إذا ثارت، وتطير به أجنحة البروق الخافقة أينما
طارت، وقد كنت أستنزل قربهم براحة الأجل، وأقول عسى وطن يدنيهم ولعل، وما أقدر
الله أن يدني على الشحط، ويبري جراح البين بعد اليأس والقنط، هذا شوقي يستعيره
البركان لناره، ووجدي لا يجري قيس في مضماره، فما ظنك وقد حمت حول المورد الخصر،
ونسمت ريح المنبت الخضر، ونظرت إلى تلك المعاهد من أمم، وهمست باهتصار ثمار ذلك
المجد اليانع والكرم، وإن المحب مع القرب لأعظم هما، وأشد في مقاساة الغرام غماً:
وأبرح ما يكون الشوق يوماً ... إذا دنت الديار من الديار
وقربت مسافة الدوار، لكن الدهر ذو غير، ومن ذا يحكم على
القدر، وما ضره لو غفل قليلا، وشفى بلقاء الأحبة غليلا، وسمح لنا بساعة اتفاق ووصل
ذلك الأمل القصير بباع، وروى مسافة أيام، كما طوى مراحل أعوام.
لد إبليس أفلا أشفقت من عذابي، وسمحت ولو بسلام أحبابي:
أسلمتني إلى ذرع البيد، ومحالفة الذميل والوحيد، والتنقل في المشارق والمغارب،
والتمطي في الصهوات والغوارب، يا سابق البين دع محمله، وما بقي في الجسم ما يحمله،
ويا بنات جديل، ما لكن وللذميل، ليت سقمي عقيم فلم يلد ذات البين، المشتتة ما بين المحبين،
ثم ما للزاجر الكاذب، وللغراب الناعب، تجعله نذير الجلا، ورايد الخلا، ما أبعد من
زاجر، عن رأي الزاجر، إنما فعل ما ترى، ذات الغارب والقرى، المحتالة في الأزمة
والبرى، المترددة بين التأويب والسرى، طالما باكرت النوى، وصدعت صدع الثوى، وتركت
الهايم بين ربعٍ محيل، ورسم مستحيل، يقفو الأثر نحوه، ويسئل الطلل عن عهده، وإن
أنصفت فما لعين معقودة، وإبل مطرودة، مالت عن الحوض والشوط، وأسلمت إلى الحبل
والعصا والسوط، ولو خير النائي لأقام، ولو ترك القطا ليلا لنام، لكن الدهر أبو
براقش، وسهمٌ بينه وبين بنيه غير طائش، فهو الذي شتت الشمل وصدعه، وما رفع سيفٌ
بعماده إلا وضعه، ولا بل غليلاً أحرقه بنار وجده ولا نفعه. فأقسم ما ذات خضاب
وطوق، شاكية غرام وشوق، برزت في منصتها، وترجمت عن قضيتها، أو غربت عن بيتها، ونفضت
شرارة زفرتها عن عينها، ميلا حكت الميلا والغريض، وعجماء ساجلت بسجعها القريض،
ونصت الفود فكأنما نقرت العود، ورددت العويل، كأنما سمعت النقيل، نبهت الواله
فثاب، وناحت بأشواقها فأجاب. حتى إذا افتر بريقها، استراب في أنتها، فنادى يا
حصيبة الساق، مالك والأشواق، أباكيةٌ ودموعك راقيةٌ، ومحررة وأعصافك حالية، عطلت
الخوافي، وحليت القوادم، وخضبت الأرجل، وحضرت المأتم. أما أنت فنزيعة خمار، وحليفة
أنوار وأشجار، تترددين بين منبر وسرير، وتتهادين بين روضة وغدير، أسرفت في الغناء،
وإنما حكيت خرير الماء، وولعت بتكرير الراء، فقالت أعد نظر البقير، ولأمر ما جدع
أنفه قصير، أنا التي أغرقت في الرزء، فكنيت عن الكل بالجزء، كنت أربع بالفيافي ما ألافي،
وآنس مع مقيلي، بكرته وأصيلي، تحتال من غدير إلى شرج، وتنتقل من سرير إلى سرج،
آونة تلتقط الحب، وحيناً تتعاطى الحب، وطوراً تتراكض الفنن، وتارة تتجاذب الشجن،
حتى إذا رماه الدهر بالشتات، وطرفة بالآفات، فهأنا بعده دامية العين، دائمة الأين،
أتعلل بالأثر بعد العين، فإن صعدت مناري، ألهبت منقاري، أو نكأت أحشائي، خضبت رجلي
بدمائي، فأقسم لا خلعت طوق عهده، حتى أردى من بعده، بل ذات خفض وترف، وجمال باهر
وشرف، بسط الدهر يدها، وقبض ولدها، فهي إذا عقدت التمأيم على تريب، أو لفت العمائم
على نجيب، حثت المفؤود، وأدارت عين الحسود، حتى إذا أينعت فسالها، وقضى حملها
وفصالها، عمر لحدها بوحيد كان عندها وسطى، وفريد أضحى في نحر عشيرتها سمطا، استحثت
له مهبأت النسيم الطارق، وخافت عليه من خطرات اللحظ الراشق، فحين هش للجياد، ووهب
التمائم للنجاد ونادى الصريم، يا الآل والحريم، فشد الأناة، واعتقل القناة، وبرز
يختال في عيون لامه، ويتعرف منه رمحه بألفه ولامه، فعارضه شثن الكفين، عاري الشعر
والمنكبين، فأسلمه لحتفه، وترك حاشية ردائه على عطفه، فحين انبهم لشاكلته ما جرى
برزت لترى:
فلم تلق غير خمس قوايم ... وأشلاء لحم تحت ليثٍ سخايل
يحط
على أعطافه وترايبه ... بكفٍ حديد الناب صلب المفاصل
أعظم من وجد إلى تلك الآفاق، التي أطلعت وجوه الحسن
والإحسان، وسفرت عن كمال الشرف، وشرف الكمال عن كل وجه حسان، وأبرزت من ذوي الهمم
المنيفة، والسير الشريفة، ما أقر عين العلياء، وحلى جيد الزمان، فتقوا للعلم
أزهاراً أربت على الروض المجود، وأداروا لأدب هالةً استدارت حولها بدور السعود،
نظم الدهر محاسنهم حلياً في جيده ونحره، واستعار لهم الأفق ضياء شمسه وبدره، وأعرب
بهم الفخر عن صميمه، وفسح لهم المجد عن مصدره، فهم إنسان عين الزمان، وملتقى طريقي
الحسن والإحسان، نظمت الجوزاء مفاخرهم، ونثرت النثرة مآثرهم، واجتلبت الشعري من
أشعارهم، وطلع النور من أزرارهم، واجتمعت الثريا لمعاطاة أخبارهم، وود الدلو لو
كرع في حوضهم، والأسد لو ربض حول ربضهم، والنعايم لو غذيت بنعيمهم، والمجرة لو
استمدت من فيض كرمهم، عشق المسك محاسنهم فرق، وطرب الصبح لأخبارهم فخرق جبينه وشق،
وحام النسر حول حمامهم وحلق، وقد الفخار جدار محامدهم وخلق، إلى بلاغة أخرست لسان
لبيد، وتركت عبد الحميد غير حميد، أهل ابن هلال لمحاسنهم وكبر، وأعطى القارى ما
زجر به قلمه وسطر، وأيس إياس من لحاقهم فأقصر لما قصر.
ومنها: فما للوشي تألق ناصعةٌ، وتأنق يانعه، بأحسن مما
وشته أنفاسهم، ورسمته أطراسهم، فكم لهم من خريدة غذاها العلم ببره، وفريدة حلاها
البيان بدره، واستضاءت المعارف بأنوارهم، وباهت الفضايل بسناء منارهم، وجليت
المشكلات بأنوار عقولهم وأفكارهم، جلوا عروس المجد وحلوا، وحلوا في ميدان السيادة
ونشأوا، وزاحموا السهي بالمناكب، واختطوا الترب فوق الكواكب، لزم محلهم التكبير،
كما لزمت الياء التصغير، وتقدموا في رتبة الأفهام، كما تقدمت همزة الاستفهام،
ونزلوا من مراتب العلياء، منزلة حروف الاستعلاء، وما عسى أن أقول ودون النهاية مدى
نازح، وما أغنى الشمس عن مدح المادح، وحسبي أن أصف ما أعانيه من الشوق، وما أجده
من التوق، وأعلل نفسي بلقائهم، وأتعلل بالنسيم الوارد من تلقائهم، وإن جلاني الدهر
عن ورود حوضهم، وأقعدني الزمان عن اجتناء روضهم، فما ذهب ودادي، ولا تغير اعتقادي،
ولا جفت أقلامي عن مدادهم ولا مدادي، وأنا ابن جلا في وجدهم، وطلاع الثناي إلى كرم
عهدهم، إن دعوا إلى ودٍ صميم وجدوني، أضع العمامة عن ذوي عهد قديم عرفوني، ولو
شرعوا نحوي قلم مكاتبتهم، وأسحوا بالعلق الثمين من مخاطبتهم، لكفوا من قلبي العاني
قيد إساره، وبلوا صدى وجدي المتحرق بناره، ففي الكتابة بلغة الوطر، وقد يغني عن
العين الأثر، والسلام الأثير الكريم الطيب الريا، الجميل المحيا، يحضر محلهم الأثير،
وكبيرهم إذ ليس فيهم صغير، ويعود على من هناك من ذوي الود الصميم، والعهد القديم،
من أخٍ برٍ وصاحب حميم، ورحمة الله وبركاته.
ولا خفاء ببراعة هذه الرسالة على طولها، وكثرة أصولها،
وما اشتملت عليه من وصف وعارضة، وإشارة وإحالة، وحلاوة وجزالة.
شعرهثبت لدي من متأخر شعره قوله من قصيدة، يمدح بها ملك
المغرب، أمير المسلمين، عند دنو ركابه من ظاهر تلمسان ببابه أولها:
خطرت كمياس القنا المتأطر ... ورنت بألحاظ الغزال الأعفر
ومن شعره في النسب:
زارت وفي كل لحظ طرف محترس ... وحول كل كتاس كف مفترس
يشكو لها الجيد ما بالحلي من هدر ... ويشتكي الزند ما
بالقلب من خرس
متى تلاخدها الزاهي الضحى نطقت ... سيوف ألحاظها من آيه
الحرس
في لحظها سحر فرعون ورقتها ... آيات موسى وقلبي موضع
القبس
تخفي النمومين من حلي ومبتسم ... تحت الكتومين من شعر
ومن غلس
وترسل اللحظ نحوي ثم تهزأ بي ... تقول بعد نفوذ الزمية
احترس
أشكو إليها فؤاداً واجلاً أبداً ... في النازعات وما
تنفك من عبس
يا شقة النفس إن النفس قد تلفت ... إلا بقية رجع الصوت
والنفس
هذا فؤادي وجفني فيك قد جمعا ... ضدين فاعتبري إن شئت
واقتبسي
ويا لطارق نومٍ منك أرقني ... ليلا ونبهني للوجد ثم نسي
ما
زال يشرب من ماء القلوب فلم ... أبصرته ذابلاً يشكو من اليبس
ملأت طرفي عن وردٍ تفتح في ... رياض خديك صلا غير مفترس
وقلت للحظ والصدغ احرسا فهما ... ما بين مصمٍ وفتاك
ومنتكس
وليلة جئتها سحراً أجوس بها ... شبا العوالي وخيس الأخنف
الشرس
أستفهم الليل عن أمثال أنجمه ... وأسال العيس عن سرب
المها الأنس
وأهتك الستر لا أخشى بوادره ... ما بين منتهزٍ طوراً
ومنتهس
بتنا نعاطي بها ممزوجةً مزجت ... حلو الفكاهة بين اللين
والشرس
أنكحتها من أبيها وهي آيسةٌ ... فثار أبناؤها في ساعة
العرس
نورٌ ونارٌ أضاءا في زجاجتها ... فذاك خدك يا ليلى وذا
نفس
حتى إذا آب نور الفجر في وضح ... معرك جال بين الفجر
والغلس
وهيمنت بالضنا تحت الصباح صباً ... قد أنذرتها ببرد
القلب واللعس
قمت تجر فضول الريط آنسة ... كريمة الذيل لم تجنح إلى
دنس
تلوث فوق كثيب الرمل مطرفها ... وتمسح النوم عن أجفانها
النعس
فظل قلبي يقفوها بملتهب ... طوراً ودمعي يتلوها بمنبجس
دهر يلون لونيه كعادته ... فالصبح في مأتمٍ والليل في
عرس
وإحسانه كثير، مقداره كبير. ثم آب إلى بلاد السودان،
وجرت عليه في طريقه محنة، ممن يعترض الرفاق ويفسد السبيل. واستقر بها على حاله من
الجاه والشهرة، وقد اتخذ أماء للتسرى من الزنجيات ورزق من الجوالك أولاداً
كالخنافسة، ثم لم يلبث أن اتصلت الأخبار بوفاته بتنبكتو، وكان حياً في أوائل تسعة
وثلاثين وسبعمائة.
ابن الحاجإبراهيم بن عبد الله بن قاسم النميري إبراهيم
بن عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن أسد بن موسى بن إبراهيم ابن عبد العزيز بن إسحاق
بن أسد بن قاسم النميري من أهل غرناطة، يكنى أبا إسحاق ويعرف بابن الحاج
أوليتهبيت نبيهٌ، يزعم من يعنى بالأخبار، أن جدهم الداخل
إلى الأندلس ثوابة ابن حمزة النميري، ويشركهم فيه بنو أرقم الوادي شيون. وكان سكناه
بجهة وادي آش، ولقومه اختصاصٌ وانتقال ببعض جهاتها، وهي شوظر، والمنظر، وقرسيس،
وقطرش، تغلب العدو عليها على عهد عبد العزيز، وآوى جميعهم، إلى كنف الدولة
النصرية، فانخرطوا في سلك الخدمة، وتمحض خلفهم بالعمل. وكان جده الأقرب إبراهيم،
رجلا خيراً من أهل الدين والفضل والطهارة والذكاء، كتب للرؤساء من بني إشقيلولة،
عند انفرادهم بوادي آش. واختص بهم، وحصل منهم على صهر بأم ولد بعضهم، وضبط المهم
من أعمالهم. ثم رابته منهم سجايا، أوجبت انصرافه عنهم، وجنوحه إلى خالهم السلطان
الذي كاشفوه بالثورة، فعرف حقه، وأكرم وفادته، وقبل بيانه، فقلده ديوان جنده،
واستمرت أيام عمره تحت رعيه، وكنف عنايته، وكان ولده عبد الله أبو صاحبنا المترجم
به، صدراً من صدور المستخدمين في كبار الأعمال، على سنن رؤسائهم، مكساباً متلافاً،
سرى النفس، غاض الحواز. ولي الأشغال بغرناطة وسبتة، عند تصيرها إلى إيالة بني نصر،
وجرى طلاقه هذا، في صل دنيا عريضة، تغلبت عليه بآخرة، ومضى لسبيله، مصدوقاً
بالكفاية، وبراعة الخط، وطيب النفس، وحسن المعاملة.
حاله
هذا
الرجل نشأ على عفاف وطهارة، امتهك صبابة ترف من بقايا عافية، أعانته على الاستظهار
ببزة، وصابته من التحرف بمهنة. ثم شد وبهرت خصاله، فبطح بالشعر، وبلغ الغاية في
إجادة الخط، وحاضر بالأبيات، وأرسم في كتابة الإنشاء، عام أربعة وثلاثين وسبعمائة،
مستحقاً حسن سمة، وبراعة خط، وجودة أدب، وإطلاق يد، وظهور كفاية، وفي أثناء هذا
الحال، يقيد ولا يفتر، ويروي الحديث، ويعلق الأناشيد، ولا يغب النظم والنثر، ولا
يعفي القريحة، معمي، مخولا في العناية، مشتملا على الطهارة، بعيداً في زمان
الشبيبة عن الريبة، نزيهاً على الوسامة عن الصبوة والرقية، أعانه على ذلك، نخوة في
طبعه وشفوفٌ وهمة. كان مليح الدعابة، طيب الفكاهة، آثر المشرق، فانصرف عن الأندلس
في محرم عام سبعة وثلاثين وسبعمائة، وألم بالدول، محركاً إياها بشعره، هازاً
أعطافها بأمداحه، فعرف قدره، وأعين على طيته، فحج وتطوف، وقيد، واستكثر، ودون في رحلة
سفره، وناهيك بها طرفة، وقفل إلى إفريقية، وكان علق بخدمة بعض ملوكها، فاستقر
ببجايه لديه، مضطلعاً بالكتابة والإنشاء. ثم انتقل إلى خدمة سلطان المغرب، أمير
المسلمين أبي الحسن، ولم ينشب أن عاد إلى البلاد المشرقية، فحج، وفصل إلى إفريقية،
وقد دالت الدولة بها بالسلطان المذكور، فتقاعد عن الخدمة، وآثر الانقباض، ثم ضرب
الدهر ضرباته، وآل حال السلطان إلى ما هو معروف، وثابت للموحدين برملة بجاية بارقة
لم تكد تتقد حتى خنت فعاد إلى ديوانه من الكتابة عن صاحب بجاية. ثم أبي مؤثراً للدعة
في كنف الدولة الفارسية، ونفض عن الخدمة يده، لا أحقق مضطراً أم اختياراً، وحجة
كليهما قائمة لديه، وانقطع إلى تربة الشيخ أبي مدين بعباد تلمسان، مؤثراً للخمول، عزيزاً
به، ذاهباً مذهب التجلة من التجريد والعكوف بباب الله، مفخراً، لأهل نحلته، وحجة
على أهل الحرص والتهافت، من ذوي طبقته، راجع الله بنا إليه بفضله، ثم جبرته الدولة
الفارسية على الخدمة، وأبرته بزة النسك، فعاد إلى ديدنه من الكتابة، رئيساً
ومرؤوساً. ثم أفلت نفيه موت السلطان أبي عنان فلحق بالأندلس، وتلقى ببر وجراية،
وتنويه وعناية، واستعمل في السفارة إلى الملوك، وولى القضاء في الأحكام الشرعية
بالقليم بقرب الجضرة، وهو الآن بحاله الموصوفة، صدراً من صدور القطر واعيانه، يحضر
مجلس السلطان، ويعد من نبهاء من ينتاب بابه، وقد توسط من الاكتهال، مقيماً لرسم
الكتابة والظرف مع الترخيص للباس الحرير، والخضاب بالسواد، ومصاحبة الأبهة، والحرص
على التجلة.
وجرى ذكره في التاج المحلي بما نصه: طلع شهاباً ثاقباً،
وأصبح بشعره للشعري مصاقباً، فنجم وبرع، وتمم المعاني واخترع، إلى خط يستوقف الأبصار
رايقه، وتقيد الأحداق حدايقه، وتفتن الألباب فنونه البديعة وطرايقه، من بليغ يطارد
أسراب المعاني البعيدة فيقتنصها، ويغوص على الدرر الفريدة فيخرجها، ويستخلصها بطبع
مذاهبه دافقة، وتأييد رايته خافقة، نبه في عصره شرف البيان من بعد الكرى، وانتدب
بالنشاط إلى تجديد ذلك البساط وانبرى، فدارت الأكواس، وتضوع الورد والآس، وطاب
الصبوح، وتبدل الروح المروح، ولم تزل نفحاته تتأرج، وعقائل بناته تتبرج، حتى دعي
إلى الكتابة، وخطب إلى تلك المثابة، فطرز المفارق برقوم أقلامه، وشنف المسامع بدر
كلامه، ثم أجاب داعي نفسه التي ضاق عنها جثمانه، لا بل زمانه، وعظم لها فكره وغمه،
وتعب في مداراتها، وكما قال أبو الطيب المتنبي، وأتعب خلق الله من راد محمده،
فارتحل لطيته، واقتعد غارب، مطيته، فحج وزار، وشد للطواف الإزار. ثم هبا إلى
المغرب وحوم، وقفل قفول النسيم عن الروض بعد ما تلوم، وحط بإفريقية على نار القرى،
وحمد بها صباح السرى، ولم يلبث أن تنقل، ووحر الحميم شفافه وتنغل، ثم بدا له أخرى
فشرق، وكان عزمه أن يجتمع فتفرق.
مشيختهروى عن مشيخة بلده وأشجر، وقيد واستكثر، وأخذ في
رحلته عن أناس شتى بشق إحصاؤهم.
تواليفه
منها
كتاب المساهلة والمسامحة في تبيين طرق المداعبة والممازحة، وإيقاظ الكرام، بأخبار
المنام، وتنعيم الأشباح بمحادثة الأرواح، وكتاب الوسائل ونزهة المناطر والخمائل،
والزهرات وإجالة النظرات، وكتاب في التورية على حروف المعجم، أكثره مروى بالأسانيد
عن خلق كثير، والله تعالى يخره، وجزءٌ في تبيين المشكلات الحديثة الواصلة من زبيد
اليمن إلى مكة، وجزء في بيان اسم الله الأعظم، وهو كبير الفائدة، ونزهة الحدق في
ذكر الفرق، وكتاب الأربعين حديثاً البلدانية، والمستدرك عليها من البلاد التي
دخلتها، ورويت فيها، زيادة على الأربعين، وروضة العباد المستخرجة من الإرشاد، وهو
من تأليف شيخنا القطب أبي محمد الشافعي، والأربعون حديثاً التي رويتها عن الأمراء والشيوخ،
الذين رووا عن الملوك والأمراء، والشيوخ الذين رووا عن الملوك والخلفاء القريب
عهدهم، ووصلت بها خاتمة ذكرت فيها فوائد مما رويته عن الملوك والأمراء، وعن الشيوخ
الذين رووا عن الملوك والأمراء، وكتاب اللباس والصحبة وهو الذي جمعت فيه طرق المتصوفة،
المدعي أنه لم يجمع مثله، وكتاب فيه شطر الحماسة لحبيب، وهو غير مكمل، ورجز في
الفرائض على الطريقة البديعة التي ظهرت ببلاد الشرق، ورجز صغير في الحجب والسلاح،
ورجز في الجدل، ورجز في الأحكام الشرعية سماه، بالفصول المقتضبة في الأحكام
المنتخبة، وكتاب سماه بمثاليث القوانين، في التورية والاستخدام والتضمين، وهو كله
من نظمه، وله تأليف سماه بفيض العباب، وإجالة قداح الآداب، في الحركة إلى قسنطينة والزاب.
شعرهومن شعره في المقطوعات
طاب العذيب بماء ذكرك وانثنى ... فكأنما ما ء العذيب
سلافه
واهتز من طربٍ للقياك الحمى ... فكأنما بأناته أعطافه
ومن ذلك:
لي المدح يروي منذ كنت كأنما ... تصورت مدحاً للورى
وثناء
ومالي هجاء فاعجبن لشاعر ... وكاتب سرٍ لا يقيم هجاء
ومن ذلك:
ولي فرسٌ من علية الشهب سابق ... أصرفه يوم الوغى كيف
أطلب
عدوت له في حلبة القوم مالكا يتا ... بعني ما شئت في
السبق أشهب
وقال، وقد وقف حاجب السلطان على عين ماء فيض الثغور وشرب
منها:
تعجبت من ثغر هذي البلاد ... وها أنت من عينه شارب
فلله ثغر أرى شارباً ... وعينٌ بدا فوقها حاجب
ومن ذلك:
وحمراء في الكأس مشمولة ... تحث على العود في كل بيت
فلا غرو أن جاءني سابقا ... إلى الأنس خلٌ يحث الكميت
وقا مضمنا، وقد تذكر حمراء غرناطة، وبابها الأحفل
المعروف بباب الفرج:
أقول وحمراء غرناطة تشوق ... النفوس وتسبي المهج
ألا ليت شعري بطول السرى ... أرتنا الوجى واشتكت العرج
وما لي في عرجٍ رغبةٌ ... ولكن لأقرع باب الفرج
وقال ملغزا في قلم وهر ظريف:
أحاجيك ما واشٍ يراد حديثه ... ويهوى الغريب النازح
الدار إفصاحه
تراه مع الأحيان أصفر ناحلا ... كمثل مريض وهو قد لازم
الراحة
وقال:
وقالوا رمى في الكأس ورداً فهل ترى ... لذلك وجهاً قلت
أحسن به قصدا
ألم تجد اللذات في الكأس حلبة ... فلا تنكروا فيها الكميث
ولا الوردا
وقال:
كماة تلاقت تحت نقع سيوفهم ... وللهام رقصٌ كلما طلب
الثار
فلا غرو أن غنت وتلك رواقص ... فيهم في مارد الحرب أوتار
وقال:
وعارضٌ في خده نباته ... فحسنه بين الورى يسحرنا
أجرى دموعي إذ جرت شوقا له ... فقلت هذا عارضٌ ممطرنا
وقال وقد توفي السلطان أبو يحيى بن أبي بكر صاحب تونس،
وولى ابنه أبو حفص بعد قتله لإخوته:
وقالوا أبو حفص حوى الملك غاصباً ... وإخوته أولى وقد
جاء بالنكر
فقلت لهم كفوا فما رضي الورى ... سوى عمر من بعد موت أبي
بكر
وقال مضمنا، وقد حضر الفتى الكبير عنبر قتالا، وكان
فارساً مذكوراً، عند بني مرين:==
مجلد 2. من كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة
المؤلف : لسان الدين ابن الخطيب
ولقد أقول وعنبرٌ ذاك الفتى
... يلقى الفوارس في العجاج الأكور
يا عاثرين لدى الجلاد لعاً فقد ... بسقت لكم ريح الجلاد
بعنبر
وقال وقد اشتاق إلى السبيكة خارج حمراء غرناطة:
وإن إفراط بكائي ... لم يرع مني عريكة
قد أذاب العين لما ... زاد شوقي للسبيكة
لما نزلت من السبيكة صادني ... ظبيٌ وددت لديه أن لم
أنزل
فاعجب لظبي صاد ليثاً لم يكن ... من قبلها متخبطاً في
أخبل
وقال وهو ظريف:
قد قارب العشرين ظبيٌ لم يكن ... ليرى الورى عن حبه
سلوانا
وبدا الربيع بخده فكأنما ... وافي الربيع ينادم النعمانا
وقال:
أتوني فعابوا من أحب جماله ... وذاك على سمع المحب خفيف
فما فيه عيبٌ غير أن جفونه ... مراضٌ وأن الخصر منه ضعيف
وقال:
أيا عجباً كيف تهوى الملوك ... محلي وموطن أهلي وناسي
وتحسدني وهي مخدومة ... وما أنا إلا خديم بفاس
نثرهونثره تلو نظمه في الإجادة، وقد تضمن الكتاب المسمى
بنفاضة الجراب منه ذكر كل بديع فمما ثبت فيه، مما خاطبته به. وقد ولي خطة القضاء
بالإقليم، أداعبه، وأثير ما تستحويه.
عجائبهأيا قاضي العدل الذي لم تزل ... تمتار شهب الفضل
من شمسك
قعدت للإنصاف بين الورى ... فاطلب لنا الإنصاف من نفسك
ما للقاضي، أبقاه الله، ضاق ذرع عدله الرحيب، عن العجيب، وهم عن العتب، وضن على صديقه حتى بالكتب، أمن المدونة الكبرى ركب هذا التحريج، أم من المبسوطة ذهب إلى هذا الأمر المريج، أم من الواضحة امتنع عن الإمام ببديع الوفاء والتعريج، من أمثالهم إرض من أخيك بعشر وده إذا ولى، وقد قنعنا والحمد لله بحبة من مده، وإشارة من درجه، وبرة وصاعةٍ، معتدلة، من زمان بلوغ أشده، فما باله يمطل مع الغني، ويحوج إلى العنا، مع قرب الجني، المحلة حلة ضالع، ومطمعٍ وطامع، ومرأى، ومستمع وسامع، والكنف الواسع، والمكان لاناءٍ ولا شاسع، والضرع حافل، والزرع كافٍ كافل، والقريحة وارية الزند، والإمامة خافقة البند، وهب أن البخل يقع بها في الخوان على الإخوان، فما باله يسمح بالبيان، وليس الخبر كالعيان، ويتعدى حظ الجنان، لاخط البنان، أعيذ سيدي من ارتكاب رأيٍ ذميم، ينقل إلى نميرها بيت تميم، ويقصد معناه بتميم، وهلا تلاحم، وعهدي بالسياسة القاضوية، وقد نامت في مهاد أهل الظرف، نوم أهل الكهف، ولم تبال بمردد الويل واللهف، أو شربة لحفظ الصحة بختجا، ودقت لإعادة الشبيبة عفصا ورد سختجا، وغطت الصبح بالليل إذا سجا، ومدت على ضاحي البياض صلاً سجسجا، وردت سوسن العارض بنفسجا، ولبس بحرها الزاخر من طحلب البحر منتسجا، وأحكام العامة، ومزين المرأة ينصح ويرشد، ويطوي المحاسن وينشد، حتى حسنت الدارة، وصحت الاستدارة، وأعجبه الوجه الجميل، والقد الذي يميد في دكة الدار ويميل، وأغرى بالسواك السميم والتكميل، وولج بين شفرتي سيد الميل، وقيل لو صاح اليمين خاب فيك التأميل، وامتد جناح برنس السرق، واحتفل الغصن الرطيب في الورق، ورش الورد بمائه عند رشح العرق، وتهيأ لمنطلق، فقرأت عليه نساء أعوانه، وكتبة ديوانه، سورة الفلق، من بعد ما وقف الإمليق حجابه على إقدامهم، وسحبهم جلاوزته من أقوامهم، فمثلوا واصطفوا، وتألفوا والتفوا، وداروا وحفوا، وما تسللوا ولا خفوا، كأنما أسمعتهم صيحة النشر، وأخروجوا لأول الحشر. فعيونهم بملتقى المصراع معقودة، وأذهانهم لمكان الهيبة مفقودة، وحبالتهم قبل الطلب بها منقودة، فبعد ما فرش الوساد، وارتفع بالنفاق الكساد، وذارع البكا وتأرج الحساد، واستقام الكون وارتفع الفساد، وراجعت أرواحها الأجساد، جاءت السادة القاضوية فجلست، وتنعمت الأحداق بالنظر فيها واختلست، وسجت الأكف حتى أفلست، وزانت شمسها ذلك الفلك، وجلت الأنوار ذلك الحلك، وفتحت الأبواب وقالت هيت لك، ووقفت الأعوان سماطين، ومثلوا خطين، وتشكلوا مجرة تنتهي منك إلى البطين، يعلنون بالهدية ويجهرون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، من كل شهاب ثاقب وطائفٍ غاسق واقب، وملاحظ مراقب، كميش الإزار، بعيد المزار، حامل للأوبار، خصيم مبين، وراثٌ سوفسطائياً عن رثين، مضطلع بفقه البين وحريمها، فضلا عن تلقين الخصوم وتعليمها، يرأسهم العريف المقرب، والمقدم المدرب، والمشافة المباشر، والنابح الشاكر، والنهج العاشر، الذي يقتضي خلاص العقد، ويقطع الكالي والنقد، ويزكي ويجرح، ويمسك ويسرح ويطرح، ويحمل من شاء أو يشرح، والمسيطر الذي بيده ميزان الرزق، وجميع أجزاء المفترق، وكافة قابلة، وحم الدواة الفاغرة، ورشا بلالة الصدور الواغرة، فإذا وقف الخمصان بأقصى مطرح الشعان، أيان يجتمع الرعاع، وأعلنا الندا، وطلب الأعداء. وصاحا جعل الله أنفسنا لك الفدا، ورفع الأمر إلى مقطع الحق، والأولى بالمثوبة الأحق، أخذتهما الأيدي دفعاً في القفي، ورفعا الستر اللطيف الخفي، وأمسكا بالحجر والأكمام، ومنعا المباشرة والإلمام، فإذا أدلى بحجته من أدلى، وسمعها دينه عدلا، وحق القول، واستقر الهول، ووجبت اليمين، أو الأداء الذي يفوت له الذخر اليمين، أو الرهن أو الضمين، أو الاعتقال الذي هو على أحدهما كالأمين، نهش الصل، الذي سليمه لأهل، ولسبت العقارب، التي لا يفلتها الهارب، ولا تخفي منها المشارب، وكم تحت ظلام الليل من غرارة يحملها غر، وصده ريح فيها صر، ويهدي ارتقاب قلة شهد، وكبش يجر بقرنيه، ويدفع بعد رفع ساقيه، ومعزى وجدي وقلائد، وسرب دجاج، ذوات بجاج، يفضحن الطارق، ويشعثن المفارق، فمتى يستفيق سيدي مع هذا اللغط العائد بالصلة، واللهو المتصلة، وتفرغ يده البيضا لأعمال ارتياض، وخط سوادٍ في بياض، أو حنينٍ لدوحٍ أو رياض
أو إمتاع طرف، باكتشاف حرف،
أو إعمال عدل لرسول في صرف، أو حشو طرف، بتحفة ظرف، شأنه أشد استغراقاً، ومثواه أ
كثر طراقاً، من ذكرى حبيبٍ ومنزل، وأم معدل، وكيف يستخدم القلم الذي يصرف ماء
الحبر، بذوب التبر، في ترهاتٍ عدم جناها، وأقطع جانب الخيبة لفظها ومعناها، اللهم
إلا أن تحصل النفس على كفاية تحتم لها الصدر، ويشام من خلالها اللجين الرفيع
القدر، أو يحيى للفكاهة والأنس، أو ينفق لديها ذمامٌ على الجنس، فربما تقع
المخاطبة المبرورة، وتبيح هذا المرتكب الصعب الضرورة، والمرغوب من سيدنا القاضي أن
يذكرنا يوماً بالإغفال في نعيمه، ولا يخيب آمالنا المتعلقة بأذيال زعيمه، ويسهمنا
حظاً من فرائد خطه، لا من فرايد خطته، ويجعل لنا كفلا من فضل برينه وحنطته لا من
فضل هرته وقطته، فقد غنينا عن الحلاوات بحلاوات لفظه، وعن الطرف المجموعة، بغنون
حفظه، وعن قصب السكر، بقصب أقلامه، وعن جنى الروم بروامه، وبهديه، عن جديه،
وبمجاجته، عن دجاجته، وبدلجه عن أترجه، وعن البر ببره، وعن الحب بحبه ولا نأمل إلا
طلوع بطاقته، وقد رضينا بوسع طاقته، وإلا فلا بد أن يجيش جيش الكلام إلى عتبه،
ونوالي عليه ضرايب الكتايب، حتى يتقى بضريبة كتبه. والسلام.أو إمتاع طرف، باكتشاف
حرف، أو إعمال عدل لرسول في صرف، أو حشو طرف، بتحفة ظرف، شأنه أشد استغراقاً،
ومثواه أ كثر طراقاً، من ذكرى حبيبٍ ومنزل، وأم معدل، وكيف يستخدم القلم الذي يصرف
ماء الحبر، بذوب التبر، في ترهاتٍ عدم جناها، وأقطع جانب الخيبة لفظها ومعناها،
اللهم إلا أن تحصل النفس على كفاية تحتم لها الصدر، ويشام من خلالها اللجين الرفيع
القدر، أو يحيى للفكاهة والأنس، أو ينفق لديها ذمامٌ على الجنس، فربما تقع المخاطبة
المبرورة، وتبيح هذا المرتكب الصعب الضرورة، والمرغوب من سيدنا القاضي أن يذكرنا
يوماً بالإغفال في نعيمه، ولا يخيب آمالنا المتعلقة بأذيال زعيمه، ويسهمنا حظاً من
فرائد خطه، لا من فرايد خطته، ويجعل لنا كفلا من فضل برينه وحنطته لا من فضل هرته
وقطته، فقد غنينا عن الحلاوات بحلاوات لفظه، وعن الطرف المجموعة، بغنون حفظه، وعن
قصب السكر، بقصب أقلامه، وعن جنى الروم بروامه، وبهديه، عن جديه، وبمجاجته، عن
دجاجته، وبدلجه عن أترجه، وعن البر ببره، وعن الحب بحبه ولا نأمل إلا طلوع بطاقته،
وقد رضينا بوسع طاقته، وإلا فلا بد أن يجيش جيش الكلام إلى عتبه، ونوالي عليه
ضرايب الكتايب، حتى يتقى بضريبة كتبه. والسلام.
فراجعني بما نصه:
فنيت عن الإنصاف مني لأنني ... كما قلت لكم من فراقكم
قاض
فمن سمعنا أو من بعينك إنني ... بكل الذي ترضاه يا سيدي
راض
عمرك الله أيها الإمام الفذ، ومن بمدحه تطرب الأسماع
وتلذ، أوحد الدنيا وحائز الرتبة العليا، ولولا أنك فوق ما يقال، والزلة إن لم تظهر
العجز عن وصفك لا تقال، لأطلت في القول، وهدرت هدير قرع الشول، لكن تحصيل، الحاصل
محال، ولكل من تهيب كمالك مقال، ومقامٌ وحال، ولولا أن الدعاء مأمول، وهو يظهر الغيب
مقبول، والزيادة من فضل الله لا تنتهي، والنعم قد توافيك، فوق ما تشتهي، لاريت أن
أمراٌ كفى، وأمرٌ ظهر فيه ما خفي
إن قلت لازلت مرفوعاً فأنت كذا ... أو قلت زانك ربي فهو قد
فعلا
إيه يا سيدي ما هذه الكلمات السحرية والأنفاس النفيسة الشجرية، والألفاظ التي أنالت المرغوب وخالطت بشاشتها القلوب، والنزعات الرائقة، والأساليب الفائقة، والفصاحة التي سلبت العقول، والبلاغة التي أوجبت الذهول، والبيان الذي لا يضيق صحيفه، ولا يبلغ أحد مده ونصيفه، يميناً بما احتوى من المحاسن، واللطائف التي لم يكن ماؤها بالآسن، وقسماً ببراعتك التي هي الواسي المطاع، وطرسك الذي أبهجت به الأبصار والأسماع، لقد عادلي بكتابتك عيد الشوق، وجاد لي بخطابك جد التوق، ولعهدي بنفسي رهن أشجاني، غير محلولة عقدة لساني، أشد من الصخرة جلدا، وأغلظ من الإبل كبداً، حتى إذا بدت حقيدة القلب وهب نسيمه الرطب، وأفيح مورده العذب، وأضاء بنوره الشرق والغرب، ولم يبق لي بثٌ ولا شجن، ولا شاقني أهل ولا وطن، ومضى سيف اللسان بعد النبو، ونهض طرف الفكر بعد البكر، وهزني الطرب المثير للأفراح، ومشى الجذل في أطرافي وأعطافي مشي الراح، بيد أني خجلت ولا خجلة ربة الخدر، وتضاءلت نفسي لجلالة ذلك القدر، وقلت ما لي بشربةٍ من كأس بيانه، وقطرة من بحور إحسانه، حتى أؤدي، ولو بعض حقك، وأكتب عقد ملك رقي لرقك، إنني على ما وليت من الصدقة والصداقة وبعد طلاقك، لكني أقوم في حقك مستغفراً، ولا أرضى أن أكون لذمة المخدوم خفراً، على أنني أقول، قد كتبت فلم يرد جوابي، وجرمت فهاج الجوى بي، ولعمري قد لزمت فيه خطة الأدب، ولم أر التثقيل على المولى الرفيع الرتب، فأما وقد نفقت عندك بضاعتي المزجاة، وشملني من لدنك الحلم والأناة، وشرفتني بالخطاب الكريم، والرسالة التي عرفت في وجهها نضرة النعيم، فما أبغي إلا إيرادها عليك وكلها خراج، ولبردها في الإجادة إنهاج، ولعلك ترضى التخريج من مدونة الأخبار، والمبسوطة والواضحة، لكن من الأعذار. وأما الولاية التي يقنع بسببها من الود بالعشر، أو بحبة من المد إلى يوم النشر، فلا بد أن يكون القانع محتاجاً للوالي، ومفتقراً إلى التفقد المتوالي، وأما إذا كان القانع هو الذي تولى الخطة، وأكسب الهر الذي أشار إليه والقطة، فهو قياسٌ عكسه كان أقيس، بل تعليمٌ لمن وجد في نفسه خيفةً وأوجس، وهأنا قد فهمت وعلمت، من حسن تأديبك ما علمت، وعلى ما فرطت في جنبك ندمت، وإلى المعذرة والحمد لله ألهمت، ومع ذلك أعيد حديث الشيخ القاضي، وذكر عهدك به في الزمان الماضي، فلقد أجاد، في الخضاب بالسواد، واعتمد على قول المالكي الذي هدى إلى الرشاد، وأوجبه بعضهم في بلاد الجهاد، وبين عمر منافع الخضاب الصادقة الإشهاد، وخضب بالسواد جماعة من الصحابة الأمجاد، وكان ذلك ترخيصاً لم يعد شرعاً، لكنه دفع شراً وجلب نفعاً، لا كأخيه الذي أبكى عين الحميم، وأنشد قول الرضي يوم السقيم، وفجع قلوب أترابه، ولم يأت بيت النصف من بابه، وإلا فقد علم أن في الخير مشروع، وتعجل الشيء قبل أوانه ممنوع، وستغبط أخاك ولو بعد حين، وما كل صاحب يحمد في إيضاح وتبيين، وإني لأرجو أن تتزوجها بكراً، تلاعبها وتلاعبك، أو ثيباً تقصر عن حبها مآربك، فلا جرم ترجع إلى الخضاب، وحينئذ تمتع برشف الرضاب، وإلا قالت سيدي، لا تعظم المني، ولا تجعل القطر قبل أن يموت عمر، لعمر الله إن هذا الموقف صعب، قد ملأ الروح منه روعٌ ورعب، وإن أضاف إلى ذلك غلبة الأوهام، وظن الشيخوخة الصادرة عن نيل المرام، سكن المتحرك المصلوب، وتنغص عند ذلك المحبوب، والله يعينك أيها المولى، ويواليك من بسطه أضعاف ما ولي. وأما الأوصاف التي حسبتها أوصافي، وأوجبت حكمها بالقياس على خلافي، فهي لعمري أوصاف لا تراد، ومراعٍ لا شك أنها تراد، غير أني بعيد العهد بهذه البلاد، لا أمت لها إلا بالانتساب والميلاد لا كالقضاة الذين ذكرت، لهم عهداً، ونظمت حلاهم في جيد الدهر عقداً، ولو أنك بسرك بصرتني بشروط القضاء وسجايا أهل الصرامة والمضاء، لحققت المناط، وأظهرت الزهد والاغتباط، لكني جهلت والآن ألهمت، وما علم الإنسان إلا ليعلم، والله يهدينا إلى الذي يكون أحسن وأقوم، وإني لأعلم سيدي بخبري، وأطلع جلاله على عجري وبجري، ولكني رحلت عن تلك الحضرة، وعدمت النظرة في تلك النظرة، لبست الإهمال، واطعلت في السفر والاعتمال، فأقيم بادي الكآبة، مهتاج الصبابة، قد فارقت السكن، وخلفت الدار مثيرة الشجن:
وكانت جنتي فخرجت منها ... كآدم حين أخرجه الضرار
حتى إذا حططت رحلي بالقرى، وقنعت بالزاد الذي كفى معياراً والقرى، أدخلت إلى دار ضيقة المسالك، شديدة الظلمة كالليل الحالك، تذكرني القبر وأهواله وتنسيني الذي أهواه، بل تزيد على القبر برفل لا يتخلص، وبراغيث كزريعة الكتان حين تمحص، وبعوضٍ يطيل اللهز، ولا تغني حتى تشرب، وبوق يسقط سقوط الندى، ويزحف إلى فراشي زحف العدا، وأراقم خارجة من الكوى، وحيات بلدغها نزاعة للشوى، وجنون يسمع عزيفها، وسراق لا يعدم تخويفها، هذا ولا قرق لمن بالقهر حبس، إلا حصيرٌ قد اسود من طول ما لبس، لا يجتزي في طهارته بالنضح، ولا يحشد من جلس عليه إلا بالجرح، حتى إذا سجا الليل، وامتد منه على الآفاق الذيل، فارقني العون فراق الكرى، ورأيت الدمع لما جرى قد جرى، فأتوسد والله ذراعي، ولأحمد والله اضطجاعي، فكلا ليلي محمومين، والوجع والسهر محمولان على الرأس والعين،حتى إذا طلع الصبح، وآن لبالي وعيون الخصوم الفتح، أتاني عونٌ قد انحنى ظهره ظهره، ونيف عن المائة عمره لا يشعر بالجون الصيب، ولا تسمعه كلمات أبي الطيب، بربري الأصل، غير عارف بالفصل، حتى إذا أذنت للخصوم، وأردت إحياء الرسوم، دخل على غولان عاقلان، وأثقل كتفي منهما ما يلان، قد أكلا الثوم النيء والبصل، وعرقا في الزنانير عرقاً اتصل، يهديان إلى تلك الروائح، ويظهران لي المخازي والفضائح، فإذا حكمت لأحدهما على خصمه، وأردت الفصل الذي لا مطمع في فصمه، هرب العون هربا، وقضى من النجاة بنفسه أربا، واجتمع إلى النصحاء، وجاء المرضى والأصحاء، كل يقول أتريد تعجيل المنايا، وإثكال الولايا، وإتعاب صديقك السيد العماد، بمرتبةٍ كما فعل مع القاضي الحداد، فأقول هذا جهاد، وما لي في الحياة مراد، فأرتكب الخطر، وأقضى في الحكم الوطر. والله يسلم، ويكمل اللطف ويتمم. وأما إذا جاء أحدكم لكتب عقد، وطمعت في نسيئةٍ أو نقد، قطعت يومي في تفهم مقصده، مستعيذاً بالله من غضبه وحرده، حتى إذا ما تخلصت منه، وملأت السجل بما أثبته عنه، كشف عن أنياب عضل، وعبس عبوس المحب لانقطاع وصل، وقال لقد أخطأت فيما كتبت، ورسمت ما أردت وأحببت، فأكتب عقداً ثانياً وثالثاً، وأرتقب مع كل كلام حادثٍ حادثاً، فإذا رضي، فأسأله كيف، وسن السالي الذي أظهره، أو اسمه أو السيف، أخرج من فمه درهماً نتناً، قد لزم ضرساً عفناً، فأعاجله في البخور، وأحكه في الصخور، حتى إذا حمل لمن يبيع خبز الذرة منتناً، ويرى أنه قد فضل بذلك أنساً وحسناً، وجده ناقصاً زايفاً، فيرجع حامله وجلاً خايفاً، ويبقى القاضي فقيد الهجوع، يشد الحجر على بطنه من الجوع، على أنني أحمد خلاء البطن، وما بجسمي لا يحكى من الوهن، لتعذر المرحاض، وبعد ماء الحياض، وكمون السباع في الغياض، وتعلق الأفاعي بالرداء الفضفاض، ونجاسة الحجارة، وكثرة تردد السيارة، والانكشاف للريح العقيم، والمطر المنصب إلى الموضع الذميم. هذه الحال وعلى شرحها مجال، وقد صدقتك سنن فكري، وأعلمتك بذات صدري، فتجلى الغرارة غرور، وشهود الشهد زور، والطمع في الصرة إصرار ودون التبر يعلم الله تيار. وأما الكبش فحظى منه غباره إذا خطر، والثور بقرنه إذا العيد حضر، كما أن حظى من الجدي التأذي بمسلكه، وإن جدى السماء لأقرب لي من تملكه، وأنا من الحلاوة سالم ابن حلاوة، ولا أعهده من طرف الطرف الدماوة، ودون الدجاج كل مدجج، وعوض الأترج رجة بكل معرج، ولو عرفت أنك تقبل على علاتها الهدايا، وتوجب المزيد لأصحابك المزايا، لبعثت بالقماش، وأنفذت الرياش، وأظهرت الغنى، والوقوف بمبنى المنى، وأوردتها عليك من غير هلع، مطلعة في الجوف بعد بلع، من كل ساحلية تقرب إلى البحر، وعدوية لا تعد، وصدر مجلس الصدر، حتى أجمع بين الفاكهة والفكاهة، ويبدو لي بعد الشقف وجوه الوجاهة، وأتبرأ من الصد المذموم، ولا أكون أهدأ من القطا لطرق اللوم، لأنك زهدت في الدنيا زهد ابن أدهم، وألهمك الله من ذلك أكرم ما ألهم، فيدك من أموال الناس مقبوضة، وأحاديث اللها الفاتحة للها مرفوضة، وإذا كان المرء على دين خليله، ومن شأنه سلوك نهجه وسبيله، فالأليق أن أزهد في الصفراء والبيضاء، وأقابل زخرف الدنيا بالبغضاء، وأحقق وأرجو على يدك حسن التخلي، والاطلاع على أسرار التجلي، حتى أسعد بك في آخرتي ودنياي، وأجد بركة خاطرك في مماتي ومحياي، أبقاك الله بقاء يسر، وأمتع
بمناقبك التي يحسدها الياقوت
والدر، ولا زلت في سيادة تروق نعتاً، وسعادةٍ لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً، وأقرأ
عليك سلاماً عاطر العرف، كريم التأكيد والعطف ما رثى لحالي راث، وذكرت أداية حراث،
ورحمة الله وبركاته. وكتبه أخوك ومملوكك، وشيعة مجدك، في الرابع والعشرين من جمادى
الأولى عام أربعة وستين وسبعمائة.بك التي يحسدها الياقوت والدر، ولا زلت في سيادة
تروق نعتاً، وسعادةٍ لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً، وأقرأ عليك سلاماً عاطر العرف،
كريم التأكيد والعطف ما رثى لحالي راث، وذكرت أداية حراث، ورحمة الله وبركاته.
وكتبه أخوك ومملوكك، وشيعة مجدك، في الرابع والعشرين من جمادى الأولى عام أربعة
وستين وسبعمائة.
مولدهبغرناطة عام ثلاثة عشر وسبعمائة
محنتهتوجه رسولا عن السلطان إلى صاحب تلمسان السلطان
أحمد بن موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن يحيى بن يغمر اسن بن زيان: وظفر بالجفن
الذي ركبه العدو، بأحواز جزيرة حبيبة، من جهة وهران، فأسر هو ومن بأسطول سفره من
المسلمين، وبلغ الخبر فعظم الفجع، وبين نحن نروم سفر أسطول يأخذ الثار، ويستقري
الآثار، فيقيل العثار، إذا اتصل الخبر بمهادنة السلطان المذكور، ففدى من أسر بذلك
المال الذي ينيف على سبعة آلاف من العين في ذلك، فتخلص من المحنة لأيام قلائل، وعاد،
فتولى السلطان إرضاءه عما فقد، وضاعف له الاستغناء وجدد، وكان حديثه من أحاديث
الفرج بعد الشدة محسوباً، وإلى سعادة السلطان منسوباً، وأنشدته شعراً في مصابه،
بعدها، وقد قضيبت له من بر السلطان على عادتي، ما جبر الكسر، وخفض الأمر:
خلصت كما خلص الزبرقان ... وقد محق النور عنه السرا
وفي السيق والرار ... في هذا سر وفي ذا أسرار
وكان تاريخ هذه المحنة المردفة المنحة، حسبما نقلته من
خطه، قال اعلموا يا سيدي أبقاكم الله تعالى، أن سفرنا من ألمرية، كان في يوم
الخميس السادس لشهر ربيع الآخر من عام ثمانية وستين وسبعمائة، وتغلب علينا العدو
في عشية يوم الجمعة الثاني منه، بعد قتال شديد، وكان خروجنا من الأسر في يوم السبت
الثاني والعشرين لربيع الثاني المذكور، وكان وصولي إلى الأندلس في أسطول مولانا
نصره الله، في جمادى الآخرة من العام المذكور، بعد أن وصلوا قرطاجنة وأخذوا
أجفاناً ثلاثة من أجفان العدو، وعمل المسلمون الأعمال الكريمة.
إبراهيم بن خلف القرشي العامريإبراهيم بن خلف بن محمد بن
الحبيب بن عبد الله ابن عمر بن فرقد القرشي العامري قال ابن عبد الملك، كذا وقفت
على نسبه بخطه في غير ما موضع من أهل مورة، وسكن إشبيلية.
حالهكانت متفنناً في معارفه، محدثاً، راوية، عدلاً
فقيها، حافظاً، شاعراً، كاتباً، بارعاً، حسن الأخلاق، وطيء الأكناف، جميل المشاركة
لإخوانه وأصحابه، كتب بخطه الكثير من كبار الدواوين وصغارها، وكان من أصح الناس
كتباً، وأتقنهم ضبطاً وتقييداً، لا تكاد تلقى فيما تولى تصحيحه خللا، وكان رؤوفاً
شديد الحنان على الضعفاء والمساكين واليتامى، صليباً في ذات الله تعالى، يعقد
الشروط محتسباً، لا يقبل ثواباً عليها إلا من الله تعالى.
مشيختهتلا بالسبع على أبي عمران موسى بن حبيب، وحدث عن
أبي الحسن بن سليمان ابن عبد الرحمن المقرى، وعبد الرحمن بن بقى، وأبي عمرو ميمون
بن ياسين، وأبي محمد بن عتاب، وتفقه بأبوى عبد الله بن أحمد بن الحاج، وابن حميد
وأبي الوليد بن رشد، وأجاز له أبو الأصبغ بن مناصف، وأبو بكر بن قزمان، وأبو
الوليد بن طريف.
من روى عنه، روى عنه أبو جعفر، وأبو إسحاق بن علي
المزدالي، وأبو أمية إسماعيل بن سعد السعود بن عفير، وأبو بكر بن حكم الشرمسي،
وابن خير، وابن تسع، وابن عبد العزيز الصدفي، وأبو الحجاج ابراهيم بن يعقوب، وأبو
علي ابن وزير، وأبو الحسن بن أحمد بن خالص، وأبو زيد محمد الأنصاري، وأبو عبد الله
ابن عبد العزيز الذهبي، وأبو العباس بن سلمة، وأبو القاسم بن محمد بن إبراهيم المراعي،
وأبو محمد بن أحمد بن جمهور، وعبد الله بن أحمد الأطلس.
تواليفهدون برنامجاً ممعتعاً ذكر فيه شيوخه، وكيفية أخذه
عنهم، وله رجزٌ في الفرائض مشهور، ومنظومٌ كثير، وترسل منوع، وخطب مختلفة المقاصد،
ومجموعٌ في العروض.
دخوله غرناطة
قال المؤرخ: وفي عام أربعة
وخمسين وخمسمائة، عند تغيب الخليفة بالمهدية استدعى السيد أبو سعيد الوالي
بغرناطة، عند استقراره بها، الحافظ أبا بكر بن الجد، والحافظ أبا بكر بن حبيش،
والكاتب أبا القاسم بن المراعي، والكاتب أبا إسحاق بن فرقد، وهو هذا المترجم به،
فأقاموا معه مدة تقرب عن عامين اثنين بها.
شعرهمما ينقل عنه قصيدة شهيرة في رثاء الأندلس:
ألا مسعدٌ منجزٌ ذو فطن ... يبكي بدمعٍ معين هتن
جزيرة أندلسٍ حسرةً ... لا غالب من حقود الزمن
ويندب أطلالها آسفاً ... ويرثى من الشعر ما قد وهن
ويبكي الأيام ويبكي اليتامى ... ويحكي الحمام ذوات الشجن
ويشكو إلى الله شكوى شجٍ ... ويدعوه في السر ثم العلن
وكانت رباطاً لأهل التقى ... فعادب مناطاً لأهل الوثن
وكانت معاذاً لأهل التقى ... فصارت ملاذاً لمن لمن يدن
وكانت شجى في حلوق العدا ... فأضحى لهم مالها محتجن
وهي طويلة، ولدى خلاف فيمن أفرط في استحسانها. وشعره
عندي وسط. ومن شعره وهو حجة في عمره عند الخلاف في ميلاده ووفاته. قال:
ثمانون عاماً مع ست عمرت وليتني ... أرقت دموعي بالبكاء
على ذنب
فلا الدمع في محو الخطيئة غنيةٌ ... إذا هاج من قلبٍ
منيب إلى الرب
فيا سامع الأصوات رحماك أرتجي ... فهب لي انسكاب الدمع
من رقة القلب
وزك الذي تدريه من شيمةٍ ... تعلق بالمظلوم من شدة الكرب
وزك مثابي في العقود وكتبها ... لوجهك لم أقبل ثواباً
على كتب
ولا تحرمني أجر ما كنت فاعلاً ... فحق اليتامى عندي من
لذي صعب
ولا تحزني يوم الحساب وهوله ... إذا جئت مذعوراً من
الهول والرعب
مولدهحسبما نقل من خط ابنه أبي جعفر، ولد يعني أباه سنة
أربع وثمانين وأربعمائة.
وفاتهبعد صلاة المغرب من ليلة الثلاثاء الثامن عشر من
محرم عام اثنين وسبعين وخمسمائة. ونقل غير ذلك.
إبراهيم بن محمود النفريإبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن
عبيدس بن محمود النفري أبدي الأصل غرناطي الإستقرار، ويكنى أبا إسحاق.
حالهخاتمة الرجال بالأندلس، وشيخ المجاهدات وأرباب
المعاملات، صادق الأحوال، شريف المقامات، مأثور الإخلاص مشهور الكرامات، أصبر
الناس على مجاهداته، وأدومهم على عمل وذكرٍ وصلاة وصوم، ولا يفتر عن ذلك ولا ينام،
آيه الله في الإيثار، لا يدخر شيئاً لغد، ولا يتحرف بشيء، وكان فقيهاً حافظاً،
ذاكراً للغة والأدب، نحوياً ماهراً، درس ذلك كله أول أمره، كريم الأخلاق، غلب عليه
التصوف فشهر به، وبمعرفة طريقه الذي ند فيها أهل زمانه، وصنف فيها التصانيف
المفيدة.
ترتيب زمانهكان يجلس إثر صلاة الصبح لمن يقصده من الصالحين،
فيتكلم لهم بما يجريه الله على لسانه، وييسر من تفسير، وحديث وعظة، إلى طلوع
الشمس، فيتنفل صلاة الضحى، وينفصل إلى منزله، ويأخذ في أوراده، من قراءة القرآن
والذكر والصلاة إلى صلاة الظهر، فيبكر في رواحه، ويوالي التنفل إلى إقامة الصلاة،
ثم كذلك في كل صلاة، ويصل ما بين العشاءين بالتنفل، هذا دأبه أبدا.
وكان أمره في التوكل عجباً، لا يلوي على سبب، وكانت تجبى
إليه ثمرات كل شيء، فيدفع ذلك بجملته، وربما كان الطعام بين يديه، وهو محتاجٌ،
فيعرض من يسأله، فيدفعه جملة، ويبقى طاوياً، فكان الضعفاء والمساكين له لياذاً
ينسلون من كل حدب، فلا يرد أحداً منهم خائباً، ونفع الله بخدمته وصحبته، واستخرج
بين يديه عالماً كثيراً.
مشيختهأخذ القراءة عن أبي عبد الله الحضرمي، وأبي الكوم
جودي بن عبد الرحمن، والحديث عن أبي الحسن بن عمر الوادي آشي، وأبي محمد عبد الله
بن سليمان ابن حوط الله، والنحو واللغة عن ابن يربوع وغيره. ورحل وحج، وجاور وتكرر.
ولقي هناك غير واحد، من صدور
العلماء وأكابر الصوفيه، فأخذ صحيح البخاري سماعاً منه سنة خمس وستمائة عن الشريف
أبي محمد بن يونس، وأبي الحسن علي بن عبد الله بن المغرباني، ونصر بن أبي الفرج
الحضرمي، وسنن أبي داود وجامع الترمذي علي أبي الحسن بن أبي المكارم نصر بن أبي
المكارم البغدادي، أحد السامعين علي أبي الفتح الكروخي، وأبي عبد الله محمد بن
مسترى الحمة، وأبي المعالي بن وهب بن البنا، وببجاية عن أبي الحسن علي بن عمر ابن
عطية.
من روى عنه، روي عنه خلق لا يحصون كثرة، منهم أحمد بن
عبد المجيد ابن هذيل الغساني، وأبو جعفر بن الزبير، وغيره.
تواليفهصنف في طريقه التصوف وغيرها تصانيف مفيدة، منها
مواهب العقول وحقائق المعقول، والغيرة المذهلة، عن الحيرة والتفرقة والجمع، والرحلة
العنوية، ومنها الرسائل في الفقه والمسائل، وغير ذلك.
شعرهله أشعار في التصوف بارعة، فمن ذلك ما نقلته من خط
الكاتب أبي إسحاق ابن زكريا في مجموع جمع فيه الكثير من القول:
يضيق علي من وجدي الفضاء ... ويقلقني من الناس العناء
وأرض الله واسعة ولكن ... أبت نفسي تحيط بها السماء
رأينا العرش والكرسي أعلا ... فواليناهما حرم الولاء
فأين الأين منا أو زمانٌ ... بحيث لنا على الكل استواء
شهدنا للإله بكل حكم ... فغاب القلب وانكشف الغطاء
ويدعوني الإله إليه حقاً ... فيؤنسني من الخوف الرجاء
ويقبضني ويبسطني ويقضي ... بتفريقي وجمعي ما يشاء
ويعي في وجود الخلق نحواً ... ينعت من تولاه الفناء
فكم أخفي وجودي وقت فقدي ... كأن الفقد والإحيا سواء
فسكرٌ ثم صحوٌ ثم سكر ... كذاك الدهر ليس له انقضاء
فوصفي حال من وصفي ولكن ... ظهور الحق ليس له خفاء
إذا شمس النهار بدت تولت ... نجوم الليل ليس لها انجلاء
ومن شعره:
كم عارف سرحت في العلم همته ... فعقله لحجاب العقل هتاك
كساه نور الهدى برداً وقلده ... دراً ففي قلبه للعلم
أسلاك
كسب ابن آدم في التحقيق كسوته ... إن القلوب لأنوار
وأحلاك
كلف فؤادك ما يبدي عجائبه ... إن ابن آدم للأسرار دراك
كيف وكم ومتى والأين منسلب ... عن وصف باريها والجهل
تباك
كبر وقدس ونزه ما أطقت فلم ... يصل إلى ملك الأملاك
أملاك
كرسيه ذل والعرش استكان له ... ونزه الله أملاك وأفلاك
كل يقر بأن العجز قيده ... والعجز عن درك الإدراك دراك
وقال، وهو ما اشتهر عنه، وأنشدها بعض المشارقة في رحلته
في غرض اقتضى ذلك، يقتضي ذكره طولا:
يا من أنامله كالمزن هاميةٌ ... وجود كفيه أجرى من
يجاريها
بحق من خلق الإنسان من علقٍ ... أنظر إلى رقعتي وافهم
معانيها
أني فقيرٌ ومسكين بلا سبب ... سوى حروف من القرآن أتلوها
سفينة الفقر في بحر الرجا غرقت ... فامنن عليها بريحٍ
منك يجريها
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من
يعانيها
وقال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك، وقد ذكره، على
الجملة فبه ختم جلة أهل هذا الشأن بصقع الأندلس، نفعه الله ونفع به.
مولدهولد بجيان سنة اثنتين وخمسمائة أو ثلاث وستين.
إبراهيم بن أبي بكر التسوليإبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي
بكر التسولي من أهل تازي يكنى أبا سالم ويعرف بابن أبي يحيى.
حاله
من أهل الكتاب المؤتمن، كان
هذا الرجل قيماً على التهذيب، ورسالة ابن أبي زيد، حسن الإقراء لهما، وله عليهما
تقييدان نبيلان، قيدهما أيام قراءته إياهما على أبي الحسن الصغير، حضرت مجالسه
بمدرسة عدوة الأندلس من فاس، ولم أر في متصدري بلده أحسن تدريباً منه. كان فصيح
اللسان، سهل الألفاظ، موفياً حقوقها، وذلك لمشاركته الحضر فيما في أيديهم من
الأدوات، وكان مجلسه وقفاً على التهذيب والرسالة، وكان مع ذلك شيخاً فاضلاً، حسن
اللقاء، على خالق بائنة من أخلاق أهل مصرة. امتحن بصبحة السلطان، فصار يستعمله في الرسايل،
فمر في ذلك حظٌ كبير من عمره ضايعاً، لا في راحة دنيا، ولا في نصيب آخرة، ثم قال
هذه سنة الله فيمن خدم الملوك، ملتفتاً إلى ما يعطونه، لا إلى ما يأخذون من عمره
وراحته، أن يبوؤا بالصفقة الخاسرة، لطف الله بمن ابتلى بذلك، وخلصنا خلاصاً جميلاً.
ومن كتاب عائد الصلة: الشيخ، الحافظ، الفقيه، القاضي، من
صدور المغرب، مشاركاً في العلم، متبحراً في الفقه، كان وجيهاً عند الملوك صحبهم،
وحضر مجالسهم، واستعمل في السفارة، فلقيناه بغرناطة، وأخذنا بها عنه، تام السراوة،
حسن العهد، مليح المجالس، أنيق المحاضرة، كريم الطبع، صحيح المذهب.
تصانيفهقيد على المدونة، بمجلس شيخه القاضي أبي الحسن،
كتاباً مفيداً، وضم أجوبته على المسائل في سفر، وشرح كتاب الرسالة شرحاً عظيم
الفائدة.
مشيختهلازم أبا الحسن الصغير، وهو كان قارىء كتب الفقه
عليه، وجل انتفاعه في التفقه به، وروى عن أبي زكريا بن أبي ياسين، قرأت عليه كتاب
الموطأ إلا كتاب المكاتب وكتاب المدبر، فإنه سمعه بقراءة الغير، وعن أبي عبد الله
بن رشد، قرأ عليه الموطأ، وشفاء، عياض، وعن أبي الحسن ابن عبد الجليل السداري، قرأ
عليه الأحكام الصغرى لعبد الحق، وأبي الحسن ابن سليمان، قرأ عليه رسالة ابن أبي
زيد، وعن غيرهم.
وفاتهفلج بآخرة، فالتزم منزله بفاس، يزوره السلطان فمن
دونه، وتوفي بعد عام ثمانية وأربعين وسبعمائة.
إبراهيم بن أبي العاصي التنوخيإبراهيم بن محمد بن علي بن
محمد بن أبي العاصي التنوخي أصله من جزيرة طريف ونشأ بغرناطة واشتهر.
حالهمن عائد الصلة: كان نسيج وحده حياءً، وصدقة وتخلقاً،
ومشاركة، وإيثاراً. رحل عند استيلاء العدو على جزيرة طريف، عام أحد وسبعين
وستمائة، متحولاً إلى مدينة سبتة، فقرأ بها واستفاد. وورد الأندلس فاستوطن مدينة
غرناطة، وكتب في الجملة عن سلطانها، وترقى معارج الرتب، حالاً محالا، من غير
اختلاف على فضله، ولا نزاع في استحقاقه، وأقرأ فنوناً من العلم، بعد مهلك أستاذ الجماعة،
أبي جعفر بن الزبير، بإشارة منه به، وولي الخطابة والإمامة بجامعها منتصف صفر عام
ستة عشر وسبعمائة، وجمع بين القراءة والتدريس، فكان مقرئاً للقرآن، مبرزاً في
تجويده، مدرساً للعربية والفقه، آخذاً في الأدب، متكلماً في التفسير، ظريف الخط،
ثبتاً محققاً لما ينقله، وألقى الله عليه من المحبة والقبول، وتعظيم الخلق له، ما
لا عهد بمثله لأحد، بلغ من ذلك مبلغاً عظيماً، حتى كان أحب إلى الجمهور من أوصل
أهلهم وآبائهم، يتزاحمون عليه في طريقه، يتمسحون به، ويسعون بين يديه، ومن خلفه،
ويتزاحم مساكينهم على بابه، قد عودهم طلاقة وجهه، ومواساته لهم بقوته، يفرقه عليهم
متى وجدوه، وربما أعجلوه قبل استواء خبزه، فيفرقه عليهم عجيناً. له في ذلك أخبار
غريبة. وكان صادعاً بالحق، غيوراً على الدين، مخالفاً لأهل البدع، ملازماً للسنة،
كثير الخشوع والتخلق على علو الهمة، مبذول المشاركة للناس والجد في حاجاتهم، مبتلى
بوسواس في وضوئه، يتحمل الناس من أجله مضضاً في تأخير الصلوت ومضايقة أوقاتها.
مشيخته
قرأ ببلده على الخطيب القاضي
المقرى أبي الحسن عبيد الله بن عبد العزيز القرشي المعروف بابن القارىء، من أهل
إشبيلية، وقرأ بسبتة على الأستاذ إمام المقرئين لكتاب الله، أبي القاسم محمد بن
عبد الرحمن بن الطيب بن زرقون القيسي الضرير، نزيل سبتة، والأستاذ أبي إسحاق
الغافقي المريوني، وقرأ على الشيخ الوزير أبي الحكم بن منظور القيسي الإشبيلي،
وعلى الشيخ الراوية، الحاج أبي عبد الله محمد بن الكتامي التلمساني بن الخضار،
وقرأ بغرناطة على الأستاذ أبي جعفر ابن الزبير، وأخذ عن أبي الحسن بن مستقور.
شعرهكان يقرض شعراً وسطاً، قريباً من الانحطاط. قال
شيخنا أبو بكر ابن الحكيم في كتابه المسمى بالفوائد المنتخبة، والموارد المستعذبة،
كتب إليه شيخنا وبركتنا أبو جعفر بن الزيات في شأن شخص من أهل البيت النبوي بما
نصه:
رجل يدعي القرابة للبي ... ت وإن الثريا منه بمعزل
سأل مني خطابكم وهو هذا ... ولكم في القلوب أرفع منزل
فهبوه دعاءكم وامنحوني ... منه حظا ينمي الثواب ويجزل
وعليكم تحية الله ما دا ... م أمير الهدى يولي ويعزل
فأجابه:
يا إمامي ومن به قطركم ذا ... ك وحادي البلاد أطيب منزل
لم أضع ما نظمتم من يدي حتى ... أنيل الشريف تحفة منزل
وحباه بكل منح جزيل ... من غدا يمنح الثواب ويجزل
دمتم تنشرون علماً ثواب الل ... ه فيه لكم أعز وأجزل
تذكرون الله ذكراً كثيراً ... وعليكم سكينة الله تنزل
وطلبتم مني الدعاء وإني ... عند نفسي من الشروط بمعزل
لكن ادعو ولتدع لي يرضا الل ... ه وأبدى فهم ذكر قد انزل
وحديث الرسول صلى عليه ... كل وقت ورب لنا الغيث ينزل
وعليكم تحيتي كل حين ... ما اطمأنت بمكة أم بمعزل
قال، ومما أنشدني من نظمه أيضاً في معرض الوصية للطلبة:
إعمل بعلمك تؤت علماً إنما ... عدوي علوم المرء منح
الأقوم
وإذا الفتى قد نال علماً ثم لم ... يعمل به فكأنما لم
يعلم
وقال موطئاً على البيت الأخير:
أمولاي أنت العفور الكريم ... لبذل النوال مع المعذرة
على ذنوبٌ وتصحيفها ... ومن عندك الجود والمغفرة
إسماعيل بن فرج الأنصاريإسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن
يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد ابن خميس بن نصر بن قيس الأنصاري الخزرجي أمير
المؤمنين بالأندلس رحمه الله.
أوليتهتقرر عند ذكر الملوك من قومه في اسم صنو جده، أمير
المسلمين أبي عبد الله الغالب بالله.
حالهمن كتاب طرفة العصر في تاريخ دولة بني نصر، من تصنيفنا:
كان رحمه الله، حسن الخلق، جميل الرواء، رجل جد، سليم الصدر، كثير الحياء، صحيح
العقل، ثبتاً في المواقف، عفيف الإزار، ناشيئاً في حجر الطهارة، بعيدا ًعن الصبوة،
برياً من المعاقرة، نشأ مشتغلا بشأنه متبنكاً نعمة الله، مختصاً بإيثار السلطان جده
أبي أمه، وابن عم والده، منقطعاً إلى الصيد، معروف اللذة إلى استجادة سلاحه،
وانتقاء مراكبه، واستفراه جوارحه، إلى أن أفضي إليه الأمر، وساعدته الأيام. وخدمه
الجد، وتنقل إلى بيته الملك به، وثوى في عقبه الذكر، فبذلك العدل في رعيته، واقتصد
في جبايته، واجتهد في مدافعة عدو الله، وسد ثلم ثغوره، فكان غرة في قومه، ودرة في
بيته، وحسنةً من حسنات دهره. وسيرد نبذٌ من أحواله، مما يدل على فضل جلاله.
صفته
كان معتدل القد، وسيم الصورة،
عبل اليدين، أبيض اللون، كثير اللحية، بين السواد والصهوبة أنجل أعين أفوه مليح
العين، أقنى الأنف، جهير الصوت، أمه الحرة الجليلة، العريقة في الملوك، فاطمة بنت
أمير المؤمنين، أبي عبد الله نخبة الملك، وواسطة العقد، وفخر الحرم، البعيدة الشأو
في العز والحرمة، وصلة الرعي، وذكر التراث. واتصلت حياتها، ملتمسة الرأي، برنامجا
للفوائد، تاريخاً للأنساب، إلى أن توفيت في عهد حفيدها السلطان أبي الحجاج، رحمها
الله، وقد أنفت على تسعين من السنين، فكان الحفل في جنازتها، موازياً لمنصبها،
ومتروكها، المفضي إليه خطيره، وقلت في رثائها:
نبيت على علم بغائله الدهر ... ونعلم أن الخلق في قبضة
الدهر
ونركن للدنيا اغتراراً بقهرها ... وحسبك من يرجو الوفاء
من الغدر
ونمطل بالعزم الزمان سفاهةً ... فيومٌ إلى يوم وشهرٌ إلى
شهر
وتغري بها نفسي المطامع والهوى ... ونرفض ما يبقى فيا
ضيعةً العمر
هو الدهر لا يبقى على حدثانه ... جديدٌ ولا ينفك من حادث
نكر
وبين الخطوب الطارقات تفاضل ... كفضل من اغتالته في رفعة
القدر
ألم تر أن المجد أقوت ربوعه ... وصوح من أدواحه كل مخضر
ولاحت على وجه العلاء كآبة ... فقطب من بعد الطلاقة
والبشر
وثبت اسمها في الوفيات من الكتاب المذكور بما نصه:
السلطانة الحرة الطاهرة، فاطمة بنت أمير المسلمين، أبي عبد الله ابن أمير المسلمين
الغالب بالله، بقية نساء الملوك، الحافظة لنظام الإمارة، رعيا للمتات، وصلة
للحرمة، وإسداء للمعروف، وستراً للبيوتات، واقتداء بسلفها الصالح، في نزاهة النفس،
وعلو الهمة، ومتانة الدين، وكشف الحجاب، ونفاذ العزم، واستشعار الصبر، توفيت في
كفالة حفيدها، أمير المسلمين أبي الحجاج، مواصلا برها، ملتمساً دعاءها، مستفيداً
تجربتها وتاريخها، مباشراً مواراتها بمقبرة الجنان، داخل الحمراء، سحر يوم الأحد
السابع لذي حجة من عام تسعة وأربعين وسبعمائة.
أولادهتخلف من الولد أربعة، أكبرهم محمد، ولي الأمر من
بعده، وفرج شقيقه التالي له بالسن، المنصرف عن الأندلس بعد مهلك أخيه المذكور،
المتقلب في الإيالات، الهالك أخيراً في سجن قصبة ألمرية عام أحد وخمسين وسبعمائة،
مظنونا به الاغتيال، ثم أخوه أمير المسلمين، أبو الحجاج، تغمده الله برحمته، أقعد القوم
في الملك، وأبعدهم أمداً في السعادة، ثم إسماعيل أصغرهم سناً، المبتلي في زمان
الشبيبة في الثقاف، المخيف مدة أخيه، المستقر الآن موادعاً مرفودا، بقصر المستخلص
من ظاهر شالوبانية، وبنتين ثنتين من حظيته علوة، عقد عليهما أخوهما أبو الحجاج،
لرجلين من قرابته.
وزراؤهوزر له أول أمره القائد البهمة، أبو عبد الله محمد
بن أبي الفتح الفهري، وبيت هؤلاء القواد شهير، ومكانتهم من الملوك النصريين مكينة،
أشرك معه في الوزارة الفقيه الوزير أبا الحسن علي بن مسعود بن علي بن مسعود
المحاربي، من أعيان الحضرة، وذوي النباهة، فجاذب رفيقه حبل الخطة، ونازعه لباس
الحظوة، حتى ذهب باسمها ومسماها، وهلك القائد أبو عبد الله بن أبي الفتح، فخلص له
شربها، وسيأتي التعريف بكل على انفراد.
كتابهكتب عنه لأول أمره بمالقة، ثم بطريقه إلى غرناطة،
وأياماً يسيرة بها، الفقيه الكاتب أبو جعفر بن صفوان المتقدم ذكره، ثم ألقى
المعتادة إلى كاتب الدولة قبل، شيخنا أبي الحسن بن الجياب، فاصل الخطة، وباري
القوس، واقتصر عليه إلى آخر أيامه.
قضاتهاستقضى أخا وزيره، الشيخ الفقيه أبا بكر بن يحيى بن
مسعود بن علي، رجل الجزالة، وفيصل الحكم، فاشتد في إقامة الحكم، وغلظ بالشرع، واستعان
بالجاه، فخيف سطوته، واستمر قاضياً إلى آخر أيامه
رئيس جنده الغربيالشيخ البهمة، لباب قومه، وكبير بيته،
أبو سعيد عثمان بن أبي العلاء إدريس ابن عبد الله بن عبد الحق، مشاركا له في
النعمة، ضارباً بسهم في المنحة، كثير التجني والدالة، إلى أن هلك المخلوع، وخلا
الجو، فكان منه بعض الإقصار.
الملوك على عهده
وأولاد بعدوة المغرب، كان على
عهده من ملوك المغرب السلطان الشهير، جواد الملوك، الرحب الجناب، الكثير الأمل،
خدن العافية، ومحالف الترفية، مفحم النعيم، السعيد على خاصته وعامته، أبو سعيد
عثمان بن السلطان الكبير، المجاهد المرابط، أبي يوسف بن عبد الحق. وجرت بينه وبينه
المراسلات، واتصلت أيامه بالمغرب بعد مهلكه، وصدراً من أيام ولده أبي عبد الله
حسبما مر عند ذكره.
وبمدينة تلمسان، وطن القبلة، الأمير أبو حمو موسى بن
عثمان بن يغمر اسن بن زيان، ثم توفي قتيلا على عهده بأمر ولده المذكور، واستغرقت
أيام ولده المذكور الوالي بعده، إلى أن هلك في صدر أيام أبي الحجاج، وجرت بينه
وبين الأمير مراسلات وهدايات.
وبمدينة تونس، الشيخ المتلقب بأمير المؤمنين أبو يحيى زكريا
بن أبي حفص المدعو باللحياني، المتوثب بها على الأمير أبي البقاء خالد بن أبي
زكريا بن أبي حفص، وهو كبير، إلا أن أبا حفص أكبر سناً وقدراً، وقد تملك تونس تاسع
جمادى الآخرة من عام ظهر له اضطرب من بها، أحد عشر وسبعمائة، وتم له الأمر، واعتقل
أبا البقاء بعد خلعه، ثم اغتاله في شوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، ثم رحل عن تونس
لما ظهر له من اضطراب أمره بها، وتوجه إلى طرابلس في وسط عام خمسة عشر، واستناب
صهره الشيخ أبا عبد الله بن أبي عمر، ولم يعد بعد إليها، ثم اضطراب أمر إفريقية،
وتنوبه عدة من الملوك الحفصيين، منهم الأمير أبو عبد الله بن أبي عمر المذكور،
وأبو عبد الله بن اللحياني، والسلطان أبو بكر ابن الأمير أبي زكريا بن الأمير أبي
إسحاق، لبنة تمامهم، وآخر رجالهم، واستمرت أيامه إلى أيام ولده الأمير بالأندلس ومعظم
أيامه ولديه، رحم الله الجميع.
ومن ملوك الروم بقشتاله، كان على عهده مقروناً بالعهد
القريب من ولايته، الطاغية هراندة بن شانجه بن ألهنشة بن هراندة المجتمع له ملك
قشتالة وليون، وهو المتغلب على إشبيلية، وقرطبة، ومرسية، وجيان، ابن ألهنشة، الذي
جرت له وعليه هزيمة الأرك والعقاب، ابن شانجه بن ألهنشة المسمى إنبرذور، وهو الذي
أفرد صهره وزوج بنته بملك برتقال، إلى أجداد، يخرجنا تقصي ذكرهم عن الغرض.
ومن ملوك رغون من شرق الأندلس، الطاغية جايمش بن بطره بن
جايمش الذي تغلب على بلنسية، ابن بطره بن ألهنشة، إلى أجداد عدة كذلك. ثم هلك في
أخريات أيامه، فولي ملك أرغون بعده ألهنشة بن جايمش إلى أخريات أيامه.
وببرتقال ألهنشة بن يومس بن ألهنشة بن شانجه ابن ألهنشة
بن شانجه بن ألهونشة، ويسمو أولا دوقاً.
ذكر تصير الأمر إليه
لما ولي الأمر بالأندلس، حرسها الله، السلطان أبو الجيوش نصر بن السلطان أبي عبد الله محمد بن السلطان الغالب بالله أبي عبد الله بن نصر، يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة، بالهجوم على أخيه أبي عبد الله الزمن المقعد، الآمن في ركن بيته، واغتيال ابن الحكيم وزيره ببابه، والإشادة بخلعه حسبما يأتي في موضعه، استقر الأمر على ضعف أخيه، وسارع دخلته، فساءت السيرة لمنافسة الخاصة، وكان الرئيس الكبير عميد القرابة، وعلم الدولة أبو سعيد فرج، ابن عم السلطان المخلوع، وأخيه الوالي بعده، راسخاً قدمه وعرفه، بمثوبة الوارث، ولنظره عن أبيه المسوغ عن جده مالقة وما إليها، ولنظره مدينة سبتة، المضافة إلى إيالة المخلوع عن عهد قريب، قد أفرد بها ولده المترجم به، وجميعهم تحت طاعته، وفي زمان انقياد سوغ مديد الدولة، بل مد سروها لما شاء عز وجل من احتوائهم في حبل هذا الدايل، يتعقبون على الرئيس الكبير أموراً تثر مخيمة الصدور، وتستدعي فرض الطاعة، وتحتوي على مظنات مخلة، واحترسوا صافيات منافعه، وأوعزوا إلى ولاة الأعمال بالتضييق على رجاله، وصرفوا سننه عن نظره. ولما بادر إلى الحضرة لإعطاء صفقة البيعة وتهنئة السلطان نصر، عن روحه، وابن عمه، على عادته، داخله بعض أرباب الأمر، محذراً، ومشيراً بالامتناع ببلده، والدعء لنفسه، ووعده بما وسعه، فاستعجل الانصراف إلى بلده، ولم تمر إلا برهة، واشتعلت نار الفتنة، وهاجت مراجل الحفيظة، فتلاحق به ولده، وأظهر الانفراد والاستعداد في سابع عشر رمضان من هذا العام. وأقام ولده إسماعيل، برسم الملك والسلطان، ورتب له ألقاب الملك، ودون ديوان الملك بحسبه، ونازل حضرة أنتقيرة، وناصبها القتال، فتملكها، ودخلت مربلة في طاعته، وتحرك إلى بلش فنازلها، ونصب عليها المجانيق فدانت، فضخمت الدعوة، ومكنت الجباية، والتف إليه من مساعير الحروب ومن أجاب.
وتحرك إلى غرناطة في أول شهر
محرم، عام اثني عشر وسبعمائة، ونزل بقرية العطشا من مرجها. وبرز السلطان نصر في
جيش خشن، مستجاد العدة، وافر الرجل، فكان اللقاء ثالث عشر الشهر، فأظهر الله أقل
الفئتين، وانجرت على الجيش الغرناطي الهزيمة، وكبا بالسلطان نصر فرسه في مجرى سقى
لبعض الفدن، فنجا بعد لأي ودخل البلد مفلولا، وانصرف الجيش المالقي ظاهراً إلى
بلده، وطال بالرئيس وولده الأمر وضرستها الفتنة، وعظم احتياجه إلى المال، وكادت
تفضحه المطاولة، وزاحمه الملك بمكلف ضخم، فاقتضى ذلك إذعانه إلى الصلح، وإصغاره المهادنة،
على سبيله من المقام ببلده، مسلماً للسلطان في جبايته، جاريةً وطايفةً في رياسته،
وأرزاق جنده، فتم ذلك في ربيع الأول من العام المذكور. ثم لقحت فتنة في العام المذكور هاتفين
بخلعان السلطان وطاعة مخلوعهم، وطالبين منه إسلام وزيره خدن الروم، المتهم على
الإسلام أبي عبد الله بن الحاج. ثم لحق زعماؤهم بمالقة عند اختلال ما أبرموه،
فكانت الحركة الثانية لغرناطة بعد أمور اختصرتها، من استبداد السلطان أبي الوليد
بأمره، والانحطاط في القبض على أبيه، إلى هوى جنده، والتصميم في طلب حقه، فاتصل سيره،
واحتل بلوشة سرار شوال فتملكها، ورحل قافلا إلى وطنه، طريد كلب الشتاء، وافر
الخزانة، واقتضى الرأي الفائل ممن له النظر الجاش من زعيم شيوخ جندها، اتهاماً له
بالطاغية، فسجنه. ثم بدا له في أمره. ثم سرحه بعد استدعاء يمينه، فوغرت صدور
حاشيته، وبتعهم من كان على مثل رأيهم، وهو شوكة حادة، فصرفوا الوجوه إلى السلطان
المقبل الحظ، المحبوب إليه هوى الملك، بما راعه، ثانياً من عنانه بأحواز أرجدونة،
إلا تثويب داعيهم، فكر إلى المدينة وبزر إليه جيشها، ملتفا على عبد الحق بن عثمان،
فأبلى، وصدق الحملة، فكادت تكون الدائرة، فلولا ثبوت السلطان لما استقبلت بأسفلهم
الحملة، فولوا منهزمين، وتبعهم إلى سور المدينة، وقد خفت اللفيف والغوغا، الناعقون
بالخلعان، الشرهون إلى تبديل الدعوات، وإلى تسم المآذن والمنارات والربا، وبرز أهل
ربض البيازين، الهافون إلى مثل هذه البوارق، إلى شرف ربوتهم، كل يشير مستدعيا،
إعلاناً بسوء الجوار، وملل الإيالات، والانحطاط، وبعد التلون والتقلب، وسآمة
العافية، شنشنة معروفة في الخلق مألوفة. وبودر غلق باب إلبيرة، ففض قفله، ودخلت
المدينة، وجاء السلطان إلى معقل الحمراء بأهله وذخيرته وخاصته، وبزر السلطان أبو
الوليد بالقصبة القدمى تجاهها، بالدار الكبرى المنسوبة لابن المول، ينفذ الصكوك،
ويذيع العفو، ويؤلف الشارد، وضعفت بصاير المحصورين، وفشلوا على وجود الطعمة، ووفور
المال، وتمكن المنعة، فالتمسوا لهم ولسلطانهم عهداً نزلوا به، منتقلين إلى مدينة
وادي آش، في سبيل العوض بمال معروف، وذخيرة موصوفة، وتم ذلك، وخرج السلطان رحمه الله
مخلوعاً، ساء به القرار، جانياً على ملكه الأخابيث والأغمار، ليلة الثامن والعشرين
من شوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، واستقر بها موادعاً مرة ومحارباً أخرى، إلى أن
هلك حسبما يأتي ذكره. وخلا للسلطان الجو، وصرفت إليه المقادة وأطاعة القاضي
والداني، ولم يختلف عليه اثنان، والبقاء الخلص لله وحده.
مناقبهاشتد رحمه الله على أهل البدع، وقصر الخوض على ما
تضطر إليه الملة، ولقد تذوكر بين يديه أهل البيت، فبذل في فدية بعضهم ما يعز بذله،
ونقل منهم بعضاً من حرف خبيثة، فزعموا أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في
النوم، فشكر له ذلك. واشتد في إقامة الحدود، وإراقة المسكرات، وحظر تجلى القينات
للرجال في الولائم، وقصر طربهن على أجناسهن من الناس، وأخذ يهود الذمة بالتزام
سمةٍ تشهرهم، وشارة تميزهم، وليوفي حقهم من المعاملة التي أمر بها الشارع في
الخطاب والطرق، وهي شواشي صفر.
ولقد حدث من يخف حديثه، من
الشيوخ أولى المجانة والدعابة، قال: كنا عاكفين على راح، وبرأسي شاشية ملف حمراء،
فحاول أصحابي إنامتي، حتى أمكن ذلك، وبادروا إلى رقاع من ثوب أصفر، فصنعوا منها
شاشية، ووضعوها في رأسي، مكان شاشيتي، وأيقظوني، فقمت لشأني، وقد هيئوا ثمناً
لشراء بقل وفاكهة، وجهزوني لشرائه، فخرجت حتى أتيت دكان السوق، فساومته، فلما نظر
إلي قال لصاحبه: جزى الله هذا السلطان خيراً، والله لقد كنت أبادر هذا اللعين
بالسلام عند لقائه أظنه مسلماً، وبصق علي، فهممت أن أوقع به، ثم فطنت للحيلة،
فانتزعتها وبادرت فأوسعتهم ذماً، وعظم خجلي، وسبقني إليهم عين لهم علي، فكاد الضحك
يهلكهم عند دخولي. ومناقبه كثيرة.
جهاده وبعض الأحداث في مدتهوالتأثت الأمور، لأول مدته،
فجرت على جيشه بمظاهرة جيش المخلوع لجيش الروم، الهزيمة الشنيعة، بوادي فرتونه،
أوقع بهم الطاغية بطره، كافل ملك الروم، المملك صغيرا على عهد أبيه، وعمه الذاب
عنه، ففشا في الأعلام القتل، وذلك في صفر من عام ستة عشر وسبعمائة، وظهر العدو
بعدها فغلب على حصن شتمانس وحصن بجيج، وحصن طشكر، وتغر روط. ثم صرفت المطامع عزمه
إلى الحضرة، فقصد مرجها، وكف الله عاديته، وقمعه، ونصر الإسلام عليه، ودالت للدين
عليه الهزيمة العظمى بالمرج من ظاهر غرناطة على بريد منها، واستولى على محلته
النهب، وعلى فرسانه ورجاله القتل، وعظم الفتح، وبهر الصنع وطار الذكر، وثاب السعد. وكانت الوقيعة
سادس جمادى الأولى من عام تسعة عشر وسبعمائة، وفي ذلك يقول كاتبه شيخنا أبو الحسن
بن الجياب:
الحمد حق الحمد للرحمن ... كافي العدو وناصر الإيمان
ومكيف الصنع الكريم ودافع ال ... خطب العظيم وواهب الإحسان
في كل أمر للمهيمن حكمة ... أعيت على الأفكار والأذهان
واستقر ملكهم القتيل بأيدي المسلمين بعد فرارهم، فجعل في
تابوت خشب، ونصب بالسور المنازل من الحمراء يسار الداخل بباب يعقوب من أبوابها،
إذاعةً للشهرة، وتثبتاً لتخليد الفخر.
ومن الغريب أنني في هذه الأيام بعد خمسين سنة تماماً.
تفقدت ذلك المكان في بعض ما أباشره، أيام نيابتي عن السلطان بدار ملكه على عادتي،
فألفيته قد علا عليه كوم من الحجارة، رجم الصبيان إياه، فظهر لي تجديد الإشادة به،
والاستفتاح بوقوع مثله، ولما كشف عن الرمة لتنقل إلى وعاء ثان، ألفى بعظم القطن
العريض منها، سنانٌ مرهب ثبت في العظم، انتزع منه، وقد غالبتتي الرقة والإجهاش،
وقلت اللهم ادخر رضوانك لمن أودع في هذه الرمة الطاغية، سنان جهادك إلى اليوم،
وأثبه وارفع درجته، إنك أهل لذلك.
رجعٌ واستقامت الأيام، وهلك المخلوع، فصفا الجو، واتحدت
الكلمة، وأمكن الجهاد. فتحرك في شهر رجب من عام أربعة وعشرين وسبعمائة، وأعمل
القصد إلى بلاد العدو، ونازل حصن إشكر، الشجى المعترض في حلق بسطة، فأخذ بمخنقة، ونشر
الحرب عليه، ورمى بالآله العظمى المتخذة بالنفط كرة حديد محماة طاق البرج المنيع
من معقله، فاندفعت يتطاير شررها، واستقرت بين محصوريه، فعاثت عياث الصواعق
السماوية، فألقى الله الرعب في قلوبهم، وأتوا بأيديهم، ونزلوا قسراً على حكمه في
الرابع والعشرين من الشهر، وأقام بظاهره، فصيره دار جهاد، وعمل في خندقه بيده،
وانصرف، فكانت غزاة جمة البركة عظمت بها على الشرق الجدوى، وأنشد الشعراء في هذه
الوجهة قصائد أشادت بفضلها، وشهرت من ذكرها، فمن ذلك عن كاتب سره قوله:
أما مداك فغاية لم تلحق ... أعيت على غر الجياد السبق
ورفع إليه شيخنا الحكيم أبو زكريا بن هذيل، قصيدة أولها:
بحيث القباب الحمر والأسد الورد ... كتائب سكان السماء
لها جند
أنشدني منها في وصف النفط قوله
وظنوا بأن الصعق والرعد في السما ... فحاق بهم من دونها
الصقع والرعد
غرائب أشكال سما هرمسٌ بها ... مهندةٌ تأتي الجبال فتنهد
ألا إنها الدنيا تريك عجائباً ... وما في القوى منها فلا
بد أن يبدو
وفي العاشر لشهر رجب من عام
خمسة وعشرين وسبعمائة، تحرك للغزو بعد أخذ الأهبة والاستكثار والاجتهاد للمطوعة،
وقصد مدينة مرتش العظيمة الساحة، الطيبة البقعة، فأضرب بها المحلات وكان القصد
إجمام الناس، فصوب الحشود ووجهها إلى ما بها من بحر الكروم والملتفات، وأدواح
الأشجار، فأمعنوا في إفسادها، وبزر حاميتها فناشبت الناس القتال، فحميت النفوس،
وأريد منع الناس، فأعيا أمرهم وسال منهم البحر، فتعلقوا بالأسوار وقيل السلطا بادر
بالركوب، فقد دخل الربض، فركب ووقف بإزائها، فدخل البلد عنوة، واعتصم أهله
بالقصبة، فدخلت أيضاً القصبة عنوة، وانطلقت أيدي الغوغاء على من بها من ذكر وأنثى كبيراً
أو صغيراً، فساءت القتلة، وقبحت الأحدوثة. ورفعت من الغد آكام من الجثث، صعدت
ذراها المؤذنون، وقفل إلى غرناطة بنصر لا كفاً له، فكان دخوله من هذه الغزاة في
الرابع والعشرين لرجب المذكور.
وفاتهولما فصل من مرتش نقم على أحد الرؤساء من قرابته،
وهر ابن عمه محمد ابن إسماعيل المعروف بصاحب الجزيرة، أمراً تقرعه عليه، وبالغ في
الإهمال له، وتوعده بما أثار حفيظته، فأقدم عليه بالفتكة الشنعاء التي ارتكبها منه
بباب قصره، بين عبيده وأرباب دولته، آمن ما كان سرباً، وأعز سلطاناً وجنداً، وذلك
اليوم الإثنين ثالث يوم من دخوله من مرتش، بعد أن عاهد في الأمر جملة من القرابة والخدام،
فوثب به، وهو مجتاز بين السماطين من ناسه إلى مجلس كان يجلس فيه للناس، فاعتنقه
وانتضى خنجراً كان ملصقاً في ذراعه، فأصابه بجراحات ثلاث، إحداهن في عنقه، بأعلى
ترقوته، فخر صريعاً. وصاح بكرٌ وزيره، فعمته سيوف الحاضرين من أصحاب الفاتك، ووقعت
الرجة، وسلت السيوف، وتشاغل كل بمن يليه، واستخلص السلطان من يديه، وحيل بينه
وبينه، وحين تشاغل القوم بالوزير، رفع السلطان وظن أنه قد أفلت جريحاً، فرقع
البهت، وبادروا الفرار، فسدت المذاهب، فقتلوا حيث وجدوا، وأخذت الظنة قوماً من
أبريائهم، فامتحنوا، ونهب الغوغاء دورهم، وعلقت بالجدرات أشلاؤهم، وكان يوماً
عصيباً، وموقفاً صعباً، واحتمل السلطان إلى بعض دور قصره، وبه صبابة روح، أشبه شيء
بالعدم، للزوق العمامة بفوهة شريانه المبتور، ففاض لحينه بنفس زوال العمامة، رحمه الله.
وكان من أخذ البيعة لولده الأمير أبي عبد الله من بعده،
ما هو معروف في موضعه. ودفن غلس ليلة الثلاثاء، ثاني يوم وفاته، بروضة الجنة من قصره،
إلى جانب جده، وتنوهي الاحتفال بقبره نقشاً، وتخريماً، وإحكاماً، وحلياً،
وتمويهاً، يشق على الوصف، وكتب بإزاء رأسه في لوح الرخام ما نصه، من كلام شيخنا،
بعد سطر الافتتاح: هذا قبر السلطان الشهيد فتاح الأمصار، وناصر ملة المصطفى
المختار ومحيى سبيل آبائه الأنصار، الإمام العادل، الهمام الباسل، صاحب الحرب
والمحراب الطاهر الأنساب والأثواب، أسعد الملوك دولة، وأمضاهم في ذات الله صولة،
سيف الجهاد، ونور البلاد، ذي الحسام المسلول في نصرة الإيمان، والفؤاد المعمور
بخشية الرحمن، المجاهد في سبيل الله، المنصور بفضل الله، أمير المسلمين أبي الوليد
إسماعيل ابن الهمام الأعلى، الطاهر الذات والفخار، الكريم المآثر والآثار، كبير
الإمامة النصرية، وعماد الدولة الغالبية، المقدس، المرحوم أبي سعيد فرج، ابن علم الأعلام
وحامي حمى الإسلام، صنوا الإمام الغالب، وظهيره المقدس العلي المراتب، المقدس،
المرحوم أبي الوليد إسماعي بن نصر، قدس الله روحه الطيب، وأفاض عليها غيث رحمته
الصيب، ونفعه بالجهاد والشهادة، وحياه بالحسنى والزيادة، جاهد في سبيل الله حق
الجهاد، وصنع الله له في فتح البلاد، وقتل كبار الأعاد، ما يجده مذخوراً يوم
التناد، إلى أن قضى الله بحضور أجله، فحتم عمره بخير عمله، وقبضه إلى ما أعد له من
كرامته وثوابه، وغبار الجهاد طي أثوابه، فاستشهد رحمه الله شهادةً أثبتت له في
الشهداء من الملوك قدماً، ورفعت له في أعلام السعادة علماً.
ولد رضي الله عنه في الساعة المباركة بين يدي الصبح من
يوم الجمعة سابع عشر شوال عام سبعة وسبعين وستمائة، وبويع يوم الخميس السابع
والعشرين لشوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، واستشهد في يوم الإثنين السادس والعشرين
لشهر رجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة، فسبحان الملك الحق، الباقي بعد فناء الخلق.
وبعده من جهة اللوح الأخير:
تخص قبرك يا خير السلاطين ... تحيةٌ كالصبا مرت بدارين
قبر به من بني نصر إمام هدى ... عالي المراتب في الدنيا
وفي الدين
أبو الوليد وما أدراك من ملكٍ ... مستنصرٍ واثقٍ بالله
مأمون
سلطان عدلٍ وبأسٍ غالبٍ وندىً ... وفضل تقوى وأخلاقٍ
ميامين
لله ما قد طواه الموت من شرف ... وسر مجدٍ بهذا اللحد
مدفون
ومن لسان بذكر الله منطلق ... ومن فؤادٍ بحب الله مسكون
أما الجهاد فقد أحيا معالمه ... وقام منه بمفروض ومسنون
فكم فتوحٍ له تزهو المنابر من ... عجبٍ بهن وأوراق
الدواوين
مجاهدٌ نال من فضل الشهادة ما ... يجبى عليه بأجر غير
ممنون
قصى كعثمان في الشهر الحرام ضحىً ... وفاة مستشهد في
الدار مطعون
في عارضيه غبار الغزو تمسحه ... في جنة الخلد أيدي حورها
العين
يسقي بها عين تسلمي وقاتله ... مردد بين زقوم وغلسين
تبكي البلاد عليه والعباد معاً ... فالخلق ما بين أحزان
أفانين
لكنه حكم رب لا مردً له ... فأمره الجزم بين الكاف
والنون
فرحمة الله رب العالمين على ... سلطان عدلٍ بهذا القبر
مدفون
بعض ما رثى به وعظمت فيه فجيعة المسلمين لما ثكلوا من
جهاده وعزمه، وبلوه من سعده وعز نصره، فكثرت فيه المراثي، وتراهنت في شجوه
القرائح، وبكاه الغادي والرائح. فمن المراثي التي أنشدت على قبره، قول كاتبه شخنا
أبي الحسن بن الجياب.
أيا عبرة العين امزجي الدمع بالدم ... ويا زفرة الحزن
احكمي وتحكمي
ويا قلب ذب وجدا وغماً ولوعةً ... فإن الأسى فرضٌ على كل
مسلم
ويا سلوة الأيام لا كنت فابعدي ... إلى حيث ألقت رحلها
أم قشعم
وصح بأناة الصبر سحقاً تأخري ... وقل لشكاة الحزن أهلا
تقدمي
ولم لا وشمس الملك والمجد والهدى ... وفتاح أبواب الندى
والتكرم
ثوى بين أطباق الثرى رهن غربة ... وحيداً وأصمته الليالي
بأسهم
على ملك الإسلام فاسمح بزفرةٍ ... تساقط دراً بين فذ
وتوأم
على علم الأعلام والقمر الذي ... تجلى بوجه العصر غرة
أدهم
على أوحد الأملاك غير منازع ... أصالة أعراق وفضل تقدم
ومن مثل إسماعيل نورٌ لمهتدٍ ... وبشرى لمكروبٍ وعفوٌ
لمجرم
وما مثل إسماعيل للبأس والندى ... لأصراخ مذعور وإغناء
معدم
وما مثل إسماعيل للحرب يجتني ... به الفتح من غرس القنا
المتحطم
وما مثل إسماعيل سهم سعادةٍ ... أصاب به الإسلام شاكلة
الدم
شهيدٌ سعيدٌ صبحته شهادة ... تبوأ منها في الخلود التنعم
أتت وغبار الغزو طي ثيابه ... ظهير أمانٍ من دخان جهنم
فتباً لدارٍ لا يدوم نعيمها ... فما عرسها إلا طليعة
مأتم
ولا أنسها إلا رهينٌ بوحشة ... ولا شهدها إلا مشوبٌ
بعلقم
فيا من يرى الدنيا مجاجة نحلة ... ألا فاعتبرها فهي نبتة
أرقم
فمن شام منها اليوم برق تبسم ... ففي الغد تلقاه بوجه
جهنم
فضاحكها باكٍ وجذلانها شجٍ ... وطالعها هاوٍ ومبصرها عم
وسراؤها تفنى وضراؤها معاً ... فكلتاهما طيف الخيال
المسلم
سطت بملوك الأرض من بعد آدم ... تبدد منهم كل شملٍ منظم
فكم من قصير قصرت شأو عمره ... فخر صريعاً لليدين وللفم
وكم كسرت كسرى وفضت جيوشه ... فلم تحمه منها كتائب رستم
ولو أنها ترعى إمام هدايةٍ
لأعفت ... علياً من حسام ابن ملجم
وما قتلت عثمان في جوف داره ... فقدس من مستسلم ومسلم
وما أمكنت فيروز من عمر الرضى ... فهدت من الإسلام أرفع
معلم
إلى آخرها. وتضمن إجمال ما ذكر من ذلك، التاريخ المسمى
بقطع السلوك المنظوم رجزاً من تأليفي بما نصه:
وعندما خيف انتثار السلك ... ووزر الروم وزير الملك
تدارك الأمر الإمام الطاهر ... فعالج الدار طبيب ماهر
وهو أبو الوليد إسماعيل ... والشمس لا يفقدها دليل
ابن الرئيس الماجد الهمام ... فرد العلا وعلم الأعلام
وجده صنو الإمام الغالب ... مناقب كالشهب الثواقب
فقاد من مالقة الجنودا ... ونشر الأعلام والبنودا
وعاد نصر بمدى حمرائه ... أتى وأمر الله من ورائه
فخلع الأمر وألقى باليد ... من بعد عهد موثق مؤكد
وسار في الليل إلى وادي الأشى ... والملك لله يعز من يشا
ولم يزل فيها إلى أن ماتا ... وطلق الدنيا بها بتاتا
واتسق الأمر وقر الملك ... وربما جر الحياة الهلك
ومن الرجز المذكور في وصف جهاده ومقتله:
وكان يوم المرج في دولته ... ففرق الأعداء من صولته
وفتح المعاقل المنيعة ... وابتهجت بعدله الشريعة
وانتبه الدهر له من نومه ... على يدي طائفة من قومه
بكى عليه الحرب والمحراب ... وندبته الضمر العراب
إسماعيل بن فرج بن نصرإسماعيل بن يوسف بن إسماعيل بن فرج
بن نصر السلطان الذي احتال على أخيه، المتوثب على ملكه، يكنى أبا الوليد.
حالهكان صبياً كما اجتمع وجهه، بادناً، دمت الخلق، لين
الجانب، شديد البياض كثيف الحاشية، متصلا بالجفوة، لطول الحجبة، وبعد التمرن
والحنكة غراً، فاقداً لحسن الأدب، عريقةً ألفاظه في العجمة. تصير الأمر إلى أخيه
السلطان خيرتهم ولباب بيتهم، يوم قتل أبوهما، وله مزية السن والرجاحة، والسكنى
بمحل وفاة الأب، فأبقى عليه، وأسكنه بعض القصور لصقه، ولم يضايق أمه فيما استأثرت
به من بيت المال، إذ كان إقليده في يدها، وبيضاؤه وصفراؤه في حكمها، ورفه متبوأه،
واستدعى له ولأخيه المعلم الذي كان السبب في إفاته إرماقهما، وإعدام حياتهما،
الشيخ السفلة محمد البطروجي البائس، قرد ذلك السرب فاستمرت أيام احتجابه وانتظاره
على قصره، إلى رمضان من عام ستين وسبعمائة. وحرك سماسرة الفتنة له ولأمه جواز
الطمع في الملك، ودندنوا لها حتى رقصت على إيقاعهم، وخفت إلى مواعدهم، وشمروا إلى
خلاص الأمر، وأحام الوثبة صهره الرئيس أبو عبد الله، حلف الشؤم زوج أخته، محمد بن
إسماعيل، الشهير الكائنة، المذكور في موضعه من حرف الميم. فسيرت إليه أمه المال،
فبثه في الدعرة والشرار، حتى تم غرضه، واقتحم القلعة من بعض أسوارها عند البالية، وقد
هدم منها شيء في سبيل إصلاحه، ليلة الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان من عام ستين
وسبعمائة، والسلطان ليلتئذ غير حال بها، فملؤوها لجباً ولغطاً، وصراخاً وهولا
وتنويراً، في جملة تناهز المائة، وانضاف إليهم أخوان رأيهم من حراسها وسكانها،
فألبس الناس، وسقط في أيديهم. وأهدى الليل فتكته هائلة، وأداها شنيعة، فاقتصر كل
على النظر لنفسه، وانقسموا فرقتين، قصدت إحداهما دار كبير الدولة، وقيوم التفويض،
وشيخ رجال الملك رضوان، المستبد بإحالة كورتها، الشيخ الذهول، معزوز القدر ورائب
النكتة، ومعود الإقامة، وجرار رسن الأطواد، وطول الإملا، الماشي على خد الدنيا،
المغضوض البصر عن النظر، المستهين بكل سبة، وحية تسعى، المعول على نظره، وقوة سعده
وإجابة دعوته، مع كونه نسيج وحده في عفافه وديانته، ورضى الناس به، وسقوط منافستهم
من أجله، ومأويهم على مول لفظه، وبساط معاملته، وصحة عقده، فعالجوا بابه طويلاً وتولجوا
داره، وقتلوه بين أهله وولده.
وقصدت الأخرى دار الأمير المترجم
به ومعها صهره، فأخرجوه وأركبوه على فرس، راعدٍ الفرائض، منتقع اللون، مختلط
القول، تحف به داياته بين مولولةٍ، وتافلةٍ ومعوذة، قد جعلوا به سيفاً مصلتاً على
سبيل اللواعب بالنصول والرواقص، في مدارج اللهو، واستخرجت طبول الملك فقرعت، وقيدت
الخيل من مرابطها فركبت، وقصدت الخزائن السلاحية ففرقت، وتم الأمر. وحل من الريب
على دار الإمارة القصد، وخرجت الكتب إلى البلاد والقواعد، فالتفت باليد أمهاتها
لقطع من بها من أولى الأمانة، بتمام الأمر، وهلاك السلطان، فتم له الأمر. وبادر
أخوه السلطان لحينه لظهر سابق كان مرتبطاً عند مجرٍ له من الجنة لصق القلعة،
فاستأجر الليل، ووافق الحزم، فاستقر بوادي آش. وكان أملك بها، ونازلته المحلات، وأخذ
بمخنقه الحصص، واستنصرت لمنازلته الناس، وأعملت الحيل، وتأذن الله بثبوت قدمه،
وانتقاله إلى ملك المغرب صبح عيد النحر من العام المذكور، إلى أن أعاد الله إليه
أمره ورد عليه حقه، وتولى بعد اليأس جبره، حسبما يذكر في موضعه إن شاء الله.
وخلا الجو لهذا الأمير المضعوف، واستولى على أريكة الملك
الأغمار وأولو البطالة، وأولياء صهره الرئيس، خاطبها له ابتداءً ثم ناقلها إلى فسه
انتهاءً، وحاملها إلى غايته درجاً، وإلى إعاقته سلماً، وهو ما هو من غش الحبيب،
وسوء العقد، ودخل السريرة، واستيطان المكروه، فأغرى منه بالعهد نفساً مطاوعةً
للشهوة، متبرمة بالامتحان والخلوة، برية من نور العلم وتهذيب الحكمة، ناشئة بين
أخابيث القسوة، جانيةً أماني الشهوة والمخالفة، مضادة للفلاح، حايدة عن سبيل
النجاة، بمحل اغتراب عن النصحاء، وانتباذ عن مقاعد الأحرار، فجرى طلق الجموح في
التخلف، حتى كبا لفيه ويديه، وأعان نسمة السوء الرئيس على نفسه، وقد كان اصطنع
الرجال، واستركب أولى البسالة، وأسالف الدعرة، واختص في سبيل خدمته والذب عنه،
بالبؤساء والمساعير، يشركهم في الأكلة. ويصافيهم النعمة. واظلم ما بينهما، فحذر كل
جانب أخيه، إلا أن المهين كان أضعف من أن يستأثر بخطة المعالجة، ويهتدي إلى سبيل
الحزم. وفي عشي يوم الأربعاء السابع والعشرين من شهر شعبان، شارفه من مكمن غدره
الرحب بجوار قصره، وارتبط به الخيل واستكثر من الحاشية، وأخفى المساعير. وداخل
المورورى المشئوم على الدولة، فبادر رجاله سد الأبواب، وانخرط في جملة أو باشه من
باب السلطان، من الرجل لنظر ممالئه في العنا، وعونه على الهول الموروري، فأحاط به،
وقد بادر الاعتصام بالمصنع ثاني الصرح المنسوب إلى هامان سموا ونفالاً في السكاك
وسعة ذرع. وبعد ما رقى وصرخ بالناس، يناشدهم الذمام، فخف إليهم منهم الكثير،
وتراكموا بالطريق تحته، وتولى استنزاله عن سويه مملوك أبيه، العلج المخذول عباد،
وقد تحصل في قبضته الغادر، ففتل له في الغارب والذروة، ووعده الحياة، فنزل عن أمان
فسحة الغدر الصراح، والوفاء المستباح، ولحين استهاله، أمر نقله إلى المطبق، فقيد مختبلاً
كثير الضراعة إلى الأرى لصق قصره، وتعاورته السيوف وألحق به صغيره قيس، استخرج من
بعض الخزاين، وقد جهدت أمه في إخفائه، فمضى لسبيله، وطرح رأسه على الرعاع المجيبين
لندائه، فانفضوا لحينه، وبقي مطروحاً مواري، بحلس دابة من دواب الظهر، إلى يوم
بعده، فووري هو وأخوه بمقربة من مدفن أبيهم، فكان من أمرهما عبرة. وقد استوفى ذلك
الكتاب المسمى بنفاضة الجراب من تأليفنا.
وزراء دولته
قدم للوزارة عشية يوم ولايته،
محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري بطالع الشؤم، ونعبة النحس. عهدي بالطبيب الإسرائيلي
الحبري العظيم المهارة في الفن النجومي، إبراهيم بن زرزار، يتطاير بتلك الولاية
بكون النحس الأعظم في درجة طالعها، جذواً انفرد بنحز أديمه الجهالة، المعدودون في
البهم والهمج، الذين لا يعبأ الله بهم، فكان الخبر وفوق الخبر، فلم ير في الأندلس
وزارةٌ أثقل وطأة، ولا أخبث عهداً، ولا أعظم شرهاً، ولا أكثر حجراً منها، ثم كان
عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها، وذلك جزاء الظالمين من رجل حبركة، كمداللون،
تنطف سحنته مرةً وسماً، غائر العين مطأطىء الرأس، طرفٌ في الحقد والطمع، وعي
المنطق، وجمود الكف، معدنٌ من معادن الجهل، مثلٌ في الخيانة، تناول الأمر مزاحماً
فيه بالرئيس المتوثب، وابن عم نفسه، الغادر الضخم الجرارة، بالوعث المهين، وثور النقل،
وثعيان الفواكه، وصاعقة الاخونه، ووكيل الدولة المنحط عن خلالهم بالأبوة والنشأة،
فجرت أمورها أسوأ مجاريها، إلى ان كان ما أذن الله به، من مداحلة الرئيس الغادر،
على قتل أميره المسكين المهين، مقلده أنوه الرتب، وتاركه وخطة الخيانة، ثم أخذه
الأخذة الرابية بيد من أمده في الغي، وظاهره في الخزي، فجعله نكالاً لما بين يديه
وما خلفه، وموعظةً للمتقين، حسبما يأتي في اسمه بحول الله تعالى.
كاتبهواستعمل في الكتابة صاحبنا الرجل الأخرق، الطوال،
الأهوج البري من الخلال الحميدة، إلا ما كان من وسط الخط وسوقي السجع، والدرك
الأسفل من النظم، عبد الحق بن محمد بن عطية المحاربي، الآتي ذكره. وهو الذي أفرده
الله جل جلاله، بالغاية البعيدة من مجال سوء العهد، وقلة الوفاء. وتولى القضاء،
أبو جعفر أحمد بن أبي القاسم بن جزي أياماً، ثم شهر به قوم من الفقهاء منافسيه،
ورشقوه بما أوجب صرفه، وقدم للقضاء الشيخ المسن، الطويل السباحة في بحر الأحكام،
المفرى الودجين والحلقوم بسكين القضاء، المنبور بالموبقات فيه، تجاوز الله عنه،
سلمون بن علي بن سلمون. وشيخ الغزاة على عهده، يحيى بن عمر بن عبد الله ابن عبد الحق،
شيخ الغزاة لأخيه، أصبح يوم الكائنة في قياده، ونصح له فأمر له، وضاعف بره.
الملوك على عهده
مولدهفي يوم الإثنين الثامن والعشرين لربيع الأول من عام
أربعين وسبعمائة.
وفاتهحسبما تقرر آنفاً في يوم الأربعاء السابع والعشرين
لشعبان من عام أحد وستين وسبعمائة.
أبو يحيى المسوفي الصحراويأبو بكر إبراهيم، الأمير أبو
يحيى المسوفي الصحراوي من أمراء المرابطين صهر علي بن يوسف بن تاشفين، زوج أخته،
وأبو ولده منها يحيى، المشهور بالكرم.
أوليتهمعروفة تستقرأ عند ذكر ملوكهم
حالهكان مثلاً في الكرم، وآيةً في الجود، أنسي أجواد
الإسلام والجاهلية إلى الغاية، في الحياء والشجاعة والتبريز في ميدان الفضائل. استوزر
الوزير الحكيم الشهير أبا بكر بن الصائغ، واختصه فتجملت دولته ونبه قدره. وأخباره
معه شهيرة.
ولايتهولي غرناطة سنة خمسمائة. ثم انتقل منها إلى
سرقسطة. عند خروج المستعين ابن هود إلى روطة. فأقام بها مراسم الملك، وانهمك في
اللذات، وعكف على المعاقرة، وكان يجعل التاج بين ندمائه، ويتزيا بزي الملوك، إلى أن
هلك بها تحت مضايقة طاغية الروم المستولى عليها بعد.
خروجه من الصحراءقال المؤرخ: كان أبو بكر هذا رئيساً على
بعض قبيله في الصحراء، وكان ابن عمه منفرداً بالتدبير، فاتفق يوماً أن دخل على ابن
عمه في خبائه، وزوج ابن عمه تمتشط في موضع قريب من الخباء، فاشتغلت نفس أبو بكر
بالمرأة لحسنها وجمالها، فحين دخل قال لابن عمه، فلانة تريد الوصول إليك، وإنما
قصد الاستئذان لرجل من أصحابه، فنطق باسم المرأة لشغل باله بها: فقال له ابن عمه
بعد طول صمت وفكرة، وقد أنكر ذلك، عهدي بهذا الشخص لا يستأذن علينا.
فرجع عقله، وثاب لبه، وعلم
قدر ما من القبيح وقع فيه، فخرج من ذلك المجلس، وركب جمله، وهان عليه مفارقة وطنه
من أجل العار، واستصحب نفراً قليلاً من أصحابه على حال استعجال، ورحل ليلا
ونهاراً، حتى وصل سجلماسة أولى عمالات علي بن يوسف ابن عمه، واتصل به قدومه، فأوجب
حقه، وعرف قدره، وعقد له على أخته، وولاه على سرقسطة دار ملك بني هود بشرق
الأندلس، بعد ولاية غرناطة.
نبذة من أخباره في الكرمقالوا، لما حل بظاهر سجلماسة،
مجهول الوفادة، خافي الأمر، نزل بظل نخلة بظاهرها، لا يعرف أحداً ولا يقصده، فجاء
في ذلك الموضع رجل حدادٌ فقراه بعنز كان عنده، وتعرف له وأبو بكر يستغرب أمره،
فلما فرغوا من أكلهم، قال للحداد ألا تصحبنا لموضع أملنا، وتكون أحد إخواننا، حتى
تحمد لقاءنا، فأجابه، وصحبه الحداد، وخدمه، فلما قربوا من مراكش، استأذن أبو بكر،
علي بن يوسف بن تاشفين، وأعلمه بنفسه، فأخرج له علي بن يوسف فرساً من عتاق خيله،
وكسوة من ثيابه وألف دينار، فأمر أبو بكر بدفعها للحداد، فبهت الحداد، وانصرف
الرسول موجهاً إلى مرسله فأخبره بما عاين من كرمه وفعله، فأعاده إليه في الحين
بفرسٍ أخرى، وكسى كثيرة، وآلاف من المال، فلما دخل مراكش، ولقي علي بن يوسف
وأنزله، أنزل الحداد مع نفسه في بيت واحد، وشاركه في الأموال التي توجه بها فانصرف
يجر وراءه دنيا عريضة.
ولما ملك سرقسطة، احتضن الوزير الحكيم أبا بكر بن
الصائغ، ولطف منه محله. ذكر أنه غاب يوماً عنه وعن حضور مجلسه بسرقسطة، ثم بكر من
الغد، فلما دخل قال له أين غبت يا حكيم عنا؟ فقال يا مولاي أصابتني سوداء واغتتمت،
فأشار إلى الفتى الذي كان يقف على رأسه، وخاطبه بلسان عجيمة، فأحضره طبقاً مملوءاً
مثاقيل محشمة وعليها نوادير ياسمين فدفعه كله إليه، فقال ابن باجة: يا مولاي لم
يعرف جالينوس من هذا الطب، فضحك.
وذكر أنه أنشد شعراً في مدحه، وقد قعد يشرب، فاستفزه
الطب، وحلف أن لا يمشي إلا من فوق المال إلى منزله في طريقه، فالتمس الخدام برنسه
بأن كانوا يطرحون من المال شيئاً له خطر، على أوعيته حتى يغمرها، فيمشي خطواً إلى
أن وصل إلى منزله، وحسد الحكيم أصحابه، ولم يقدروا على مطالبته. واتفق أن سار
الأمير أبو بكر، وأمر أصحابه بالتأهب والاستعداد، فاستعد ابن باجة، واتخذ الأقبية
والأخبية، واستفره الجياد من بغال الحمولة، فكانت له منها سبعة صفر الألوان، حمل
عليها الثياب والفرش والمال، فلما نزل الأمير بمقره، مرت عليه البغال المذكورة في
أجمل الهيئات، فقال لجلسائه لمن هذه البغال، ومن يكون من رجالنا هذا، فأصابوا العزة،
فقالوا هي للحكيم ابن الصائغ صاحب سرقسطة، وليعلم مولانا أن في وسط كل حمل منها
ألف دينار ذهباً سوى المتاع والعدة، فاستحسن ذلك. وقال أهذا حق؟ قالوا نعم، فدعا
الخازن على المال، وقال له ادفع لابن باجة خمسة آلاف دينار ليكمل له ذلك اثني عشر
ألفاً، فقد سمعته غير ما مرة يتمنى أن يكون له ذلك، ثم بعث عنه في الحين وقال له،
يا حكيم ما هذا الاستعداد، فقال يا مولاي كل ذلك من هباتكم وأعطياتكم، ولما علمت
أن أظهار ذلك يسركم، فسر بذلك. وأخباره رحمه الله كثيرة.
محنتهقالوا، ولما ولى غرناطة سنة خمسمائة. ثار بها،
وانبرى على قومه لأمر رابه، فانتبذ عنه قومه، وناصبوه الحرب، حتى استنزلوه عنوة،
وقبضوا عليه، ووجهوه إلى علي بن يوسف. فآثر الإبقاء عليه، وعفا عنه، واستعمله
بسرقسطة، كذا ذكره الملاحي، وأشار إليه.
وعندي أن الأمر ليس كذلك وأن الذي جرى له ذلك، أبو بكر
بن علي بن يوسف بن تاشفين فيتحقق.
وفاتهتوفي بسرقسطة في سنة عشر وخمسمائة بعد أن ضاق ذرعه بطاغية
الروم، الذي أناخ عليه بكلكله. وعندما تعرف خبر وفاته، واتصلت بالأمير أبي إسحاق
إبراهيم بن تاشفين، وهو يومئذ والي مرسية، بادر إلى سرقسطة، فضبطها، ونظر في ساير
أمورها ثم صدر إلى مرسية.
رثاؤهورثاه الحكيم أبو بكر بن الصائغ بمراث اشتهر عنه
منها قوله:
سلام وإلمام ووسمي مزنةٍ ... على الجدث الثاني الذي لا
أزوره
أحقٌ أبو بكر تقضي فلا ترى ... ترد جماهير الوفود ستوره
لئن أنست تلك اللحود بلحده ... لقد أوحشت أقصاره وقصوره
ومن ذلك قوله:
أيها الملك المفدى لعمري ... نعي المجد ناعيك يوم قمنا
فنحنا
كما تقارعت والخطوب إلى أن ... غادرتك الخطوب في الترب
وهنا
غير أني إذا ذكرتك والده ... ر أخال اليقين في ذاك ظنا
وسألنا متى اللقاء فقيل الحش ... ر قلنا صبراً إليه
وحزنا
إدريس بن عبد المؤمن بن عليإدريس بن يعقوب بن يوسف بن
عبد المؤمن بن علي أمير المؤمنين الملقب بالمأمون، مأمون الموحدين
أوليتهجده عبد المؤمن، جذع الشجرة، وينبوع الجداول، هو
ابن علي بن علوي بن يعلي بن موار بن نصر بن علي بن عامر بن موسى بن عون الله بن
يحيى بن ورجايغ بن سطفور بن نفور بن مطماط بن هزرج بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار
بن معد بن عدنان. وكان طالباً بربرياً ضعيفاً، خرج مع عمه يؤم للشرق، وكان رأى
رؤيا هالته تدل على ملك، إذ كان صفحته من طعام على ركبتيه، يأكل منها الناس، وكانت
أمه رأت وهي حاملٌ، كأن ناراً خرجت منها أحرقت المشرق والمغرب، فكانت في نفسه
حركة، لأجل هذه الرؤيا، فلمات حل بسجلماسة، سمع بها عن المهدي، وكان رجلاً يعرف
بأبي عبد الله السوسي، ووصف له بالعلم، فتشوف إلى لقائه، ليرى ما عنده في تأويل
رؤياه، فانصرف إليه مع بعض الطلبة، فلقي رجلا قد وسمه، على ما يزعم الناس، حدثان
من أبي حامد الغزالي، وعلقت به دعوة منه، في إذهاب ملك أهل اللثام، لحرق كتابه على
أيديهم، فهو مغري بالخروج عليهم، مهيأ في عالم الغيب إلى تخريب دعوتهم، فوافق شن
طبقه وما اجتمع الداآن إلا ليقتتلا، والله غالب على أمره. فأجلسه، وسأله عن اسمه،
وبلده وسنه، ونسبه، بالتعريف، وأمره أن يخفي من أمره، وعبر له رؤياه، بأنه يملك
الأرض، فاهتزت الآمال وتعاضدت، ونفذت مشيئة الله، بأن دالت الدولة، وهلك محمد بن
تومرت المهدي، فأفضى الأمر إلى عبد المؤمن، واستولى على ملك اللمتونيين، فأباد خضراءهم،
واستأصل شأفتهم، واستولى على ملك المغرب، فأقام به رسماً عظيماً، وأمراً جسيماً،
وأورثه بنيه من بعده، والله يؤتي ملكه من يشاء.
حالهكان رحمه الله شهماً شجاعاً، جريئاً، بعيد الهمة،
نافذ العزيمة، قوي الشكيمة، لبيباً، كاتباً أديباً، فصيحاً، بليغاً، أبياً،
جواداً، حازماً. وذكره ابن عسكر المالقي، في تاريح بلده، قال دخل مالقة من قبل
أخيه، فوصل إليها في الحادي عشر من محرم، وهو شاب حدث، فكان منه من نباهة القدر
وجلالة النفس، وأبهة الملك، ما يعجز عنه كثير من الملوك. ولحين وصوله عقد مجلس مذاكرة،
استظهر له نبهاء الطلبة، وكان الشيخ علي بن عبد المجيد يحضره. وكان يبدو منه مع
حداثة سنة، من الذكاء والنبل والتفطن، ما كان يبهت الحاضرين، وكانوا ينظرون منه
إلى بدري الحسن، وأسدي الهيبة، وكهلي الوقار والتؤدة، واشتغل بما يشتغل به الملوك
من تفخيم البناء، كبينان رياض السيد الذي على ضفة الوادي بمالقة المعروف باسمه،
لله ورسوله، وكان عرفاء البنائين لا يتصرفون إلا بنظره، واستمرت ولايته مفخم
الأمر، عظيم الولاية، إلى أن نقل منها إلى قرطبة، ثم نقل إلى إشبيلية وفيها بويع
الخلافة.
تصير الأمر إليه، وجوازه إلى العدوة
قام على أخيه العادل بين يدي
مقلعة، بممالأة أخيه السيد أبي زيد، أمير بلنسية وتحريكه إياه، فتم له ذلك، وعقدت
له البيعة بمراكش والأندلس. ثم إن الموحدين في مراكش بدا لهم في أمره، وعدلوا عنه
إلى ابن عمه أبي زكريا ابن الناصر، واتصل به خبر خلعهم إياه فهاجت نفسه، ووقدت
جمرته، واستعد لأخذ ثاره، ورحل من إشبيلية، واستصحب جمعاً من فرسان الروم، واستجاز
البحر سنة ست وعشرين وستمائة، قاصداً مراكش، وبرز ابن عمه إلى مدافعته، والتقى الجمعان
فكانت الهزيمة على يحيى بن الناصر، وفر إلى الجبال، واستولى القتل على جيشه، ودخل
المأمون مراكش فأمر بتقليد شرفاتها بالرءوس فعمتها على اتساع الساحة، واستحضر
الناكثين لبيعته وبيعة أخيه، وهم كبار الدولة، واستفتى قاضيه بمرأى منهم، واستحضر
خطوطهم وبيعاتهم، فأفتى بقتلهم، فقتل جماعتهم، وهم نحو مائة رجل، واتصل البحث عمن
أفلت منهم، وصرف عزمه إلى محو آثار دولة الموحدين، وتغيير رسمها، فأزال اسم مهديها
من الخطبة والسكة والمآذن، وقطع النداء عند الصلاة تاصليت الإسلام وكذلك منسوب رب
وبادري وغير ذلك، مما جرى عليه عمل الموحدين، وأصدر في ذلك رسالة حسنة، من إنشائه،
يأتي ذكرها في موضعه. وعند انصرافه من الأندلس، خلا للأمير أبي عبد الله بن هود
الجو، بعد وقائع خلت بينهما، وانتهز النصارى الفرصة، فعظمت الفتنة، وجلت المحنة.
دخوله غرناطةلم يصح عندي أنه دخل غرناطة، مع غلبة الظن القريب
من العلم بذلك، إلا طريقه إلى مدافعته المتوكل بن هود بجهة مرسية، فإنه تحرك
لمعالجة أمره في جيش إشبيلية باستدعاء أخيه السيد أبي زيد والي بلنسية، بعد هزائم
جرت بصقع الشرق لابن هود، فتحرك المأمون إليه، واحتل غرناطة، في رمضان من عام خمسة
وعشرين وستمائة، وأنفذ منها كتابه إلى أخيه، يقوي بصيرته، ويعلمه بنفوذه إليه،
والتف عليه جيش غرناطة وما والاها، واتصل سيره إلى الشرق، فبرز ابن هود إلى لقائه،
فكان اللقاء بخارج لورقة، فانهزم ابن هود، وفر إلى مرسية، وعساكر الموحدين في
عقبه، واستقصاء مثل هذا يخرج عن الغرض.
وخاطب لأول أمره، وأخذ الناس ببيعته. من بأقطار الأندلس،
صادعاً بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والحض على الصلوات وإيتاء الزكاة،
وإيتاء الصدقات، والنهي عن شرب الخمر والمسكرات والتحريض على الرعاية فمن كتابه:
الحمد لله الذي جعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصلين يتفرع منهما مصالح
الدنيا والدين، وأمر بالعدل والإحسان، إرشاداً إلى الحق المبين، والصلاة والسلام
على سيدنا محمد النبي الكريم، المبعوث بالشريعة التي طهرت الجيوب من الأدران،
واستخدمت بواطن القلوب وظواهر الأبدان، طوراً بالشدة، وتارة باللين، القائل، ولا
عدول عن قوله: " ومن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه " تنبيهاً على ترك
الشك لليقين، وعلى آله أعلام الإسلام، الملقين راية الإسلام باليمين، الذين مكنهم
الله في الأرض، فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر،
وفاء بالواجب لذلك التمكين.
ومن فصل: وإذا كنا نوفي الأمة تمهيد دنياها، ونعني بحماية
أقصاها وأدناها، فالدين أهم وأولى، والتهمم، بإقامة الشريعة وإحياء شعائرها، أحق
أن يقدم وأحرى، وعلينا أن نأخذ بحسب ما يأمر به الشرع وندع، ونتبع السنن المشروعة
ونذر البدع. ولنا أن لا ندخر عنها نصيحة، ولا نغبنها أداة من الأدوات مريحة، ولنا
عليها أن تطيع وتسمع.
ومن فصل وأول ما يتناول به
الأمر النافذ، الصلاة لأوقاتها، والأداء لها على أكمل صفاتها، وشهودها إظهاراً
لشرائع الإيمان في جماعتها. فقد قال عليه الصلاة والسلام: أحب الأعمال إلى الصلاة
لأوقاتها. وقال: أول ما ينظر فيه من أعمال العمد الصلاة. وقال عمر: إن أهم أموركم
عندي الصلاة فمن حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع. وقال:
لاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة وهي الركن الأعظم من أركان الإيمان، والسور الأوثق
لأعمال الإنسان، والمواظبة على حضورها في المساجد، وإيثار ما لصلاة الجماعة من
المزية على صلاة الواحد، أمرٌ لا يضيعه المفلحون، ولا يحافظ عليها إلا المؤمنون.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لقد رأينا، وما يتخلف عنها إلا المنافق، معلوم النفاق،
ولقد كان الرجل يؤتي يتهادى بين الرجلين، حتى يقام في الصف. وشهود الصبح، وعشاء
الآخرة شاهد بمحضر الإيمان. ولقد جاء: حضور الصبح في جماعة يعدل قيام ليلة، وحسبكم
بهذا الرجحان. ومن الواجب أن يعتني بهذه القاعدة الكبرى من قواعد الدين، ويأخذ بها
في جميع الأمصار الصغير والكبير من المسلمين، ونيط في إلزامها قوله عليه الصلاة
والسلام: " مروا أبناءكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر سنين " . وهي
طويلة في معاني متعددة.
نثره ونظمهولما غير رسوم الموحدين، وأوقع بأرباب دولتهم
خبر النكث ببيعته، وبيعتي أخيه وعمه، كتب إلى الأقطار عن نفسه، ولم يكمل إنشاءه
بكتابة رسالة بديعة، اشتملت على فصول كثيرة تنظر في كتاب المغرب والبيان المغرب
وغير ذلك. وكتابا بخطه إلى أهل اندوجر: إلى الجماعة والكافة من أهل فلانة، وقاهم الله
عثرات الألسنة، وأرشدهم إلى محو السيئة بالحسنة، أما بعد فإنه قد وصل من قبلكم
كتابكم الذي جدد لكم أسهم الانتقاد، ورماكم من السهاد، بالداهية الساد، أتعتذرون
من المحال بضعف الحال، وقلة الرجال. إذاً نلحقكم بربات الحجال، كأنا لا نعرف مناحي
أقوالكم، وسوء منقلبكم وأحوالكم، لا جرم أنكم سمتعم بالعدو قصمه الله، وقصده إلى
ذلك الموضع عصمه الله، فطاشت قلوبكم خوراً، وعاد صفوكم كدراً، وشممتم ريح الموت
ورداً وصدراً، وظننتم أنكم أحيط بكم من كل جانب، وأن الفضاء قد غص بالتفاف القنا
واصطفاف المناكب، ورأيتم غير شيء فتخيلتموه طلائع الكتائب، تباً لهمتكم المنحطة،
وشيمتكم الراضية، بأدون خطة، أحين ندبتم إلى حماية إخوانكم، والذب عن كلمة إيمانكم
نسقتم الأقوال وهي مكذوبة، ولفقتم الأعذار وهي بالباطل مشوبة، لقد آن لكم أن تتبدلوا
جل الخرصان، إلى مغازل النسوان، وما لكم ولصهوات الخيول وإنما على الغانيات جر
الذيول. أتظهرون العناد تخريصاً، بل تصريحاً وتلويحاً، ونظن أن لا يجمع لكم شتا،
ولا يدني منكم نزوحاً. أين المفر وأمر الله يدرككم، وطلبنا الحثيث لا يترككم،
فأزيلوا هذه النزعة النفاقية من خواطركم، قبل أن نمحو بالسيف أقوالكم وأفعالكم،
ونستبدل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم. ونحن نقسم بالله لو اعتسفتم كل بيداء
سملق، واعتصمتم بأمنع معقل، وأحفل فيلق، ما ونينا عنكم زماناً، ولا ثنينا عن
استيصال العزم منكم عناناً فلا يغرنكم الإمهال، أيها الجهال. وهي طويلة وقال عند
الإيقاع بالأشياخ أولى الفساد على الدول، وصلبهم في الأشجار والأسوار، مما كلف
السلمى بحفظها واستظرافها:
أهل الحرابة والفساد من الورى ... يعزون في التشبيه
بالذكار
ففساده فيه الصلاح لغيره ... بالقطع والتعليق في الأشجار
ذكارهم ذكرى إذا ما أبصروا ... فوق الجذوع وفي ذرى
الأسوار
لو عم عفو الله سائر خلقه ... ما كان أكثرهم من أهل
النار
توقيعهقال ابن عسكر، وكانت تصدر منه توقيعات نبيلة.
فمنها أن المرأة رفعت رقعتها بأحد من الأجناد ممن نزل دارها، وصدر لها أمر ينكر،
فوقع على رقعتها: يخرج هذا النازل، ولا يعوض بشيء من المنازل. وغير ذلك مما
اختصرناه.
بنوهأبو محمد عبد الواحد ولي عهده، وأمير المؤمنين بعد
وفاته، الملقب بالرشيد، وعبد العزيز، ومان، وأبو الحسن علي، الملقب بالسعيد،
الوالي بعد أخيه الرشيد.
بناته: ابنة العزيز، وصفية، ونجمة، وعائشة، وفتحونة،
وأمهات الجميع روميات، وسريات مغربيات.
وزراؤه
وزر له الشيخ أبو زكريا بن
أبي الغمر وغيره.
كتابه، كتب له جملة من مشاهير الكتاب، منهم أبو زكريا
الفازازي، وأبو المطرف بن عميرة. وأبا الحسن الرعيني، وأبوعبد الله بن عياش وأبو
العباس ابن عمران وغيرهم. وما منهم إلا شهير كبير.
وفاتهتوفي رحمه الله بوادي أم الربيع، وقد طوى المراحل
من ظاهر سبتة، مقلعا عن حصارها، مبادراً إلى مراكش، وقد اتصل به دخول يحيى بن
الناصر إياها، فأعد السير وقد اشتد حنقه على أهلها، وأقسم أن يبيح حماها للروم،
ويذهب اسمها ومسماها، فهلك عند دنوه منها فجأة، فكانت عند أهل مركش من غرر الفرج
بعد الشدة، وكتمت زوجة حبابة الرومية، أم الرشيد ولده، خبر وفاته إلا عن الأفراد
من قواد النصارى وبعض الأشياخ، واتفق القول على مبايعة ابنها المذكور، بيعةً خاصة
ثاني يوم وفاته، ثم جعل في هودج وأشيع أنه مريض، وزحفت الجيوش على تعبيته، وبرز
يحيى بن الناصر من مراكش إلى لقائه، والتقى الجمعان فانهزم يحيى واستولى الرشيد
عليه، ودخل مراكش فاستقام الأمر، وكانت وفاة المأمون أبي العلا رحمه الله، ليلة
الخامس عشر لمحرم عام ثلاثين وستمائة.
وجرى ذكر المأمون والمهدي وأوليتهم في الرجز المتضمن ذكر
بالمسلمة من نظمي بما نصه بعد ذكر الدولة اللمتونية:
ونجم المهدي وهو الداهية ... فأصبحت تلك المباني واهية
وانحكم الأمر له وانجمعا ... في خبر نذكر منه لمعا
لم يأل فيها أن دعا لنفسه ... وكان في الحزم فريد جنسه
أغرب في ناموسه ومذهبه ... وفي الذي سطره من نسبه
وعنده سياسةٌ وعلمٌ ... وجرأةٌ وكرم وحلمٌ
ووافقت أيامه في الناس ... لدولة المسترشد العباسي
ثم انقضت أيامه المنيفة ... وكان عبد المؤمن الخليفة
فضاء لون سعده ووضحا ... ولاح مثل الشمس في وقت الضحى
ثم تلمسان وفاساً فتحا ... وملك أصحاب اللثام قد محا
ولما انتهى القول إلى المأمون المترجم به، بعد ذكر من
يليه وعبد المؤمن جده، قلت:
ثم تولى أمرهم أبو العلا ... فسلط البيض على بيض الطلا
وهو الذي أركب جيش الروم ... وجد في إزالة الرسوم
أسباط بن جعفر
بن سليمان بن أيوب بن سعد السعدي
سعد بن بكر بن عفان الإلبيري
هذا هو جد سعيد بن جودي، بن سوادة، بن جودي، بن أسباط، أمير المغرب. وقدرهم بهذه
المدينة شهير.
حالهوكان من أهل العلم والفقه، والدين المتين، والورع
الشديد، والصلاح الشهير.
نباهتهولاه الأمير عبد الرحمن قضاء إلبيرة حين بلغه زهده
وورعه، وأنه لم يشرك إخوته في شيء من ميراث أبيه، إذ كان لم يحضر الفتح، فبرىء به
إليهم وابتاع موئلاً بوطنه أنيط به ماءٌ، وانفرد به للعبادة والتبتل، فاستقدمه
هشام، فركب حماره وقدم عليه في هيئة رثة بذلة، فتوسم فيه الخير، وقدمه ووسع له في الرزق،
ووهب له ضياعاً كثيرة، تعرف اليوم باسمه، وتوفي هشام وهو قاض بإلبيرة، فأقره ابنه
الحكم ثم ولاه شرطته، إلى أن توفي أسباط، قلت، انظر حال الشرطة عند الخلفاء من كان
يختار لها لولايتها.
أسلم بن عبد العزيز بن أبانأسلم بن عبد العزيز بن هشام
بن خالد بن عبد الله بن خالد ابن حسين بن جعفر بن أسلم بن أبان مولى عثمان بن عفان
رضي الله عنه، يكنى أبا الجعد.
أوليتهمن أهل شرق الأندلس، أصلهم من لوشة فتية غرناطة
وموضعهم بها معروف، وإلى جدهم ينسب جبل أبي خالد المطل عليها، وكان لهم ظهور
هنالك، وفيهم أعلام وفضلاء.
حالهكان أسلم من خيار أهل إلبيرة، شريف البيب، كريم
الأبوة، من كبار أهل العلم، وكانت فيه دعابة، لم ينسب إليه قط بسببها خزية في دين
ولا زلة. قال أبو الفضل عياض، كان أسلم من خيار أهل إلبيرة، رفيع الدرجة في العلم،
وعلو الهمة في الإدراك، والرواية والديانة، والصحبة، وبعد الرحلة في طلب العلم، معروف
النصيحة والإخلاص للأمراء.
مشيخته
لقي بمصر، المدني، ومحمد بن عبد
الحكم، ويونس، والربيع بن سليمان المؤذن، وأحمد بن عبد الرحيم البرقي. وسمع من
علي بن عبد العزيز، وسليمان ابن عمران بالقيروان.
من روي عنه، سمع منه عثمان بن عبد الرحمن، وعبد الله بن
يونس، ومحمد بن قاسم، وغير واحد، وانصرف إلى الأندلس من رحلته، فنال الوجاهة
العظيمة.
ولايتهولاه قضاء الجماعة بغرناطة، الناصر لدين الله، أول
ولايته، وسط سنة ثلاثمائة، إلى أن استعفى سنة تسع وثلاثمائة فأعفاه، ثم أعاده. وكان
في قضاء صارماً لا هوادة عنده. قال المؤرخ، كان الناصر يستخلفه في سطح القصر إذا
خرج إلى مغازيه. وحكى ابن حارث، أن ابن معاذ وابن صالح أتيا يوماً، فلما أخذا مجلسهما
نظر إليهما، وقال ألقوا ما أنتم ملقون فأبهتهما. ودخل عليه محمد بن وليد يوماً،
فكلمه في شيء، فقال أسلم سمعنا وعصينا، فقال ابن وليد ونحن قلنا واحتسبنا. وأتاه
في بعض مجالسه شهود، بعضهم من أهل المدينة بقرطبة، وبعضهم من شلار من الربض
الشرقي، يشهدون في ترشيد امرأة من الربض الغربي، فلما أخذوا مجالسهم، فتح باب
الخوخة التي في المجلس الذي يجلس بدهليزه، ونادى من بخارجه فاجتمعوا، اسمعوا
عجباً، لله در الشاعر حيث يقول:
راحت مشرقة ورحت مغرباً ... شتان بين مشرق ومغرب
هؤلاء من أهل المدينة وشلار، يشهدون في ترشيد امرأة من
ساكنات آخر بلاط مغيث، ثم سكت فدهش القوم وتسللوا. وبلغه عن بعض الشهود المتهمين
أنه أرشي في شهادته ببساط، فلما أتى ليؤديها، ودخل على أسلم جعل يخلع نعليه عند
المشي على بساط القاضي، فناداه أبا فلان البساط، الله الله، فتنبه بأن أمره عند القاضي،
ولم يجسر على أداء شهادته تلك. وخاصم فقيهٌ عند أسلم رجلاً في خادم أغربها وجاء
بشاهد أتى به من إشبيلية، فقال يا قاضي هذا شاهدي فاسمع منه، فصعد أسلم في الشاهد
وصوب، وقال أمحتسب، أو مكتسبٌ أصلحك الله، فقال الشاهد أحسن الظن أيها القاضي،
فليس هذا إليك، هذا إلى الله المطلع على ما في القلوب، ولم تقعد هذا المقعد لتسأل
عن هذا وشبهه، وإنما عليك الظاهر، وتكل الباطن إلى الله، فإن شئت، فاسمع الشهادة
كما يلزمني أداؤها، ثم أقبلها أو اضرب بها الحائط. وفي رواية أخرى، وليس لك أن
تكشف الستر المنسدل بينك وبيني، فإن هذا التفسير للشهود يوقف عن الشهادة عندك،
ويعرض لإهانتك أهل لائقةٍ، وفي ذلك من ضياع الحقوق ما لا يخفي، فأخجل أسلم كلامه،
وقال له، لك ما قلت، فأد شهادتك يرحمك الله. قال، فأين الخادم تحضر حتى أشهد على عينها،
قال أسلم وفقيهٌ أيضاً؟ هاتوا الخادم، فجاءت من عند الأمين، فلما مثلت بين يديه،
نظر منها ملياً، ثم قال، أعرف هذه الخادم ملكا لهذا الرجل، لا أعرف ملكه زال عنها
بوجه من الوجوه، إلى حين شهادتي هذه، سلامٌ على القاضي، ثم خرج، فبقى أسلم متعجباً
منه.
محنتهكف بصره في أخريات أيامه، فطلب لأجل ذلك الإعفاء
فأعفى، ولزم بيته صابراً محتسباً إلى حين وفاته.
مولدهسنة إحدى وثلاثين ومائتين.
أسد بن الفرات
بن بشر بن أسد المري
من أهل قرية الصير مورته من
إقليم البساط من قرى غرناطة.
حالهكان عظيم القدر والشرف والشهرة، أصيل المعرفة والدين.
مشيختهخرج إلى المشرق، ولقي مالك بن أنس رضي الله عنه،
روي عنه سحنون ابن سعيد.
تآليفهألف كتاب المختلطة، وولى القضاء بالقيروان أجمل ما
كانت وأكثر علماً، وولاه زيادة الله غزو صقلية، ففتحها وأبلى بلاء حسناً.
وفاتهتوفي رحمه الله محاصراً سرقوسة منها سنة ثلاث عشر
ومائتين. هذا ما وقع في كتاب أبي القاسم الملاحي. وذكره عياض فذكر خلافاً في اسمه
وفي أوليته.
أبو بكر المخزومي
الأعمى المورورى المدوري
حاله
كان أعمى، شديد القحة والشر،
معروفاً بالهجاء، مسلطاً على الأعراض، سريع الجواب، ذكي الذهن، فطناً للمعاريض،
سابقاً في ديوان الهجاء، فإذا مدح ضعف شعره.
دخوله غرناطةوذكر شيء من شعره، ومهاترته مع نزهون بنت
القلاعي.
قال أبوالحسن بن سعيد، في
كتابه المسمى بالطالع السعيد، قدم على غرناطة أيام ولاية أبي بكر بن سعيد عمل
غرناطة، ونزل قريباً منه، وكان يسمع به، فقال صاعقةٌ يرسلها الله عز وجل على من
يشاء من عباده، ثم رأى أن يبدأه بالتأنيس والإحسان، فاستدعاه بهذه الأبيات:
يا ثانيا للمعري ... في حسن نظمٍ ونثر
وفرط ظرف ونبلٍ ... وغوص فهم وفكر
صل ثم واصل حفياً ... بكل شكر وبر
وليس إلا حديث ... كما زها عقد در
وشادنٌ قد تغنى ... على ربابٍ وزمر
وما يسامح فيه الغف ... ور من كأس خمر
وبيننا عقد حلف ... لبان شركٍ وكفر
فقم نجدده عهداً ... يطيب شكر وسكر
والكأس مثل رضاع ... ومن كمثلك يدري
ووجه له الوزير أبو بكر بن سعيد، عبداً صغيراً قاده.
فلما استقر به المجلس، وأفعمته روائح الند والعود والأزهار، وهزت عطفه الأوتار،
قال:
دار السعيدي ذي أم دار رضوانٍ ... ما تشتهي النفس فيها
حاضرٌ دان
سقت أبارقها للند سحب ندى ... تحدو برعد لأوتار والحان
والبرق من كل دن ساكبٌ مطرا ... يحيي به ميت أفكار
وأشجان
هذا النعيم الذي كنا نحدثه ... ولا سبيل له إلا بآذان
فقال أبو بكر بن سعيد ولا سبيل له إلا بآذان، فقال حتى
يبعث الله ولد زنا كلما أنشدت هذه الأبيات، قال: وإن قائلها أعمى، فقال: أما أنا
فلا أنطق بحرف في ذلك. فقال من صمت نجا. وكانت نزهون بنت القلاعي الآتي ذكرها
حاضرة، فقالت ونراك يا أستاذ قديم النغمة، بند وغناء وطيب شراب، تتعجب من تأتيه،
وتشبهه بنعيم الجنة، وتقول ما كان يلم إلا بالسماع، ولا يبلغ إليه إلا بالعيان، لكن
من يجيئ من حصن المدور، وينشأ بين تيوس وبقر، من أين له معرفةٌ بمجالس النغم. فلما
استوفت كلامها تنحنح الأعمى، فقالت له دعه، فقال من هذه الفاعلة؟ فقالت عجوز مقام
أمك، فقال كذبت ما هذا صوت عجوز، إنما هذه نغمة قحبة محترقة تشم روائح كذا منها
على فرسخ، فقال له أبو بكر: يا أستاذ هذه نزهون بنت القلاعي الشاعرية الأديبة،
فقال سمعت بها لا أسمعها الله خيراً، ولا أراها إلا... فقالت له يا شيخ سوءٍ
تناقضت، وأي خير أفضل للمرأة.؟ ففكر المخزومي ساعة ثم قال:
على وجه نزهون من الحسن مسحة ... وإن كان قد أمسى من
الضوء عاريا
قواصد نزهون تدارك غيرها ... ومن قصد البحر استقل
السواقيا
فأعملت فكرها وقالت:
قل للوضيع مقالاً ... يتلى إلى حين يحشر
من المدور أنش ... ئت والخرا منه أعطر
حيث البداوة أمست ... في أهلها تتبختر
لذلك أمسيت صبا ... بكل شيء مدور
خلقت أعمى ولكن ... تهيم في كل أعور
جازيت شعراً بشعر ... فقل لعمري من أشعر
إن كنت في الخلق أنثى ... فإن شعري مذكر
فقال لها اسمعي:
ألا قل لنزهونة ما لها ... تجر من التيه أذيالها
ولو أبصرت بشةً شمرت ... كما عودتني سربالها
فحلف أبو بكر بن سعيد ألا يزيد أحدهما على الآخر في هجوه
كلمة، فقال المخزومي أكون هجاء الأندلس وأكف عنها دون شيء، فقال أنا أشتري منك
عرضها فاطلب، فقال بالعبد الذي أرسلته فقادني إلى منزلك، فإنه لين القد رقيق
الملمس. فقال أبو بكر لولا أنه صغير كنت أبلغك فيه مرادك، وأهبه لك، ففطن لقصده، وقال
أصبر عليه، حتى يكبر، ولو كان كبيراً ما آثرتني على نفسك، فضحك أبو بكر وقال قد
هجوت نثراً، وإن لم نهج نظماً، فقال أيها الوزير، لا تبديل لخلق الله، وانفصل
المخزومي بالعبد بعد ما أصلح بينه وبين نزهون.
وقال يمدح القاضي بغرناطة أبا الحسن بن أضحى رحمهما الله:
عجباً للزمان يطلب هضمي ... وملاذي منه على بن أضحى
جاره قد سما على النطح عزاً ... ليس يخشى من حادث الدهر
نطحا
فكأني علوت قرن فلان ... أي
تيس مطول القرن ألحا
فقال له ابن أضحى، هلا اقتصرت على ما أنت بسبيله، فكم
تقع في الناس، فقال أنا أعمى وهم حفرٌ فلا أزال أقع فيها، فقال فأعجبني كلامه على
قبحه، وحديث مقامه بغرناطة يقتضي طويلا.
وفاته: قال أبو القاسم بن خلف، كان حياً بعد الأربعين
وخمسمائة.
أصبغ بن محمد بن الشيخ المهدييكنى أبا القاسم، عالم
مشهور.
حالهكان محققاً بعلم العدد والهندسة، مقدماً في علم
الهيئة والفلك وعلم النجوم، وكانت له مع ذلك عناية بالطب.
تواليفه حسان، وموضوعاته مفيدة، منها كتاب المدخل إلى
الهندسة، في تفسير كتاب إقليدس، ومنها كتاب ثمار العدد المعروف بالمعاملات. ومنها
كتابه الكبير في الهندسة تقصي فيه أجزاءها. ومنها كتاب في الآلة المعروفة
بالأسطرلاب. ومنها تاريخه الذي ألفه وهو تاريخ كبير.
وفاتهقال ابن جماعة في تاريخه، أخبرني أبو مروان، سليمان
بن عيسى الناشي المهندس، أنه توفي بمدينة غرناطة قاعدة الأمير حبوس ليلة الثلاثاء
لاثنتي عشرة ليلة بقيت لرجب سنة ست وعشرين وأربعمائة، وهو ابن ست وخمسين سنة
شمسية. وعده من مفاخر الأندلس.
أبو علي بن هديةمن أهل غرناطة
حالهقال أبوالقاسم الملاحي فيه، من أهل الدين، والفضل،
والأمانة، والعدالة، والمعرفة بالتكسير والأعمال السلطانية، وولى المستخلص
بغرناطة، فثقب وأجاد النظر. قال ابن الصيرفي: ولما ولي الوزير أبو علي بن هدية
المستخلص، وباشر جلائل الأمور ودقائقها بنفسه، حمي المناصفين، ورفع المؤن والكلف،
عنهم، ووسع بسليف البذر عليهم، وآثرهم بالنصفة بالتزام حصة بيت المال، ولم يكن له حجاب
ولا بواب، فكان القوي والضعيف، والمشروف والشريف، والكبير والصغير، والرجل
والمرأة، شرعاً سواءً في الوصول إليه، والتكلم في مجلسه، فلم يهتضم جانب، ولا دحضت
حجة، إلا أنه ارتفعت الرقبة، وزالت الهيبة، وأمحق نور الخطة، وخص أحباس جامع
غرناطة بنظره، بفضل مال كثير من غلته، ونبه باجتماعه ليزيد بن بلاطين في مسقفه من
شرقه وغربه، فأكمل الله ذلك بسعيه وعلى يديه، ورام ربع المستخلص، وزاد به في
حماماته، ورم حوانيته، واستحدث منيحة سماها المستحدثة. وغرس قضبان الجوز في مواضع
المياه، وعوض بما ذهب، وشمر في جمع المال، ووالي الحفز على العمل، ونصح بمقتضى
جهده، ومنتهى وسعه، ولم تمد يده في مصانعة، ولا مالت إلى مداخلة، ولكنه لم يحمل في
حق ولا نوقش في باطل.
أم الحسن
بنت القاضي أبي جعفر الطنجالي
من أهل لوشة.
نبيلةٌ حسيبةٌ، تجيد قراءة القرآن، وتشارك في فنون من
الطلب، من مبادىء غريبة، وخلف وإقراء مسائل الطب، وتنظم أبياتاً من الشعر. وذكرتها
في خاتمة الإكليل بما نصه: ثالثة حمدة وولادة، وفاضلة الأدب والمجادة، تقلدت
المحاسن من قبل ولادة، وأولدت أبكار الأفكار قبل سن الولادة. نشأت في حجر أبيها،
لا يدخر عنها تدريجاً ولا سهماً، حتى نهض إدراكها وظهر في المعرفة حراكها، ودرسها الطب
ففهمت أغراضه، وعلمت أسبابه وأعراضه. وفي ذكر.
شعرهاولما قدم أبوها من المغرب، وحدث بخبرها المغرب،
توجه بعض الصدور إلى اختبارها، ومطالعة أخبارها، فاستنبل أغراضها واستحسنها،
واستطرف لسنها، وسألها عن الخط، وهو أكسد بضاعة جلبت، وأشح درة حلبت. فأنشدته من
نظمها:
الخط ليس له في العلم فائدة ... وإنما هو تزيينٌ بقرطاس
والدرس سؤلي لا أبغي به بدلاً ... بقدر علم الفتى يسمو
على الناس
وراجعها بعض المجان يغفر الله له:
إن فرط الدرس يا أمي سحق ... وهذا هو المشهور في الناس
فخذ من الدرس شيئاً تافها ... خطا وبالفهم يحيى كل الناس
ومن شعرها في غرض المدح:
إن قيل من الناس رب فضيلةٍ ... حاز العلا والمجد منه
أصيل
فأقول رضوان وحيد زمانٍ ... إن الزمان بمثله لبخيل
بلكين بن باديس
بن حبوس بن ماكسن بن زيري
بن مناد الصنهاجي الأمير
الملقب بسيف الدولة، صاحب أمر والده والمرشح للولاية بعده
حاله
قال المؤرخ: كان زيري بن
مناد، ممن ظهر في حرب ابن يزيد بإفريقية، واتسم هو وقومه بطاعة العبيديين أمراء
الشيعة، فكانوا حرباً لأضدادهم من زنانة الموالين لأملاك المراونة لتحقق جدهم خزر
بولايته عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما صار الأمر إلى بني مناد بعد انتقال ملك
الشيعة إلى المشرق، وولي الأمر باديس بن منصور بن بلكين بن زيري، ذهب أعمامه
وأعمام أبيه إلى استضعافه، فلم يعطهم ذلك من نفسه، ووقعت بينهم الحرب التي قتل
فيها عم أبيه ما كسن بن زيري، فرهب الباقون منهم صولة باديس، وخافوا عاديته على
أنفسهم، على صغر سنه، فخاطب شيخ بيته يومئذ زاوي بن زيري ومعه أبناء أخيه، المظفر ابن
أبي عامر ليجوز إليه إلى الأندلس رغبة في الجهاد، فألفى همه بعيدة، وملكاً شامخاً،
يذهب إلى استخدام الأشراف واصطناع الملوك، فأذن في ذلك، فدخل منهم جماعةٌ الأندلس
مع أميرهم زاوي بن زيري، ومعه أبناء أخيه حباسة وحبوس وماكسن، فأنزلهم المظفر
وأكرمهم، إلا أنهم كابدوا مشقة من دهرهم الذي أصارهم يخدمون بأبواب الملوك من
أعدائهم غيرهم، فلما انهدمت الإمامة، وانشقت عصا الجماعة، سعوا في الفتنة سعى
غيرهم، من سائر قبائل البرابرة، عند تشديد أهل الأندلس للبربر، وانحازوا عند
ظهورهم على أهل الأندلس، بملوك بني حمود، إلى بلاد تضمهم، فانحازت صنهاجة مع شيخهم
ورئيسهم زاوي بن زيري إلى مدينة غرناطة. ثم آثر زاوي العودة إلى وطنه إفريقية،
فخرج عن الأندلس حسبما يتفسر في موضعه. والتف قومه على ابن أخيه حبوس بن ماكسن، في
جماعة عظيمة تحمي حوزته، وأقام بها ملكاً، وغلب على ما اتصل بمدينته من الكور، فتملك
قبرة، وجيان، واتسع نظره، وحمى وطنه ورعيته ممن جاوره من البرابر، وكان داهية
شجاعاً، فدامت رياسته، واتصل ملكه، إلى أن هلك. فولى بعده ابنه باديس، وسيأتي
التعريف به، وولد له ابنه بلكين هذا المترجم به، فرشحه إلى ملكه، وأخذ له بيعة
قومه، وأهله للأمر من بعده. قال المؤرخ: ونشأ لباديس ابن حبوس، ولد اسمه بلكين،
وكان عاقلاً نبيلاً، فرشحه للأمر من بعده، وسماه سيف الدولة، وقال: ولي مالقة في
حياة أبيه، وكان نبيلاً جليلاً، ووقعت على كتاب بخطه نصه بعد البسملة: هذا ما
التزمه واعتقد العمل به، بلكين بن باديس، للوزير القاضي أبي عبد الله بن الحسن
الجذامي سلمة الله. أعتقد به إقراره على خطة الوزارة، والقضاء في جميع كوره، وأن
يجري من الترفيع والإكرام له، إلى أقصى غاية وأن يحمل على الجراية في جميع أملاكه
بالكور المذكورة، حاضرتها وباديتها، الموروثة منها، والمكتسبة، القديمة الاكتساب والحديثة،
وما ابتاع منها من العالي رحمة الله وغيره، لا يلزمها وظيفٌ بوجه، ولا يكلف منها
كلفة، على كل حال، وأن يجري في قرابته، وخوله وحاشيته وعامري ضيعه، على المحافظة
والبر والحرية. وأقسم على ذلك كله بلكين بن باديس بالله العظيم، والقرآن الحكيم،
وأشهد الله على نفسه وعلى التزامه له، وكفى بالله شهيداً. وكتب بخط يده مستهل شهر
رمضان العظيم سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، والله المستعان. ولا شك أن هذا المقدار
يدل على نبل، ويعرف عن كفاية.
سبب وفاته: قال صاحب البيان المغرب وغيره: وأمضى باديس
كاتب أبيه ووزيره إسماعيل ابن نغرالة اليهودي على وزارته وكتابته وسائر أعماله، ورفعه
فوق كل منزلة، وكان لولده بلكين، خاصة من المسلمين يخدمونه، وكان مبغضاً في
اليهودي، فبلغه أنه تكلم في ذلك لأبيه، فبلغ منه كل مبلغ، فدبر الحيلة، فذكروا أنه
دخل عليه يوماً فقبل الأرض بين يديه، فقال له الغلام: ولم ذلك، فقال: يرغب العبد أن تدخل
داره مع من أحببت من عبيدك ورجالك، فدخل إليه بعد ذلك، فقدم له ولرجاله طعاماً
وشراباً، ثم جعل السم في الكأس لابن باديس، فرام القيء فلم يقدر عليه، فحمل إلى
قصره وقضى نحبه في يومه، وبلغ الخبر إلى أبيه ولم يعلم السبب، فقرر اليهودي عنده
أن أصحابه وبعض جواريه سموه. فقتل باديس جواري ولده، ومن فتيانه وبني عمه جماعة
كبيرة، وخافه سائرهم ففروا عنه. وكانت وفاته سنة ست وخمسين وأربعمائة. وبعده قتل
اليهودي في سنة تسع وخمسين.
باديس بن حبوس
بن ماكسن بن زيري
ابن مناد الصنهاجي كنيته أبو
مناد ولقبه الحاجب المظفر بالله، الناصر لدين الله.
أوليته
قد تقدم الإلماع بذلك عند ذكر
ابنه بلكين
حالهكان رئيساً يبساً، طاغيةً، جباراً، شجاعاً، داهية،
حازماً، جلداً، شديد الأمر، سديد الرأي، بعيد الهمة، مأثور الإقدام، شره السيف،
واري زناد الشر، جماعة للمال، ضخمت به الدولة، ونبهت الألقاب، وأمنت لحمايته
الرعايا، وطم تحت جناح سيفه العمران، واتسع بطاعته المرهبة الجوانب ببأسه النظر،
وانفسخ الملك، وكان ميمون الطائر، مطعم الظفر، مصنوعاً له في الأعداء، يقنع أقتاله
بسلمه، ولا يطمع أعداؤه في حربه. قال ابن عساكر: يكنى أبا مسعود، وكان من أهل
الحزم وحماية الجانب، وكان يخطب ويدعو للعلويين بمالقة، فلما توفي إدريس بن يحيى
العالي، ملك مالقة سنة ثمان وأربعين وأربعمائة.
وقال الفتح في قلائده: كان باديس بن حبوس بغرناطة عاثياً
في فريقه، عادلاً عن سنن العدل وطريقه، يجتريء على الله غير مراقب، ويسري إلى ما
شاء غير ملتفت للعواقب، قد حجب سنانه لسانه، وسبقت إساءته إحسانه، ناهيك من رجل لم
يبت من ذنبٍ على ندم، ولم يشرب الماء إلا من قليب دم، أحزم من كاد ومكر، وأجرم من راح
وابتكر، وما زال متقداً في مناحيه، متفقداً لنواحيه، لا يرام بريث ولاعجل، ولا
يبيت له جار إلا على وجل.
أخباره في وقائعهينظر إيقاعه بزهير العامري ومن معه في
اسم زهير، فقد ثبت منه هنالك نبذة، وإيقاعه بجيش ابن عباد بمالقة عندما طرق مالقة
وتملكها، واستصرخ من استمسك بقصبتها من أساودتها، وغير ذلك مما هو معلوم، وشهرته
مغنية عن الإطالة.
ومن أخباره في الجبرية والقسوة، قال ابن حيان: عندما
استوعب الفتكة بأبي نصر بن أبي نور اليفرني أمير رندة المنتزي بها وقتله، ورجوعها
إلى ابن عباد، حكي أبو بكر الوسنشاني الفقيه عن ثقة عنده من أصادقة التجار، أنه
حضر مدينة غرناطة، حضرة باديس بن حبوس الجبار، أيام حدث علي أبي نصر صاحب تاكرنا
ما حدث، وأن أميرها باديس قام للحادثة، وقعد، وهاج من داء عصبيته ما قد سكن، وشق أثوابه،
وأعلن أعواله، وهجر شرابه الذي لا صبر له عنه، وجفا ملاذه، وأوهمته نفسه الخبيثة
تمالؤ رعيته من أهل الأندلس، على الذي دهي أبا نصر، فسولت له نفسه حمل السيف على
أهل حضرته جميعاً، مستحضراً لهم، وكيماً ينبرهم، ويخلص برابرته وعبيده فيريح نفسه،
ودبر أن يأتي ذلك إليهم عند اجتماعهم بمسجدهم الجامع الأقرب أيام الجمعة، من قوة
همومه، وشاور وزيره اليهودي يوسف بن إسماعيل، مدبر دولته الذي لا يقطع أمراً دونه،
مستخلياً مستكتماً بسره، مصمماً في عزمه، إن هو لم يوافقه عليه، فنهاه عن ذلك وخطأ
رأيه فيها، وسأله الأناة ومحض الروية، وقال له هبك وصلت إلى إرادتك ممن بحضرتك،
على ما في استباحتهم من الخطر، فأني تقدر على الإحاطة بجميعهم من أهل حضرتك،
وبسائط أعمالك؟ أتراهم يطمئنون إلى الذهول عن مصائبهم، والاستقرار في موضعهم؟ ما أراهم
إلا سيوفاً ينتظمون عليك في جموعٍ، يغرقونك في لججها أنت وجندك، فرد نصيحته، وأخذ
الكتمان عليه، وتقدم إلى عارضه باعتراض الجند في السلاح، والتعبية لركوبه يوم
الفتكة، يوم تلك الجمعة، فارتج البلد. وذكر أن اليهودي دس نسواناً إلى معارف لهن
من زعماء المسلمين بغرناطة، ينهاهم عن حضور المسجد يومهم، ويأمرهم بإخفاء أنفسهم،
وفشا الخبر فتخلف الناس عن شهود الجمعة، ولم يأته إلا نفر من عامتهم، اقتدوا بمن
أتاه من مشيخة البربر وأغفال القادمين، وجاء إلى باديس الخبر، والجيش في السلاح
حوالي قصره، فساءه وفت في عضده، ولم يشك في فشو سره، وأحضر وزيره وقلده البوح بسره
فأنكر ما قرفه به، وقال ومن أين ينكر على الناس الحذر، وأنت قد استركبت جندك وجميع
جيشك في التعبية، لا لسفرٍ ذكرته، ولا لعدو وثب إليك، فمن هناك حدس القوم على أنك
تريدهم، وقد أجمل الله لك الصنع في نفارهم، وقادك إصارهم، فأعد نظرك يا سيدي، فسوف
تحمد عاقبة رأيي وغبطة نصحي. فنصح وزيره شيخٌ من موالي صنهاجته، فانعطف لذلك بعد
لأي، وشرح الله صدره. ويجري التعريف بشيء من أمور وزيره.
قال ابن عذاري المراكشي في
كتابه المسمى بالبيان المغرب: أمضى باديس كاتب أبيه ووزيره ابن نغرالة اليهودي،
وعمالاً متصرفين من أهل ملته، فاكتسبوا الجاه في أيامه واستطالوا على المسلمين. قال ابن
حيان، وكان هذا اللعين في ذاته، على ما زوى الله عنه من هدايته، من أكمل الرجال
علماً وحلماً وفهماً، وذكاء، ودماثة، وركانة، ودهاء، ومكراً، وملكا لنفسه، وبسطاً
من خلقه، ومعرفةً بزمانه، ومداراة لعدوه، واستسلالاً لحقودهم بحلمه، ناهيك من رجل
كتب بالقلمين، واعتنى بالعلمين، وشغف باللسان العربي، ونظر فيه، وقرأ كتبه، وطالع
أصوله، فانطلقت يده ولسانه، وصار يكتب عنه وعن صاحبه بالعربي، فيما احتاج إليه من
فصول التحميد لله تعالى، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم، والتزكية لدين
الإسلام، وذكر فضائله، ما يريده، ولا يقصرفيما ينشئه عن أوسط كتاب الإسلام، فجمع
لذلك، السجيج في علوم الأوائل الرياضية وتقدم منتحليها بالتدقيق للمعرفة النجومية،
ويشارك في الهندسة والمنطق، ويفوق في الجدل كل مستول منه على غاية، قليل الكلام مع
ذكائه، ماقتاً للسباب، دائم التفكر، جماعةٌ للكتب. هلك في العشر الثاني لمحرم سنة تسع
وخمسين وأربعمائة، فجلل اليهود نعشه، ونكسوا لها أعناقهم خاضعين، وتعاقدوه جازعين،
وبكوه معلنين، وكان قد حمل ولده يوسف المكنى بأبي حسين على مطالعة الكتب، وجمع
إليه المعلمين والأدباء من كل ناحية، يعلمونه ويدارسونه، وأعلقه بصناعة الكتابة،
ورشحه لأول حركته، لكتابة ابن مخدومه بلكين برتبة المترشح لمكانه، تمهيداً لقواعد خدمته،
فلما هلك إسماعيل في هذا الوقت، أدناه باديس إليه، وأظهر الاغتباط به، والاستعاضة
بخدمته عن أبيه.
مقتل اليهودي يوسف بن إسماعيلابن نغرالة الإسرائيلي قال
صاحب البيان، وترك ابناً له يسمى يوسف لم يعرف ذل الذمة، ولا قذر اليهودية. وكان جميل
الوجه، حاد الذهن، فأخذ في الاجتهاد في الأحوال، وجمع المال، واستخراج الأموال،
واستعمال اليهود على الأعمال، فزادت منزلته عند أميره، وكانت له عليه عيون في قصره
من نساءٍ وفتيانٍ، يشملهم بالإحسان، فلا يكاد باديس يتنفس، إلا وهو يعلم ذلك. ووقع
ما تقدم ذكره، في ذكر بلكين من اتهامه بسمه، وتوليه التهمة به عند أبيه، للكثير من
جواريه وخدامه، وفتك هذا بقريب له، تلو له في الخدمة والوجاهة، يدعى بالقائد، شعر
منه بمزاحمته إياه فتكة شهيرة، واستهدف للناس فشغلت به ألسنتهم، وملئت غيظاً عليه
صدورهم، وذاعت قصيدة الزاهد أبي إسحاق الإلبيري، في الإغراء بهم، واتفق أن أغارت
على غرناطة بعوثٌ صمادحية تقول إنها باستدعائه، ليصير الأمر الصنهاجي إلى مجهزها
الأمير بمدينة ألمرية. وباديس في هذه الحال منغمسٌ في بطالته، عاكفٌ على شرابه.
ونمى هذا الأمر إلى رهطه من صنهاجة، فراحوا إلى دار اليهودي مع العامة، فدخلوا
عليه، فاختفى، زعموا في بيت فحم، وسود وجهه، يروم التنكير فقتلوه لما عرفوه،
وصلبوه على باب مدينة غرناطة، وقتل من اليهود في يومه، مقتلةٌ عظيمة، ونهبت دورهم،
وذلك سنة تسع وخمسين وأربعمائة. وقبره اليوم وقبر أبيه يعرف أصلاً من اليهود ينقلونه
بتواترٍ عندهم، أمام باب إلبيرة، على غلوة، يعترض الطريق، على لحده حجارة كدان
جافية الجرم، ومكانه من الترفه والترف والظرف والأدب معروفٌ، وإنما أتينا ببعض
أخباره لكونه ممن لا يمنع ذكره في أعلام الأدباء والأفراد إلا نحلته.
مكان باديس من الذكاء وتولعه
بالقضايا الآتية: قال ابن الصيرفي حدثني أبو الفضل جعفر الفتى، وكان له صدقٌ. وفي
نفسه عزة وشهامة وكرم، وأثنى عليه،وعرف به، حسبما يأتي في اسم جعفر المذكور. قال،
خاض باديس مع أصحابه في المجلس العلي، من دار الشارب بقصره، واصطفت الصقاليب
والعبيد بالبرطل المتصل به لتخدم إرادته، فورد عليه نبأ قام لتعرفه عن مجلسه، ثم عاد
إلى موضعه وقد تجهم وجهه، وخبثت نفسه، فحذر ندماؤه على أنفسهم، وتخيلوا وقوع الشر
بهم، ثم قال أعلمتم ما حدث، قالوا لا والله يطلع على خير، قال: دخل
المرابط الدمنة، فسرى عن القوم، وانطلقت ألسنتهم بالدعاء بنصره، وفسحة عمره، ودوام
دولته، ثم وجموا لوجومه، فلما رأى تكدر صفوهم، قال أقبلوا على شأنكم، ما نحن وذاك،
اليوم خمر وغداً أمر، بيننا وبينه أمداد الفجو، والنشور الجبال وأمواج البحار،
ولكن لا بد له أن يتملك بلدي، ويقعد منه مقعدي، وهذا أمر لا يلحقه أحد منا، وإنما
يشقى أحفادنا، قال جعفر، فلما دخل الأمير القصر، عند خلعه حفيد باديس برحبة مؤمل،
طاف بكل ركن ومكان منه، وأنا في جملته حتى انتهى إلى ذلك المجلس، فبسط له ما قعد
عليه فتذكرت قول باديس، وتعجبت منه تعجباً ظهر علي، فالتفت إلى أمير المسلمين
منكراً، وسألني ما بي، فأخبرته وصدقته، وقصصت عليه قول باديسن فتعجب، وقام إلى المسجد
بمن معه، فصلى فيه ركعات، وأقبل يترحم على قبره.
وفاته: قال أبو القاسم بن خلف: توفي باديس ليلة الأحد
الموفى عشرين من شوال سنة خمسة وستين وأربعمائة، ودفن بمسجد القصر. قلت، وقد ذهب
أثر المسجد، وبقي القبر يحف به حلقٌ له باب، كل ذلك على سبيل من الخمول، وجدث
القبر رخام، إلى جانب قبر الأمير المجاهد أبي زكريا يحيى بن غانية المدفون في دولة
الموحدين به.
وقد أدال اعتقاد الخليفة في باديس بعد وفاته، قدم العهد
بتعرف أخبار جبروته وعتوه على الله سبحانه، لما جبلهم عليه من الانقياد للأوهام
والانصياع للأضاليل، فعلى حفرته اليوم من الازدخام بطلاب الحوائج والمستشفين من الأسقام،
حتى أولى الدواب الوجيعة، ما ليس على قبر معروف الكرخي، وأبي يزيد البسطامي.
ومن أغرب ما وقفت عليه رقعة رفعها إلى السلطان على يدي،
وجل من أهل الخبر مكتب يوم في مسجد القصبة القدمى من دار باديس، يعرف بابن باق، وهو
يتوسل إلى السلطان ويسأل منه الإذن في دفنه مجاوراً لقبره. وعفو الله أوسع من أن
يضيق على مثله، ممن أسرف على نفسه، وضيع حق ربه. ودايره اليوم طلول قد تغيرت
أشكالها وقسم التملك جناتها، ومع ذلك فمعاهدها إليه منسوبةٌ، وأخباره متداولة.
وقد ألمعت في بعض مشاهده بقولي من قصيدة، غريبة الأغراض،
تشتمل على فنون أثبتها إحماضاً وفكاهة، لمن يطالع هذا الكتاب، وإن لم يكن جلبها
ضرورياً فيه فمنها:
عسى خطرة بالركب يا حادي العيس ... على الهضبة الشماء من
قصر باديس
بكرون بن أبي بكر
بن الأشقر الحضرمي
يكنى أبا يحيى
حالهكان من ذوي الأصالة ومشايخ الجند، فارساً نجداً
حازماً سديد الرأي، مسموع القول، شديد العضلة أيداً، فحلاً وسيماً، قائداً عند
الجند الأندلسي، في أيام السلطان ثاني ملوك بني نصر، من أحفل ما كان الأمر، يجر
وراءه دنيا عريضة، وجبى الجيش على عهده مغانم كثيرة.
قال شيخنا ابن شبرين في تذكرة ألفيتها بخطه، كان له في
الخدمة مكانٌ كبير، وجاهٌ عريض، ثم صرفه الأمر عن رسمه، وأنزله الدهر عن حكمه،
تغمدنا الله وإياه برحمته.
وفاته: في عام أربعة عشر وسبعمائة، ودفن بمقبرة قومه
بباب إلبيرة.
بدر مولى عبد الرحمن بن معاوية الداخليكنى أبا النصر،
رومي الأصل
حالهكان شجاعاً داهية، حازماً فاضلاً، مصمماً تقياً،
علماً من أعلام الوفاء. لازم مولاه في أعقاب النكبة، وصحبه إلى المغرب الأقصى،
مختصاً به ذابا عنه، مشتملا عليه، وخطب له الأمر بالأندلس، فتم له بما هو مذكور.
قال أبومروان في المقتبس، إن
عبد الرحمن لما شرده الخوف إلى قاصية المغرب، وتنقل بين قبائل البربر، ودنا من
ساحل الأندلس وكان بها همه يستخبر من قرب، فعرف أن بلادها مفترقةٌ بفرقتي المضرية
واليمانية، فزاد ذلك في أطماعه، فأدخل إليهم بدراً مولاه يحسس عن خبرهم، فأتى
القوم وبلى ما عندهم، فداخل اليمانيين منهم، وقد عصفت ريح المضريين بظهور بني
العباس بالمشرق، فقال لهم ما رأيكم في رجل من أهل الخلافة يطلب الدولة بكم، فيقيم
أودكم ويدرككم آمالكم.
فقالوا: ومن لنا به في هذه الديار، فقال بدرٌ: ما أدناه
منكم، وأنا الكفيل لكم به، هذا فلان بمكان كذا وكذا يقدمن نفسه فقالوا: فجيء به
أهلا إنا سراعٌ إلى طاعته، وأرسلوا بدراً بكتبهم يستدعونه، فدخل إليه بأيمن طائر، واستجمع
إليه خلق كثير من أنصاره قاتل بهم يوسف الفهري، فقهره لأول وقائعه، وأخذ الأندلس
منه وأورثها عقبه.
محنتهقال الراوي: وكان من أكبر من أمضى عليه عبد الرحمن
بن معاوية حكم سياسته وقومه معدلته، مولاه بدر المعتق منه بكل ذمة محفوظة، الخائض
معه لكل غمرة مرهوبة، وكل ذلك لم يغن عنه نقيراً لما أسلف في إدلاله عليه، وكثر من
الانبساط لحرمته فجمح مركب تحامله حتى أورده ألماً يضيق الصدر عنه، وآسف أميره
ومولاه، حتى كبح عنانه عن نفسه بعد ذلك كبحة أقعى بها أو شارف حمامه، لولا أن أبقى
الأمير على نفسه التي لم يزل مسرفاً عليها. قال: فانتهى في عقابه لما سخط عليه أن
سلب نعمته، وانتزع دوره وأملاكه وأغرمه على ذلك كله أربعين ألفاً من صامته، ونفاه
إلى الثغر، فأقصاه عن قربه، ولم يقله العثرة إلى أن هلك، فرفع طمع الهوادة عن جميع
ثقله وخدمته، وصير خبره مثلا في الناس بعده.
تاشفين بن علي
بن يوسف أمير المسلمين
بعد أبيه بالعدوة، صالي حروب
الموحدين
أوليتهفيما يختص به التعريف بأولية قومه، ينظر في اسم
أبيه وجده إن شاء الله. قال ابن الوراق في كتاب المقياس وغيره: وفي سنة اثنتين
وعشرين وخمسمائة، ولي الأمير علي بن يوسف أمير لمتونة، الشهير بالمرابط ولده
الأمير المسمى بسير عهده من بعده، وجعل له الأمر في بقية حياته، ورأى أن يولي ابنه
تاشفين الأندلس، فولاه مدينة غرناطة، وألمرية ثم قرطبة مضافة إلى ما بيده، قلت، وفي
قولهم رأى أن يولي الأندلس فولاه مدينة غرناطة، شاهد كبير على ما وصفناه من شرف
هذه المدينة، فنظر في مصالحها، وظهر له بركة في النصر على العدو، وخدمه الجد الذي
أسلمه، وتبرأ منه في حروبه مع الموحدين حسبما يتقرر في موضعه، فكانت له على
النصارى وقائع عظيمة بعد لها الصيت، وشاع الذكر حسبما يأتي في موضعه. قال، فكبر
ذلك على أخيه سيرولي عهد أبيه، وفاوض أباه في ذلك وقال له: إن الأمر الذي أهلتني
إليه لا يحسن لي مع تاشفين، فإنه قد حمل الذكر والثناء دوني، وغطى على اسمي، وأمال
إليه جميع أهل المملكة، فليس لي معه اسمٌ ولا ذكرٌ. فأرضاه بأن عزله عن الأندلس
وأمره بالوصول إلى حضرته، فرحل عن الأندلس في أواسط سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة
ووصل مراكش، وصار من جملة من يتصرف بأمر أخيه سير ويقف ببابه كأحد حجابه، فقضى
الله وفاة الأمير سير على الصورة القبيحة حسبما يذكر في اسمه، وثكله أبوه واشتد جزعه
عليه، وكان عظيم الإيثار والإرضاء لأمه قمر، وهي التي تسببت في عزل تاشفين وإخماله
نظراً إلى ابنها، فقطع المقدار بها عن أملها بهلاكه.
ولما توفي الأمير سير، أشارت الأم المذكورة على أبيه
بتقديم ولده إسحاق، وكان رؤوماً لها قد تولت تربيته عند هلاك أمه وتبنته، فقال
لها، وهو صغير السن لم يبلغ الحلم، ولكن حتى أجمع الناس في المسجد خاصة وعامة،
وأخبرهم فإن صرفوا الخيار إلى فعلت ما أشرت به، فجمع الناس وعرض عليهم الأمر،
فقالوا كلهم في صوت واحد: تاشفين، فلم توسعه السياسة مخالفتهم، فعقد له الولاية بعده
ونقش اسمه في الدنانير والدراهم مع اسمه، وقلده النظر في الأمور السلطانية، فاستقر
بذلك. وكتب إلى العدوة والأندلس وبلاد المغرب ببيعته، فوصلت البيعات من كل جهة. ثم
رمى به جيوش الموحدين الخارجين عليه، فنبا جده ومرضت أيامه، وكان الأمر عليه لا له
بخلاف ما صنع الله له بالأندلس.
قال أبو مروان الوراق: وكان
أمير المسلمين، علي بن يوسف بن تاشفين قد أمل في ابنه تاشفين ما لم تكن الأقدار
تساعده به، فتشاءم به وعزم على خلعه وصرف عهده، إلى إسحاق ولده الأصغر، ووجه إلى
عامله على إشبيلية أغمار، أن يصل إليه ليجعله شيخ ابنه، إلى أن وافاه خبرٌ أمضه
وأقلقه ولم يمهله، فأزعج تاشفين إلى عدوه على غير أهبة بتفويضه إياه، وصرف المدد
في إثره، وتوفي لسبع خلون من رجب سنة سبع وثلاثين لفعله ذلك.
ملكه ووصف حاله: فأفضى إليه ملك أبيه، بتفويضه إياه في
حياته،لسبع خلون من رجب سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وكان بطلاً شجاعاً حسن الركبة
والهيئة. سالكاً ناموس الشريعة، مائلاً إلى طريقة المستقيمين، وكتب المريدين، قبل
إنه لم يشرب قط مسكراً ولا استمع إلى قينة، ولا اشتغل بلذة مما يلهو به الملوك.
الثناء عليه:
قال ابن الصيرفي: وكان بطلاً شجاعاً، أحبه الناس، خواصهم
وعوامهم، وحسنت سياسته فيهم، وسد الثغور، وأذكى على العدو العيون، وآثر الجند، ولم
يكن منه إلا الجد، ولم تنل عنده الحظوة إلا بالعناء والنجدة. وبذلك حمل على الخيل،
وقلد الأسلحة، وأوسع الأرزاق، واستكثر من الرماة، وأركبهم، وأقام همتهم للاعتناء
بالثغور ومباشرة الحرب، ففتح الحصون وهزم الجيوش وهابه العدو، ولم ينهض إلا ظاهراً
ولا صدر إلا ظافراً، وملك الملك ومهد بالحزم وتملك نفوس الرعية بالعدل. وقلوب
الجند بالنصفة. ثم قال: ولولا الاختصار الذي اشترطناه لأوردنا من سنى خلاله ما
يضيق عنه الرحب، ولا يسعه الكتب.
دينه: قال المؤرخ، عكف على زيارة قبر أبي وهب الزاهد
بقرطبة، وصاحب أهل الإرادة، وكان وطيء الأكناف، سهل الحجاب. يجالس الأعيان
ويذاكرهم، قال ابن الصيرفي، ولما قدم غرناطة أقبل على صيام النهار، وقيام الليل،
وتلاوة القرآن، وإخفاء الصدقة، وإنشاء العدل، وإيثار الحق.
دعابتهقالوا مر يوماً بمرج القرون، من أحواز قلعة يحصب
فقال لزمال من عبيده كان يمازحه هذا مرجك، فقال الزمال ما هو إلا مرجك ومرج أبيك،
وأما أنا فمن أنا؟ فضحك وأعرض عنه.
دخوله غرناطة: قالوا: وفي عام ثلاثة وعشرين وخمسمائة،
ولي الأمير أبو محمد تاشفين بن أمير المسلمين علي بن امير المسلمين يوسف، ووافاها
في السابع عشر لذي حجة، فقوي الحصون وسد الثغور وأذكى العيون، وعمد إلى رحبة
القصر، فأقام بها السقائف والبيوت، واتخذها لخزن السلاح ومقاعد الرجال، وضرب
السهام، وأنشأ السقي، وعمل التراس، ونسج الدروع، وصقل البيضات والسيوف، وارتبط
الخيل، وأقام المساجد في الثغور، وبنى لنفسه مسجداً بالقصر، وواصل الجلوس للنظر في
الظلامات، وقراءة الرقاع، ورد الجواب، وكتب التوقيعات، وأكرم الفقهاء والطلبة،
وكان له يوم في كل جمعة، يتفرغ فيه للمناظرة.
وزراؤه: قال أبو بكر، وقرن الله به ممن ورد معه، الزبير
بن عمر اللمتوني، ندرة الزمان كرماً وبسالة، وحزماً وأصالة. فكان كما جاء في
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من ولي شيئاً من أمور المسلمين
فأراد الله به خيراً، جعل الله له بطانة خيرٍ، وجعل له وزيراً صالحاً، إن نسي
شيئاً ذكره، وإن ذكره أعانه "
.
عمالهالوزير أبو محمد الحسين بن زيد بن أيوب بن حامد بن
منحل بن يزيد
كتابهالرئيس العالم أبو عبد الله بن أبي الخصال، والكاتب
المؤرخ أبو بكر الصيرفي وغيرهم.
من أخبار جهاده
خرج الأمير تاشفين في رمضان
عام أربعة وعشرين وخمسمائة بجيش غرناطة ومطوعتها، واتصل به جيش قرطبة إلى حصن
السكة من عمل طليطلة، وقد اتخذه العدو ركاباً لإضراره بالمسلمين، وسحنه وجم به
شوكة حادة بقومس مشهور، فأحدق به، ونشر الحرب عليه، فافتتحه عنوة وقتل من كان به،
وأحيا قائده فرند ومن معه من الفرسان، وصدر إلى غرناطة، فبرز له الناس بروزاً لم
يعهد مثله. وفي شهر صفر من عام خمسة وعشرين أوقع بالعدو المضيق على أوليته. وفي
ربيع الأول من عام ستة وعشرين، تعرف خروج عدو طليطلة إلى قرطبة، فبادر الأمير
تاشفين إلى قرطبة، ثم نهد إلى العدو في خف، وترك السيقة والثقل بأرجونة. وقد اكتسح
العدو بشنت إشطيبن والوادي الأحمر. وأسرى الليل، وواصل الركض، وتلاحق بالعدو بقرية
براشة. فتراءى الجمعان صبحاً، وافتضح الجيش، ونشرت الرماح والرايات، وهدرت الطبول،
وضاقت المسافة، وانتبذ العدو عن الغنيمة، والتف الجمع، فتقصرت الرماح، ووقعت
المسابقة، ودارت الحرب على العدو، وأخذ السيف مأخذه، فأتى القتل على آخرهم، وصدر
إلى غرناطة ظافراً. وفي آخر هذا العام خرج العدو للنمط وقد احتفل في جيشه إلى بلاد
الإسلام، فصبح إشبيلية يوم النصف من رجب، وبرز إليه الأمير أبو حفص عمر بن علي بن
الحاج، فكانت به الدبرة في نفر من المسلمين استشهد جميعهم، ونزل العدو على فرسخين
من المدينة فجللها نهباً وغارةً، فقتل عظيماً، وسبى عظيما، وبلغ الخير الأمير تاشفين،
فطوى المراحل، ودخل إشبيلية، وقد أسرها،واستؤصلت باديتها، وكثر بها التأديب
والتنكيل فأخذ أعقاب العدو، وقد قصد ناحية بطليوس وباجة ويابرة في ألف عديدة من
أنجاد الرجال، ومشهور الأبطال، فراش جولاً عهداً بالروع، فظفر بما لا يحصيه أحد،
ولا يقع عليه عدد، وانثنى على رسل انتقل السيقة، وثقته ببعد الصارخ، وتجشمت
بالأمير تاشفين الأدلاء كل ذروة وتنية، وأفضى به الإعداد إلى فلاة بقرب الزلاقة،
وهو المهيع الذي يضطر العدو إليه، ولم يكن إلا كلا ولا، حتى أقبلت الطلائع منذرةً
بإقبال العدو، والغنيمة في يده قد ملأت الأرض، فلما تراءى الجمعان، واضطربت
المحلات، ورتبت المراكب، فأخذت مصافها، ولزمت الرجال مراكبها، فكان القلب مع
الأمير ووجوه المرابطين وأصحاب الطاعات، وعليه البنود الباسقات، مكتبة بالآيات،
وفي المجتبين كبار الدولة من أبطال الأندلس، عليهم حمر الرايات بالصور الهائلة،
وفي الجناحين أهل الثغر والأوشاب من أهل الجلادة، عليهم الرايات المرقعات،
بالعذبات المجزعات. وفي المقدمة مشاهير زناتة ولفيف الحشم بالرايات المصبغات المنبقات.
والتقى الجمعان، ونزل الصبر، وحميت النفوس، واشتد الضرب والضراب وكثرت الحملات،
فهزم الله الكافرين، وأعطوا رقابهم مدبرين، فوقع القتل، واستلحم العدو السيف،
واستأصله الهلاك والأسار، وكان فتحاً جليلا لا كفاء له، وصدر الأمير تاشفين ظافراً
إلى بلده في جمادى من هذا العام. ولو ذهبنا لاستقصاء حركات الأمير تاشفين وظهوره
لاستدعى ذلك طولا كثيراً.
بعض ما مدح به: فمن ذلك:
أما وبيض الهند عنك خصوم ... فالروم تبذل ما ظباك تروم
تمضي سيوفك في العدا ويردها ... عن نفسه حيث الكلام وخيم
وهذه القصائد قد اشتملت على أغراضها الحماسية. والملك
سوقٌ يجلب إليها ما ينفق عندها.
وفاته
قد تقدم انصرافه عن الأندلس
سنة إحدى وثلاثين وخمسماية، وقيل سنة اثنين، واستقراره بمراكش مرؤوساً لأخيه سير،
إلى أن أفضى إليه الأمر بعد أبيه قال، واستقبل تاشفين مدافعة جيش أمير الموحدين،
أبي محمد عبد المؤمن بن علي خليفة مهديهم، ومقاومة أمر قضى الله ظهوره، والدفاع عن
ملك بلغ مداه، وتمت أيامه. كتب الله عليه، فالتأث سعده، وفل جده، ولم تقم له
قائمةٌ إلى أن هزم، وتبدد عسكره، ولجأ إلى وهران، فأحاط به الجيش، وأخذ الحصار،
قالوا فكان من تدبيره أن يلحق ببعض السواحل، وقد تقدم به وصول ابن ميمون قائد أسطوله،
ليرفعه إلى الأندلس، فخرج ليلا في نفر من خاصته فرقهم الليل، وأضلهم الروع،
وبددتهم الأوعار، فمنهم من قتل، ومنهم من لحق بالقطائع البحرية، وتردى بتاشفين
فرسه من بعض الحافات، ووجد ميتاً في الغد، وذلك ليلة سبع وعشرين لرمضان سنة تسع
وثلاثين وخمسمائة، وصلبه الموحدون، واستولوا على الأمر من بعده، والبقاء لله تعالى.
ثابت بن محمد الجرجاني
ثم الإستراباذي
يكنى أبا الفتوح
حالهقال ابن بسام، كان الغالب على أدواته علم اللسان،
وحفظ الغريب، والشعر الجاهلي والإسلامي، إلى المشاركة في أنواع التعاليم، والتصرف
في حمل السلاح، والحذق بأنواع الجندية، والنفاذ في أنواع الفروسية، فكان الكامل في
خلال جمة. قال أبومروان: ولم يدخل الأندلس أكمل من أبي الفتوح في علمه وأدبه قال ابن
زيدون لقيشة بغرناطة، فأخذت عنه أخبار المشارقة، وحكايات كثيرة، وكان غزير الأدب،
قوي الحفظ في اللغة، نازعاً إلى علم الأوائل من المنطق والنجوم والحكمة، له بذلك
قوة ظاهرة.
طروؤه على الأندلسقال صاحب الذحيرة، طرأ على الحاجب منذ
صدر الفتنة للذائع من كرمه فأكرمه ورفع شأنه، وأصحبه ابنه، المرشح لمكانه، فلم يزل
له بهما المكان المكين، إلى أن تغير عليه يحيى لتغير الزمان، وتقلب الليالي
والأيام بالإنسان، ولحق بغرناطة بعسكر البرابرة، فحلت به من أميرهم باديس الفاقرة.
من روي عنه: قال أبوالوليد، قرأت عليه بالحضرة، الحماسة
في اختيار أشعار العرب، يحملها عن أحمد بن عبد السلام بن الحسين البصري، ولقيه
ببغداد سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، عن أبي رياش أحمد بن أبي هشام بن شبل العبسي
بالبصرة سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وله في الفضائل أخبار كثيرة.
محنته ووفاتهلحقه عند باديس مع عمه يدير بن حباسه تهمةٌ
في التدبير عليه، والتسور على سلطانه، دعتهما إلى الفرار عن غرناطة، واللحاق
بإشبيلية، قال أبو يحيى الوراق، واشتد شوق أبي الفتوح إلى أهله عند هربه مع يدير
إلى إشبيلية لما بلغه أن باديس قبض على زوجته وبنيه وحبسهم بالمنكب عند العبد قداح
صاحب عذابه، وكان لها من نفسه موقعٌ عظيمٌ، وكانت أندلسية جميلة جداً لها طفلان
ذكرٌ وأنثى، لم يطق عنهما صبراً وعمل على الرجوع إلى باديس طمعاً في أن يصفح عنه،
كما عمل مع عمه أبي ريش، فاستأمن إلى باديس يوم نزوله على باب إستجه إثر انهزام
عسكر ابن عباد، وفارق صاحبه يدير، ورمي هو بنفسه إلى باديس من غير توثق بأمان أو
مراسلة، فلما أدخل عليه وسلم، قال له ابتدي، بأي وجهٍ جئتني يا نمام ما أجرأك على خلقك،
وأشد اغترارك بسحرك، فرقت بين بني ماكسن، ثم جئت تخدعني كأنك لم تصنع شيئاً،
فلاطفه، وقال اتق الله يا سيدي، وارع ذمامي، وارحم غربتي وسوء مقامي، ولا تلزمني
ذنب ابن عمك، فما لي سبب فيه، وما حملني على الفرار معه إلا الخوف على نفسي لسابق
خلطته، ولقد لفظتني البلاد إليك مقراً بما لم أجنه رغبة في صفحك، فافعل أفعال الملوك
الذين يجلون عن الحقد على مثلى من الصعاليك، قال بل أفعل ما تستحقه إن شاء الله،
أن تنطلق إلى غرناطة، فدم على حالك، والق أهلك إلى أن أقبل، فأصلح من شأنك. فاطمأن
إلى قوله، وخرج إلى غرناطة وقد وكل به فارسان، وقد كتب إلى قداح بحبسه، فلما شارف
إلى غرناطة قبض عليه، وحلق رأسه، وأركب على بعير، وجعل خلفه أسود فظٌ ضخم يوالي صفعه،
فأدخل البلد مشهراً، ثم أودع حبساً ضيقاً، ومعه رجل من أصحاب يدير أسر في الوقعة
من صنهاجة، فأقاما في الحبس معاً إلى أن قفل باديس.
مقتله
قال أبو مروان في الكتاب
المسمى بالمتين، واستراح باديس أياماً في غرناطة يهيم بذكر الجرجاني، ويعض أنامله،
فيعارضه فيه أخوه بلكين، ويكذب الظنون وسعى في تخليصه، فارتبك باديس في أمره
أياماً، ثم غافض أخاه بلكين فقتله وقتاً أمن فيه أمر معارضته، لاشتغاله بشرابٍ
وآلة، وكانت من عادته، فأحضر باديس الجرجاني إلى مجلسه، وأقبل يشتمه ويسبه ويبكته،
ويطلق الشماتة ويقول، لم تغن عنك نجومك يا كذاب، ألم يعد أميرك الجاهل، يعين يدير،
أنه سوف يظفر بي ويملك بلدي ثلاثين سنة، لم لم تدقق النظر لنفسك وتحذر ورطتك، قد
أباح الله لي دمك. فأيقن أبو الفتوح بالموت، وأطرق ينظر إلى الأرض، لا يكلمه ولا
ينظر إليه، فزاد ذلك في غيظ باديس، فوثب من مجلسه والسيف في يده، فخبط به الجرجاني
حتى جد له وأمر بحز رأسة، قال، وقدم الصنهاجي الذي كان محبوساً معه إلى السيف،
فاشتد جزعه، وجعل يعتذر من خطيئته، ويلح في ضراعته، فقال له باديس أما تستحي يا
ابن الفاعلة، يصبرالمعلم الضعيف القلب على الموت مثل هذا الصبر، ويملك نفسه عن
كلامه لي واستعطافي، وأنت تجزع مثل هذا الجزع، وطال ما أعددت نفسك في أشداء
الرجال، لا أقال الله مقيلك، فضرب عنقه، وانقضى المجلس.
ومن تمام الحكاية مما جلبه ابن حيان. قال، وكلم الصنهاجيون
باديس في جثة صنهاجهم المقتول مع أبي الفتوح، فأمرني بإسلامها إليهم، فخرجوا بها
من فورهم إلى المقبرة على نعش، فأصابوا قبرا قد احتفر لميت من أهل البلد، فصبوا
صاحبهم الصنهاجي فيهن ووراوه من غير غسل ولا كفن ولا صلاة، فعجب الناس من تسحيهم
في الاغتصاب حتى الموتى في قبورهم.
مولدهسنة خمسين وثلاثمائة.
وفاتهكما ذكر ليلة السبت لاثنتين بقيتا من محرم سنة إحدى
وثلاثين وأربعمائة، قال برهون من خدام باديس: أمرني بمواراة أبي الفتوح إلى جانب
قبر أحمد بن عباس وزير زهير العامري، فقبراهما في تلك البقعة، متجاوران، وقال اجعل
قبر عدو إلى جانب عدو إلى يوم القصاص، فيا لهما قبران أجما أدبا لا كفاء له، والبقاء
لله سبحانه.
جعفر بن أحمد بن علي الخزاعي
من أهل غرناطة، ويعسوب
الثاغية والراغية من أهل ربض البيازين يكنى أبا أحمد الشهير ذكره بشرق الأندلس،
المعروف بكرامة الناس، المقصود الحفرة، المحترم التربة حتى من العدو، والرائق بغير
هذه الملة. خرج قومه من وطنهم عند تغلب العدو على الشرق، فنزلوا ربض البيازين جوفي
المدينة، وارتاشوا، وتلثموا، وبنوا المسجد العتيق، وأقاموا رسم الإرادة، يرون أنهم
تمسكوا من طريق الشيخ أبي أحمد بآثاره، فلا يغبون بيته، ولا يقطعون اجتماعاً، على
حالهم المعروفة من تلاوة حسنة، وإيثار ركعات، ثم ذكر ثم ترجيع أبياتٍ في طريق
التصوف، مما ينسب للحسين بن منصور الحلاج وأمثاله، يعرفونها منهم مشيخةٌ، قوالون
هم فحول الأجمة وضرائك تلك القطيعة، يهيجون بلابلهم، فلا ينشبون أن يحمي وطيسهم، ويخلط
مريعهم بالهمل، فيرقصون رقصا غير مساوق للإيقاع الموزون، دون العجال الغالبة منهم،
بإفراد كلمات من بعض المقول، ويكر بعضهم على بعض، وقد خلعوا خشن ثيابهم، ومرقوعات
قباطيهم ودرانيكهم، فيدوم حالهم حتى يتصببوا عرقاً، وقوالهم يحركون فتورهم،
ويزمرون روحهم، يخرجون بهم من قول إلى آخر، ويصلون الشيء بمثله، فربما أخذت نوبة
رقصهم بطرفي الليل التمام، ولا تزال المشيعة لهم يدعونهم، ويحاجونهم إلى منازلهم،
وربما استدعاهم السلطان إلى قصره محمضاً في لطايف نعيمه باخشيشانهم، مبدياً التبرك
بألويتهم، ولهم في الشيخ أبي أحمد والد نحلتهم، وشحنة قلوبهم، عصبية له وتقليد
بإيثاره، أنفجت لعقده أيمانهم، وشرطٌ في صحة دينهم، وارتكبوا في النفور عن سماع
المزمار القصبي المسمى بالشبابة الذي أرخص في حضور الولائم، مع نفخٍ برعه العدد
الكثير من الجلة الصلحاء القدوة مرتكباً، حتى ألحقوه بالكبائر المربقة، وتعدوا اجتنابه
جبلة وكراهةً طباعية، فتزوي عند ذكره الوجوه، وتقتحم عند الاتهام به الدور، وتسقط
فيما بينهم بفلتة سماعه أخوة الطريق، وهم أهل سذاجة وسلامة، أو لو اقتصاد في ملبس
وطعمة واقتيات بأدنى بلغة، ولهم في التعصب نزعة خارجية، وأعظمهم ما بين مكتسب
متسبب، وبين معالج مدرة، ومريع حياكة، وبين أظهر من الذعرة والصعاليك كثير، والطرق
إلى الله عدد أنفاس الخلايق جعلنا الله ممن قبل سعيه، وارتضى ما عنده، ويسره
لليسرى.
حاله: قام هذا الرجل مقام الشيخ أبي تمام قريبه على هيئة
مهلكه، فسد مسده، على حال فتور وغرارة حتى لان متن الخطة، وخف عليه بالمران ثقل
الوظيفة، فأم وخطب، وقاد الجماعة من أهل الإرادة. وقضى في الأمور الشرعية بالربض،
تحت ضبن قاضي الجماعة وهو الآن بعده على حاله، حسن السجية، دمث الأخلاق، لين
العريكة، سهل الجانب، مقترن الصدق والعفة، ظاهر الجدة، محمود الطريقة، تطأه أقدام الكلف،
وتطرح به المطارح القاصية، حوا على الشفاعات، مستور الكفاية في لفق الضعف، متوالي
شعلة الإدراك في حجر الغفلة، وجهٌ من وجوه الحضرة في الجمهورية، مرعى الجانب، مخفف
الوظايف، مقصوداً من منتامي أهل طريقه بالهدايا، مستدعي إلى من بالجهات منهم في
كثير من الفصول، ظاهر الجدوى في نفير الجهاد، رحمه الله، ونفع بأهل الخير.
مولدهعام تسعة وسبعمائة.
وفاتهيوم الإثنين التاسع والعشرين لرمضان خمسة وستين
وسبعمائة.
جعفر بن سيدبونة الخزاعيجعفر بن عبد الله بن محمد بن
سيدبونة الخزاعي من أهل شرق الأندلس من نظر دانية، يكنى أبا أحمد الولي الشهير.
حالهكان أحد الأعلام المنقطعي القرين في طريق كتاب الله،
وأولى الهداية الحقة، فذ، شهير، شائع الخلة، كثير الأتباع، بعيد الصيت، توجب حقه
حتى الأمم الداينة بغير دين الإسلام، عند التغلب على قرية مدفنه بما يقضي منه
بالعجب. قال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير عند ذكره في الصلة: أحد أعلام المشاهير
فضلاً وصلاحاً، قرأ ببلنسية، وكان يحفظ نصف المدونة وأقرأها، ويؤثر الحديث والتفسير
والفقه، على غير ذلك من العلوم.
مشيخته
أخذ القراءات السبع عن
المقرىء أبي الحسن بن هذيل، وأبي الحسن بن النعمة، ورحل إلى المشرق، فلقي في رحلته
جلة، أشهرهم وأكبرهم في باب الزهد وأنواع سنى الأحوال، ورفيع المقامات، الشيخ
الجليل، الولي لله تعالى، العارف، أبو مدين شعيب بن الحسين المقيم ببجاية، صحبه
وانتفع به، ورجع من عنده بعجايب دينية، ورفيع أحوال إيمانية، وغلبت عليه العبادة،
فشهر بها حتى رحل إليه الناس للتبرك بدعائه، والتيمن برؤيته ولقائه، فظهرت بركته
على القليل والكثير منهم، وارتورا زلالا من ذلك العذب النمير، وحظه من العلم مع
عمله الجليل موفور، وعلمه نورٌ على نور. لقيت قريبه الشيخ أبا تمام غالب بن حسين بن
سيدبونة حين ورد غرناطة، فكان يحدث عنه بعجائب.
دخوله غرناطةوذكر المعتنون بأخباره بالحضرة إلى طريقه،
أنه دخل الحضرة وصلى في رابطة الربط من باب... وأقام بها أياماً، فلذلك المسجد
المزية عندهم إلى اليوم. وانتقل الكثير من أهله وأذياله عند تغلب العدو على الشرق
على بلدهم، إلى هذه الحضرة، فسكنوا منها ربض البيازين، على دين وانقباض وصلاح،
فيحجون بكنوز من أسراره، ومبشراته مضنونٌ بها على الناس، وبالحضرة اليوم منهم بقية
تقدم الإلماع بذكرهم.
وفاتهتوفي رحمه الله بالموضع المعروف بزناتة في شوال سنة
أربع وعشرين وستمائة، وقد نيف على الثمانين.
الحسين بن أبي الأحوصالحسين بن عبد العزيز بن محمد بن
أبي الأحوص القرشي الفهري نشأ بغرناطة، يكنى أبا علي، ويعرف بابن الناظر.
حالهكان متفنناً في جملة معارف، أخذ من كل علم سنى بحظ
وافر، حافظاً للحديث والتفسير، ذاكراً للأدب واللغة والتواريخ، شديد العناية
بالعلم، مكباً على استفادته وإفادته، حسن اللقاء لطلبة العلم، حريصاً على نفعهم،
جميل المشاركة لهم. وقال الأستاذ: كان من بقايا أهل الضبط والإتقان لما رواه، وآخر
مقرئي القرآن، ممن يعتبر في الأسانيد ومعرفة الطرق والروايات، متقدماً في ذلك على
أهل وقته، وهو أوفر من كان بالأندلس في ذلك، أقرأ القرآن والعربية بغرناطة مدة، ثم
انتقل إلى مالقة فأقرأ بها يسيراً، ثم انقبض عن الإقراء، وبقي خطيباً بقصبة مالقة
نحواً من خمسة وعشرين سنة، ثم كر منتقلا إلى غرناطة، فولى قضاء ألمرية، ثم قضاء يسطة،
ثم قضاء مالقة.
وصمته، قال الأستاذ: إلا أنه كان فيه خلق أخلت به،
وحملته على إعداء ما ليس من شأنه، عفا الله عنه، فكان ذلك مما يزهد فيه.
مشيختهروي عن الأستاذ المقرىء أبي محمد عبد الله بن حسين
الكواب، أخذ عنه قراءة السبع وغير ذلك، وعن أبي علي وأبي الحسن بن سهل بن مالك
الأزدي، وأبي عبد الله محمد بن يحيى المعروف بالحلبى، وجماعة غير هؤلاء، ورحل إلى
إشبيلية فروى بها عن الشيخ الأستاذ أبي علي أكثر كتاب سيبويه تفقهاً، وغير ذلك.
وأخذ عن جماعة كثيرة من أهلها، وقدم عليها إذ ذاك القاضي
أبو القاسم بن بقي فلقيه بها وأخذ عنه، ورحل إلى بلنسية، فأخذ بها عن الحاج أبي
الحسن ابن خيرة، وأبي الربيع بن سالم، وسمع عليه جملةٌ صالحة، كأبي عامر بن يزيد
بن أبي العطاء بن يزيد وغيرهم، وبجزيرة شقر عن أبي بكر بن وضاح، وبمرسية عن جماعة
من أهلها، وبأوريولة عن أبي الحسن بن بقي، وبمالقة عن آخرين، وتحصل له جماعة نيفوا
على الستين.
تصانيفهمنها المسلسلات، والأربعون حديثاً، والترشيد في
صناعة التجويد، وبرنامج رواياته وهو نبيل.
شعره، كان يقرض شعراً لا يرضى لمثله، ممن برز تبريزه في
المعارف.
مولدهيوم الخميس لإثني عشر ليلة بقيت من شوال سنة خمسين
وستمائة.
وفاتهتوفي بغرناطة لأربع عشر ليلة خلت من جمادى الآخرة
سنة تسع و تسعين وستمائة.
الحسن بن النباهي الجذاميالحسن بن محمد بن الحسن النباهي
الجذامي من أهل مالقة، يكنى أبا علي.
أوليتهقال القاضي المؤرخ أبو عبد الله بن أبي عسكر فيه،
من حسباء مالقة وأعيانها وقضاتها، وهو جد بني الحسن المالقيين، وبيته بيت قضاء
وعلم وجلالة، لم يزالوا يرثون ذلك كابراً عن كابر، استقضى جده المنصور بن أبي
عامر، وكانت له ولأصحابه حكاية مع المنصور.
قال القاضي ابن بياض، أخبرني
أبي، قال: اجتمعنا يوماً في منتزه لنا بجهة الناعورة بقرطبة مع المنصور بن أبي عامر
في حداثة سنه، وأوان طلبه، وهو مرتج مؤمل، ومعنا ابن عمه عمرو بن عبد الله بن
عسكلاجة، والكاتب ابن المرعزي، والفقيه أبوالحسن المالقي، وكانت سفرة فيها طعام،
فقال ابن أبي عامر من ذلك الكلام الذي كان يتكلم به، لا بد أن نملك الأندلس، ونحن
نضحك منه ومن قوله. ثم قال: يتمنى كل واحد منكم على ما شاء أوليه، فقال عمرو:
أتمنى أن توليني المدينة، نضرب ظهور الجنات، وقال ابن المرعزي: وأنا أشتهي الأسفح،
القضاء في أحكام السوق، وقال أبوالحسن: وأنا أحب هذه أن توليني قضاء مالقة بلدي.
قال موسى بن غدرون، قال لي تمن أنت، فشققت لحيته بيدي، واضطربت به وقلت قولا
قبيحاً من قول السفهاء. فلما ملك ابن أبي عامر الأندلس، ولي ابن عمه المدينة، وولي
ابن المرعزي أحكام السوق، وولي أبا الحسن المالقي قضاء ريه، وبلغ كل واحد ما تمنى،
وأخذ مني مالا عظيما أفقرني لقبح قولي: فبيت بني الحسن الشهير، وسيأتي من أعلامه
ما فيه كفاية.
حالهقال ابن الزبير، كان طالباً نبيلاً من أهل الدين
والفضل والنهي والنباهة.
نباهته، قال ابن الزبير في كتاب نزهة البصائر والأبصار،
استقضى بغرناطة.
وفاتهتوفي سنة اثنين وسبعين وأربعمائة، ذكره ابن بشكوال
في الصلة، وعرف بولايته قضاء غرناطة، وذكره ابن عسكر، وتوهم فيه الملاحي، فقال، هو
من أهل إلبيرة.
القلنارحسن بن محمد بن حسن القيسي من أهل مالقة، يكنى
أبا علي، ويعرف بالقلنار
حالهكان رحمه الله بقية شيوخ الأطباء ببلده، حافظاً
للمسائل الطبية، ذاكراً للدواء، فسيح التجربة، طويل المزاولة، متصرفاً في الأمور
التي ترجع إلى صناعة اليدين صدلة وإخراعةً، محارباً، مقدوراً عليه في أخرياته،
ساذجاً، مخشوشناً، كثير الصحة والسلامة، محفوظ العقيدة، قليل المصانعة، برياً من التشمت،
يعالج معيشته بيده في صبابة فلاحة. أخذ صناعة الطب عن أبي الحسن الأركثي، ومعرفة
أعيان النبات عن المصحفي وسرح معه، وارتاد منابت العشب في صحبته، فكان آخر
السحارين بالأندلس، وحاول عمل الترياق الفارق بالديار السلطانية عام اثنين وخمسين
وسبعمائة مبرزاً في اختيار أجزائه، وإحكام تركيبه، وإقدام على اختبار مرهوب حياته،
قتلاً وصنجاً وتقريصاً، بما يعجب من إدلاله فيه، وفراهته عليه.
حسن بن محمد بن باصةيكنى أبا علي، ويعرف بالصعلعل، رئيس
المؤقتين بالمسجد الأعظم من غرناطة، أصله من شرق الأندلس.
حالهكان فقيهاً إماماً في علم الحساب والهيئة، أخذ عنه
الجلة والنبهاء قائماً على الأطلال والرخائم وآلالات الشعاعية، ماهراً في التعديل،
مع التزام السنة، والوقوف عندما حد العلماء في ذلك، مداوم النظر، ذا مستنبطات
ومستدركات وتواليف، نسيج وحده ورحقة وقته.
وفاتهتوفي بغرناطة عام ستة عشر وسبعمائة.
الحسن بن محمد بن علي الأنصاريمن أهل يكنى أبا علي ويعرف
بابن كسرى
حالهكان متقدماً في حفظ الأدب واللغة، مبرزاً في علم
النحو، شاعراً مجيداً، ممتع المؤانسة، كثير المواساة، حسن الخلق، كريم النفس،
مثراً في نظم الشعر في غير فن، مدح الملوك والرؤساء، مؤثراً للخمول على الظهور وفي
تخامله يقول شعراً ثبت في موضعه.
مشيختهروي عن أبي بكر بن عبد الله بن ميمون الكندي، وأبي
عبد الله الكندي، وابي الحكم بن هردوس، وأبي عبد الله بن غالب الرصافي.
ممن روي عنه، روى عنه أبو الطاهر أحمد بن علي الهواري
السبتي، وأبو عبد الله إبراهيم بن سالم بن صالح بن سالم.
نباهته وإدراكهمن كتاب نزهة البصائر والأبصار، قال
القاضي أبو عبد الله بن عسكر، نقلت من خط صاحبنا الفقيه القاضي رحمه الله ما معناه:
قال، حدثني الفقيه الأديب أبو
علي، قال كنت بإشبيلية. وقد قصدتها لبعض الملوك، فبينما أنا أسير في بعض طرقها،
لقيت الشيخ أبا العباس، فسلمت عليه، ووقفت معه، وكنت قد ذكر لي أن بها رجلا من
الصالحين، زاهداً، فاضلاً ينتقد من الشعر في الزهد والرقائق، ببدائع تعجب وكان
بالمغرب قد قصد الهربي والنادر، فسألني أبوالعباس عن مصيري، فأعلمته بقصدي، فرغب
أن يصحبني إليه، حتى أتيناه، فرأيناه رجلاً عاقلاً، قاعداً في موضع قذر، فسلمنا
عليه، فرد علينا، وسألناه عن قعوده في ذلك الموضع، فقال أتذكر الدنيا وسيرتها،
فزدنا به غبطة، ثم استنشدناه في ذلك الغرض من كلامه، ففكر ساعة ثم أنشدنا كلاماً قبيحاً،
تضمن من القبيح ومن الإقذاع والفواحش ما لا يحل سماعه، فقمنا نلعنه، وخجلت من أبي العبس،
واعتذرت له. ثم اتفق أن اجتمعنا في مجلس الأمير الذي كنت قد قصدته، فقال أبو
العباس، إن أبا علي قد حفظ لبعض الحاضرين شعراً في الزهد، من أعذب الكلام وأحسنه،
فسألني الأمير وطلب مني إنشاده، فخجلت ثم ثاب إلى عقلي، فنظمت بيتين فأنشدتهما
إياه وهما:
أشهد ألا إله إلا الله ... محمد المصطفى رسول الله
لا حول للخلق في أمورهم ... إنما الحول كله لله
قال، فأعجب الأمير ذلك واستحسنه.
ومن مقاماته بين يدي الملوك وبعض حاله، نقلت من خط
صاحبنا الفقيه القاضي أبي الحسن بن أبي الحسن، قال، المروي منسوب إلى قرية بقرب
مالقة، وهو الذي قال فيه الشيخ أبو الحجاج بن الشيخ رضي الله عنه:
إذا سمعت من أسرى ... ومن إلى المسجد أسرى
فقل ولا تتوقف ... أبا علي بن كسرى
قال وهو قريب الأستاذ الأديب أبي علي الإستجي ومعلمه،
وأحد طلبة الأستاذ أبي القاسم السهيلي، وممن نبع صغيراً، وارتحل إلى غرناطة ومرسية،
وهو الذي أنشد في طفولته السيد أبا إسحاق بإشبيلية:
قسماً بحمص وإنه لعظيم ... وهي المقام وأنت إبراهيم
وكان بالحضرة أبو القاسم السهيلي، فقام عند إتمامه
القصيدة، وقال لمثل هذا أحسيك الحسا، وأواصل في تعليمك الإصباح والإمسا، وكان
يوماً مشهوداً.
وأنشد الأمير أبا يعقوب حين حلها:
أمعشر أهل الأرض في الطول والعرض ... بهذا استنادي في
القيامة والعرض
لقد قال فيك الله ما أنت أهله ... فيقضي بحكم الله فيك
بلا نقض
وإياك يعني ذو الجلال بقوله ... كذلك مكنا ليوسف في
الأرض
وذكره ابن الزبير، وابن عبد الملك، وابن عسكر وغيرهم.
ومن شعره في معنى الانقطاع والتسليم إلى الله تعالى، وهي
لزومية، ولنختتم بها، ختم الله لنا بالحسنى:
إلهي أنت الله ركني وملجيء ... وما لي إلى خلق سواك ركون
رأيت بني الأيام عقبي سكونهم ... حراكٌ وفي عقبي الحراك
سكون
رضي بالذي قدرت تسليم عالمٍ ... بأن الذي لا بد منه يكون
وفاتهتوفي بمدينة مالقة في حدود ثلاث وستمائة.
الحسين بن عتيق
بن الحسين بن رشيق التغلبي
يكنى أبا علي، مرسي الأصل
سبتي الاستيطان، منتمٍ إلى صاحب الثورة على المعتمد.
حالهكان نسيج وحده، وفريد دهره، إتقاناً ومعرفة، ومشاركة
في كثير من الفنون اللسانية والتعالمية، متبحراً في التاريخ، رياناً من الأدب،
شاعراً مفلقاً، عجيب الإستنباط، قادراً على الإختراع والأوضاع، جهم المحيا، موحش
الشكل، يضم برداه طوياً لا كفاء له، تحرف بالعدالة، وبرز بمدينة سبتة، وكتب عن أميرها،
وجرت بينه وبين الأديب أبي الحكم مالك بن المرحل من الملاحات والمهاترات أشد ما
يجري بين متناقضين، آلت به إلى الحكاية الشهيرة، وذلك أنه نظم قصيدة نصها:
لكلاب سبتة في النباح مدارك ... وأشدها دركاً لذلك مالك
شيخ تفاني في البطالة عمره ... وأحال فكيه الكلام الآفك
كلبٌ له في كل عرض عضة ... وبكل محصنةٍ لسانٌ آفك
متهم بذوي الخنا متزمعٌ ... متهازلٌ بذوي التقى متضاحك
أحلى شمائله السباب المفتري ... وأعف سيرته الهجاء
الماعك
وألذ شيء عنده في محفلٍ ...
لمزٌ لأستار المحافل هاتك
يغشى مخاطره اللثيم تفكها ... ويعاف رؤيته الحليم الناسك
لو أن شخصاً يستحيل كلامه ... خرءا للاك الخرء منه لائك
فكأنه التمساح يقذف جوفه ... من فيه ما فيه ولا يتماسك
أنفاسه وفساؤه من عنصر ... وسعاله وضراطه متشارك
ما ضرفا من معد الله ... لو أسلمته نواجذ وضواحك
في شعره من جاهلية طبعه ... أثقال أرضٍ لم ينلها فانك
صدر وقافية تعارضتا معاً ... في بيت عنسٍ أو بعرسٍ فارك
قد عم أهل الإرض بلعنه ... فللأعنية في السماء ملائك
ولأعجب العجبين أن كلامه ... لخلاله مسكٌ يروح ورامك
إن سام مكرمة جثا متثاقلا ... يرغو كما يرغو البعير
البارك
ويدب في جنح الظلام إلى الخنا ... عدواً كما يعدو الظليم
الراتك
نبذ الوقار لصبيةٍ يهجونة ... فسياله فرشٌ لهم وأرائك
يبدي لهم سوآته ليسوءهم ... بمسالك لا يرتضيها سالك
والدهر باكٍ لانقلاب صروفه ... ظهراً لبطن وهو لاه ضاحك
واللسن تنصحه بأفصح منطق ... لو كان ينجو بالنصيحة هالك
تب يا ابن تسعين فقد جزت المدا ... وارتاح للقيا بسنك
مالك
أو ما ترى من حافديك تشابها ... ابنٌ بضاجع جده ويناسك
هيهات أية عشرة لهجت به ... هنوات مملوك وطيع مالك
يا ابن المرحل لو شهدت مرحلا ... وقد انحنى بالرحل منه
الحارك
وطريد لومٍ لا يحل بمعشر ... إلا أمال قفاه صفعٌ دالك
مركوب لهو لجاجة وركاكة ... وأراك من ذاك اللجاج البارك
لرأيت للعين اللئيمة سحة ... وعلا بصفع عرك أذنك عارك
وشغلت عن ذم الأنام بشاغل ... وثناك خصمٌ من أبيك مماحك
قسماً بمن سمك السماء مكانها ... ولديه نفس رداء نفسك
شائك
لأقول للمغرور منك بشيبةٍ ... بيضاء طي الصحف منها حالك
لا تأمنن للذئب دفع مضرة ... فالذئب إن أعفتيه بك فاتك
عارٌ على الملك المنزة أن يرى ... في مثل هذا للملوك
مسالك
فكلامه للدين سم قاتل ... ودنوه للعرض داءً ناهك
فعليه ثم على الذي يصغي له ... ويلٌ يعاجله وحتفٌ واشك
وأتاه من مثواه آت مجهزٍ ... لدم الخناجر بالخناجر سافك
وهي طويلة تشتمل من التعريض والصريح على كل غريب، واتخذ
لها كنانة خشبية كأوعية الكتب، وكتب عليها: رقاص معجل، إلى ما ملك بن المرحل. وعمد
إلى كلب، وجعلها في عنقه، وأوجعه خبطاً حتى لا يأوي إلى أحد، ولا يستقر، وطرده بالزقاق
متكتما بذلك. وذهب الكلب وخلفه من الناس أمة، وقرىء مكتوب الكنانة، واحتمل إلى أبي
الحكم، ونزعت من عنق الكلب، ودفعت إليه، فوقف منها على كل فاقرةٍ كفت من طماحه،
وغضت عن عنان مجاراته، وتحدث بها مدة، ولم يغب عنه أنها من حيل ابن رشيق، فعوق
سهام المراجعة، ثم أقصر مكبوحاً، وفي أجوبته عن ذلك يقول:
كلاب المزابل آذينني ... بأبوالهن على باب داري
وقد كنت أوجعها بالعصا ... ولكن عوت من وراء الجدار
واستدعاه بآخرةٍ أمير المغرب السلطان أبو يعقوب،
فاستكتبه، واستكتب أبا الحكم صدقةً، فيقال أن جر عليه خجلةً كانت سبب وفاة أبي
علي. ودخل الأندلس، وحط بها بألمرية، وقد أصيب بأسر عياله، فتوسل إلى واليها من
قرابة السلطان الغالب بالله، بشعر مدحه فيه من قصيدة أولها:
ملقى النوى ملقٍ لبعض نوالكا ... فاشف المحب ولو بطيف
خيالكا
ومنها:
لا تحسبني من فلانٍ أو فلا ... أنا من رجال الله ثم
رجالكا
ومنها:
نصب العدو حبائلا لحبائبي ...
وعلقت في استخلاصها بحبالكا
وفي خاتمها:
وكفاك شر العين عيبٌ واحد ... لا عيب فيه سوى فلول
نصالكا
ولحق بغرناطة، ومدح السلطان بها، ونجحت لديه مشاركة
الرئيس بألمرية. فجبر الله حاله، وخلص أسره.
ومما جمع فيه بين نثره ونظمه ما كتبه لما كتب إليه
الأديب الطبيب صالح بن شريف بهاتين القصيدتين، اللتين تنازع فيهما الأقوام،
واتفقوا على أن يحكم بينهما الأحلام، وعبر عن ذلك الأقلام، ولينظرهما من تشوق
إليهما بغير هذا الموضع.
تواليفهوأوضاعه غريبة، واختراعاته عجيبة، تعرفت أنه
اخترع في سفرة الشطرنج شكلا مستديراً.
وله الكتاب الكبير في التاريخ، والتلخيص المسمى بميزان
العمل وهو من أظرف الموضوعات، وأحسنها شهرة.
وفاتهكان حيا عام أربعة وسبعين وستمائة.
حبوس بن ماكسن
بن زيري بن مناد الصنهاجي
يكنى أبا مسعود ملك إلبيرة
وغرناطة وما والاها.
حاله وأوليتهأما أوليته فقد مر ذلك بما فيه الكفاية عند
ذكر بلكين. ولما دخل زاوي ابن زيري على الأندلس غب إيقاعه بالمرتضى، الذي نصبته
الجماعة، واستيلائه على محلته بظاهر غرناطة، وخاف تمالؤ الأندلس عليه، ونظر
للعاقبة، فأسند الأمر إلى ابن أخيه، حبوس بن ماكسن، وكان بحصن أشتر، فلما ركب
البحر من المنكب، وودعه به زعيم البلدة وكبير فقهائها أبو عبد الله بن أبي زمنين،
ذهب إلى ابن أخيه المذكور واستقدمه، وجرت بينه وبين ابن عمه المتخلف على غرناطة من
قبل والده، محاورة أنجلت عن رحيلة تبعاً لأبيه، وانفرد حبوس، فاستبد بالملك، ورأب
الصدع سنة أحد عشر وأربعمائة، قال ابن عذارى في تاريخه: فانحازت صنهاجة مع شيخهم ورئيسهم
حبوس بن ماكسن، وقد كان أخوه حباسة هلك في الفتنة، وبقي منهم معه بعد انصراف زاوي
إلى إفريقية، جماعة عظيمة، فانحازوا إلى مدينة غرناطة، وأقام حبوس بها ملكاً
عظيماً، وحامي رعيته ممن جاوره من سائر البرابرة المنتشرين حوله، فدامت رياسته.
وفاتهتوفي بغرناطة سنة ثمان وعشرين وأربعمائة.
الحكم بن عبد الرحمن بن معاويةالحكم بن عبد الرحمن بن
محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن ابن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن بن معاوية
صفته وحالهكان أصهب العين، أسمر، أقنى، معسل اللحية،
جهير الصوت، طويل الصلب، قصير الساقين، عظيم الساعد، أفصم، وكان ملكاً جليلاً،
عظيم الصيت، رفيع القدر، عالي الهمة، فقيهاً بالمذهب، عالماً بالأنساب، حافظاً
للتاريخ، جماعاً للكتب، محباً في العلم والعلماء، مشيراً للرجال من كل بلد، جمع العلماء
من كل قطر، ولم يكن في بني أمية أعظم همة، ولا أجل رتبة في العلم، وغوامض الفنون
منه. واشتهر بهمته بالجهاد وتحدث بصدقاته في المحلول، وأملته الجبابرة والملوك.
دخوله إلبيرةقال ابن الفياض، كتب إليه من الثغر الجنوبي
أن عظيم الفرنجة من النصارى حشدوا إليه وسألوه الممرة بطول المحاصرة، فاحتسب شخوصه
بنفسه إلى ألمرية في رجب سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة، في جحفل لجبٍ من نجدة
الأولياء وأهل المراتب. ولما أحل إلبيرة ورد عليه كتاب أحمد بن يعلي من طرطوشة
بنصر الله العزيز وصنعه الكريم على الروم، ووافي ألمرية، وأشرف على أمورها، ونظر
إلى أسطولها وجدده، وعدته يومئذ ثلاثمائة قطعة، وانصرف إلى قرطبة.
مولدهلست بقين من جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثمائة.
وفاتهلأربع خلون من صفر سنة ست وستين وثلاثمائة، وعمره
نحوٌ من ثلاث وستين سنة، وهو خاتمة العظماء من بني أمية.
الحكم بن هشام بن عبد الرحمن
بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن أمية
كنيته أبو العاصي.
صفتهآدم شديد الأدمة، طويل، أشم، نحيف، لم يخضب. بنوه
تسعة عشر من الذكور، منهم عبد الرحمن ولي عهده.
بناته، إحدى وعشرون، أمه أم ولد اسمها زخرف.
وزراؤه وقواده، خمسة منهم إسحاق بن المنذر، والعباس بن
عبد الله، وعبد الكريم بن عبد الواحد، وفطيس بن سليمان، وسعيد بن حسان.
قضاتهمصعب بن عمران، وعمر بن بشر والفرج بن كنانة، وبشر
ابن قطن، وعبد الله بن موسى، ومحمد بن تليد، وحامد بن محمد بن يحيى.
كتابه
فطيس بن سليمان. وعطاف بن
زيد، وحجاج بن العقيلي.
حاجبه، عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث.
حالهكان الحكم شديد الحزم، ماضي العزم، ذا صولة تتقى،
وكان حسن التدبير في سلطانه، وتولية أهل الفضل، والعدل في رعيته، مبسوط اليد
بالعطاء الكثير، وكان فصيحاً، بليغاً، شاعراً مجيداً، أديباً، نحوياً.
قال ابن عذارى، كانت فيه بطالة، إلا أنه كان شجاعاً،
مبسوط اليد، عظيم العفو، وكان يسلط قضاته وحكامه على نفسه، فضلا عن ولده وخاصته،
وهو الذي جرت على يده الفتكة العظيمة بأهل ربض قرطبة، الذين هاجوا به وهتفوا
بخلعانه، فأظهره الله عليهم، في خبر شهير، وهو الذي أوقع بأهل طليطلة أيضاً،
فأبادهم بحيلة الدعاء إلى الطعام بما هو معلوم.
دخوله غرناطة: قالوا، وبإلبيرة وأحوازها تلاقي مع عمه
أبو أيوب سليمان بن عبد الرحمن، فهزمه وقتله حسبما ثبت في اسم أبي أيوب.
شعرهقالوا وكان له خمس جوارٍ قد استخلصهن لنفسه، وملكهن
أمره، فذهب يوماً إلى الدخول عليهن، فتابين عليه، وأعرضن عنه، وكان لا يصبر عنهن،
فقال:
قضبٌ من البان ماست فوق كثبان ... ولين عني وقد أزمعن
هجراني
ناشدتهن بحقي فاعتزمن على ال ... عصيان حتى خلا منهن
همياني
ملكنني ملك من ذلت عزيمته ... للحب ذل أسير موثقٍ عاني
من لي بمغتصبات الروح من بدني ... يغصبنني في الهوى عزي
وسلطاني
ثم عطفن عليه بالوصال فقال:
نلت الوصال بعد البعاد ... فكأني ملكت كل العباد
وتناهى السرور إذ نلت ما لم ... يغن عنه تكاثف الأجناد
مناقبهأنهى إليه عباس بن ناصح وقد عاد من الثغر أن امرأة
من ناحية وادي الحجارة سمعها تقول: واغوثاه، يا حكم ضيعتنا، وأسلمتنا، واشتغلت عنا
حتى استأسد العدو علينا، ورفع إليه شعر في هذا المعنى والغرض، فخرج من قرطبة
كاتماً وجهته، وأوغل في بلاد الشرك، ففتح الحصون، وهدم المنازل، وقتل وسبى، وقفل
بالغنائم على الناحية التي فيها تلك المرأة فأمر لأهل تلك الناحية بمال من الغنائم
يفدون به أسراهم، ويصلحون به أحوالهم، وخص المرأة وآثرها، وأعطاها عدداً من الأسرى،
وقال لها، هل أغاثك الحكم؟ قالت أي والله أغاثنا وما غفل عنا، أعانه الله وأعز
نصره.
وفاتهتوفي لأربع بقين لذي الحجة سنة ست ومائتين، وكان
عمره اثنين وخمسين سنة. وجرى ذكره في الرجز من نظمي في تاريخ دول الإسلام بما نصه:
حتى إذا الدهر عليه احتكما ... قام بها ابنه المسمى حكما
واستشعر الثورة فيها وانقبض ... مستوحشاً كالليث أقعى
وربض
حتى إذا فرصته لاحت تفض ... فأفحش الوقعة في أهل الربض
وكان جباراً بعيد الهمة ... لم يرع من آلٍ بها أو ذمة
حكم بن أحمد بن رجا الأنصاريمن أهل غرناطة، يكنى أبا
العاصي.
حاله:
كان من قرائها، ونبهائها، وكان من أهل الفضل والطلب،
وإليه ينسب مسجد أبي العاصي، وحمام أبي العاصي، ودربه بغرناطة. وكفى بذلك دليلا
على الأصالة والتأثل، ذكره أبو القاسم ولم يذكر من أمره مزيداً على ذلك.
حاتم بن سعيد بن خلف
بن سعيد بن محمد بن عبد الله
ابن سعيد بن الحسن بن عثمان
بن سعيد بن عبد الملك بن سعيد بن عمار بن ياسر
أوليته: قد مر بعض ذلك وسيأتي بحول الله.
حالهقال أبو الحسن بن سعيد في كتابه الموضوع في مآثر
القلعة: كان صاحب سيف وقلم وعلم، ودخل في الفتنة المردنيشيه حسبما مر ذلك عند ذكر
أخيه أبي حعفر، فصار من جلساء الأمير أبي عبد الله محمد بن سعد بن مردنيش بمرسية،
وأرباب آرائه، وذوي الخاصة من وزرائه، وكان مشهوراً بالفروسية والشجاعة والرأي.
حكاياته ونوادره: قال كانت
التندير والهزل قد غلبا عليه. وعرف بذلك فصار يحمل منه ما لا يحمل من غيره، قالوا،
فحضر يوماً مع الأمير محمد بن سعد. يوم الجلاب من حروبه، وقد صبر الأمير صبراً
جميلاً، ووالي الكر المرة بعد المرة. وذلك بمرأى من حاتم، فرد رأسه إليه، وقال يا
قائداً أبا الكرم كيف رأيت، فقال له حاتم، لو رآك السلطان اليوم لزاد في مرتبك،
فضحك ابن مردنيش، وعلم أنه أراد بذلك: لا تليق به المخاطرة، وإنما هو للثبات
والتدبير. وقال له يوماً وقد جرى ذلك الجنات، جن اليوم يا أبا الكرم على بستانك
بالزنقات، وأردت أن أكون من ضيافتك، فقال عبد الرحمن بن عبد الملك وهو إذ ذاك وزير
الأمير، وبيده المجابي والأعمال لعل الأمير اغتر بسماع اسمه حاتم، ما فيه من الكرم
إلا الاسم، فقال الحاتم، ولعل الأمير اغتر بسماع أمانة عبد الرحمن، فقدمة على
وزرائه، وما عنده من الأمانة إلا الاسم،فقال ابن مردنيش وقد ضحك، الأولى فهمت، ولم
أفهم الثانية، فقال له كاتبه أبو محمد السلمى، إنما أشار إلى قول رسول الله صلى
الله عليه، في عبد الرحمن بن عوف رضي الله: أمير هذه الأمة، وأمين في أهل السماء،
وأمين في أهل الأرض، فطرب ابن مردنيش، وجعل يقول: أحسنتما.
شعره: قال أبو الحسن ولم أحفظ من شعر حاتم ما أورده في هذا
المكان إلا قوله يخاطب حفصة الركونية الشاعرة، التي يأتي ذكرها، حين فر إلى مرسية،
وتركها بغرناطة:
أحن إلى ديارك يا حياتي ... وأبصر ذو وهد سيل الظبات
وأهوى أن أعود إليك لكن ... خفوق البند عاق عن القنات
وكيف إلى جنابك من سبيل ... وليس يحله إلا عداتي
مولدهفي سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. وقال أبو القاسم
الغافقي فيه عند ذكره: كان طالباً نبيهاً جميلاً سرياص، تام المروءة، جميل العشرة.
وفاتهقال، مات بغرناطة سنة اثنتين وتسعين وخمسمائة.
حباسة بن ماكسن
بن زيري بن مناد الصنهاجي
كان شهماً، هيباً، بهمةً من
البهم، كريماً في قومه، أبياً في نفسه، صدراً من صدور صنهاجة، وكان أشجع من أخيه
حبوس.
وفاتهقال أبو مروان عند ذكر وقعة رمداي بطرف قرطبة في
حروب البرابرة لأهلها في شوال عام اثنين وأربعمائة قال: واستلحم حباسة بن ماكسن
الصنهاجي ابن أخي زاوي بن زيري، وهو فارس صنهاجة طراً وفتاها، وكان قد تقدم إلى
هذه الناحية. زعموا لما بلغه اشتداد الأمر فيها، فرمى بنفسه على طلابها، واتفق أن ركب بسرج
طري العمل متفتح اللبد، وخانه مقعده عند المجاولة، لتقلبه على الصهوة، وقيل إنه
كان منتبذاً على ذلك. فتطارح على من بإزائه، ومضى قدماً بسكرى شجاعته ونشوته،
يصافح البيوت بصفحته، ويستقبل القنا بلباته، لا يعرض له شيء إلا حطه، إلى أن مال
به سرجه، فأتيح حمامه لاشتغاله بذلك، بطعنة من يد المسمى النبيه النصراني. أحد
فرسان الموالي العامريين، فسقط لفيه، وانتظمته رماح الموالي فأبادته، وحامي أخوه
حبوس، وبنو عمه، وغيرهم من أنجاد البرابرة على جئته، فلم يقدروا على استنقاذها.
بعد جلاد طويل، وغلب عليه الموالي فاحتزوا رأسه، وعجلوا به إلى قصر السلطان،
وأسلموا جسده للعامة، فركبوه بكل عظيمة، واجتمعوا إليه اجتماع البغاث على كبير
الصقورة، فجروه في الطريق وطافوا به الأسواق، وقطعوا بعض أعضائه، وأبدوا شواره
وكبده بكل مكروه من أنواع الأذى، بأعظم ما ركب ميت، فلما سئموا تجراره، وأوقدوا له
ناراً فخرقوه بها جرياً على ذميم عادتهم، في قبح المثلة. ولؤم القدرة، وانجلت
الحروب في هذا اليوم لمصابه، عن أمر عظيم، وبلغ من جميع البرابرة الحزن عليه
مناله، ورأت أن دماء أهل قرطبة جميعاً لا تعدله. من الكتاب المتين.
حبيب بن محمد بن حبيبمن أهل النجش من وادي المنصورة أخوه
مالك النجشي، دباب الحلقات، ومراد أذناب المقربين.
حاله
كان على سجية غريبة من
الإنقباض المشوب بالاسترسال، والأمانة مع الحاجة، بادي الزي واللسان، يحفظ الغريب
من اللغة، ويحرك شعراً لا غاية وراءه في الركاكة. وله قيامٌ على الفقه وحفظ القرآن
ونغمةٌ حسنة عند التلاوة. قدم الحضرة غير ما مرة، وكان الأستاذ، إمام الجماعة،
وسيبويه الصناعة، أبو عبد الله ابن الفخار المعروف بالبيري، أبا مثواه ومحط طيته،
يطلب منه مشاركته بباب السلطان في جراية يرغب في تسميتها، وحال يروم إصلاحها،
فقصدني مصحباً منه رقعة تتضمن الشفاعة، وعرض على قصيدة من شعره يروم إيصالها إلى
السلطان، فراجعت الأستاذ برقعة أثبتها على جهة الإحماض وهي: يا سيدي الذي أتشرف، وبالانتماء
إلى معارفه أتميز، وصل إلى عميد حصن النجش، وناهض أفراخ ذلك العش، تلوح عليه مخائل
أخيه المسمى بمالك، ويترجج به الحكم في الغاية في أمثال تلك المسالك، أشبه من
الغراب بالغراب، وإنها لمن عجائب الماء والتراب، فألقى من ثنائكم الذي أوجبته
السيادة والأبوة، ما يقصر عن طيب الألوة، وتخجل عند مشاهدته الغرر المجلوة، وليست
بأولى بر أسديتم، ومكرمة أعدتم وأبديتم، والحسنات وإن كانت فهي إليكم منسوبة، وفي
أياديكم محسوبة، وبلوت من الرجل طلعة نتفة، لم يغادر من صفات النبل صفة، حاضر
بمسائل من الغريب، وقعد مقعد الذكي الأريب، وعرض على حاجته وغرضه، وطلب مني
المشاركة، وهي مني لأمثالة مفترضة، ووعدني بإيقافي على قصيدة حبرها وأنسى بالخبر خبرها،
وباكرني بها اليوم مباكرة الساقي بدهاقة، وعرضها على عرض التاجر نفائس أعلاقه،
وطلب مني أن أهذب له ما أمكن من معانيها وألفاظها، وأجلو القذى عن ألحاظها، فنظرت
منها إلى روضٍ كثرت أثغابه وجيشٍ من الكلام زاحم خواصه أو شابه، ورمت الإصلاح ما
استطعت، فعجزت عن ذلك وانقطعت، ورأيت لا جدوى إلى ذلك الغرض، ما لم تبدل الأرض غير
الأرض. وهذا الفن أبقى الله سيدي، ما لم يمت إلى الإجادة بسبب وثيق، وينتمي في
الإحسان إلى مجد عريق، كان رفضه أحسن وأحمد، واطراحه بالفائدة أعود، وإذا اعتبره
من عدل وقسط، وجده طريقين لا يقبل الوسط، فمنهما مال يقتنى ويدخر، وسافلٌ يهزء به
ويسخر، والوسط ثقيل لا يتلبس به نبيل. قيل لبعضهم ألا تقول الشعر؟ فقال أريد منه ما
لا يتأتى لي، ويتأتى لي منه ما لا أريده. وقال بعضهم، فلان كمغن وسط لا يجيد
فيطرب، ولا يسيء فيسلي. فاقتضى نظركم الذي لا يفارق السداد والتوفيق، وإرشادكم
الذي رافقة الهدى ونعم الرفيق، أن يشير عليه بالاستغناء عن رفعها، والامتساك عن
دفعها، فهو أقوى لأمته، وأبقى على سكنته وسمته، وأستر لما لديه، قبل أن يمد أبو
حنيفة رجليه، وإن أصمت عن هذا العذل مسامعه، وهفت به إلى النجاح مطامعه، فليعمد
على الاختصار، فذو الإكنار جم العثار، وليعدل إلى الجادة عن ثنيات الطرق، ويجتزىء
عن القلادة بما أحاط بالعنق، فإذا رتبها وهذبها، وأوردها من موارد العبارة أعذبها،
توليت زفافها وإهداءها، وأمطت بين يدي الكفوء الكريم رداءها والسلام.
حمدة بنت زياد المكتبمن ساكني وادي الحمة بقرية بادي من
وادي آش.
حالهاقال أبو القاسم، نبيلةً، شاعرةٌ، كاتبة، ومن شعرها
وهو مشهور:
أباح الدمع أسراري برادي ... له في الحسن آثارٌ بوادي
فمن نهر يطوف بكل روض ... ومن روض يطرف بكل وادي
ومن بين الظبا مهات إنس ... سبت لبي وقد سلبت فؤادي
لها لحظٌ ترقده لأمرٍ ... وذاك الأمر يمنعني رقادي
إذا سدلت ذوائبها عليها ... رأيت البدر في جنح السوادي
كأن الصبح مات له شقيق ... فمن حزن تسربل في الحدادي
ومن غرائبها:
ولما أبى الواشون إلا قتالنا ... وما لهم عندي وعندك من
ثار
وشنوا على آذاننا كل غارة ... وقلت حماتي عند ذاك
وأنصاري
رميتهم من مقلتيك وأدمعي ... ومن نفسي بالسيف والسيل
والنار
وقال أبو الحسن بن سعيد في حمدة وأختها زينب: شاعرتان،
أديبتان من أهل الجمال، والمال، والمعارف والصون، إلا أن حب الأدب، كان يحملها على
مخالطة أهله، مع صيانة مشهورة، ونزاهةٍ موثق بها.
حفصة بنت الحاج الركوني
من أهل غرناطة، فريدة الزمان
في الحسن، والظرف، والأدب واللوذعية، قال أبوالقاسم، كانت أديبة، نبيلة، جيدة
البديهة، سريعة الشعر.
بعض أخبارهاقال الوزير أبو بكر بن يحيى بن محمد بن عمر
الهمداني، رغبت أختي إلى حفصة أن تكتب شيئاً بخطها فكتبت.
يا ربة الحسن بل يا ربة الكرم ... غضى جفونك عما خطه
القلم
تصفحيه بلحظ الود منعمة ... لا تحفلي بقبيح الخط والكلم
قال أبوالحسن بن سعيد، وقد ذكر أنهما باتا بحوز مؤمل في
جنة له هنالك على ما يبيت عليه أهل الظرف والأدب، قال:
رعى الله ليلاً لم يرع بمذمم ... رعانا ووارانا بحوز
مؤمل
وقد نفحت من نحو نجد أريجه ... إذا نفحت هبت بريح
القرنفل
وغرد قمريٌ على الدوح وانثنى ... قضيبٌ من ريحان من فوق
جدول
يرى الروض مسروراً بما قد بدا له ... عناق وضم وارتشاف
مقبل
فقالت:
لعمرك ما سر الرياض وصالنا ... ولكنه أبدى لنا الغل
والحسد
ولا صفق النهر ارتياحاً لقربنا ... ولا مدح القمري الأ
لما وجد
فلا تحسبن الظن الذي أنت أهله ... فما هو في كل المواطن
بالرشد
فما خلت هذا الأفق أبدى نجومه ... لأمرٍ سوى كي ما يكون
لنا رصد
قال أبوالحسن بن سعيد، وبالله ما أبدع ما كتبت به إليه وقد
بلغها أنه علق بجارية سوداء أسعت له من بعض القصور، فاعتكف معها أياماً وليالي،
بظاهر غرناطة، في ظل ممدود، وطيب هوى مقصور وممدود:
يا أظرف الناس قبل حالٍ ... أوقعه نحوه القدر
عشقت سوداء مثل ليل ... بدائع الحسن قد ستر
لا يظهر البشر في دجاها ... كلا ولا يبصر الخفر
بالله قل لي وأنت أدرى ... بكل من هام في الصور
من الذي هام في جنان ... لا نوار فيه ولا زهر
فكتب إليها بأظرف اعتذار، وألطف أنوار:
لا حكم إلا لآمر ناهٍ ... له من ذنبه معتذر
له محيا به حياتي ... أعيذ مداه بالسور
كصحبة العيد في ابتهاج ... وطلعةٍ الشمس والقمر
سعده لم أمل إليه إلا ... اطرافاً له خبر
عدمت صبحي فاسود عش ... قي وانعكس الفكر والنظر
إن لم تلح يا نعيم رو ... حي فكيف لا تفسد الفكر
قال، وبلغنا أنه خلا مع حاتم وغيره من أقاربهم، لهم طربٌ
ولهو، فمرت على الباب مستترة. وأعطت البواب بطاقةً فيها مكتوب:
زائر قد أتى بجيد غزال ... طامع من محبه بالوصال
أتراكم بإذنكم مسعفيه ... أم لكم شاغلٌ من الأشغال
فلما وصلت الرقعة إليه، قال ورب الكعبة، ما صاحب هذه
الرقعة إلا الرقيعة حفصة، ثم طلبت فلم توجد. فكتب إليها راغباً في الوصال والأنس
الموصول:
أي شغل عن الحبيب يعوق ... يا صاحباً قد آن منه الشروق
صل وواصل فأنت أشهى إلينا ... من جميع المنى فكم ذا تشوق
بحياة الرضى يطيب صبوحٌ ... عرفاً إن جفوتنا أو غبوق
لا وذل الهوى وعز التلاقي ... واجتماع إليه عز الطريق
وذكرها الأستاذ في صلته فقال: وكانت أستاذة وقتها.
وانتهت إلى أن علمت النساء في دار المنصور، وسألها يوماً أن تنشده ارتجالا فقالت:
أمنن على بصك ... يكون للدهر عدة
تخط يمناك فيه ... الحمد لله وحده
قال: فمن عليها، وحرز لها ما كان لها من ملك.
وفاتها: قالوا: توفيت بحضرة مراكش في آخر ثمانين أو إحدى
وثمانين وخمسمائة.
الخضر بن أحمد
بن الخضر بن أبي العافية
من أهل غرناطة، يكنى أبا
القاسم.
حاله
من كتاب عائد الصلة، كان رحمه
الله صدراً من صدور القضاة، من أهل النظر والتقييد، والعكوف على الطلب، مضطلعاً
بالمسائل، مسائل الأحكام، مهتدياً لمظنات النصوص، نسخ بيده الكثير، وقيد على
الكثير من المسائل، حتى عرف فضله، واستشاره الناس في المشكلات. وكان بصيراً بعقد
الشروط، ظريف الخطاب، بارع الأدب، شاعراً مكثراً، مصيباً غرض الإجادة. وتصرف في
الكتابة السلطانية، ثم في القضاء، وانتقل في الولايات الرفيعة النبيهة. وجرى ذكره في
التاج المحلي بما نصه: فارس في ميدان البيان. وليس الخبر كالعيان، وحامل لواء
الإحسان، لأهل هذا الشان، رفل في حلل البدائع فسحب أذيالها، وشعشع أكواس العجائب
فأدار جرياً لها، واقتحم على الفحول أغيالها، وطمح إلى الغاية البعيدة فنالها،
وتذوكرت المعصلات فقال أنا لها. عكف واجتهد، وبرز إلى مقارعة المشكلات ونهد، فعلم
وحصل، وبلغ الغاية وتوصل، وتولى القضاء، فاضطلع بأحكام الشرع. وبرع في معرفة الأصل
والفرع، وتميز في المسائل بطول الباع، وسعة الذراع، فأصبح صدراً في مصره، وغرة في
صفحة عصره، وسيمر من بديع كلامه، وهثات أقلامه، وغرر إبداعه ودرر اختراعه، ما
يستنير لعلم الحليم، وتلقى له البلغاء يد التسليم.
شعرهقال في غرض الحكمة والأمثال:
عز الهوى نقصان والرأي الذي ... ينجيك منه إذا ارتأيت
مروما
فإذا رأيت الرأي يتبع الهوى ... خالف وفاقهما تعد حكيما
وكيف تخاف من الحليم مراجياً ... خف من نصيحك ذي السفاهة
شوما
واحذر معادات الرجال توقياً ... منهم ظلوماً كنت أو
مظلوما
فالناس إما جاهلٌ لا يتقى ... عاراً ولا يخشى العقوبة
لؤما
أو عاقلٌ يرمي بسهم مكيدةٍ ... كالقوس ترسل سهمها مسموما
فاحلم عن القسمين تسلم منهما ... وتسد فتدعي سيداً
وحليما
ودع المعادات التي من شأنها ... أن لا تديم على الصفاء
قديما
أبت المغالبة الوداد فلا تكن ... ممن يغالب ما حييت
نديما
وإذا منيت بقربه فاخفض له ... جناح الذل واخضع ظاعناً
ومقيما
إن الغريب لكالقضيب محاير ... إن لم يمل للريح عاد رميما
وارع الكفاف ولا تجاوز حده ... ما بعده يجنى عليك هموما
وابسط يديك متى غنيت ولا تكن ... فيما يكون به المديح
ذميما
وإذا بذلت فلا تبذر إن ذا التب ... ذير يومئذ أخوه رجيما
وعف الورود إذا تزاحم موردٌ ... واحسب ورود الماء منه
حميما
واصحب كريم الأصل ذا فضلٍ فمن ... يصحب لئيم الأصل عد
لئيما
فالفضل من لبس الكرام فمن عرا ... عنه فليس لما يقول
كريما
إن المقارن بالمقارن يقتدي ... مثلٌ جرى جرى الرياح
قديما
وجماع كل الخير في التقوى فلا ... تعدم حلي التقوى تعد
عديما
وقال يصف الشيب من قصيدة، وهي طويلة، أولها:
لاح الصباح صباح شيب المفرق ... فاحمد سراك نجوت مما
تتقى
هي شيبة الإسلام فاقدر قدرها ... قد أعتقتك وحق قدر
المعتق
خطت بفودك أبيضاً في أسودٍ ... بالعكس من معهود خطٍ مهرق
كالبرق راع بسيفه طرف الدجا ... فأعار دهمته شتات الأبلق
كالفجر يرسل في الدجنة خيطه ... ويجر ثوب ضيائه بالمشرق
كالماء يستره بقعر طحلب ... فتراه بين خلاله كالزئبق
كالحية الرقشاء إلا أنه ... لا يبرأ الملسوع منه إذا رقى
كالنجم عد لرجم شيطان الصبا ... يا ليت شيطان الصبا لم
يحرق
كالزهر إلا أنه لم يستنم ... إلا بغصن ذابلٍ لم يورق
كتبسم الزنجي إلا أنه ... يبكي العيون بدمعه المترقرق
وكذا البياض قذى العيون ولا ترى ... للعين أبكي من بياض
المفرق
ما للغواني وهو لون خدودها
... يجزعن من لألائه المتألق
وأخلته لمع السيوف ومن يشم ... لمع السيوف على المفارق
يفرق
هو ليس ذاك ولا الذي أنكرته ... فكن خائفاً ما خفن منه
واتق
داءٌ يعز على الطبيب دواؤه ... ويضيع خسرا فيه مال
المنفق
لكنه والحق أصدق مقولٍ ... شين المسيء الفعل زين المتقى
ومن مقطوعاته قوله:
أقلى فما الفقر بالمرء عارٌ ... ولا دار من يألف الهون
دارا
وما يكسب العز إلا الغنى ... غنى النفس فاتخذه شعارا
وما اجتمع الشمل في غيره ... فيحسن إلا وساء انتشارا
فدهر غيرك لا تنظرن ... فيألم قلبك منه انكسارا
وهزي إليك بجذع الرضى ... تساقط عليك الأماني ثمارا
وقال أيضاً:
العلم حسنٌ وزين ... والجهل قبحٌ وشين
والمال عزٌ وعيشٌ ... والفقر ذلٌ وحين
والناس أعضاء جسم ... فمنهم أستٌ وعين
هذي مقالة حق ... ما في الذي قلت مين
وقال أيضاً:
إن أراك الزمان وجهاً عبوساً ... فتلقاه من بعد ذاك طلقا
لا يهمنك حاله إن في طر ... فة عينٍ ترتاح فيه وتشقى
أي عز رأيت أو أي ذل ... لذوي الحالتين في الدهر يبقى
سل نجوم الدجى إذا ما استنارت ... ما الذي في وقت
الظهيرة تلقى
وتفكر وقل بغير ارتيابٍ ... كل شيء يفنى وربك يبقى
وقال أيضاً:
لو أن أيام الشباب تعود لي ... عود النضارة للقضيب
المورق
ما إن بكيت على شبابٍ قد ذوى ... وبقيت منتظراً لآخر مونق
وقال في القلم:
لك القلم الأعلى الذي طال فخره ... وإن لم يكن إلا
قصيراً مجوفا
تعلم منه الناس أبدع حكمة ... فها هو أمضى ما يكون محرفا
وقال في التشبيه:
كأنما السوسن الغض الذي افتتح ... ت منه كمائمه المبيضة
اللون
بنان كف فتاةٍ قط ما خضبت ... تلقى بها من يراها خيفة
العين
وقال يعرض بقوم من بني أرقم:
إذا ما نزلت بوادي الآشى ... فقل رب من لدغه سلم
وكيف السلامة في موطنٍ ... به عصبةٌ من بني أرقم
وقال مورياً بالفقه. وهو بديع:
لي دينٌ على الليالي قديمٌ ... ثابت الرسم منذ خمسين حجة
أقاعداً بالحكم عليها أم لها ... في تقادم الدهر حجة
ونختم مقطوعاته بقوله:
نجوت بفضل الله مما أخافه ... ولم لا وخير العالمين شفيع
وما ضعت في الدنيا بغير شفاعة ... فكيف إذا كان الشفيع
أضيع
وقال أيضاً:
عليك بتقوى الله فيما ترومه ... من الأمر تخلص بالمرام
وبالأجر
ولا ترج غير الله في نيل حاجةٍ ... ولا دفع ضرٍ في سرار
ولا جهر
فمن أم غير الله أشرك عاجلا ... وفارقه إيمانه وهو لا
يدر
وفاته: توفي قاضياً ببرجة، وسيق إلى غرناطة فدفن بباب
إلبيرة عصر يوم الأربعاء آخر يوم من ربيع عام خمسة وأربعين وسبعمائة.
خالد بن أبي خالد البلويخالد بن عيسى بن إبراهيم بن أبي
خالد البلوي من أهل قنتورية، من حصون وادي المنصورة.
حالههذا الرجل من أهل الفضل والسذاجة، كثير التواضع،
منحط في ذمة التخلق، نابه الهيئة، حسن الأخلاق، جميل العشرة، محبٌ في الأدب، قضى
ببلده وبغيره، وحج وقيد رحلته في سفر، وصف فيه البلاد ومن لقي، بفصول جلب أكثرها
من كلام العماد الأصبهاني، وصفوان وغيرهما، من ملح. وقفل إلى الأندلس، وارتسم في تونس
في الكتابة عن أميرها زماناً يسيراً، وهو الآن قاض ببعض الجهات الشرقية.
وجرى ذكره في الرحلة التي صدرت عني في صحبة الركاب
السلطاني عند تفقد البلاد الشرقية، في فصل حفظه الناس، وأجروه في فكاهاتهم وهو:
حتى إذا الفجر تبلج. والصبح
من باب المشرق تولج، عدنا وتوفيق الله قائدٌ، وكنفنا من عنايته صلةٌ وعائدٌ، تتلقى
ركابنا الأفواج، وتحيينا الهضاب والفجاج إلى قنتورية، فناهيك من مرحلة قصيرة كأيام
الوصال، قريبة البكر من الآصال، كان المبيت بإزاء قلعتها السامية الارتفاع،
الشهيرة الامتناع، وقد برز أهلها في العديد والعدة، والاحتفال الذي قدم به العهد
على طول المدة، صفوفاً بتلك البقعة خيلاً ورجلا كشطرنج الرقعة، لم يتخلف ولدٌ عن
والدٍ، وركب قاضيها ابن أبي خالد، وقد شهرته النزعة، الحجازية، وقد لبس من الحجازي،
وأرخى من البياض طيلسانا، وتشبه بالمشارقة شكلاً ولسانا، وصبغ لحيته بالحناء
والكتم، ولاث عمامته واختتم، والبداوة تسمه على الخرطوم، وطبع الماء والهواء يقوده
قود الجمل المخطوم، فداعبته مداعبة الأديب للأديب، والأريب للأريب، وخيرته بين
خصلتين، وقلت نظمت مقطوعتين، إحداهما مدحٌ، والأخرى قدحٌ، فإن همت ديمتك، وكرمت
شيمتك، فللذين أحسنوا الحسنى. وإلا فالمثل الأدنى. فقال: انشدني لأرى
على أي أمري أتيت، وأفرق بين ما جنيتني وما جنيت، فقلت:
قالوا وقد عظمت مبرة خالد ... قاري الضيوف بطارفٍ وبتالد
ماذا تممت به فجئت بحجة ... قطعت بكل مجادل ومجالد
أن يفترق نسبٌ يؤلف بيننا ... أدبٌ أقمناه مقام الوالد
وأما الثانية فيكفي من البرق شعاعه، وحسبك من شر سماعه.
ويسير التنبيه كافٍ للنبيه، فقال، لست إلى قراي بذي حجة، وإذا عزمت فأصالحك على
دجاجة، فقلت ضريبةٌ غريبةٌ، ومؤنةٌ قريبةٌ، عجل ولا تؤجل، وإن انصرم أمد النهر
فأسجل، فلم يكن إلا كلا ولا، وأعوانه من القلعة تنحدر، والبشر منهم بقدومها يبتدر،
يزفونها كالعروس فوق الرؤوس، فمن قائل يقول أمها يمانية، وآخر يقول أخوها الخصي
الموجه إلى الحضرة العلية، وأدنوا مرابطها من المضرب بعد صلاة المغرب، وألحقوا في
السؤال، وتشططوا في طلب النوال، فقلت يا بني اللكيعة جئتم ببازي، بماذا كنت أجازي،
فانصرفوا وما كادوا يفعلون، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، حتى إذا سلت لذبحها
المدى، وبلغت من طول أعمارها المدى، قلت يا قوم ظفرتم بقرة العين، وابشروا باقتراب
اللقاء، فقد ذبحت لكم غراب البين.
ولقد بلغني أنه لهذا العهد بعد أن طال المدى، يتظلم من
ذلك، وينطوي من أجله على الوجدة، فكتبت إليه: وصل الله عزة الفقيه النبيه، العديم
النظير والتشبيه، وارث العدالة عن عمه وابن أبيه، في عزة تظلله، وولاية تتوج جاهه
وتكاله.
داود بن سليمان
بن داود بن عبد الرحمن بن سليمان بن عمر
ابن حوط الله الأنصاري
الحارثي الأندي يكنى أبا سليمان.
أوليتهقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير، من بيت علم
وعفاف، أصله من أندة، حصن بشرقي الأندلس، وانتقل أبو سليمان هذا مع أخيه أبي محمد
إلى حيث يذكر بعد.
حالهقال ابن عبد الملك، كان حافظاً للقراءة، عارفاً
بإقراء القرآن بها، أتقن ذلك عن أبيه، ثم أخيه كبيره أبي محمد، محدثاُ متسع
الرواية، شديد العناية بها، كثير السماع، مكثراً، عدلاً، ضابطاً لما ينقله، عارفاً
بطرق الحديث، أطال الرحلة في بلاد الأندلس، شرقها وغربها، طالبا للعلم بها، ورحل
إلى سبتة وغيرها، من بلاد الأندلس العدوية، وعني بلقاء الشيوخ كباراً وصغاراً، والأخذ
منهم، أتم عناية، وحصل له بذلك ما لم يحصل لغيره، وكان فهيماً بصيراً بعقد الشروط،
حاذقاً في استخراج نكتها، تلبس بكتبها زماناً طويلاً بمسجد الوحيد من مالقة، وكان
محباً في العلم وأهله، حريصاً على إفادته أياهم، صبوراً على سماع الحديث، حسن
الخلق طيب النفس، متواضعاً، ورعاً، منقبضاً، لين الجانب، مخفوض الجناح، حسن الهدى،
نزيه النفس، كثير الحياء، رقيق القلب، تعدد الثناء عليه من الجلة.
قال ابن الزبير، كان من أهل العدالة والفضل، وحسن الخلق،
وطيب النفس والتواضع، وكثرة الحياء. وقال ابن عبد المجيد، كان ممن فضله الله بحسن
الخلق والحياء على كثير من العلماء.
وقال أبو عبد الله بن سلمة مثل ذلك. وقال ابن... بمثله.
مشيخته
قال الأستاذ، أقرأ بمرسيه،
وأخذ بها، وبقرطبه، ومالقة، وإشبيلية، وغرناطة وسبتة، وغيرها من بلاد الأندلس.
وغرب العدوه، واعتناؤه يعينه وأخاه بباب الرواة، والأخذ عن الشيوخ، حتى اجتمع لهما
ما لم يجتمع لأحد من أهل عصرهما، فمن ذلك أبوهما أبو داود، وأبو الحسن صالح بن
يحيى بن صالح الأنصاري، وأبوالقاسم بن حسن، وأبوعبد الله بن حميد، وأبو زيد
السهيلي، وأبو عبد الله محمد بن محمد بن عراق الغافقي، وأبوالعباس يحيى بن عبد الرحمن
المجريطي، وعن ابن بشكوال، وأخذ عن أبي بكر بن الجد، وأبي عبد الله بن زرقون، وأبي
محمد ابن عبد الله، وأبي عبد الله بن الفخار الحافظ، وأبي العباس بن مضاء، وأبي
محمد ابن بونة، وأبي محمد بن عبد الصمد بن يعيش الغساني، وأبي بكر بن أبي حمزة،
وأبي جعفر بن حكم الزاهد، وأبي خالد بن يزيد بن رفاعة، وأبي محمد عبد المنعم ابن
الفرس، وأبي الحسن بن كوثر، وأبي عبد الله بن عروس، وأبي بكر بن أبي زمنين، وأبي
محمد بن جمهور، وأبي بكر بن النيار، وأبي الحسن بن محمد بن عبد العزيز الغافقي
الشقوري، وأبي القاسم الحوفي القاضي، وأبي بكر بن بيبش بن محمد ابن بيبش العبدري،
وأبي الوليد بن جابر بن هشام الحضرمي، وأبي بكر ابن مالك الشريشي، وأبي عبد اليسر
الجزيري، وأبي بكر بن عبد الله السكسكي وأبي الحجاج ابن الشيخ الفهري، وغيرهم ممن
يطول ذكرهم.
قضاؤه وسيرته فيهقال ابن الربيع لازمت ابني حوط الله،
فكان أبو محمد يفوق أخاه والناس في العلم، وكان أبو سليمان يفوق أخاه والناس في
الحلم. واستقضى بسبتة والمرية والجزيرة الخضراء، وقام قاضياً بها مدة، ثم نقل منها
إلى قضاء بلنسية آخر ثمان وستمائة، ثم صرف بأبي القاسم بن نوح، وقدم على القضاء بمالقة
في حدود إحدى عشر وستمائة، فشكرت أحواله كلها، وعرف في قضائه بالنزاهة. قال أبو
عبد الله بن سلمة، كان إذا حضر خصوم، ظهر منه من التواضع ووطأة الأكناف، وتبيين
المراشد والصبر على المداراة، والملاطفة، وتحبيب الحق، وتكريه الباطل، ما يعجز
عنه، ولقد حضرته، وقد أوجبت الأحكام عنده الحدود على رجل، فهاله الأمر، وذرفت
عيناه، وأخذ يعتب عليه ويؤنبه على أن ساق نفسه إلى هذا، وأمر بإخراجه ليحد بشهود
في موضع آخر لرقة نفسه، وشدة إشفاقه، واستمرت ولايته بمالقة إلى أن توفي.
مولدهببلدة أندة سنة ستين وخمسمائة
وفاتهقال أبو عبد الرحمن بن غالب، توفي إثر صلاة الصبح
من يوم السبت سادس ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وستمائة، ودفن إثر صلاة العصر يوم
وفاته، بسفح جبل فارة، في الروضة المدفون بها أخوه أبو محمد، فأتبعه الناس ثناءً
جميلا، ذكر، واختلفوا في جنازته، وخرج إليها النساء، والصبيان داعين متبكين.
رضوان النصري
الحاجب المعظم
حسنة الدولة النصرية، وفخر
مواليها.
أوليتهرومي الأصل. أخبرني أنه من أهل القلصادة، وأن
انتسابه يتجاذبه القشتالية من طرف العمومة، والبرجلونية من طرف الخؤولة، وكلاهما
نبيه في قومه. وأن أباه ألجأه الخوف بدم ارتكبه في محل أصالته من داخل قشتالة إلى
السكني بحيث ذكر، ووقع عليه سباءٌ في سن الطفولية، واستقر بسببه بالدار السلطانية،
ومحض إحراز رقه، السلطان دايل قومه، أبو الوليد المار ذكره، فاختص به، ولازمه قبل
تصيير الملك إليه، مؤثراً له مغتبطاً بمحائل فضله، وتماثل استقامته، ثم صير الملك
إليه فتدرج في معارج حظوته، واختص بتربية ولده، وركن إلى فضل أمانته، وخلطه في قرب
الجوار بنفسه، واستجلى الأمور المشكلة بصدقه، وجعل الجوائز السنيه لعظماء دولته
على يده، وكان يوجب حقه، ويعرف فضله، إلى أن هلك، فتعلق بكنف ولده، وحفظ شمله،
ودبر ملكه، فكان آخر اللخف، وستراً للحرم، وشجىً للعدا وعدة في الشدة، وزيناً في
الرخاء، رحمة الله عليه.
حاله وصفته
كان هذا الرجل مليح الشيبة
والهيئة. معتدل القد والسحنة، مرهب البدن. مقبل الصورة، حسن الخلق، واسع الصدر،
أصيل الرأي، رصين العقل، كثير التجمل، عظيم الصبر، قليل الخوف من الهيعات، ثابت
القدم في الأزمات، ميمون النقيبة، عزيز النفس، عالي الهمة، بادي الحشمة، آية في
العفه، مثلاً في النزاهة، ملتزماً للسنة، دؤباً على الجماعة، جليس القبلة، شديد
الإدراك مع السكون، ثاقب الذهن مع إظهار الغفلة، مليح الدعابة مع الوقار والسكينة،
مستظهراً لعيون التاريخ، ذاكراً للكثير من الفقه والحديث، كثير الدالة على تصوير الأقاليم
وأوضاع البلاد، عارفاً للسياسة، مكرماً للعلماء، متركاً للهوادة، قليل التصنع،
نافراً من أهل البدع، متساوي الظاهر والباطن، مقتصداً في المطعم والملبس.
مكانته من الدينأتفق على أنه لم يعاقر مسكراً قط ولا زن بهناة،
ولا لطخ بريبة، ولا وصم بخلة تقدح في منصب، ولا باشر عقاب جاز، ولا أظهر شفاء من
غائظ، ولا اكتسب من غير التجر والفلاحة مالا.
آثارهأحدث المدرسة بغرناطة. ولم تكن بها بعد، وسبب إليها
الفوائد ووقف عليها الرباع المغلة، وانفرد بمنقبها، فجاءت نسيجة وحدها بهجة وصدراً
وظرفاً وفخامة، وجلب الماء الكثير إليها من النهر، فأبد سقيه عليها، وأدار السور
الأعظم على الربض الكبير المنسوب للبيازين، فانتظم منه النجد والغور، في زمان قريب،
وشارف التمام إلى هذا العهد، وبنى من الأبراج المنيعة في مثالم الثغور وروابي مطالعها
المنذرة، ما ينيف على أربعين برجا، فهي ماثلة كالنجوم ما بين البحر الشرقي من ثغر
بيرة إلى الأحواز الغريبة، وأجرى الماء بجبل مورور، مهتدياً إلى ما خفي على من
تقدمه، وأفذاذ أمثال هذه الأنقاب يشق تعداده.
جهاده: غزا في السادس والعشرين من محرم عام ثلاثة وثلاثين
وسبعمائة بجيش مدينة باغة، وهي ما هي من الشهرة، وكرم البقعة، فأخذ بمخنقها، وشد
حصارها وعاق الصريخ عنها، فتملكها عنوة، وعمرها بالحماة ورتبها بالمرابطة، فكان
الفتح فيها عظيما، وفي أوائل شهر المحرم من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة غزا بالجيش
عدو المشرق، وطوى المراحل مجتازاً على بلاد قشتالة، لورقة ومرسية، وأمعن فيها،
ونازل حصن المدور، وهو حصن أمن غائلة العدو مكتنفٌ بالبلاد، مد بالبسيني، موضوعٌ
على طية التجارة، وناشبه القتال، فاستولى عنوة عليه منتصف المحرم من العام
المذكور، وآب مملوء الحقائب سبياً وغنماً. وغزواته كثيرة، كمظاهرة الأمير الشهير
أبي مالك على منازلة جبل الفتح، وما اشتهر عنه فيه من الجد والصبر، وأوثر عنه من المنقبة،
الدالة على صحة اليقين، وصدق الجهاد، إذ أصابه سهم في ذراعه وهو يصلي، فلمي شغله
عن صلاته، ولا حمله توقع الإغارة على إبطال عمله.
ترتيب خدمته وما تخلل عن ذلك
من محنته: لما استوثق أمر الأمير المخصوص بتربيته، محمد ابن أمير المسلمين أبي
الوليد نصر، وقام بالأمر وكيل أبيه الفقيه أبو عبد الله محمد بن المحروق، ووقع
بينه وبين المترجم عهدٌ على الوفاء والمناصحة، ولم يلبث أن نكبه وقبض عليه ليلة
كذا من رجب عام ثمانية وعشرين وسبعمائة، وبعثه ليلا إلى مرسي المنكب، واعتقله في
المطبق من قصبتها بغياً عليه، وارتكب فيه أشنوعة أساءت به العامة، وأنذرت باختلال
الحال، ثم أجازه البحر، فاستقر بتلمسان، ولم يلبث أن قتل المذكور، وبادر سلطانه
الموتور بفرقته عن سدته، فاستدعاه فلحق محله من هضبة الملك متملياً ما شاء من عز وعناية،
فصرفت إليه المقاليد، ونيطت به الأمور، وأسلم إليه الملك، وأطلقت يده في المال،
واستمرت الأحوال إلى عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، والتأث الأمر وظهر من سلطانه
التنكر عليه، فعاجله الحمام فخلصه الله منه، وولى أخوه أبو الحجاج من بعده، فوقع
الإجماع على اختياره للوزارة أوائل المحرم من عام أربعة وثلاثين وسبعمائة، فرضي
الكل به، وفرحت العامة والخاصة للخطة، لارتفاع المنافسات بمكانه، ورضي الأضداد
بتوسطه، وطابت النفوس بالأمن من غائلته، تفولى الوزارة وسحب أذيال الملك، وانفرد
بالأمر واجتهد في تنفيذ الأحكام، وتقدم الولاة، وجواب المخاطبات، وقواد الجيوش،
إلى ليلة الأحد الثاني والعشرين من رجب عام أربعين وسبعمائة، فنكبه الأمير المذكور
نكبة ثقيلة البرك، هائلة الفجأة من غير زلة مأثورة، ولا سقطة معروفة، إلا ما لا يعدم
بأبواب الملوك من شرور المنافسات، ودبيب السعايات الكاذبة، وقبض عليه بين يدي
محراب الجامع من الحمراء إثر صلاة المغرب، وقد شهر الرجال سيوفهم فوقه يحفون به،
ويقودونه إلى بعض دور الحمراء، وكبس ثقات السلطان منزله، فاستوعبوا ما اشتمل عليه
من نعمة، وضم إلى المستخلص عقاره، وسوغ الخبر عظيم غلاته، ثم نقل بعد أيام إلى
قصبة ألمرية محمولا على الظهر، فشد بها اعتقاله، ورتب الحرس عليه إلى أوائل شهر
ربيع الثاني من عام أحد وأربعين وسبعمائة، فبدا للسلطان في أمره واضطر إلى إعادته،
ووجد فقد نصحه، وأشفق لما عدم من أمانته، والانتفاع برأيه، وعرض عليه بما لنوم
الكف والإقصار عن ضره، فعفا عنه، وأعاده إلى محله من الكرامة، وصرف عليه من ماله،
وعرض الوزارة فأباها، واختار برد العافية، وأنس لذة التخلي، فقدم لذلك من سد الثغور،
فكان له اللفظ، ولهذا الرجل المعنى، فلم يزل مفزعاً للرأي، محلى في العظة على
الولاية، كثير الآمل والغاشي، إلى أن توفي السلطان المذكور غرة شوال من عام خمسة
وخمسين وسبعمائة، فشعب الثأي، وحفظ البلوى، وأخذ البيعة لولده سلطاننا الأسعد أبي
عبد الله، وقام خير قيام بأمره، وجرى على معهود استبرائه. وقد تحكمت التجربة، وعلت
السن، وزادت أنة الخشية، وقربت من لقاء الله الشقة، فلا تسأل عما حط من خل، وأفاض
من عدل، وبذل من مداراة، وحلول عقد السلم، وسد أمور الجند على القل، ودامت حاله
متصلة على ما ذكره، وسنه تتوسط عشر التسعين إلى أن لحق بربه. وقد علم الله أني لم
يحملني على تقرير سيرته، والإشادة بمنقبته داعيةٌ، وإنما هو قول بالحق، وتسليم
لحجة الفضل، وعدل في الوصف، والله عز وجل يقول: وإذا قلتم فأعدلوا
وفاتهفي ليلة الأربعاء الثامن والعشرين من رمضان من عام
ستين وسبعمائة، طرق منزله بعد فراغه من إحياء ثلث الليل، متبذل اللبسة، خالص
الطوية، مقتضياً للأمن مستشعراً للعافية، قائماً على المسلمين بالكل حاملا
للعظيمة، وقد بادره الغادرون بسلطانه، فكسروا غلقه بعد طول معالجة، ودخلوا عليه
وقتلوه بين أهله وولده، وذهبوا إلى الدايل برأسهن وفجعوا الإسلام، بالسائس الخصيب المتغاضي،
راكب متن الصبر، ومطوق طوق النزاهة والعفاف، وآخر رجال الكمال والستر. الضافي على
الأندلس، ولوئم من الغدبين رأسه وجسده، ودفن بإزاء لحود مواليه من السبيكة ظهراً،
ولم يشهد جنازته إلا القليل من الناس، وتبرك بعد بقبره. وقلت عند الصلاة عليه،
أخاطبه دون الجهر من القول لمكان التقية:
أرضوان لا توحشك فتكة ظالم ... فلا موردٌ إلا سيتلوه
مصدر
ولله سرٌ في العباد مغيبٌ ... يشهد بخافيه القضاء المقدر
سميك مرتاحٌ إليك مسلم ...
عليك ورضوان من الله أكبر
فحث المطاليس النعيم منغصٌ ... ولا العيش في دار الخلود
مكدر
زاوي بن زيري
بن مناد الصنهاجي
الحاجب المنصور، يكنى أبا
مثنى.
أوليتهقد مر ما حدث بين أبيه زيري وبين قرابته من ملوك
إفريقية، وباديس بن منصور من المشاحنة التي أوجبت مخاطبة المظفر بن أبي عامر في
اللحاق بالأندلس، وإذنه في ذلك. فدخل الأندلس، منهم على عهده جماعة وافرة من
مساعير الحروب وآثار الحتوف، مع شيخهم هذا وأميرهم، ودخل منهم معه أبناء أخيه
ماكسن وحباسة وحبوس، وقاموا في جملة المظفر، وزاوي مخصوصٌ باسم الحجابة، فلما اختل
بناء الخلافة، بمحمد بن عبد الجبار الملقب بالمهدي، أذلهم وتنكر لهم، وأشاع بينهم
وبين أمثالهم من البرابر، المغايرة، فكان ذلك سبب الفتنة التي يسميها أهل الأندلس
بالبربرية، فانحاشوا، ونفروا عهده، وبايعوا سليمان بن الحكم، واستعانوا بالنصارى،
وحركوا على أهل قرطبة خصوصاً، وعلى أهل الأندلس عموماً، ما شاء الله من استباحة،
وإهلاك النفوس، وغلبوا على ملك الأندلس، وما وراء البيضة، واقتسموا أمهات الأقطار،
وانحازوا إلى بلاد تضمهم، فانحازت صنهاجة مع رئيسهم المذكور إلى غرناطة، فأووا
إليها، واتخذوها ملجأ، وحماها زاوي المذكور، وأقام بها ملكاً، وأثل بها سلطاناً
لذويه، فهو أول من مدن غرناطة، وبناها وزادها تشييداً ومنعة، واتصل ملكه بها،
وارتشحت عروقه، إلى أن كان من ظهوره بها وأحوازها، على عساكر الموالي، الراجعين بإمامهم
المرتضى إلى قرطبة، البادين بقتاله، والآخذين بكظمه، بما تقرر ويتقرر في اسم
المرتضى، من باب المحمدين بحول الله.
وكان زاوي كبش الحروب، وكاشف الكروب، خدم قومه شهير
الذكر أصيل المجد، المثل المضروب في الدهاء، والرأي، والشجاعة، والأنفة، والحرم.
قال بعضهم، أحكم التدبير، والدولة تسعده، والمقادر تنجده، وحكيت له في الحروب
حكايات عجيبة.
بعض أخباره في الرأيقال أبو مروان، وقد مر ذكر الفتنة
البربرية، لما خلص ملأ القوم، لتشاور أميرهم وهم فرض في خروجهم من قرطبة، عند ما
انتهوا إلى فحص هلال، واجتمعوا على التأسي، وضرب لهم زعيمهم زاوي بن زيري بن مناد الصنهاجي،
مثلا بأرماح خمسة جمعها مشدودة، ودفعها لأشد من حضره منهم، وقال، إجهد نفسك في
كسرها كما هي وأغمزها، فعالج ذلك فلم يقدر عليه، فقال له حلها وعالجها رمحاً
رمحاً، فلم يبعد عليه دقها، فأقبل على الجماعة، فقال: هذا مثلكم يا برابرة، إن جمعتم لم
تطاقوا، وإن تفرقتتم لم تبقوا، والجماعة في طلبكم، فانظروا لأنفسكم وعجلوا، فقالوا
نأخذ بالوثيقة، ولا نلقى بأيدينا إلى التهلكة، فقال هم بايعوا لهذا القرشي سليمان،
يرفع عنكم الأنفة في الرياسات، وتستميلون إليه العامة بالجنسية، ففعلوا، فلما تمت
البيعة، قال إن مثل هذا الحال لا يقوى على أهل الإستطالة، فيقيد له رئيس كل قبيله
منكم، قبيلة يتكفل السلطان بتقويمهم، وأنا الكفيل بصنهاجة، قال، وامتارت بطون القبائل
على أرحامها، وقبائلها إلى أفخاذها وفصائلها، فاجتمع كل فريق منهم على تقديم سيده،
فاجتمعت صنهاجة على كبيرها زاوي، ولم تزل تلك القبائل المتألفة بالأندلس لطاعة
أميرها، المنادين له إلى ان أورثوهم الإمارة.
التوقيع قالوا، ولما نازله المرتضى الذي أجلب به الموالي
العامريين بظاهر غرناطة، خاطبه بكتاب يدعوه فيه إليه طاعته، وأجمل موعده فيه، فلما
قرىء على زاوي قال لكاتبه، اكتب على ظهر رقعته: قل يا أيها الكافرون السورة. فلما
بلغت المرتضى أعاد عليه كتاباً يعده فيه بوعيده، فلما قرىء على زاوي، قال رد عليه:
ألها كم التكاثر إلى آخرها، فازداد المرتضى غيظاً، وناشبه القتال، فكان الظهور
لزاوي.
قال المؤرخ، واقتتلت صهناجه مع أميرهم مستميتين لما دهمهم
من بحر العساكر، على انفرادهم وقلة عددهم، إلى أن انهزم أهل الأندلس، وطاروا على
وجوههم، مسلموهم وإفرنجهم، لا يلوون على أحد، فأوقع البرابر بهم السيف، ونهبوا تلك
المحلات، واحتووا على مالا كفاء له اتساعاً وكثرة، ظل الفارس يجيء من أتباع
المنهزمين ومعه العشرة، ولا تسل عما دون ذلك من فاخر النهب، وخير الفساطيط، ومضارب
الأمراء والرؤساء.
قال ابن حيان: فحل بهذه
الوقيعة على جماعة الأندلس مصيبةٌ أنست ما قبلها، ولم يجتمع لهم جمعً بعدها وفروا
بإدبار، وباءوا بالصغار.
منصرفه عن الأندلسقال المؤرخ، ولهول ما عاينه زاوي من
اقتدار أهل الأندلس في أيام تلك الحروب وجعاجعهم، وإشرافهم على التغلب عليه، هان
سلطانه عنده بالأندلس، وخرج عنها نظراً إلى عاقبة أمره، ودعا بجماعة من قومه لذلك فعصوه،
وركب البحر بجيشه وأهله، فلحق بإفريقية وطنه. قال، فكان من أغرب الأخبار في الدولة
الحمودية انزعاج ذلك الشيخ زاوي عن سلطانه بعد ذلك الفتح العظيم الذي ناله على أهل
الأندلس، وعبوره البحر، بعد أن استأذن ابن عمه المعز بن باديس، فأذن له. وحرص بنو
عمه بالقيروان، على رجوعه لهم لحال سنه، وتقريبهم يومئذ من مثله من مشيختهم لمهلك
جميع إخوتهم، وحصوله هو على مقرر بني مناد الغريب الشأن، في أن لا تحجب عنهم
نساؤهم وكن زهاء ألف امرأة في ذلك الوقت، هن ذوات محرم من بنات أخوته وبناتهن وبين
بنيهن. وكان رحيل زاوي عن الأندلس سنة ستة عشر وأربعمائة. قال ابن حيان، وأخبار
هذا الداهية كثيرة، وأفعاله ونوادره مأثورة.
زهير العامري
فتى المنصور بن أبي عامر
حاله
كان شهماً داهية، سديد
المذهب، مؤثراً للأناة، ولي بعد خيران صاحب ألمرية، وقام بأمره أحمد قيام، سنة
تسعة عشر وأربعمائة، يوم الجمعة لثلاث خلون من جمادى الأولى. وكان أميراً بمرسية،
فوجه عند خيران حين أحس بالموت، فوصل إليه، وكان عنده إلى أن مات، فخرج زهير مع
ابن عباس إلى الناس، فقال لهم، أما الخليفة خيران فقد مات، وقد قدم أخاه زهيراً
هذا. فما تقولون: فرضي الناس به، فدامت مدة ولايته عشرة أعوان ونصف عام إلى أن قتل.
مناقبهقال أبو القاسم الغافقي، وكان حسن السيرة جميلها،
بنى المسجد في ألمرية، ودار فيه من جهاته الثلاث، المشرق والمغرب والجوف، وبني
مسجداً ببجانة، وشاور الفقهاء، وعمل بقولهم، وملك قرطبة، ودخل قصرها، يوم الأحد
لخمس بقين من شعبان سنة خمس وعشرين وأربعمائة، ودام سلطانه عليها خمسة عشر شهراً
ونصف شهر.
قال ابن عذاري، وأما زهير الفتى فامتدت أطناب مملكته من
ألمرية إلى قرطبة ونواحيها، وإلى بياسة، وإلى الفج من أول طليطلة. وقالوا: قر ما
بينه وبين باديس فأرسل باديس، إلى زهير رسوله مكاتباً مستدعياً تجديد المحالفة، فسارع
زهير، وأقبل نحوه، وضيع الحزم، واغتر بالعجب، ووثق بالكثرة. أشبه شيء بمجيء الأمير
الضخم إلى عامل من عماله قد ترك رسم الالتقاء بالنظراء وغير ذلك من وجوه الحزم
وأعرض عن ذلك كله، وأقبل ضارباً بسوطه، حتى تجاوز الحد الذي جرت العادة بالوقوف
عنده من عمل باديس دون إذنه، وصير الأوعار والمضايق خلف ظهره، فلا يفكر فيها،
واقتحم البلد، حتى صار إلى باب غرناطة.
ولما وصل خرج باديس في جمعه، وقد أنكر اقتحامه عليه،
وعده حاصلاً في قبضته، فبدأه بالجميل والتكريم، وأوسع عليه وعلى رجاله في العطاء
والقرى، والتعظيم بما مكن اغترارهم، وثبت طمأنينتهم، ووقعت المناظرة بين زهير وباديس،
ومن حضرهما من رجال دوليتهما، فنشأ بينهما عارض الخلاف لأول وهلة، وحمل زهير أمره
على التشطط، فعزم باديس على اللقاء ووافقه عليه قوم من خدامه، فأقام المراتب، ونصب
الكتائب، وقطع قنطرة لا محيد عنها لزهير، والحائن لا يشعر، وغاداه عن تعبية محكمة،
فلم يرعه إلا رجة القوم راجعين، فدهش زهير وأصحابه، إلا أنه أحسن تدبير الثبات لو
استتمه، وقام فنصب الحرب، وثبت في قلب العسكر، وقدم خليفته هذيلا في وجوه أصحابه
إلى الموالي، فلما رأتهم صنهاجة، علموا أنهم الحماة والشوكة، ومتى حصدوا لم يثبت
من وراءهم، فاختلطوا بهم، واشتد القتال، فحكم الله لأقل الطائفتين من صنهاجة ليرى قدرته،
فانهزم زهير وأصحابه وتقطعوا، وعمل السيف فيهم فمزقوا، وقتل زهير، وجهل مصرعه،
وغنم رجال باديس من المال والمرافق والأسلحة والحيلة والعدة والغلمان والخيام، ما
لا يحاط بوصفه. وكانت وفاة زهير يوم الجمعة عقب شوال، سنة تسع وعشرين وأربعمائة
بقرية ألفنت خارج غرناطة.
طلحة بن عبد العزيز
بن سعيد البلطيوسي
وأخواه أبو بكر وأبو الحسن
بنو القبطرنة يكنى أبا محمد.
حالهم
كانوا عيوناً من عيون الأدب
بالأندلس، ممن اشتهروا بالظرف، والسرو والجلالة. وقال أبو الحسن بن بسام وقد ذكر أبا
بكر منهم، فقال، أحد فرسان الكلام، وحملة السيوف والأقلام، من أسرة أصالة، وبيت
جلالة، أخذوا العلم أولا عن آخر، وورثوه كابراً عن كابر، ثلاثة كهقعة الجوزاء، وإن
أربوا عن الشهر في السنا والسناء. كتب أبو محمد عبد العزيز وأخواه عن ملك لمتونة،
ودخلوا معه غرناطة. ذكر ذلك غير واحد. واجتزأت بذكر أبي محمد، وأتبعه أخويه
اختصاراً.
شعرهمن شعر أبي محمد، قوله في الاستدعاء:
هلم إلى روضنا يا زه ... ير ولح في سماء المنى يا قمر
وفوق إلى الأنس سهم الإخا ... ء فقد عطلت قوسه والوتر
إذا لم تكن عندنا حاضراً ... فما بغصون الأماني ثمر
وقعت من القلب وقع المنى ... وحزت من العين حسن الحور
قال أبو نصر، بات مع أخويه في أيام صباه، واستطابة جنوب
الشباب وصباه، بالمنية المسماة بالبديع، وهو روض كان المتوكل يكلف بموافاته،
ويبتهج بحسن صفاته، ويقطف ريحانه وزهره، ويقف عيه إغفاءه وسهره، ويستفزه الطرب متى
ذكره، وينتهز فرص الأنس فيه روحاته وبكره، ويدير حمياه على ضفة نهره، ويخلع سره فيه
لطاعة جهره، ومعه أخواه، فطاردوا اللذات حتى أنضوها، ولبسوا برود السرور فما
نضوها، حتى صرعتهم العقار، وطلحتهم تلك الأوقار، فلما هم رداء الفجر أن يندي،
وجبين الصبح أن يبتدي، قام الوزير أبو محمد فقال:
يا شقيقي وافي الصباح بوجهه ... ستر الليل نوره وبهاؤه
فاصطبح واغتنم مسرة يومٍ ... لست تدري بما يجيء مساؤه
ثم استيقظ أخوه أبو بكر فقال:
يا أخي قم تر النسيم عليلا ... باكر الروض والمدام شمولا
في رياض تعانق الزهر فيها ... مثل ما عانق الخليل خليلا
لا تنم واغتنم مسرة يوم ... إن تحت التراب نوماً طويلا
ثم استيقظ أخوهما أبوالحسن وقد ذهب من عقله الوسن فقال:
يا صاحبي ذرا لومي ومعتبتي ... قم نصطبح قهوة من خير ما
ذخروا
وبادرا غفلة الأيام واغتنما ... فاليوم خمرٌ ويبدو في غد
خبر
وقال أبو بكر في بقرة أخذها له الرنق صاحب قلمورية، وقد
أعاد أرضه:
وأفقدنيها الرنق أما حفية ... إذا هي حفت ألفت بين وفدين
تعنفني أمي على أن رثيتها ... وأن أتبعتها الدم من عين
لها الفضل عندي أرضعتني ... وبالرغم ما بلغتني وأمي
حولين
محمد بن إسماعيل بن نصرمحمد بن إسماعيل بن فرج بن
إسماعيل بن نصر الرئيس المتوثب على الملك، وحي كرسي الإمارة، وعاقد صفقة الخسران
المبين، يكنى أبا عبد الله.
أوليته، معروفة.
حاله
: من نفاضة الجراب وغيره كان شيطاناً، ذميم الخلق، حرفوشاً، على عرف المشارقة، مترامياً للخسائس، مألفاً للدعرة والأجلاف والسوار وأولى الريب، خبيثاً كثير النكر، منغمساً في العهن، كلفاً بالأحداث، متقلباً عليهم في الطرق، خليع الرسن، ساقط الحشمة، كثير التبذل، قواد عصبة كلاب، معالجاً لأمراضها، مباشراً للصيد بهما، راجلاً في ثياب منتاب الشعر من الجلود والسوابل والأسمال، عقد له السلطان على بنته لوقوع القحط في رجال بيتهم، ونوههه بالولاية، وأركبه، وأغضى له عن موبقات تقصر به، إلى أن هلك، وحاد الأمر عن شقيق زوجه، واستقر في أخيه، وثقل على الدولة، لكراهة طلعته، وسوء الأحدوثة به، فأمر بترك المباشرة، والدخول للقلعة، وأذن له في التصرف في البلد والفحص، وأبقيت عليه النعمة، فداخل أم زوجه، وضمن لها تمام الأمر لولدها، وأمدته بالمال، فنظر من المساعير شيعةً، من كسرة الأغلاق، وقتلة الزقاق، ومختلسي البضائع، ومخيفي السابلة، واستضاف من أسافلة الدولة، من آسفته بإقصار قصد، أو مطل وعد، أو حط رتبة، أو عزل عن ولاية، فاستظهر منهم بعدد ولا، كالشقي الدليل الموروي، الغريب الطور، وإبراهيم بن أبي الفتح المنبوذ بالإضليع، قريع الجهل، ومستور العظيمة، وارتادوا عورة القلعة، فاهتدوا منها إلى ما شاءوا وتألفوا بخارج، ثم تسللوا ببطن الوادي المعروف بهداره، إلى أن لصقوا بجناح السور الصاعد، الراكبة قوسه جرية النهر، وصعدوا مساوقين جناحه المتصل بسور القلعة، وقد نقص كثير من ارتفاعه، لحدثان إصلاح فيه، فتسوروه عن سلم، ودافع بعض محاربيهم بعضاً، في استباق أدراجه، فدخلوا البلد في الثلث الأخير من ليلة الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان، عام ستين وسبعمائة، ثم استغلظوا بالمشاعل، وقتلوا نائب الملك رضواناً النصري، سايس الأمر، وبقية المشيخة، واستخرجوا السلطان الذي هو يزيفه، فنصبوه للناس، وتم الأمر، بما دل على احتقار الدنيا عند الله، وانخرط هذا الخب، في طور غريب من التنزل للسلطان، والاستخدام لأمه، والتهالك في نصحه، وخلط نفسه فيه، وتبذل في خدمته، يتولى له الأمور، ويمشي في زي الأشراط بين يديه، ويتأتى لشهواته، ويتظاهر بحراسته. ولما علم أن الأمر يشق تصيره إليه من غير واسطة، بغير انقياد الناس إليه، من غير تدريج كاده، فألطف الحيلة في مساعدته على اللذات، وإغرائه بالخبائث، وشغله بالعهر، وقتله بالشهوات المنحرفة، وجعل يترأ من دنيته وينفق بين الناس من سلع اغتيابه، ويرى الجماهير الإنكار لصنيعه، ويزين لهم الاستعاضة منه بعد ما غلظت شوكته، وضم الرجال إلى نفسه مورياً بحفظه، والاستظهار على صونه. وفي الرابع من شعبان عام أحد وستين وسبعمائة، ثار به في محل سكناه في جواره، واستجاش أولياء غدره، وكبس منزله، مداخلا للوزير المشئوم، عاقداً معه صفقة الغدر. وامتنع السلطان بالبرج الأعظم، فاستنزله وقتله، كما مر في اسم المذكور قبل، واستولى على الملك، فلم يختلف عليه اثنان، واشتغل طاغية الروم بحرب، كان بينه وبين القطالنيين، فتمالأ لمسالمته، فاغتبط الصنيع وتهنا المنحة، وتشطط على الروم في شروط غير معتادة، سامحوه بها مكيدة واستدراجاً، واجتاز أمير المسلمين المصاب بغدره إلى الأندلس، طالباً لحقه، ومبادراً إلى رد أمره، فسقط في يده، ووجه الجيش إليه بمثواه من بلد رندة، فانصرف عنها خائباً، ورجع أدراجه، يشك في النجاة، وتفرغ إليه الطاغية، ففض عليه جمه، وقد أجرت عليه شوكته وقيعةً، نصر الله فيها الدين، وأملى لهذا الوغد فلم يقله العثرة بعدها. ونازل حصونه المهتضمة واستولى على كثير منها، وحام فلم يصحر غلوة، وأكذب ما موه به من البسالة. وظهر للناس بلبس الصوف، وأظهر التوبة على سريرة دخلة، وفسق مبين، وقل ما بيده، ونفد بيت ماله، فلم يجد شيئاً يرجع إليه، من بعد ما سبك الآنية والحلية، وباع العقار لبتذيره، وسحه المال سحاً، في أبواب الأراجيف والاختلاف، والبهج بالغنا، فشرف الإنقاب إلى الفرار، وأزمع إلى الانسلال. وعندما تحرك السلطان إلى غربي مالقة، ونجع أهلها بطاعته ودخلوا في أمره، وسقط عليه الخبر. اشتمل على الذخيرة جمعاء، وهي التي لم تشتمل خزائن الملوك مطلقاً على مثلها، من الأحجار واللؤلؤ والقصب، والتف عليه الجمع المستميت، جمع الضلال ومرد الغي، وخرج عن المدينة
ليلة الأربعاء السابع عشر من جمادى
الآخرة. وصوب وجهه إلى سلطان قشتالة، مكظومٌ تجنيه، وموتور سوء جواره، من غير عهد،
إلا ما أمل من التبقي عنده من التذميم به، وضمان إتلاف الإسلام، واستباحة البلاد
والعباد بنكرته.ة الأربعاء السابع عشر من جمادى الآخرة. وصوب وجهه إلى سلطان
قشتالة، مكظومٌ تجنيه، وموتور سوء جواره، من غير عهد، إلا ما أمل من التبقي عنده
من التذميم به، وضمان إتلاف الإسلام، واستباحة البلاد والعباد بنكرته.
ولما استقر لديه نزله، تقبض عليه، وعلى شر ذمته المنيفة
على ثلاثمائة فارس من البغاة، كشيخ جنده الغربي إدريس بن عثمان بن إدريس بن عبد
الله بن عبد الحق، ومن سواه، تحصل بسببهم بيد الطاغية، كل ما تسمو إليه الآمال، من
جواد فاره، أومنطقة ثقيلة، وسلاح محلي، وجوشن رفيع، ودرع حصينة، وبلبلة منيعة،
وبيضة مذهبة، وبزة فاخرة، وصامت عتيد، وذخيرة شريفة، فتنخل منهم متولي التسور
فجعلهم أسوة رأسهم في القتل، خر بعضهم يومئذ على بعض، في القتل، وأخذتهم السيوف،
فحلوا بعد الشهرة، والتمثيل في أزقة المدينة، وإشاعة النداء في الجزيرة، ثاني رجب
من العام المؤرخ به، وركب أسوق سايرهم الأداهم، واستخلصهم الإسار، وبارد بتوجيه
رؤسهم، فنصبت من فوق العورة التي كان منها تسورهم القلعة، فمكثت بها إلى أن
استنزلت وووريت، وانقضى أمره على هذه الوتيرة مشئوماً دبيراً، لم يمتعه الله
بالنعيم، ولا هناه سكنى المحل الكريم، ولا سوغه راحة، ولا ملأه موهبة، ولا أقام
على فضله حجة، ولا أعانه على زلفة، إنما كان رئيس السراق وعريف الخراب، وإمام
الشرار، ندر يوماص في نفسه، وقد رفعت إليه امرأة من البدو تدعى أنها سرقت دارها،
قال: إن كان ليلا بعد ما سد باب الحمراء علي وعلى ناسي، فهي والله كاذبة، إذ لم
يبق سارق في الدنيا، أو في البلاد، إلا وقد تحصل خلفه، وقانا الله المحن، وثبتنا
على مستقر الرشد، ولا عاقنا عن جادة الاستقامة.
وزراء دولتهاستوزر الوزير المشئوم ممدهً في الغي، الوغد،
الجهول، المرتاش من السرقة، الحقود على عباد الله لغير علة عن سوء العاقبة،
المخالف في الأدب سنن الشريعة، البعيد عن الخير بالعادة والطبيعة، دودة القز، وبغل
طاحونة الغدر، وزق القطران، محمد بن إبراهيم بن أبي الفتح الفهري، فانطلقت يده على
الإبشار، ولسانه على الأعراض، وعينه على النظر الشزر، وصدره على التأوه والرين،
يلقى الرجال كأنه قاتل أبيه، محدقاً إلى كميه، يحترش بهما خبيئة، أو يظن بهما
رشوة، فأجاب الله دعاء المضطرين، ورغبات السائلين، وعاجله بالأخذة الرابية،
والبطشة القاضية فقبض عليه في ليلة السبت العاشر لرمضان من العام المذكور، وعلى
ابن عمه العصر فوط وعلى الحيرا من نواهض بيتهما وأنفذ الأمر بتعريضهم، فمضى حكم
الله بهذه المنية الفرعونية فيهم لا تبديل لكلمات الله، قاهر الجبابرة، وغالب
الغلاب، وجاعل العاقبة للمتقين.
واستوزر بعده، أولى الناس وأنسبهم إلى دولته، وأحقهم بمظاهرته،
المسوس الجبار اليأس والفطرة، المختبل الفكرة، القيل، المرجس، الحول، الشهير،
الضجر، محمد بن علي بن مسعود، فميا يلي الناس على طول الحمرة، وانفساح زمان
التجربة، أسوأ تدبيراً، ولا أشر معاملة، ولا أبذأ لساناً، ولا أكثر شكوى ومعاتبة،
ولا أشح يداً، ولا أجدب خواناً، من ذلك المشئوم، بنعق البوم، ينعق بما لا يسمع،
ويسرد الأكاذيب، ويسيء السمع، فيسيء الإجابة، ويقود الجيش فيعود بالخيبة، إلى أن
كان الفرار، فصحبه إلى مصرعه، وكان ممن استؤثر به القيد الثقيل، والأسر الشديد،
والعذاب الأليم، عادة بذلك عبد المالاخوينا، التي كان يحجب سمتها، زمان ترفيهه،
فقضت عليه سيء الميتة، مطرح الجثة. سترنا الله بستره ولا سلبنا في الحياة، ولا في الممات
ثوب عنايته.
كاتب سرهصاحبنا الفقيه الأهوج، قصب الريح، وشجرة الخور،
وصوت الصدى، أبو محمد عبد الحق بن عطية، المستبد بتدبير الدبير، خطاً فوق الرقاع
الجاهلة، ومسارةً في الخلوات الفاسقة، وصدعاً فوق المنابر الكبيبة، بحلة لث
الراية، ويذب عنه ذب الوالدة، ينتهي في الاعتذار عن هناته إلى الغايات القاصرة.
قضاتهشيخنا أبو البركات، قيس ليلى القضاء، المخدوع بزخرف
الدنيا على الكبرة والعناء، لطف الله به، وألهمه رشده.
شيخ الغزاة على عهده: إدريس
بن عثمان بن إدريس بن عبد الحق بن محيو، بقية بيت الدبرة ووشيجة الشجرة المجتثة،
عذب في الجملة من أهل بيته عند القبض عليهم، واستقر في القبض الأشهب من قبيله
بالمغرب، مطلق الإقطاع، مرموقاً بعين التجلة، مكنوفاً بشهرة الأب، إلى أن سعى به
إلى السلطان، نسيج وحده فارس بن علي، واستشعر البث فطار به الذعر لا يلوي عناناً،
حتى سقط بإفريقية، وعبر البحر إلى ملك برجلونة، ثم اتصل بالدولة النصرية، بين
إدالة الغدر، وإيالة الشر، فقلده الدائل مشيخة الغزاة، ونوه به، فاستراب معزله
يحيى بن عمر، ففر إلى أرض الروم حسبما يذكر في اسمه، فقام له بهذا الوظيف، ظاهر
الشهرة والأبهة، مخصوصاً منه بالتجلة، إلى أن كان ما كان من إزمانه وفراره، فوفى له
وصحبه ركابه، وقاسمه المنسجة شق الأبلة، واستقر بعد قتله أسيراً عانياً علق الدهر،
لضنانة العدو بمثله، إلى أن أفلت من دون الأغلاق، وشد الوثاق، ولحق بالمسلمين في
خبر لم يشتمل كتاب الفرج بعد الشدة على مثله، والأغراب منه، يستقر في اسمه إلماعٌ
به، ثم استقر بالمغرب معتقلا. ثم مات رحمه الله.
من كان على عهده من الملوك: وأولاً بمدينة فاس دار ملك
المغرب، السلطان، الخير، الكريم الأبوة، المودود قبل الولاية، اللين العريكة،
الشهير الفضل في الحياة، آية الله في إغراب الصنع، وإغراب الإدبار، أبو سالم
إبراهيم بن علي بن عثمان بن يعقوب بن عبد الحق، أمير المسلمين، المترجم به في حرف الألف.
ولما قتل يوم الحادي والعشرين لذي قعدة من عام اثنتين وستين، قام بالأمر بعده أخوه
المتحيل أبو عامر تاشفين بن علي إلى أواخر صفر عام ثلاثة وستين، ولحق بالبلد
الجديد، الأمير أبو محمد زيان بن الأمير أبي عبد الرحمن بن علي بن عثمان المترجم
به في بابه، ثم المتولي من عام ثمانية وستين وسبعمائة السلطان أبو فارس عمه المؤمل
للم الشعث، وضم النشر، وتجديد الأمر بحول الله، ابن السلطان الكبير المقدس، أبي
الحسن بن سعيد بن يعقوب بن عبد الحق، وهو بعد متصل الحال إلى اليوم.
وبتلمسان الأمير أبو حمو، موسى بن يوسف بن عبد الرحمن بن
يحيى ابن يغمر اسن بن زيان.
وبإفريقية الأمير الخليفة على عرفهم، إبراهيم بن أمير
المؤمنين أبي يحيى ابن حفص.
وبقشتالة، بطره بن ألهنشة بن هراندة بن شانجه المصنوع
له، ولي النعمة منه، ومستوجب الشكر من المسلمين لأجله، بإراحته منهم.
وبرغون، بطره بن شانجه.
وبرندة، مزاحمه بالملك الفخم، أمير المسلمين حقيقة،
المرتب الحق، المعقود البيعة، وصاحب الكرة، وولي حسن العاقبة، مجتث شجرته الخبيثة،
وصارخ إيالته الدنية، أبو عبد الله محمد بن أمير المسلمين أبي الحجاج، بن أمير
المسلمين أبي الوليد بن نصر.
مولدهمولد هذه النسمة المشئومة أول يوم من رجب عام اثنين
وثلاثين وسبعمائة.
وفاتهتوفي قتيلاً ممثلا به بطيلاطه، من ظاهر إشبيلية، في
ثاني من رجب عام ثلاثة وستين وسبعمائة، وسيقت رؤوس أشياعه، الغادرين مع رأسه إلى
الحضرة فصلبت بها. وفي ذلك قلت:
في غير حفظ الله من هامةٍ ... هام بها الشيطان في كل واد
لا خلفت ذكراً ولا رحمةً ... في فم إنسانٍ ولا في فؤاد
محمد بن إسماعيل بن يوسفمحمد بن إسماعيل بن فرج بن
إسماعيل بن يوسف بن محمد ابن أحمد بن خميس بن نصر الخرزجي أمير المسلمين بالأندلس
بعد أبيه رحمه الله.
أوليته: معروفة.
حاله
كان معدوداً في نبلاء الملوك،
صيانة، وعزاً وشهامة، وجمالاً، وخصلاً، عذب الشمائل، حلواً لبقاً، لو ذعياً هشاً،
سخياً، المثل المضروب به في الشجاعة المقتحمة حد التهور، حلس ظهور الخيل، وأفرس من
جال على ظهورها، لا تقع العين، وإن غصت الميادين على أدرب بركض الجياد منه، مغرماً
بالصيد عارفاً بسمات السقار وشتات الخيل، يحب الأدب، ويرتاح إلى الشعر وينبه على
العيون، ويلم بالنادرة الحارة. أخذت له البيعة يوم مهلك أبيه، وهو يوم الثلاثاء السابع
والعشرين لرجب من عام خمسة وعشرين وسبعمائة. وناله الحجب، واشتملت عليه الكفالة
إلى أن شب وظهر، وفتك بوزيره، المتغلب على ملكه، وهو غلام لم يبقل خده، فهيب شأنه،
ورهبت سطوته، وبرز لمباشرة الميادين، وارتياد المطارد، واجتلاء الوجوه، فكان ملء
العيون والصدور.
ذكاؤهحدثني القائد أبو القاسم بن الوزير عبد الله بن
عيسى وزير جده، قال، تذوكر يوماً بحضرته تباين قول المتنبي:
ألا خدد الله ورد الخدود ... وقد قدود الحسان القدود
وقول امرىء القيس:
وإن كنت قد ساءتك مني خليقةً ... فسلي ثيابي من ثيابك
تنسل
وقول إبراهيم بن سهل:
أني له من دمي المسفوك معتذراً ... أقول حملته في سفكه
تعبا
فقال رحمه الله، بديهة: بينهما ما بين نفس ملك عربي
وشاعر، ونفس يهودي تحت الذمة، وإنما تتنفس بقدر همتها، أو كلاماً هذا معناه. ولما
نازل مدينة قبرة ودخل جفنها عنوة، ونال قصبتها، ورماها بالنفط، وتغلب عليها، وهي
ما هي عند المسلمين، وعند النصارى، من الشهرة والجلالة، بادرناه نهنيه بما نسق له،
فزوي وجهه عنا، وقال، ماذا تهنونني به، كأنكم رأيتم تلك الخرقة بكذا يعني العلم
الكبير في منار إشبيلية، فعجبنا من بعد همته، ومرمى عزمه.
شجاعتهأقسم أن يغير على باب مدينة بيانة في عدة قليلة
عينها الميمن، فوقع البهت وتوقعت الفاقرة، لقرب الصريخ، ومنعة الحوزة، وكثرة
الحامية، واتصال تخوم البلاد، ووفور الفرسان بذلك الصقع، وتنخل أهل الحفاظ، وهجم
على باب الكفار نهاراً، وانتهى إلى باب المدينةن وقد برزت الحامية، وتوقع فرسان
الروم الكمناء، فأقصروا عن الإحصار، وحمى المسلمون فشد عليهم، فأعطوهم الضمة ودخلوا
أمامهم المدينة، ورمي السلطان أحد الرجال الناشبة بمزراق كان بيده محلى السنان
رفيع القيمة، وتحامل يريد الباب فمنع الإجهاز عليه، وانتزاع الرمح الذي كان يجره
خلفه، وقال اتركوه يعالج به رمحه أن كان أخطأته المنية، وقد أفلت من أنشوطة خطر
عظيم.
جهاده ومناقبهكان له وقائع في الكفار، على قلة أيامه،
وتحرك ونال البلاد، وفتح قبرة، ومقدم جيش العدو الذي بيت بظاهرها وأثخن فيه، وفتح
الله على يده مدينة باغوة، وتغلب المسلمون على حصن قشتالة، ونازل حصن قشرة بنفسه
لدى قرطبة، فكاد أن يتغلب عليه، لولا مددٌ اتصل للنصارى به. وأعظم مناقبه تخليص
جبل الفتح، وقد أخذ الطاغية بكظمه، ونازله على قرب العهد من تلك المسلمين إياه،
وناخ بكلكله، وهد بالمجانيق أسواره، فداري الطاغية، واستنزل عزمه وتحفه، ولحق في
موضع اختلاله، إلى أن صرفه عنه، وعقد له له صلحاً، ففازت به قداح الإسلام، وتخلصه
من بين ناب العدو وظفره، فكان الفتح عظيماً لا كفاء له.
بعض الأحداث في دولته: وفي
شهر المحرم من عام سبعة وعشرين وسبعمائة، نشأت بين المتغلب على دولته، وزيره، وبين
شيخ الغزاة وأمير القبائل العدوية، عثمان بن أبي العلاء، الوحشة وألحقت ربحها
السعايات، فصبت على المسلمين شؤبوب فتنة عظم فيهم أثرها معاطباً، وسئم الانصراف عن
الأندلس، فلحق بساحل ألمرية، وأحوزته المذاهب، وتحامت جواره الملوك، فداخل أهل حصن
أندرش، فدخل في طاعته، ثم استضاف إليه ما يجاوره، فأعضل الداء، وتفاقمت اللأواء،
وغامت سماء الفتنة، واستنفد خزائن الأموال المستعدة لدفاع العدو، واستلحق الشيخ أبو
سعيد عم السلطان، وقد استقر بتلمسان، فلحق به، وقام بدعوته في أخريات صفر عام سبعة
وعشرين وسبعمائة، واغتنم الطاغية فتنة المسلمين فنزل ثغربيرة، ركاب الجهاد، وشجى
العدو، فتغلب عليه، واستولى على جملة من الحصون التي تجاوره، فاتسع نطاق الخوف،
وأعيى داء الشر، وصرف إلى نظر ملك المغرب، في أخريات العام، رندة ومربلةً وما
يليهما، وترددت الرسائل بين السلطان وبين شيخ الغزاةن فأجلت الحال عن مهادنة،
ومعاودة للطاعة، فصرف أميرهم أدراجه إلى العدوة، وانتقلوا إلى سكنى وادي آش على
رسم الخدمة والحماية على شروط مقررة، وأوقع السلطان بوزيره، وأعاد الشيخ إلى محله
من حضرته، أوائل عام ثمانية وعشرين بعده، واستقدم القائد الحاجب أبا النعيم رضوان
من أعاصم حباليه قتيله، فقام بأمره أحسن قيام. وعبر البحر بنفسه بعد استقرار ملكه
في الرابع والعشرين من شهر ذي حجة من عام اثنين وثلاثين وسبعمائة، فاجتمع مع ملك
المغرب السلطان الكبير أبي الحسن بن عثمان، فأكرم نزله، وأصحبه إلى الأندلس، وحباه
بما لا يحب به ملك تقدمه، من مغربيات الخيل، وخطير الذخيرة، ومستجاد العدة، ونزل
الجيش على أثره جبل الفتح، وتوجه الحاجب أبو النعيم بأكبر إخوة السلطان، مظاهراً
على سبيل النيابة، وهيأ الله فتحه، ثم استنقاذه بلحاق السلطان، ومحاولة أمره كما
تقدم، فتم ذلك يوم الثلاثاء الثاني عشر لذي الحجة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة.
وزراء دولتهوزر له وزير أبيه، وأخذ له البيعة، وهو مثخن
بالجراحات، التي أصابته يوم الفتك بأبيه السلطان أبي الوليد، ولم ينشب أن أجهز جرح
تجاوز عظم الدماغ، بعد مصابرة ألم العلاج الشديد، حسبما يأتي في اسمه، وهو أبو
الحسن علي بن مسعود بن يحيى بن مسعود المحاربي، وترقى إلى الوزارة والحجابة وكيل
أبيه محمد بن أحمد المحروق، من أهل غرناطة، يوم الإثنين غرة شهر رمضان من عام خمسة
وعشرين وسبعمائة، ويأتي التعريف بهم. ثم اغتيل بأمره، عشي ثاني يوم من محرم فاتح
تسعة وعشرين وسبعمائة. ثم وزر له، القائد أبو عبد الله بن القائد أبي بكر عتيق بن
يحيى بن المول من وجوه الدولة، وصدور من يمت بوصله، إلى السابع عشر من رجب من
العام، ثم صرف إلى العدوة، وأقام رسم الوزارة والحجابة والنيابة، أبو النعيم مولى
أبيه، إلى آخر مدته، بعد أن التأث أمره لديه، وزاحمه بأحد المماليك المسمى بعصام
حسبما يأتي ذكره في موضعه إن شاء الله.
رئيس كتابه: كتب له كاتب أبيه قبله وأخيه بعده، شيخنا نسيج
وحده، أبو الحسن علي بن الجياب الآتي ذكره في موضعه إن شاء الله.
قضاتهاستمرت الأحكام لقاضي أبيه، أخي وزيره، الشيخ
الفقيه أبي بكر بن مسعود رحمه الله إلى عام سبعة وعشرين وسبعمائة، ووجهه رسولاً
عنه إلى ملك المغرب، فأدركته وفاته بمدينة سلا، فدفن بمقبرة سلا. رأيت قبره بها
رحمه الله. وتخلف ابنه أبا يحيى مسعود عام أحد وثلاثين وسبعمائة، وتولى الأحكام
الشرعية القاضي أبو عبد الله محمد بن يحيى بن بكر الأشعري، خاتمة الفقهاء، وصدر
العلماء، رحمة الله، فاستمرت له الأحكام إلى تمام مدة أخيه بعده.
أمهرومية اسمها علوة وكانت أحظى لداتها عند أبيه، وأم
بكره، إلى أن نزع عنها في أخريات أمره، لأمر جرته الدالة، وتأخرت وفاتها عنه إلى
مدة أخيه.
من كان على عهده من الملوك
بأقطار المسلمين والنصارى: فبفاس، السلطان الكبير، الشهير، الجواد، خدن العافية،
وحلف السعادة، وبحر الجود، وهضبة الحلم، أبو سعيد عثمان بن أبي يوسف يعقوب بن عبد
الحق الذي بذل المعروف، وقرب الصلحاء والعلماء، وأدنى مكانهم، وأعمل إشارتهم،
وأوسع بأعطيته المؤمنين المسترفدين، وعظم قدره، واشتهر في الأقطار صيته، وفشا
معروفه، وعرفت بالكف عن الدماء والحرمات عفته، إلى أن توفي يوم الجمعة الخامس
والعشرين من شهر ذي القعدة عام أحد وثلاثين وسبعمائة، ثم صار الأمر إلى ولده
السلطان، مقتفي سننه في الفضل والمجد، وصخامة السلطان، مبراً عليه، بالبأس
المرهوب، والعزم الغالب، والجد الذي لا يشوبه هزل، والاجتهاد الذي لا يتخلله راحة،
الذي بعد مداه، وأذعن لصولته عداه، واتصلت ولايته مدته، ومعظم مدة أخيه الوالي
بعده.
وبتلمسان الأمير عبد الرحمن بن موسى بن يغمر اسن، ومن
بني عبد الواد، مشيد القصور، ومروض الغروس، ومتبنك الترف، واتصل إلى تمام مدته، وصدرا
من مدة أخيه بعده.
وبتونس الأمير أبو يحيى، أبو بكر بن الأمير أبي زكريا بن
الأمير أبي إسحاق لبنة تمام قومه، وصقر الجوارح من عشه، وسابق الجياد من حلبته،
إلى تمام المدة، وصدراً كبيراً من دولة أخيه بعده.
ومن ملوك النصارى، ملك على عهده الجفرتين القنيطية
والتاكرونية، الطاغية المرهوب الشبا، المسلط على دين الهدى، ألهنشة بن هراندة بن
شانجه بن ألفتش بن هراندة، الذي احتوى على كثير من بلاد المسلمين حتى الجفرتين
واتصلت أيامه إلى أخريات أيام أخيه، وأوقع بالمسلمين على عهده، وتملك الجزيرة الخضراء
وغيرها.
وبرغون ألفنش بن جايمش بن ألفنش بن بطره بن جايمش الذي استولى
على بلنسية، ودام إلى آخر مدته، وصدراً من مدة أخيه. وقد استقصينا من العيون أقصى
ما سح به الاستقصاء، وما أغفلناه أكثر، ولله الإحاطة.
مولدهفي الثامن من شهر المحرم من عام خمسة عشر وسبعمائة.
وفاتهوإلى هذا العهد مات، وغرت عليه رؤوس الجند، من
قبائل العدوة، الصدور، وشحنت عليه القلوب غيظاً، وكان شرها لسانه، غير جزوع ولا
هياب، فربما يتكلم بملىء فيه من الوعيد الذي لا يخفى على المعتمد به، وفي ثاني يوم
من إقلاع الطاغية من الجبل، وهو يوم الأربعاء الثاني عشر من ذي حجة، وقد عزم على ركوب
البحر من ساحل مربلة، فهو مع وادي ياروا من ظاهر جبل الفتح، تخفيفاً للمؤنة،
واستعجالا للصدور، وقد أخذت على حركته المراصد، فلما توسط كمين القوم، ثاروا إليه
وهو راكب بغلا أثابه به ملك الروم، فشرعوا في عتبه بكلام غليظ، وتأنيب قبيح،
وبدأوا بوكيله فقتلوه، وعجل بعضهم بطعنه، وترامى عليه مملوك من مماليك أبيه، زنمة
من أخابيث العلوج يسمى زياناً، صونع على مباشرة الإجهاز عليه، فقضى لحينه بسفح
الربوة الماثلة، يسرة العابر للوادي ممن يقصد جبل الفتح، وتركوه بالعراء بادي
البوار، مسلوب البزة، سيء المصرع، قد عدت عليه نعمه، وأوبقه سلاحه، وأسلمه أنصاره
وحماته.
ولما فرغ القوم من مبايعة أخيه السلطان أبي الحجاج، صرفت
الوجوه يومئذ إلى دار الملك، ونقل القتيل إلى مالقة، فدفن على حاله تلك برياضٍ
تجاور منية السيد، فكانت وفاته ضحوة يوم الأربعاء الثالث عشر لذي حجة من عام ثلاث
وثلاثين وسبعمائة. وأقيمت على قبره بعد حين قبة، ونوه بقبره، وهو اليوم ماثلٌ رهن
غربةٍ، وجالب عبرة، جعلنا الله للقائه على حذر وأهبة، وبلوح الرخام الماثل عند رأسه
مكتوب: هذا قبر السلطان الأجل، الملك الهمام، الأمضى الباسل، الجواد ذي المجد
الأثيل، والملك الأصيل، المقدس، المرحوم، أبي عبد الله محمد بن السلطان الجليل،
الكبير، الرفيع، الأوحد، المجاهد، الهمام، صاحب الفتوح المسطورة، والمغازي
المشهورة، سلالة أنصار النبي صلى الله عليه وسلم، أمير المؤمنين، وناصر الدين،
الشهيد، المقدس، المرحوم أبي الوليد بن فرج، بن نصر، قدس الله روحه وبرد ضريحه.
كان مولده في الثاني لمحرم عام خمسة عشر وسبعمائة، وبويع في اليوم الذي استشهد فيه
والده رضي الله عنه السادس والعشرين لرجب عام خمسة وعشرين وسبعمائة، وتوفي رحمه
الله في الثالث عشر لذي حجة من عام ثلاثة وثلاثين وسبعمائة، فسبحان من لا يموت.
يا قبر سلطان الشجاعة والندى
... فرع الملوك الصيد أعلام الهدى
وسلالةٍ السلف الذي آثاره ... وضاحة لمن اقتدى ومن اهتدى
سلفٌ لأنصار النبي نجاره ... قد حل منه في المكارم محتدا
متوسط البيت قد أس ... سته سادة الأملاك أوحد أوحدا
بيتٌ بناه محمدون ثلاثةٌ ... من آل نصر أورثوه محمدا
أودعت وجهاً قد تهلل حسنه ... بدراً بآفاق الجلالة قد
بدا
ونداً يسح على العفاة مواهباً ... مثنى الأيادي السابغات
وموحدا
يبكيك مذعورٌ بك استعدى على ... أعدائه فسقيتهم كاس
الردى
يبكيك محتاجٌ أتاك مؤملا ... فغدا وقد شفعت يداك له
اليدا
أما سماحك فهو أسنى دية ... أما جلالك فهو أسمى مصعدا
جادت ثراك من الإلة سحابةٌ ... لرضاه عنك تجود هذا
المعهدا
وشر ما تبع هذا السلطان تواطؤ قتلته من بني أبي العلاء
وأصهارهم وسواهم من شيوخ خدامه، كالوكيل في مدة أخيه بعد، الشيخ الذهول مسافر بن
حركات وسواه، على اكتتاب عقد بعد وفاته، بأمور من القول تقدح في أصل الديانة،
وأغراض تقتضي إلى الوهن في الدين، وهنات تسوغ إراقة دمه الذي توفرت الدواعي على حياطته،
والذب عنه، تولي كبرها شيخنا أبو الحسن بن الجياب، مرتكباً منها وصمة محت على غرر
فضله إلى كثير من خدامه وممالكيه، وبعثوا بها إلى ملك المغرب، فاقتطعت جانب
التمهيل والتأخير واللبث عن الحكم، والتعليل عن السماع، وبروز الأغراض، واتباع
السيئة أمثالها. وقد كان رحمه الله من الجهاد وإقامة رسم الدين، بحيث تزل عن هذه
الهنات صفاته، وتنكر هذه المذمات صفاته وكان بمكان من العز، وإرسال السجية، ربما
عذله الشيخ في بعض الأمر، فيسجم إضجاراً وتمليحاً بإخراجه، ولم يمر إلا الزمان
اليسير، وأوقع الله بالعصبة المتمالئة عليه من أولاد عبد الله، فسفتهم رياح
النكبات، واستأصلت نعمهم أيدي النقمات، ولم تقم لهم من بعد ذلك قائمة، والله غالب
على أمره.
وتبعت هذا السلطان نفوس أهل الحرية، ممن له طبع رقيق،
وحسٌ لطيف، ووفاءٌ كريم، ممن كان بينه وبين سطوته دفاعٌ، وفي جو اعتقاده له صفاءٌ،
فصدرت مراث مؤثرة، وأقاويل للشجون مهيجة، نثبت منها يسيراً على العادة. فمن ذلك ما
نظمه الشيخ الكاتب القاضي أبو بكر بن شبرين، وكان على فصاحة ظرفه، وجمال روايته،
غراب قربه، ونائحة مأتمه، يرثيه ويعرض ببعض من حمل عليه من ناس وخدامه:
استقلا ودعاني ... ظائفاً بين المغاني
وانعما بالصبر إني ... لا أرى ما تريان
ومن قوله:
عينٌ بكى لميت غادروه ... في ثراه ملقى وقد غدروه
دفنوه ولم يصل عليه ... أحدٌ منهم ولا غسلوه
إنما مات يوم مات شهيداً ... فأقاموا رسماً ولم يقصدوه
محمد بن قيس الخزرجيمحمد بن محمد بن محمد بن يوسف بن
محمد بن أحمد بن محمد بن نصر بن قيس الخزرجي ثالث الملوك من بني نصر، يكنى أبا عبد
الله.
أوليته معروفة.
حالهكان من أعاظم أهل بيته، صيتاً وهمة، أصيل المجد،
مليح الصورة، عريق الإمارة، ميمون النقيبة، سعيد النصبة عظيم الإدراك، تهنأ العيش
مدة أبيه، وتملى السياسة في حياته، وباشر الأمور بين يديه، فجاء نسيج وحده
إدراكاً، ونبلا، وفخاراً، وشأواً. ثم تولى الأمر بعد أبيه فأجراه على ديدنه، وتقبل
سيرته، ونسج على منواله، وقد كان الدهر ضايقه في حصته، ونغصه ملاذ الملك بزمانة، سدكت
بعينيه لمداخلة السهر، ومباشرة أنوار ضخام الشمع، إذ كانت تتخذ له منها جذوع في
أجسادها مواقيت تخبر بانقضاء ساعات الليل، ومضى الربع، وعلى التزامه لكنه وغيبوبته
في كسر بيته، فقد خدمته السعود، وأملت بابه الفتوح، وسالمته الملوك، وكانت أيامه
أعياداً. وكان يقرض الشعر، ويصغي إليه، ويثيب عليه، فيجيز الشعراء، ويرضخ للندماء،
ويعرف مقادر العلماء، ويواكل الأشراف والرؤساء، ضاربا في كل إصلاح بسهم، مالئا من
كل تجربة وحنكة، حار النادرة، حسن التوقيع، مليح الخط، تغلب عليه الفظاظة والقسوة.
شعره
كان له شعر مستظرف من مثله،
لا بل يفضل به الكثير ممن ينتحل الشعر من الملوك.ووقعت على مجموع له، ألفه بعض
خدامه، فنقلب من مطولاته:
واعدني وعدا وقد أخلفا ... أقل شيء في المليح الوفا
وحال من عهدي ولم يرعه ... ما ضره لو أنه أنصفا
ما بالها لم تتعطف على ... صاحب لها ما زال مستعطفا
يستطلع الأنباء من نحوها ... ويرقب البرق إذا ما هفا
خفيت سقماً عن عيون الورى ... وبان حبي بعد ما قد خفا
لله كم من ليلةٍ بتها ... أدير من ذاك اللمى قرقفا
متعتني بالوصل منها وما ... أخلفت وعداص خلت أن يخلفا
ومنها:
ملكتك القلب وأني امرؤٌ ... على ملك الأرض قد وقفا
أوامري في الناس مسموعةٌ ... وليس مني في الورى أشرفا
يرهف سيفي في الوغى متسلطاً ... ويتقي عزمي إذا ما أرهفا
وترتجي يمناي يوم الندى ... تخالها السحب غدت وكفا
نحن ملوك الأرض من مثلنا ... حزنا تليد الفخر والطرفا
نخاف إقداماً ونرجى نداً ... لله ما أرجى وما أخوفا
لي رايةٌ في الحرب كم غادرت ... ربع العدا قاعاً بها
صفصفا
يا ليت شعري والمنى جمة ... والدهر يوماً هل يرى منصفا
هل يرتجي العبد تداينكم ... أو يصبح الدهر له مسعفا
مناقبهوأعظم مناقبه المسجد الجامع بالحمراء، على ما هو
عليه، من الظرف والتنجيد، والترقيش، وفخامة العمد، وإحكام أنوار الفضة، وإبداع
ثراها، ووقف عليه الحمام بإزائه وأنفق فيه مال الجزية، وأغرمها لمن يليه من
الكفار، فدوا به زرعاً، نهد إليه صائفته لا نتسافه، وقد أهمتهم فتنة، فظهر بها
منقبة يتيمة، ومعلوة فذة، فاق بها من تقدمه، ومن تأخره من قومه.
جهادهأغزى الجيش لأول أمره مدينة المنظر، فاستولى عليها
عنوة، وملك من احتوت عليه المدينة، ومن جملتهم الزعيمة صاحبة المدينة، من أفراد
عقائل الروم، فقدمت الحضرة في جملة السبي، نبيهة المركب، ظاهرة الملبس، رائقة
الجمال، خص بها ملك المغرب، فاتخذها لنفسه، وكان هذا الفتح عظيماً، والصيت بمزايه
عظيماً بعيداً أنشدني.
ما نقل عنه من الفظاظة والقسوة: هجم لأول أمره على طائفة
من مماليك أبيه، وكان سيء الرأي فيهم، فسجنهم في مطبق الأرى من حمرائه، وأمسك مفتاح
قفله عنده، وتوعد من يرمقهم بقوت بالقتل، فمكثوا أياما، وصارت أصواتهم تعلو بشكوى
الجوع، حتى خفتت ضعفاً بعد أن اقتات آخرهم موتاً من لحم من سبقه، وحملت الشفقة
حارساً كان برأس المطبق، على أن طرح لهم خبزاً يسيراً، تنقص أكله مع مباشرة
بلواهم، وتمنى إليه ذلك، فأمر بذبحه على حافة الجب، فسالت عليهم دماؤه وقانا الله
مصارع السوء، وما زالت المقالة عنها شنيعة، والله أعلم بجريرتهم لديه.
وزراؤهبقي على خطة الوزارة. وزير أبيه أبو سلطان عزيز بن
علي بن عبد المنعم الداني، الجاري ذكره بحول الله في محله، متبرماً بحياته إلى أن
توفي، فأنشد عند موته:
مات أبو زيد فواحسرتا ... إن لم يكن مات من جمعة
مصيبة لا غفر الله لي ... أن كنت أجريت لها دمعة
وتمادى بها أمره، يقوم بها
حاشيته، وقد ارتاح إليها متوليها بعده، المترفع بدولته، القائد الشهير، البهمة أبو
بكر بن المول. حدث قارىء العشر من القرآن بين يدي السلطان، ويعرف بابن بكرون، وكان
شيخاً متصاوناً ظريفاً، قال: عزم السلطان على تقديم هذا الرجل وزيراً، وكان
السلطان يؤثر الفال، وله في هذا المعنى وساوسٌ ملازمة، فوجه إلى الفقيه الكاتب
صاحب القلم الأعلى يومئذ، أبو عبد الله بن الحكيم المستأثر بها دونه، والمتلقف
لكرتها قبله، وخرج لي عن الأمر، وطلب مني أن أقرأ آياً يخرج فألها عن الغرض، قال فلما
غدون لشآني تلوت بعد التعوذ قوله عز وجل: " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا
بطانةً من دونكم لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم، إلى
قوله لنا " فلما فرغت الآية، سمعته حاد عن رأيه الذي كان أزمعه. وقدم للوزارة
كاتبه أبا عبد الله بن الحكيم في ذي قعدة من عام ثلاثة وسبعمائة. وصرف إليه تدبير
ملكه، فلم يلبث أن تغلب على أمره، وتقلد جميع شئونه، حسبما يأتي في موضعه إن شاء
الله.
كتابهاستقل برياسته وزيره المذكور، وكان ببابه من كتابه
جملةٌ تباهي بهم دسوت الملوك، أدباً وتفنناً وفضلاً وظرفاً، كشيخنا تلوه وولي
الرتبة الكتابية من بعده، وفاصل الخطبة على أثره. وغيره ممن يشار إليه في تضاعيف
الأسماء، كالشيخ الفقيه القاضي أبي بكر بن شبرين، والوزير الكاتب أبي عبد الله بن
عاصم، والفقيه الأديب أبي إسحاق بن جابر. والوزير الشاعر المفلق أبي عبد الله
اللوشي، من كبار القادمين عليه، والفقيه الرئيس أبي محمد الحضرمي، والقاضي الكاتب
أبي الحجاج الطرطوشي، والشاعير المكثر أبي العباس القراق وغيرهم.
قضاتهاستمرت ولاية قاضي أبيه الشيخ الفقيه أبي عبد الله
محمد بن هشام الألثي قاضي العدل، وخاتمة أولى الفضل، إلى أن توفي عام أربعة
وسبعمائة.
وتولي له القضاء، القاضي أبو جعفر أحمد بن محمد بن أحمد
بن محمد بن أحمد القرشي المنبور بابن فركون، وتقدم التعريف به، والتنبيه على فضله،
إلى آخر أيامه.
من كان على عهده من الملوك بالأقطار وأول ذلك بفاس، كان
على عهده بها، السلطان الرفيع القدر، السامي الخطر، المرهوب الشبا، المستولى في
العز وبعد الصيت على المدى، أبو يعقوب يوسف بن يعقوب المنصور، بن عبد الحق، وهو
الذي وطد الدولة المرينية، وجبا الأموال العريقة، واستأصل من تتقي شوكته من القرابة
وغيرهم، وجاز إلى الأندلس في أيام أبيه وبعده، غازياً، ثم حاصر تلمسان، وهلك عليها
في أوائل ذي قعدة عام ستة وسبعمائة، فكانت دولته إحدى وعشرين سنة وأشهراً. ثم صار
الأمر إلى حافده أبي ثابت عامر بن الأمير أبي عامر عبد الله بن يوسف بن يعقوب بعد
اختلاف وقع، ونزاع انجلى عن قتل جماعة من كبارهم منهم الأمير أبو يحيى بن السلطان
أبي يوسف، والأمير أبو سالم بن السلطان أبي يعقوب، واستمر الأمر للسلطان أبي ثابت
إلى صفر من عام ثمانية وسبعمائة، وصار الأمر إلى أخيه أبي الربيع سليمان تمام مدة
ملكه وصدرا من دولة أخيه نصر، حسبما يذكر في موضعه إن شاء الله.
وبتلمسان الأمير أبو سعيد عثمان بن يغمر اسن ثم أخوه أبو
عمران موسى، ثم ولده أبو تاشفين عبد الرحمن إلى آخر مدة أخيه.
وبتونس، السلطان الفاضل، الميمون النقيبة. المشهور
الفضيلة، أبو عبد الله محمد بن الواثق يحيى بن المستنصر أبي عبد الله بن الأمير
أبي زكريا بن أبي حفص، من أولى العفة، والنزاهة، والتؤدة والحشمة، والعقل، عني
بالصالحين، واختص بأبي محمد المرجاني، فأشار بتقويمه، وظهرت عليه بركته، وكان
يرتبط إليه، ويقف في الأمور عنده، فلم تعدم الرعية بركة ولا صلاحاً في أيامه، إلى
أن هلك في ربيع الآخر عام تسعة وسبعمائة، ووقعت بينه وبين هذا الأمير المترجم به المراسلة
والمهاداة.
وبقشتالة، هراندة بن شانجة بن أدفونش بن هراندة، المستولي
على إشبيلية وقرطبة، ومرسية، وجيان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، هلك أبوه وتركه
صغيراً، مكفولا على عادتهم، فتنفس المخنق، وانعقدت السلم، واتصل الأمان مدة أيامه،
وهلك في دولة أخيه.
وبرغون، جايمش بن ألفنش بن بطره.
الأحداث
في عام ثلاثة وسبعمائة، نقم
على قريبه الرئيس أبي الحجاج بن نصر الوالي بمدينة وادي آش، أمراً أوجب عزله عنها،
وكان مقيماً بحضرته فاتخذ الليل جملا وكان أملك بأمرها، وذاع الخبر، فاستركب
الجيش، وقد حد ما ينزل في استصلابه، وجدد الصكوك بولايته خوفاً من اشتعال الفتنة،
وقد أخذ على يديه، وأغرى أهل المدينة بحربه، فتداعوا لحين شعورهم باستعداده
وأحاطوا به، فدهموه وعاجلوه، فتغلبوا عليه، وقيد إلى بابه أسيراً مصفداً، فأمر أحد
أبناء عمه فقتله صبراً، وتملا فتحاً كبيراً، وأمن فتنة عظيمة، وفي شهر شوال من عام
خمسة وسبعمائة قرع الأسماع النبأ العظم، الغريب من تملك سبتة وحصولها في قبضته،
وانتزاعها من يد رئيسها أبي طالب عبد الله بن أبي القاسم، الرئيس الفقيه، ابن
الإمام المحدث أبي العباس العزمي حسبما يتقرر في اسم الرئيس الفقيه أبي طالب إن
بلغنا الله ذلك، واستأصل ما كان لأهلها من الذخائر والأموال، ونقل رؤساءها، وهم
عدة، إلى حضرته غرناطة في غرة المحرم من العام، فدخلوا عليه، وقد احتفل بالملك،
واستركب في الأبهة الجند، فلثموا أطرافه، واستعطفه شعراؤهم بالمنظوم من القول،
وخطباؤهم بالمنثور منه، فطمأن روعهم وسكن جأشهم، وأسكنهم في جواره، وأجرى عليهم
الأرزاق الهلالية، وتفقدهم في الفصول إلى أن كان من أمرهم ما هو معلوم.
اختلاعه في يوم عيد الفطر من عام ثمانية وسبعمائة أحيط
بهذا السلطان، وأتت الحيلة عليه، وهو مصاب بعينيه، مقعدٌ في كنه، فداخلت طائفة من
وجوه الدولة أخاه، وفتكت بوزيره الفقيه أبي عبد الله بن الحكيم،ونصبت للناس الأمير
أبا الجيوش نصراً أخاه، وكبست منزل السلطان، فأحيط به، وجعل الحرس عليه، وتسومع بالكائنة
فكان البهت، وسال من الغوغاء البحر، فتعلقوا بالحمراء، يسألون عن الحادثة، فشغلوا
بانتهاب دار الوزير، وبها من مال الله ما يفوت الوصف، وكان الفجع في إضاعته على
المسلمين، وإطلاق الأيدي الخبيثة عليه عظيماً، وفي آخر اليوم عند الفراغ من الأمر،
دخل على السلطان المخلوع، الشهداء، عليه بخلعه، بعد نقله من دار ملكه إلى دار
أخرى، فأملى رحمه الله، زعموا، وثقية خلعه، مع شغب الفكر، وعظم الداهية، وانتقل
رحمه الله بعد، إلى القصر المنسوب إلى السيد بخارج الحضرة، أقام به يسيراً، ثم نقل
إلى مدينة المنكب، وكان من أمره ما يذكر إن شاء الله.
ومما يؤثر من ظرفه، حدث من كان منوطاً به من خاصته، مدة
أيام إقامته بقصر نجد، قبل خلعه، قال: أرسل الله الأغربة على سقف القصر، وكان شديد
التطير والقلق لذلك حسبما تقدم من الإشارة إلى ذلك بحديث العشر، وكان من جملتها
غرابٌ، شديد الإلحاح، حاد النعيب والصياح، فأغرى به الرماة من مماليكه بأنواع
القسى، فأبادوا من الغربان أمة، وتخطأ الحتف ذلك الغراب الخبيث العبقان، فلما
انتقل إلى سكنى الحمراء، ظهر ذلك الغراب على سقفه، ثم لما أهبط مخلوعاً إلى قصر
شنيل تبعه، وقام في بعض السقف أمامه، فقال يخاطبه رحمه الله: يا مشئوم، يا محروم
بين الغربان، قد خلصت أمرنا، ولم يبق لك علينا طلب، ولا بيننا وبينك كلام، إرجع إلى
هؤلاء المحارم فاشتغل بهم، قال، فأضحكنا على حال الكآبة بعذوبة منطقه، وخفة روحه.
وفاتهقد تقدم ذكر استقراره بالمنكب، وفي أخريات شهر
جمادى الآخرة عام عشرة وسبعمائة، أصابت السلطان نصراً سكتةٌ، توقع منها موته، بل شك
في حياته، فوقع التفاوض الذي تمحض إلى التوجيه عن السلطان المخلوع الذي بالمنكب
ليعود إلى الأمر، فكان ذلك وأسرع إلى إيصاله إلى غرناطة في محفة، فكان حلوله بها
في رجب من العام المذكور. وكان من قدر الله، أن أفاق أخوه من مرضه، ولم يتم
للمخلوع الأمر، فنقل من الدار التي كان بها إلى دار أخيه الكبرى، فكان آخر العهد
به. ثم شاعت وفاته أوائل شوال من العام المذكور، فذكر أنه اغتيل غريقاً في البركة
في الدار المذكورة لما توقع من عادية جواره، ودفن بمقبرة السبيكة، مدفن قومه،
بجوار الغالب بالله جده، ونوه بجدثه وعليه مكتوب ما نصه:
هذا قبر السلطان الفاضل،
الإمام العادل، علم الأتقياء، أحد الملوك الصلحاء، المخبت الأواه، المجاهد في سبيل
الله، الرضي الأورع، الأخشى الله الأخشع، المراقب في السر والإعلان، المعمور الجنان
بذكره واللسان، السالك في سياسة الخلق وإقامة الحق، منهاج التقوى والرضوان، كافل
الأمة بالرأفة والحنان، الفاتح لها بفضل سيرته، وصدق سريرته، ونور بصيرته، أبواب
اليمن والأمان، المنيب الأواب، العامل ما يجده نوراً مبيناً يوم الحساب، ذي الآثار
السنية، والأعمال الطاهرة، القائم في جهاد الكفار بماضي العزم وخلص النية، المقيم
قسطاس العدل، المنير منهاج الحلم والفضل، حامي الذمار، وناصر دين المصطفى المختار،
المقتدي بأجداده الأنصار، المتوسل بفضل ما أسلفوه من أعمال البر والجهاد، ورعاية
العباد والبلاد، إلى الملك القهار، أمير المسلمين، وقامع المعتدين، المنصور بفضل الله،
أبي عبد الله، ابن أمير المسلمين الغالب بالله، السلطان الأعلى، إمام الهدى، وغمام
الندى، محيي السنة، حسن الأمة، المجاهد في سبيل الله، الناصر لدين الله، أبي عبد
الله، ابن أمير المسلمين الغالب بالله، أبي عبد الله، بن يوسف بن نصر،كرم الله
وجهه ومثواه، ونعمه برضاه. ولد رضي الله عنه يوم الأربعاء الثالث لشعبان المكرم من
عام خمسة وخمسين وستمائة. وتوفي قدس الله روحه، وبرد ضريحه، ضحوة يوم الإثنين
الثالث لشوال عام ثلاثة عشر وسبعمائة، رفعه الله إلى منازل أوليائه الأبرار،
وألحقه بأئمة الدين، لهم عقبى الدار، وصلى الله على سيدنا محمد المختار، وعلى آله،
وسلم تسليما.
ومن الجانب الآخر:
رضي الملك الأعلى يروح ويغتدي ... على قبر مولانا الإمام
المؤيد
مقر العلى والملك والبأس والندى ... فقدس من مغنى كريم
ومشهد
ومثوى الهدى والفضل والعدل والتقي ... فبورك من مثوى زكي
وملحد
فيا عجباً طود الوقار جلالة ... ثوى تحت أطباق الصفيح
المنضد
وواسطة العقد الكريم الذي له ... مآثر فخرٍ بين مثنى
وموحد
محمد الرضى سليل محمد ... إمام الندى نجل الإمام محمد
فيا نخبة الأملاك غير منازعٍ ... ويا علم الأعلام غير
مفند
بكتك بلادٌ كنت تحمي ذمارها ... بعزمٍ أصيلٍ أو برأي
مسدد
وكم معلم للدين أوضحت رسمه ... بني لك في الفردوس أرفع
مصعد
كأنك ما سست البلاد وأهلها ... بسيرة ميمون النقيبة مهتد
كأنك ما قدت الجيوش إلى العدا ... فصيرتهم نهب القنا
المتقصد
وفتحت من أقطارهم كل مبهم ... فتحت به باب النعيم المخلد
كأنك ما أنفقت عمرك في الرضى ... بتجديد غزوات وتشييد
مسجد
وإنصاف مظلومٍ وتأمين خائفٍ ... وإصراخ مذعورٍ وإسعاف
مجتد
كأنك ما احييت للخلق سنة ... تجادل عنها باللسان وباليد
كأنك ما أمضيت في الله عزمة ... تدافع فيها بالحسام
المهند
فإن تجهل الدنيا عليك وأهلها ... بذاك ثوب الله يلقاك في
غد
تعوضت ذخراً من مقام خلافة ... مقيمٍ منيبٍ خاشع متعبد
وكل الورى من كان أو هو كائنٌ ... صريع الردى إن يكن
فكأن قد
فلا زال جاراً للرسول محمد ... بدار نعيمٍ في رضى الله
سرمد
وهذي القوافي قد وفيت بنظمها ... فيا ليت شعري هل يصيخ
لمنشد
محمد بن نصر الأنصاري الخزرجيمحمد بن محمد بن يوسف بن
محمد بن أحمد بن محمد بن خميس بن نصر الأنصاري الخزرجي ثاني الملوك الغالبين من
بني نصر، وأساس أمرهم، وفحل جماعتهم
أوليتهتقرر بحول الله في اسم أبيه الآتي بعد حسب الترتيب
المشترط.
حاله
من كتاب طرفة العصر من
تأليفنا، كان هذا السلطان أوحد الملوك جلالة وصرامة، وحزماً. مهد الدولة، ووضع
ألقاب خدمتها، وقرر مراتبها، واستجاد أبطالها، وأقام رسوم الملك فيها، واستدر
جباياتها، مستظهراً على ذلك، بسعة الذرع، وأصالة السياسة، ورصانة العقل، وشدة
الأسر ووفور الدهاء، وطول الحنكة، وتملؤ التجربة، مليح الصورة، تام الخلق، بعيد
الهمة، كريم الخلق، كثير الأناة. قام بالأمر بعد أبيه، وباشره مباشرة الوزير أيام
حياته، فجرى على سنن أبيه، من اصطناع أجناسه، ومداراة عدوه، وأجرى صدقاته، وأربى
عليه بخلال، منها براعة الخط، وحسن التوقيع، وإيثار العلماء، والأطباء، والعدلين،
والحكماء، والكتاب، والشعراء، وقرض الأبيات الحسنة، وكثرة الملح، وحرارة النادرة.
وطما بحرٌ من الفتنة لأول استقرار أمره، وكثر عليه المنتزون والثوار، وارتجت
الأندلس، وسط أكلب الكفار، فصبر لزلزالها، رابط الجأش، ثابت المركز، وبذل من
الاحتيال، والدهاء، المكنوفين بجميل الصبر، ما أظفره بخلو الجو. وطال عمره، وجد
صيته، واشتهر في البلاد ذكره، وعظمت غزواته، وسيمر من ذكره ما يدل على أجل من ذلك
إن شاء الله.
شعره وتوقيعهوقفت على كثير من شعره، وهو نمطٌ منحط
بالنسبة إلى أعلام الشعراء ومستظرفٌ من الملوك والأمراء. من ذلك، يخاطب وزيره:
تذكر عزيز ليالٍ مضت ... وأعطاءنا المال بالراحتين
وقد قصدتنا ملوك الجها ... ت ومالوا إلينا من العدوتين
وإذا سأل السلم منا اللعي ... ن فلم يحظ إلى بخفي حنين
وتوقيعه يشذ عن الإحصاء، وبأيدي الناس إلى هذا العهد
كثير من ذلك، فمما كتب به على رقعة كان رافعها يسأل التصرف في بعض الشهادات ويلح
عليها:
يموت على الشهادة وهو حي ... إلهي لا تمته على الشهادة
وأطال الخط عند إلهي إشعاراً بالضراعة عند الدعاء والجد.
ويذكر أنه وقع بظهر رقعة اشتكى ضرر أحد الجند المنزلين في الدور، ونبزه بالتعرض
لزوجه: يخرج هذا النازل ولا يعوض بشيء من المنازل.
بنوهثلاثة، ولي عهده أبو عبد الله المتقدم الذكر، وفرج
المغتال أيام أخيه، ونصر الأمير بعد أخيه.
بناته:
أربع، عقد لهن، جمع أبرزهن إلى أزواجهن، من قرابتهن، تحت
أحوال ملوكية، ودنيا عريضة، وهن: فاطمة، ومؤمنة، وشمس، وعائشة. وفاطمة منهن أم
حفيده إسماعيل الذي ابتز ملك بنيه عام ثلاثة عشر وسبعمائة.
وزيرهكان وزيره، الوزير الجليل الفاضل، أبو سلطان،
لتقارب الشبه، زعموا في السن والصورة، وفضل الذات، ومتانة الدين، وصحة الطبع،
وجمال الرواء، أغنى وحسنت واسطته، ورفعت إليه الوسائل، وطرزت باسمه الأوضاع،
واتصلت إلى أيامه أيام مستوزره، ثم صدراً من أيام ولي عهده.
كتابهولي له خطة الكتابة والرياسة العليا في الإنشاء
جملةٌ، منهم كاتب أبيه أبو بكر ابن أبي عمرو اللوشي، ثم الأخوان أبو علي الحسن
والحسين، إبنا محمد بن يوسف ابن سعيد اللوشي، سبق الحسن وتلاه الحسين، وكانا
توأمين، ووفاتهما متقاربة، ثم كتب له الفقيه أبو القاسم محمد بن محمد بن العابد
الأنصاري، آخر الشيوخ، وبقية الصدور والأدباء، أقام كاتباً مدة إلى أن أبرمه
انحطاطه في هوى نفسه، وإيثاره المعاقرة، حتى زعموا أنه قاء ذات يوم بين يديه.
فأخره عن الرتبة، وأقامة في عداد كتابه إلى أن توفي تحت
رفده. وتولى الكتابة الوزير أبو عبد الله بن الحكيم، فاضطلع بها إلى آخر دولته.
قضاتهتولي له خطة القضاء، قاضي أبيه، الفقيه العدل، أبو
بكر بن محمد بن فتح الإشبيلي الملقب بالأشبرون. تولى قبل ذلك خطة السوق، فلقي سكران
أفرط في قحته، واشتد في عربدته، وحمل على الناس، فأفرجوا عنه، فاعترضه واشتد عليه
حتى تمكن منه بنفسه، واستنصر في حده، وبالغ في نكاله، واشتهر ذلك عنه، فجمع له أمر
الشرطة وخطة السوق، ثم ولي القضاء، فذهب أقصى مذاهب الصرامة، إلى أن هلك، فولي خطة
القضاء بعده الفقيه العدل أبو عبد الله محمد بن هشام من أهل ألش، لحكاية غبطت
السلطان بدينه، ودلته على محله من العدل والفضل، فاتصلت أيام قضائه إلى أيام مستقضية،
رحمه الله.
جهاده: وباشر هذا السلطان
الوقائع، فانجلت ظلماتها، عن صبح نصره، وطرزت مواقعها بطراز جلادته وصبره، فمنها
وقيعة المطران وغيرها، مما يضيق التأليف عن استقصائه. وفي شهر المحرم من عام خمسة وتسعين
وستمائة، على تفئة هلاك طاغية الروم، شانجه بن أدفونش، عاجل الكفار لحين دهشهم،
فحشد أهل الأندلس، واستنفر المسلمين، فاغتنم الداعية، وتحرك في جيش، يجر الشوك
والشجر، ونازل مدينة قيجاطة وأخذ بكظمها، ففتحها الله على يديه، وتملك بسببها جملة
من الحصون التي ترجع إليها، وكان الفتح في ذلك عظيما، وأسكنها جيشاً من المسلمين،
وطائفة من الحامية، فأشرقت العدو بريقه. وفي صائفة عام تسعة وتسعين وستمائة، نازل مدينة
القبذاق فدخل جفنها، واعتصم من تأخر أجله بقصبتها، ذات القاهرة العظيمة الشأن،
الشهيرة في البلدان، فأحيط بهم، فخذلوا وزلزل الله أقدامهم، فألقوا باليد، وكانوا
أمنع من عقاب الجو، وتملكها على حكمه، وهي من جلالة الوضع، وشهرة المنعة، وخصب الساحة،
وطيب الماء، والوصل إلى أفلاذ الكفر، والاطلاع على عوراته، بحيث شهر. فكان تيسر
فتحها من غرائب الوجود، وشواهد اللطف، وذلك في صلاة الظهر من يوم الأحد الثامن
لشهر شوال عام تسعة وتسعين وستمائة، وأسكن بها رابطة المسلمين، وباشر العمل في
خندقها بيده رحمه الله، فتساقط الناس، من ظهور دوابهم إلى العمل، فتم ما أريد منه
سريعاً.
وأنشدني شيخنا أبو الحسن الجياب بهنئه بهذا الفتح:
عدوك مقهورٌ وحزبك غالب ... وأمرك منصور وسهمك صائب
وشخصك مهما لاح للخلق أذعنت ... لهيبته عج الورى
والأعارب
وهي طويلة.
من كان على عهده من الملوك.
كان على عهده بالمغرب، السلطان الجليل، أبو يوسف يعقوب
بن عبد الحق، الملقب بالمنصور، وكان ملكاً صالحاً، ظاهر السذاجة، سليم الصدر،
مخفوض الجناح، شارعاً أبواب الدالة عليه منهم، أشبه بالشيوخ منه بالملوك، في إخمال
اللفظ، والإغضاء عن الجفوة، والنداء بالكنية. وهو الذي استولى على ملك، الموحدين، واجتث
شجرتهم من فوق الأرض، وورث سلطانهم، واجتاز إلى الأندلس، كما تقدم مرات ثلاث أو
أزيد منها، وغزا العدو، وجرت بينه وبين السلطان المترجم به أمور، من سلم ومنقاضة،
وإعتاب، وعتب، حسبما تدل على ذلك القصائد الشهيرة المتداولة، وأولها ما كتب به على
عهده، الفقيه الكاتب الصدر، أبو عمرو بن المرابط، في غرض استنفاد للجهاد:
هل من معيني في الهوى أو منجدي ... من متهم في الأرض أو
منجد
وتوفي السلطان المذكور بالجزيرة الخضراء في عنفوان وحشة
بينه وبين هذا السلطان في محرم خمسة وثمانين وستمائة، وولي بعده ولده، العظيم
الهمة، القوي العزيمة، أبو يعقوب يوسف، وجاز إلى الأندلس على عهده، واجتمع به
بظاهر مربلة، وتجدد العهد، وتأكد الود، ثم عادت الوحشة المفضية إلى تغلب، العدو على
مدينة طريف، فرضة المجاز الأدنى، واستمرت أيام السلطان أبي يعقوب إلى آخر مدة
السلطان المترجم به، ومدة ولده بعده.
وبوطن تلمسان، أبو يحيى يغمور، وهو يغمر اسن بن زيان بن
ثابت بن محمد ابن بندوسن بن طاع الله بن علي بن يمل، وهو أوحد اهل زمانه جرأة
وشهامة، ودهاء، وجزالة، وحزماً.
مواقفه في الحروب شهيرة، وكانت بينه وبين بني مرين
وقائع، كان عليه فيها الظهور، وربما ندرت الممانعة، وعلى ذلك فقوى الشكيمة، ظاهر
المنعة. ثم ولي بعده ولده عثمان إلى تمام مدة السلطان المترجم به، وبعضاً من دولة
ولده.
وبوطن إفريقية، الأمير الخليفة، أبو عبد الله بن أبي
زكريا بن أبي حفص، الملقب بالمستنصر، المثل المضروب، في البأس والأنفة، وعظم
الجبروت، وبعد الصيت، إلى أن هلك سنة أربعة وسبعين وستمائة، ثم ولده الواثق بعده،
ثم الأمير أبو إسحاق وقد تقدم ذكره. ثم كانت دولة الدعي ابن أبي عمارة المتوثب على
ملكهم، ثم دولة أبي حفص مستنقذها من يده، وهو عمر بن أبي زكريا ابن عبد الواحد، ثم
السلطان الخليفة الفاضل، الميمون النقيبة، أبو عبد الله محمد بن الواثق يحيى بن
المستنصر أبي عبد الله، بن الأمير زكريا.
وبوطن النصارى، بقشتالة،
ألفنش بن هراندة، إلى أن ثار عليه ولده شانجه، واقتضت الحال إجازة سلطان المغرب،
واستجار به، وكان من لقائه بأحواز الصخرة من كورة تاكرنا ما هو معلوم. ثم ملك بعده
ولده شانجه، واتصلت ولايته مدة أيام السلطان، وجرت بينهما خطوب إلى أن هلك عام
أربع وسبعين وستمائة. وولي بعده ولده هراندة سبعة عشر عاماً، وصار الملك إليه، وهو
صبيٌ صغير فتنفس مخنق أهل الأندلس، وغزا سلطانهم وظهر إلى آخر مدته. وبرغون، ألفنش
بن جايمش بن بطره بن جايمش المستولى على بلنسية، ثم هلك وولي بعده جايمش ولده، وهو
الذي نازل مدينة ألمرية على عهد نصرٍ ولده، واستمرت أيام حياته إلى آخر مدته. وكان
لا نظير له في الدهاء، والحزم، والقوة.
من الأحداث في أيامهعلى عهده تفاقم الشر، وأعيا داء
الفتنة، ولقحت حرب الرؤساء، الأصهار من بني إشقيلولة، فمن دونهم، وطنب سرادق
الخلاف، وأصاب الأسر وفحول الثروة الرؤساء، فكان بوادي آش الرئيسان أبو محمد وأبو
الحسن، وبمالقة وقمارش الرئيس أبو محمد عبد الله، وبقمارش: رئيس آخر هو الرئيس أبو
إسحاق، فأما الرئيس أبو محمد فهلك، وقام بأمره بمالقة، ولده، وابن أخت السلطان
المترجم به. ثم خرج عنها في سبيل الانحراف والمنابذة إلى ملك المغرب، ثم تصير
أمرها إلى السلطان، على يد واليها من بني علي. وأما الرئيسان فصابرا المضايقة،
وعزماً على النطاق والمقاطعة بوادي آش زماناً طويلاً. وكان آخر أمرهما الخروج عن
وادي آش إلى ملك المغرب: معوضين بقصر كتامة، حسبما يذكر في أسمائهم. إن بلغنا الله
إليه.
في أيامهكان جواز السلطان المجاهد أبي يوسف يعقوب بن
عبدالحق، إلى الأندلس، مغازياً ومجاهداً في سبيل الله. في أوائل عام اثنين وسبعين وستمائة،
وقد فسد ما بين سلطان النصارى وبين ابنه، واغتنم المسلمون الغرة، واستدعى سلطان
المغرب إلى الجواز، ولحق به السلطان المترجم به، وجمع مجلسه بين المنتزين عليه وبينه،
وأجلت الحال عن وحشة، وقضيت الغزاة، وآب السلطان إلى مستقره.
وفي العام بعده، كان إيقاع السلطان ملك المغرب بالزعيم، ذنوبه،
واستئصال شأفته، وحصد شوكته. ثم عبر البحر ثانية بعد رجوعه إلى العدوة، واحتل
بمدينة طريف في أوائل ربيع الأول عام سبعة وسبعين وستمائة، ونازل إشبيلية، وكان
اجتماع السلطانين بظاهر قرطبة، فاتصلت اليد، وصلحت الضمائر، ثم لم تلبث الحال أن
استحالت إلى فساد، فاستولى ملك المغرب على مالقة، بخروج المنتزي بها إليه، إلى يوم
الأربعاء التاسع والعشرين لرمضان عام سبعة وسبعين وستمائة. ثم رجعت إلى ملك الأندلس
بمداخلة من كانت بيده ولنظره، حسبما يأتي بعد إن شاء الله.
وعلى عهده نازل طاغية الروم الجزيرة الخضراء، وأخذ
بمخنقها، وأشرف على افتتاحها، فدافع الله عنها، ونفس حصارها، وأجاز الروم بحرها،
على يد الفئة القليلة من المسلمين، فعظم المنح، وأسفر الليل، وانجلت الشدة، في وسط
ربيع الأول من عام ثمانية وسبعة وسبعين وستمائة.
مولدهبغرناطة عام ثلاثة وثلاثين وستمائة، وأيام دولته
ثلاثون سنة، وشهر واحد، وستة أيام.
وفاتهمن كتاب طرفة العصر من تأليفنا في التاريخ، قال،
واستمرت الحال إلى أحد وسبعمائة، فكانت في ليلة الأحد الثامن من شهر شعبان في صلاة
العصر، وكان السلطان رحمه الله في مصلاه، متوجهاً إلى القبلة لأداء فريضته، على
أتم ما يكون عليه المسلم من الخشية والتأهب، زعموا أن شرقاً كان يعتاده لمادة كانت
تنزل من دماغه، وقد رجمت الظنون في غير ذلك لتناول عشية يومه كعكا اتخذت له بدار ولي
عهده، والله أعلم بحقيقة ذلك. ودفن منفرداً، عن مدفن سلفه، شرقي المسجد الأعظم في
الجنان المتصل بداره، ثم ثني بحافده السلطان أبي الوليد، وعزز بثالث كريم من
سلالته، وهو السلطان أبو الحجاج ابن أبي الوليد، تغمد الله جميعهم برحمته، وشملهم
بواسع مغفرته وفضله.
الجزء الثاني
محمد بن يوسف بن قصر الخزرجي
محمد بن يوسف بن إسماعيل بن فرج بن إسماعيل بن فرج بن يوسف بن قصر الخزرجي
أمير المسلمين لهذا العهد
بالأندلس، صدر الصدور، وعلم الأعلام، وخليفة الله، وعماد الإسلام، وقدوة هذا البيت
الأصيل، ونير هذا البيت الكريم، ولباب هذا المجد العظيم، ومعنى الكمال، وصورة
الفضل، وعنوان السعد، وطاير اليمن، ومحول الصنع، الذي لا تبلغ الأوصاف مداه، ولا
توفى العبارة حقه، ولا يجري النظم والنثر في ميدان ثنايه، ولا تنتهي المدائح إلى
عليائه.
أوليتهأشهر من إمتاع الضحى، مستولية على المدا، بالغلة
بالسعة بالانتساب إلى سعد بن عبادة عنان السماء، مبتجحة في جهاد العدا؛ بحالة من
ملك جزيرة الأندلس، وحسبك بها، وهي بها في أسنى المزاين والحلى، وقدماً فيه بحسب
لمن سمع ورأى.
حالههذا السلطان أيمن أهل بيته نقيبة، وأسعدهم ميلاداً
وولاية، قد جمع الله له بين حسن الصورة، واستقامة البنية، واعتدال الخلق، وصحة
الفكر، وثقوب الذهن، ونفوذ الإدراك. ولطافة المسايل، وحسن التأني؛ وجمع له من
الظرف ما لم يجمع لغيره، إلى الحلم، والأناة اللذين يحبهما الله، وسلامة الصدر،
التي هي من علامة الإيمان، ورقة الحاشية، وسرعة العبرة، والتبرين في ميدان الطهارة
والعفة، إلى ضخامة التنجد، واستجادة الآلات، والكلف بالجهاد، وثبات القدم، وقوة
الجأشئ،ِ ومشهور البسالة، وإيثار الرفق، وتوخي السداد، ونجح المحاولة. زاده الله من
فضله، وأبقى أمره في ولده، وأمتع المسلمين بعمره. ساق الله إليه الملك طواعية
واختياراً، إثر صلاة عيد الفطر على بغتة وفاة المقدس أبيه، من عام خمسة وخمسين
وسبعمائة، لمخايل الخير، ومزية السن، ومظنة البركة، وهو يافع، قريب العهد
بالمراهقة، فأنبته الله النبات الحسن، وسدل به الستر؛ وسوغ العافية، وهنأ العيش؛
فلم تشح في مدته السماء، ولا كلب الأعداء، ولا تبدلت الألقاب، ولا عونيت الشدائد،
ولا عرف الخوف، ولا فورق الخصب، إلى أن كانت عليه الحادثة، ونابه التمحيص، الذي
أكسبه الحنكة، وأفاده العبرة، فشهد بعناية الله في كف الأيدي العادية، وأخطأ ألم
السهام الراشقة، وتخييب الآمال المكايدة، وانسدال أروقة الستر والعصمة، ثم العودة،
الذي عرف الإسلام، بدار الإسلام قدرها، وتملأ عزها، ورجح وزنها، كما اختبر ضدها
فرصة الملك، وشاع العدل، وبعد الصيت، وانتشر الذكر، وفاض الخير؛ وغزر القطر، فظهرت
البركات، وتوالت الفتوح، وتخلدت الآثار. وسيرد من بيان هذه الجمل، ما يسعه الترتيب
بحول الله.
ترتيب دولته الأولىإذ هو ذو دولتين، ومسوغ ولايتين،
عززهما الله، بملك الآخرة، بعد العمر الذي يملأ صحايف البر، ويخلد حسن الذكر،
ويعرف إلى الوسيلة، ويرفع في الرفيق الأعلى الدرجة، عند الله خير وأبقى للذين
آمنوا، وعلى ربهم يتوكلون.
وزراؤه وحجابه أنتدب إلى النيابة عنه، والتشمير إلى
الحجابة ببابه، الشيخ القايد المعتمد بالتجلة، المتحول من الخدام النبهاء، المتسود
الأبوة، المخصوص بالفدح المعلى من المزية، المسلم له في خصوصية الملك والتربية،
ظهير العلم والأدب، وأمين الجد، ومولى السلف، ومفرغ الرأي إلى هذا العهد، وعقد
سفرة السلطان، وبقية رجال الكمال من مشيخة المماليك، وخيار الموالي، أبا النعيم
رضوان رحمه الله، فحمد الكل، وخلف السلطان، وأبقى الرتب، وحفظ الألقاب، وبذل الإنصاف،
وأوسع السكنف، واستدعى النصيحة، ولم يأل جهداً في حسن السيرة، وتظاهر المحض،
وأفردني بالمزية وعاملني بما يرتد عنه جسر أطرف الموالاة والصحبة، ووفى لي الكيل
الذي لا يقتضيه السن، والقربة من الاشتراك في الرتبة، والتزحزح عن الهضبة،
والاختصاص باسم الوزارة على المشهر والغيبة، والمحافظة على التشيع والقدمة، بلغ في
ذلك أقصى الغايات. مدارج التخلق المأثور عن الجلة، والتودد إلى المرة بعد المرة،
واختصصت بفوت المدة بالسلطان، فكنت المنفرد بسره دونه، ومفضي همه، وشفاء نفسه،
فيما ينكره من فتنة تقع في سيرته، أو تصير توجيه السذاجة في معاملاته، وصلاح ما
يتغير عليه من قلبه، إلى أن لحق بربه.
شيخ الغزاة ورئيس الجند الغربي لأول أمره
أقر على الغزاة شيخهم على عهد
أبيه، أبا زكريا يحيى بن عمر بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق، مطمح الطواف، وموفي
الاختيار، ولباب القوم، وبقية السلف. حزماً ودهاء، وتجربة وحنكة وجداً
وإدراكاً ناهيك من رجل فذ المنازع، غريبها، مستحق التقديم، شجاعة وأصالة، ورأياً
ومباحثة، نسابة قبيله، وأضحى قسهم، وكسرى ساستهم، إلى لطف السجية، وحسن التأني،
لغرض السلطان، وطرق التنزل للحاجات، ورقة غزل الشفاعات. وإمتاع المجلس، وثقوب
الذهن والفهم، وحسن الهيئة. وزاده خصوصية ملازمته مجلس الرفاع المعروضة. والرسل
الواردة. وسيأتي ذكره في موضعه بحول الله تعالى.
كاتب سره قمت لأول الأمر بين يديه بالوظيفة التي أسندها
إلي أبوه المولى المقدس، رحمه الله، من الوقوف على رأسه، والإمساك في التهاني
والمبايعة بيده. والكتابة والإنشاء والعرض والجواب. والخلعة والمجالسة، جامعاً بين
خدمة القلم، ولقب الوزارة، معزز الخطط برسم القيادة، مخصوصاً بالنيابة عنه في
الغيبة، على كل ما اشتمل عليه سور القلعة والحضرة، مطلق أمور الإيالة، محكماً في
أشتاته تحيكم الأمانة، مطلق الجراية، ظاهر الجاه والنعمة. ثم تضاعف العز، وتأكد
الرعي، وتمحض القرب، فنقلني من جلسة المواجهة، إلى صف الوزارة؛ وعاملني بما لا
مزيد عليه من العناية، وأحلني المحل الذي لا فوقه في الخصوصية، كافأ الله فضله،
وشكر رعيه، وأعلى محله عنده.
وأصدر لي هذا الظهير لثاني يوم ولايته: هذا ظهير كريم،
صفي شربه. وسفرني في الرسالة عنه، إلى السلطان، الخليفة الإمام، ملك المغرب، وما
إليه من البلاد الإفريقية، أبي عنان، حسبما يأتي ذكره. ثم أعفاني في هذه المدة
الأولى، عن كثير من الخدمة، ونوه بي عن مباشرة العرض بين يديه بالجملة، فاخترت
للكل والبدلة، وما صان عنه في سبيل التجلة، وإن كان منتهي أطوار الرفعة، الفقيه
أبا محمد بن عطية، مستنزلاً عن قضاه وادي آش وخطابتها، فكان يتولى ما يكتب بنظري،
وراجعاً لحكمى، ومتردداً لبالي، مكفي المؤنة في سبيل الحمل الكلي، إلى وقوع
الحادثة، ونفوذ المشيئة بتحويل الدولة.
قضاته حدد أحكام القضاء والخطابة لقاضي أبيه الشيخ
الأستاذ الشريف، نسيج وحده، وفريد دهره، إغراباً في الوقار، وحسن السمت وأصالة البيت،
وتبحراً في علوم اللسان، وإجهازاً في فصل القضايا، وانفراداً ببلاغة الخطبة،
وسبقاً في ميدان الدهاء والرجاحة، أبي القاسم محمد بن أحمد بن محمد الحسني، الجانح
إلى الإيالة النصرية من مدينة سبتة. وسيأتي التعريف به في مكانه إن شاء الله.
وتوفي رحمه الله بين يدي حدوث الحادثة، فأرجئ الأمر بمكانه، إلى قدوم متلفق الكرة،
ومتعاور تلك الخطة، الشيخ الفقيه القاضي، أبي البركات قاضي أبيه. ووليها الأحق بها
بعده، إذ كان غايباً في السفارة عنه، فوقع التمحيص قبل إبرام الأمر على حال
الإستنابة.
الملوك على عهده وأولهم بالمغرب، السلطان، الإمام، أمير
المسلمين، أبو عنان ابن أمير المسلمين أبي الحسن بن أمير المسلمين أبي سعيد بن
أمير المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، البعيد الشأو في ميدان السعادة،
والمصمى أغراض السداد، ومعظم الظفر، ومخول الموهبة، المستولي على آماد الكمال،
عقلاً وفضلاً وأبهةً ورواءاً، وخطاً وبلاغة، وحفظاً وذكاء وفهماً وأقداماًً، تغمده
الله برحمته، بعثني إلى بابه رسولاً على إثر بيعته، وتمام أمره، وخاطباً إثره ووده،
مسترفداً من منحة قبوله، فألفيت بشراً مبذولا، ورفداً ممنوحاً، وعزاً باذخاً، يضيق
الزمان عن جلالته، وتقصر الألسنة عن كنه وصفه، فكان دخولي عليه في الثامن والعشرين
من شهر ذي قعدة عام خمسة وخمسين المذكور، وأنشدته بين يدي المخاطبة، ومضمن الرسالة:
خليفة الله ساعد القدر ... علاك ما لاح في الدجا قمر
فأحسب وكفى، واحتفل واحتفى،
وأفضت بين يدي كرمته، إلى الحضور معه في بعض المواضع المطلة على مورد وحب. هاج به
الخدام أسداً، أرود، شئن الكفين مشعر اللبدة، حتى مرق عن تابوت خشبي كان مسجونا
به، من بعد إقلاعه، من بعض كواه، وأثارته من خلقه، واستشاط وتوقد بأساً. وجلب ثور
عبل الشوى، منتصب المروى، يقدمه صوار من الجواميس، فقربت الخطا، وحميت الوغى، وبلغ
الزئير والجوار ما شاء، في موقف من ميلاد الشيم العلي يخشى الجبان مقارعة العدا،
ويوطن نفسه الشجاع على ملاقة الردى، وخار الأسد عن المبارزة، لما بلغ منه ثقافاً
عن رد المناوشة، ومضطلعاً بأعباء المحاملة، فتخطاه إلى طائفة من الرجالة، أولى عدة،
وذوي دربة، حمل نفسه متطارحاً كشهاب الرجم، وسرك الدجا، وأخذته رماحهم بإبادته،
بعد أن أردى بعضهم، وجدل بين يدي السلطان، متخبطا في دمه. وعرض بعض الحاضرين،
وأغرى بالنظم في ذلك، فأنشدته:
أنعام أرضك تقهر الآسادا ... طبعاً كسا الأرواح
والأجسادا
وخصايص لله بث ضروبها ... في الخلق ساد لأجلها من سادا
إن الفضايل في حماك بضايع ... لم تخش من بعد النفاق
كسادا
كان الهزبر محارباً فجزيته ... بجزاء من في الأرض رام
فسادا
فابغ المزيد من آلايه بشكره ... وأرغم بما خولته الحسادا
فستحسن تأتى القريحة، وإمكان البديهة، مع قيد الصفة،
وهيبة المجلس. وكان الانصراف بأفضل ما عاد به سفير، من واد أصيل، وإمداد موهوب،
ومهاداة أثيرة وقطار مجنوب، وصامت محمول، وطعمة مسوغة. وكان الوصول في وسط محرم من
عام ست وخمسين وسبع ماية، وقد نجح السعي، وأثمر الجهد، وصدقت المخيلة، وقد تضمن رحلى
الوجهة، والأخرى قبلها جزء. والحمد لله الذي له الحمد في الأولى والآخرة. وتوفى
زعموا بحيلة، وقيل حتف أنفه، لما نهكه المرض، وشاع عنه الإرجاف، وتنازع ببابه
الوزراء، وتسابق إلى بابه الأبناء. وخاف مدبر أمره، عايدة ملامته، على توقع برئه،
وكان سيفه يسبق على سوطه، والقبر أقرب إلى من تعرض لعتبه من سجنه، فقضى موضع هذا
السبيل خاتمة الملوك الجلة، من أهل بيته. جدد الملك، وحفظ الرسوم، وأجرى الألقاب،
وأغلظ العقاب، وصير إيالته أضيق من الخد. وأمد الأندلس، وهزم الأضداد، وخلد الآثار،
وبنى المدارس والزوايا، واستجلب الأعلام. وتحرك إلى تلمسان فاستضافها إلى إيالته،
ثم ألحق بها قسنطينة وبجاية، وجهز أسطوله إلى تونس، فدخلها وتملكها ثقاته في رمضان
عام ثمانية وخمسين وسبعمائة، واستمرت بها دعوته إلى ذي قعدة من العام، رحمة الله
عليه. وكانت وفاته في الرابع عشر لذي حجة من عام تسع وخمسين وسبعمائة. وصار الأمر
إلى ولده المسمى بالسعيد، المكنى بأبي بكر، مختار وزيره ابن عمر الفدووي. ورام ضبط
الإيالة المشرقية فأعياه ذلك، وبايع الجيش الموجه إليها منصور بن سليمان، ولجأ
الوزير وسلطانه إلى البلد الجديد، مثوى الخلافة المرينية، فكان أملك بها. ونازله
منصور بن سليمان، ثم استفضى إليه أمر البلد لحزم الوزير وقوة شكيمته. وغادر
السلطان أبو سالم إبراهيم بن السلطان أبي الحسن أخو الهالك السلطان أبي عنان
الأنلسي، وقد كان استقر بها بإبعاد أخيه إياه عن المغرب، كما تقدم في اسمه، فطلع
على الوطن الغربي بإعانة من ملك النصارى، عانى فيها هولاً كثيراً، واستقر بآخرة بعد
إخفاق شيعته المراكشيةِ، بساحل طنجة، مستدعي ممن بجبال غمارة، ودخلت سبتة وطنجة في
طاعته. وفر الناس عن منصور بن سليمان، ضربة لازب، وتقبض عليه وعلى ابنه، فقتلا
صبراً، نفعهما الله. وتملك السلطان أبو سالم المدينة البيضاء يوم الخميس عشر
لشعبان عام ستين وسبعمائة، بنزول الوزير وسلطانه عنها إليه. ثم دالت الدولة. وكان
من لحاق السلطان برندة، واستعانته على رد ملكه ما يأتي في محله، والبقاء لله
سبحانه.
وبتلمسان السلطان أبو حمو موسى بن يوسف بن يحيى بن عبد
الرحمن بن يغمراس بن زيان، قريب العهد باسترجاعها، لأول أيام السعيد.