الاحاطة 3.
مجلد 3. كتاب : الإحاطة في أخبار
غرناطة
المؤلف : لسان الدين ابن الخطيب
وبتونس الأمير إبراهيم بن
الأمير أبي بكر بن الأمير أبي حفص بن الأمير أبي بكر ين أبي حفص بن إبراهيم بن أبي
زكريا يحيى بن عبد الواجد، لنظر الشيخ رأس الدولة، وبقية الفضلاء، الشهير الذكر،
الشائع الفضل، المعروف السياسة، أبي محمد عبد الله بن أحمد بن تأفراقين. تحت
مضايقة من عرب الوطن.
ومن ملوك النصارى بقشتالة، بطره بن ألهنشة بن هراندة بن شانجه
بن ألفنش بن هراندة، إلى الأربعين، وهو كما اجتمع وجهه، تولى الملك على أخريات
أيام أبيه في محرم عام أحد وخمسين وسبعمائة. وعقد معه سلم على بلاد المسلمين. ثم
استمر ذلك بعد وفاته في دولة ولداه المترجم به، وغمرت الروم. وألقت العصا، وأغضت
القضاء، وأجالت على الكثير من الكبار الردى، بما كان من إخافته ساير إخواته لأبيه،
من خاصته، العجلة الغالبة على هواه، فنبذوه على سوء بعد قتلهم أمهم، وانتزوا عليه
بأقطار غرسهم فيها أبوهم قبل موته بمرعية أمهم. وسلك لأول أمره سيرة أبيه في عدوله
عن عهوده بمكابيه لمنصبه، إلى اختصاص عجلة، أنف بحراه كبار قومه، من أجل ضياع بذره
وانقراض عقبه، فمال الخوارج عليه، ودبروا القبض عليه، وتحصل في أنشوطة، يقضي أمره بها
إلى مطاولة عقله أو عاجل خلع، لولا أنه أفلت وتخلص من شراراها. فاضطره ذلك إلى صلة
السلم، وهو الآن بالحالة الموصوفة.
الأحداث في أيامه لم يحدث في أيامه حدث إلا العافية
المسحة والهدنة المتصلة، والأفراح المتجددة، والأمنة المستحكمة، والسلم المنعقدة.
وفي آخر جمادى عام ست وخمسين وسبعمائة لحق بجبل الفتح فشمم شعبته، وأبر متبوته،
كان على ثغره العزيز على المسلمين، من لدن افتتاحه، الموسوم الخطة، المخصوص بمزية
تشييده، عيسى بن الحسن بن أبي منديل، بقية الشيوخ أولي الأصالة والدهاء، والتزيي
بزي الخير، والمثل الساير في الانسلاخ من آية السعادة، والإغراق في سوء العقبى.
والله غالب على أمره، فكان أملك بمصامه، وقر عينه بلقاء ولده، والتمتع منه بجواد عتيق.
ملي من خلال السياسة، أرداه سوء الحظ، وشؤم النصبة، وأظلم ما بينه وبين سلطانه،
مسوغه برداء العافية على تفه صغر، وملبسه رداء العفة على قدح الأمور، أبدى منها
الخوف على ولده، وعرض ديسم عزمه، على ذوبان الجبل، فاتحطوا في هواه، وغروه بكاذب
عصبة، فأظهر الامتناع سادس ذي قعدة من العام المذكور، واتصلت الأخبار، وساءت
الظنون، وضاقت الصدور، ونكست الرؤوس لتوقع الفاقرة، بانسداد باب الصريخ. وانبتات
سبب النصرة. وانبعاث طمع العدو واتحطت الأطماع في استرجاعه واستقالته، لمكان
حصانته، وسمو الذروة، ووفور العدة، ووجود الطعمة، وأخذه بتلاشي الفرصة. ثم ردفت
الأخبار بخروج جيشه صحبة ولده إلى منازلة أشتبونة، وإخفاق أمله فيها. وامتساك
أهلها بالدعوة، وانتصافهم من الطائفة العادية؛ فبودر إليها من مالقة بالعدد. وخوطب
السلطان من ملك المغرب أيده الله بالجلية، فتحققت المنابذة، واستقرت الظنون. وفي الخامس
والعشرين من شهر ذي قعدة، ثار به أهل الجبل وتبرأ منه أشياعه، وخذلوه بالفرار،
فأخذت شعابه ونقابه، فكر راجعاً أدراجه إلى القاعدة الكبيرة. وقد أعجله الأمر،
وحملته الطمأنينة على إغفال الاستعداد بها. وكوثر فألقى به، وقد لحق به بعض
الأساطيل بسبتة. لداعي تسور توطي على إمارته، فقيد هو وأبنه، وخيض بهما البحر
للحين: ولم ينتطح فيها عنزان، رحمه الله، سنام فئة ألقت بركها، وأناخت بكلكلها،
وقد قدر أنها واقعة، ليس لها من دون الله كاشفة، فقد كان من بالجبل برموا على
إيالة ذينك المرتسمين.
وألقوا أجوارها، وأعطوهما الصفقة، بما أطمعهما في
الثورة، ولكل أجل كتاب. واحتمل إلى الباب السلطاني بمدينة فاس، وبرز الناس إلى
مباشرة إيصالهما مجلوبين في منصة الشهرة، مرفوعين في هضبة المثلة. ثم أمضى السلطان
فيهما حكم الفساد، بعد أيام الحرابة، فقتل أشيخ بخارج باب السمارين من البلد
الجديد. بأيدي قرابته، فكان كما قال الأول:
أضحت رماح بني أبيه تنوشه ... لله أرحام هناك تشقق
وقطهن رجل الولد ويده. بعد
طول عمل وسوء تناول، ولم ينشب أن استنفذه حمامه فأضحى عبرة في سرعة انقلاب حالهما
من الأمور الحميدة، حسن طلعة، وذياع حمد، وفضل شهرة. واستفاضة خيرية، ونباهة بيت،
وأصالة عز، إلى ضد هذه الخلال، وقانا الله مصارع السوء، ولا سلب عنا جلباب الستر
والعافية.
وسد السلطان ثغر الجبل بآخر من ولده اسمه السعيد، وكنيته
أبو بكر، فلحق به في العشر الأول من المحرم من عام سبعة وخمسين وسبعمائة، ورتب له
بطانته، وقدر له أمره، وسوغه رزقاً رغداً، وعيشاً خفضاً. وبادر السلطان المترجم
له، إلى توجيه رسوله؛ قاضياً حقه، مقرر السرور بجواره، وأتبع ذلك ما يليق من الحال
من بر ومهاداة ونزل، وتعقبت بعد أيام المكافآت، فاستحكم الود، وتحسنت الألفة إلى هذا
العهد. والله ولي توفيقهم ومسني الخير والخيرة على أيديهم.
الحادثة التي جرت عليه
واستمرت أيامه كأحسن أيام
الدول، خفض عيش، وتوالى خصب، وشياع أمن، إلا أن شيخ الدولة القايد أبا النعيم رحمه
الله، أضاع الحزم. وإذا أراد الله إنفاذ قضايه وقدره، سلب ذوي العقول عقولهم، بما
كان من أمنه جانب القصر الملزم دار سكناه، من علية فيها أخو السلطان، بتهاونه يحيل
أمه المداخلة في تحويل الأمر إليه، جملة من الأشرار، دار أمرهم على زوج ابنتها
اللائيس محمد بن إسماعيل بن فرج من القرابة الأخلاف، وإبراهيم بن أبي الفتح.
والدليل الموروري. وأمدته بالمال، فداخل القوم جملة من فرسان القيود، وعمرة
السجون، وقلاميد الأسوار. وكانت تتردد إليه في سبيل زيارة بنتها الساكنة في عصمة هذا
الخبيث، المنزوع العصمة، خارج القلعة حتى تم يوم الأربعاء الثامن والعشرين لرمضان
من العام، اجتمعوا وقد خفى أمرهم، وقد تألفوا عددا يناهز الماية بالقوس الداخل من
وادي هداره إلى البلد، لصق الجناح الصاعد منه إلى الحمراء، وكان بسورها ثلم، لم
يتم ما شرعوا فيه من إصلاحه؛ فنصبوا سلماً أعد لذلك، وصعدوا منه. ولما استوفوا،
قصدوا الباب المضاع المسلحة، للثقة بما قبل؛ فلما تجاوزوه أعلنوا بالصياح،
واستغلظوا بالتهويل. وراعوا الناس بالاستكثار من مشاعل الخلفاء، فقصدت طايفة منهم
دار الشيخ القايد أبي النعيم؛ فاقتحمته غلاباً وكسرت أبوابه؛ وقتلته في مضجعه،
وبين أهله وولده، وأنتهبت ما وجدت به. وقصدت الأخرى دار الأمير، الذي قامت بدعوته،
فاستنجزته واستولت على الأمر. وكان السلطان متحولاً بأهله إلى سكني جنة العريف
خارج القلعة، فلما طرقه النبأ، وقرعت سمعه الطبول سدده الله؛ وساند أمره في حال الحيرة،
إلى امتطاء جواد كان مرتبطاً عنده في ثياب تبذله ومصاحباً لأفراد من ناسه؛ وطار
على وجهه، فلحق بوادي آش قبل سبوق نكبته، وطرق مكانه بأثر ذلك، فلم يلف فيه، واتبع
فاعيا المتبع. ومن الغد، استقام الأمر لأولي الثورة، واستكملوا لصاحبهم أمر
البيعة، وخاطبوا البلاد فألقت إلى صاحبهم أمر البيعة، وخاطبوا البلاد فألقت إلى
صاحبهم بالأزمة، وأرسلوا إلى ملك النصارى في عقد الصلح. وشرعوا في منازلة وادي أش،
بعد أنثبت أهلها مع المعتصم بها، فلازمته المحلات وولي عليه التضييق. وخيف فوات
البدر ونفاد القوة، فشرع السلطان في النظر نفسه، وخاطب السلطان أبا سالم ملك
المغرب في شأن القدوم عليه، فتلقاه بالقبول وبعث من يمهد الحيث في شأنه، فتم ذلك
ثاني يوم عيد النحر من العام. وكنت عند الحادثة على السلطان، ساكناً بجننتي المنسوبة
إلي من الحضرة، منتقلاً إليها بجملتي، عادة المترفين، إذ ذاك من مثلي، فتخطائى الحتف،
ونالتني النكبة، فاستأصلت النعمة العريضة، والجدة الشهيرة، فما ابتقت طارفاً ولا
تليداً، ولا ذرت قديماً ولا حديثاً، والحمد لله مخفف الحساب، وموقظ أولي الألباب،
ولطف الله بأن تعطف السلطان بالمغرب إلى شفاعة بي بخطه، وجعل أمري من فصول قصده.
ففكت عني أصابع الأعداء، واستخلصت من أنيابهم، ولحقت بالسلطان بوادي آش. فذهب
البأس، واجتمع الشمل.
وكان رحيل الجميع ثاني عيد النحر المذكور، فكان النزول
بفحص ألفنت، ثم الانتقال إلى لوشة، ثم إلى أنتقيه، ثم إلى ذكوان، ثم إلى مربلة يضم
أهل كل محل من هذه مأتماً للحسرة، ومناحة للفرقة. وكان ركوب البحر صحوة الرابع والعشرين
من الشهر، والاستقرار بمدينة سبتة، وكفى بالسلامة غنما، والأرض لله يورثها من يشاء
من عباده، والعاقبة للمتقين.
وكان الرحيل إلى باب السلطان، تحت بر لا تسعه العبارة،
ولقاؤنا إياه بظاهر البلد الجديد لإلمام ألم عاقه عن الإصحار والتغني على البعد،
يوم الخميس السادس لمحرم من عام أحد وستين بعده. في مركب هايل، واحتفال رايع رايق،
فعورض فيه النزول عن الصهوات، والبر اللايق بمناصب الملوك، والوصول إلى الدار
السلطانية، والطعام الجامع للطبقات وشيوخ القبيل. وقمت يومئذ فوق رأس السلطان وبين
يدي مؤمله، فأنشدته مغرياً بنصره، كالوسيلة بقولي:
سلا هل لديها من مخبرة ذكر ... وهل أعشب الوادي ونم به
الزهر
فهاج الامتعاض، وسالت
العبرات، وكان يوماً مشهوداً، وموقفاً مشهوراً، طال به الحديث، وعمرت به النوادي،
وتوزعتنا النزايل على الأمل، شكر الله ذلك وكتبه لأهله، يوم الافتقار إلى رحمته.
واستمرت الأيام، ودالت الدولة للرئيس بالأندلس، والسلطان تغلبه المواعيد، وتونسه
الآمال، والأسباب تتوفر، والبواعث تتأكد. وإذا أراد الله أمراً هيأ أسبابه، واستقرت
بي الدار بمدينة سلا، مرابطاًن مستمتعاً بالغيبة، تحت نعمة كبيرة، وإعفاء من
التكليف.
وفي اليوم السابع لشوال من عام التاريخ، قعد السلطان
بقبة العرض بظاهر جنة المصارة لتشييعه، بعد اتخاذ ما يصلح لذلك؛ من آلة وحلية، وقد
برز الخلق، لمشاهدة ذلك الموقف المسيل للدموع، الباعث للرقة. المتبع بالدعوات، لما
قذف الله في القلوب من الرحمة، وصحبه به في التغرب من العناية، فلم تنب عنه عين،
ولا حمل له موكب، ولا تقلصت عنه هيبة، ولا فارقته حشمة، كان الله له في الدنيا
الآخرة. وأجاز، واضطربت الأحوال. بما كان من هلاك معينه السلطان أبي سالم، وغدر
الخبيث المؤتمن على قلعته به، عمر بن عبد الله بن علي، صعر الله حزبه، وخلد خزيه،
وسقط في يده، إلا أنه ثبتت في رندة من إيالة الأندلس، الراجعة إلى إيالة المغرب،
قدمه، فتعلل بها، وارتاش بسببها، إلى أن فتح الله عليه، وسدد عزمه، وأراه لما ضعفت
الحيل صنعه، فتحرك إلى بر مالقة، وقد فغر عليها العدو فمه، ثم أقبل على مالقة،
مستميتاً دونها، فسهل الله الصعب، وأنجح القصد، واستولى عليها، وأنثالت عليه
لحيتها البلاد، وبدا الريس المتوثب على الحضرة، بعد أن استوعب الذخيرة والعدة، في
جملة ضخمة ممن خاف على نفسه، لو وفى بذمة الغادر وعهده، واستقر بنادي صاحب قشتالة،
فأخذه بجريرته، وحكم الحيلة في جنايته وغدره، وألحق به من شاركه في التسور من
شيعته، ووجه إلى السلطان بؤوسهم تبع رأسه. وحث السلطان أسعده الله خطاه إلى
الحضرة، يتلقاه الناس، مستبشرين، وتتزاحم عليه أفواجهم مستقبلين مستغفرين، وأحق
الله الحق بكلماته، وقطع دابر الكافرين.
وكان دخول السلطان دار ملكه، وعوده إلى أريكة سلطانه،
وحلوله بمجلس أبيه وجده، زوال يوم السبت الموفي عشرين لجمادى الثانية من عام ثلاثة
وستين وسبعمائة، وجعلنا الله من هم الدنيا على حذر، وألهمنا لما يخلص عنده من قول
وعمل. وتخلف الأمير وولده بكره، أسعده الله، بمدينة فاس فيمن معه من جملة، وخلفه
من حاشية. ولد المستولي على ملك المغرب في إمساكه إلى أن يسترجع رندة في معارضة
هدفه. ثم إن الله جمع لأبيه بجمع شمله، وتمم المقاصد بما عمه من سعده. وكان وصولي
إليه معه، في محمل اليمن والعافية، وعلى كسر التيسير من الله والعناية يوم السبت
الموفي عشرين شعبان عام ثلاثة وستين وسبعمائة.
ترتيب الدولة الثانية السعيدة الدور إلى بيعة الكورهنأ
المسلمين ببركتها الوافرة، ومزاياها المتكاثرة. السلطان أيده الله قد مر ذكره،
ويسر الله من ذلك ما تيسر.
وزراؤه
اقتضى حزمه إغفال هذا الرسم جملة، مع ضرورته في السياسة، وعظم الدخول، حذراً من انبعاث المكروه له من قبله، وإن كان قدم بهذا اللقب في طريق منصرفه إلى الأندلس، وإياماً من مقامه برندة، فنحله عن كره، علي بن يوسف بن كماشة، من عتاق خدامه وخدام أبيه، مستصحباً إياه، مسدول التجمل على باطن نفرة، مختوم الجرم، على شوكه، في حطبه في حبل المتغلب، وإقراضه السيئة من الحسنة، والمنزل الخشن، إلى الإنفاق منه على الخلال الذميمة، ترأسها خاصة الشوم، علاوة على حمل الشيخ الغريب الأخبار، والطمع في أرزاق الدور، والاسترابة بمودة الأب، وضيق العطن، وقصر الباب، وعي اللسان، ومشهور الجبن. ولما وقع القبض، وساء الظن، بعثه من رندة إلى الباب المريني ليخلى منه جنده، ويجس مرض الأيام، بعد أن نقل من الخطة كعبه، فتيسر بعد منصرفه الأمر، وتسني الفتح. وحمله الجشع الفاضح، والهوى المتبع، على التشطط لنفسه، والكدح لخويصته بما أقطعه الجفوة، وعسر عليه العودة على السلطان بولده، إلى أن بلغ الخبر برجوع أمره، ودخول البلاد في طاعته. فألقى ما تعين إليه، وأهوى به الطمع البالغ في عرش الدولة، ويرتاش في ريق انتقامها. وتحرك وراية الإخفاق خافقة على رأسه، قطب مخلصه، وجوجوة عوده، من شيخ تدور بين فتكه رحى جعجعة، وتثور بين أضلاعه حية مكيدة، وينعق فوق مساعيه غراب شوم وطيرة، وحدث حرفاؤه صرفاً من مداخلة سلطان قشتالة، أيام هذه المجاورة، فبلغ أمنيته من ضرب وعد، واقتنا عهد، واتخاذ مدد، وترصيد دار قرار، موهماً نفسه البقاء والتعمير والتملي، وانفساح المدة والأمر، وقيادة الدجن عند تحول الموطن لملة الكفر، يسمح لذلك لنقصان عقله، وقلة حيائه وضعف غيرته. وطوى المراحل، وقيض حمى تزلزل لها فكاه، أضلها الحسرة، وانتزاء الخبائث. وتلقاه بمالقة، إيعاز السلطان بالإقامة بها، لما يتصل به من سوء تصريفه، ثم أطلع شافع الحياء في استقامة وطنه طوق عتبه، وصرفه إلى منزله، ناظراً في علاج مرضه. ثم لما أفاق وقفه دون حده، ولم يسند إليه شيئاً من أموره، فشرع في ديدنه من الفساد عليه، وقرس سلطان قشتالة، شاكياً إليه بثه، وأضجر لسكني باديته بالثغر، فراب السلطان أمره، وأهمه شأنه، فتقبض عليه وعلى ولده، وصرفا في جملة من دائرة السوء ممن ثقلت وطأته، فغربوا إلى تونس، أوايل شهر رمضان من عام ثلاثة وستين. ثم لما قفل من الحج، واستقر ببجاية يريد المفرب، حن إلى جوار النصانية، التي ريم سلفه العبودية إليها، فعبر البحر إلى برجلونه، ينفض عناء طريق الحج على الصلبان، ويقفو على آثار تقبيل الحجر الأسود، تقبيل أيدي الكفار. ثم قصد باب المغرب رسولاً عن طاغية برجلونه في سبيل فساد على المسلمين، فلم ينجح فيه قصده، فتقاعد لما خسر فيه ضمائه، وصرف وكره إلى الاتصال بصاحب قشتالة، وعن علي كتب إليه بخطه، يتنفق عنده ويغريه المسلمين، فتقبض عليه، وسجن بفاس مع أرباب الجرائم. وعلى ذلك استقر حاله إلى اليوم، وأبرأ إلى الله من التجاوز في أمره. ومن يضلل الله فما له من هاد.
ولما وفدت على السلطان بولده، وقرت عيني بلقايه، تحت سداده وعزه، وفوق أريكة ملكه، وأديت ما يجب من حقه؛ عرضت عليه غرضي، ونفضت له خزانة سري، وكاشفته ضميري بما عقدت مع الله عهدي، وصرفت إلى التشريق وجهي، فعلقت بي لركومه علوق الكرامة، ولاطفني بما عاملت البر بين الدعر والضنانة، ويضرب الآماد وخرج لي عن الضرورة، وأراني أن مؤازرته أبر القرب، وراكنني إلى عهد بخطه، فسح فيه لعامين أمد الثواء، واقتدى بشعيب صلوات الله عليه في طلب الزيادة على تلك النسبة، وأشهد م حضر من العلية، ثم رمى إلى بعد ذلك بمقاليد رأيه، وحكم عقلي في اختيار عقله، وغطى جفائي بحلمه، وحثا في وجوه شهواته تراب زجري، ووقف القبول على وعظي، وصرف هواه في التحول ثانياً وقصدى، واعترف بقبول نصحي، فاستعنت بالله، وعاملت وجهه فيه. وصادقني مقارضة الحق بالجهاد، ورمى إلي بدنياه، وحكمني فيما ملكته يداه، وغلبني على أمره لهذا العهد، والله غلب على أمره. فأكمل المقام ببابه إلى هذا التاريخ مدة أجرى الله فيها، من يمن النقيبة، واطراد السداد، وطرد الهوى، ورفض الزور، واستشعار الجد، ونصح الدين، وسد الثغور، وصون الجباية، وإنصاف المرتزقة، ومحاولة العدو، وقرع الأسماع بلسان الصدق، وإيقاظ العيون من نوم الغفلة، وقدح زناد الرجولة، ما هو معلوم، يعضد دعواه، ولله المنة، سجية السذاجة، ورفع التسمت، وتكور المنسأه، وتفويت العقار في سبيل القربة، والزهد في الزبرج، وبث حبال الآمال، والتعزيز بالله عن الغنيمة، وجعل الثوب غطاء الليل، ومقعد المطالعة فراش النوم، والشغل لمصلحة الإسلام، لريم الأنفاس، فأثمر هذا الكرخ، وأثبج هذا المسعى مناقب الدولة، بلغت أعنان، وآثاراً خالدة، ما بقيت الخضراء على الغبراء، وأخباراً تنقل وتروى، إن عائدها الحاسد، فضحه الصباح المنير، وكاثره القطر المنثال، وأعياه السيل المتدافع: فما يختص من ذلك بالسلطان، فخامة الرتبة، ونباهة الألقاب، وتجمل الرياش، وتربع الشريعة، وارتفاع التشادر ببابه، والمنافسة الاغتباط منه، بمجالس التنبيه والمذاكرة، وبدر الدموع في حال الرقة، والإشادة باحتقار الدنيا بين الخاصة، وتعيين الصدقات في الأوقات العديدة، والقعود لمباشرة المظالم ستة عشر يوماً في كل شهر من شهور الأهلة، يصل إليه فيها اليتيم والأرملة، فيفرح الضعيف، وينظر حضور الزمن، ويتغمد هفوة الجاهل، ويتأثر لشكوى المصاب، ويعاقب الوزعة على الأغلاط، إلى إحسان الملكة في الأسري، والأغراب في باب الحلم، والإعياء في ترك الحظ، والتبري من سجية الانتقام، والكلف بإرباط الخيل، واقتناء أنواع السلاح، ومباشرة الجهاد، والوقار في الهيعات، وإرسال سجية الإيمان، وكساد سوق المكيدة، والتصامم عن السعاية؛ هذا مع الشباب الغض، والفاحم الجعد، وتعدد حبائل الشيطان في مسالك العمر، ومطاردة قانص اللذات في ظل السلم، ومغازلة عيوم الشهوات من ثنايا الملوك. وأيم الله الذي له تستخلص الحقوق، وتيسر الستور، وتستوثق العهود ولا تطمئن القلوب إلا يه؛ ما كاذبته، ولا راضيت في الهوادة طوله، ولا سامحته في نقيض هذه الخلال. ولقد كنت أعجب من نفاق أسواق الذكري لديه، وانتظام أقسية النصح عنده، وإيقاع نبات الرشد فيه نصيحة، وأقول بارك الله فيها من سجية، وهنأ المسلمين بها من نفس زكية. وسيأتي بيان هذه النتائج، وتفسير مجمل هذه الفضايل بحول من لا حول إلا به سبحانه. والحال متصلة على عهده الوثير من إعانته بالوسوع، والخروج له عن هذه العهدة، والتسليم له في البقية، إرهاقاً لسيف جهاده، وجلاء لمرآة نصحه وتسوية إيزان عدله، وإهابة لمحمد رشده، شد العقدة، عقدة وغيرة على حرمة ماله وعرضه، ورعاية للسان العلم المنبئ عن شأنه، ونيابة عنه في معقل ملكه، ومستودع ماله وذخيرته، ومحافظة على سره وعلانيته لحرمه وولده، وعمراناً للجوانح بتفضيله وحبه، معاملة أخلص الله قصدها لوجهه، وأمحضها من أجله، ترفعه عن جراية رحل هلالها، وإقطاع تنجع قدرته، أو فصلة تعبث البنان بنشيرها، وخطة تشد إليه على منشورها. والله يرجح ميزاني عنده، ويحظى وسبلتي لديه، ويحرك مكافأة سعيي في خواطر حجه، وينبه لتبليغ أملي من حج بيت الله، وزيارة رسول الله، بمنه وكرمه، فما على استحثاث الأجل من قرار، ولا بعد الشيب من إعذار، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أولاده كمل له في هذا الوقت
من الولد أربعة، ثلاثتهم ذكور، يوسف بكره، وأراه يتلوه سعد، ثم نصرن غلمة روقة، قد
أفرغهم الله في قالب الكمال، إذا رايتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً، فسح الله لهم أمد
السعادة، وجعل مساعيهم جانحة إلى حسني العقبى، سالكاً بهم سبيل الاهتداء بفضل الله
ورحمته.
قضاته قدم لأول قدومه. الفقيه القاضي، الحسيبن الخير،
أبا جعفر بن أحمد بن جزي، شاكراً بلاءه بمالقة، إذ كان قد ألقاه قاضياً بها
للمتغلب، فلم يأل جهداً في الإجلاب على من اعتصم بقصبتها، والتحريض على استنزالهم،
فاتخذ زلفة لديه، فأجرى الأحكام، وتوخى السداد. ثم قدم إليها الفقيه القاضي
الحسيبن أبا الحسن علي بن عبد الله بن الحسن، عين الأعيان ببلده مالقة، والمخصوص برسم
التجلة، والقيام بوظيفة العقد والحل بها في الدولة الأولى، وأصالة البيت،
والانقطاع إليه، ومصاحبة ركابه في طلب الملك، ومتسور المشاق من أجله، وأولى الناس
باستدار خلف دولته، فسدد وقارب، وحمل الكل، وأحسن فصاحة الخطبة والخطة، وأكرم
المشيخة وأرضى، واستشعر النزاهة، ولم يقف في حسن التأني عند غاية، واشتمل معها لفق
الخطابة، فأبرز وأعلم، تسمياً وحفظاً وجهورية، فاتفق في ذلك على رجاحته، واستصحب
نظره على الأحباس. فلم يقف في النصح عند غاية، أعانه الله.
كتابه أسند الكتابة إلى الفقيه المدرك، المبرز في كثير
من الخلال، ملازمه أيضاً في طلب الملك. ومطاردة قنص الحظ أبي عبد الله بن زمرك،
ويأتي التعريف بجميعهم.
شيخ عزاته متولي ذلك في الدولة الأولى، الشيخ أبو زكريا
يحية بن عمر بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق، قدمه إليها معتباً إياه، طاوياً بساط
العدو بالجملة، قدموها بابنه عثمان على الخاصة يومئذ، لما ظهرته في الوجهة، وسعيه
في عودة الدولة. واستمرت الحال إلى اليوم الثالث عشر لشهر رمضان من عام أربعة
وستين وسبعمائة، وكان القبض على جملتهم، وأجلى هذا البيت من سفرة السياسة مدة، مجتزياً
فيه بنظره على رسمه في الوزاة من قبيله. ثم قدم إليها موعده بها القديم الخدمة،
وسالف الأدمة، لما لجأ إلى وادي آش مفلتاً من وبقة الحادثة، الشيخ أبا الحسن علي
بن بدر الدين بن موسى بن رحو بن عبد الله بن عبد الحق. حلف السداد أيامه،
والمقاربة والفضل والدمائة، المخصوص على اختصار بيمن النقيبة، واستمرت أيامه إلى
نقبة القفول عن غزوة جيان أخريات محرم من عام تسعة وستين، وتوفي رحمه الله حتف
أنفه، فاحتفل لمواراته، وإقرابه من تأبيه، واستغفاره، وتوفي رحمه الله حتف أنفه،
فاحتفل لمواراته، وإقرابه من تأبيه، واستفغاره، والاعتراف بصدق موالاته، وتفجيعه
لفقده، وما أعرب به من وفاء نجده، وقدم لها عهداً طرف اختياره، الأمين، الشهم،
والبهمة، خدن الشهرة، والمشار إليه بالبسالة، وفرع الملك والأصالة، عبد الرحمن بن
الأمير أبي الحسن علي بن السلطان أبي علي عمر بن أمير المسلمين أبي سعيد عثمان بن أمير
المسلمين أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق، إذ كان قد لحق به، بعد ظهور أتيح له بوطنه
من المغرب، استقر مبايعاً بعمالة سجلماستة وما إليها، وطن جده، وميراث سلفه، ففسح
له جانب قبوله، وأحله من قربه محل مثله، وأنزله بين ثغر الأغتاط ونحره، ثم استظهر
به على هذا الأمر، فأحسن الاختيار. وأعز الخطة، وهو القايم عليه لهذا العهد، وإلى
الله أسباب توفيقه.
ظرف السلطان وحسن توقيعه لا بد في هذا الباب من تقدمه،
وكثرة وقوعه، بحيث لا يعد نادره، وقليل الشيء يدل على كثيره. مر بي يوماً ومعي
ولده، يرم اتخاذ حنق القرآن، فقلت له أيدك الله، الأمير يريد كذا، ولا بد له من
ذلك، وأنا وكيله عليك في هذا، فقال حسبنا الله ونعم الوكيل. ولا خفاء ببراعة هذا التوقيع.
وغرابة مقاصده. ومجالسه على الأيام معمورة بهذا ومثله.
الملوك على عهده
بالمغرب السلطان الجليل
إبراهيم بن السلطان أبي الحسن، بن السلطان أبي سعيد بن السلطان أبي يوسف يعقوب بن
عبد الحق. تولى ملك المغرب حسبما تقدم في اسمه، وألقى إليه بالمقاليد، واستوسقت له
الطاعة، وبحسب ما بث الله من إشرباب الخلق إليه، وتعطشهم. إلى لقاية، ورغبتهم في
إنهاضه إلى ملك أبيه، كان انقلابهم إلى ضد هذه الخلال، شرقاً بأيامه وإحصاء
لسقطاته، وولعاً باغتيابه وتربصاً لمكروه به، إذ أخفقت فيه الأمال، واستولت الأيدي
من خدامه على ملكه. وقيض الله لإبادة أمره، وتغير حالة وهد ركنه، الخائن الغادر
نسمة السوء وقذار ناقة الملك، وصاعقة الوطن وحرد السيد عمر بن عبد الله بن علي مؤتمنة
على البلد الجديد، دار ملكه ومستودع ماله وذخيرته، فسد الباب دونه. وجهر
يخلعانه. وفض في اتباع الناعق المشئوم سور ماله، وأقام الدعوة باسم أخيه أبي عمر،
ذي اللوثة، الميئوس من إفاقته، وذلك صحوة اليوم الثامن عشر لشوال من عام اثنين
وستين وسبعمائة. وبادر السلطان أبو سالم البيعة من متحول سكناه بقصر البلد القديم،
وصابر الأمر عامة اليوم. ولما جن الليل، فر لوجهة، وأسلم وزراءه، وخاصته، وقيدت
خطاه الخيرية، فأوى إلى بعض البيوت، وبه تلاحق متبعه، فقيد إلى مصرعه السوء بظاهر
بلده، وحز رأسه، وأوتى به إلى الغادر. وكان ما بين انفصال السلطان عنه مودعاً إلى
الأندلس بإعانته، ومطوق فضل تلقيه وقوله وحسن كفالته، ثمانية أشهر ويوم واحد.
واستمرت دعوة أخيه المموه به إلى الرابع والعشرين من صفر من عام ثلاثة وستين
وسبعمائة، واستدعى من باب قشتالة الأمير محمد أبو زيان بن الأمير أبي زيد بن عبد الرحمن
بن السلطان المعظم أبي الحسن. وقد استقر نازعاً إليه أيام عمه السلطان أبي سالم،
وقع عليه اختيار هذا الوزير الغادر، إذ وافق شن تغلبه طبق ضعفه، وأعمل الحيلة في
استجلابه، فوصل حسب غرضه، وأجريت الأمور باسمه، وأعيد أخوه المعتوه إلى مكانه،
واستمرت أيام هذا الأمير مغلوباً عليه، مغري بالشراب على فيه وبين الصحب إلى أن
ساءت حاله، وامتلأت بالموجدة على الوزير نفسه، فعاجله بحتفه، وباشر اغتياله، وأوعز
إلى خدامه بخنقه، وطرحه بحاله في بعض سواقي قصره، متبعاً ببعض أواني خمره وهم بذلك
قابله، ترديه سكراً، وهويه طفوحاً. ووقف عليه بالعدول عند استخراجه، وندب الناس
إلى مواراته، وبايع يومه ذلك أبا فارس عبد العزيز وارث ملك أبيه السلطان أبي الحسن،
المنفرد به، وخاطب الجهات بدعوته، وهو صبي ظاهر النبل والإدراك، مشهور الصون،
وأعمل الحيلة لأول أمره، على هذا الوزير مخيف أريكو ملكه، ومظنة البدا في أمره،
فطوقه الحمام واستأصل ما زراه من مال وذخيرة، شكر الله على الدولة صنيعه وفي ذلك
يقول:
لقد كان كالحجاج في فتكاته ... تحاذره الرآء دوماً
وتخشاه
تغدأً به عبد العزيز مبادراً ... وعاجله من قبل أن
يتعشاه
وكان بعده وليه الحق ونصيره لا إله إلا هو. وهو اليوم
ملك المغرب، مزاحماً بابن أخيه، السلطان أبي سالم، المعقود البيعة بمراكش وما
إليها، جمع الله شتات الإسلام، ورفع عن البلاد والعباد مضرة الفتنة.
وبتلمسان السلطان أبو حمو موسى بن الأمير أبي يعقوب يوسف
بن عبد الرحمن ابن يحيى بن يغمراسن بن زيان. حسبما كان في الدولة الأولى، متفقها
منه على خلال الكرم والحزم مضطلعاً بأمره والقيام على ما بيده.
وبتونس، الأمير أبو سالم إبراهيم بن الأمير أبي يحيى بن
أبي حفص، حسبما تقدم ذكره.
ومن ملوك النصارى
فبقشتالة سلطانها المتقدم الذكر في الدولة الأولى، بطره بن السلطان ألهنشة نب هراندة بن شانجه بن ألهنشة بن هراندة، متأكدة بينهما السلم الجمة، والهدنة المبرمة، بما سلف من مظاهرته إياه، والحرص على ما استحاله من المغرب في أطوله، وبعثه إليه برأس عدوه المتوثب على ملكه، ورؤوس أشياعه، الظالمين الغدرة، وأتباعه الفجرة، مستمرة أيامه إلى وسط شعبان عام سبعة وستين، صارفاً وجهه إلى محاربة صاحب برجلونة، مستولياً على كثير من قواعده الشهيرة، وقلاعه المنيعة، لما أسلفه به من إجازته أخيه أندريق المدعو بالقند، ومظاهرته حتى ساءت أحواله وأحوال عدوه، وأوهنت الحركات قوى جيشه، وأضعف الاحتشاد عمرة أرضه، واشرأبت القلوب إلى الانحراف عن دعوته، ومالت النفوس إلى أخيه، وقامت البلاد بدعوته، وتلاحقت الوجوه بجهته، ورام التمسك بإشبيلية دار ملكه، فثار أهلها به في عام سبعة وستين. فخرج فاراً عنها به والسلاح يهش إليه، وبعد أن استظهر بخويصته، وأحمل ما قدر عليه من ذخيرة، ورفع من له من ولد وحرمة، رأى سخنة العين من انتهاب قصوره، وتشعيث منازله، وعياث الأيدي في خزائنه، وأسمعه الناس من محض التأنيب وأعراض الشتمات، ما لا مزيد عليه، ولاذ بصاحب برتغال، فنأى عنه جانبه لما يجنيه أبواه من مخالفة رأي الأمة فيه، فقصد بلاد غليسية، وتلاحق أخوه أندريق بحضرة إشبيلية، فاستوى على الملك وطاعت لأمره البلاد، وعاجله المسلمون لأول أمره، فاستولوا على كثير من الثغور والحمد لله.
ولما توسد له الأمر تحول لاستئصال شأفة المخلوع، فأجلى عن غليسية في البحر، واستقر ببلد بيونة، مما وراء دروب قشتالة، وانتبذ عن الخطة القشتالية وأمر نفسه، ولجأ إلى ابن صاحب الأنتكيرة، وهو المعروف ببرقسين أبي الأمير، وبين أول أرضه وبين قشتالة؛ ثمانية أيام، فقبله ولد السلطان المذكور، الساكن بأول ما تلقاه من تلك الأرض، وسفر بينه وبين أبيه. فأنكر الأب استئذانه إياه، والمراجعة في نصره، جمية له؛ وامتعاضاً للواقع. وحال هذه الأمة غريبة في الحماية المزدودة بالوفاء والرقة، والاستهانة بالنفوس في سبيل الحمد، وبين يدي العشايق، عادة العرب الأول. وأخبارهم في القتال غريبة، من الاسترجال والزحف على الأقدام، أميرهم ومأمورهم، والجئو في الأرض، أو دفن ببعض الأرض في التراب، والاستظهار في حال المحاربة ببعض الألحان المهيجة، ورماتهم قسيهم غريبة جافية، وكلهم في دروع، والإحجام عندهم، والتقهقر مقدار الشبر ذنب عظيم. وعار شنيع، ورماتهم يثبتون للخيل في الطراد، وحالهم في باب التحلي بالجواهر، وكثرة آلات الفضة، غريب. وبعد انقضاء سبعة عشر يوماً كان رجوعه ورجوع البرنس المذكور معه مصاحباً بأمراء كثيرين من خترانه وقرابته، وبعد أن أسلفوه مالاً كثيراً، واختص من ه صاحب الأنتكيرة، بمائتي ألف دينار من الذهب إلى ما اختص به غيره، وارتهنوا فيه ولده وذخيرته. وكان ينفق على نفسه وجيشه بحسب دينار واحد من الذهب للفارس في ثلاثة أيام، وكان تأليف الجيوش في بنبلونة في أزيد من ثلاثين ألفاً، وعسر عليهم المجاز على فحص أحدونيه، لبلاد تمسك لطاعة القند أخيه؛ فصالح القوم صاحب نباره على الإفراج لهم، ونزلت المحلات في فحص نبارة، ما بين حدود أرض نبارة وقشتالة، ونزل المتصير إليه أمر قشتالة، القند بإزايها في جموع لم تنظم لمثله، إلا أنه لشهامته واغتراره، أجاز خندقاً كان بين يديه، وعبر جسراً نشب فيه عند الجولة. وكان اللقاء بين الفريقين يوم السبت سادس إبريل العجمي، وبموافقة شعبان من عام ثمانية وستين. وكان هذا الجموع الإفرنجي الآتي من الأرض الكبيرة في صفوف ثلاثة، مرتبة بعضها خلف بعض، ليس فيهم فارس واحد، وإنما هم رجالة، سواء أميرهم ومأمورهم، في أيديهم عصي جافية في غلظ المعاصم؛ يشرعونها أمامهم، بعد إثبات زجاجها فيما خلفهم من الأرض، يستقبلون منها وجوه عدوهم، ونحور خيله، ويجعلونها دعايم وتكآت لبناء مصافهم، فلم تقلقهم المحلات، وبين أيديهم من الرماح الناشبة الدارعة، ما لا يحصيهم إلا الله عز وجل. وسايرهم السلطان، مستدعي نصرهم راجلاً أميالاً برأيهم؛ إلى أن أعيا بعد ميلين منها فأركبوه بغلة حملوه بينهم عليها، إلى موقف اللقاء والقند. وكان على مقدمة القوم الدك أخو البرنس، والبرنس مع السلطان مستجيره في القلب، والقند المعروف بقندار مانيان، وكثير من الأمراء؛ ردا وسيفه دونهم، ومن خلف الجميع الخيل بجنبها ساستهم وغلمانهم وخدامهم، ووراءها دواب الظهر وأبغالهم، وفي أثنا هذه العبية من البنود وآلات الحرب والطرب والأبواق ما يطول ذكره. وكان في مقدمة القند المستأثر بملك قشتالة؛ أخوه شانجه في رجل قشتالة، قد ملأ السهل والجبل، ومن خلفهم أولو الخيل الجافية القبيلية، المسبغة الدروع، من رأس إلى حافر، فينحو ألف وخمسماية، وفي القلب أخوه الآخر دنطية في جمهور الزعماء والفرسان والدرق، وهو الأكثر من رجال الجيش اليوم، ومن رائهم السلطان أندريق في لفيف من الناس. ولما حمل بعضهم على بعض أقدم رماة الفرنج، ثقة بدروعهم، فعظم أثرهم فيمن بإزايهم من رماة عدوهم ورجالهم، لكونهم كشفاء، فكشفوا إياهم. وحملت خيل قشالة الدارعة، فزحزحت كر المصاف الإفرانجي، واتصل الحرب بالبرنس، وهو مطل عليهم في ربوة، فصاح بهم بحيث أسمع، وتناول شيئاً من التراب فاستفه، وكسر ثلاث عصيي، وفعل من معه مثل فعله، وهي عادتهم عند الغضب، وعلامة الإقدام الذي لا نكوص بعده. ووجه إلى أخيه في المقدمة، يقول له، إن وجدت نفسك ضعفاً، فاذكر أنك ولد صاحب الأنتكيرة. وحمل الكل حملة رجل واحد، فلم تجد الخيل الدارعة سبيلاً، وقامت في نحورها تلك الأسنة، فولوا منهزمين.
ولما رأى القند هزيمة أخيه، تقدم
بنفسه بمن معه من مدد الأمة الرغونية، وهو ينادي، يا أهل قشتالة، يا موالي، إياكم
والعار. هأنذا، فلم يثبت أمره، وتراجع فله. فعند ذلك فر في أربعة من أولى ثقته،
واستولى القتل والأسر على خاصته، وتردى المنهزمون في الوادي خلفهم. فكان ذلك أعون
الأسباب على هلكهم، فأناف عدد من هلك في هذه الوقيعة، حسبما اشتهر، خمسين ألفاً.
وامتلأت أيدي هذه الأمة من الأسلحة والأموال والأمتعة والأسرى الذين يفادونهم بمال
عظيم، واتصل القند المنهزم بأرض رغون، ثم تجم من البلاد الفرنسية. ودخل أخوه بهذه
أمة أوايل البلاد معترفاً بحميد سعيهم، وعزيز نصرهم، وقد رابه استيلاؤهم، وأوجسه
تغلبهم، وساءه في الأرض الرعادة عيائهم فاستأذنهم في اللحوق بقواعد أرضه، وقبض الأموال
التي تجبى منها نفقاتهم، وقبض منها ديونهم قبله، وحث السير، فوصل طليطلة، لا يصدق
بالنجاة، وخاطب السلطان المترجم به، وقدر وده، وحذره سورة هذه الأمة التي فاض
بحرها وأعيا أمرها، وأنهى إليه شرها، وشره إلى استيصال المسلمين. وحد له مواعدها
التي جعلت لذلك. ووصل إشبيلية، وانثالت البلاد عليه، وعادت الإيالة إلى حكمه، ثم
شرع في جعل الضرايب، وفرض الأموال، وأخاف الناس بالطلب والتبعات فعاد نفورهم عنه
جزعاً. وامتنعوا من الغرم، وطردوا العمال، وأحس بالشر، فتحصن بإشبيلية، وجهاتها
على نفسه، وطال على الأمة الواصلة في سبيل نصره الأمر. فرجعت إلى بلادها، ووقيت
نفرة الفرسان، وأولى الأتباع، وأظهروا الخلاف، وكشفت ديان وجهها في خلعانه،
والرجوع إلى دعوة أخيه المتصرف، فتحرك إليها السلطان المترجم به، بعد أن احتشد
المسلمين، فكان من دخولها عنوة، واستباحة المسلمين إياها وتخريبها، ما هو مذكور في
موضعه. ثم ألحقت بها مدينة أبدة، الذاهبة في مخالفة مذاهبها والحمد لله. وخالفت
عليه قرطبة، واستقر بها من الكبار جملة، كاتبوا أخاه، واستعجلوا، فتعرف في هذه
الأيام، أنه قد بلغ أرض برغش، ونار الفتنة بينهم، ويد الإسلام لهذا العهد، والمنية
لله، وحده غالبة.
وإنما مددنا القونل في ذكر هذه الأحوال الرومية، لغرابة
تاريخها، ولستشعر الحذر، ويؤخذ من الأمة المذكورة وغيرها، والله ولي نصر المؤمنين
بفضله. وبأرض رغون سلطانها الكاين على الدولة الأولى.
؟بعض مناقب
الدولة لهذا العهد وأولا ما يرجع إلى مناقب الحلم والكظم من مآزق الجهاد الأكبر،
وهو جهاد النفس.
فمن ذلك أن السلطان لما جرت الحادثة، وعظه التمحيص،
وألجأ إلى وادي آش لا يملك إلا نفسه في خبر طويل، بادر إلى مخاطبة ثقته بقصبة
ألمرية، قلعة الملك، ومظنة الامتناع، ومهاد السلامة، ومخزن الجباية والعدة، وقد
أصبح محل استقراره، بينها، وبين المنتزى سداً، وبيعة أهلها لم ينسخ الشرع منها
حكماً يناشده الله في رمقه، ويتملقه في رعي ذمته، والوفاء له، وإبراء غربته، وتمسكه
من أمانته، فرد عليه أسوأ الرد. وسجن رسوله في المطبق، وخرج منها لعدوه، وناصح بعد
في البغي عليه. فلما رد الله الأمر، وجبر الحق، أعتب وأجرى عليه الرزق. ولما ثار
في الدولة الثانية الدليل البركي، هاتفاً بالدعوة لبعض القرابة، وأكذبه الله، وعقه
الشيطان بعد نشر راية الخلاف، وجعل للدولة، علو اليد، وحسن العاقبة، وتمكن من
المذكور، أبقى عليه، وغلب حكم المصلحة العامة في استحيائه، وهو من مغربات الحلم
المبني على أساس الدين، وابتغاء وجه الله.
ولما أجلى عن الترشيح من القرابة، بعد تقرب التهمة، وغمس
الأيدي في المعصية، صرفوا إلى المغرب صرف العافية، وأجرى على من تخلفوه عوايد
الأرزاق، ومرافق المواسم، ووعد ضعفاءهم بالإرفاد، وتجوفى عما يرجع للجميع من عقار
ورباع، وأسعفت آمالهم في لحاق ذويهم من أهل وولد.
ومما يرجع إلى عوايد الرفق،
ومرافق العدل من مأزق في جهاد النفس، وقوف وكيل الدولة، مع من يجاور مستخلص
السلطان من العامرين ومما ولي الفلاحة، وقد ادعوا أضراراً، يجره الحوار بين يدي
القاضي بالحضرة، حتى بعد منقطع الحق، على ما يخص السلطان من الأصول التي جرها الميراث
عن كريم السلف. ولا كقضية التاجر المعروف بالحاج اللباس، من أهل مدينة وادي آش،
وقد تحصلت في داره، من قبل التاجر المذكور جارية من بنات الروم، في سبيل تفوت
الذمم، ومستهلك المتولات، وترقت إلى تربية ولده، وأصبحت بعض الآظار لأمرايه واتصل
بها كلفه، وزاد هيمانه، وغشي مدافن الصاحين من أجلها، وأنهيت إليه خبره وبثه. وقررت
عنده شجوه، وألمعت بما ينقل في هذا الباب عن الملوك قبله، فبادر إلى إخراجها من
القصر بنفسه، وانتزاعها من أيدي الفبطة، انتزاع القهر، بحاله في جميل الزي، فمكنت
منها يد عاشقها الذاهل، وقد خفت نفسه، وسكن حسه، وكاد لقاؤه إياها أن يقضي عليه.
ونظاير هذا الباب متعددة.
ومن مواقف الصدق والإحسان من خارق جهاد النفس. بناء
المارستان الأعظم حسنة هذه التخوم القصوى. ومزية المدينة الفضلى. لم يهتد إليه
غيره من الفتح الأول، مع توفر الضرورة، وظهور الحاجة، فأغرى به همة الدين، ونفس
التقوى، فأبرزه موقف الأخدان، ورحلة الأندلس، وفذلكة الحسنات، فخامة بيت، وتعدد
مساكن، ورحب ساحة، ودرور مياه، وصحة هواء، وتعدد خزاين ومتوضآت، وانطلاق جراية
وحسن ترتيب، أبر على مارستان مصر، بالساحة العريضة، والأهوية الطيبة، وتدفق المياه
من فورات المرمل، وأسود الصخر، وتموج البحر، وانسدال الأشجار. إلى موافقته إياي،
وتسويغه ما اخترعتنه بإذنه، وأجريته بطيب نفسه، من اتخاذ المدرسة والزاوية، وتعيين
التربة، مغيراً في ذلك كله على مقاصد الملوك، نقشاً عليه، بطيب اسمه في المزيد،
وتخليد في الجدرات للذكر، وصوناً للمدافن غير المعتادة، في قلب بلده بالمقاصر
والأصونة، وترتيل التلاوة، آناء الليل، وأطراف النهار. وكل ذلك إنما ينسب إلى
صدقاته، وعلو همته، ويشهد بما ينبه الحس إلى المنقبة العظمى، في هذا الباب، من
إمداد جبل الفتح، مع كونه في إيالة غيره، وخارج عن ملكة حكمه، وما كان من إعانته،
وسد ثغره، فانهار إليه على خطر السرى، والظهر البعيد المسعى، ما ملأ الأهواء، وقطع
طمع العداة، أنفقت عليه الأموال؛ ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة، بودر بذلك،
بين يدي التفاؤل، بنزول العدو إياه، فكان الكرى على إيصال الطعام إليه، بحساب درهم
واحد وربع درهم للرطل من الطعام، منفعة فذة، وحسنة كبرى، وبدعاً من بدع الفتوى.
وفي موقف الاستعداد لعدو الإسلام، من خارق جهاد النفس،
إطلاق البنى، للمدة القريبة، والزمان الضيق، باثنين وعشرين ثغراً من البلاد
المجاورة للعدو، والمشتركة الحدود، مع أراضيه، المترامية النيران لقرب جوابه، منها
ثغر أرجدونة، المستولي عليه الخراب. وأنفق في تجديد قبضته. واتخاذ جبه. ما يناهز
عشرين ألفاً من الذهب، فهو اليوم شجي العدو، ومعتصم المسلمين. وحصن أشر، وما كان
من تحصين جبله بالأسوار والأبراج، على بعد أقطاره. واتخاذ جباب الماء به، واحتفار
السانية الهايلة برضه، وترك بها من الآثار ما يشهد بالقوة لله، والعناية بالإسلام.
ثم ختم ذلك بنديد حصن الحمراء، رأس الحضرة، ومعقل الإسلام، ومفزع الملك، ومعقد
الأيدي. وصوان المال والذخيرة، بعد أن صار قاعاً صفصفاً. وخراباً بلقعاً، فهو
اليوم عروس يحلى المهضب، ويغازل الشهب، سكن لمكانه الإرجاف، وذوت نجوم الأطماع،
ونقل إليه مال الجباية، المتفضل لهذا العهد، بحسب التدبير، ونفد الخراج، وصون الألقاب،
وقمع الخزانة بما لم يتقدم به عهد، من ثمانين سنة، والحمد لله. وتجديد أساطيل
الإيلام، وإزاحة علل جيوش المرج، وعساكر البحر، فهي لهذا العهد، ملس الأديم، شارعة
الشبا، منقضة جفاتها إلى مساواة الأعداء، راكبة ظهور المحاسن، قلقة الموافق، قدماً
إلى الجهاد، قد تعدد إعزاؤها، وجاست البحر سوابحها، وتعرفت بركتها والحمد لله،
وأنصاب جيش الجهاد، استغرق الشهور المستقبلة، لرود الصفراء والبيضاء الأهلة إلى
أكف أهلها، على الدوام، بعد أن كانت يتحيفها المطل، وينقصها المطال، والحمد لله.
وفي مواقف الجهاد الحسي، وبيع
النفوس من الله، وهو ثمرة الجهاد الأول، ما لا يحتاج عليه إلى دليل، من الجوف إلى
حصن أشر، قبل الثغر، والجارح المطل على الإسلام، والعزم على افتتاحه. وقد غاب
الناس من مساورته، وأعيى عليهم فتحه، فلزمه السلطان بنفسه، بياض يوم القيظ،
محرضاً، للمقاتلة، مواسياً لهم، خالطاً نفسه بالمستنفرة، يصابر لهيب النار، ووقع
السلاح، وتعميم الدخان، مفدياً للكلمات، محرضاً لذوي الجراح، مباشراً الصلاة على
الشهداء إلى أن فتحه الله على يده، بعزمه وصبره، فباشر رم سوره بيده، وتحصين عورته
بنفسه، ينقل إليه الصخر، وينال الطين، ويخالط الفعلة، لقرب محل الطاغية، وتوقع المفاجأة.
ثم كان هذا العمل قانوناً مطرداً في غيره، وديدناً في سواه، حسبما نذكر في باب
الجهاد.
وفي باب النصيحة للمسلمين من مآزق الجهاد الأكبر، ما صدر
في هذه الدولة، من مخاطبة الكافة، بلسان الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، صدعت
بذلك الخطباء من فوق أعواد المنابر، وأسمعت آذان المحافل، ما لم يتقدم به عهد في
الزمان الغابر.
نص الكتاب ولما صحت الأخبار بخروج الأمة الإفرنسية إلى
استئصال هذه البقيعة، والله متم نوره، ولم كره الكافرون، صدر من مخاطبة الجمهنور
في باب التحريض بما نصه: من أمير المسلمين عبد الله محمد، بن مولانا أمير المسلمين
أبي الحجاج بن مولانا أمير المسلمين أبي الوليد نصر، أيده الله ونصره، وأوى أمره،
وخلد مآثره. إلى أوليائنا الذين نوقظ من الغفلة أحلامهم، وندعوهم لما يطهر من الارتياب
إيمانهم، ويخلص لله أسرارهم وإعلانهم، يرثي لعدم إحسانهم، وخيبة قياسهم، ويغار من
استيلاء الغفلات على أنواعهم وأجناسهم، ونسأل الله لهم ولنا إقالة العثرات، وتخفيض
الشدائد المعتورات، وكف أكف العوادي المبتدرات. إلى أهل فلانة، دافع الله عن فئتهم
الغريبة، وعرفهم في الذراري، والحرم، عوارف اللطائف القريبة وتداركهم بالصنايع
العجيبة، سلام عليكم أجمعين، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله الذي لا نشرك به أحداً، ولا نجد من دونه ملتحداً، مبتلى قلوب المؤمنين أيها أقوى جلداً، وأبهد في الصبر مداً، ليزيد الذين اهتدوا هذى. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، الذي أنقذ من الردى، وتكفل بالشفاعة لم غداً ضارباً هام العدا، ومجاهداً من اتخذ مع الله ولدا، والرضى عن آله الذين كانوا لسماء ملته عمداً، فلم ترعهم الكتايب الوافرة، وكانوا لهم أقل عدداً، ولا هالتهم أمم الكفر، وإن كانت أظهر جمعاً، وأكثر عدداً صلاة لا تنقطع أبداً، ورضى، لا يبلغ مداً. فإنا كتبنا إليكم، كتبكم الله فيمن امتلأ قلبه غضباً لأعدايه وحمية، ورمى بفكره غرض السداد، فلم يخط منه هدفاً ولا رمية. وقد اتصل بنا الخبر، الذي يوجب نصح الإسلام، ورعى الجوار والذمام، وما جعل الله للمأموم على الإمام، فوجب علينا إيقاظكم من مراقدكم المستغرقة، وجمع أهوايكم المفترقة، وتهيئكم إلى مصادمة الشدايد المرعدة المبرقة، وهو أن كبير النصرانية، الذي أليه ينقادون، وفي مرضاته يصادقون ويعدون، وعند رؤية صليبه يبكون ويسجون، لما رأى الفتن قد أكلتهم خضماً وقضماً. وأوسعتهم هضماً فلم تبق لهم عصباً ولا عظماً، ونثرت ما كان نظماً، أعمل نظره فيما يجمع منهم ما افترق، ويرفع ما طرق، ويرفى ما مزق الشتات وخرق، فرمى الإسلام بأمة عددها كالقطر المغثال، والجراد الذي تضرب به الأمثال، وعاهدهم وقد حضر التمثال، وأمرهم وشأنهم الامتثال، أن يدمنوا لمن ارتضاه الطاعة، ويجمعوا من ملته الجماعة، ويطلع الكل على هذه الفئة القليلة الغريبة، لغتة كقيام الساعة وأقطعهم، قطع الله بهم، العباد والبلاد. والطارف والتلاد، وسوغهم الحريم المستضعف والأولاد، وبالله نستدفع مالا نطيقه. ومنه نسأل عادة الفرج، فما سدت لديه طريقه، إلا أنا رأينا غفلة الناس مع تصميمهم مؤذنة بالبوار. وأشفقنا للذين من وراء البحار، وقد أصبح معظمهم في لهوات الكفار، وأردنا أن نهزهم بالموعظة التي تكحل البصاير بميل الاستبصار. وتلهمكم الاستنصار بالله، عند عدم الانتصار، فإن جبر الله الخواطر بالضراعة إليه، والانكسار ونسخ الإعسار بالإيسار، وأنجد اليمين بانتهاء اليسار، وإلا فقد تعين في الدنيا والآخرة حظ الخسار فإن من ظهر عليه عدو دينه، وهو عن الله مصروف، وبالباطل مشغوف، وبغير العرف معروف. وعلى الحطام المسلوب ملهوف، فقد تله الشيطان للجبين، وخسر الدنيا والآخرة، وذلك هو الخسران المبين. ومن نفذ فيه قدر الله عن أداء الواجب وبذل المجهود، وآجر بالعبودية وجه الواحد الأحد المعبود، ووطن النفس عن الشهوات الموبقة في دار الخلود، العايدة بالحياة الدايمة والوجود، أو الظهور على عدوه المحشود إليه صبرا على المقام المحمود وبيعاً تكون املائكة فيه من الشهود، حتى تعيث يد الله في ذلك البناء المهدوم، بقوة الله المحمود، والسواد الأعظم الممدود، كان على أمر ربه بالحياء المردود " قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا، فتربصوا إنا معكم متربصون " . فالله الله في الهمم، فقد خبت ريحها. والله الله في العقايد. فقد خفت مصابيحها. والله الله في الرحولة فقد فل حدها. والله الله في الغيرة. فقد نعس حدها. والله الله في الدين، فقد طمع العدو في تحويله. والله الله في الحريم. فقد مد إلى استرقاقه يد تأميله. والله الله في المساكن التي زحف لسكناها والله الله في الملة التي يردي إطفاء نورها وسناها وقد كمل فضلها وتناهى. والله الله في القرآن العظيم. والله الله في الجيران. والله الله في الطارف والتالد، والله الله في الوطن الذي توارثه الولد عن والوالد. اليوم تستأسد النفوس المهينة. اليوم يستنزل الصبر والسكينة. اليوم تحتتج الهمم أن ترعى هذه النفوس الكريمة الذمم، اليوم يسلك سبيل العزم والحزم والشدة والشمم اليوم يرجع إلى الله تعالى المصرون اليوم يقيق من نومه الغافلون والمغترون. قبل أن يتفاقم الهول، ويحق القول، ويسد الباب، ويحيق العذاب، ويسترق بالكفر والرقاب. فالنساء تقي بأنفسهن أولادهن الصغار. والطيور ترفرف لتحمي الأوكار، إذا أحست العياث بأفراخها والأضرار. تمر الأيام عليكم مر السحاب وذهاب الليالي لكم ذهاب. فلا خبر يفضي إلى العين، ولا حديث في الله تعالى يسمع بين اثنين، ولا كد إلا
لزينة يحلى بها نحر وجيد، ولا سعي إلى في متاع لا يغني في الشدائد ولا يفيد. وبالأمس ندبتم إلى التماس رحمي أو رضى مسخر السحاب، واستقالة أكاشف العذاب، وسؤال مرسل الديمة، ومحيي البشر والبهيمة، وقد أمسكت عنكم رحمة السماء؛ واغبرت جوانبكم المخضرة احتياجاً إلى إيالة الماء، وفي السماء رزقكم وما توعدون. وإليها الأكف تمدون، وأبوابها بالدعاء تقصدون، فلم يصرح منكم عدد معتبر، ولا ظهر للإنابة ولا للصدقة خبر، وتنوقوون عن إعادة الرغبة إلى الغنى الحميد، والولي الذي إن شا يذهبكم ويأت بخلق جديد. وأيم الله لو كان لهوا لارتقبت الساعات وضاقت المتسعات. وتزاحمت على جماله وغصت الجماعات. أتعززاً على الله وهو القوي العزيز، وتلبيساً على الله، وهو الذي يميز الخبيث من الطيب، والشبه من الإبريز، أمنابذة والنواصي بيده، أغروراً في الشدايد بالأمل والرجوع بعد إليه. من يرجى في الشدايد والأزمات، من يوجد في المحيا والممات، أفي الله شك يختلج القلوب، أم غير الله يدفع المكروه، وييسر المطلوب. تفضلون على اللجأ إليه في الشدايد، بواسم الجهل، وثرة الأهل وطايفة منكم قد بررت إلى استسقاء رحمته، تمد إليه الأيدي والرقاب. وتستكشف بالخضوع لعزته العقاب، وتستعجل إلى مواعد إجابته الارتقاب، وكأنكم أنتم، عن كرمه قد استغنيتم، أو على الامتناع من الرجوع إليه بنيتم. أما تعلمون كيف كان نبيكم صلوات الله وسلامه عليه من التبلغ باليسير، والاستعداد إلى دار الرحيل الحق والمسير، ومداومة الجوع، وهجر الهجوع، والعمل على الإياب إلى الله والرجوع. دخلت عليه فاطمة رضي الله عنها، وبيدها كسرة شعير، فقال ما هذه يا فاطمة، فقالت يا رسول الله، خبزت قرصة، وأحببت أن تأكل منها، فقال يا فاطمة، أما أنه أول طعام دخل جوف أبيك منذ ثلاث. وكان صلى الله عليه وسلم، يستغفر في اليوم سبعين مرة، يلتمس رحماه، ويقوم وهو المغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، حتى تورمت قدماه، وكان شأنه الجهاد، ودأبه الجد والاجتهاد ومواقف صبره تعرفها الربى والوهاد. فإذا لم تقتدوا به فبمن تقتدون. وإذا لم تهتدوا بهدية فبمن تهتدون، وإذا لم ترضوه باتباعكم، فكيف تعتزون إليه وتنتسبون، وإذا لم ترغبوا في الاتصاف بصفاته غضباً لله تعالى وجهاداً، وتقللاً من العرض الأدنى وسهاداً ففيم ترغبون، فابتروا حبال الآمال، فكل آت قريب، واعتبروا بمثلات ما دهم من تقدم من أهل البلاد والقواعد، فذهولكم عنها غريب، وتفكروا في منابرها التي كان يعلوها واعظ أو خطيب، ومطيل ومطيب، ومساجدها المتعددة الصفوف، والجماعات المعمورة بأنواع الطاعات، وكيف أخذ الله فيها بذنب المترفين من دونهم، وعاقب الجمهور بما أغمضوا عيونهم، وساءت بالغفلة عن الله عقبى جميعهم، وذهبت النقمات بعاصيهم، ومن داهن في أمره من مطيعهم، وأصبحت مساجدهم مناصب للصلبان، واستبدلت مآذنهم بالنواقيس من الأذان. هذا والناس ناس، والزمان زمان. فما هذه الغفلة عن من إليه الرجعى وإليه المصير وإلى متى التساهل في حقوقه، وهو السميع البصير، وحتى متى مد الأمل في الزمن القصير وإلى متى نسيان اللجأ إلى الولي النصير. قد تداعت الصلبان مجلبة عليكم، وتحركت الطواغيت من كل جهة إليكم. أفيخذلكم الشيطان وكتاب الله قائم فيكم، وألسنة الآيات تناديكم، لم تمح سطورها، ولا احتجب نورها، وأنتم بقايا من افتحها من عدد قليل، وصابر فيها كل خطب جليل، فوالله لو تمحض الإيمان ورضي الرحمن، ما ظهر التثليث في هذه الجزيرة على التوحيد، ولا عدم الإسلام فيها عزم التأييد. ولكن شمل الداء، وصم النداء، وعميت الأبصار، فكيف الاهتداء، والباب مفتوح، والفضل ممنوح، فتعالوا نستغفر الله جميعاً، فهو الغفور الرحيم، ونستقبل مقيل العثرات، فهو الرؤوف الحليم، ونصرف الوجوه إلى الاعتراف بما قدمت أيدينا، فقبول المعاذير من شأن الكريم. سدت الأبواب، وضعفت الأسباب، وانقطعت الآمال إلا منك يا كريم يا فتاح، يا وهاب. يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم، ويثبت أقدامكم يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة، واعلموا أن الله مع المتقين. ولا تهنوا ولا تحزنوا، وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين. يا أيها الذين آمنوا، اصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا الله لعلكم تفلحون. أعدوا الخيل وارتبطوها
وروضوا النفوس على الشهادة واغبطوها، فمن خاف الموت رضيي بالدنية، ولا بد على كل حال من المنية، والحياة مع الذل ليست من شيم أهل العقول والنفوس السنية، واقتنوا السلاح والعدة، وتعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، واستشعروا القوة بالله تعالى على أعدايكم، واستميتوا من دون أبنايكم. وكونوا كالبنيان المرصوص لحملات العدو النازل بفنايكم، وحطوا بالتعويل على الله وحجة بلادكم. واشتروا من الله جل جلاله أبيناءكم.وضوا النفوس على الشهادة واغبطوها، فمن خاف الموت رضيي بالدنية، ولا بد على كل حال من المنية، والحياة مع الذل ليست من شيم أهل العقول والنفوس السنية، واقتنوا السلاح والعدة، وتعرفوا إلى الله في الرخاء يعرفكم في الشدة، واستشعروا القوة بالله تعالى على أعدايكم، واستميتوا من دون أبنايكم. وكونوا كالبنيان المرصوص لحملات العدو النازل بفنايكم، وحطوا بالتعويل على الله وحجة بلادكم. واشتروا من الله جل جلاله أبيناءكم.
ذكروا أن امرأة احتمل السبع ولدها. وشكت إلى بعض الصالحين، فأشار عليها بالصدقة فتصدقت، برغيف، فأطلق السبع ولدها. وسمعت النداء يا هذه لقمة بلقمة، وإنا لما استودعناه لحافظون. أهجروا الشهوات، واستدركوا الباقيات من قبل الفوات، وأفضلوا لمساكينكم من الأقوات، واخشعوا لما أنزل الله تعالى من الآيات، وخذوا نفوسكم بالصبر على الأزمات، والمواساة في المهمات، وأيقظوا جفونكم من السنات، واعلموا أنكم رضع ثدي كلمة التوحيد، وجيران البلد الغريب، والدين الوحيد، وحزب التمحيص، ونفر المرام العويص، فتفقدوا معاملتكم مع الله تعالى، فمهما رأيتم الصدق غالباً. والقلب للمولى الكريم مراقباً، وشهاب اليقين ثاقباً، فثقوا بعناية الله التي لا يغلبكم معها غالب؛ ولا ينالكم من أجلها عدو مطالب، وأنكم في الستر الكثيف. وعصمة الخبير اللطيف. ومهما رأيتم الخواطر متبددة، والظنون بالله مترددة، والجهات التي تخاف، وترجى متعددة، والغفلة عن الله ملابسها متجددة. وعادة دواعي الخذلان دايمة، وأسواق الشهوات قايمة. واعلموا أن الله منفذ فيكم وعده ووعيده في الأمم الغافلين، وأنكم قد ظلمتم أنفسكم. ولا عدوان إلا على الظالمين. والتوبة ترد الشارد، والله يحب التوابين، ويحب المتطهرين. وهو القائل: " إن الحسنات يذهبن السيئات، ذلك ذكرى للذاكرين " . وما أقرب صلاح الأحوال، إذا صلحت العزايم، وتوالت على حزب الشيطان الهزايم، وخملت الدنيا الدنية في العيون، وصدقت فيها عند الله الظنون: " يا أيها الناس إن وعد الله حق، فلا تغرنكم الحياة الدنيا، ولا يغرنكم بالله الغرور " . وتوبوا سراعاً إلى طهارة القلوب، وإزالة الشوب، واقصدوا أبواب الشدايد، ويسد طريق العوايد، فلا تمطلوا بالتوبة أزمانكم، ولا تأمنوا مكر الله، فتغشوا إيمانكم، ولا تعلقوا منابكم بالصرائر. فهو علام السراير، وإنما عليا معاشر الأولياء أن ننصحكم، وإن كنا أولى بالنصيحة. ونعتمدكم بالموعظة الصريحة، الصادرة علم الله عن صدق القريحة. وإن شاركناكم في الغفلة، فقد ناديناكم إلى الاسترجاع والاستغفار، وإنما لكم الدنيا نفس مبدولة في جهاد الكفار. وتقدم إلى ربكم العزيز الغفار، وقتدم لديكم إلى موافق الصبر. التي لا ترضى، بتوفيق الله الفرار، واجتهاد فيما يعود بالحسنى وعقبى الدار، والاختيار لله ولي الاختيار. ومصرف الأقدر وها نحن نسرع في الخروج إلى مجافعه هذا العدو. ونفدى بنفوسنا البلاد والعباد. والحريم المستضعف والأولاد. ونصلى من دونهم نار الجلاد، ونستوهب منكم الدعاء إلى من وعد بإجابته. وتقبل من صرف إليه وجه إنابته. اللهم كنم لنا في هذا الانقطاع نصيراً، وعلى أعدائك ظهيراً، ومن انتقام عبدة الأصنام مجيراً، اللهم قومن ضعفت حيلته، فأنت القوي المعين، وانصر من لا نصير له إلا أنت، إياك نعبد، وإياك نستعين. اللهم ثبت أقدامنا وانصرنا عند تزلزل الأقدام، ولا تسلمنا عند لقاء عدو الإسلام، فقد ألقينا إليك يد الاستلام، اللهم دافع بملايكتك المسومين، عمن ضيقت أرجاؤه، وانقطع إلا منك رجاؤه. اللهم هيئ لضعفائنا، وكلنا ضعيف فقير إليك. ذليل بين يديك حقير، رحمة تروي بالأزمة وتشبع، وقوة تطرد وتستنبع، يا غلاب الغلاب، يا هازم الأحزاب. يا كريم العوايد، يا مفرج الشدايد، ربنا أفرغ علينا صبراً، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعلنا ممن تيقظ فتيقظ، وذكر فتذكر، ومن قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، فزادهم إيماناً، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل، لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله، والله ذو فضل عظيم. وقد وردت علينا المخاطبات من قبل إخواننا المسلمين، الذين عرفنا في القديم والحديث اجتهادهم، وشكرنا في ذات الله تعالى جهادهم، بني مرين، أولى الامتعاض الله والحمية، والمخصوصين بين القبائل الكريمة بهذه المزية، بعزمهم على الامتعاض لحق الجوار، والمصارخة التي تليق بالأحرار والنفرة لانتهاك ذمار بيتهم المختار، وحركة سلطانهم محل أخينا بمن له من الأولياء والأنصار، إلى الإعانة على هؤلاء الكفار، ومدافعة أحزاب الشيطان وأهل النار، فاسألوا الله تعالى إعانتهم على هذا المقصد الكريم الآثار، والسعي الضمين للعز والأجر والفخار، والسلام الكريم يخصكم أيها الأولياء ورحمة اله وبركاته. في
الثاني عشر من شهر رمضان
المعظم من عام سبع وستين وسبعمائة. عرفنا الله خيره. صح هذا. فكان دفاع الله أقوى،
وعصمته أكفى. والحمد لله على عوايده الحسني.ي عشر من شهر رمضان المعظم من عام سبع
وستين وسبعمائة. عرفنا الله خيره. صح هذا. فكان دفاع الله أقوى، وعصمته أكفى.
والحمد لله على عوايده الحسني.
ومن الغيرة على الدين، وتغير أحوال الملحدين، من مآزق
جهاد النفس، ما وقع به العمل من إخماد البدع. وإذهاب الآراء المضلة، والاشتداد على
أهل الزيغ الزندقة. وقد أضاقت أرباب هذه الأضاليل الشريعة، وسدت مضرهم في الكافة، فيسلط
عليهم الحكام. واستدعيت الشهادات. وأخذهم التشريد، فهل تحس منهم أحداً، أو تسمع
لهم ركزاً.
وقيد في ذلك عني مقالات أخرى. منها رسالة الغيرة على أهل
الحيرة، ورسالة حمل الجمهور على السنن المشهور. ورسالة أنشدت على أهل الرد. فارتفع
الخوض، وكسدت تلك الأسواق الخبيثة. وصم منها الصدا، ووضح نار الهدى، والحمد لله،
ولو تتبعت مناقب الهدا، لأخرج ذلك عن الغرض.
الأحداث وفي غرة ذي الحجة كانت الثورة الشنعاء، المجحفة
بالدولة، وقد كان السلطان أنذر بطائفة، تداخل بعضه القرابة، فعاجله بالقبض عليه، وهو
في محل ولايته، فصفد وأحمل إلى قصبة ألمرية، وخاف أرباب المكيدة افتضاح الأمر،
فتعجلوا إبراز الكامن، وإظهار الخبث، وتولى ذلك جملة من بني غرون ذنابي بيت
الإدبار، وقد عابهم من بني مطرون، يدور أمرهم على الدليل البركي، فأكذب الله
دعوتهم، بعد أن أركبوا الشيخ علياً بن نصر، ونصبوه تلقاء القلعة بباب البنود،
ودعوا الناس إلى بيعته. وأخذ السلطان حذره وناصبهم القتال، وأشاع العطا، واستركب
الجيش، وعمر الأسوار، فأخفق القصد، وفر الدليل البركي، وتقبض على الرئيس المذكور،
وجعل الله العاقبة الحسنة للسلطان.
وكان مما أمليته يومئذ بين يدي السلطان من الكلام المرسل ما هو نصه بعد الصدر: وإلى هذا فمما أفادته القطر السليمة، والحلم والقضا بالشريعة، والنقل الشرعي والسنن المرعى، أن مغلوب، ومزاحم الله مهزوم، ومكابر البرهان بالجهل موسوم، ومرتع الغي مهجور، وسيف العدوان مفلول، وحظ الشيطان موكوس، وحزب السلطان منصور. ولا خفاء بنعمة الله علينا، التي اطردها في المواطن العديدة؛ والهضبات البعيدة. والشبهات غير المبينة، والظلمات الكثيفة، معلن بوفور الحظ من رحمته، وإبراز القداح في مجال كرامته، والاختصاص بسيما اختياره، فجعل العصمة ليلة الحادث علينا من دون مضجع أماناً، ونهج لنا سبيل النجاة بين يدي كسبه علينا، وسخر لنا ظهري الطريف والطريق، بعد أن فرق لنا بحر الليل، وأوضح لنا خفي المسلك، وعبد لنا عاصي الحزم، ودمث غمر الشعراء، وأوطأنا صهوة المنعة، وضرب وجوه الشرذمة المتبعة، بعد أن ركضوا قنيب البراذن البادئة، من خزاين إهداينا، المتجملة بحلى ركبنا؛ وتحملوا السلاح والرياش المختار من أثير صلاتنا، وأبهروا الأنفاس التي طال ما رفعها إيناسنا وأبلغها الريق تأميننا، وصببوا العرق الذي أفضله طعامنا، شرهين إلى دمنا، المحظور بالكتاب والسنة، المحوط بسياج البيعة، المحصن عنهم بتقديم النعمة، وحرمة الأب ومتعدد الأذمة، فجعل الله بيننا وبينهم حاجزاً، وسد ليأجوجهم من المردة مانعاً، وانقلبوا يعضون الأنامل الغضة من سريط جفاننا، ويقلبون الأكف التي أجدبها الدهر، ترفيعاً من المهن المترتبة في خدمتنا، قد حالهم صغار القدر، وذل الخيبة، وكبح الله جماعتهم عن التنفق بتلك الوسيلة. واحتللنا قصبة وادي آش، لا تملك إلا أنفساً، لم يشبها غش الملة، ولا كياد الأمة، ولا دنسها والحمد لله عار الفاحشة، ولا وسمها الشوم في الولاية، ولا أحبط عمل نجابتها دخل اعقيدة، ولا مرض السريرة، مذ سلمنا المقادة لمن عطف علينا القلوب، وصير إلينا ملك أبينا من غير حول ولا حيلة، نرى أنها أملك لحرمتنا، وأعلم بما كنا، وأرحم بنا. فتشبثت بها القدم، وحميت لنا من أهلها، ورعاهم الله الهمم، وصدقت في الذب عنا العزايم، وحاصرنا جيش العدو، وأولياء الشياطين، وظهر الباطل، فيان الظفر والاسقتبال، وظهرت الفية القليلة، والله مع الصابرين، فغلبوا هناك وانقلبوا صاغرين. ومع ما لنا من الضيق، وأهمنا من الأمر، فلم نطلق به غارة، ولا شرهنا إلى تغيير نعمة، ولا سرحنا عنا اكتساح على هجمة، ولا شعنا لبساً في بيت ولا حلة، وأمسكنا الأرماق بيسير الحلال الذي اشتملته خزايننا من أعشار وزكوات، وحظوظ من زراعات، وارتقبنا الفرج ممن محص بالشدة، والإقالة ممن نبه من الغفلة، وألهم الإقلاع والتوبة. ثم وفقنا سبحانه، وألهمنا من أمرنا رشداً، وسلك بنا طريقاً في بحر الفتنة يبساً، فدناه بحقن الدماء، وتأمين الأرجاء، وشكرنا على البلاء، كشكرنا إياه على الآلاء. وخرجنا عن الأندلس، ولقد كاد، لولا عصمته، بأن نذهب مذاهب الزوراء، ونستأصل الشأفة، ونستأصل العرصة، سبحانه ما أكمل صنعه، وأجمل علينا ستره، إلى أن جزنا البحر، ولحقنا بجوار سلطان المغرب، لم تنب عنا عين، ولا شمخ علينا أنف، ولا حمل علينا بركب، ولا هتفت حولنا غاشية، ولا نزع عنا للتقوى والعفاف ستر، بل كان الناس يوجبون لنا الحق الذي أغفله الأوغاد من أبناء دولتنا، والضفادع ببركة نعمتنا، حتى إذا الناس عافوا الصيحة، وتملوا الحسرة، وسيموا الخسار والخيبة، وسامهم الطغام الذين لا يرجون لله وقاراً، ولا يألون لشعايره المعظمة احتقاراً، كلاب الأطماع، وعبدة الطاغوت، ومدبرو حجون الجهل، ومياسيس أسواق البعد عن الرب، وعرايس محرم الزينة، ودود القز، وثغار النهم. الأعزة على المؤمنين بالباطل. الأذلة في أنفسهم بالحق، ممن لا يحسن المحاولة، ولا يلازم الصهوة، ولا يحمل السلاح، ولا ينزه مجتمع الحشمة عن الفحشاء، ولا يطعم المسكين، ولا يشعر بوجود الله، جارا من شقيهم المحرم، على مضعوف ملتف في الحرم المحصور، محتف بلطف المهد، معلل بالخداع، مسلوب الجرأة بأيدي انتهازهم، شؤم على الإسلام، ومعرة في وجه الدين، أخذ الله منهم حق الشريعة، وأنصف أيمة الملة فلم ينشبوا أن تهارشوا، فعض بعضهم، واستأصلهم البغي، وألحم للسيف، وتفنن القتل، فمن بين مجدل، يواري بأحلاس الدواب الوبرة، وغريق
يزف به إلى سوء الميتة، وأستينت حرمة الله، واستضيم الدين، واستبيحت المحرمات، واستبصعت الفروج في غير الرشدة، وسات في عدو الدين الحيلة، فتحركنا عن اتفاق من أرباب الفتيا، وعزم من أولى الحرية، وتحريض من أولى الحفيظة الهمة، وتداحير من الشوكة، وتحريك من وراء البحر من الأمة، فكان ما قد علمتم من تسكين الثايرة وإشكا العديم، وإصمات الصارخ، وشعب الثأي، ومعالجة البلوى، وتدارك القطر، وقد أشفى، وكشف الضر والبأسا أما الحبوة فالتمسها، وجل الرب، واستشاط عليها جو السماء. وأما مرافق البحر ومرافده. فسدت طرقها أساطيل الأعداء. وأما الحمية فبددها فساد السيرة، وغمط الحق، وتفضيل الأذى. وأما المال فاصطلم السفه بيضاءه وصفراءه، وكبس خزاينه حتى وقع الإدقاع والإعدام، وأقوى العامر، وأفتقرت المجابي والمغابن، واغتربت جفون السيوف من حلاها. وجردتموه الآلة إلى أعلاها، والدغل المستبطن الفاضح، ويمحض الحين، وأسلمت للدواء العرصة، وتخربت الثغور من غير مدافعة، واكتسحت الجهات فلم يترك بها نافخ، ووقع القول، وحق البهت، وخذل الناصر، وتبرأتن الأواصر، فحاكمنا العدو إلى النصفة. ولم نقره على الدنية، وبايناه أحوج ما كنا إلى كدحه، وأطمع ما أصبحنا في مظاهرته على الكفار مثله، اعتزازاً بالله، وثقة به، ولجأ إليه وتوكلاً عليه، سبحانه ما أبهر قدرته، وأسرع نصرته، وأودى أمره، وأشد قهره. وركبنا بحر الخطر، بجيش من التجربة وتهدنا قدماً، لا تهاب الهول ولا تراقبه، وأطللنا على أحوازريه في الجمع القليل، إلا من مدد الصبر المفرد، إلا من مظاهرة الله الغفل، إلا من زينة الحق المظلل جناح عقابه يجتاح الروح، تسد جياده بصهيل العز، المطالعة غرره بطليعة النصر. فلما أحس بنا المؤمنون المطهرون بساحتهم انتزوا من عقال الإيالة الظالمة، والدعوة الفاجرة، وتبرأوا من الشرذمة الغاوية. والطايفة المناصبة لله المحارية، وأقبلوا ثنيات وأفراداً، وزرافات ووجداناً. ينظرون بعيون لم ترو من غيبتنا، من محيا رحمة، ولا اكتحلت بمنظر رأفة، ووجوه عليها قسوة الخسلف، وإبشار عليها بوس الجهد، يتعلقون بأذيالنا تعلق الغريق، يئنون من الجوع والخوف أنين المرضى، ويجهشون بالبكاء، ويعلنون لله ولنا بالشكوى، فعرفناهم الشأمان من الأعداء، وأول عارفه جعلونا عليهم، وصرفنا وجه التأمين والتأنيس، وجميل الود إليهم، وخارطناهم الإجهاش والرقعة، ووثبنا لهم من الذلة، واستولينا على دار الملك ببلدهم، فأنزلنا منها أخابيث كان الأشقياء مخلفوهم بها، من أخلاف لا يزال تضأ إبشارهم الحدود، وتأنف من استكفايهم اليهود، وانثالت علينا البلاد، وشكمر الطاغية ذيله عن الجهات، وراجع الإسلام رمق الحياة، وحثثنا السير إلى دار الملك، وقد فرعتها الشقي الغاصب، بشوكة بغيه، التي أمدته في الغي، وأجرته على حرمة الله، وقصد دار قشتالة، بكل ما صانت الحقاق من ذخيرة، وحجبت الأمهاء من خرزة ثمينة يتوعدون المسلمين بإدالة الكفر من الإيمان، واقياد جيوش الصلبان، وشد الحيازم إلى تبديل الأرض غير الأرض، وسوم الدين، وطمس معالم الحق، كياداً لرسول الله في أمته، ومناصبة له في حنيفيته، وتبديلاً لنعمة الله كفراً، ولمعروف الحق نكراً، أصبح له الناس على مثل الرضف، يرتقبون إطلال الكريهة، وسقوط الظلة، وعودة الكرة، وعقبى المعرة، والله من ورائهم محيط، وبما يعلمون محيط، ولدعاء المستضعفين من المؤمنين مجيب، ومنهم وإن قعدوا في أقصى الأرض قريب. ولم نقزف به إلى سوء الميتة، وأستينت حرمة الله، واستضيم الدين، واستبيحت المحرمات، واستبصعت الفروج في غير الرشدة، وسات في عدو الدين الحيلة، فتحركنا عن اتفاق من أرباب الفتيا، وعزم من أولى الحرية، وتحريض من أولى الحفيظة الهمة، وتداحير من الشوكة، وتحريك من وراء البحر من الأمة، فكان ما قد علمتم من تسكين الثايرة وإشكا العديم، وإصمات الصارخ، وشعب الثأي، ومعالجة البلوى، وتدارك القطر، وقد أشفى، وكشف الضر والبأسا أما الحبوة فالتمسها، وجل الرب، واستشاط عليها جو السماء. وأما مرافق البحر ومرافده. فسدت طرقها أساطيل الأعداء. وأما الحمية فبددها فساد السيرة، وغمط الحق، وتفضيل الأذى. وأما المال فاصطلم السفه بيضاءه وصفراءه، وكبس خزاينه حتى وقع الإدقاع والإعدام، وأقوى العامر، وأفتقرت المجابي والمغابن، واغتربت جفون السيوف من حلاها. وجردتموه الآلة إلى أعلاها، والدغل المستبطن الفاضح، ويمحض الحين، وأسلمت للدواء العرصة، وتخربت الثغور من غير مدافعة، واكتسحت الجهات فلم يترك بها نافخ، ووقع القول، وحق البهت، وخذل الناصر، وتبرأتن الأواصر، فحاكمنا العدو إلى النصفة. ولم نقره على الدنية، وبايناه أحوج ما كنا إلى كدحه، وأطمع ما أصبحنا في مظاهرته على الكفار مثله، اعتزازاً بالله، وثقة به، ولجأ إليه وتوكلاً عليه، سبحانه ما أبهر قدرته، وأسرع نصرته، وأودى أمره، وأشد قهره. وركبنا بحر الخطر، بجيش من التجربة وتهدنا قدماً، لا تهاب الهول ولا تراقبه، وأطللنا على أحوازريه في الجمع القليل، إلا من مدد الصبر المفرد، إلا من مظاهرة الله الغفل، إلا من زينة الحق المظلل جناح عقابه يجتاح الروح، تسد جياده بصهيل العز، المطالعة غرره بطليعة النصر. فلما أحس بنا المؤمنون المطهرون بساحتهم انتزوا من عقال الإيالة الظالمة، والدعوة الفاجرة، وتبرأوا من الشرذمة الغاوية. والطايفة المناصبة لله المحارية، وأقبلوا ثنيات وأفراداً، وزرافات ووجداناً. ينظرون بعيون لم ترو من غيبتنا، من محيا رحمة، ولا اكتحلت بمنظر رأفة، ووجوه عليها قسوة الخسلف، وإبشار عليها بوس الجهد، يتعلقون بأذيالنا تعلق الغريق، يئنون من الجوع والخوف أنين المرضى، ويجهشون بالبكاء، ويعلنون لله ولنا بالشكوى، فعرفناهم الشأمان من الأعداء، وأول عارفه جعلونا عليهم، وصرفنا وجه التأمين والتأنيس، وجميل الود إليهم، وخارطناهم الإجهاش والرقعة، ووثبنا لهم من الذلة، واستولينا على دار الملك ببلدهم، فأنزلنا منها أخابيث كان الأشقياء مخلفوهم بها، من أخلاف لا يزال تضأ إبشارهم الحدود، وتأنف من استكفايهم اليهود، وانثالت علينا البلاد، وشكمر الطاغية ذيله عن الجهات، وراجع الإسلام رمق الحياة، وحثثنا السير إلى دار الملك، وقد فرعتها الشقي الغاصب، بشوكة بغيه، التي أمدته في الغي، وأجرته على حرمة الله، وقصد دار قشتالة، بكل ما صانت الحقاق من ذخيرة، وحجبت الأمهاء من خرزة ثمينة يتوعدون المسلمين بإدالة الكفر من الإيمان، واقياد جيوش الصلبان، وشد الحيازم إلى تبديل الأرض غير الأرض، وسوم الدين، وطمس معالم الحق، كياداً لرسول الله في أمته، ومناصبة له في حنيفيته، وتبديلاً لنعمة الله كفراً، ولمعروف الحق نكراً، أصبح له الناس على مثل الرضف، يرتقبون إطلال الكريهة، وسقوط الظلة، وعودة الكرة، وعقبى المعرة، والله من ورائهم محيط، وبما يعلمون محيط، ولدعاء المستضعفين من المؤمنين مجيب، ومنهم وإن قعدوا في أقصى الأرض قريب. ولم نق
م مذ حللنا بدار الملك شيئاً على مراسلة صاحب قشتالة في أمره، نناشده العهد، ونطري له الوفاء، ونناجزه إلى الحق، ونقوده إلى حسن التلطف، إلى الذي نشاء من الأمن، فحسم الداء، واجتث الأعداء، وناصح الإسلام وهو أعدا عدوه، وحزم الدين، وهو المعطل من أدوايه، وصارت صغرى عناية الله بنا، التي كانت العظمى، واندرجت أولاها في الأخرى، وأتت ركايب اليمن واليمين، تترى، ورأى المؤمنون أن الله لم يخلق هذا الصقع سدى ولا هباء عبثاً، وأن له فينا خبيثة غيب، وسر عناية، ويبلغنا إياها، ويطوقنا طوقها، لا مانع لعطايه، ولا معدد لآلايه، له الحمد ملئ أرضه وسمايه.
فمن اضطردت له هذه العجايب، فحملته عوايق الاستقامة مزية جيوب التقوى، كيف لا يتمنى، ويدين لله بمناصحته، ويحذر عناد الله بمخالفته، ويخشى عاقبة أمره، إنها لا تعمى الأبصار، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. فقلمنا أظفار الطالبة وأغضينا عن البقية وسوغنا من كشف وجهه في حربنا نعمة الإبقاء وأقطعنا رحم من قطع طاعتنا جانب الصفح، وأدررنا لكثير ممن شح عنا ولو بالكلمة الطيبة جورية الرزق، ووهنا ما وجب لنا من الحق، ودنا له بكظم الغيظ؛ وعمرنا الرتب بأربابها، وجردنا الألقاب بعد خرابها، وقبضتا الجباية محملة كتد العادة، مقودة بزمام الرفق. ممسوحاً عطفها بكف الطواعية. فبللنا صدأ الجيش الممطول بالأماني، المعلل بالكذب، المستخدم في الذب عن مجاثم الفحشاء، ومراقد العهر، ودارينا الأعداء، وحسمنا الداء، وظهر أمر الله وهم كارهون. إلا أن تلك الشرذمة الخبيثة، أبقت جراثيم نفاق، ركبها انحجار الغدر، وبذر بها حصيد الشر، وأخلطوا الحقايب اللعنة ممن ساء ظنه، وخبث فكره، وظن أن العقاب لا يفلته، والحق لا يذره، والسياسة لا تحفزه، فدبت عقاربهم، وتدارت طوافاتهم، وتأبت فسادهم، فدبروا أمراً تبره الله تتبيراً، وأوسعه خزياً وبيلا، وجفلوا يرتادون من أذيال القرابة، من استخلصه الشيطان وأصحبه الخذلان، من لا يصلح لشيء من الوظائف، ولا يستقل ببعض الكلف، فحركوا منهم زاهق زمانه، من شر الدواب الذين لا يسمعون، فأجرهم رسنه، وتوقف وقفة العين بين الورد والصدر. بخلال ما أطلعنا الله طلع نيته، فعاجلناه بالقبض، واستودعناه مصفداً ببعض الأطباق البعيدة، والأجباب العميقة، فخرج أمرهم، وخافوا أن نحترش السعايات، صباب مكرهم، وتتبع نفاقهم، فأقدموا إقدام العير على الأسد، استعجالاً للحين، ورجعاً لحكم الخيار، وإقداماً على التي هي أشد، تولي كبرها، وكشف وجهه في معصيتها الخبيث البركي حلف التهور والخرق، المموه بالبسالة وهو الكذوب النكوث الفلول، تحملنا هفوته، وتغمدنا بالعفو قديماً وحديثاً زلته، وأعرضنا فيه عن النصيحة، وأبقينا له حكم الولاية، وأنسنا من نفرته، وتعاففنا عن غرته، وسوغنا الجرايم التي سبقت، والجراير التي سلفت، من إفساد العهد وأسر المسلمين، والافتيات على الشرع، والصدوع بدعوى الجاهلية، فلم يفده، إلا بطراً، ولم يزده إلا مكراً، والخير في غير أهله يستحيل شراً، والنفع ينقلب ضراً. والتفت عليه طايفة من الخلايق بنو غرون قرعاء الجبل والمشأمة. وأذناب بيت الإدبار، ونفاية الشرار، عرك جرأتهم مكان صهرهم البائس، ابن بطرون، الضعيف المنة السقيط الهمة، الخامل التفصيل والجملة، وغيرهم ممن يأذن الله بضلال كيدهم وتخييب سعيهم، فاقتحموا البلد صبيحة يهتفون بالناس أن قد طرق حكامهم، وأن العدو قد دهمهم، ملتفتين يرون أنهم في أذيالهم، وأن رماحهم تنهشهم وتنوشهم، وسرعانهم ترهقهم، كأنهم سقطوا من السماء، أو ثاروا من بين الحصباء. ثم جالوا في أزقة البلد يقذفون في الصفاح نار الحباحب ركضاً فوق الصخر المرصوف، وخوضاً في الماء غير المرهوف، ثم قصدوا دار الشيخ البايس علي بن أحمد بن نصر، نفاية البيت، ودردى القوم، ممسوخ الشكل، قبيح اللتغ ظاهر الكدر، لإدمان المعاقرة، مزنون بالمعاقرة والربت على الكبرة ساقط الهمة. عديم الدين والحشمة، منتمت في البخل والهلع، إلى أقصى درجات الخسة، مثل في الكذب والنميمة، معيب المثانة. لا يرق بوله، واليجف سلسه، فاستخرجوه مبايعاً في الخلافة، منصوباً بأعلى كرسي الإمامة، مدعوماً بالأيدي لكونه قلقاً لا يثبت على الصهوة مختاراً لحماية البيضة. والعدل في الأمة، مغتما للذب عن الحنيفية السمحة، وصعدوا به إلى ربوة بإزاء قلعتنا، منتترا باب البنود، مستندا إلى الربض. مطلاً على دار الملك، قد أقام له رسم الوزارة ابن مطرون الكاري، الكسح الدروب برسم المسومة، الحرد، المهين الحجة، فحل طاحوثة الغدر، وقدر السوق والخيانة، واليهودي الشكل والنحل، وقرعتن حوله طبول الأعراس، إشادة بخمول أمره، واستهجان آلته، ونشرت عليه راية فال رأيها، وخلب سعيها ودارت به زعنفة من طغام من لا يملي ولا يزيد المكا والصغير من حيله، وأنبث في سكك البلد مناديه، وهتف أوليا باطله باسمه وكنيته. وانتجزوا مواعيد الشيطان فأخلفت، ودعوا سماسير الغرور فصمت، وقدحوا زناد الفتنة فصلدت وما
أوارت. ولحين شعرنا بالحادثة، ونظرنا إلى مرج الناس، واتصل بنا ريح الخلاف، وجهير الخلعان، استعنا بالله وتوكلنا عليه، وفوضنا أمرنا إلى خير الناصرين، وقلنا ربنا افتح بيننا وبين قومن ا بالحق، وأنت خير الفاتحين، واستركبنا الجند وأذعنا خبر العطاء، وأطلقنا بريح الجهاد، ونفير الجلاد، وملأنا الأكف بالسلاح، وعمرنا الأبارج بالرجال، وقرعنا طبول الملك، ونشرنا ألوية الحق؛ واستظهرنا بخالصة الأمراء أولياء الدعوة، وخاطبنا فقيه الربض، نخبر مخبره؛ ونسبر غوره، فالفيناه متوارياً في وكره، مرعيا على دينه، مشفقاً من الإخطار برمه، مشيراً بكمه. وتفقدنا البلد، فلم نرتب بأحد من أهله. فلما كملت البيعة، وفخمت الجملة، أنهدنا الجيش، ولي أمرنا، الذي اتخذناه ظهيراً؛ واستنبطناه مشيراً، والتزمناه جليساً وصهيراً. ولم ندخر عنه محلا أثيراً، الشيخ الأجل، أبا سعيد عثمان بن الشيخ أبي زكريا يحيى بن عمر بن رحو، ممهد الرعب بقدومه، والسعد في خدمتنا بخدمه، في جيش كثيف الحملة، سابغ العدة، مزاح العلة، وافر الناشية، أخذ بباب الربض وشعابه، ولف عليه أطنابه، وشرع إليه أمله. ولم يكن إلا كلاً ولا حتى داسه بالسنابك، وتخلفه مجر العوالي، ومجرى السوابق، وهو الحمى الذي لا يتوعد، والمجد الذي لا يغرب، فلولا تظاهر مشيخته بشعار السلم؛ واستظلاله بظلال العافية، لحث الفاقرة، ووقعت به الرزية. وفر الأعداء لأول وهلة، وأسلموا شقيهم أذل من تد في قاع، وسلحفة في أعلى يفاع، فتقبض عليه، وأخذت الخيل أعقاب الغدرة أشياعه، وقيد إلينا يرسف في قيد المهزم، ثعبان مكيدة، وشكية ضلال مظنة فضيحة، وأضحوكة سمر. فتضرع بين أيدينا، وأخذته الملامة، وعلاه الخزي، وثل إلى المطبق، حتى نستدعي حكم الله في جرمه، ونقتضي الفتيا في جريرته، ونختار في أقسام ما عرضه الوحي من قتلته. وهدأت الثايرة، والحمد لله من يومها، واجتثت شجرة الخلاف من أصلها، فالحمد لله الذي أتم نوره ولو كره الكافرون " إن هؤلاء متبر ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون " . وماذا رأيهم منا، أصغر الله منقلهم، وأخزى مردهم، وأستأصل فلكهم،. أولا يتبنى أمر وارثه. ثم عوده إلينا طواعية، ثم رفعنا وطأة العدو وحربه، ومددنا ظلال الأمن دفعة، وأنفأنا رمتي الثغور، حين لم يجدوا حيلة إلا ما عرفوا من أمنه، وبلوا من حيطته وتسوغاً من هدنه، وانسحبت فوق آمالهم وحريمهم من عفة. وأظهر الله علينا من نعمة. ربنا أنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم ألبسنا سريرتنا، وعاملنا بدخلتنا فيهم، وإن كنا أردنا لجماعتهم شراً، وفي دينهم إغماضاً، وعن العدل فيهم عدولاً، فعاملنا بحسب ما تبلوه من عقيدنا، وتستكشفه من خبيئتنا، وإن كنت تعلم صحة مناصحتنا لسوادهم؛ واستنفادنا الجهد في إتاحة عافيتهم، ورعى صلاحهم، وتكيف آمالهم، فصل لنا عادة صنعك فيهم، ومسلنا طاعتهم، واهدبنا جماعتهم، وارفع بنظرنا إطاعتهم، يا أرحم الراحمين.رت. ولحين شعرنا بالحادثة، ونظرنا إلى مرج الناس، واتصل بنا ريح الخلاف، وجهير الخلعان، استعنا بالله وتوكلنا عليه، وفوضنا أمرنا إلى خير الناصرين، وقلنا ربنا افتح بيننا وبين قومن ا بالحق، وأنت خير الفاتحين، واستركبنا الجند وأذعنا خبر العطاء، وأطلقنا بريح الجهاد، ونفير الجلاد، وملأنا الأكف بالسلاح، وعمرنا الأبارج بالرجال، وقرعنا طبول الملك، ونشرنا ألوية الحق؛ واستظهرنا بخالصة الأمراء أولياء الدعوة، وخاطبنا فقيه الربض، نخبر مخبره؛ ونسبر غوره، فالفيناه متوارياً في وكره، مرعيا على دينه، مشفقاً من الإخطار برمه، مشيراً بكمه. وتفقدنا البلد، فلم نرتب بأحد من أهله. فلما كملت البيعة، وفخمت الجملة، أنهدنا الجيش، ولي أمرنا، الذي اتخذناه ظهيراً؛ واستنبطناه مشيراً، والتزمناه جليساً وصهيراً. ولم ندخر عنه محلا أثيراً، الشيخ الأجل، أبا سعيد عثمان بن الشيخ أبي زكريا يحيى بن عمر بن رحو، ممهد الرعب بقدومه، والسعد في خدمتنا بخدمه، في جيش كثيف الحملة، سابغ العدة، مزاح العلة، وافر الناشية، أخذ بباب الربض وشعابه، ولف عليه أطنابه، وشرع إليه أمله. ولم يكن إلا كلاً ولا حتى داسه بالسنابك، وتخلفه مجر العوالي، ومجرى السوابق، وهو الحمى الذي لا يتوعد، والمجد الذي لا يغرب، فلولا تظاهر مشيخته بشعار السلم؛ واستظلاله بظلال العافية، لحث الفاقرة، ووقعت به الرزية. وفر الأعداء لأول وهلة، وأسلموا شقيهم أذل من تد في قاع، وسلحفة في أعلى يفاع، فتقبض عليه، وأخذت الخيل أعقاب الغدرة أشياعه، وقيد إلينا يرسف في قيد المهزم، ثعبان مكيدة، وشكية ضلال مظنة فضيحة، وأضحوكة سمر. فتضرع بين أيدينا، وأخذته الملامة، وعلاه الخزي، وثل إلى المطبق، حتى نستدعي حكم الله في جرمه، ونقتضي الفتيا في جريرته، ونختار في أقسام ما عرضه الوحي من قتلته. وهدأت الثايرة، والحمد لله من يومها، واجتثت شجرة الخلاف من أصلها، فالحمد لله الذي أتم نوره ولو كره الكافرون " إن هؤلاء متبر ما هم فيه، وباطل ما كانوا يعملون " . وماذا رأيهم منا، أصغر الله منقلهم، وأخزى مردهم، وأستأصل فلكهم،. أولا يتبنى أمر وارثه. ثم عوده إلينا طواعية، ثم رفعنا وطأة العدو وحربه، ومددنا ظلال الأمن دفعة، وأنفأنا رمتي الثغور، حين لم يجدوا حيلة إلا ما عرفوا من أمنه، وبلوا من حيطته وتسوغاً من هدنه، وانسحبت فوق آمالهم وحريمهم من عفة. وأظهر الله علينا من نعمة. ربنا أنك تعلم ما نخفي وما نعلن، وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء. اللهم ألبسنا سريرتنا، وعاملنا بدخلتنا فيهم، وإن كنا أردنا لجماعتهم شراً، وفي دينهم إغماضاً، وعن العدل فيهم عدولاً، فعاملنا بحسب ما تبلوه من عقيدنا، وتستكشفه من خبيئتنا، وإن كنت تعلم صحة مناصحتنا لسوادهم؛ واستنفادنا الجهد في إتاحة عافيتهم، ورعى صلاحهم، وتكيف آمالهم، فصل لنا عادة صنعك فيهم، ومسلنا طاعتهم، واهدبنا جماعتهم، وارفع بنظرنا إطاعتهم، يا أرحم الراحمين.
ولما أسفر صبح هذا الصنع عن
حسن العفو، وأستقر على التي هي أزكى، وظهر لنا لا تخاف بالله دركا ولا تخشى، وأن
سبيل الحق أنجى ومحجته أحجى، خاطبناكم تجلو نعم الله قبلنا عليكم، ونشيد بتقوى
الله بناديكم، وعنايته لدينا ولديكم، ونهدي طرف صنعه الجميل قبلنا إليكم ليكسبكم اعتباراً،
فزجوا الله وقارا، وتزيدوا يقيناً واستبصاراً، وتصفوا العين من اختار لكنم
اختيارا. وهو حسبنا ونعم الوكيل، والله يصل سعدكم، ويحرس مجدكم. كتب في
كذا. والسلام عليكم ورحمت الله وبركاته. صح هذا
الجهاد في شعبان
من عام سبعة وستين وسبعمائة
اقتضى نظر الحزم، ورأى
الاجتهاد للإسلام، إطلاق الغارات على بلد الكفرة من جميع جهات المسلمين، فعظم
الأثر، وشهر الذكر، واكتسحت الماشية، وألحم السيف. وكان ثغر برغة، الفايزة به يد الكفرة،
لهذا السنين القريبة، قد أهم القلوب، وشغل النفوس، وأضاق الصدور، لانبتات مدينة
رندة، بحيث لا يخلص الطيف، ولا تبلغ الرسالة من الطير وغيرها إلى ناحية العدو.
فوقع العمل على قصده، واستعانة الله عليه، واستنفر لمنازلته أهل الجهات الغربية من
مالقة ورندة، وما بينهما، ويسر الله في فتحه، بعد قتال شديد، وحرب عظيمة، وجهاد
شهير، واستولى المسلمون عليه، فامتلأت أيديهم أثاثاً وسلاحاً ورياشاً وآلة، وطهرت للحين
مساجده، وزينت بكلمة الله مشاهده وأنست بالمؤمنين معاهده ورتبت فيه الحماة
والرماة، والفرسان الكماة، واتصلت بفتحة الأيدي، وارتفعت العوايق، وأوضحت بين
المسلمين وأخوانهم السبل، والحمد لله. وتوجهت بفتحه الرسايل، وعظمت المنن الجلايل،
وفر العدو لهذا العهد عن حصن السهلة، من حصون الحفرة اللويشية، وسد الطريق
الماثلة، وذلك كله في العشر الأوسط لشعبان من هذا العام. ثم أجلب المسلمون في
يرندة في أخرياته وقصدوا باغة وجيرة فاستنزلوا أهلها، وافتتحوها، فعظمت النعمة،
واطرد الفتح، واتسعت الجهة.
وكانت مما خوطبت به الجهة المرينية من إملائي:
المقام الذي نبشره بالفتح
ونحييه، ونعيد له خبر المسرة بعد أن نبديه؛ ونسأل الله أن يضع لنا البركة فيه.
ونشرك مساهمته فيما نهصره من أغصان الزهور ونجنيه ونعلم أن عزة الإسلام وأهله أسنى
أمانيه، وإعانتهم أهم ما يعنيه. مقام محل أخينا الذي نعظم قدره، ونلتزم بره، ونعلم
سره في مساهمة المسلمين وجهره؛ السلطان الكذا، الذي أبقاه الله في عمل الجهاد
ونيته؛ متكلفة بنشر كلمة الله طويته، متممة من ظهور الدين الحنيف أمنيته، معظم
جلاله، ومجزل ثنايه، ومؤمل عادة احتفاله بهذا الوطن الجهادي واعتنايه، أيد الله
أمره، وأعز نصره. سلام كريم عليكم، ورحمة الله وبركاته. أما بعد حمد الله، واصل
سبب الفتوح، ومحزل مواهب النصر الممنوح. ومؤيد الفية القليلة بالملايكة والروح، والصلاة
والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبيه، الآتي بنور الهدى بين الوضوح، الداعي من
قبوله ورضوانه إلى المنهل المورود والباب المفتوح، الرضا عن آله وأصحابه، أسود
السروج، وجماة السروج، والمقتفين نهجه في جهاد عدو الله بالعين القارة والصدر
المشروح، والدعاء لمقامكم العلي بالعز الرفيع الصروح فإنا كتبناه إليكم، كتب الله
لكم سبوغ المواهب، ووضوح المذاهب وعزة الجانب، وظفرة الكتايب، من حمراء غرناطة
حرسها الله، ونعم الله واكفة السحايب، كفيلة بنيل الرغايب، والله يصل لنا ولكم
عوارف اللطايف، ويجعل الشهيد دليلاً على الغايب. وإلى هذا وصل الله إزازكم، وحرس
أحوازكم وعمر بالحقيقة من أمراد مجازنا ومجازكم. فإنا بادرنا تعريفكم بما فتح الله
علينا من الثفر العزيز على الإسلام، العايد رزؤه الفادح على عبادة الأصنام، ركاب الغارات،
وممكن حياة المضرات، ومخيف الطريق السابلة؛ والمسارح الآهلة، حصن برغة ويسر الله
في استرجاعه مع شهرة امتناعه، وتطهر من دنس الكفار وأنيرت مئذنته بكلمة الشهادة
الساطعة الأنوار، وعجلنا ذلك على حين وضعت الحرب فيه أوزارها، ووفت الأوتار
أوبارها، فسار الكتاب إليكم، وأجير الأجر لم يجف عرقه، وعذر الاستعجال لأحبة طرقه.
ولما عدنا إلى حضرتنا، بعد ما حصناه وعمرناه، وأجزلنا نظر الحزم له وفرقناه. لم
تكد البنود لمسرة فتحه أن تعاد إلى أماكن صوتها، مرتقبة عادة الله ف يعونها، حتى
طرقت الأنباء السارة بتوالي الصنع وانفراده بتشفيع أفراده، وذلك أن أهل رندة حرسها
الله، نافسوا جيرانهم من أهل مالقة، كان الله لجميعهم، وتولى شكر صنيعهم، فيما كان
من امتيازهم بحصن برغة، الجار المصاقب لها، فحميت هممهم السنية، وهانت في الله موارد
المنية، وتضافر العمل والنية، وظهر نجح المقاصد الدينية في إتاحة الفتح الهنية،
فوجهوا نحو حصن وحبر، وهو الداين صحر المدينة ونحرها. والعدو الذي لا يفتر عن
ضرها، والحية الذكر التي هي مروان أمرها؛ ففتحوه بعون الله وقوته، وتهنوا بعده
سلوك الطريق، وإشاعة الريق، ومراصد الحرس. ومجلوا الجرس، وأنصفوا، وانصرفوا إلى
حصن باغة، من مشاهد تلك الحفرة، فناشبوه القتال، وأذاقوه الوبال، وفوقوا إليه
النبال، ففتحة الله فتحاً هيناً. لم تفت فيه للمسلمين نفس ولا تطرق لنصر التيسير
لبس، فقابلنا بها لشكر هذه النعم المتوالية، والمنن المتقدمة والتالية. و أعدنا
الأعلام إلى مراكزها المشرفة المراقب، والطبول إلى قرعها عملاً من الإشارة
بالواجب، وشكرنا الله على اتصال المواهب، ووضوح المذاهب، وخاطبنا مقامكم الذي ترى
الصنايع متواترة بنيته الصالحة وقصده، ويعتد في الحرب والسلم بمجده، علماً بأن هذه
المسرات، نصيبكم منها النصيب الأوفى؛ وارتياحكم أي لمثلها لا يخفى، ونحن نرقب ما
تنجلي عنه هذه النكايات، التي تفتت كبد العدو تناليها، وتروع أحوازه وما يليها،
ولا بد له من امتعاض يروم به صرع المعرة، ويأبى الله أن ذلك يأتي بالكرة، والله
يجعلها محركان لحتفه المرقوب، وحينه المجلوب، ويحقق حق القلوب، في نصرة المطلوب،
عرفنا كم بما تريدون عملاً بواجب بركم، ومعرفة بقدركم، وما يتزايد نعرفكم به،
ويتصل سبب التأكيد والتعجيل بسببه والسلام.
الغزاة إلى حصن أشر
وفي أوائل شهر رمضان بعده.
أعمل السلطان الحركة السعيدة إلى حصن أشر، وهو قفل الثغر الذي فضه الطاغية، وسورها
الذي فرغه الكفر. وجارحه المحلق على البلاد. والمتحكم لو لا فضل الله في الأموال
والأولاد، فتأذن الله برد مغتصبه، والشفا من وصبه، وأحاط به وناصبه الحرب، ففتحة
الله على يده عنوة. على سمو ذروته، وبعد صيته وشهرته، واختيار الطاغية في حاميته
بعد حرب لم يسمع بمثله، فاز بمزية الحمد فيها السلطان، لمباشرته إياها بنفسه، وحمل
كلها فوق كاهله، واتقاد ما خمد من الحمية بتحريضه. ثم لما كان بعد الفتح من
استخلاص القصبة وسد ثلمها بيده، ومصابرة جمو القيظ عامة يومه، فجاز ذكراً جميلاً
وحل من القلوب محلا أثيراً، ورحل منها، بعد أن أسكن بها من الفرسان رابطة متخيرة،
ومن الرماة جملة، وتخلف سلاحاً وعدة، فكان الفتح على المسلمين. في هذا المعقل
العزيز عليهم جليلاً، والمن من الله جزيلا، والصنع كثيراً. في هذا المعقل العزيز عليه
جليلاً، والمن من الله جزيلا، والصنع كثيراً، وصدرت الخاطبة للمغرب بذلك، على
الأسلوب المرسل الخلي من السجع الغني.
الغزاة المعملة إلى أطريرة في شهر شعبان من عام ثمانية
وستين وسبعمائة، كانت الحركة إلى مدينة أطريرة بنت إشبيلية. وبلدة تلك الناحية
الآمنة. مهاد الهدنة البعيدة عن الصرمة، حرك إليها بعد المدى،وآثرها بمحض الردى،
من بين بلاد العدا، ما أسلف به أهلها المسلمين، من قتل أسراهم في العام قبله.
فنازلها السلطان أول رمضان، وناشبها الحرب واستباح المدينة وربضها عنوة. ولجأ
أهلها إلى قصبتها المنيعة، ذات الأبراج المشيدة، وأخذ القتال بمخنقهم، وأعان
الزحام على استنزالهم، فاستتنزلوا على حكم المسلمين، فيما يناهز خمسة، بما لم
يتقدمه عهد؛ ولا اكتحلت به في هذه المدة عين. ولا تلقته عنها أذن، وامتلأت أيدي المسلمين،
بما لم يعالمه إلى الله، من شتى الغنايم، وأنواع الفوايد، واقتسم الناس السبي
رنعاً على الأكفال والظهور، وتقديرا بقدر الرجال، وحملا فوق الظهور للفرسان،
وعمرانا للسروج والأعضاد بالصبية، وبرز الناس إلى ملاقاة السلطان. في هول من العز
شهير من الفخر، وبعيد من الصيت، قرت له أعينهم، وقعد لبيعتهم أياماً تباعاً،
وملأبهم البلاد هدايا وتحفاً والحمد لله وصدرت المخاطبة بذلك إلى السلطان بالمغرب
بما نصه من الكلام المرسل من إنشائي.
الغزاة إلى فتح جيان وفي آخر محرم من عام تسعة وستين
وسبعمائة، كانت الحركة الكبرى إلى مدينة جيان، إحدى دور الملك، ومدن المعمود،
وكرسية الإمارة، ولوان المدن الشهيرة، افتتحها الله عنوة، ونقل المسلمون ما اشتملت
عليه من النعم والأقوات والأموال والأنعام والأثواب والدواب والسلاح، ومكنهم من
قتل المقاتلة، وسبي الذرية، وتخريب الديار، ومحو الآثار، واستنساف النعم، وقطع الأشجار.
وهذا الفتح خارق. تعالى أن يحيط به النظم والنثر، فذكره أطير، وفخره أشهر، وصدرت
في ذلك المخاطبة من إملائي إلى ملك المغرب. وأصاب الخلق عقب القفول في هذه الغزاة.
مرض وافد، فشا في الناس كافة، وكانت عاقبته السلامة، وتدارك الله بلطفه، فلم يتسع
المجال لإنشاد الشعراء، ومواقف الإطراء، إلى شغل عن ذلك.
الغزاة إلى مدينة أبدة وفي أو لربيع الأول من هذا العام،
كان الغزو إلى مدينة أبدة، واحتل بظاهرها جيش المسلمين، وأبلى السلطان في قتالها،
وقد أخذت بعج جارتها جيان أقصى أهبة. واستعدت بما في الوسع والقوة، وكانت الحرب
بها مشهورة. وافتتحها للمسلمون فانتهبوها، وأعفوا مساكنها العظيمة البناء،
وكنايسها العجيبة المرأى، وألصفوا أسوارها بالثرى، ورأوا من سعة ساحتها، وبعد
أقطارها، وضخامة بناها، ما يكذب الخبر فيه المرأى، ويبلد الأفكار، ويحير النهي.
ولله الحمد على آلايه التي لا تحصى. وقفل المسلمون عنها، وقد أخربوها، بحيث لا
تعمر رباعها، ولا تأتلف حجورها وجموعها. وصدرت المخاطبة بذلك إلى صاحب المغرب من
إنشائي بما نصه:
وإلى هذا العهد جرت الحادثة على ملك قشتالة، بطره بن أدفونش بن هراندة بن شانجه، وهو الذي تهيأ به الكثير من الصنع للمسلمين، بمزاحمة أخيه أندريق في الملك وتضييقه عليه، وحياز سبعة من كبار أصحابه، وأهل ملته إليه، وافتقار بطره المذكور إلى إعانة المسلمين، وإجلابهم على من آثر طاعته ضده، فانهزم بظاهر حصن منتيل، ومعه عدد من فرسان المسلمين، ولجأ إلى الحصن على غير أهبة ولا استعداد، فأخذ أخوه الذي هزمه بمخنقه، وأدار على الحصن البنا، وفر جيش المحصور، فاجتمع فله بأحواز أبدة، وراسلوا المسلمين في مظاهرتهم على استنقاذهم، فتوجهت الفتيا بوجوب ذلك. ووقع الاستنفار والاحتشاد حرصاً على تخليثه، لسبب بقاؤه بقاء الفتنة تستأصل الكفر، ونشغل بعض العدو ببعضه.
وفي أثناء هذه المحاولة تباطن
الحاين المحصور بمن معه، وبعد عليه الخلاص من ورطته، ومساهمة المسلمين إياه في
محنته؛ وانقطعت عنه الأنباء بفرج من كربته، فداخل بعض أمراء أخيه وظهراه، ممن
يباشر حصاره، وكان قومساً شهيراً من المدد الذي ظاهره، من أهل إفرنسية، ووعده بكل
ما يطمع من مال ومهد، وتوفية عهد. فأظهر له القبول وأضمر الخديعة. ولما نزل إليه
سجنه ومن لحق به من الأدلاء وأولى الحرة بالأرض وأمسكه، وقد طير الخبر إلى أخيه،
فأقبل في شرذمة من خواصه وخدامه، فهجم عليه وقتله، وأوس العفو من كان محصوراً معه،
وطير إلى البلاد برأسه، وأوغر التبن في جثته، ولبس ثياب الحزن من أجله، وإن كان
معترفاً بالصواب في قتله، وخاطب البلاد التي كانت على مثل الجمر من طاعة، الجاهر
بمظاهرة المسلمين، وما جر ذلك من افتتاح بلادهم، وتخريب كنايسهم، والإتيان على
نعمهم، فأجابته ضربة، وانفقت على طاعته، فلم يختلف عليه منها اثنان، إلا ما كان من
مدينة قرمونة. واجتمعت كلمة النصارى، ووقع ارتفاع شتاتهم، وصرفوا وجوههم إلى
المسلمين، وشاع استدعاؤهم جميع من بأرض الشرق من العدو والثقيل ببرجلونة، وعدو الأشبونة،
والعدو الثقيل الوطأة بإفرانسية. وقد كان الله جل جلاله، ألهم أهل البصاير النظر
في العواقب، والفكر فيما بعد اليوم أعمل. ووقع لي إذن السلطان، المخلى بيني وبين النصائح،
في مخاطبة سلطان النصارى المنكوب لهذا العهد، فأشرت عليه بالاحتراز من قومه،
والتفطن لمكايد من يحطب في حبل أخيه، وأريته اتخاذ معقل بحرز ولده وذخيرته، ويكون
له به الخيار على دهره، واستظهرت له على ذلك بالحكايات المتداولة، والتواريخ
المعروفة، لتتصل الفتنة بأرضهم، فقبل الإشارة وشكر النصيحة، واختار لذلك مدينة
قرموتة، المختصة بالجوار المكتب، من دار ملكهم إشبيلية، فشيد هضابها، وحصن
أسوارها، وملأها بالمخازن طعاماً وعدة، واشتكثر من الآلات، واستظهر عليها بالثقات،
ونقفل إليها المال والذخيرة، وسجن بها رهان أكابر إشبيلية، وأسرى المسلمين، وبالغ
في ذلك، فيما الغاية وراءه ولا مطمع، ولا ينصرف إلى مصرعه الذي دعاه القدر إليه، حتى
تركها عدة خلقه، وأودع بها ولده وأهله، ولجأ إليها بعض من خدامه من لا يقبل مهدنة
ضده، ولا يقر أمان عدوه، والتقوا على صغير من ولده كالنحل على شهده، ولجأوا إلى
المسلمين، فبغض عليهم الكرة والفتح بقاء هذا الشجي، المعترض في حلقه، وأهمه تغيير
أمره، وجعجع به المسلمون لأجله. وأظهروا لمن انحاز بقرمونة. الامتساك بعهده، فعظم
الخرق، وأظهر الله نجح الحيلة. وصدق بها المخيلة، وتفتر الأمر. وخمدت نار ذلك
الإرجاف. واشتغل الطاغية بقرمونة، بخلال ما خوطب به صاحب الأرض الكبيرة، فطمعه في
المظاهرة. وتحطب له ملك قشتالة، وعقد السلم مع صاحب برطغال والأشبونة، ونشأت الفتن
بأرضهم. وخرجت عليهم الخوارج، فأوجب إزعاجه إلى تلك الجهة. وإقرار ما بالبلاد
المجاورة للمسلمين من الفرسان والحماة تقاتل وتدافع عن أحوازها وجعل الخصص موجهة قرمونة
وانصرف إلى سد الفتوق التي عليه بلطف الحيلة. ببواطن أرضه وأحشاء عمالته، وصار في
ملكه أشغل من ذات النحيين. فساغ الريق. وأمكن العذر، وانتهز الغرة، واستؤنفت
الحركة، فكانت إلى حصن منتيل والحويز، ففتحهما الله في رمضان من عام سبعين
وسبعمائة، ثم إلى ثغر روطة. ففتحه الله عن جهد كبير، واتصل به حصن زمرة. فأمن
الإسلام عادية العدو بتلك الناحية، وكبس أهل رندة. بإيعاز من السلطان إليها، وإلى
من بالجبل جبل الفتح، حصن برج الحكيم والقشتور، فيسر الله فتحهما في رمضان أيضاً.
ثم كانت الحركة إلى الجزيرة الخضراء، باب الأندلس، وبكر
الفتح الأول، فكانت الحركة إليها شهر ذي الحجة من العام المذكور. ووقع تحريض الناس
بين يدي قصدها في المساجد بما نصه:
معاشر المسلمين المجاهدين.
وأولي الكفاية عن ذوي الأعذار من القاعدين. أعلى الله بعلو أيديكم كلمة الدين.
وجعلكم في سوى الأجر والفخر من الزاهدين، إعلموا رحمكم الله أن الإعلام بالأندلس
ساكن دار، والجزيرة الخضراء بابه، ومبعد مغار، والجزيرة الخضراء ركابه، فمن جهتها
اتصلت في القديم والحديث أسبابه، ونصرته على أعدايه وأعداء الله أحبابه، ولم يشك العدو
الكافر الذي استباحها، وطمس بظلمة الكفر صباحها، على أثر اغتصابها، واسوداد الوجوه
المؤمنة لمصابها، وتبديل محاربها، وعلوق أصله الخبيث في طيب تراثها، أن صريع الدين
الحنيف بهذا الوطن الشريف. لا ينتعش ولا يقوم، بعد أن فرى الحلقوم. وأن الباقي رمق
يذهب وقد سد إلى التدارك المذهب. لو لا أن الله دفع الفاقرة ووقاها. وحفظ المسكنة
واستبقاها، وإن كان الجبل عصمه الله نعم البقية. وبمكانه حفت التقية، فحسبك من
مصراع باب فجع بثانيه، ومضايق جوار حيل بينه وبين أمانيه. والآن يا عباد الله قد
أمكنكم الانتهاز، فلا تضيعوا الفرصة، وفتر المنخنق فلا تسوغه غصة، واعمروا البواطن
بحمية الأحرار، وتعاهدوا مع الله معاهد الأولياء الأبرار. وانظروا للعون من الذراري
والأبكار، والنشأة الصغار، زغب الحواصل في الأكوار، والدين المنتشر بهذه الأقطار،
واعملوا للعواقب، تحمدوا عملكم، واخلصوا لله الضماير، يبلغكم من فضله أملكم، فما
عذر من سلم في باب وكره. وماذا ينتظر من أذعن لكيد عدوه ومكروه. من هذه الفرضة،
دخل الإسلام تروع أسوده. ومن هذه الجهة طلع الفتح الأول تخفق بنوده، ومنها تقتحم
الطير الغريب، إذا رامت الجواز وفوده، فيبصر بها صفات والدليل يقوده. الباب
المسدود يا عباد الله فافتحوه، وجه النصر تجلى يا عباد الله فالمحوه، الداء العضال
يا عباد الله فاستأصلوه، حبل الله يا رجال الله قد انقطع فصلوه. في مثلها ترخص
النفوس الغالية، في مثلها تختبر الهمم العالية، في مثلها تشهر العقايد الوثيقة، وتدس
الأحباس العريقة، فنضر الله وجه من نظر إلى قلبه، وقد امتلأته حمية الدين، وأصبح
لأن تكون كلمة الله هي العليا متهلل الجبين.
اللهم إنا نتوسل إليك بأسرار الكتاب الذي أنزلته، وعناية
النبي العربي الذي أوفدت من خصوص الرحمات وأجزلت، وبكل نبي ركع لوجهك الكريم وسجد،
وبكل ولي سده من إمدادك كما وجد. ألا ما رددت علينا ضالتنا الشاردة، وهنأتنا
بفتحها من نعمك الواردة، يا مسهل المآرب العسرة، يا جابر القلوب المنكسرة، يا ولي
الأمة الغريبة، يا منزل اللطايف القريبة، اجعل لنا ملايكة نصرك مدداً، وانجز لنا من
تمام نورك الحق موعداً. ربنا آتنا من لدنك رحمة، وهيئ لنا من أمرنا رشداً.
فوقع الانفعال، وانتشرت الحمية، وجهزت الأساطيل. وكانت
منازلتها يوم السبت الثالث والعشرين من الشهر المذكور، وعاطاها المسلمون الحرب، فدخلت
البنية وهي المدينة الملاصقة لها عنوة، قتل بها من الفرسان الدارعة عدة، وصرفت
الغنايم إلى المدينة الكبرى. فرأوا من أمر الله ما لا طاقة لهم به، وخذلهم الله جل
جلاله، على منعة الأسوار وبعد مهاوي الأغنوار، وكثرة العهد والعدد. وطلبوا الأمان
لأنفسهم. وكان خروجهم عنها يوم الاثنين الخامس والعشرين من الشهر المذكور، السعيد
على المسلمين، في العيد والسرور، برد الدين. ولله الحمد على آلايه، وتوالي نعمه
وإرغام أعدايه.
وفي وسط ربيع الأول من عام أحد و سبعين وسبعمائة، أعمل
الحركة إلى أحواز إشبيلية دار الملك، ومحل الشوكة الحادة، وبها نايب سلطان
النصارى، في الجمع الخشن من أنجاد فرسانهم، وقد عظم التضييق ببلدة قرمونة،
المنفردة بالانتزاء على ملك النصارى، والانحياز إلى خدمة المسلمين، فنازل المسلمون
مدينة أشونة، ودخلوا جفنها عنوة، واعتصم أهلها بالقصبة، فتعاصت، واستعجل الإقلاع
منها لعدم الماء المروى والمحلات، فكان الانتقال قدماً إلى مدينة مرشانة وقد
أحدقوا بها. وبها العدة والعديد من الفرسان الصناديد ففتحها الله سبحانه، إلا القصبة،
واستولى المسلمون فيها، وفي جارتها. من الدواب والآلات على ما لا يأخذه الحصر.
وقتل الكثير من مقاتلتها. وعم جميعها العدم والإحراق، ورفعت ظهور دواب المسلمين
التوسعة، انحطاط الأسعار، وأودب الغلاء في أرض الكفار، وقفل والحمد لله في عز
وظهور. وفرح وسرور.
مولده السعيد النشيبة
الميمون الطلوع والجييةالمقترن بالعافية، منقولاً من
تهليل نشأته المباركة. وحرز طفولته السعيدة، في نحو ثلث ليلة الاثنين والعشرين من
جمادى الآخرة عام تسعة وثلاثين وسبعمائة. قلت، ووافقه من التاريخ الأعجمي رابع
ينير من عام لف وثلاثمائة وسبعة وسبعين لتاريخ الأعجمي رابع ينير من عام ألف
وثلاثمائة وسبعة وسبعين لتاريخ الصفر. واقتضت صناعة التعديل بحسب قيمودا وبطليموس،
أن يكون الطالع ببرج القمر، لاستيلائه على مواضع الاستقبال المتقدم للولادة، ويكون
التخمين على ربع ساعة وعشر ساعة، وثلث عشر الساعة السادسة من ليلة الاثنين
المذكورة. والطالع من برج السنبلة، خمس عشرة درجة وثمان وأربعون دقيقة من درجة.
كان الله له في الدنيا والآخرة. وحسبنا الله ونعم الوكيل.
محمد بن يوسف الخزرجي الأنصاريمحمد بن يوسف بن محمد بن
أحمد بن خميس بن نصر بن قيس الخزرجي الأنصاري من ولد سعد بن عبادة، صاحب رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ابن سليمان ابن حارثة بن خليفة بن ثعلبة بن طريف بن الخزرج بن
حارثة بن ثعلبة ابن عمر بن يعرب بن يشجب بن قحطان بن هميسع بن يمن بن نبت بن إسماعيل
ابن إبراهيم، صلى الله عليه وعلى محمد الكريم. أمير المسلمين بالأندلس ودايلها
وخدمة انصريين بها، يكنى أبا عبد الله ويلقب بالغالب بالله.
أوليتهوقد اشتهر عند كثير ممن عني بالأخبار أن هذا البيت
النصري من ذرية سعد بن عبادة سيد الخزرج. وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصنف الناس في
اتصال نسبهم بقيس بن سعد بن عبادة غير ما تصنيف وأقوى ما ذكر، قول الرازي: دخل
الأندلس من ذرية سعد بن عبادة رجلان، نزل أحدهما أرض تاكرونا ونزل الآخر قرية من
قرى سقرسطونة تعرف بقرية الخزرج، ونشأ بأحواز أرجونة من كنبانية قرطبة، أطيب
البلاد مدرة، وأوفرها غلة، وهو بلده، وبلد جده، في ظل نعمة، وعلاج فلاحة، وبين يدي
نجدة وشهرة، بحيث اقتضى ذلك، أن يفيض شريان الرياسة، وانطوت أفكاره على نيل
الإمارة ورآه مرتادو أكفاء الدول أهلاً، فقدحوا رغبته، وأثاروا طمعه.
حدث شيخنا الكاتب الشاعر محمد بن محمد بن عبد الله
اللوشي اليحصبي، وقد أخبرني أنه كان يوجد بمدينة جيان رجل من أهل المالية، وكان له
فرس أنثى من عتاق الخيل. على عادة أولى المالية، وكان له من أهل الثغور، من ارتباط
الخيل، والتنافس في إعداد القوة. وشهرت هذه الفرس، في تلك الناحية، وبعث الطاغية
ملك الروم في ابتياعها، فعلقت بها كف هذا الرجل، وآهر بها نفسه، وازداد غبطة بها
لديه، ورأى في النوم قايلاً يقول له، سر إلى أرجونة، بفرسك وابحث عن رجل اسمه كذا،
وصفته كذا، فاعطه إياها، فإنه سيملط جياناً وسواها، ينتفع بها عقبلك، وأرجي الأمر،
فعرض عليه ثانية، وحث في ذلك في الثالثة، فسأل ثقة له خبيراً بتلك الناحية وأهلها،
فقال له المخبر وكان يعرف بابن يعيش، فوصفه له، فتوجه الفقيه إلى أرجونة، ونزل
بها، وتسومع به، وأقبل السلطان وأظهاره وتكلموا في شأنه. فذكر غرضه فيه، وأظهر
العجز عن الثمن، وسأل منه تأخير بعضه، فأسعفه. واشترى منه الفرس، بمال له خطر.
فلما كمل له القصد. طلب منه الخلوة به في المسجد من الحصن، وخرج له عن الأمر،
وأعطاه بيعته، وصرف عليه الثمن.
واستكتمه السلطان خيفة على نفسه وانصرف إلى بلده.
قال: وفي العام بعده، دعا إلى نفسه بأرجونة، وتملك مدينة
جيان. واختلف في السيب الذي دعاه إلى ذلك، فقيل إن بعض العمال، أساء معاملته في حق
مخزني، وقيل غير ذلك.
حاله
هذا الرجل كان آية من آيات
الله في الذاجة والسلامة والجمهورية، جندياً، ثغرياً شهماً، أيداً، عظيم التجلد،
رافضاً للدعة والراحة، مؤثراً للتقشف، والاجتراء باليسير، متبلغاً بالقليل، بعيداً
عن التصنع، جافي السلاح، شديد العزم، مرهوب الإقدام، عظيم التشمير، مقرياً لضيفه،
مصطنعاً لأهل بيته، فظاً في طلب حظهم، محمياً لقرابته وأقرائه وجيرانه. مباشراً
للحروب بنفسه، تتعالى الحكاة في سلاحه، وزينة دبوره. يخصف النعل، ويلبس الخشن،
ويؤثر البداوة، ويستشعر الجد في أموره. سعد بيوم الجمعة، وكان فيه الصدقة الجارية على
ضعفاء الحضرة، ومنايهم إلى اليوم. وتملك مدينة إشبيلية في أخريات ربيع الأول من
عام ظهوره، وهو عام تسعة وعشرين وستماية نحواً من ثلاثين يوماً. وملك
قرطبة في العشر الأول لرجب من العام المذكور، وكلاهما عاد إلى ملك ابن هود. ولما
تم له القصد من تملك البيضة، والحصول على العمال، مباشراً للحسابات بنفسه، فتوفر
ماله، وغصت بالصامت خزاينه، وعقد السلم الكبير، وتهنأ أمره، وأمكنه الاستعداد،
فأنعم الأهواء. وملأ بطن الجبل المتصل بالقلعة حبوباً مختلفة. وخزاين درة ومالاً
وسلاحاً وارية ظهراً، وكراعاً. فوجد فايدة استعداده، ولجأ إلى ما ادخره من عتاده.
سيرتهتظاهر لأول أمره بطاعة الملوك بالعدوة وإفريقية،
يخطب لهم زماناً يسيراً. وتوصل بسبب ذلك إلى إمداد منهم وإعانة. ولقبل ما افتتح
أمره بالدعاء للمستنصر العباسي ببغداد، حاذياً حذو سميه ابن هود، للهج العامة في
وقته. بتقلد تلك الدعوة، إلى أن نزع عن ذلك كله.
وكان يعقد للناس مجلساً عاماً، يومين في كل أسبوع، فترفع
إليه الظلامات، ويشافه طالب الحاجات، وتنشده الشعراء. وتدخل إليه الوفود، ويشافه
أرباب النصايح في مجلس اختص به أهل الحضرة، وقضاة الجماعة، وأولى الرتب النبيهة في
الخدمة، بقراءة أحاديث من الصحيحين، ويختم بأعشار من القرآن، ثم ينتقل إلى مجلس
خاص، ينظر فيه في أموره فصرف كل قصد إلى من يليق به ذلك، ويؤاكل بالعشيات خاصته من
القرابة؛ ومن يليهم من نبهاء القواد.
أولادهأعقب ثلاثة من الذكور، محمداً ولي عهده، وأمير
المسلمين على أُره؛ والأميرين أبا سعيد فرج، وأبا الحجاج يوسف، توفيا على حياته؛ حسبما
يتقرر بعد إن شاء الله.
وزراء دولتهوزر له جماعة، الوزير أبو مروان عبد الملك بن
يوسف بن صناديد زعيم قاعدة جبان؛ وهو الذي مكنه من ناصية جيان المذكورة. واستوزر
علي ابن إبراهيم الشيباني من وجوه حضرته، وذوي النسب من الفضلاء أولي الدماثة
والوقار. واستوزر الرييس أبا عبد الله بن الرييس أبي عبد الله الرميمي. واستوز
الوزير أبا يحيى ابن الكاتب من أهل حضرته. وغيرهم ممن تبلغ به الشهرة مبلغاً فيهم.
كتابهكتب له من الجلة جماعة، كالكاتب المحدث الشهير أبي
الحسن علي بن محمد ابن محمد بن سعيد اليحصبي اللوشي، ولما توفي كتب عنه ولده أبو
بكر بن محمد. هؤلاء مشاهير كتابه، ومن المرءوسين أعلام كأبي بكر بن خطاب وغيره.
قضاتهولي له قضاء الجماعة، القاضي العالم الشهير، أبنو
عامر يحيى بن عبد الرحمن ابن ربيع الأشعري، من جلة أهل الأندلس في كبر البيت، وجلالة
المنصب، وغزارة العلم. ثم ولي بعده الفقيه أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن عبد
الجليل ابن غالب الأنصاري الخرزجي، ثم ولي بعده الفقيه أبو عبد الله محمد بن
إبراهيم ابن عبد السلام التميمي. وهذا الرجل من أهل الدين والأصالة، وآخر قضاة
العدل. ثم ولي بعده الفقيه القاضي أبو عبد الله محمد بن عياض بن موسى اليحصبي، ثم
ولي بعده الفقيه القاضي الحسيب أبنو عبد الله بن أضحى، وبيته شهير، ولم تطل مدته.
وولي بعده آخر قضاته أبو بكر محمد بن فتح بن علي الإشبيلي الملقب بالأشبرون.
الملوك على عهده
بمراكش المأمون إدريس، مأمومن
الموحدين، مزاحماً بأبي زكريا يحيى ابن الناصر ابن المنصور بن عبد المؤمن بالجبل.
ولما توفي المأمون ولي الرشيد، أبو محمد عبد الواحد في سنة ثلاثين وستماية، وولي
بعده أبو حفص عمر بن إسحاق المرتضى، إلى أن قتله إدريس الواثق أبو دبوس في عام
خمسة وستين. وولي بعده يسيراً بنو عامر بن علي بمراكش، وتعاقب منهم على عهده جلة؛
كالأمير عثمان وابنه حمو، وأخيه أبي يحيى بن عبد الحق. واستمر الملك في أسن
أملاكهم، أبي يوسف يعقوب بن عبد الحق بن محيو إلى آخر أيامه.
وبتلمسان، شبيهه يغمراسن بن زيان أول ملوكهم، وتقدمه
أخوه أكبر منه برهة. ويغمراسن أول من أثل الملك، وحاز الذكر، واستحق الشهرة.
وبتونس، الأمير أبو زكريا يحيى بن عبد الواحد بن أبي
حفص. وخاطبه السلطان المترجم به، والتمس رفده، وقد حصل على إعانته، وولي بعد موته
ولده المستنصر أبو عبد الله، ودامت أيامه إلى أول أيام ولد السلطان المترجم له عام
أربعة وسبعين.
وبقشتالة هراندة بن ألهنشة بن شانجه الإنبرطور. وهراندة
هذا هو الذي ملك قرطبة وإشبيلة، ولما هلك ولي بعده ألفنش ولده ثلاثاً وثلاثين سنة،
واستمر ملكه مدة ولايته. وصدرا من دولة ولده بعده.
ويرغون جايمش ابن بطره ابن ألفونش قمط برجلونه. وجايمش
هذا هو الذي ملك بلنسية، وصيرها دار ملكه من يد أبي جميل زيان ابن مردنيش.
لمع من أخبارهقام ابن أبي خالد بدعوته بغرناطة، كما ذكر
في اسمه، ودعاه وهو بجيان. فبادر إليها في أخريات رمضان من عام خمس وثلاثين
وستمائة، بعد أن بعث إليه الملأ من أهلها ببيعتهم مع رجلين من مشيختهم، أبي بكر
الكاتب، وأبي جعفر التيزولي.
قال ابن عذارى في تاريخه، أقبل ومازيه بفاخر، ونزل عشي
اليوم الذي وصفل بخارج غرناطة، على أن يدخلها من الغد، ثم بدا له فدخلها عند غروب
الشمس، نظراً للحزم.
وحدث أبو محمد البسطي قال: عاينته يوم دخوله وعليه شاشية
ملف مضلعة أكتافها مخرقة، وعندما نزل بباب جامع القصبة، كان مؤذن المغرب في
الحيعلة، وإمامه يومئذ أبو المجد المرادي قد غاب، فدفع الشيخ السلطان إلى المحراب،
وصلى بهم، على هيئته تلك، بفاتحة الكتاب. وإذا جاء نصر الله والفتح. والثانية بقل
هو الله أحد، ثم وصل قصر باديس، والشمع بين يديه.
وفي سنة ثلاث وأربعين وستماية، صالح طاغية الروم، وعقد
معه السلم، الذي طاحت في شروطه جيان. وكان واقع بالعدو الراتب تجاه حضرته، المختص
بحصن بليلش على بريد من الحضرة. وكان الفتح عظيماً. ثم حالفه الصنع بما يضيق
المجال عن استيعابه. وفي حدود اثنين وستين وستمائة صالح طاغية الروم، وعقد معه
السلم، وعقد البيعة لولي عهده، واستدعى القبائل للجهاد.
مولدهفي عام خمسة وتسعين وخمسمائة بأرجونة، عام الأرك.
وفاتهفي منتصف جمادة الثانية من عام واحد وسبعين
وستمائة، ورد عليه وقد سن. جملة من كتاب الزعايم، يقودون جيشاً من أتباعهم، فبرز
إلى لقايهم بظاهر حضرته، ولما كر أيباً إلى قصره، سقط ببعض طريقه، وخامره خصر، وهو
راكب، وأردفه بعض مماليكه، واسمه صابر الكبير، وكانت وفاته ليلة الجمعة التاسع
والعشرين لجمادى الثانية المذكورة، ودفن بالمقبرة الجامعة العتيقة بسنام السبيكة، وعلى
قبره اليوم منقوش:
" هذا قبر
السلطان الأعلى، عز الإسلام، جمال الأنام، فخر الليالي والأيام، غياث الأمة، غيث
الرحمة، قطب الملة، نور الشريعة، حامي السنة، سيف الحق، كافل الخلق، أسد الهيجاء،
حمام الأعداء، قوام الأمور، ضابط الثغور، كاسر الجيوش، قامع الطغاة، قاهر الكفرة
والبغاة، أمير المؤمنين، علم المهتدين، قدوة المتقين، عصمة الدين، شرف الملوك والسلاطين،
الغالب بالله، المجاهد في سبيل الله، أمير المسلمين، أبو عبد الله محمد بن يوسف ين
نصر الأنصاري، رفعه الله إلى أعلى عليين، وألحقه بالذين أنعم عليهم من النبيين
والصديقين، والشهداء والصالحين، ولد رضي الله عنه، وأتاه رحمة من لدنه عام أحد
وتسعين وخمسمائة، وبويع له يوم الجمعة السادس والعشرين من رمضان عام خمسة وثلاثين
وستماية، وكانت وفاته يوم الجمعة بعد صلاة العصر التاسع والعشرين لجمادى الآخرة
عام أحد وسبعين وستماية، فسبحان من لا يفنى سلطانه، ولا يبيد ملكه، ولا ينقضي
زمانه، لا آله إلا هو الرحمن الرحيم
" .
ومن جهة أخرى:
هذا محل العلى والمجد والكرم ... قبر الإمام الهمام
الطاهر العلم
لله ما ضم هذا اللحد من شرف ... ومن شيم علوية الشيم
بالجود والباس ما تحوي صفايحه ... لا بأس عنترة ولا ندى
هرم
مغنى الكرامة والرضوان يعهده ... فخر الملوك الكريم
الذات والشيم
مقامه في كلا يومي ندى ووغى ... كالغيث في مجد وكالليث
في أجم
مآثر تليت آثارها سوراً ... تقر بالحق فيها جملة الأمم
كأنه لم يسر في محفل لجب ... تضيق عنه بلاد العرب والعجم
ولم يباد العدا منه ببادرة ... بفتر منها الهدى عن ثغر
مبتسم
ولم يجهز لهم خيلاً مضمرة ... لا تشرب الماء إلا من قليب
دم
ولم يقم حكم عدل في سياسته ... تأوى رعيته منه إلى حرم
من كان يجهل ما أولاه من نعم ... وما حواه لدين الله من
حرم
فتلك آثره في كل مكرمة ... أبدى وأوضح من نار على علم
لا زال تهمي على قبر تضمنه ... سحايب الرحمة الوكافة
الديم
محمد بن عبد الله بن عبد الملك المعافريمحمد بن عبد الله
بن محمد بن عبد الله بن أبي عامر بن محمد ابن أبي الوليد بن يزيد بن عبد الملك
المعافري، المنصور بن أبي عامر معظم الظفر، وخدن السعد، وملقي عصيي الجد، وجو رياح
الشهرة، وديوان فنون السياسة، وحجاج الدولة العبشمية، في النخوم المغربية، المزي
بالظرف وكمال السجية، والجهاد العظيم، العريق في بحبوحة بلاد الكفار، رحمه الله
تعالى.
أوليتهدخل جده عبد الملك الأندلس مع طارق مولى موسى بن
نصير في أول الداخلين من المغرب، وكان له في فتحها أثر جميلا. وإلى ذلك أشار مادحه
محمد بن حسان:
وكل عدو أنت تهزم عرشه ... وكل فتوح عنك يفتح بابها
برأيك عبد المليك الذي له ... حلا فتح قرطبة وانتهابها
ونزل عبد الملك الجزيرة الخضراء لأول الفتح، فساد أهلها،
وكثر عقبه بها، وتكررت فيهم النباهة، وجاوروا الخلفاء بقرطبة. وكان والد محمد هذا،
من أهل الدين والعفاف والزهد في الدنيا والقعود عن السلطان. سمع الحديث، وأدى
الفريضة، ومات منصرفاً عن الحج بإطرابلس.
حالهكان هذا الرجل بكر الدهر، وفايدة الأيام، وبيضة
العمر، وفرد الخلق في اضطراد السعد، وتملد العاجل من الحظ، حازماً، داهية، مشتملاً
على أقطار السؤدد، هوياً إلى الأقاصي، وطموحاً، سوساً حمياً، مصطنعاً للرجال،
جالباً للأشراف، مستميلاً للقلوب، مطبقاً المفاصل، مزيحاً للعلل، مستبصراً في
الاستبداد، خاطباً جميل الذكر، عظيم الصبر، رحيب الذرع، طموح الطرف، جشع السيف،
مهادي جياد العقاب والمثوبة، مهيباً، جزلاً، منكسف اللون، مصفر الكيف، آية الله جل
جلاله في النصر على الأعداء ومصاحبة الظفر، وتوالى الصنع.
نباهته
قال المؤرخ، سلك سبيل القضاء
في أوليته، مقتفياً آثار عمومته وخؤولته، يطلب الحديث في حداثته، وكتب منه كثيراً
ولقي الجلة من رجاله، ثم صحب الخليفة الحكم متحزباً في زمرته، وولي له الأعمال من
القضاء والإمامة، ثم استكفاه، فعدل عن سبيله، وصار في أهل الخدمة. ثم اختصه بخدمة
أم ولده هشام، فزاد بخاصته لولي العهد، عزاً ومكانة من الدولة فاحتاج الناس إليه.
وغشوا بابه، وبلغ الغاية من أصحاب السلطان معه، إسعاف، وكرم لقاء، وسهولة حجاب،
وحسن أخلاق. فاستطار ذكره، وعمر بابه، وساعده الجد. ولما صار أمر المسلمين
إليه، فبلغ التي لا فوقعها عزاً وشهرة.
الثناء عليهقال: وفي الدولة العامرية، وأعين محمد على
أمره، مع قوة سعده، بخصال مؤلفة لم تجتمع لمن قبله، منها الجود، والوقار، والجد
والهيبة، والعدل والأمن، وحب العمارة، وتثمير المال، والضبط للرعية، وأخذهم بترك
الجدل والخلاف والتشغب، من غير وهن في جينه، وصحة الباطن، وشرح كل فضل، وجلب كل ما
يوجب عن المنصور فيه.
غزواته وظهوره على أعدايهواصل رحمه الله الغزو بنفسه،
فيما يناهز خمسين غزوة، وفتح فيها البلاد، وخضد شوكة الكفر، وأذل الطواغيت وفض
مصاف الكفار، وبلغ الأعماق، وضرب على العدو الضرايب، إلى أن تلقاه عظيم الروم
بنفسه وأتحفه بإبنته في سبيل الرغبة في صهره، فكانت أحظى عقايله، وأبرت في الدين
والفضل على ساير أزواجه، وعقد اثني عشر بروزاً إلى تلقي ملوك الروم القادمين عليه
مصطهرين بإلحاح سيفه منكبين على لثم سريره.
شعرهومما يؤثر من شعره:
رميت بنفسي هول كل عظيمة ... وخاطرت والحر الكريم يخاطر
وما صاحبي إلا جنان مشيع ... وأسمر خطى وأبيض باتر
ومن شيمتي أني على طالب ... أجود بمال لا تقيه المعاذر
وإني لزجاء الجيوش إلى الوغى ... أسود تلاقيها أسود
خوادر
فسدت بنفسي أهل كل سيادة ... وكاثرت حتى لم أجد من أكاثر
وما شدت بنيانا ولكن زيادة ... على ما بني عبد المليك وعامر
رفعنا العلى بالعوالي سياسة ... وأورثناها في القديم
معافر
وبلغ في ملكه أقطار المغرب، إلى حدود القبلة، وبمدينة
فاس، إثر ولده المقلد فتح تلك الأقطار، ونهد أوليك الملوك الكبار.
دخوله غرناطةقال صاحب الديوان في الدولة العامرية، وقد
مر ذكر المصور، قومس الغرنجة بمدينة برشلونة: وهذه الأمة أكثر النصرانية جمعاً،
وأوسعها، وأوفرها من الاستعداد، وما أوطئ من الممالك والبلاد، وفتح من القواعد،
وهزم من الجيوش. وقفل المنصور عنها، وهو أطمع الناس في استسيصالها؛ ثم خصهم بصايفة
سنة خمس وسبعين، وهي الثالثة عشر لغزواته؛ وقد احتفل لذلك، واستبلغ في النفير.
واستوفى أتم الأبهة، وأكمل العدة، فجعل طريقه على شرقي الأندلس، لاستكمال ما هنالك
من الأطعمة، فسلك طريق إلبيرة، إلى بسطة، إلى تدمير؛ وهزم في هذه الغزوات بريل ملك
فرنجة ونازل مدينة برجلونة؛ فدخلها عنوة يوم الاثنين النصف من صفر، سنة أربع
وسبعين أو خمس بعدها.
قلت وفي دخول المنصور بجيشه بلد إلبيرة: ما يحقق دعوى من
ادعى دخول المعتمدين من أهل الأندلس لذلك العهد، إذ كان يصحب المنصور في هذه
الغزوة، من الشعراء المرتزقين بديوانه من يذكر؛ فضلاً عن ساير الأصناف على تدارة
هذه الصنف من الخدام، بالنسبة للبحر الزاخر من غيرهم.
والذي صح أنه حضر ذلك، أبو عبد
الله محمد بن حسين الطبني. أبو القاسم حسين بن الوليد، المعروف بابن العريف. أبو
الوضاح بن شهيد. عبد الرحمن بن أحمد. أبو العلا صاعد بن الحسن اللغوي. أبو بكر
زيادة الله بن علي بن حسن اليمني. عمر بن المنجم البغدادي. أبو الحسن
علي بن محمد القرشي العباسي. عبد العزيز بن الخطيب المحرود. أبو عمر يوسف بن هارون
الزيادي. موسى بن أبي طالب. مروان بن عبد الحكم بن عبد الرحمن. يحيى بن هذيل بن
عبد الملك بن هذيال المكفوف. سعد بن محمد القاضي. ابن عمرون القرشي المرواني. علي النقاش
البغدادي. أبو بكر يحيى بن أمية بن وهب. محمد بن إسماعيل الزبيدي صاحب المختصر في
اللغة. أحمد بن دراح القسطلي متنبي الأندلس. أبو الفرج منيل بن منيل الأشجعي. محمد
بن الحسن القرشي من أهل المشرق. أبو عبيدة حسان بن مالك بن هاني. طاهر بن محمد
المعروف بالمهند. محمد بن مطرف بن شخيص سعيد بن عبد الله الشنتريني، وليد بن مسلمة
المرادي، أغلب بن سعيد. أبو الفضل أحمد بن عبد الوهاب. أحمد بن أبي غالب الرصافي.
محمد بن مسعود البلخي، عبادة بن محمد بن ماء السماء. عبد الرحمن بن أبي الفهد
الإلبيري. أبو الحسن بن المضيئ البجلي الكاتب. عبد الملك بن سهل. الوزير عبد الملك
بن إدريس الجزيري. قاسم بن محمد الجياني.
قال المؤرخ، هؤلاء من حفظته منهم. وهم أكثر من أن يحصوا،
فعلى هذا يتبنى القياس في ضخامة هذا الملك، وانفساح هذا العز.
وفاتهتوفي رحمه الله منصرفاً من غزاته المسماه بقنالش
والريد، وقد دوخ أقطار قشتالة، ليلة الاثنين سبع وعشرين لرمضان عام اثنين وتسعين
وثلاثمائة، وقد عهد أن يدفن ببلد وفاته، بعد وصية شهيرة صدرت عنه، إلى المظفر
ولده، فدفن بمدينة سالم، التي بناها في نحر العدو من وادي الحجارة، وبقصرها. وقبره
معروف إلى اليوم. وكان قد اتخذ له من غبار ثيابه الذي علاها في الجهاد. وعاء كبير بحديه
رحمه الله. وكتب على قبره هذا الشعر:
آثاره تنبيك عن أخباره ... حتى كأنك بالعيان تراه
تا لله لا يأتي الزمان بمثله ... أبداً ولا يحمى الثغور
سواه
محمد بن عطاف بن نعيممحمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن
محمد بن إسماعيل ابن قريش ابن عباد بن عمرو بن أسلم بن عمرو بن عطاف بن نعيم، لخمي
النسب
أوليتهدخل الأندلس جده عطاف مع بلج بن بشر القشيري، من
أشراف الطالعة البلجية، وهم من عرب حمص من أرض الشأم، وموضعه بها يعرف بالعريش في
آخر الجفار بين مصر والشأم. ونزل عطاف بقرية تعرف بيومين من إقليم طشانة على ضفة
النهر الأعظم من أرض إشبيلية. ولما هلك قريش، ورث السيادة إسماعيل بن قريش، وهو
القاضي المشهور بالفضل والدهاء، وسكنى أبا الوليد. ولي الشرطة الوسطى لهشام بن الحكم،
وخصة الإمامة إلى صلاة الجمعة. ثم خلفه أبو القاسم المنفرد برياسة إشبيلية، المتحف
فيها بخطط الوزارتين والقضاء والمظالم. وعز جاهه، وكثرت حاشيته، وتعددت غلمانه،
وأذعنت له عداته. ثم خلفه الأمير المعتضد ولده، وكان خيراً حازماً، سديد الرأي،
مصنوعاً له في الأعداء، فلما توفي، تصير الأمر إلى ولده المترجم به، المكنى أبا
القاسم إلى حين خلعه.
حالهقالوا كلهم، كان المعتمد، رحمه الله، فارساً شجاعاً.
بطلاً مقداماً، شاعراً ماضياً، مشكور السيرة في رعيته. وقال أبو نصر في قلائده
وكان المعتمد على الله ملكاً قمع العدا، وجمع بين البأس والندا. وطلع على الدنيا
بدر هدى. لم يتعطل يوماً كفه، ولا بنانه، آونة يراعه. وآوثة سنانه. وكانت أيامه
مواسم، وثغوره بواسم. لقبه أولاً الظافر. ثم تلقب بالمعتمد. كلفاً بجاريته اعتماد،
لما ملكها. لتتفق حروف لقبه بحروف اسمها. لشدة ولوعه بها.
وزراؤهابن زيدون. وابن عمار. وغيرهم.
أولاده المملكون
عبيد الله، يكنى أبا الحسن،
وهو الرشيد، وهو الذي لم يوافق أباه على استصراخ المرابطين، وعرض بزوال الملك
عنهم، فقال: أحب إلى أن أكون راعي إبل بالعدوة من أن ألقى الله، وقد حولت الأندلس
دار كفر وكان قد ولاه عهده، وبويع له بإشبيلية، وهو المحمول معه إلى العدوة. ثم
الفتح، وهو الملقب بالمأمون، كان قد بويع له بقرطبة، وهو المقتول بها، المحمل رأسه
إلى محلة العدو المرابطين. المحاصرة لأبيه بإشبيلية. ثم يزيد الراضي، وكان قد ولاه
رندة، فقتل لما ملكها المقونيون، ثم عبد الله. ويكنى أبا بكر. هؤلاء الأربعة من جاريته
اعتماد السيدة الكبرى. والمدعوة بالرميكية منسوبة إلى مولاها رميك بن حجاج الذي
ابتاعها منه المعتمد.
ملمتهلما تكالب أدفونش بن فردلاند على الأندلس بعد أخذه
مدينة طليطلة ضيق بالمعتمد، وأجحف في الجزية، التي كان يتقي بها على المسلمين
عاديته، وعلى ذلك أقسم أخذها وتجني عليه، وطمع في البلاد، فحكى بعض الإخباريين أنه
وجه إليه رسله في آخر أمره لقبض تلك الضريبة، مع قوم من رؤساء النصارى، ونزلوا
خارج باب إشبيلية، فوجه إليهم المال، مع بعض الوزراء، فدخلوا على اليهودي المذكور
في خبايه، وأخرجوا المال، فقال لهم، لا أخذت منه هذا العيار ولا أخذت منه إلا
ذهباً مشجراً، ولا يؤخذ منه في هذا العام إلى أجفان البلاد ونقل كلامه إلى
المعتمد، فبادر بالقبض عليه وعلى النصارى، ونكل بهم، وقتل اليهودي بعد أن بذل في
نفسه زنة جسمه ذهباً، فلم يقبل منه، واحتبس النصارى، وراسله الطاغية في إطلاقهم، فأبى
غلا أن يخلي منه حصن الحدود، فكان ذلك. واستصرخ اللمتونيين، وأجاز البحر بنفسه
وأقسم الطاغية بإيمائه المفلطة ألا يرفع عنه يده. وهاجت حفيظة المعتمد، واجتهد في
جواز المرابطين، وكان مما هو معلوم من الإيقاع بالطاغية في وقعة الزلاقة فإنه الذي
أثلى نارها بنفسه، فعظم بلاؤه، وشهر بلاؤه، وشهر صبره، وأصابته الجراح في وجهه
ويده، رحمه الله. وفي ذلك يقول أبو بكر بن عبادة المري:
وقالوا كفه جرحت فقلنا ... أعاديه تواقعها الجراح
وما لمرتد الجراحة ما رأيتم ... فتوهنها المناصل والرماح
ولكن فاض سيل البأس منها ... ففيها من مجاريه انسياح
وقد صحت وسحت بالأماني ... وفاض الجود منها والسماح
رأى منه أبو يعقوب فيها ... عقاباً لا يهاض له جناح
فقال له لك القدح المعلى ... إذا ضربت بمشهدك القداح
ولما اتصلت به الصيحة؛ بين يدي دخول المدينة، ركب في
أفراد من عبيده؛ وعليه قميص يشف عن بدنه، والسيف منتضي بيده، ويممم باب الفرج،
فقدم الداخلين فردهم على أعقابهم؛ وقتل فارساً منهم؛ فانزعجوا أمامه؛ وخلفوا
الباب؛ فأمر بإغلاقه؛ وسكنت الحل؛ وعاد إلى قصره. وفي ذلك يقول:
إن يسلب القوم العدا ... ملكي وتسلمني الجموع
فالقلب بين ضلوعه ... لم تلم القلب الضلوع
قد رمت يوم نزالهم ... ألا تحصنني الدروع
وبرزت ليس سوى القميص عن الحشاشيئ دفوع
أجل تأخر لم يكن ... بهوادي ذنى والخضوع
ما سرت قط إلى القتال ... وكان من ملي الرجوع
شيم الأولى أنا منهم ... والأصل تتبعه الفروع
جودهوأخبار جوده شهير، ومما يؤثر من ذلك، على استصحاب
حال العز، ووفور ذات اليد، وأدوات الملك؛ غيب، والشاهد المقبول بقاء السدية
ومصاحبة الخلق الملكية؛ مع الغقتار والإيسار؛ وتقلب الأطوار، وتعرض له الحصرى
القرموني الضرير بخارج طنجة؛ وهو يجتاز عليها في السواحل من قهر واعتقال؛ بأشعار
ظاهرة المقت، غير لايقة بالوقت؛ ولم يكن بيده زعموا غير ثلاثين ديناراً كانت بخفه،
معدة لضرورة وأزمة، وأطبع عليها دمه، وأدرج قطعة شعر طيها اعتذار عن نزرها، راغباً
في قبول أمرها، فلم يراجعه الحصري بشيء عن ذلك، فكتب إليه:
قل لمن جمع العلم ... وما أحصى صوابه
كان في الصرة شعر ... فانتظرنا جواره
قد أتيناك فهلأ ... جلب الشعر جوابه
حلمه
رفع إليه صدر دولته شعر، أغرى
فيه، بأبي الوليد بن زيدون، وهو شهير، وتخير له موقع وترصد حين، وانتظر به مؤجره،
وهو:
يا أيها الملك الأعز الأعظم ... أقطع وريدي كل باغ يسلم
واتحسم بسيفك كل منافق ... يبدي الجميل وضد ذلك يكتم
لا تتركن للناس موضع شبهة ... وأحزم فمثلك في العظائم
يحزم
قد قال شاعر كندة فيما مضى ... قولاً على مر الليالي
يعلم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى ... حتى يراق على جوانبه
الدم
فوقع على الرقعة:
كذبت منا كم صرحوا أو جمجموا ... الدين أمتن والسجية
أكرم
خنتم ورمتم أن أخون وإنما ... حلولتم أن يستخف بلملم
وأردتم تضييق صدر لم يضق ... والسمر في صدر النحور تحطم
وزحفتم بمحالكم لمجرب ... ما زال يثبت للمحال فيهزم
أتى رجوتم غدر من جربتم ... منه الوفاء وظلم من لا يظلم
أنا ذا كم لا السعي يثمر غرسه ... عندي ولا مبني الصنيعة
يهدم
كفوا وإلا فارقبوا لي بطشة ... يبقى السفيه بمثلها يتحلم
توقيعه ونثره في البديهةكتب مع الحمايم إلى ولده الرشيد
عق ب الفراغ من وقعة الزلاقة.
يا بني، ومن أبقاه الله وسلمه، ووقاه الأسواء وعصمه.
وأسبغ عليه آلاءه وأنعمه كتبته، وقد أعز الله الدين، وأظهر المسلمين، وفتح لهم على
يدي مستدعيات الفتح المبين، بما يسره الله في أمسه وسناه، وقدره سبحانه وقضاه، من
هزيمة أدفونش ابن فردلند لعنه الله وأصلاه، وإن كان طاح للجحيم، ولا أعدمه وإن كان
أهل العيش الذميم، كما قنعه الخزي العظيم. وأتى القتل على أكثر رجاله وجماته،
واتصل النهب ساير اليوم، والليلة المتصلة به، جميع محلاته، وجمع من رؤوسهم بين
يدي، من مشهوري رجالهم، ومذ كوري أبطالهم، ولم يختر منهم إلا من شهر وقرب، وامتلأت
الأيدي مما سلب ونهب. والذي لا مرية فيه، أن الناجي منهم قليلش، والمفلت من سيوف
الجزع والبعد قتيل، ولم يصبني بفضل الله إلا جرح أشو، وحسن الحال عندنا والله
وزكى، ولا يشغل بذلك بال، ولا يتوهم غير الحال التي أشرت إليها حال، والأدفونش بن
فرذلاند، إن لم يصبح تحت السيوف فسيموت لا محالة كمداً، وإن كان لم تعلقه أسراد
الحمام فغداً، فإن برأسه طمرة ولحام. فإذا ورد كتابي هذا، فمر بجمع الخاص والعم،
من أهل إشبيلية، وجيرانها الأقرببن، وأصفيائنا المحبين، في المسجد الجامع، أعزهم
الله. وليقرأ عليهم فيه، ليأخذوا من المسرة بأنصبايهم، ويضيفوا شكراً لله إلى صالح
دعايهم والحمد لله على ما صنع حق حمده جل المزيد لأمر حين، إلا من عنده. والسلام.
تلطفه وظرفهقال أبو بكر الداني: سألني في بعض الأيام عند
قدومي عليه بأغمات، قاضياً حق نعمته، مستكثراً من زيارته، مستمتعاً برايق أدبه،
على حال محنته، عن كتبي، فأعلمته بذهابيها في نهب حضرته. وكنت قد جلبت في سفرتي
تلك، الأشعار الستة، بشرح الأستاذ أبي الحجاج الشنتمري الأعلم، وكانت مستعارة،
فكتمتها عنه. ووشي إليه أحد الأصحاب. فخجل بكرمه وحسن شيمته، من الأخذ معي في ذكر
ما كتمته، فاستطرد إلى ذلك بغرض نبيل، ونحا فيه نحواً، يعرب عن الشرف الأصيل،
وأملى علي في جملة ما كان يمليه:
وكواكب لم أدر قبل وجوهها ... أن البدور تدور في الأزرار
نادمتها في جنح ليل دامس ... فأعرنه مثلاً من الأنوار
في وسط روضة نرجس كعيونها ... ما أشبه النوار بالنوا
فإذا وصفنا الحديث حسبتني ... ألهو بملتقط الدر نثار
فإذا اكتحلت برق ثغر باسم ... سكبت جفوني أغزر الأمطار
حذر الملام وخيفة من جفوة ... تذر الصدور على شفير هار
ترك الجواري الآنسات مذاهبي ... وسولها ظفر بريشة
الأشعار
فلم أمالك عند ذلك ضحكاً، وعلمت أن الأمر قد سرى إليه،
فأعلمته قصتها، فبسط العذر بفضله. وتأول الأمر وقسم الأشعار على ثلاثة من بنيه.
ذوي خط رائع، ونقل حسن. وأدب بارع. أخذوا في نسخها. وصرفوا الأصل لأجل قريب.
محنته
ولم يلبث أمير الملمتونيين
بعد جوازه إلى الأندلس، وظهوره على طايفة الروم، أن فسد ما بينه وبين رؤساء
الطوائف بالأندلس، وعزم على خلعهم. فأجاز من سبتة العساكر، وضرب الأمداد. وأخذ
المعتمد بالعزم يحصن حصونه، وأودع المعاقل عدته، وقسم على مظان الامتناع ولده،
وصمدت الجموع صمدة بنيه، ونازل الأمير سير إشبيلية، دار المعتمد، وحضرة ملكه،
ونازل الأمير محمد بن الحاج قرطبة، وبها المأمون، ونزل جرور من قواده رندة، وبها
الراضي ابن المعتمد. واستمر الأمر، واتصلت المحاصرة، ووقعت أمور يضيق الكتاب عن
استقصايها. فدخلت قرطبة في جمادى الآخرة عام أربع وثمانين وأربعمائة، وقتل الراضي،
وجلب رأسه فطيف به بمرأى من أبيه. وكان دخول إشبيلية على المعتمد، دخول القهر
والغلبة، يوم الأحد لعشر بقين من رجب. وشملت الغارة. واقتحمت الدور، وخرج ابن عباد
في شكته. وابنه مالك في أمته معيماً فقتل مالك الملقب بفخر الدولة ورهقت الخيل،
وكثر، فدخل القصر ملقياً بيده. ولما جن الليل، وجه ابنه الأكبر الرشيد إلى الأمير،
فحجب عنه، ووكل بعض خدمه به، وعاد إلى المعتمد فأخبره بالإعراض عنه، فأيقن
بالهلكة، وودع أهله وعلا البكاء، وكثر الصراخ، وخرج هو وابنه، فأنزلا في خباء
حصين، ورقبا بالحرس، وأخرج الحرم من قصره، وضم ما اشتمل عليه، وأمر بالكتب إلى
ولده برندة ففعل. ولما نزل، واستوصلت ذخيرته، سلا، وأجيز المعتمد البحر. ومن معه
إلى طنجة. فاستقر بها في شعبان من العام. وفي هول البحر عليه في هذا الحال، يقول
رحمه الله:
لم أنس والموت يدنيني ويقصيني ... والموت كأن المني
يأتيني
أبصرت هولاً لو أن الدهر أبصره ... لما خوفا لأمر ليس
بالدون
قد كنت ضاناً بنفس لا أجود بها ... فبعتها باضطرار بيع
مغبون
كم ليلة بت مطوياً على حرق ... في عسر من عيون الدبر في
العين
فتلك أحسن أم ظلت به ... في ظل عزة سلطان وتمكين
ولم يكن والذي تعنو الوجوه له ... عرضى مهاناً ولا مالي
بمخزون
وكم خلوت من الهيجا بمعترك ... والحرب ترفل في أثوابها
الجون
يا رب إن لم تدع حالاً أسر به ... فهب لعبدك أجراً غير
ممنون
وجرى على بناته شيء يوم خروجهن، وأضطرتهن الضيعة إلى
معيشتهن من غزل أيديهن، وجرت عليه محن طال لها شجنه وأقعده قيده. إلى أن نقل إلى
أغمات وريكة، وحل عنه الاعتقال، وأجرى عليه رزقه، تبلغ به لمدة من أعوام أربعة،
واستنقذه حمامه، رحمة الله عليه.
وصوله إلى غرناطةقال ابن الصيرفي وقد أجرى ذكر تملك يوسف
بن تاشفين غرناطة، وخلع أميرها عبد الله بن بلقين حفيد باديس، يوم الأحد لثلاث
عشرة خلت من رجب عام ثلاثة وثمانين: ولحق ابن عباد وحليفة ابن مسلمة بخيل ورجل
ورماة وعدد، وحل ذلك من ابن عباد تضمناً لمسرة أمير المسلمين، وتحققاً موالاته،
فدخلا عليه، وهنياه، وقد تحكمت في نفس ابن عباد الطماعية في إسلام غرناطة إلى
ابنه، بعد استصفاء نعمة صاحبها، عوضاً عن الجزيرة الخضراء، وكان قد أشخصه معه،
فعرض بغرضه، فأعرض أمير المسلمين عن الجميع إعراضاً، كانت منية كل منهما التخلص من
يده، والرجوع إلى بلده. فأعمل ابن عباد الحيلة. فكتب، يزعم أنه وردت عليه تحثه من
إشبيلية في اللحاق، أثناء مهمة طرقت بتحرك العدو، واستأذن بها في الصدور، فأخذ له ولحليفه
ابن مسلمة، فانتهزا الفرصة، وابتدرا الرجعة. ولحق كل بموضعه يظن أنه ملك رياسة
أمره.
مولدهولد المعتمد على الله بمدينة باجة سنة إحدى وثلاثين
وأربعمائة. وولي سنة إحدى وستين. وخلع سنة أربع وثمانين.
وفاتهكانت وفاة المعتمد على الله بأعمات في ربيع الأول
سنة ثمان وثمانين وأربعمائة، بعد أن تقدمت وفاته وفاة الحرة اعتماد. وجزع عليها
جزعاً، أقرب سرعة لحاقه بها. ولما أحس بالمنية رثى نفسه بهذه الأبيات وأمر أن تكتب
على قبره:
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي ... حقاً ظفرت بأسلاء ابن
عباد
بالحلم بالعلم بالنعمى إذا اتصلت ... بالخصب أن أجدبوا
بالري لصادي
بالطاعن الضارب الرامي إذا
اقتتلوا ... بالموت أحمر بالضرغامة العادي
بالدهر في نقم بالبحر في نعم ... بالبدر في ظلم بالصدر
في النادي
نعم هو الحق فاجأني على قدر ... من السماء ووافاني
لميعاد
ولم أكن قبل ذاك النعش أعلمه ... أن الجبال تهادي فوق
أعواد
كفاك فارفق بما استودعت من كرم ... رواك كل قطوب البرق
رعاد
يبكي أخاه الذي غيبت وابله ... تحت الصفيح بدمع رائح
غادي
حتى يجودك دمع الضل منهمراً ... من أعين الزهر لم تبخل
بإسعاد
فا تزل صلوات الله نازلة ... على دفينك لا تحصى بتعداد
بعض ما رثي بهقال ابن الصيرفي، وخالف في وفاة المعتمد.
فقال: كانت في ذي حجة. فلما انفصل الناس من صلاة العيد. حف بقبره ملأ، يتوجعون
ويترحمون عليه، وأقبل ابن عبد الصمد، فوقف على قبره وأنشد:
ملك الملوك أسامع فأنادي ... أم قد عدتك عن السماع عوادي
لما خلت منك القصور فلم تكن ... فيها كما قد كنت في الأعياد
أقبلت في هذا الثرى لك خاضعاً ... وتخذت قبرك موضع
الإنشاد
ثم خر يبكي ويقبل القبر ويعفر وجهه في التراب، فبكى ذلك
الملأ حتى أخضلوا ملابسهم، وارتفع نشيجهم فلله در ابن عبد الصمد، وملاذ ذلك البلد.
محمد بن مردنيش الجذاميمحمد بن سعد بن محمد بن أحمد بن
مردنيش الجذامي قال بعضهم ينتمي في تجيب الأمير أبو عبد الله.
أوليتهمعروفة، وعلى يد أبيه جرت الوقيعة الكبرى بظاهر
إفراغة. على ابن رذمير الطاغية، فجلت الشهرة، وعظمت الأثرة، قال بعضهم، تولى أبوه
سعد قيادة إفراغة وما إليها. وضبطها. ونازلها ابن رذمير. فشهر غناؤه بها في دفاعه.
وصبره على حصاره، إلى أن هزمه الله عز وجل، على يدي ابن غانيه. وظهر بعد ذلك فحسن بلاؤه.
وبعد صيته. ورأس ابنه محمد، ونفق في القته. وكان بين هوبين ابن عياض المتأمر
بمرسية صهر، ولاه لأجله بليسة. فلما توفي ابن عياض، بادرها ابن سعد، وبلغه أثناء
طريقه، غدر العدو بحصن جلالن فكر وقاد له وفتحه. وعاد فملك بلنسية، وقد ارتفع له
صيت شهير، ثم دخلت مرسية في أمره، واستقام له الشرق. وعظمت حاله.
حالهقال ابن حمامة، ساد من صغره بشجاعته ونجابته، وصيت
أبيه، فمال بذلك إلى القيادة. وسنه أحجى وعشرون سنة، ثم ارتقى إلى الملك الراسخ،
والسلطان الشامخ، بباهر شجاعته وشهامته. فسما قدره. وعظم أمره. وفشي في كل أمة
ذكره.
قال غيره، كان بعيد الغور، قوي الساعد أصيل الرأي. شديد
العزم، بعيد العفو، مؤثرأ للانتقام، مرهوب العتوبة.
قوال في مختصر ثورة المريدين كان عظيم القوة في جسمه، ذا
أيد في عظمته. جزارة في لحمه، وكان له فروسية، وشجاعة، وشهامة، ورياسة.
بطالته وجودهقال وكان له يومان في كل جمعة. الاثنين
والخميس، يشرب مع ندمايه فيهما، ويجود على قواده، وخاصته وأجناده، ويذبح البقر
فيهما، ويفرق لحومها على الأجناد، ويحضر القيان بمزاميرهن وأعوادهن، ويتخلل ذلك
لهو كثير، حتى ملك القلوب من الجند، وعاملوه بعاية النصح، وربما وهب المال في
مجالس أنسه. ذكر أنه ستدعى يوماً ابن الأزرق أحد قواده، فشرب معه ومع القرابة، في مجلس
قد كسان بأحمر الوشي والوطئ والآنية من الفضة وغيرها، وتمادى في لهو وشراب عامة
اليوم. فلما كمل نهاره معهم، وهبهم الآنية. وكل ما كان في المجلس من الوشي أو غير
ذلك.
ما نقم عليه ووصم بهقالوا: كان عظيم الانهماك في ميدان
البطالة، واتخذ جملة من الجواري. فصار يراقد منهن جملة تحت لحاف واحج. وانهمك في
حب القيان، والزمر والرقص. قالوا: وكان له فتى اسمه حسن، ذو رقبة سمينة، وقفاً
عريض، فإذا شرب، كان يرزه، ويعطيه بعد ذلك عطاء جزيلاً. وفي ذلك يقول كاتبه
المعروف بالسالمي، وكان يحضر شرابه. ويخمر.
أدر كؤوس المدام والرز ... فقد ظفرنا بدولة العز
نعم ما لكف من قفا حسن ... فإنها في ليانة الخز
وصاحب إن طلبت أخدعه ... فلم
يكن في بذله بمعتز
انحنى على أخذاعي فاطربني ... وهز عطفي أيما هز
وأجزل صلة السالمي حين أنشدها إياه، واشتهرت هذه الأبيات
بالشرق، واستظرفها الناس. فرد مرسية دار مجونه، وبلغ في زمانه ألفا وأربعين. وآثر
زي النصارى من الملابس، والسلاح، واللجم، والسروج. وكلف بلسانهم بتكلم مباهتة،
وألجأه الخروج عن الجماعة. والانفراد بنفسه إلى الاحتماء بالنصارى، ومصانعتهم، والاستعانة
بطواغيتهم. فصالح صاحب برشلونة لأول أمره على ضرية. وصالح ملك قشتالة على أخرى.
فكان يبذل لهم في السنة خمسي ألف مثقال. وابتنى لجيشه من النصارى منازل معلومات
وحانات للخمور، وأجحف برعيته، لأرزاق من استعان به منهم، فعظمت في بلاده المغارم
وثقلت، واتخذ حوانيت بيع الأدم والمرافق، تخنتنق بجانبه، وجعل على الأغنام وعروض
البقر، مؤناً غريبة. وأما رسوم الأعراس والملاهي فكانت قبالاتها غريبة. حدث بعض
المز رخين عن الثقة، قال كنت بجيان مع الوزير أبي جعفر الوقشي، فوصل إليه رجل من
أهل مرسية، كان يعرفه، فسأله الوزير عن أحوال ابن مردنيش وعن سيره فقال الرجل،
أخبرك بما رأيته من جور عماله وظلمهم. وذلك أن أحد الرعية بشاطبة واسمه محمد بن
عبد الرحمن، كان له بنظر شاطبة، ضويعة يعيش بها، وكان لازمها أكثر من فايدها، فأعطى
لازمها حتى افتقر، وفر إلى مرسية. وكان أمر ابن مردنيش، أنه من فر من الرعية أمام
الغزو، أخذ ماله للمخزن. قال الرجل الشاطبي، فلما وصلت إلى مرسية فاراً عن وطني،
وخدمت الناس في البنيان، فاجتمع لي مثقالان سعديان، فبينما أنا أمشي في السوق.
وإذا بقوم من أهل بلدي شاطبة، ومن قرابتي، فسألتهم عن أولادي وزوجتي، فقالوا إنهم
باقية بيد أولادك، فقلت لهم عسى تبيتوا عندي الليلة، فاشتريت لحماً وشراباً،
وضربنا دفاً. فلما كان عند الصباح، وإذا بنقر عنيف بالباب. فقلت من أنت؟ فقال أنا
الطرقون الذي بيده قبالة اللهو، وهي متفقة بيدي، وأنتم ضربتم البارحة الدف فأعطنا
حق العرس الذي عملت. فقلت له والله ما كانت لي عرس. فأخذت وسجنت. حتى افتديت
بمثقال واحد من الذي خدمت به. وجئت إلى الدار. فقيل لي أن فلاناً وصل من شاطبة الساعة.
فمشيت لأسأله عن أولادي. فقال تركتهم في السجن. وأخذت الضويعة من أيديهم في رسم
الجبالى، فرجعت إلى الدار. إلى قرابتي. وعرفتهم بالذي طرأ علي. وبكيت طول ليلتي،
وبكوا معي. فلما كان من الغد. وإذا بناقر بالباب. فخرجت فقال أنا رجل صاحب المواريث.
أعلمنا أنكم بكيتم البارحة. وأنه قد مات لكم ميت من قرابتكم غني. وأخذتم كل ما
ترك. فقلت والله ما بكيت إلا نفسي، فكذبني وحملني إلى السجن، فدفعت المثقال
الثاني، ورجعت إلى الدار وقلت أخرج إلى الوادي، إلى باب القنطرة، أغسل ثيابي من
درن السجن، وأفر إلى العدوة فقلب لإمرأة تغسل الثياب، إغسلي مما علي. وجردتها.
ودفعت لي زناراً ألبسه. فبينا أنا كذلك. وإذا بالخصى قائد ابن مردنيش يسوق ستين رجلاً
من أهل الجبل، لابس الزنانير. فرآني على شكلهم، فأمر بحملي إلى السخرة والخدمة بحصن
مسقوط عشرة أيام. فلبثت أخدم وأحضر مدة عشرة أيام، وأنا أبكي واشتكي للقايد
المذكور، حتى أشفق علي وسرحني. فرجعت أريد مرسية، فقيل لي عند باب البلد، كيف أسمك
فقلت محمد بن عبد الرحمن، فأخذني الشرطي، وحملت إلى القابض بباب القنطرة. فقالوا
هذا من كتبته من أرباب الحالي بكذا وكذا دينار. فقلت والله ما أنا إلا من شاطبة.
وإنما إسمي وافق ذلك الاسم، ووصفت له ما جرى علي، فأشفق وضحك مني؛ وأمر بتسريحي
فسرت على وجهي إلى هنا.
بعض الأحداث في أيامه
ونبذ من أخباره
استولى على بلاد الشرق، مرسية
وبلنسية وشاطبة ودانية، ثم اتسع نطاق ملكه، فولي جيان وأبدة وبياسة، وبسطة ووادي
آش، وملك قرمونة، ونازل قرطبة وإشبيلية، وكاد يستولي علة جميع بلاد الأندلس. فولي
صهره ابن همشك، وقد مر في باب إبراهيم، مدينة جيان وأبدة وبياسة، وضيق منها على
قرطبة، واستولى على إستجة، ودخل غرناطة سنة سبع وخمسين وخمسماية وثار عليه يوسف بن
هلال من أصهاره بحصن مطرنيش وما إليه. ثم تفاسد ما بينه وبين صهره الآخر ابن همشك. فكان سبب
إدبار أمره، واستولى العدو في مدة ابن سعد على مدينة طرطوشة عام ثلاثة وأربعين
وخمسماية، وعلى حصن إقليج. وحصن شرانية.
دخوله غرناطة ولما دخل ابن همشك مدينة غرناطة، وامتنعت
عليه قصبتها، وهزم الجيش المصرخ لمن حصر بها من الموحدين بمرج الرقاد وثاب أثناء
ذلك أمر الموحدين. فتجهز لنصرهم السيد أبو يعقوب. وأجار البحر. واجتمعوا بالسيد
أبي سعيد بمالقة. استمد ابن همشك صهره الأسعد أبا عبد الله محمد بن سعد، فخرج
بنفسه في العسكر الكبير من أهل الشرق والنصارى. فوصل إلى غرناطة، واضطربت محلته بالربوة
السامية المتصلة برابض البيازين. وتعرف إلى اليوم بكدية مردنيش وتلاحق جيش
الموحدين بأحواز غرناطة. فأبينوا جيش عدوهم، فكانت عليه الدبر، وفر ابن مردنيش
فلحق بجيان، واتصلت عليه الغلبة من لدن منتصف عام ستين فلم يكن له بعده ظهور.
وفاته وظهر عليه أمر الموحدين، فاستخلصوا معظم ما بيده،
وأوقعوا بجنده الوقايع العظيمة. وحصر بمدينة مرسة، واتصل حصاره، فمات أثناء الحصار
في عشر رجب من عام سبعة وستين وخمسماية وله ثمانية وأربعون عاماً، ووصل أمره أبو
القمر هلال، وألقى باليدين إلى الموحدين، فنزل على عهد ورسوم حسيما يأتي في موضعه.
محمد بن يوسف بن هود الجذامي
أمير المسلمين
بالأندلس، يكنى أبا عبد الله،
ويلقب من الألقاب السلطانية بالمتوكل على الله.
أوليتهمن ولد المستعين بن هود. وأوليتهم معروفة، ودولتهم
مشهورة، وأمراؤهم مذكورون. خرج من مرسية تاسع رجب عام خمسة وعشرين وستماية إلى الصخور من
جهاتها في نفر يسير من الجنود معه وكان الناس يستشعرون ذلك. ويرتقبون ظهور مسمى
باسمه واسم أبيه، وينددون. بإخمرته وسلطانه. وجرى عليه بسبب ذلك امتحان في زمن الموحدين
مرات، إذ كان بعض الهاتفين بالأمور الكاينة، والقضايا المستقبلة، يقول لهم، يقوم
عليكم قايم من صنف الجند، اسمه محمد بن يوسف. فقتلوا بسبب ذلك شخصاً من أهل جيان.
ويقال إن شخصاً ممن ينتحل ذلك، لقي ابن هود، فأمعن النظر إليه، ثم قال له أنت
سلطان الأندلس، فانظر لنفسك، وأنا أدلك على من يقيم ملكك، فاذهب إلى المقدم الغشتي
فهو القايم بأمرك. وكان الغشتي رجلاً صعلوكاً يقطع الطريق، وتحت يده جماعة من
أنجاد الرجال، وسباع الشرار، قد اشتهر أمرهم، فنهض إلى المقدم، وعرض عليه الأمر،
وقال نسستفتح بمغاورة إلى أرض العدو، على اسمك وعلى سعدك، ففعلوا، فجلبوا كثيراً
من الغنايم والأسرى، وانضاف إلى ابن هود طوايف مثل هؤلاء، وبايعوه بالصخيرات كما
ذكر، من ظاهر مرسية، وتحرك إليه السيد أبو العباس بعسكر مرسية، فأوقع به وشرده، ثم
ثاب إليه ناسه، وعدل إلى الدعاء للعباسيين، فتبعه اللفيف، ووصل تقليد الخليفة المستنصر
بالله ببغداد، فاستنصر الناس في دعوته، وشاع ذكره، وملك القواعد، وجيش الجيوش،
وقهر الأعداء، ووفي للغشتي بوعده، فولاه أسطول إشبيلية، ثم أشطول سبتة، مضافاً إلى
أمرها، وما يرجع إليه، فصار به أهلها بعد وخلعوه، وفر أمامهم في البحر، وخفي أثره
إلى أن تحقق استقراره أسيراً في البحر بغرب الأندلس، ودام زماناً، ثم تخلص في سن
الشيخوخة، ومات برباط آسفي.
حالهكان شجاعاً، ثبتاً، كريماً حيياً، فاضلاً، وفياً،
متوكلاً عليه، سليم الصدر، قليل المبالاة، فاستعلى لذلك عليه ولاته بالقواعد، كأبي
عبد الله بن الرميمي بألمرية، وأبي عبد الله بن زنون بمالقة، وأبي يحيى عتبة بن
يحيى الجزولي بغرناطة. وكان مجدوداً، لم ينهض له جيش. ولا وفق لرأي، لغلبة الخفة عليه،
واستعجاله الحركات، ونشاطه إلى اللقاء، من غير كمال استعداد.
بعض الأحداث في أيامه
جرت عليه هزائم منها هزيمة
السلطان الغالب بالله إياه مرتين، إحداهما بظاهر إشبيلية، وركب البحر فنجا بنفسه.
ثم هزمه بإلبيرة من أحواز غرناطة، زعموا ذلك في سنة أربع وثلاثين وستماية أو نحوها.
وفي سنة خمس وثلاثين كان اللقاء بينه وبين المأمون إدريس
أمير الموحدين بإشبيلية، فهزمه المأمون أقبح هزيمة، واستولى على محلته، ولاذ منه
بمدينة مرسية.
ثم شغل المأمون الأمر، وأهمته الفتنة الواقعة بمراكش،
فصرف وجهه إليها وثاب الأمر للمتوكل، فدخلت في طاعته ألمرية، ثم غرناطة، ثم مالقة.
وفي سبع وعشرين وستماية، تحرك بفضل شهامته بجيوش عظيمة، لإصراخ مدينة ماردة، وقد
نازلها العدو وحاصر، ولقي الطاغية بظاهرها، فلم يتأن زعموا، حتى دفع بنفسه العدو،
ودخل في مصافه. ثم لما كر إلى ساقته، وجد الناس منهزمين لما غاب عنهم، فاستولت عليه
هزيمة شنيعة. واستولى العدو على ماردة بعد ذلك.
وفتح عليه في أمور منها تملكه إشبيلية سنة تسع وعشرين
وستماية، وولي عليها أخاه الأمير أبا النجاة سالماً الملقب بعماد الدولة. في سنة
إحدى وثلاثين. رجعت قرطبة إلى طاعته، واستوسق أمره. وتملك غرناطة ومالقة عام خمسة
وعشرين وستمائة، ودانت له البلاد. وفي العشر الأول من شوال. دخل في طاعته الريسان
أبو زكريا، وأبو عبد الله، إبنا الرئيس أبي سلطان عزيز بن أبي الحجاج بن سعد.
وخرجا عن طاعة الأمير أبي جميل، وأخذا البيعة لابن هود على ما في أيديهما. وفي سنة
ست وعشرين وستمائة، تملك الجزيرة الخضراء عنوة، يوم الجمعة التاسع لشعبان من
العام. وفي العشر الوسط من شوال ورد عليه الخبر ليلاً بقصد العدو وجهة مدينة وادي
آش. فأسرى ليله مسرجاً بقية يومه، ولحق بالعدو على ثمانين ميلاً، فأتى على آخرهم
ولم ينج منه أحد.
أخوتهالرئيس أبو النجاة سالم، وعلامته وثقت بالله، ولقبه
عماد الدولة، والأمير أبو الحسن عضد الدولة، وأسره العدو في غارة، وافتكه بمال
كثير، والأمير أبو إسحاق شرف الدولة.
وكلهم يكتب عنه، من الأمير فلان.
ولدهأبو بكر الملقب بالواثق بالله، أخذ له البيعة على
أهل الأندلس. في كذا، وولي بعده ولي عهده، واستقل بملك مرسية. ثم لم ينشب أن هلك..
دخوله غرناطةدخل غرناطة مرات عديدة، إحداها في سنة إحدى
وثلاثين وستمائة، وقد وردت عليه الراية والتقليد من الخليفة العباسي ببغداد.
وبمصلى غرناطة، قرئ على الناس كتابه، وهو قايم، وزيه السواد، ورايته السوداء بين
يديه، وكان يوم استسقاء، فلم يستتم على الناس قراءة الكتاب يومئذ، إلا وقد جادت
السماء بالمطر، وكان يوماً مشهوداً، وصنعاً غريباً، وأمر بعد انصرافه، أن يكتب عنه
بتلك الألقاب التي تضمنها الكتاب المذكور إلى البلاد.
وفاتهاختلف الناس في سبب وفاته، فذكر أنه قد عاهد زوجه
ألا يتخذ عليها امرأة طول عمره، فلما تصير إليه الأمر، أعجبته رومية حصلت له بسبب
السبي من أبناء زعمائهم، من أجمل الناس، فسترها عند ابن الرميمي خليفته، فزعموا أن
الن الرميمي علق بها. ولما ظهر حملها خاف افتضاح القصة، فدبر عليه الحيلة، فلما حل
بظاهر ألمرية، عرض عليه الدخول إليها، فاغتاله ليلاً، بأن أقعد له أربعة رجال،
قضوا عليه خنقاً بالوسايد. ومن الغد داعي أنه مات فجأة، ووقف عليه العدول، والله أعلم
بحقيقة الأمر سبحانه. وكانت وفاته ليلة الرابع والعشرين من جمادى الآخرة عام خمسة وثلاثين
وستماية. وفي إرجاف الناس بولاية ابن هود، والأمر قبل وقوعه، يقول الشاعر:
همام به زاد الزمان طلاقة ... ولذت لنا فيه الأماني
موردا
فقل لبني العباس ها هي دولة ... أغار بها الحق المبين
وأنجدا
فإن الذي قد جاء في الكتب وصفه ... بتمهيد هذي الأرض قد
جاء فاهتدا
فإن بشرتنا بابن هود محمد ... فقد أظهر الله ابن هود
محمدا
محمد بن أحمد الغافقيمحمد بن أحمد بن زيد بن أحمد بن زيد
بن الحسن بن أيوب ابن حامد بن زيد بم منخل الغافقي يكنى أبا بكر من أهل غرناطة.
وسكن وادي آش
أوليته
أصل هذا البيت من إشبيلية،
وذكره الرازي في الاستيعاب، فقال، وبإشبيلية بيت زيد الغافقي، وهم هناك جماعة
كبيرة، فرسان ولهم شرف قديم، وقد تصرفوا في الخدمة. بلديون، ثم انتقلوا إلى
طليطلة، ثم قرطبة، ثم غرناطة. وذكر الملأحي في كتابه، الحسن بن أيوب بن حامد بن
زيد ابن الحسن هو المقتول يوم قيام بني خالد، بدعوة السلطان أبي عبد الله الغالب
بالله بن مصر، وكان عامل المتوكل على الله بن هود بها، وعمن جمع له بين الدين
والفضل والمالية.
حاله ونباهته وحنته ووفاتهكان هذا الرجل عيناً من أعيان
الأندلس، وصدراً من صدورها. نشأ عفاً متصاوناً عزوفاً، وطلاوة نزيهاً أبياً كريم
الخؤولة، طيب الطعمة، حر الأصالة، نبيه الصهر. ثم استعمل في الوزارة ببلده، ثم قدم
على من به من الفرسان، فأوردهم الموارد الصفية بإقدامه، واستباح من العدو الفرصة،
وأكسبهم الذكر والشهرة، وأنفق في سبيل الله، إلى غضاضة الإيمان، وصحة العقد، وحسن
الشيعة، والاسترسال في ذكر التواريخ، والأشعار الجاهلية، والأمثال، والتمسك بأسباب
الدين، وسحب أذيال الطهارة، وهجر الخبايث، وإيثار الجد، والانحطاط في هوى الجماعة.
مشيختهقرأ بغرناطة على شيخ الجماعة أبي عبد الله بن
الفخار، وببلده على الأستاذ أبي عبد الله الطرسوني، وبه انتفاعه، وكان جهوري
الصوت، متفاضلاً، قليل التهيب في الحفل. ولما حدث بالسلطان أبي عبد الله من كياد
دولته، وتلاحق بوادي آش مفلتاً، قام بأمره، وضبط البلد على دعوته، ولم المداهنة في
أمره، وجعل حيل عدوه دبر أذنه، إلى أن خرج عنها إلى العدوة، فكان زمان طريقه
مفدياً له بنفسه، حتى لحق بمأمنه، فتركها مغربة.
خبر في وفاته ومعرجهوكانت الحمد لله على محمده، واستأثر به
الداخل، فشد عليه يد اغتباطه، وأغرى به عقد ضنانته، وخلطه بنفسه، ثم أغرى به
لمكانته من الشهامة والرياسة، فتقبض عليه، وعلى ولده، لباب بني وقته، وغرة أبناء
جنسه، فأودعهما مطبق أرباب الجرايم، وهم باغتيالهما، ثم نقلهما إلى مدينة المنكب
ليلة المتصف لمحرم من عام اثنين وستين وسبعمائة في جملة من النبهاء، مأخوذين بمثل
تلك الجريرة ثم صرف الجميع في البحر إلى بجاية، في العشر الأول لربيع الأول
مصفدين. ولما حلوا بها، أقاموا تحت بر وتجلة؛ ثم ركبوا البحر إلى تونس، فقطع بهم
أسطول العدو بأحواز تكرنت، ووقعت بينه وبين المسلمين حرب، فكرم مقام المترجم
يومئذ، وحسن بلاؤه. قال المخبر، عهدي به، وقد سل سيفاً، وهو يضرب بالعدو ويقول،
اللهم اكتبها لي شهادة. واستولى العدو على من كان معه من المسلمين، ومنهم ولده؛
وكتب افتك الجميع ببلد العناب، وانصرف ابنه إلى الحج، وآب لهذا العهد بخلال حميدة كريمة.
من سكون وفضل ودين وحياء، وتلاوة، إلى ما كان يجده من الركض، ويعانية من فروسية،
فمضى على هذا السبيل من الشهادة، نفعه الله، في ليلة الجمعة الثامن لرجب من عام
اثنين وستين وسبعمائة.
شعرهأنشدني قاضي الجماعة أبو الحسن بن الحسن له:
يا أيها المرتجى لطف خالقه ... وفضله في صلاح الحال
والمال
لو كنت توقن حقاً لطف قدرته ... فاشمخ بأنفك عن قيل وقال
فإن لله لطفاً عز خالقنا ... عن أن يقاس بتشبيه وتمثال
وكل أمر وإن أعياك ظاهره ... فالصنع في ذاك لا يجري على
بال
محمد بن أحمد بن محمد الأشعريمن أهل غرناطة، يكنى أبا
عبد الله، ويعرف بابن المحروق، الوكيل بالدار السلطانية، القهرمان بها، المستوزر
آخر عمره، سداد من عون.
حاله وأوليته وظهوره
كان رحمه الله من أهل العفاف والتصاون،
جانحاً إلى الخير، محباً في أهل الإصلاح، مغضوض الطرف عن الحرم، عفيفاً عن الدماء،
متسمسكاً بالعدالة، من أهل الخصوصية، كتب الشروط، وبرز في عدول الحضرة، وكان له خط
حسن، ومشاركة في الطلب، وخصوصاً في الفرايض، وحظه تافه من الأدب، امتدح الأمراء،
فترقى إلى الكتابة مرؤوساً مع الجملة. وعند الإيقاع بالوزير ابن الحكيم، تعين
لحصر ما استرفع من منتهب ماله، وتحصل بالدار السلطانية من آثاثه وخرثيه، فحزم
واضطلع بما كان داعية ترقيه إلى الوكالة، فساعده الوقت، وطلع له جاه كبير، تملك
أموالاً غريضة، وأرضاً واسعة، فجمع الدنيا بحزمه ومثابرته على تنمية داخله وترقى
إلى سماء الوزارة في الدولة السادسة من الدول النصرية، بتدبير شيخ الغزاة، وزعيم
الطايفة عثمان بن أبي العلاء، فوصله إلى إدوار دنياه، والله قد خبأ له المكروه في المحبوب،
وتأذن الله سبحانه بنفاد أجله على يده، فستولى وحجب السلطان. ثم وقعت بينه وبين
مرشحه، الوحشة الشهيرة، عام سبع وعشرين وسبعمائة، مارساً لمكان الفتنة، صلة فارط
في حجب السلطان، وأجلى جمهور ما كان ببابه، ومنع من الدخول إليه، فاضطربت حاله،
وأعمل التدبير عليه، فهجم عليه بدار الحرة الكبيرة جدة السلطان، وكان يعارضها في
الأمور، ويجعلها تكأة الغرضه، فتيان من أحداث المماليك، المستبقين مع محجوبه،
تناولاه سطاً بالخناجر، ورمى نفسه في صهريج الدار، وما زالا يتعاورانه من كل جانب
حتى فارق الحياة رحمه الله تعالى.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وكانت له فيه
فراسة صادقة.
محمد بن فتح بن علي الأنصارييكنى أبا بكر ويشهر
بالأشبرون. قاضي الجماعة.
حالهكان طرفاً في الدهاء والتخلق والمعرفة بمقاطع
الحقوق، ومغامز الريب، وعلل الشهادات، فذاً في الجزالة، والصرامة، مقداماً، بصيراً
بالأمور، حسن السيرة، عذب الفكاهة، ظاهر الحظوة، علي الرتبة، خرج من إشبيلية عند
تغلب العدو عليها، وولي القضاء بمالقة وبسطة. ثم ولي الحسبة بغرناطة، ثم جمعت له إليها
الشرطة، ثم قدم قاضياً، واستمرت ولايته نحواً من ثلاثين سنة.
محمد بن الزيات الكلاعيمحمد بن أحمد بن علي بن حسن بن
علي بن الزيات الكلاعي ولد الشيخ الخطيب أبي جعفر بن الزيات، من أهل بلش يكنى أبا
بكر.
حالهمن عائد الصلة من تأليفنا. كان رحمه الله شبيهاً
بأبيه، في هديه، وحسن سمته ووقاره، إلا أنه كان حافظاً للرتبة. مقيماً للأبهة،
مستدعياً بأبيه ونفسه للتجلة، بقية من أبناء المشايخ، ظرفاً وأدباً ومروءة وحشمة،
إلى خط بديع قيد البصر، ورواية علاية، ومشاركة في فنون، وقراءة، وفقه، وعربية،
وأدب وفريضة، ومعرفة بالوثاق والأحكام. تولى القضاء ببلده، وخلف أباه على الخطابة
والإمامة، فأقام الرسم، واستعمل في السفارة، فسد مسد مثله، وأقرأ ببلده، فانتفع به.
مشيختهقرأ على الأستاذ الخطيب أبي محمد بن أبي السداد الباهلي.
وبغرناطة، على شيخ الجماعة الأستاذ أبي جعفر بن الزبير. ومن أعلام مشيخته، جده
للأم خال أبيه، الحكيم العارف أبو جعفر ابن الخطيب أبي الحسن بن الحسن المذحجي
الحمى، والخطيب الرباني أبو الحسن فضل بن فضيلة، والوزير أبو عبد الله ابن رشيد.
محمد بن علي بن الحاجمحمد بن علي بن عبد الله بن محمد بن
الحاج يكنى أبا بعد الله، ويعرف بابن الحاج.
أوليته وحاله
كان أبوه نجاراً من مدجنى
مدينة إشبيلية من العارفين بالحيل الهندسية، بصيراً باتخاذ الآلات الحربية
الجافية، والعمل بها، وانتقل إلى مدينة فاس على عهد أبي يوسف المنصور بن عبد الحق،
واتخذ له الدولاب، المنفسخ القطر البعيد المدى، ملين المركز والمحيط، المتعدد
الأكواب، الخفي الحركة، حسبما هو اليوم مائل بالبلد الجديد، دار الملك بمدينة فاس،
أحد الآثار التي تحدو إلى مشاهدتها الركاب، وبناء دار الملك بمدينة فاس، أحد
الآثار التي تحدو إلى مشاهدتها الركاب، وبناء دار الصنعة بسلا. وانتقل بعد مهلك
أبيه إلى باب السلطان ثاني الملوك من بني نصر، ومت إليه بوسيلة، أدنت محله، وأسنت جراياته،
إلى أن تولى وزارة ولده أمير المسلمين، أبي الجيوش نصر، واضطلع بتدبيره. ونقم
الناس عليه إيثاره لمقالات الروم، وانحطاطه في مهوى لهم، والتشبيه بهم في الأكل
والحديث، وكثير من الأحوال والهيئات والاستحسان؛ وتطريز المجالس بأمثالهم وحكمهم،
سمة وسمت منه عقلاً، لنشأته بين ظهرانيهم، وسبقت إلى قوى عقله المكتسب في بيوتهم،
فلم بفارقه بحال، وإن كان آية في الدهاء، والنظر في رجل بعيد الغور، عميق الفكر،
قايم على الدمنة، منطو على الرضف، لين الجانب، مبذول البشر، وحيد زمانه في المعرفة
بلسان الروم وسيرهم، محكم الأوضاع في أدب الخدمة، ذرب بالتصرف في أبواب الملوك.
وكان من ثورة العامة بسلطانه ما تقدم، وجهروا بإسلامه
إليهم، وقد ولوه بسبب الثورة، وطوقوه كياد الأزمة. فضن به السلطان ضنانة، أعربت عن
وفايه، وصان مهجتة، واستمر الأمر إلى أن خلع الملك عن الملك. وكان نزول الوزير المذكور
تحت خفارة شيخ الغزاة، وكبير الطايفة، عثمان بن أبي العلي، فانتقل محفوظ الجملة،
محوط الوفر، ولم ينشب إلى أن لجأ إلى العدوة، واتصل بالأمير أبي علي عمر بن
السلطان الكبير أبي سعيد، فحركه. زعموا، على محادة أبيه، وحمله على الانتزاء، فكان
ما هو معلوم من دعاية إلى نفسه، ومنازعة أبيه، ولقايه إياه بالمقرمدة وفل جيشه،
وفي أثناؤه هلك المترجم به.
وفاتهتوفي بفاس الجديد في العشر الأول من شعبان عام أربع
عشرة وسبعماية.
محمد بن أرقم النميريمحمد بن رضوان بن محمد بن أحمد بن
إبراهيم بن أرقم النميري من أهل وادي آش، يكنى أبا يحيى.
حالهكان صدراً شهيراً، عالماً علما، حسيباً، أصيلاً، جم
التحصيل، قوي الإدراك، مضطلعاً بالعربية واللغة، إماماً في ذلك، مشاركاً في علوم
من حساب وهيئة وهندسة. قال الشيخ: كان في هذا كله أبرع من لقيته، إلى سراوة وفضل
وتواضع ودين، جارياً في ذلك على سنن سلفه. وعلو محتده. جالسته. رحمه الله، كثيراً عند
علية من أدركته بغرناطة، لإقامته بها وتكرر لقائي إياه بها وبغيرها، فرأيت أصيلاً
جليلاً، قد جمع علماً وفضلاً، وحسن خلق، وكان حسن التقييد، لخطه رونق يمتاز به،
ويبعد عن غيره، ولي القضاء ببلجه، ثم ولي بعد مدة ببرشانة فحمدت سيرته.
مشيختهأخذ القراءات السبع عن أبي كرم جودى بن عبد الرحمن،
وقرأ عليه الغريب واللغة، ولازمه في ذلك، وأجاز له إجازة عامة. وأخذ من غيره
ببلده، وصحب بغرناطة جملة من العلماء بها، أيام اختلافه إليها، وإقامته بها.
تواليفهألف كتاباً سماه الاحتفال في استيفاء ما للخيل من
الأحوال، وهو كتاب ضخم وفقت عليه من قبله وأفدته. واختصر الغريب المصنف، وله
تقاييد منثور ومنظوم في علم النجوم، ورسالة في الإسطرلاب الخطى والعمل به. وشجرة
في أنساب العرب.
وفاتهتوفي ليلة السبت السابع عشر لشهر ربيع الآخر عام
سبع وخمسين وسبعماية.
محمد بن محمد أبو عيشونمحمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد
بن إبراهيم ابن محمد بن خلف بن محمد بن سليمان بن سوار بن أحمد بن حزب الله بن
عامر بن سعد الخير بن عياش، المكنى بأبي عيشون بن حمود، الداخل إلى الأندلس صحبة
موسى بن نصير، ابن عنبسة بن حارثة بن العباس بن المرداس، يكنى أبا البركات، بلفيقي
الأصل، مروى النشأة والولادة والسلف، يعرف بابن الحاج، وشهر الآن في غير بلده
بالبلفيقي، وفي بلده بالمعرفة القديمة.
أوليته
قد تقدم اتصال نسبه بحارثة بن
العباس بن مرادس، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد خطبايه وشعرايه، رييس
في الإسلام، ورييس في الجاهلية. وكان لسلفه، وخصوصاً لإبراهيم من الشهرة بولاية
الله؛ وإيجاب الحق من خلقه ما هو مشهور، حسبما تنطق به الفهارس، يعضد هذا المجد من
جهة الأمومة، كأبي بكر بن صهيب، وابن عمه أبي إسحاق، وغيرهم، الكثير ممن صنف في
رجال الأندلس، كأبي عبد المجيد المالقي، وابن الأبار، وابن طلحة، وابن فرتون، وابن
صاحب الصلاة، وابن الزبير، وابن عبد الملك، فلينظر هناك.
حالهنشأة ببلده ألمرية عمود العفة، فضفاض جلباب الصيانة،
غضيض طرف الحياء، نائي جنب السلام، حليف الانقباض والازورار، آوياً إلى خالص النشب
وبحت الطعمة، لا يرى إلا في منزل من سأله، وفي حلق الأسانيد، أو في مسجد من
المساجد خارج المدينة المعدة للتعبد، لا يجيئ سوقاً، ولا مجمعاً، ولا وليمة، ولا
مجلس حاكم أو وال، ولا يلابس أمراً من الأمور التي جرت عادته أن يلابسها بوجه من
الوجوه. ثم ترامى إلى رحلة، فجاس خلال القطر الغربي إلى بجاية، نافضاً إياه من
العلماء والصلحاء والأدباء والآثار بتقييده، وأخذه قيام ذكر، وإغفال شهرة. ثم صرف عنانه
إلى الأندلس، فتصرف في الإقراء، والقضاء، والخطابة. وهو الآن نسيج وحده في أصالة
عريقة، وسجية على السلامة مفطورة فما شيت من صدر سليم، وعقد وثيق، وغور قريب، ونصح
مبذول، وتصنع مرفوض ونفس ساذجة، وباطن مساو للظاهر، ودمعة سريعة، وهزل يثمر تجلة.
وانبساط يفيد حسن نية، إلى حسن العهد، وفضل المشاركة، ورقة الحاشية، وصلابة العود،
وصدق العزيمة، وقوة الحامية، وبلاغة الموعظة، وجلة الوقت. وفايدة العصر، تفنناً
وإمتاعاً، فارس المنابر غير الهيابة، ولا الجزوع، طيب النغمة بالقرآن، مجهشاً في
مجال الرقة، كثير الشفقة لصالح العامة، متأسفاً لضياع الأوقات، مدمعاً على الفيئة،
مجماً، محولاً في رياسة الدين والدنيا. هذا ما يسامح فيه الإيجاز، ويتجافى عنه الاختصار،
ويكفى فيه الإلماع والإشارة، أبقى الله شيخنا أبا البركات.
مشيخته ولايتهتقدم قاضياً بقنالش، في جمادى الثانية عام
خمسة عشر وسبع مائة ثم ولي مربلة، وإستبونة ثم كانت رحلته إلى بجاية. ثم عاد فقعد
بمجلس الإقراء من مالقة للكلام على صحيح مسلم، متفقاً على اضطلاعه بذلك. ثم رحل
إلى فاس. ثم آب إلى الأندلس، واستقر ببلده ألمرية، فقعد بمسجدها الجامع للإقراء ثم قام
قاضياً ببرجة ودلاية، والبنيول وفنيانة، ثم نقل عنها إلى بيرة، ثم غربي ألمرية. ثم
قدم قاضياً بمالقة، ثم قدم بغربها مضافاً إلى الخطابة، ثم أعيد إلى قضاء ألمرية،
بعد وفاة القاضي أبي محمد بن الصايغ. ومن كتاب طرفة العصر من تأليفنا في خبر
ولايته ما نصه: فتقلد الحكم في الثالث والعشرين لشعبان من عام سبع وأربعين
وسبعمائة، ثالث يوم وصوله مستدعي، وانتابه الطلبة، ووجوه الحضرة والدولة، مهنئين
بمثواه من دار الصيانة، ومحل التجلة، إحدى دور الملوك بالحمراء، فطفقوا بغشونه بها
زرافات ووجداناً في إتاحة الخير، وإلهام السداد، وتسويغ الموهبة. وكان وصوله،
والأفق قد اغبر، والأرض قد اقشعرت لانصرام حظ من أيام الشتاء الموافق لشهر ولايته،
لم يسح فيه الغمام بقطرة، ولا لمعت السماء بنزعة، حتى أضرت الأنفس الشح، وحسر
العسر عن ساقه، وتوقفت البذور، فساعده الجد بنزول الرحمة عند نزوله من مرقاة المنبر،
مجابة دعوة استسقايه، ظاهرة بركة خشوعه، ولذلك ما أنشدته في تلك الحال:
ظمئت إلى السقيا الأباطح والربا ... حتى دعونا العام
عاما مجدباً
والغيث مسدول الحجاب وإنما ... علم الغمام قدومكم فتأدبا
وتولى النظر في الأحكام فأجال
قداحها، مضطلعاً بأصالة النظر، وإرجاء المشبهات، وسلك في الخطابة طريقة مثلى، يفرغ
في قوالب البيان أغراضها، ويصرف على الأحكام الكواين والبساطات أساليبها. من
المحاكاة، باختلاف القبض والبسط، والوعد والوعيد، حظوظها على مقبض العدل. وسبب
الصواب يقوم على كثير مما يصدع به، من ذلك شاهد البديهة. ودليل الاستيعاب، قال
شيخنا أبو البركات: ثم صرفت عنها للسبب المتقدم. وبقيت مقيماً بها، لما اشتهر من
وقوع الوباء بألمرية، ثم أعدت إلى القضاء والخطابة بألمرية، وكتب بذلك في أوايل
رجب عام تسعة وأربعين. وبقيت على ذلك إلى أن صرفت بسبب ما ذكر. ثم أعدت إليها في أواخر
رجب سنة ست وخمسين، عسى أن سكون الانقطاع لله سبحانه. فأنا الآن أتمثل بما قاله
أبو مطرف بن عميرة رحمه الله:
قد نسبنا إلى الكتابة يوماً ... ثم جاءت خطة القضاء
تليها
وبكل لم نطق للمجد إلا ... منزلاً نابياً وعيشاً كريها
نسبة بدلت فلم تتغير ... مثل ما يزعم المهندس فيها
بدل من لفظ الكتابة إلى الخطابة. وأغرب ما رأيت ما أحكى
لك، وأنت أعلم ببعض ذلك، أن أفضل ما صدر عني في ذلك، الخطة من العمل الذي أخلصت
لله فيه، ورجوت منه المثوبة عليه، وفيه مع ذلك مفتخر لمن أراد أن يفتخر غير ملفت
للدنيا، فعليه عولت سبحانه. انتهى كلامه.
تصانيفهكتب إلي بخطه ما نصه، وهو فصل من فصول: وأما
تواليفي فأكثرها، أو كلها عير متممة في مبيضات. منها كتاب قد يكبو الجواد في
أربعين غلطة عن أربعين من النقاد، وهو نوع نمن تصحيق الحفاظ لدار قطني، منها سلوة
الخاطر فيما أشكل من نسبة النسب الرتب إلى الذاكر. ومنها كتاب قدر جم في نظم
الجمل. ومنها كتاب خطر فبطر، ونظر فحظر، على تنيهات على وثائق ابن فتوح، ومنها
كتاب الإفصاح فيمن عرف بالأندلس بالصلاح. ومها حركة الدخولية في المسألة المالقية.
ومنها خطرة المجلس في كلمة وقعت في شعر استنصر به أهل الأندلس جزء صغير. ومنها
تاريخ ألمرية غير تام. ومنها ديوان شعره المسمى بالعذب والأجاج في شعر أبي البركات
ابن الحاج. ومختصرة سماه القاضي الشريف اللؤلؤ والمرجان اللذان من العذاب والأجاج
يستخرجان. ومنها عرايس بنات الخواطر المجلوة على منصات المنابر يحتوي على فصول
الخطب التي أنشئت بطول بني والخطابة. ومنها المؤتمن على أنباء أبناء الزمن. ومنها
تأليف في أسماء الكتب، والتعريف بمؤلفيها، على حروف المعجم. ومنها ما اتفق لأبي
البركات فيما يشبه الكرامات ومنها كتاب ما رأيت وما رؤى لي من المقامات. ومنها
كتاب المرجع بالدرك على من أنكر وقوع المشترك ومنها مشبهات اصطلاح العلوم. ومنها
ما كثر وروده في مجلس القضاء. ومنها الغلسيات، وهو ما صدر عني من الكلام على صحيح مسلم أيام
التكلم عليه في التغليس. ومنها الفصول والأبواب، في ذكر من أخذ عني من الشيوخ
والأتباع والأصحاب.
ثم قال: وقد ذهب شرخ الشباب
ونشاطه، وتقطعت أوصاله، ورحل رباطه، وأصبحت النفس تنظر لهذا كله بعين الإمهال
والإغفال، وقلة المبالاة التي لا يصل أحد بها إلى منال. وهذه الأعمال لا ينشط
إليها إلا المحركات التي هي مفقودة عندي، أحدها طلبة مجتمعون متعطشون إلى ما عندي
متشوفون غاية التشوف، وأين هذه بألمرية. الثاني، طلب رياسة على هذا، متى يرأس أحد
بهذا اليوم، وعلى تقدير أن برأسي به وهو محال في عادة هذا الوقت، فالتشوف لهذه الرياسة
مفقود عندي. الثالث، سلطان يملأ يد من يظهر مثل هذا، على يده غبطة، وما تم هذا.
الرابع، نية خالصة لوجه الله تعالى في الإفادة، وهذا أيضاً مفقود عندي، ولا يد من
الإنصاف. الخامس، قصد بقاء الذكر، وهذا خيال ضعيف بعيد عني. السادس، الشفقة على
شيء ابتدى، وسعى في تحصيل مباديه، أن يضيع على قطع ما سوى هذا الإشفاق، وهذا
السادس، هو الذي في نفسي منه شيء، وبه أنا أقيد أسماء من لقيت، وما أخذت، ويكون إن
شاء الله إبراز إذا الصحف نشرت. وأكثر زماني يذهب في كيفية الخروج عما أنا فيه،
فإذا ينظر إلى العاقل في هذا الوقت بعين البصيرة، لا يسعه إلا الشفقة علي. والرحمة
لي. فإنه يرى رجلاً مطرقاً أكثر نهاره، ينظر إلى مآله، فلا ينشط إلى إصلاحه، وهو
سابع ولا يلبس بالعبادة وهو في زمانها المقارب للفوت، ولا ينهض إلى إقامة حق كما ينبغي
لعدمك المعين، ولا يجنح إلى شيء من راحات الدنيا، ويشاهد من علوم الباطل الذي لا
طاقة له على رفعه ما يضيق صدر الحر يقضى نصف النهار، محتلاً في مكان غير حسن، تارة
يفكر، وتارة يكتب ما هو على يقين منه أنه كذا لا ينتفع به، ونصف النهار يقعد
للناس، تارة يرى ما يكره، وتارة يسمع مايكره، لا صديق يذكره بأمر الآخرة، ولا صديق
يسليه بأمر الدنيا، يكفيني من هذه الغزارة. اللهم إليك المشتكى يا من بيده الخلف،
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
شعرهمن مطولاته في النزعة الغربية التي انفرد بها،
منقولاً من ديوانه. قال: ومما نظمته بسبتة في ذي الحجة من عام خمسة وعشين
وسبعمائة، في وصف حالي، وأخذها عني الأستاذ بسبتة، أبو عبد الله بن هانئ، والأديب
البارع أبو القاسم الحسيني، وأبو القاسم بن حزب الله، وسواهم. ولما انفصلت من سبتة
إلى بلاد الريف زدت عليها إبياتاً في أولها وكثر ذلك بوادي لو من بلاد الريف وهي:
تأسفت لا كن حين عز التأسف ... وكفكت دمعاً حين لا عين
تذرف
ورام سكوناً وهو في رجل طاير ... ونادى بأنس والمنازل
تعنف
أراقب قلبي مرة بعد مرة ... فالفيه ذياك الذي أنا أعرف
سقيم ولا كن لا يحس بدايه ... سوى من له في مأزق الموت
موقف
وجاذب قلباً ليس يأوى لمألف ... وعالج نفساً داؤها
يتضاعف
وأعجب ما فيه استواء صفاته ... إذ الهم يشقيه أو السر
ينزف
إذا حلت الضراء لم ينفعل لها ... وإن حلت السراء لم
يتكيف
مذاهبه لم تبد غاية أمره ... فؤاد لعمري لا يرى منه أطرف
فما أنا من قوم قصارى همومهم ... بنوهم وأهلهم وثوب
وأرغف
ولا لي بالإسراف فكر محدث ... سيغدو جبيبي أو سيشعر مطرف
ولا أنا ممن لهوه جل شأنه ... بروض أنيق أو غزال مهفهف
ولا أنا ممن أنسه غاية المنى ... بصوت رخيم أو نديم
وفرقف
ولا أنا ممن تزدهيه مصانع ... ويسبيه بستان وليهيه مخرف
ولا أنا ممن همه جمعها فإن ... تراءت يثب بسعي لها وهو
مرجف
على أن دهري لم تدع لي صروفه ... من المال إلا مسحة أو
مجلف
ولا أنا ممن هذه الدار همه ... وقد غره منها جمال وزخرف
ولا أنا ممن للسؤال قد انبرى ... ولا أنا ممن صان عنه
التعطف
ولا أنا ممن نجح اله سعيهم ... فهمتهم فيها مصلى ومصحف
فلا في هوى أضحى إلى اللهو قايداً ... ولا في تقي أمس
إلى الله يزلف
أحارب دهري في نقيض طباعه ...
وحربك من يقضى عليك تعجرف
وأنظره شزراً بأصلف ناظر ... فيعرض عني وهو أزهى وأصلف
وأضبطه ضبط المحدث صحفه ... فيخرج في التوقيع أنت المصحف
ويأخذ مني كل ما عز نيله ... ويبدو بجهلي منه في الأخذ
محتف
أدور له في كل وجه لعلني ... سأتبته وهو الذي ظل يحذف
ولما يئسنا منه تهنا ضرورة ... فلم تبق لي فيها عليه
تشوف
تكلفت قطع الأرض أطلب سلوة ... لنفسي فما أجدى بتلك
التكلف
وخاطرت بالنفس العزيزة مقدماً ... إذا ما تخطى النصل قصد
مرهف
وصرفت نفسي في شئون كثيرة ... لحظة فلم يظفر بذاك التصرف
وخضت فلأنواع المعارف أبحراً ... ففي الحين ما استجرتها
وهي تترف
ولم أحل من تلك المعاني بطايل ... وإن كان أهلوها أطالوا
وأسرفوا
وقد مر من عمري الألذ وها أنا ... على ما مضى من عهده
أتلهف
وإني على ما قد بقي منه إن بقي ... لحرمة ما قد ضاع لي
أتخوف
أعد ليالي العمر والفرض صومها ... وحسبك من فرض المحال
تعف
على أنها إن سلمت جدليه ... تعارض آمالاً عليها ينيف
تحدثني الآمال وهي كدينها ... تبدل في تحديثها وتحرف
بأني في الدنيا سأقضي مآربي ... وبعد يحق الزهد لي
والتقشف
ورب أخلاء شكوت إليهم ... ولكن لفهم الحال إذ ذاك لم يف
فبعضهم يزوي علي وبعضهم ... يغض وبعض يرثي ثم يصدف
وبعضهم يومي إلي تعجباً ... وبتعض بما قد رأيته يتوقف
وبعضهم يلقى جوابه على ... مقتضى العقل الذي عنه يتوقف
يسيء استماعاً ثم يعد إجابة ... على غير ما تحذوه يحذو
ويخصف
ولا هو يبدي لي على تعقلا ... ولا هو يرثي لي ولا هو
يعنف
وما أمرنا إلا سواء وإنما ... عرفنا وكل منهم ليس يعرف
فلو قد فرغنا من على نفوسنا ... وحطوا الدنية من عليل
وأنصف
أما لهم من علة أرمت بهم ... ولم يعرفوا أغوارها وهي
تتلف
وخضنا لهم في الكتب عن كنه أمرهم ... ومثلي عن تلك
الحقائق يكشف
وصنفت في الآفات كل غريبة ... فجاء كما يهوى الغريب
المصنف
وليس عجيباً من تركب جهلهم ... فإن يحجبوا عن مثل ذاك
وصرف
إذا جاءنا بالسخف من نزو عقله ... إذا ما مثلناه أزهى
وأسخف
فما جاءنا إلا بأمر مناسب ... أينهض عن كف الجبان المثقف
ولا كن عجيب الأمر علمي وغفلتي ... فديتكم أي المحاسن
أكشف
إلا أنها الأقدار يظهر سرها ... إذا ما وفي المقدور
فالرأي يخلف
أيا رب إن اللب طاش بما جرى ... به قلم الأقدار والقلب
يرجف
وإنا لندعوهم ونخشى وإنما ... على رسمك الشرعي من لك
يعكف
أقول وفي أثناء ما أنا قايل ... رأيت المنايا وهي لي
تتخطف
وإني مع الساعات كيف تقلبت ... لأسهمها إن فوقت متهدف
وما جر ذا التسويف إلا شبيتي ... تخيل لي طول المدى
فأسوف
إذا جاء يوم قلت هو الذي يلي ... ووقتك في الدنيا جليس
مخفف
أقدم رجلاً عند تأخير أختها ... إذا لاح شمس فالنفس تكف
كأني لداني المراقد منهم ... ولم أودعهم والخض ريان ينسف
وهبني أعيش هل إذا شاب مفرقي ... وولي شبابي هل يباح
التشوف
وكيف ويستدعى الطريق رياضة ... وتلك على عصر الشباب توظف
متى يقبل التقويم غير عطوفة
... وبي بعد حساً فالنار تنسف
ولو لم يكن إلا ظهورة سره ... إذا ما دنا التدليس هان
التنطف
أمولي الأسارى أنت ألى بعذرهم ... وأنت على المملوك أحق
وأعطف
قذفنا بلج البحر والقيد آخذ ... بأرجلنا والريح بالموج
تعصف
وفي الكون من سر الوجود عجايب ... أطل عليها العارفون
وأشرف
وكعت عليهم نكثة فتأخروا ... وددت بأن القوم بالكل أسعف
فليس لنا إلا أن نحط رقابنا ... بأبواب الاستسلام والله
يلطف
فهذا سبيل ليس للعبد غرها ... وإلا فماذا يستطيع المكلف
وقال:
وضمتها محاورة بينه وبين نفسه، وقيدتها عنه زوال يوم
الثلاثاء التاسع والعشرين لمحرم خمس وخمسين وسبعمائة، برابكة العقاب، متعبد الشيخ
ولي الله أبي إسحاق الإلبيري، رحمه الله، فمنها:
يأبى شجون حديثي الإفصاح ... إذ لا تقوم بشرحه الألواح
قالت صفية إذ مررت بها ... أفلا تنزل ساعة ترتاح
فأجبتها لولا الرقيب لكان لي ... ما تبتغى بعد الغدو
رواح
قالت وهل في الحي حي غيرنا ... فاسمح فديتك فالسماح رياح
فأجبتها إن الرقيب هو الذي ... بيديه منا هذه الأرواح
وهو الشهيد على موارد عبده ... سيان ما الإخفاء والإفصاح
قالت وأين يكون وجود الله إذ ... تخشى ومنه هذه الأفراح
فافرح بإذن الله جل جلاله ... واشطح فنشوان الهوى شطاح
وانهج على ذمم الرجال ولا تخف ... فالحكم رحب والنوال
مباح
وانزل على حكم السرور ولا تبل ... فالوقت صاف ما عليك
جناح
واخلع عذارك في الخلاعة يا أخي ... باسم الذي دارت به
الأقداح
وانظر إلى هذا النهار فسنه ... ضحكت ونور جبينه وضاح
أنواره ضحكت وأترع كأسه ... فقد استوى ريحانه والراح
وانظر إلى الجنيا بنظرة رحمة ... فجفاؤها بوفائها ينزاح
فأجبتها لو كنت تعلم ما الذي ... يبدو لتاركها وما يلتاح
ما كان معنى غامض من أجله ... قد ساح قوم في الجبال وتاح
حتى لقد سكروا من الأمر الذي ... هاموا به عند العيان
وساح
فاترك صفيك قارعاً باب الرضى ... والله جل جلاله الفتاح
يا حي حي على الفلاح وخلني ... فجماعتي حثوا المطي وراح
وقيدت من خطه في جملة ما كتب إلي ما نصه: ومما نظمته
بغرناطة، وبعضه ببرجة، وهو مما يعجبني، وأظنه كتبه لك، وهو غريب المنزع، وإنه لكما
قال:
خذها على رعم الفقيه سلافة ... تجلى بها الأقمار في شمس
الضحى
أبدي أطباء القلوب لأهلها ... منها شراباً للنفوس مبرحا
وإذا امرؤ قال في نشوانها ... قل أنت بالإخلاص فيمن قد
صحا
يا قوتة دارت على أربابها ... فاهتزت الأقدام منها
واللحا
مزجت فغار الشيخ من إظهارها ... فاشتد يبتدر الحجاب
ملوحا
لا تعترض أبداً على مسترفد ... قد غار من أسرارها أن
يفضحا
وكذاك لا تعتب على مستهتر ... لم يدر ما الإيضاح لما
أوضحا
سكران يعثر في ذيول لسانه ... كفراً ويحسب أنه قد سبحا
كم الهوى حرب بعض وبعض ... ضاق ذرعاً بالغرام فبرحا
لا تخشين على العدالة هاتفاً ... ثغر ارتياح العاشقين
فجرحا
الحب خمر العارفين وقد ضفت ... حتماً على من ذاقها أن
يشطحا
فاشطح على هذا الوجود وأهله ... عجباً فليس براجح من
رجحا
كبر عليهم أنهم موتى على ... غير الشهادة ما أغر وأقبحا
واهزأ بهم فمتى يقل نصحاؤهم ... أهج فقل حتى ألاقي مفلحا
وإذا أريبهم استخف فقل له ...
بالله يا يحيى بن يحيى دع جحا
أبني سليم قد نجا مجنونكم ... مجنون ليلى العارفين به قد
محا
هل يستوي من لم يبح بحبيبه ... مع من بذكر حبيبه قد
أفصحا
فافرح وطب وأبهج وقل ما شئت ما أملح الفقراء يا ما أملحا
ومن مقطوعاته التي هي آيات العجايب، وطرر حلل البدايع في
شتى الأغراض والمقاصد، قوله يعتذر لبعض الطلبة، وقد استدبره ببعض حلق العلم بسبتة:
إن كنت أبصرتك لا أبصرت ... بصيرتي في الحق برهانها
لا غرو أني لم أشاهدكم ... فالعين لا تبصر إنسانها
ومنها قوله في غرض التورية، وهو بديع في معناه:
يلومونني بعد العذار على الهوى ... ومثلي في وجدي له لا
يفند
يقولون لي أمسك عنه قد ذهب الصبا ... وكيف يرى الإمساك
والخيط أسود
ومنها قوله في المجبنات، وهو من الغريب البديع:
ومصفرة الخدين مطوية الحشا ... على الجبن والمصفر يؤذن
بالخوف
لها هيئة كالشمس عند طلوعها ... ولكنها في الحين تغرب في
الجوف
ومنها قوله في النصح، ولها حكاية تقتضي ذلك:
لا تبذلن نصيحة إلا لمن ... تلقى لبذل النصح منه قبولا
فالنصح إن وجد القبول فضيلة ... ويكون إن عدم القبول
فضولا
ومنها في الحكم:
ما رأيت الهموم تدخل إلا ... من دروب العيون والآذان
غض طرفاً وسد سمعاً ومهما ... تلق هماً فلا تثق بضمان
ومنها قوله، وهو من المعاني المبتكرات:
حزنت عليك العين يا مغنى الهوى ... فالدمع منها بعد بعدك
ما رقا
ولذاك قد صبغت بلون أزرق ... أو ما ترى ثوب المآتم أزرقا
ومنها قوله في المعاني الغربية، قال: ومما نظمته في عام
أربعة وأربعين في التفكر في المعاني، مغلق العينين:
أبحث فيما أنا حصلته ... عند انغماض العين في جفنها
أحسبنى كالشاة مجترة ... تمضغ ما يخرج من بطنها
وقال:
ومما نظمته بين أندرش وبرجة عام أربعة وأربعين، وأنا
راكب مسافر، وهو مما يعجبني، إذ ليس كل ما يصدر عني يعجبني. قلت وبحق أن يعجبه:
تطالبني نفسي بما ليس لي به ... يدان فأعطيها الأمان
فتقبل
عجبت لخصم لج في طلباته ... يصالح عنها بالمحال فيفصل
قال ومما نظمته في السنة المذكورة من ذم النساء:
ما رأيت النساء يصلحن إلا ... للذي يصلح الكنيف من أجله
فعلى هذه الشريطة صالحهن لا تعد بأمرئ عن محله
قال: ومما نظمته في السنة المذكورة:
قد هجرت النساء دهراً فلم أبلغ آذاني صفاتهن الذميمة
ما عسى أن يقال في هجو من قد ... خصه المصطفى بأقبح شيمة
أو يبقى لنا قصر العقل والدين إذا عدت المثالب قيمة
وقال:
وما نظمته في تاريخ لا أذكره الآن، هذان البيتان، ولم أر
معناهما لمن مضى. ولو رحل رجل إلى خراسان، ولم يأت إلا بهما، كان ممن لم يخفق
مسعاه، ولا أجدب مرعاه، ينفتح بهما للقلب باب من الراحة فسيح، إذا أجهده ما يكابد
من المضاضة، ونقض العهود، واختلاف الوعود. وهذه المحنة من شر ما ابتلى به بنو آدم،
شنشنة نعرفها من أمرهم. ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي:
رعى الله إخوان الخيانة إنهم ... كفونا مؤونات البقا على
العهد
فلو قد وفوا كنا أسارى عقوقهم ... نراوح بين النسئة
والنقد
وقال يداعبني، وعلى سبيل الكناية يخاطبني، ولقد لقيت،
رجلاً ببلاد الهند يعرف بأبي البركات ابن الحاج، وكان برد في بستان كان له، فقلت
أهجوه عام أربعة وأربعين وسبعمائة:
قالوا أبو البركات جم ماؤه ... فغدا أبو البركات لا أبا
البركات
قلنا لأن يكنى بموجوداته ... أولى من أن يكنى بمعدومات
ومما نظمته عام خمس وأربعين وسبعمائة:
قد كنت معذوراً بعلمي وما ... أبث من وعظي بين البشر
من حيث قد أملت إصلاحهم ... بالوعظ والعلم فخان النظر
فلم أجد أوعظ للناس من ...
أصوات وعاظ جلود البقر
ومما نظمته بمرسى تلهى، من بلد هنين، عام ثلاثة وخمسين،
وقد أصابني هوس في البحر وخاطبت به بعض الأصحاب:
رأسي به هوس جديد لا الذي ... تدريه من هوس قديم فيه
قد حل ما أبديه من هذا كما ... قد حل من ذاك الذي أخفيه
ومن الملح قوله، قال: وبت بحمام الخندق من داخل ألمرية
ليلة الجمعة الثامن من شهر محرم عام اثنين وثلاثين منفرداً، فطفى المصباح، وبقيت
مفكراً، فخطر ببالي ما يقول الناس من تخيل الجن في الأرحاء والحمامات، وعدم إقدام
كافة الناس إلا ما شذ عند دخولها منفردين بالليل، لا سيما في الظلام، واستشعرت قوة
في نفسي عند ذلك، أعراض وأوهام، فقلت مرتجلاً، رافعاً بذلك صوتي:
زعم الذين عقولهم قدرها ... إن عرضت للبيع غير ثمين
أن الرحا معمورة بالجن والحمام عندهم كذا بيقين
إن كان ما قالوه حقاً فاحضروا ... للحرب هذا اليوم من
صفين
فلئن حضرتم فاعلموا بحقيقة ... بأني مصارع قيس المجنون
قال: ودخلت رياضاً يوماً، فوجدت كساء منشوراً للشمس لم
أعرفه من حوايجي، ولا من حوايج حارسة البستان، فسألتها فقالت، هو لجارتي فقلت:
من منصفي من جارتي جارت على ... مالي كأني كنت من
أعدائها
عمدت إلى الشمس التي انتشرت على ... أرضي وأمت فيه بيس
كسائها
لولا غيوم يوم تيبس الكسا ... سرت لحجب السحب جل ضياءا
لقضيت منهم الخسار لأنني ... أصبحت مزوراً على بخلائها
قلت، وصرت إلى مغنى بحمة بدانة وسار معي كلب كان يحرس
رياضي اسمه قطمير، وهو فيما يذكر كلب أهل الكهف، في بعض الأقوال، فتبعني من ألمرية
إلى الحمة، ثم من الحمة إلى ألمرية، فقلت:
رحلت وقطمير كلبي رفيقي ... يونس قلبي بطول الطريق
فلما أنخت أناخ حذائي ... يلاحظني لحظ خل شفيق
ويرعى أذمة رفقي كما ... يتغنى الصيديق الصدوق
على حين قومي بني آدم ... بلؤمهم لم يوفوا حقوق
ولا فرق بين الأباعد منهم ... وبين أخ مستحب شفيق
أو ابن متى تلقاه تلقه ... هوى اشتياق بقلب خفوق
فما منهم من ولي حميم ... ولا ذي إخاء صحيح حقيق
وناهيك ممن يفضل كلباً ... عليهم فيا وليهم من رفيق
ألا من يرق لشيخ غريب ... أبى البركات الفتى البلفيق
وقال: ومما نظمته بتاريخ لا أذكره هذان البيتان:
وأين الخير من زماني وأهله ... على أنني للشر أول سابق
لحا الله دهراً قد تقدمت أهله ... فتلك لعمر الله إحدى
البوايق
ومن النزعات الشاذة الأغراض:
لا بارك الله في الزهاد إنهم ... لم يتركوا عرض الدنيا
لفضلهم
بل أثقلتهم تكاليف الحياة فلم ... يصايروها فملوا ثقل
حملهم
وعظم الناس منهم تركها فغدوا ... من غبطة الترك في حرص
لأجلهم
نعم أسلم أن القوم إذ زهدوا ... زاداً وأعلى الناس طراً
فضل تركهم
من حيث قد أحرز والترجيح دونهم ... لا شيء أبين من ترجيح
فضلهم
فالمال والجود والراحات غاية ما ... يحكى لنا الزهد في
ذاعن أجلهم
والزاهدون براحات القلوب مع الأبدان سروا وعزوا بعد ذلهم
فكل ما فرقوا قد حصلوا غرضاً ... منه وزادوا ثناء الناس
كلهم
قال: ومما نظمته عام أربعين في ذم الخمر من جهة الدنيا،
لا من جهة الدين، إذ ليس بغريب:
لقد ذم بعض الخمر قوم لأنها ... تكر على دين الفتى بفساد
وقد سلموا قول الذي قال إنها ... تحل من الدنيا بأعظم
ناد
وتذهب بالمال العظيم فلن ترى ... لمدمنها من طارف وتلاد
فيمسي كريماً سيداً ثم يغتدي ... سفيهاً حليف الغي بعد
رشاد
وقالوا تسلى وهو عارية لها
... وإلا فلم يأتوا لذاك بشاد
وصلة ونور وحسناء طفلة ... ومرأى به للطريف سير جواد
وهل يدانوي من مرارتها التي ... أواخرها مقرونة بمهاد
ولو أشرب الإنسان مهلاً بهذه ... لأصبح مسروراً بأطيب
زاد
ومن حسن حال الشاربين يقينها ... بالرغم من برق وساد
ومن حسن ذا المحروم أن مدامه ... إذا غلبت تكسوه ثوب
رقاد
فيختلف الندمان طراً لروحه ... ويحدوهم نحو المروءة حادي
ومن حسنه بين الورى ضرب ظهره ... فيمسي بلا حرب رهين
جلاد
مجانين في الأوهام قد ضل سعيهم ... يخففون بيعاً بحسن
غواد
ومن نظمه في الإنحاء على نفسه، واستبعاد وجوه المطالب في
جنسه، مما نظمته يوم عرفة عام خمسين وأنا منزو في غار ببعض جبال ألمرية:
زعموا أن في الجبال قوماً ... صالحين قالوا من الأبدال
وادعوا أن كل من ساح فيها ... فسيلقاهم على كل حال
فاخترقنا تلك الجبال مراراً ... بنعال طوراً ودون نعال
ما رأينا فيها سوى الأفاعي ... وشبا عقرب كمثل النبال
وسباعاً يخترون بالليل عدواً ... لا تسلني عنهم بتلك
الفيال
ولو كنا لدى العدوة الأخرى ... رأينا نواجذ الريبال
وإذا أظلم الدجى جاء إبليس إلينا يزور طيف الخيال
هو كان الأنيس فيها ولولا ... ه أصيبت عقولنا بالخبال
خل عنك المحال يا من تعني ... ليس تلقى الرجال غير
الرجال
قال: ومن المنازع الغريبة ذم الأصحاب ومدح الأعداء، فمن
ذلك قولي:
جزى الله بالخير أعداءنا ... فموردهم أنسى المصدر
هم حملونا على العرف كرهاً ... وهم صرفونا عن المنكر
وهم أقعدونا بمجلس حكم ... وهم بوؤونا ذرى المنبر
وهم صيرونا أئمة علم ودين وحسبك من مفخر
عدوي بأول فدى مأثم ... وإن جيت بالإثم لم يعذر
وأنت ترى تمحيص من يعدل بين المسيء وبين البر
ولا زود الله أصحابنا بزاد تقى ولا خير
هم جرؤونا على كل إثم ... وما كنت لو لاهم بالمخبر
وعدوا من إكبار آثامنا ... فكانوا أضر من الفاتر
أعارني القوم ثوب التقى ... وإني مما أعاروني بري
إذا خدعوني ولم ينصحوا ... وإني بالنصح منهم حر
فمن كان يكذب حال الرضى ... يصدق في غضب يفتر
بلى سوف تلقى لدى الحالتين ... يحكم النفس هوى الفر
فيا رب أبق علينا عقولنا ... نبيع بها وبها نشتر
قال: وما رأيت هذا المعنى قط لأحد، ثم رأيت بعد ذلك
لبعضهم ما معناه:
عداتي لهم فضل على ومنة ... فلا أذهب الرحمن عني
الأعاديا
هم بحثوا عن زلتي فاجتنبتها ... وهم نافسوني فاكتسبت
المعاليا
فوقع حافري على ساق هذا. قال: وما نظمته، متخيلاً أني
سابق معناه:
خلنا ليلة من كف دهر ... ضنين بالليالي الطيبات
سلكنا للهوى والعقل فيها ... مسالك قد جلين عن الشتات
قضينا بعض حق النفس فيها ... وحق الله مرعى الثبات
فلم نر قبله في الدهر وقتاً ... بدت حسناته في السيئات
ثم رأيت بعد ذلك على هذا.
لا وليال على المصلى ... تسرق في نسكها الذنوب
فوقعت ساقي على حافر هذا المحروم، إلا أني جردت ذلك في
المعنى، وأوضحته، وجلوته على كرسي التقعيد والتنجيد، فلولا التاريخ لعاد سارق
البرق.
نثرهوأما نثره فنمط مرتفع عن معتاد عصره، استنفاراً
وبلاغة، واسترسالاً وحلاوة، قلما يعرج على السجع، أو يأمر على التكليف، وهو كثير
بحيث لا يتعين عيونه، ولكن نلمع منه نبذة، ونجلب منه يسيراً. كتب إلي عند إيابي من
الرسالة إلى ملك المغرب، متمثلاً ببيتين لمن قبله، صدر بهما:
يا أيتها النفس إليه اذهبي
... فحبه المشهور من مذهبي
إيأسى التوبة من حبه ... طلوعه شمساً من المغرب
بل محلك، أمثل من التمثيل بالشمس، فلو كان طلوعك على هذه
الأقطار شمساً، لأصبح جلها لك عباد. ولو كان نزولك مطراً لتكيفت الصخور تراباً
دمثاً. ولولا معرفتنا معشر إخوان الصفا، بأقرار أنفسنا، لحكمنا بأن قلوبنا تمايم لأصدقائنا،
ولكن سبقت عيو السعادة، بالكلات فلو تصادف بالرضى محلاً، لأن تحصيل الحاصل محال،
لا زلت محروساً، بعين الذي لا تأخذه سنة ولا نوم مكنوفة ببركة الذي يرومه رايم
والسلام.
وكتب إلي عندما تقلدت من رياسة الإنشاء ما تقلدت: تخصكم
يا محل الإبن الأرضى ولادة، والأخ الصادق إخلاصاً ووداً، خصكم الله من السعادة
بأعلاها مرقى، وأفضلها عقبى، وأحمدها غنى، وأكرمها مسعى، تحية اللهفان إلى أيام
لقائك، المسلى عنها بتأميل العود إليها، المزجى أوقاته بترداد الفكر فيها، محمد بن
الحاج، أبقاه الله، عن شوق، والذي لا إله إلا هو، لم أجد قط مثله إلى ولي حميم.
والله على ما نقول وكيل، معرفاً أنني بعلاقمه، وتصليني عن كسره مجامعه، لما اعتني
به من توقلكم بالرتبة، التي ما زال أحباؤكم بها ممطولي بره. على أنك لم تزد بذلك رتبة
على ما كنت باعتبار الأهلية، والمكانة العلية، إلا عند الأطفال والأغفال،
والمحلقين من النساء والرجال، لا كن أفزعتنا هذه المخاطبة المحظية في قالب
الجمهور، ولم نسر فيها، على الأصح، لا كن على الجمهور. ولو كانت مصارف الوجود
بيدي، والفتك من الوجود، منازل أسمايه منازل، وأوطأتك أفلاكه مراكب، وأوردتك كوثره
مشرباً، وأحللتك أرفعه معقلاً، وأقبستك بدره مصباحاً، وأهدتك أسراره تحفاً. وقد
تبلغ المقاصد مبالغ لا تنتهي أقاصيها الأعمال، فنحن وما نضمره لتلك الجملة الجليلة
الفاضلة، مما الله رقيب عليه، ومحيط بدقايقه. ولو كانت لهذا العبد الغافل، المأسور
في قيد نفسه، المحزون على انتهاب الأيام، رأس عمره في غير شيء، دعوة يساعدها الوجد
حتى يغلب على ظنه، أن العليم بذات الصدور، ولاها من قبوله بارقة، لخصك بها، والله
شهيد على ما تكنه الأفئدة، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
والفضل جم، والمحاسن عديدة، فلنقصر اضطراراً، ولنكف
امتثالاً للرسم، وانقياداً، أمتع الله به.
محمد بن عبد الله بن منظور القيسيمن أهل مالقة يكنى أبا
بكر
أوليتهأصله من إشبيلية، من البيت المشهور بالتعيين
والتقدم، والأصالة، تشهد بذلك جملة أوضاع، منها الروض المحظور ي أوصاف بني منظور.
وغيره.
حالهمن كتاب عائد الصلة. كان جم التواضع والتخلق، كثير
البر، مفرط الهشة، مبذول البشر، عظيم المشاركة، سريع اللسان إلى الثناء، مسترسلاً
في باب الإطراء، درباً على الحكم، كثير الحنكة، قديم العالة، بصيراً بالشروط، ولي
القضاء بجهات كثيرة، وتقدم بمالقة، بلده فشكرت سيرته، وحمدت مدارته، وكان سريع
العبرة، كثير الخشية، حسن الاعتقاد، معروف الإيثار والصدفة، شايع الإقراء لمن ألم
بصقعه، واجتاز على محل ولايته، جارياً على سنن سلفه، ينظم وينثر، فلا يقصر.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي محمد بن أبي السداد الباهلي،
ولازمه وانتفع به، وسمع على غيره من الأعلام، كالخطيب الولي أبي عبد الله
الطنجالي، والعدل الرواية المسن أبي عبد الله بن الأديب، والمسن أبي الحكم مالك بن
المرحل، وعلى الشيخ الصوفي أبي عبد الله محمد بن أحمد الأقشري الفاس، ولبس عنه
خرقة التصوف، وعلى الخطيب أبي عبد الله بن رشيد، وعن الشيخ القاضي أبي المجد بن خميس
بالجزيرة الخضراء، وعلى الخطيب الزاهد أبي عبد الله السلال. وكتب إليه بالإجازة،
أبو عبد الله بن الزبير، والفقيه أبو الحسن ابن عقيل الرندي، والوزير المعمر أبو
عمر الطنجي، وأبو الحكم بن منظور ابن عم أبيه، والأستاذ أبو عبد الله بن الكماد.
نقلت ذلك من خطه.
تواليفه
أخبرني أنه ألف نفحات المسوك،
وعيون التبر المسبوك في أشعار الخلفاء والوزراء والملوك. وكتاب السحب الواكفة والظلال الوارفة،
في الرد على ما تضمنه المضنون به على غير أهله من اعتقاد الفلاسفة. وكتاب الصيب
الهتان الواكف بغايات الإحسان المشتمل على أدعية مستخرجة من الأحاديث الصحيحة
النبوية وسور القرآن. وكتاب البرهان والدليل في خواص سور التنزيل، وما في قراءتها
في النوم من بديع التأويل. وكتاب يشتمل على أربعين حديثاً في الرقايق. موصولة الأسانيد،
وكتاب تحفة الأبرار في مسألة النبوة والرساة، وما اشتملت عليه من الأسرار. وكتاب
الفعل المبرور. والسعي المشكور، فيما وصل إليه، أو تحصل لديه من نوازل القاضي أبي
عمر بن منظور.
شعرهومن شعره قوله:
ما للعطاس ولا للفال من أثر ... فثق فدينك بالرحمن
واصطبر
وسلم الأمر فالأحكام ماضية ... تجري على السن المربوط
بالقدر
محمد بن هارون الغسانيمحمد بن علي بن الخضر بن هارون
الغساني من أهل مالقة يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عسكر
حالهمن كتاب الذيل والتكملة. كان مغرباً مجوداً، نحوياً
متوقد الذهن، متفنناً في جملة معارف. ذا حظ صالح من رواية الحديث، تاريخاً،
حافظاً، فهيماً، مشاوراً، دؤوباً في الفتوى، متيناً في الدين، تام المروءة، سنياً
فاضلاً، معظماً عند الخاصة والعامة، حسن الخلق، جميل العشرة، رحيب الصدر، مسارعاً إلى
قضاء الحوايج، شديد الإجمال، محسنا إلى من أساء إليه، نفاعاً بجاهه، سمحاً بذات
يده، متقدماً في عقد الوثائق، بصيراً بمعانيها، سريع البديهة في النظم والنثر، مع
البلاغة، والإحسان في الفنين.
ولي قضاء مالقة نايباً عن القاضي أبي عبد الله بن الحسن
مدة، ثم ولي مستبداً بتقديم الأمير أب يعبد الله بن نصر، يوم السبت لليلتين بقيتا
من رمضان عام خمس وثلاثين. وأشفق من ذلك وامتنع منه وخاطبه مستقفياً، وذكر أنه لا يصلح
للقيام بما قلده من تلك الخطة تورعاً منه فلم يسعفه. فتقلدها، وسار فيها أحسن
سيرة، وأظهر الحقوق التي كان الباطل قد غمرها، ونفذ الأحكام.
وكان ماضي العزيمة، مقداماً، مهيباً، جزلاً في قضائه، لا
تأخذه في الله لومة لأئم، واستمر على ذلك بقية عمره.
مشيختهروى عن أبي إسحاق الزوالي، وأبي بكر بن عتيق بن
منزول، وأبي جعفر الجيان، وأبي حسن الشقوري، وأبي الحجاج بن الشيخ، وأبي الخطاب بن
واجب، وأبي زكريا الإصبهاني مقيم غرناطة.
من روى عنهروى عنه أبو بكر بن خميس ابن أخته، وأبو
العون، وأبو عبد الله ابن بكر الإلبيري. وحدث عنه بالإجازة، أبو عبد الله الأبار،
وأبو القاسم ابن عمران، وكتب بالإجازة للعراقيين من أهل بغداد الذين استدعوها من
أهل الأندلس، حسبما تقدم في رسم أبي بكر بن هشام، وضمنها نظماً ونثراً اعترف له
بالإجادة فيهما.
تصانيفهصنف كتباً كثيرة، أجاد فيها وأفاد. منها المشرع
الروي في الزيادة على المروى. ومنها أربعون حديثاً التزم فيها موافقة اسم شيخه،
اسم الصابي، وما أراه سبق إلى ذلك، وهو شاهد بكثرة شيوخه، وسعة روايته، ومنها نزهة
الناظر في مناقب عمار بن ياسر. ومنها الخبر المختصر، في السلوى عن ذهاب البصر، ألفه لأبي محمد
بن أبي الأحوص الضرير الواعظ. ومنها رسالة في ادخار الصبر، وافتخار القصر والفقر، ومنها
الإكمال والإتمام في صلة الإعلام بمجالس الأعلام من أهل مالقة الكرام وله اسم آخر،
وهو مطلع الأنوار ونزهة الأبصار، فيما احتوت عليه مالقة من الرؤساء والأعلام
والأخيار، وتقيد من المناقب والآثار. واختر منه المنية عن إتمامه فتولى إتمامه ابن
أخته أبو بكر محمد بن خميس المذكور، وقد نقلت منه في هذا الكتاب.
شعرهومن شعره، وقد نعيت إليه نفسه قبل أن تغرب من سماء
معارفه شمسه:
ولما انقضى إحدى وخمسون حجة ... كأني منها بعد كرب أحلم
ترقيت أعلاها لأنظر فوقها ... مدى الحتف مني على منه
أسلم
إذا هو قد أدنت إليه كأنما ... ترقيت في نحوة وهو سلم
وقال في أحدب:
وأحدب تحسب في ظهره ... جابه في نهر عايمة
مثلث الخلقة لاكنه ... في ظهره زواية قايمة
ومن أمثال نظمه قوله، وقد
استدعيت منه إجازة:
أجبتك لأني لما رمته أهل ... ولا كن ما أجبت محتمل سهل
وما العلم إلا بحر طال مدانه ... ومالي محم في الورود
ولا نهل
فكيف أراني أهل ذاك وقد أتى ... على المحيتان البطالة
والجهل
وأسأل ربي العفو عني فإنه ... لما يرتجيه العبد من فضل
أهل
مولده: تخميناً في نحو أربع وثمانين وخمسماية.
وفاته: ظهر يوم الأربعاء لأبرع خلون من جمادى الآخرة،
عام ستة وثلاثين وستماية.
محمد بن يحيى الأشعري المالقيمحمد بن يحيى بن محمد بن
يحيى بن أحمد بن محمد ابن أبي بكر بن سعد الأشعري المالقي يكنى أبا عبد الله،
ويعرف بابن بكر، من ذرية بلج بن يحيى بن خالد بن عبد الرحمن بن يزيد بن أبي بردة.
واسمه عامر بن أبي عامر بن أبي موسى. واسمه عبد الله بن قيس صاحب رسول الله صلى
الله عليه وسلم. ذكره ابن حزم في جملة من دخل الأندلس من العرب.
حالهمن عائد الصلة. كان من صدور العلماء، وأعلام
الفضلاء، سذاجة ونزاهة ومعرفة وتفنناً.
الأشعري المالقي فسيح الدرس، أصيل انظر، واضح المذهب،
مؤثراً للإنصاف، عارفاً بالأحكام والقراءات، مبرزاً في الحديث، تاريخاً وإسناداً،
وتعديلاً وتجريحاً، حافظاً للأنساب والأسماء والكنى، قايماً على العربية، مشاركاً
في الأصول والفروع، واللغة والعروض والفرايض والحساب مخفوض الجناح، حسن التخلق،
عطوفاً على الطلبة، محباً في العلم والعلماء، مجلاً لأهله، مطرح التصنع، عديم
المبالاة بالملبس، بادي الظاهر، عزيز النفس، نافذ الحكم، صوالة. معروف بنصرة من
أزر إليه. تقدم للشياخة ببلده مالقة، ناظراً في أمور العقد والحل، ومصالح الكافة.
ثم ولي القضاء بها، فأعز الخطة، وترك الهوادة، وإنفاد الحق ملازماً للقراءة
والإقراء، محافظاً للأوقات، حريصاً على الإفادة.
ثم ولي القضاء والخطابة بغرناطة في العشر الأول لمحرم
سبعة وثلاثين وسبعماية، فقام بالوظايف، وصدع بالحق، وجرح الشهود فزيف منهم ما ينيف
على السبعين عدداً، واستهدف بذلك إلى معادة ومناضلة، خاض تبجهاً، وصادم تيارها،
غير مبال بالمغبة، ولا حافل بالتبعة، فناله لذلك من المشقة، والكيد العظيم، ما نال
مثله. حتى كان يمشي إلى الصلاة ليلاً في مسلة. لا يطمئن على حاله. جرت في هذا
الباب حكايات إلى أن استمرت الحال على ما أراده الله. وعزم عليه الأمير في بعض من
الخطة، ليرده إلى العدالة، فلم يجد في قناته مغمزاً، ولا في عوده معجماً، وتصدر
لبث العلم بالحضرة، يقري فنوناً منه جمة، فنفع وخرج، ودرس العربية والفقه والأصول،
وأقرأ القرآن، وعلم الفرايض والحساب، وعقد مجالس الحديث، شرحاً وسماعاً، على سبيل
من انشراح الصدر، وحسن التجمل. وخفض الجناح.
وذكره القاضي المؤرخ أبو الحسن بن الحسن، فقال، وأما
شيخنا، وقريبنا مصاهرة، أبو عبد الله بن أبي بكر، فصاحب عزم ومضاء، وحكم صادع
وقضاء. كان له رحمه الله، مع كل قولة، وصولة، وعلى كل رابع لا يعرف ذرة، فأحرق
قلوب الحسدة والصب، وأعز الخطة، بما أزال عنها من الشوائب، وذهب وفضض كواكب الحق
بمعارفه، ونفذ في المشكلات، وثبت في المذهلات، واحتج وبكت، وتفقه ونكت.
توقيعهقال: وحدثنا صاحبنا، أبو جعفر الشقوري، قال كنت
قاعداً في مجلس حكمه، فرفعت إليه امرأة رقعة، مضمونها أنها محبة في مطلقها، وتبتغي
من يستشفع لها في رجها، فتناول الرقعة، ووقع في ظهرها للحين من غير مهلة: الحمد
لله، من وقف على ما بالمقلوب، فليصغ لسماعه إصاغة مغيث، وليشفع للمرأة عند زوجها،
تأسياً بشفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لبربرة في مغيث. والله يسلم لنا العقل
والدين، ويسلك بنا مسالك المهتدين. والسلام يعتمد على من وقف على هذه الأحرف من
كاتبها، ورحمة الله. قال صاحبنا، فقال لي بعض الأصحاب، هلا كان هو الشفيع لها.
فقلت الصحيح أن الحاكم لا ينبغي أن يباشر ذلك بنفسه على النصوص.
شعرهولم يسمع له شعر إلا بيتين في وصف قوس عربي النسب في
شعر من لا شعر له، وهما:
هام الفؤاد في بنت النبع والنشم ... زوراً تزري بعطف
البان والصنم
قوام قامتها تمام معطفها ... من يلق مقتلها تصميه أو تصم
مشيخته
قرأ على الأستاذ المتفنن
الخطيب أبي محمد بن أبي السداد الباهلي القرآن العظيم جمعاً وإفراداً، وأخذ عنه
العربية والفقه والحديث، ولازمه، وتأدب به. وعلى الشيخ الراوية الصالح أبي عبد
الله محمد بن عياش الخزرجي القرطبي، قرأ عليه كثيراً من كتب الحديث، منها كتاب
صحيح مسلم، وسمع عليه جميعه إلا دولة واحدة. ومن أشياخه القاضي أبو القاسم قاسم بن
أحمد بن حسن بن السكوت.
والفقيه المشاور، الصدر الكبير، أبو عبد الله بن ربيع،
والخطيب القدوة الولي أبو عبد الله بن أحمد الطنجالي، والشيخ القاضي أبو الحسن ابن
الأستاذ العلامة أبي الحجاج بن مصامد، والأستاذ خاتمة المقريين أبو جعفر بن الزبير،
والخطيب المحدث أبو عبد الله بن رشيد. والخطيب الولي الصالح أبو الحسن بن فضيلة،
والأستاذ أبو الحسن بن اللباد المشرفي. والشيخ الأستاذ أبو عبد الله بن الكماد
السطي اللبليسي. وأجازه من أهل سبتة شيخ الشرفا أبو علي بن أبي تلنقة تخر بم ربيع،
والعدل الراوية أبو فارس عبد العزيز بن الهواري، وأبو إسحاق التلمساني، والحاج
العدل الراوية أبو عبد الله بن الحصار، والأستاذ المقري ابن أبي القاسم بن عبد
الرحيم القيسي، والأستاذ أبو بكر ابن عبيدة، والشيخ المعمر أبو عبد الله بن أبي
القاسم بن عبيد الله الأنصاري. ومن أهل إفريقية الأديب المعمر أبو عبد الله محمد
بن هارون، وأبو العباس أحمد ابن محمد الأشعري المالقي نزيل تونس ومحمد بن سيد
الناس اليعمري، وعثمان بن عبد القوي البلوى. ومن أهل مصر النسابة شرف الدين عبد المؤمن
ابن خلف الدمياطي. والمحدث الراوية أبو المعالي أحمد بن إسحاق، وجماعة غيرهم من
المصريين والشاميين والحجازيين.
مولدهفي أواخر ذي حجة من عام أربعة وسبعين وستماية.
وفاتهفقد في مصاب المسلمين يوم الناجزة بطريف شهيداً
محرضاً، زعموا أن بغلة كان عليها كبت به، وأفاق رابط الجأش، مجتمع القوى. وأشار
عليه بعض المنهزمين بالركوب فلم يكن عند قوة عليه. وقال انصرف هذا يوم الفرج، إشارة
إلى قوله تعالى في الشهداء " فرحين بما آتاهم الله من فضله " ، وذلك ضحى
يوم الاثنين السابع من جمادى الأولى عام أحد وأربعين وسبعمائة.
محمد بن حيون بن القاسممحمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن
عبد الله بن محمد بن محمد بن محمد ابن علي بن موسى بن إبراهيم بن محمد بن ناصر بن
حيون بن القاسم بن الحسن بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالي عنه.
حسبما نقل من خطه:
أوليتهمعروفة كان وليته مثله.
حالههذا الفضل جملة من جمل الكمال، غريب في الوقار
والحصافة، وبلوغ المدى، واستولى على الأمم حلماً وأناة، وبعداً عن الريب، وتمسكاً
بعرى النزاهة، واستمساكاً مع الاسترسال، وانقباضاً مع المداخلة، معتدل الطريقة،
حسن المداراة، مالكاً أزمة الهوى، شديد الشفقة، كثير المواساة، مغار حبل الصبر، جميل
العشرة، كثيف ستر الحيا، قوي النفس، رابط الجأش، رقيق الحاشية، ممتع المجالسة،
متوقد الذهن، أصيل الإدراك، بارعاً بأعمال المشيخة، إلى جلال المنتمى، وكرم
المنصب، ونزاهة النفس، وملاحة الشيبة، وحمل راية البلاغة، والإعلام في ميادين
البيان، رحلة الوقت في التبريز بعلوم اللسان، حلية الخصل والفضل في ميدانها، غريبة
غريزة الحفظ. مقنعة الشاهد. مستبحرة النظر، أصيلة التوجيه، برية عن النوك والغفلة،
مرهفة باللغة والغريب، والخبر والتاريخ والبيان. وصناعة البديع. وميزان العروض،
وعلم القافية وتقدماً في الفقه، ودرساً له، وبراعة في الأحكام، وإتقان التدريس،
والصبر، والدؤوب عليه، بارع التصنيف، حاضر الذهن، فصيح اللسان مفخرة من مفاخر أهل
بيته.
ولايته
قدم على الحضرة في دولة
الخامس من ملوك بني نصر، كما استجمع شبابه، يفهق علماً باللسان، ومعرفة بمواقع
البيان، وينطق بالعذب الزلال من الشعر، فسهل له كنف البر، ونظم في قلادة كتاب
الإنشاء، وهو إذ ذاك ثمينة الخزرات، محكمة الرصف فشاع فضله، وذاع رجله. ثم تقدم،
فثقل من طور الحكم، إلى أن قلد الكتابة والقضاء والخطابة بالحاضرة، بعد ولاية
غيرها التي أعقبها ولاية مالقة في الرابع من شهر ربيع الآخر عام سبع وثلاثين
وسبعماية. فاضطلع بالأحكام. وطبق مفصل الفضل ماضي الصريمة، حي الإجهار، نافذ
الأمر. عظيم الهيبة، قليل الناقد، مطعم التوفيق، يصدع في مواقف الخطب بكل بليغ من القول.
مما يريق ديباجته، ويشف صقاله، وتبرأ من خلال الخطباء جوانبه وأطرافه. واستعمل في
السفارة للعدو ناجح المسعى، ميمون النقيبة. جزيل الحياء والكرامة. إلى أن عزل عن
القضاء في شعبان من عام سبعة وأربعين وسبعة ماية. من غير زلة تخفض، ولا هنة تؤثر،
فتحيز إلى التحليق لتدريس العلم، وتفرغ لإقراء العربية والفقه ولم ينشب أميره
المنطوي على الهاجس، المغري بمثله، أن قدمه قاضياً بوادي آش، بنت حضرته، معززة
بسندها الكبير الخطة.
فانتقل إليه بجملته، وكانت بينه وبين شيخنا أبي الحسن بن
الجياب صداقة صادقة، ومودة مستحكمة، فجرت بينهما أثناء هذه النقلة. بدايع. منها
قوله. يوش عنه خطة القضاء التي اخترعها، ويوليها خطة الملامة:
لا مرحباً بالناشز الفارك ... إن جهلت رفعة مقدارك
لو أنها قد أوتيت رشدها ... ما برحت تعشو إلى نارك
أقسمت بالنور المبين الذي ... منه بدت مشكاة أنوارك
ومظهر الحكم الحكيم الذي ... يتلو عليه طيب أخبارك
ما لقيت منك كفواً لها ... ولا أوت أكرم من دارك
ثم أعيد إلى القضاء بالحضرة، فوليها، واستمرت حاله
وولايته على متقدم سمته من الفضل والنزاهة والمراجعة فيما يأنف فيه من الخروج عن
الجادة، إلى أن هلك السلطان مستقضية مأموماً به، مقتدياً بسجدته، يوم عيد الفطر،
خمسة وخمسين وسبعماية، وولي الأمر ولده الأسعد، فجد ولايته، وأكد تجلته، ورفع
رتبته. واستدعى مجالسته.
مشيختهقرأ ببلده سبتة على أبيه الشريف المطاهر، نسيج وحده
في القيام. وعلى أبي عبد الله بن هاني وبه جل انتفاعه؛ وعليه جل استفادته. وأخذ عن
الإمام شيخ المشيخة أبي إسحاق الغافقي. وروى عن الخطيب أبي عبد الله الغماري،
والخطيب المحدث أبي عبد الله بن رشيد، والقاضي أبي عبد الله القرطبي، والققيه
الصالح أبي عبد الله بن حريث، وأخذ عن الأستاذ النظار أبي القاسم بن الشاط وغيره.
محنتهدارت عليه يوم مهلك السلطان المذكور رحى الوقيعة،
فعركته بالثقال، وتخلص من شرارها هولاً، لتطارح الأمير المتوثب أمام ألمرية عليه.
خاتماً في السجدة ودرس الحماة إياه عند الدجلة، من غير التفات لمحل الوطأة. ولا
افتقاد لمحل صلاة تلك الأمة، فغشيه من الأرجل، ورجل الربى كثيرة.
والتف عليه مرسل طيلسانه. ساداً مجرى النفس إلى قلبه.
فعالج الحمام وقتاً. إلى أن نفس الله عنه فاستقل من الرداى، وانتبذ من مطرح ذلك
الوغى، وبودر بالفصاد، وقد أشفى، فكانت عثرة لقيت لماً ومتاعاً، فسمح له المدى آخر
من يوثق به من محل البث. ومودعات السر من حظيات الملك، أن السلطان عرض عليه قبل
وفاته في عالم الحلم، كونه في محراب مسجده، مع قاضيه المترجم به، وقد أقدم عليه
كلب أصابه بثوبه، ولطخ ثوبه بدمه، فأهمته رؤياه، وطرقت به الظنون مطارقها، وهم
بعزل القاضي، انقياداً لبواعث الفكر، وسداً لأبواب التوقيعات. وقد تأذن الله
بإرجاء العزم وتصديق الحلم، وإمضاء الحكم، جل وجهه، وعزت قدرته. فكان من الأمر ما تقرر
في محله.
تصانيفهوتصانيفه بارعة، منها، رفع الحجب المستورة في محاسن
المقصورة، شرح فيها مقصورة الأديب أبي الحسن حازم بما تنقطع الأطماع فيه. ومنها
رياضة الأبي في قصيدة الخزرجي، أبدع في ذلك بما يدل على الإطلاع وسداد الفهم، وقيد
على كتاب التسهيل لأبي عبد الله بن مالك تقييداً جليلاً، وشرحاً بديعاًن قارب
التمام. وشرع في تقييد على الخبر المسمى، بدرر السمط في خبر السبط. ومحاسنه جمة،
وأغراضه بديعة.
شعره
وإما الشعر فله فيه القدح
والمعلى، والحظ الأوفى، والدرجة العليا، طبقة وقته، ودرجة عصره. وحجة زمانه، كلامه
متكافي في اللفظ والمعنى، صريح الدلالة، كريم الخيم، متحصد الحبل، خالص السبك،
وأنا أثبت منه جزماً، خصني به، سماه جهد المقل، اشتمل من حر الكلام، على ما لا
كفاء له.
الحمد لله تردده أخرى الليالي، فهو المسئول أن يعصمنا من
الزلل، زلل القول. وزلل الأعمال.
والصلاة على سيدنا محمد خاتم الإرسال. هذه أوراق ضمنتها
جملة من بنات فكري، وقطعاً مما يجيش به في بعض الأحيان صدري، ولو حزمت لأضربت عن
كتبها كل الإضراب، ولزمت في دفنها وإخفايها دين الأعراب، لاكني آثرت على المحو الإثبات،
وتمثلت بقولهم إن خير ما أوتيته العرب الأبيات. وإذا هي عضت علي ذلك المجد، وسألها
كيف نجت من الوأد فقد أوتيتها من حرمكم إلى ظل ظليل، وأحللتها من بنايكم، معرساً
ومقيل، وأهديتها علماً بأن كرمكم، بالإغضاء عن عيوبها جد كفيل، فاغتنم قلة التهدية
مني، إن جهد المقل غير قليل، فحسبها شرفاً أن تبوأت في جنابك كنفاً، وكفاها مجداً
وفخراً. أن عقدت بينها وبين فكرك عقداً وجواراً، ومما قلت في حرف الهمزة.
مولدهبسبتة في السادس لشهر ربيع الأول من عام سبعة
وتسعين وستماية.
وفاتهتوفي قاضياً بغرناطة في أوايل شعبان من عام ستين
وسبعماية
محمد بن عبد الملك الفشتاليمحمد بن أحمد بن عبد الملك
الفشتالي قاضي الجماعة ببيضة الإسلام فاس، يكنى أبا عبد الله.
حالههذا الرجل له أبوة صالحة، وأصالة زاكية، قديم الطلب،
ظاهر التخصص، مفرط في الوقار نابه البزة والركبة، كثير التهمة، يوهم به الفار،
وصدر الصبور في الوثيقة والأدب، فاضل النفس، ممحوض النصح، جميل العشرة لإخونه،
مجرى الصداقة نصحاً، ومشاركة، وتنفيقاً، على سجية الأشراف وسنن الحسباء، مديد الباع
في فن الأدب، شاعر مجيد، كاتب بليغ، عارف بالتحسين والتقبيح، من أدركه، أدرك علماً
من أعلام المشيخة. قدمه السلطان الكبير العالم أبو عنان فارس، قاضياً بحضرته،
واختصه، واشتمل عليه، فاتصل بعده سعده، وعرف حقه. وتردد إلى الأندلس في سبيل الرسالة
عنه، فذاع فضله، وعلم قدره، ولما كان الإزعاج من الأندلس نحو النبوة التي أصابت
الدولة، بلوت من فضله ونصحه وتأنيسه، ما أكد الغبطة، وأوجب الثناء، وخاطبته بما
نصه:
من ذا يعد فضائل الفشتالي ... والدهر كاتب آيها والتالي
علم إذا التمسوا الفنون بعلمه ... مرعى المشيح ونجعة
المكتال
نال الذي لا فوقها من رفعة ... ما أملتها حيلة المحتال
وقضى قياس تراثه عن جده ... إن المقدم فيه عين التالي
قاضي الجماعة، بماذا أثنى على
خلالك المرتضاة، أبقديمك الموجب لتقديمك، أم بحديثك الداعي لتكحل حديثك، وكلاهما
غاية بعد مرماها، وتحامى المنصور حماها، والضالع لا يسام سبقاً، والمنبت لا أرضاً
قطع، ولا ظهراً أبقة. وما الظن بأصالة تعترف بها الآثار وتشهد، وأبوة صالحة؛ كانت
في غير ذات الحق تزهد، وفي نيل الاتصال به تجهد، ومعارف تقرر قواعد الحق وتمهد،
وتهزم الشبه إذا تشهد. وقد علم الله أن جوارك لم يبق للدهر على جوار، ولاحت من
غصني ورقاً ولا نوارا. هذا وقد زأر على أسد وحمل ثوراً. فقد أصبحت في ظل الدولة التي
وقف على سيدي اختيارها، وأظهر خلوص إبريزه معياها، تحت كنف وعز مؤتنف، وجوار أبي
جلف، وعلى ثقة من الله بحسن خلف. وما منع من انتساب ما لديه من الفضائل إلا رحلة،
لم يبرك بعد حملها، ولا قر عملها، وأوحال حال بيني وبين مسور البلد القديم مهلها.
ولولا ذلك لاغتبطت الزايد، واقتنيت الفوايد، والله يطيل بقاه، حتى تتأكد القربة،
التي تنسى بها الغربة، وتعظم الوسيلة، التي لا تذر معها الفضيلة، وأما ما أشار به
من تقييد القصيدة التي نفق سوقها استحسانه، وأنس باستظرافها إحسانه، فقد أعمل وما
أمهل، والقصور باد إذا تأمل، والإغضاء أولى ما أمل، فإنما هي فكرة، قد أخمدت نارها
الأيام، وغيرت آثارها الليام. وقد كان الحق إجلال مطالعة سيدي من خللها، وتنزيه رجله
عن تقبيل مرتجلها. لا كن أمره ممتثل، وأتى من المجد أمراً لا مرد له مثل. والسلام
على سيدي من معظم قدره، وملتزم بره، ابن الخطيب، ورحمة الله.
فكتب إلي مراجعاً، وهو الملئ بالإحسان:
وافت يجر الزهو فضلة بردها ... حسناء قد أضحت نسيجة
وحدها
له أي قصيدة أهديت لو ... يهتدي المعارض نحو غاية قصدها
لابن الخطيب بها محاسن جمة ... قارعت عنه الخطوب ففلت من
حدها
سر البلاغة عنه أودع حافظاً ... قد صانه حتى فشى من
عندها
في غير عقد نفثته بسحرها ... فلذا أتى سلساً منظم عقدها
لم أدر ما فيها وقمت معاوناً ... من طرسها أو معلماً من
بردها
حتى دفعت بها لأبعد غاية ... باعاً تقصر في البلوغ بحدها
حدان من نظم ونثر إن من ... يلقاهما منها بذلة عبدها
أولى يداً بيضا موليها فما ... لي مزية أن أقوم بحمدها
ورفضت تكذيب المنى متشيعاً ... لعلي مرآها يصادق وعدها
فبذلت شعري رافعاً من برها ... وهززت عطفي رافلاً من
بردها
خذها أعز الله جنابك، وأدال للأنس على الوحشة اغترابك،
كغبة الطائر المتجعد، ونهبة الثاير المستوفز، ومقة اللحظ، قليلة اللفظ، قد جمعت من
سوامها وانفحامها، بين نظم قيد، وصلود زند، وتوعت، فعلى إقدامها وانحجامها إلى قاصر
ومعتد، وليتني إذا جادت سحابة ذلك الخاطر الماطر الودق، وإنجاب العاني عن مزنة
فكرتي، بتقاضي الجواب، انجياب الطوق، وأيقنت أني قد سد علي باب القول وأرتحج، وقلت
هذه السالفة الكلية فصدت لها الداعة من تكلم الإمرة ولم أفه إذ أعوزت المرة
بالحلوة، لاكني قلت، وجد المكثر كجهد المقل، والواجب قد يقل الامتثال فيه بالأقل.
فبعثت بها على علاتها، وأبلغتها عذرها. في أن كتبت عن شوقها بلغاتها، وهي لا تعدم
من سيدي في إغضاء كريم، وإرضاء سليم.
والله عز وجل يصل بالتأنيس الحبل، ويجمع الشمل. والسلام
الكريم يخص تلك السيادة ورحمة الله وبركاته. من محمد بن أحمد الفشتالي.
وهو الآن قاض بفاس المذكورة، محمود السيرة أبقاه وأمتع
به.
محمد بن محمد بن داود القرشيمحمد بن محمد بن أحمد بن أبي
بكر بن يحيى بن عبد الرحمن ابن أبي بكر بن علي بن داود القرشي المقرى، يكنى أبا
عبد الله، قاضي الجماعة يقاس وتلمسان.
أوليته
نقلت من خطه. قال، وكان الذي اتخذها
من سلفنا قراراً بعد أ، كانت لمن قبله مراراً، عبد الرحمن بن أبي بكر بن علي
المقرى، صاحب أبي مدين، الذي دعا له ولذريته، بما ظهر فيهم من قبول وتبين. وهو أبي
الخامس فأنا محمد بن محمد بن أحمد بن أبي بكر بن يحية بن عبد الرحمن، وكان هذا الشيخ
عروي الصلاة، حتى أنه ربما امتحن بغير شيء فلم يؤنس منه التفات، ولا استشعر منه
شعور. ويقال إن هذا الحضور مما أدركه من مقامات شيخه أبي مدين. ثم اشتهرت ذريته
على ما ذكر من طبقاتهم بالتجارة، فمهدوا طريق الصحراء بحفر الآبار وتأمين التجار.
واتخذوا طبل الرحيل، وراية التقدم عند المسير. وكان ولد يحيى، الذي كان أحدهم أبو
بكر، خمسة رجال. فعقدوا الشركة بينهم فيما ملكوه، وفيما يملكونه على السواء بينهم والاعتدال،
وكان أبو بكر ومحمد، وهما أرومتا نسبي من جميع جهات الأم والأب بتلمسان، وعبد
الرحمن وهو شقيقهما الأكبر بسجلماسة، وعبد الواحد وعلي. وهما شقيقاهم الصغيران،
بأي والاتن فاتخذوا هذه الأقطار والحوايط والديار، فتزوجوا النساء. واستولدوا
الإماء. وكان التملساني يبعث إلى الصحراوي بما يرسم له من السلع. ويبعث إليه
الصحراوي بالجلد والعاج والجوز والتبر، والسجلماسي كلسان الميزان يعرفهما بقدر
الرجحان والخسران، ويكاتبهما بأحوال التجار، وأخبار البلدان، حتى اتسعت أموالهم،
وارتفعت في الفخامة أحوالهم، ولما افتتح التكرور كورة أي والاتن وأعمالها، أصيبت
أموالهم، فيما أصيب من أموالها، بعد أن جمع من كان بها منهم إلى نفسه الرجال، ونصب
دون ماله القتال، ثم اتصل بملكهم فأكرم مثواه، ومكنه من التجارة بجميع بلاده،
وخاطبه بالصديق الأحب، والخلاصة الأقرب، ثم صار يكاتب من بتلمسان، يستقضي منهم مآربه،
فيخاطبه بمثل تلك المخاطبة، وعندي من كتبه وكتب الملوك بالمغرب، ما ينبئ عن ذلك.
فلما استوثقوا من الملوك، تذللت لهم الأرض للسلوك، فخرجت أموالهم عن الحد، وكادت
تفوق الحصر والعد، لأن بلاد الصحراء، قبل أن يدخلها أهل مصر كانت تجلب لها من
المغرب ما لا بال له من السلع، فيعاوض عنه بما له بال من الثمن. ثم قال أبو مدين:
الدينا ضم جنب أبي حمو، وشمل ثوبهاه. كان يقول لو لا الشناعة لم أزل في
بلادي تاجراً من غير تجار الصحراء الذين يذهبون بخبيث السلع، ويأتون بالتبر الذي
كل أمر الدنيا له تبع، ومن سواهم يحمل منها الذهب، ويأتي إليها بما يضمحل عن قريب
ويذهب، إلى ما يغير من العوايد، ويجر السفهاء إلى الفساد.
ولما هلك هؤلاء الأشياخ، جعل أبناؤهم ينفقون مما تركوا
لهم ولم يقوموا بأمر التثمير قيامهم، وصادفوا توالي الفتن، ولم يسلموا من جور
السلطان، فلم تزل حالهم في نقصان إلى هذا الزمان فها أنا ذا لم أدرك في ذلك إلا
أثر نعمة اتخذنا فصوله عيشاً، وأصوله حرمة. ومن جملة ذلك خزانة كبيرة من الكتب،
وأسباب كثيرة تعين على الطلب، فتفرغت بحول الله عز وجل للقراءة، فاستوعبت أهل
البلد لقاء، وأخذت عن بعضهم عرضاً وإلقاء، سواء المقيم القاطن والوارد والظاعن.
حاله
هذا الرجل مشار إليه بالعدوة
المغربية اجتهاداً، ودؤوباً، وحفظاً وعناية، واطلاعاً، ونقلاً ونزاهة، سليم الصدر،
قريب الغور، صادق القول، مسلوب التصنع، كثير الهشة، مفرط الخفة، ظاهر السذاجة،
ذاهب أقصى مذاهب التخلق، محافظ على العمل، مثابر على الانقطاع، حريص على العبادة،
مضايق في العقد والتوجه، يكابد من تحصيل النية بالوجه واليدين مشقة، ثم يغافض
الوقت فيها، ويوقعها دفعة متبعاً إياها زعقة التكبير، برجفة، ينبو عنها سمع من لم
يكن تأنس بها عادة، بما هو دليلي على حسن المعاملة، وإرسال السجية، قديم النعمة،
متصل الخيرية، مكب على النظر والدرس والقراءة، معلوم الصيانة والعدالة، منصف في المذاكرة،
حاسر الذراع عند المباحثة، راحب عن الصدر في وطيس المناقشة، غير مختار للقرن، ولا
ضان بالفايدة، كثر الالتفاف، متقلب الحدقة، جبير بالحجة، بعيد عن المراء
والمباهتة، قايل بفضل من الطلبة، يقوم أتم القيام على العربية والفقه والتفسير،
ويحفظ الحديث، ويتهجر بحفظ الأخبار والتاريخ والآداب، ويشارك مشاركة فاضة في
الأصلين والجدل والمنطق، ويكتب ويشعر مصيباً في ذلك غرض الإجادة، ويتكلم في طريقة
الصوفية كلام أرباب المقال، ويعتني بالتدوين فيها. شرق وحج، ولقي جلة، واضطبن رحلة
مفيدة، ثم آب إلى بلده، فأقرأ به، وانقطع إلى خجمة العلم. فلما ولي ملك الغرب
السلطان، محالف الصنع ونشيدة الملك، وأثير الله من بين القرابة والإخوة أمير
المسلمين أبو عنان فارس، اجتذبه وخلطه بنفسه، واشتمل عليه، وولاه قضاء الجماعة
بمدينة فاس، فاستقل بذلك أعظم الاستقلال، وأنفذ الحكم، وألان الكلمة، وآثر التسديد،
وحمل الكل، وخفض الجناح، فحسنت عنه القالة، وأحبته الخاصة والعامة. حضرت بعض
مجالسه للحكم، فرأيت من صبره على اللدد، وتأتيه للحجج ورفقه بالخصوم، ما قضيت منه
العجب.
دخوله غرناطةثم لما أخر عن القضاء، استعمل بعد لأي في
الرسالة، فوصل الأندلس، أوايل جمادى الثانية من عام ست وخمسين وسبعمائة. فلما قضى
عرض الرسالة، وأبرم عقد وجهته، واحتل مالقة في متصرفه، بدا له في نبذ الكلفة،
واضطراح وظيفة الخدمة، وحل التقيد، إلى ملازمة الإمرة، فتقاعد، وشهر غرضه، وبت في
الانتقال، وطمع من كان صحبته، وأقبل على شأنه، فخلى بينه وبين همه. وترك وما
انتحله من الانقطاع إلى ربه. وطار الخبر إلى مرسله، فأنف من تخصيص إيالته بالهجرة، والعدول
عنها، بقصد التخلي والعبادة، وأنكر ما نحله غاية الإنكار، من إبطال عمل الرسالة، والانقباض
قبل الخروج عن العهدة، فوغر صدره على صاحب الأمر، ولم يبعد حمله على الظنة
والمواطأة على النفرة، وتجهزت جملة من الخدام المجلين في مآزق الشبهة؛ المضطلعين
بإقامة الحجة، مولين خطة الملام مخيرين بين سحايب عاد من الإسلام مظنة إغلاق
النعمة، وإيقاع المثلة، والإساءة بسبب القطيعة والمنابذة. وقد كان المترجم به لحق
بغرناطة فتذمم بمسجدها، وجار بالإنقطاع إلى الله، وتوعد من يجيره، بنكير من يجير
ولا يجار عليه سبحانه فأهم أمره، وشغلت القلوب آيدته، وأمسك الرسل بخلال ما صدرت
شفاعة اقتضت له رفع التبعة، وتركه إلى تلك الوجهة.
ولما تحصل ما تيسر من ذلك، انصرف محفوفاً بعالمي القطر،
قاضي الجماعة أبي القاسم الحسني المترجم به قبله، والشيخ الخطيب أبي البركات بن
الحاج، مستهلين لوروده، مشافهين للشفاعة في غرضه، فأقشعت الغمة، وتنفست الكربة.
وجرى أثناء هذا من المراسلة والمراجعة، ما تضمنه الكتاب المسمى بكناسة الدكان بعد
انتقال السكان المجموع بسلا ما صورته:
المقام الذي يحب الشفاعة،
ويرعى الوسيلة، وينجز العدة، ويتمم الفضيلة، ويضفي مجده المنن الجزيلة، ويعيى حمده
الممادح العريضة الطويلة. مقام محل والدنا الذي كرم مجده، ووضح سعده، وصح في الله
تعالى عقده، وخلص في الأعمال الصالحة قصده؛ وأعجز الألسنة حمده، السلطان الكذا ابن
السلطان الكذا ابن السلطان الكذا، أبقاه الله سبحانه لوسيلة يرعاها، وشفاعة يكرم
مسعاها، وأخلاق جميلة تجيب دعوة الطبع الكريم إذا دعاها، معظم سلطانه الكبير،
وممجد مقامه الشهير، المتشيع لأبوته الرفيعة، قولاً باللسان، واعتقاداً بالضمير، المعتمد
منه بعد الله على الملجأ الأحمى، والولي النصير، فلان. سلام كريم، طيب بر عميم،
يخص مقامكم الأعلى، وأبوتكم الفضلى، ورحمة الله وبركاته.
أما بعد حمد الله، الذي جعل الخلق الحميدة دليلاً على
عنايته بمن حلاه حلاها، وميز بها النفوس النفيسة، التي اختصها بكرامته وتولاها،
حمداً يكون كفواً للنعم التي أولاها، وأعادها ووالاها، والصلاة والسلامة على سيدنا
ومولانا محمد عبده ورسوله، المترقي من درجات الاختصاص أرفعها وأعلاها، الممتاز من أنوار
الهداية بأوضحها وأجلاها، مطلع آيات السعادة يروق مجتلاها. والرضا عن آله وصحبه
الذين خبر صدق ضمائرهم لما ابتلاها، وعسل ذكرهم في الأفواه فيما أعذب أوصافهم على
الألسن وأحلاها. والدعاء لمقام أبوتكم، حرس الله تعالى علاها، بالسعادة التي يقول
الفتح أنا طلاع الثنايا وابن جلاها، والصنائع التي تخترق المفاوز بركائبها
المبشرات فتفلى فلاها. فإنا كتبنا إليكم، كتب الله تعالى لكم عزة مشيدة البناء،
وحشد على أعلام صنائعكم الكرام جيوش الثناء، وقلدكم قلائد مكارم الأخلاق، ما يشهد
لذاتكم منه بسابقة الاعتناء. من حمراء غرناطة حرسها الله، والود باهر السناء، مجد على
الأناء، والتشيع رحب الدسيعة والفناء.
وإلى هذا، وصل الله تعالى
سعدكم، وحرس مجدكم، فإننا خاطبنا مقامكم الكريم، في شأن الشيخ الفقيه الحافظ
الصالح أبي عبد الله المقرى، خار الله تعالى لنا وله، وبلغ الجميع من فضله العميم
أمله، جواباً عما صدر من مثابتكم فيه، من الإشارة المتمثلة، والمآرب المعملة، والقضايا
غير المهملة، نصادركمن بالشفاعة التي مثلها بأبوابكم لا يرد، وظمآها عن منهل
قبولكم لا تجلى ولا تصد، حسبما سنة الأب الكريم والجد، والقبيل الذي وضح منه في
المكارم، الرسم والحد. ولم نصدر الخطاب حتى ظهر لنا من أحواله صدق المخيلة، وتبلج
صيح الزهاد والفضيلة، وجود النفس الشحيحة بالعرض الأدنى البخيلة، وظهر تخليه عن
هذه الدار، واختلاطه باللفيف والغمار، وإقباله على ما يعني مثله من صلة الأوراد،
ومداومة الاستغفار، وكنا لما تعرفنا إقامته بمالقة لهذا الغرض الذي شهره، والفضل
الذي أبرزه للعيان وأظهره، أمرنا أن يعتنى بأحواله، ويعان على فراغ باله، ويجري
عليه سيب من ديوان الأعشار الشرعية وصريح ماله، وقلنا أما أتاك من غير مسألة مستند
صحيح لاستدلاله، ففر من مالقة على ما تعرفنا لهذا السبب، وقعد بحضرتنا مستور
المنتمى والمنتسب، وسكن بالمدرسة بعض الأماكن المعدة لكني المتسمين بالخبر،
والمحترفين ببضاعة الطلب، بحيث لم يتعرف وروده ووصوله إلا ممن لا يؤبه بتعريفه،
ولم تتحقق زوائده وأصوله لقلة تصريفه. ثم تلاحق إرسالكم الجلة، فوجبت حينئذ
الشفاعة، وعرضت على سوق الحلم والفضل من الاستلطاف والاستعطاف البضاعة، وقررنا ما
تحققناه من أمره، وانقباضه عن زيد الخلق وعمره، واستقباله الوجهة التي من ولي وجهه
شطرها فقد آثر أثيراً، ومن ابتاعها بمتاع الدنيا، فقد نال فضلاً كبيراً، وخيراً
كثيراً، وسألنا منكم أن تبيحوه ذلك الغرض الذي رماه بعزمه، وقصر عليه أقصى همه.
فما أخلق مقامكم أن يفوز منه طالب الدنيا، فقد نال فضلاً كبيراً، وخيراً كثيراً، وسألنا
منكم أن تبيحوه ذلك الغرض الذي رماه بعزمه، وقصر عليه أقصى همه. فما أخلق مقامكم
أن يفوز منه طالب الدنيا بسهمه، ويحصل منه طالب الآخرة على حظه الباقي وقسمه،
ويتوسل الزاهد بزهده والعالم بعلمه، ويعول البريء على فضله، ويثق المذنب بحلمه،
فوصل الجواب الكريم بمجرد الأمان، وهو أرب من آراب، وفائدة من جراب، ووجه من وجوه
إعراب، فرأينا أن المطل بعد جفاء، والإعادة ليس يثقلها خفاء، ولمجدكم يما ضمنا عنه
وفاء، وبادرنا الآن إلى العزم عليه في ارتحاله، وأن يكون الانتقال عن رضاً منه من
صفة حاله، وأن يقتضي له ثمرة المقصد، ويبلغ طية الإسعاف في الطريق إن قصد، إذ كان
الأمان لمثله ممن تعلق بجناب الله. من مثلكم حاصلاً، والدين المتين بين نفسه وبين المخافة
فاصلاً، وطالبنا كيمياء السعادة بإعانتكم واصلاً. ولما مدت اليد في تسويغ حالة
هذيكم عليها أبداً يحرض، وعلمكم يصرح بمزيتها ولا يعرض، فكملوا أبقاكم الله ما لم
تسعنا فيه مشاحة الكتاب، وألحقوا بالأصل حديث هذه الإباحة، فهو أصح حديث في الباب،
ووفوا غرضنا من مجدكم، وخلوا بينه وبين مراده من ترك الأسباب، وقصد غافر الذنب
وقابل التوب بإخلاص المتاب، والتشمير ليوم العرض وموقف الحساب، وأظهروا عليه عناية
الجناب، والذي تعلق به، أعلق الله به يدكم من جناب، ومعاذ الله أن تعود شفاعتنا من
لدنكم غير مكملة الآراب. وقد بعثنا من ينوب عنا في مشافهتكم بها أحمد المناب،
ويقتضى خلاصها بالرغبة لا بالغلاب، وهما فلان وفلان، ولولا الأعذار لكان في هذا الغرض
إعمال الراب بسبق إعلام الكتاب، وأنتم تولون هذا القصد من مكارمكم ما يوفر الثناء
الجميل، ويربي على التأميل، ويكتب على الود الصريح العقد وثيقة التسجيل. وهو
سبحانه يبقيكم لتأييد المجد الأثيل، وإنالة الرفد الجزيل، والسلام الكريم يخص
مقامكم الأعلى، ومثابتكم الفضلى، ورحمة الله تعالى وبركاته. في الحادي والعشرين
لجمادة الآخرة من عام سبعة وخمسين وسبعمائة والله ينفع بقصده، وييسر علينا الرجعة
إلى وجهه وفضله.
مشيخته
قال: فممن أخذت عنه، واستفدت منه علماها
يعنى تلمسان الشامخان، وعالماها الراسخان، أبو زيد عبد الرحمن، وأبو موسى عيسى
إبنا محمد بن عبد الله بن الإمام، وحافظها ومدرسها ومفتيها أبو موسى عمران بن موسى
بن يوسف المشذالي، صهر شيخ المتأخرين، أبي علي ناصر الدين على إبنته، ومشكاة
الأنوار التي يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار، الأستاذ أبو إسحاق إبراهيم بن
حكيم الكناني السلوى رحمه الله. ومهم القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن عبد
النور، والشيخ أبو عبد الله محمد بن الحسن البروني، وأبو عمران موسى بومن المصمودي
الشهير بالبخاري. قال سمعت البروني يقول: كان الشيخ أبو عمران يدرس البخاري، ورفيق
له يدرس صحيح مسلم، وكانا يعرفان بالبخاري ومسلم، فشهدا عند قاضي، فطلب المشهود
عليه بالإذار فيهما، فقال له أبو عمران أتمكنه من الإعذار في الصحيحين، البخارس
ومسلم، فضحك القاضي، وأصلح بين الخصمين. ثم قال، ومن شيوخي الصلحاء الذين لقيت
بها، خطيبها الشيخ أبو عثمان سعيد بن إبراهيم بن علي الخباط، أدرك أبا إسحاق
الطيار. ومنهم أبو عبد الله بن محمد الكرموني، وكان بصيراً بتفسير الرؤيا، فمن
عجايب شأنه، أنه كان في سجن أبي يعقوب يوسف ابن عيد الحق مع من كان فيه، من أهل
تلمسان أيام محاصرته لها، فرأى أبا جمعة على التلالسي الجرايحي منهم، كأنه قايم على
ساقيه دايرة، وجميع أقداحها وأقواسها نصب في نقير في وسطها، فجاء ليشرب، فاغترف
الماء، فإذا فيه فرث ودم، فأرسله، واغترف فإذا هو كذلك، ثلاثاً أو أكثر، ثم عدل
إلى خاصة ماء، فجاءها وشرب منها. ثم استيقظ، وهو النهار، فأخبره، فقال إن صدقت
الرؤيا، فنحن عن قليل خارجون من هذا السجن. قال كيف، قال الساقية الزمان، والنقير
السلطان، وأنت جرايحي، تدخل يدك في جوفه فينالها الغرث والدم، وهذا ما لا يحتاج
معه إلى دليل، فأخرج، فوجد السلطان مطعوناً بخنجر، فأدخل يده في جوفه، فناله الفرث
والدم، فخاط جراحته وخرج، فرأى خاصة ماء، فغسل يده وشرب. ولم يلبث السلطان أن
توفي، وسرحوا من كان في سجنه، ومن أشياخه الإمام نسيج وحده، أبو عبد الله محمد بن
إبراهيم ابن أحمد الآبلى التلمساني، وهو رحلة الوقت في القيام على الفنون العقلية،
وإدراكه وصحة نظره.
حدث قال: قدم على مدينة فاس، شيخنا أبو عبد الله محمد بن
يحيى الباهلي، عرف بن المسفر. رسولا من صاحب بجاية. وزاره الطلبة، فكان مما حدثهم
أنهم كانوا على زمان ناصر الدين، يستشكلون كلاماً وقع في تفسير سورة الفاتحة من
كتب فخر الدين، واستشكله الشيخ معهم. وهذا نصه: ثبت في بعض العلوم العقلية، أن
المركب مثل البسيط في الجنس، والبسيط مثل المركب في الفصل، وأن الجنس أقوى من
الفصل. فأخبروا بذلك الشيخ الآبلي لما رجعوا إليه، فتأمله ثم قال، هذا كلام مصحف،
وأصله أن المركب قبل البسيط في الحس، و البسيط قبل المركب في العقل، وإن الحس أقوى
من العقل، فأخبروا ابن المسفر، فلج: فقال لهم الشيخ، التمسوا النسخ، فوجدوا في لفظ
بعضها كما قال الشيخ.
رحلتهرحل إلى بجاية مشرقاً، فلقي بها جلة، منهم الفقيه
أبن عبد الله محمد بن يحيى الباهلي، ابن المسفر. ومنهم قاضيها أبو عبد الله محمد
بن الشيخ أبي يوسف يعقوب الزواوي، فقيه ابن فقيه. ومنهم أبو علي حسن بن حسن إمام
المعقولات بعد ناصر الدين. وبتونس قاضي الجماعة وفقيهها أبو عبد الله بن عبد
السلام، وحضر دروسه، وقاضى المناكح أبو محمد بن محمد بن عبد الرحمن التوزري
المعروف بخليل، وإمام المقام أبا العباس رضي الدين الشافعي، وغير واحد من الزايرين
والمجاورين وأهل البلد. ثم دخل الشام، فلقي بدمشق، شمس الدين بن قيم الجوزية صاحب
ابن تيمية، وصدر الدين الغماري المالكي، وأبا القاسم بن محمد اليماني الشافعي
وغيرهم. وببيت القدس أبا عبدالله بن مثبت، والقاضي شمس الدين ابن سالم، والفقيه
أبا عبد الله بن عثمان، وغيرهم.
تصانيفهألف كتاباً يشتمل على أزيد من مائة مسألة فقهية،
ضمنها كل أصيل من الرأي والمباحثة. ودون في التصوف، إقامة المريد، ورحلة المتبتل،
وكتاب الحقايق والرقايق، وغير ذلك.
شعره
نقلت من ذلك قوله. هذه لمحة
العارض لتكملة ألفية ابن الفارض، سلب الدهر من فرايدها مائة وسبعة وسبعين، فاستعنت
على رجها بحول الله المعين.
من فصل الإقبال
رفضت السوى وهو الطهارة عندما ... تلفعت في مرط الهوى
وهو زينتي
وجئت الحمى وهو المصلى ميمماً ... بوجهه قلبي وجهها وهو
قبلتي
وقمت وما استفتحت إلا بذكرها ... وأحرمت إحراماً لغير
تجلة
فديني إن لاحت ركوع وإن دنت ... سجود وإن لاهت قيام
بحسرة
على أننا في القرب والبعد واحد ... تألفنا بالوصل عين
التشتت
وكم من هجير خضت ظمآن طاوياً ... إليها وديجور طويت
برحلة
وفيها لقيت الموت أخمر والعدا ... مزرقة أسنان الرماح
وحدة
وبيني وبين العذل فيها منازل ... تنسيك أيام الفجار
ومؤنة
ولما اقتسمنا خطتينا فحامل ... فجار بلا أجر وحامل برة
خلا مسمعي من ذكرها فاستعدته ... فعاد ختام الأمر أصل
القضية
وكم لي على حكم الهوى من تجلد ... دليل على أن الهوى من
سجيتي
يقول سميري والأسا سالم الأسى ... ولا توضع الأوزار إال
لمحنة
لو أن مجوساً بت موقد نارها ... لما ظل إلا منهلاً ذا
شريعة
ولو كنت بحراً لم يكن فيه نضحة ... لعين إذا نار الغرام
استحرت
فلا رجم من نقيب المعاول آمن ... ولا هدم إلاك شيد بقوة
فمم تقول الاسفطسات منك أو ... علام مزاج ركبت أو طبيعة
فإن قام لم يثبت له منك قاعد ... وإلا فأنت الدهر صاحب
قعدة
فما أنت يا هذا الهوى ماء أو هوا ... أم النار أم دساس
عرق الأمومة
وإني على صبري كما أنت واصف ... وحالي أٌوى القائمين
بحجة
أقل الضنى إن عج من جسمي الضنى ... وما شاكله معشار بعض
شكيتي
وأيسر شقي أنني ما ذكرتها ... ولم أنسها إلا احترقت
بلوعة
وأخفى الجوى قرع الصواعق منك في ... جواي وأخفى الوجد
صبر المودة
وأسهل ما ألقى من العذل أنني ... أحب أفلى ذكرها وفضيحتي
وأوج حظوظي اليوم منها حضيضها ... بالأمس وسل حر الجفون
الغزيرة
وأوجز أمري إن دهري كله ... كما شاءت الحسناء يوم
الهزيمة
أروح وما يلقى التأسف راحتي ... وأغدو وما يعدو التفج
خطتي
وكالبيض بيض الدهر ولاسمر سوده ... مساءتها في طي طيب
المسرة
وشأن الهوى ما قد عرفت ولا تسل ... وحسبك أن لم يخبر
الحب رؤيتي
سقام بلا برء ضلال بلا هدى ... أوام بلا ري دم لا بقيمة
ولا عتب فالأيام ليس لها رضاً ... وإن ترض منها الصبر
فهو بغيتي
ألا أيها اللوام عني قوضوا ... ركاب ملامي فهو أول محنتي
ولا تعذلوني في البكاء ولا البكى ... وخلو سبيلي ما
استطعتم ولوعتي
فما سلسلت بالدمع عيني إن جنت ... ولكن رأت ذاك الجمال
فجنت
تجلى وأرجاء الرجاء حولك ... ورشدي غاو والعمايات عمت
فلم يستبن حتى كأني كاشف ... وراجعت أبصاري له وبصيرتي
ومن فصل الاتصال
وكم موقف لي في الهوى خضت دونه ... عباب الردى بين الظبا
والأسنة
فجاوزت في حدي مجاهدتي له ... مشاهدتي لما سمت بي همتي
وحل جمالي في الجلال فلا أرى ... سوى صورة التنزيه في كل
صورة
وغبت عن الأغيار في تيه حالتي ... فل أنتبه حتى امتحي
اسمي وكنيتي
وكاتبت ناسوتي بأمارة الهوى
... وعدت إلى اللاهوت بالطمئنة
وعلم يقيني صار عيناً حقيقة ... ولم يبق دوني حاجب غير
هيبتي
وبدلت بالتلوين تمكين عزة ... ومن كل أحوالي مقامات رفعة
وقد غبت بعد الفرق والجمع موقفي ... مع المحو والإثبات
عند تثبتي
وكم جلت في سم الخياط وضاق بي ... لبسطى وقبضي بسطوجه
البسيطة
وما اخترت إلا دن بقراط زاهدا ... وفي ملكوت النفس أكبر
عبرة
وفقري مع الصبر اصطفيت على الغنى ... مع الشكر إذ لم يحظ
فيه مثوبتي
وأكتم جبي ما كنى عنه أهله ... وأكنى إذا هم صرحوا
بالخيبة
وإني في جنسي ومنه لواحد ... كنوع ففصل النوع علة حصتي
تسببت في دعوى التوكل ذاهباً ... إلى أن أجدى حيلتي ترك
حيلتي
وآخر حرف صار مني أولا ... مريداً وحرف في مقام العبودة
تعرفت يوم الوقف منزل قومها ... فبت بجمع سدد خرق التشتت
فأصبحت أقضي النفس منها منى الهوى ... وأقضي على قلبي
برعي الرعية
فبايعتها بالنفس داراً سكنتها ... وبالقلب منه منزلاً
فيه حلت
فخلص الاستحقاق نفسي من الهوى ... وأوجب الاسترقاق تسليم
شفعة
فيا نفس لا ترجع تقطع بيننا ... ويا قلب لا تجزع ظفرت
بوحدة
ومن فصل الإدلال
تبدت لعيني من جمالك لمحة ... أبادت فؤادي من سناها
بلفعة
ومرت بسمعي من حديثك ملحة ... تبدت لها فيك القران وقرت
ملامي أبن عذري استبن وجدي استعن ... سماعي أعن حالي أبن
قائلي أصمت
فمن شاهدي سخط ومن قاتلي رضا ... وتلوين أحوالي وتمكين
رتبتي
مرامي إشارات مراعي تعكر ... مراقي نهايات مراسي تثبت
وفي موقفي والدار أوقوت رسومها ... تقرب أشواقي تبعد
حسرتي
معاني إمارات مغاني تذكر ... مباني بدايات مثاني تلفت
وبث غرام والحبيب بحضرة ... ورد سلام والرقيب بغفلة
ومطلع بدر في قضيب على نقا ... فويق محل عاطل دون دجية
ومكمن من سحر بابلي له بما ... حوت أضلعي فعل القنا
السمهرية
ومنبت مسك من شقيق ابن منذر ... على سوسن غض بجنة وجنة
ووصف اللآلى في اليواقيت كلما ... تعل بصرف الراح في كل
سحرة
سل السلسبيل العذب عن طعم ريقه ... ونكهته يخبرك عن علم
خبرة
ورمان كافور عليه طوابع ... من الند لم تحمل به بنت مزنة
ولطف هواء بين خفق وبانة ... ورقة ماء في قوارير فضلة
لقد عز عنك الصبر حتى كأنه ... سراقة لحظ منك للمتلفت
وأنت وإن لم تبق مني صبابة ... منى النفس لم تقصد سواك
بوجهة
وكل فصيح منك يسري لمسمعي ... وكل مليح منك يبدو لمقلتي
تهون على النفس فيك وإنها ... لتكرم أن تغش سواك بنظرة
فإن تنظريني بالرضا تشف علتي ... وإن تظفريني باللقا تطف
غلتي
وإن تذكريني والحياة بقيدها ... عدلت لأمتي منيتي بمنيتي
وإن تذكريني بعد ما أسكن الثرى ... تجلت دجاه عند ذاك
وولت
صليني وإلا جددى الوعد تدركي ... صبابة نفس أيقنت بتفلت
فما أم بوها لك بتنوفة ... أقيم لها خلف الحلاب قدرت
فلما رأته لا ينازع خلفها ... إذا هي لم ترسل عليه وضنت
بكت كلما راحت عليه وأنها ... إذا ذكرته آخر الليل حنت
بأكثر مني لوعة غير أنني ...
رأيت وقار الصبر أحسن حلية
فرحت كما أغدو إذا ما ذكرتها ... أطامن أحشائي على ما
أجنت
أهون ما ألقاه إلا من القلى ... هوى ونوى نيل الرضا منك
بغيتي
أخوض الصلى أطفي العلا والعلو لا ... أصل السلا أرعى
الخلى بين عبرتي
ألا قاتل الله الحمامة غدوة ... لقد أصلت الأحشا نيران
لوعة
وقاتل مغناها وموقف شجوها ... على الغصن ماذا هيجت حين
غنت
فغنت غناء أعجمياً فهيجت ... غرامي من ذكري عهود تولت
فأرسلت الأجفان سحباً وأوقدت ... جواي الذي كانت ضلوعي
أكنت
نظرت بصحراء البريقين نظرة ... وصلت بها قلبي قصل وصلت
فيا لهما قلباً شجياً ونظرة ... حجاكية لوجن طرف لجنت
ووا عجباً للقلب كيف اعترافه ... وكيف بدت أسراره خلف
سترة
وللعين لما سوئلت كيف أخبرت ... وللنفس لما وطنت كيف دلت
وكنا سلكنا في صعود من الهوى ... يسامى بأعلام العلا كل
رتبة
إلى مستوى ما فوقه مستوى ... فلما توافينا ثبث وزلت
وكنا عقدنا عقدة الوصل بيننا ... على نحر قربان لدي قبر
شيبة
مؤكدة بالنذر أيام عهده ... فلما تواثقنا اشتددت وحلت
ومن فصل الاحتفال
أزور اعتماراً أرضها بتنسك ... وأقصد حجا بها بتحلة
وفي نشأتي الأخرى ظهرت بما علت ... له نشأتي الأولى على
كل فطرة
ولولا خفاء الرمز ألوان ولم ... تجدها لشملي مسلكاً
بتشنت
ولو لم يحدد عهدنا عقد خلة ... قضيت ولم يقض المنى صدق
توبة
بعثت إلى قلبي بشيراً بما رأت ... على قدم عيناي من فكفت
فلم يعد أن شام البشارة شام ما ... جفا الشام من نور
الصفات الكريمة
فيا لك من نور لو أن التفاتة ... تعارض منه بالنفوس
النفيسة
تحدث أنفاس الصبا أن طيبها ... بما حملته من حراقة حرقة
وتنبئ آثال الربيع عن الربا ... وأشجاره إن قد تجلت فجلت
وتخبر أصوات البلابل أنها ... تغنت بترجيعي على كل أيكة
فهذا جمالي منك في بعد حسرتي ... فكيف به إن قربتني بخلة
تبدي وما زال الحجاب ولادنا ... وغاب ولم يفقده شاهد
حضرتي
له كل غير في تجلية مظهر ... ولا غير إلا ما محت كف غيرة
تجلى دليل واحتجاب تنزه ... وإثبات عرفان ومحو تثبت
فما شئت من شيء وآليت أنه ... هو شيء لم تحمد فجار أليتي
وفي كل خلق منه كل عجيبة ... وفي كل خلق منه كل لطيفة
وفي كل خاف منه مكمن حكمة ... وفي كل باد منه مظهر جلوة
أراه يقلب القلب واللغز كامناً ... وفي الزجر والفال
الصحيح الأدلة
وفي طي أوفاق الحساب وسر ما ... يتم من الأعداد فابدأ
بستة
وفي نفثات السحر في العقد التي ... تطوزع لها كل الطباع
الأبية
صور شكلاً مثل شكل ويعتلى ... عليه بأوهام النفوس
الخبيثة
وفي كل تصحيف وعضو بذاته اختلاج وفي التقويم مجلى لرؤية
وفي خضرة الكمون تزجة شرابه ... مواعيد عرقوب على أثر
صفرة
وفي شجر قد خوفت قطع أصلها ... فيان بها حمل لأقرب مدة
وفي النخل في تلقيحة واعتبر بما ... أتى فيه عن خير
البرية واسكت
وفي الطابع السبتي في الأحرف التي ... يبين منها النظم
كل خفية
وفي صنعة الطلسم والكيمياء والكنوز وتغوير المياه
المعينة
وفي حرز أقسام المؤدب محرز
... وحزب أصيل الشاذلي وبكرة
وفي سيمياء الحاتمي ومذهب ابن سبعين إذ يعزى إلى شر بدعة
وفي المثل الأولى وفي النحل الألى ... بها أوهموا لم
اتساموا بسنة
وفي كل ما في الكون من عجب وما ... حوى الكون إلا ناطقاً
بعجيبة
فلا سر إلا وهنو فيه سريرة ... ولا جهر إلا وهو فيه
كحلية
سل الذكر عن إنصاف أصناف ما ابتنى ... عليه الكلام من
حروف سليمة
وعن وضعها في بعضها وبلوغ ما ... أتت فيه أمضى عدها
وتثبت
فلا بد من رمز الكنوز لذي الحجا ... ولا ظلم إلا ظلم
صاحب حكمة
ولولا سلام ساق للأمن خيفتي ... لعاجل مس البرد خوفي
لميتيي
ولو لم تؤانسني عنا قبل لم ولم ... قضى العتب مني بغية
بعد وحشتي
ونعم أقامت أمر ملكي بشكرها ... كما هونت بالصبر كل بلية
ومن فصل الاعتقال
سرت بفؤادي إذ سرت فيه نظرتي ... وسارت ولم تثن العنان
بعطفة
وذلك لما أطلع الشمس في الدجى ... محياً إبنة الحيين في
خير ليلة
يمانية لو أنجدت حين أنجدت ... لا أبصرت عيناك حياً كميت
لأصحمة في نصحها قدم نبي ... لكل نجاشي بها حصن ذمة
ألمت فحطت رحلها ثم لم يكن ... سوى وقفة التوديع حتى
استقلت
فلو سمحت لي بالتفات وحل من ... مهاوي الهوى والهون جد
تفلتي
ولكنها همت بنا فتذكرت ... قضاء قضاة الحسن قدما فصدت
أجلت خيالاً إنني لا أجله ... ولم أنتسب منه لغير تعلة
على أنني كلي وبعضي حقيقه ... وباطل أوصافي وحق حقيقتي
وجنسي وفصلي والعوارض كلها ... ونوعي وشخصي والهواء
وصورتي
وجسمي ونفسي والحشا وغرامه ... وعقلي وروحانيتي القدسية
وفي كل لفظ عنه ميل لمسمعي ... وفي كل معني منه معنى
للوعتي
ودهري به عيد ليوم عروبة ... وأمري أمرى والورى تحت
قبضتي
ووقتي شهود في فناء شهدته ... ولات وقت لي إلا مشاهد
غيبة
أراه معي حساً ووهماً وأنه ... مناط الثريا من مدارك
رؤيتي
وأسمعه من غير نطق كأنه ... مناط الثريا من مدارك رؤيتي
وأسمعه من غير نطق كأنه ... يلقن سمعي ما توسوس مهجتي
ملأت بأنوار المحبة باطني ... كأنك نور في سرار سريرتي
وجليت بالإجلال أرجاء ظاهري ... كأنك في أفقي كواكب زينة
فأنت الذي أخفيه عنج تستري ... وأنت الذي أبديه في حين
شهرتي
فته أحتمل واقطع أصل وأعل استفل ... ومر أمتثل وأملل أمل
وارم أثبت
فقلبي إن عاتبته فيك لم أجد ... لعتبي فيه الدهر موقع
نكنة
ونفسي تنبو عن سواك نفاسة ... فلا تنتمي إلا إليك بمنة
تعلقت الآمال منك بفوق ما ... أرى دونه ما لا ينال بحيلة
وحامت حواليها وما وافقت حمى ... سحائب كيس أمطرت ماء
عبرتي
فلو فاتني منك الرضى ولحقتني ... بعفو بكيت الدهر فوت
فضيلة
ولو كنت في أهل اليمين منعماً ... بكيت على ما كان من
سبقية
وكم من مقام قمت عنك مسائلاً ... أرى كل حي كل حي وميت
أتيت بفاراب أبا نصرها فلم ... أجد عنده علماً يبرد غلتي
فهل في ابن رشد بعد هذين مرتجى ... وفي ابن طفيل الحتناث
مطيتي
لقد ضاع لولا أن تداركني حمى ... من الله سعى بينهم طول
مدتي
فقيض لي نهجاً إلى الحق
سالكاً ... وأيقظني من نوم جهلي وغفلتي
فحصنت أنظار الجند جنيدها ... بترك فلى من رغبة ريح رهبة
وكسرت عن رجل ابن أدهم أدهماً ... وأنقذته من أس رحب
الأسرة
وعدت على حلاج سكرى بصلبه ... وألقيت بلعام التفاني بهوة
فقولي مشكور ورأيي ناجح ... وفعلي محمود بكل محلة
رضيت بعرفاني فأعليت للعلا ... وأجلسني بعد الرضا فيه
جلتي
فعشت ولا ضيراً أخاف ولا قلى ... وصرت حبيباً في ديار
أحبتي
فها أنا ذا أمسي وأصبح بينهم ... مبلغ نفسي منهم ما تمنت
وأنشدني قوله في حال قبض وقيدتها عنه:
إليك بسطت الكف أستنزل الفضلا ... ومنك قبضت الطرف
أستشعر الذلا
وها أنا ذا قد قدمت يقمني الرجا ... ويحجمني الخوف الذي
خامر العقلا
أقدم رجلا إن يضيء برق مطمع ... وتظلم أرجائي فلا أنقل
الرجلا
ولي عثرات لست آمل أن هوت ... بنفسي ألا أستقل وأن أصلى
فإن تدركني رحمة أنتعش بها ... وإن تكن الشأخرى فأولى بي
الأولى
قال: ومما نظمته من الشعر:
وجد تسعره الضلو ... ع وما تبرده المدامع
هم تحركه الصبا ... بة والمهابة لا تطاوع
أملي إذا وصل الرجا ... أسبابه فالموت قاطع
بالله يا هذا الهوى ... ما أنت بالعشاق صانع
قال ومما كتبت به لمن بلغني عنه بعض الشيء:
نحن إن نسأل بناس معشر ... أهل ماء فجرته الهمم
عرب من بيضهم أرزاقهم ... ومن السمر الطوال الخيم
عرضت أحسابهم أرواحهم ... دون نيل العرض وهي الكرم
أورثونا المجد حتى أننا ... نرتضي الموت ولا نزدحم
ما لنا في الناس من ذنب سوى ... أننا نلوى إذا ما
اقتحموا
قال: وما قلته مذيلاً به قول القاضي أبي بكر بن العربي:
أما والمسجد الأقصى وما يتلى به نصا
لقد رقصت بنات الشو ... ق بين جوانحي رقصا
قولي:
فأقلع بي إليه هوى ... جناحا عزمه قصا
أقل القلب واستعدى ... على الجثمان فاستعصى
فقمت أجول بينهما ... فلا أدنى ولا أقصى
قال: ومما قلته في التورية بشأن راوي المدونة:
لا تعجبن لظبي قد دها أسداً ... فقد دها أسداً من قبل
سحنون
قال: ومما قلته من الشعر:
أنبت عوداً بنعماء بدأت بها ... فضلاً وألبستها بعد
اللحى الورقا
فظل مستشعراً مستدثرا أرجا ... ريان ذا بهجة يستوقف
الحدقا
فلا تشنه بمكروه الجني فلكم ... عودته من الجميل من لدن
خلقا
وأنف القذى عنه وأثر الدهر منبته ... وغذه برجاء واسقه
غدقا
واحفظه من حادثات الدهر أجمعها ... ما جاء منها على ضوء
وما طرقاً
ومما قيدت عنه أيام مجالسته
ومقامه بغرناطة، وقد أجرى ذكر أبي زيد ابن الإمام، أنه شهد مجلساً بين يدي السلطان
أبي تاشفين عبد الرحمن ابن أبي حمو، ذكر فيه أبو زيد المذكور، أن ابن القاسم مقيد
بالنظر بأصول مالك، ونازعه أبو موسى عمران بن موسى المشذالي، وادعى أنه مطلق
الاجتهاد، واحتج له بمخالفته لبعض ما يرويه أو يبلغه عنه لما ليس من قوله، وأتى من
ذلك بنظائر كثيرة. قال فلو تقيد بمذهبه، لم يخالفه لغيره. فاستظهر أبو زيج بنص
لشرف الدين بن التلمساني، ومثل فيه الاجتهاد المخصوص باجتهاد ابن القاسم، بالنظر
إلى مذهب مالك، والمزني إلى الشافعي. فقال أبو موسى عمران، هذا مثال، والمثال لا يلزم
صحته، فصاح به أبو زيد ابن الإمام وقال لأبي عبد الله بن أبي عمر تكلم فقال لا
أعرف ما قال هذا الفقيه، والذي أذكره من كلام أهل العلم أنه لا يلزم من فساد
المثال فساد الممثل به، فقال أبو موسى للسلطان، هذا كلام أصولي محقق، فقلت لهما
يومئذ، وأنا حديث السن، ما أنصفهما الرجل، فإن المثل كما يؤخذ على عجهة التحقيق،
كذلك يؤخذ على جهة التقريب، ومن ثم جاء منا قال هذا الشيخ، أعني ابن أبي عمران،
وكيف لا وهذا سيبويه يقول، وهذا مثال ولا يتكلم به، فإذا صح أن المثال قد يكون
تقريباً، فلا يلزم صحة المثال، ولا فساد الممثل لفساده فهذان القولان من أثل واحد.
وقال: شهدت مجلساً آخر عند هذا السلطان، قرئ فيه على أبي
زيد ابن الإمام حديث: لقنوا موتاكم لا إله إلا الله، من صحيح مسلم. فقال له
الأستاذ أبو إسحاق بن حكم السلوى هذا الملقن محتضر حقيقة، ميت مجازاً فما وجه ترك
محتضريكم إلى موتاكم، والأصل الحقيقة، فأجابه أبو زيد بجواب لم يقنعه. وكنت قد
قرأت على الأستاذ بعض التنقيح، فقلت زعم القرافي أن المشتق إنما يكون حقيقة في
الحال، مجازاً في الاستقبال. مختلفاً فيه في الماضي. إذا كان محكوماً به. وأما إذا
كان متعلق الحكم كما هنا، فهو حقيقة مطلقاً إجماعاً، وعلى هذا التقرير، لا مجاز ولا
سؤال. ولا يقال إنه احتج على ذلك بما فيه نظر، لأنا نقول إنه نقل الإجماع. وهو أحد
الأربعة، التي لا يطالب عنها بالدليل، كما ذكر أيضاً، بل نقول إنه أساء حيث احتج
في موضع الوفاق، كما أساء اللخمي وغيره في الاحتجاج على وجوب الطهارة ونحوها. بل
هذا أشنع لكونه مما علم كونه من الدين ضرورة. ثم إنا لو سلمنا نفي الإجماع، فلنا أن
نقول إن ذلك إشارة إلى ظهور العلامات التي يعقبها الموت عادة، لأن تلقينه قبل ذلك،
إن لم يدهش، فقد يوحش، فهو تنبيه على وقت التلقين، أي لقنوا من تحكمون بأنه ميت.
أو يقال إنما عدل عن الاحتضار لما فيه من الإبهام. ألا ترى اختلافهم فيه، هل هو
أخذ من حضور الملايكة أو حضور الأجل، أو حضور الجلاس. ولا شك أن هذه حالة خفية يحتاج
في نصها إلى دليل الحكمة أو إلى وصف ظاهر يضبطها. وهو ما ذكرناه، أو من حضور
الموت، وهو أيضاً مما لا يعرف بنفسه. بل بالعلامات. فلما وجب اعتبارا. وجب كون تلك
التسمية إشارة إليها. والله أعلم.
وقال: وكان أبو زيد يقول فيما جاء من الأحاديث، ما معنى
قول ابن أبي زيد. وإذا سلم الإمام، فلا يلبث بعد سلامه ولينصرف، وذلك بعد أن ينتظر
من يسلم من خلفه لئلا يمر بين يدي أحد، وقد ارتفع عنه حكمه، فيكون كالداخل مع
المسبوق جمعاً بين الأدلة.
وقلت، وهذا من ملح الفقية. وقال كان أبو زيد يعنى
الإمام، يصحف قول الخونجي في الجمل والمقارنات التي يمكن اجتماعه معها، فيقول، والمفارقات،
ولعله في هذا كما قال أبو عمرو بن العلاء للأصمعي لما قرأ عليه:
وغررتني وزعمت أنك لابن في الصيف تأمر
فقال:
وغررتني وزعمت أنك لا تني بالضيف تأمر
فقال، أنت في تصحيفك أشهر من الحطيئة، أو كما يحكى عن
الشافعي أنه لما صلى في رمضان بالخليفة، لم يكن يومئذ يحفظ القرآن، فكان ينظر في
المصحف، وقرأ الآية " صنعة الله أصيب بها من أساء. إنما المشركون نجس. وعدها
إياه، تقية لكم خير لكم. هذا أن دعوا للرحمن ولدا. لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه " .
وقال، ذكر أبو زيد بن الإمام
في مجلسه يوماً، أنه سئل بالمشرق عن هاتين الشريطتين: " ولو علم الله فيهم
خيراً لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون " فإنهما يستلزمان بحكم الإنتاج
" ولو علم الله فيهم خيراً لتولوا وهم معرضون " وهو محال. ثم أراد أن
يرى ما عند الحاضرين، فقال ابن حكم؛ قال الخونجي، والإهمال بإطلاق لفظه، لو وأن في
المتصلة، فهاتان القضيتان على هذا مهملتان، والمهملة في قوة الجزيئة، ولا قياس على
جزئيتين. فلما اجتمعت ببجاية بأبي علي حسين بن حسين، أخبرته بهذا، وبما أجاب به
الزمخشري وغيره، مما يرجع إلى انتفاء أمر تكرار الوسط. فقال لي الجوابان في المعنى
سواء، لأن القياس على الجزئيتين إنما امتنع لانتفاء أمر تكرار الوسط. وأخبرت بذلك شيخنا
أبا عبد الله الآبلي، فقال إنما يقوم القياس على الوسط، ثم يشترط فيه بعد ذلك أن
لا يكون من جزئيتين ولا سالبتين، إلى ساير ما يشترط. فقلت ما المانع من كون هذه
الشروط تفصيلاً لمجمل ما ينبئى عله الوسط وغيره، وإلا فلا مانع لما قاله ابن
الشروط تفصيلاً لمجمل ما ينبئى عليه الوسط وغيره، وإلا فلا مانع لما قاله ابن
حسين. قال الآبلي؛ وأجبت بجواب السلوى، ثم رجعت إلى ما قاله الناس، لوجوب كون
مهملات القرآن كلية، لأن الشرطية لا تنتج جزئية. فقلت هذا فيما يساق منها للحجة
مثل " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا " . أما في مثل هذا فلا قلت.
وكان يلزم السؤال الأول لو لم يكن للمتولى سبب تأخر، حسبما تبين في مسألة، لو لم
يطع الله، فلينظر ذلك في اسم شيخنا أبي بكر يحيى بن هذيل رحمه الله.
وقال، لما ورد تلمسان الشيخ الأديب أبو الحسن بن فرحون،
نزيل طيبة، على تربتها السلام سأل ابن حكم عن معنى هذين البيتين:
رأت قمر السماء فأذكرتني ... ليالي وصلنا بالرقمتين
كلانا ناظر قمراً ولكن ... رأيت بعينها ورأت بعيني
ففكر ثم قال لعل هذا الرجل كان ينظر إليها، وهي تنظر إلى
قمر السماء، فهي تنظر إلى القمر حقيقة، وهو لفرط الاستحسان يرى أنها الحقيقة. فقد
رأى بعينها لأنها ناظرة الحقيقة. وأيضاً وهو ينظر إلى قمر مجازاً، وهو لإفراطه استحسانها
يرى أن قمر السماء هو المجاز، فقد رأت بعينه لأنها ناظرة المجاز. قلت، ومن هذا
يعلم وجه الفاء في قوله تعالى " فاذكروني أذكركم " والفاء فأذكرتني
بمثابة قولك أذكرتني، فتأمله، فإن بعض من لا يفهم كلام الأستاذ كل الفهم، ينشده
وأذكرتني. فالفاء في البيت الأول، منبهة على الثاني، وهذا النحو يسمى الإيذان في
علم البيان وقال، سألني ابن حكم عن نسب هذا المجيب في هذا البيت:
ومهفهف الأعطاف قلت له انتسب فأجاب ما قتل المحب حرام.
ففكرت ثم قفلت له، أراه تميمياً لإلغائه " ما
" النافية. فاستحسنه مني لصغر سني يومئذ. وسأل ابن فرحون ابن حكم يوماً، هل
تجد في التنزيل ست فاءات مرتبة ترتيبها في هذا البيت:
رأى فحب فرام الوصل فامتنعت ... فسام صبراً فأعيا نيله
فقضى
ففكر ابن حكم، ثم قال نعم قوله عز وجل " فطاف عليها
طائف من ربك وهم نائمون، فاصبحت كالصريم، فتنادوا إلى آخرها " فمنع لهم بناء
الآخرة لقراءة الواو. فقلت له امنع ولا تسند، فيقال إن المعاني قد تختلف باختلاف
الحروف، وإن كان السند لا يسمع الكلام عليه. وأكثر ما وجدت الفاء تنتهي في كلامهم
إلى هذا العدد، سواء بهذا الشرط وبدونه، كقول نوح عليه السلام فعلى الله توكلت فاجمعوا
أمركم وشركاءكم. وكقول امرئ القيس غشيت ديار الحي بالبكرات، البيتين لا يقال قوله،
فالحب سابع، لأنا نقول إنه عطف على عاقل المجرد منها، ولعل حكمة الستة أنها أول
الأعداد التامة، كما قيل في حكمة خلق السموات والأرض فيها. وشأن اللسان عجيب.
وقال، سمعت ابن حكم يقول، كتب بعض أدباء فاس إلى صاحب له:
إبعث إلي بشيئ ... مدار فاس عليه
وليس عندك شيء ... مما أشير إليه
فبعث إليه ببطة من مرى شرب
يشير بذلك إلى الرياء وحدث أن قاضيها أبا محمد عبد الله بن أحمد بن الملجوم دعى
إلى وليمة، وكان كثير البلغم، فوضع بين يديه صهره أبو العباس بن الأشقر غضارا من
اللوز المطبوخ بالمرى، لمناسبته لمزاجه، فخاف أن يكون قد عرض له بالرياء. وكان ابن
الأشقر يذكر بالوقوع في الناس، فقدم له القاضي غضار المقروض، فاستحسن الحاضرون
فطنته.
وقال عند ذكر شيخه أبي محمد عبد الله بن عبد الواحد
المجاصي دخلت عليه بالفقيه أبي عبد الله السطى في أيام عيد، فقدم لنا طعاماً، فقلت
لو أكلت معنا، فرجونا بذلك ما يرفع من حديث. " من أكل مع مغفور له، غفر له
" فتبسم، وقال لي، دخلت على سيدي أبي عبد الله الفاسي بالأسكندرية، فقدم لنا
طعاماً، فسألته عن هذا الحديث، فقال وقع في نفسي شيء، فرأيت النبي صلى الله عليه
وسلم في المنام، فسألته عنه، فقال لم أقله، وأرجو أن يكون كذلك، وصافحته بمصافحته الشيخ
أبا عبد الله زيان، بمصافحته أبا سعيد عثمان بن عطية الصعيدي، بمصافحة أبا العباس
أحمد الملثم، بمصافحته المعمر، بمصافحته رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحدث عن شيخه أبي محمد الدلاصي، أنهن كان للملك العادل مملوك
اسمه محمد، فكان يخصه لدينه وعقله، بالنداء باسمه، وإنما كان ينعق بمماليكه يا
ساقي، يا طباخ، يا مزين. فناداه ذات يوم، يا فراش، فظن أن ذلك لموجدة عليه. فلم ير
اثر ذلك، وتصورت له به خلوة، فسأله عن مخالفته لعادته، فقال له لا عليك، كنت يومئذ
جنباً، فكرهت أن أذكر اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، على تلك الحالة. وقال
أنشدني المجاصي، قال أنشدني الإمام نجم الدين الواسطي، قال أنشدني شرف الدين
الدمياطي، قال أنشدني تاج الدين الآمدي، مؤلف الحاصل، قال أنشدني الإمام فخر الدين
لنفسه:
نهاية إقدام العقول عقال ... وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ودبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا مسرعين
وزالوا
وكم من رجال قد رأينا ودولة ... فبادوا جميعاً مسرعين
وزالوا
وكم من جبال قد علت شرفاتها ... رجال فماتوا والجبال
جبال
وقال، وقد مر من ذكر الشريف القاضي أبي علي حسين بن يوسف
بن يحيى الحسني في عداد شيوخه وقال حدثني أبو العباس الرندي، عن القاضي أبي العباس
ابن الغماز. قال لما قدم القاضي أبو العباس بن الغماز من بلنسية، نزل بجاية، فجلس بها في
الشهود مع عبد الحق بن ربيع، فجاء عبد الحق يوماً، وعليه برنس أبيض، وقد حسنت
شارته، كملت هيئته، فلما نظر إليه ابن الغماز أنشده:
ليس البرنس الفقيه فباهى ... ورأى أنه المليح فتاها
لو زليخا رأته حين تبدي ... لتمنته أن يكون فتاه
وقال أيضاً إن ابن الغماز جلس لارتقاب الهلال بجامع
الزيتونة، فنزل الشهود من المئذنة وأخبروا أنهم لم يهلوه. وجاء حفيد له صغير،
فأخبره أنه أهله، فردهم معه؛ فأراهم إياه، فقال ما أشبه الليلة بالبارحة، وقد وقع
لنا مثل هذا مع ابي الربيع بن سالم، فأنشدنا فيه:
توارى هلال الأفق عن أعين الورى ... وأرخى حجاب الغيم
دون محياه
فلما تصدى لارتقاب شقيقه ... تبدى له دون الأنام فحياه
وجرى في ذكر أبي عبد الله بن النجار، الشيخ التعالمي من
أهل تلمسان، فقال ذكرت يوماً قول ابن الحاجب فيما يحرم من النساء بالقرابة، وهي
أصول وفصول، أول أصوله، وأول فصل من كل أصل وإن علا، فقال إن تركب لفظ التسمية
العرفية من الطرفين حلت وإلا حرمت، فتأملته. فوجدته كما قال، لأن أقسام هذا الضابط
أربعة، التركيب من الطرفين، كابن العم وابنة العم مقابله كالأب والبنت. والتركيب من قبل
الرجل، كإبنة الأخ والعم مقابله كابن الأخت والخالة.
وذكر الشيخ الرئيس أبا محمد عبد المهيمن بن محمد
الحضرمي. وقال. كان ينكر إضافة الحول إلى الله عز وجل، فلا يجيز أن يقال بحول الله
وقوته، قال، لأنه لم يرد إطلاقه، والمعنى يقتضي امتناعه لأن الحول كالحيلة، أو
قريب منها.
وحكى عن شيخه أبي زيد عبد
الرحمن الصنهاجي، عن القاضي أبي زيد عبد الرحمن بن علي الدكالي، أنه اختصم عنده
رجلان في شاة. ادعى أحدهما أنه أودعها الآخر، وادعى الآخر أنها ضاعت منه فأوجب
اليمين على المودع أنها ضاعت من غير تضييع، فقال كيف أضيع. وقد شغلتني، حراستها عن
الصلاة، حتى خرج وقتها، فحكم عليه بالغرم، فقيل له في ذلك، فقال تأولت قول عمر ومن
ضيعها فهو لما سواها أضيع.
وحكى عن الشيخ الفقيه رحلة الوقت أبي عبد الله الآبلي.
حكاية في باب الضرب، وقوة الإدراك، قال، كنت يوماً مع القاسم بن محمد الصنهاجي، فوردت
عله طومارة من قبل القاضي أبي الحجاج الطرطوشي فيها:
خيرات ما تحويه مبذولة ... ومطلبي تصحيف مقلوبها
فقال لي ما مطليه، فقلت نارنج، ودخل عليه وأنا عنده
بتلمسان الشيخ الطبيب أبو عبد الله الدباغ المالقي، فأخبرنا أن أديباً استجدى
وزيراً بهذا الشطر: " ثم حبيب قلما ينصف " فأخذته وكتبته، ثم قلبته وصحفته فإذا
به قصبتا ملف شحمى.
وقال، قال شيخنا الآبلي، لما نزلت تازة مع أبي الحسن بن
بري، وأبي عبد الله الترجالي، فاحتجت إلى النوم، وكرهت قطعهما إلى الكلام،
فاستكشفت منها عن معنى هذا البيت للمعري:
أقول لعبد الله لما سقاؤنا ... ونحن بوادي عبد شمس وهاشم
فجعلا يفكران في، فنمت حتى أصبحا ولم يجاه، وسألوني عنه،
فقلت معناه أقول لعبد الله لما، وهي سقاؤنا، ونحن بوادي عبد شمس، شم لنا برقا.
قلت، وفيه نظر، وإن استقصينا مثل هذا، خرجنا عن الغرض.
مولدهنقلت من خطه، كان مولدي بتلمسان، أيام أبي حمو موسى
بن عثمان بن يغمراسن بن زيان. وقد وفقت على تاريخ ذلك، ورأيت الصفح عنه، لأن أبا
الحسن بن موسى، سأل أبا الطاهر السلفي عن سنه، فقال، أقبل على شأنك، فإني سألت أبا
الفتح بن زيان بن مسعدة عن سنه، فقال، أقبل على شأنك، فإني سألت محمد بن علي بن محمد
اللبان عن سنه فقال، أقبل على شأنك، فإني سألت حمزة بن يوسف السهمي عن سنه، فقال،
أقبل على شأنك، فإني سألت بعض أصحاب الشافعي عن سنه، فقال، أقبل على شأنك، فإني
سألت أبا إسماعيل الترمذي عن سنه، فقال، أقبل على شأنك، فإني سألت الشافعي عن سنه،
فقال، أقبل على شأنك، فإني سألت مالك بن أنس عن سنه، فقال، أقبل على شأنك، ليس من
المروءة إخبار الرجل عن سنه.
وفاتهتوفي بمدينة فاس في أخريات محرم من عام تسعة وخمسين
وسبعمائة وأراه توفي في ذي حجة من العام قبله. ونقل إلى تربة سلفه بمدينة تلمسان
حرسها الله.
محمد بن عياض بن موسى اليحصبيمحمد بن عياض بن محمد بن
عياض بن موسى اليحصبي من أهل سبتة، حفيد القاضي الإمام أبي الفضل عياض، يكنى أبا
عبد الله.
حالهقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير. كان من عدول
القضاة. وجلة سراتهم. وأهل النزاهة فيهم. شديد التحري في الأحكام، والاحتياط،
صابراً على الضعيف فيهم والملهوف، شديد الوطأة على أهل الجاه وذوي السطوة فاضلاً
وقوراً، حسن السمت، يعرفه كلامه أبداً، ويزينه ذلك لكثرة وقاره، محباً في العلم
وأهله، مقرباً لأصاغر الطلبة، ومكرماً لهم، ومعتنياً بهم، معملا جهده في الدفع عنهم،
لما عسى أن يسوءهم. ليحبب إليهم العلم وأهله، ما رأينا بعده في هذا مثله. سكن
مالقة مع أبيه، عند انتقال أبيه إليها، إلى أن مات أبوه سنة خمس وخمسين وستماية.
حدثني شيخنا أبو الحسن بن الجياب، وجرى ذكر إعرابه لفظ من
حديثه عن شيوخه، قال دخلت على القاضي المذكور، فسأل أحدنا عن أبيه، فقال ابن فلان؛
وذكر معرفة مشتركة بين تجار فاس. فقال أيهما الذي ينحت في الخشب، والذي يعمل في
السلاح، فما فطن لقصده لسذاجته وحدثني عن ذكر جزالته. أنها كانت تقع له مع السلطان مستقضية،
مع كونه مرهوباً، شديد السطوة، وقايع تنبي عن تصميمه، وبعده عن الهوادة. منها أن
السلطان أمر بإطلاق محبوس، كان قد سجنه فأنفذ بين يدي السلطان الأمر للسجان بحبسه،
وتوعده إن أطلقه. ومنها إذاعة ثبوت العيد، في أخريات يوم، كان قد أمل السلطان
البروز إلى العيد في صباحه، فنزل عن القلعة ينادي، عبد الله يا ميمون، إخبر الناس عن
عيدهم اليوم، وأمثال ذلك.
مشيخته
قرأ بسبتة، وأسنديها، فأخذ عن
أبي الصبر أيوب بن عبد الله الفهري وغيره، ورحل إلى الجزيرة الخضراء. فأخذ بها
كتاب سيبويه وغيره تفقيهاً على النحوي الجليل أبي القاسم عبد الرحمن، ابن القاسم
القاضي المتقنن. وأخذ بها أيضاً كتاب إيضاح الفارسي عن الأستاذ أبي الحجاج بن
مغرور، وأخذ بإشبيلية وغيرها عن آخرين. وقرأ على القاضي أبي القاسم بن بقي بن
نافحة. وأجاز له. وكتب له من أهل المشرق جماعة كثيرة، منهم أبو جعفر محمد ابن أحمد
بن نصر بن أبي الفتح الصيدلاني، وأجاز له بإصبهان، وهو سبط حسن ابن مندة، أجاز له
في شوال سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. وتحمل عن أبي علي الحداد، شيخ السلفى
الحافظ عن محمود الصيرفي ونظايرهما، وجماعة من إصبهان كثيرة كتبوا له بالغجازة.
وكتب له من غيرها من البلاد نيف وثمانون رجلا، منهم أحد وستون رجلاً كتبوا له مع
الشيخ المحدث أبي العباس المغربي، والقاضي أبي عبد الله الأزدي، وقد نصح على
جميعهم في برنامجيهما، واستوفى أبو العباس الغربي نصوصو الإسترعات، وفيها اسم
القاضي أبو عبد الله بن عياض.
؟ومن روى عنه
قال الأستاذ أبو جعفر رحمه الله، أجاز لي مرتين اثنين. وقال حدثني أبو عبد الله
مشافهة بالإذن، أنبأنا أبو الطاهر بركات بن إبراهيم الخشوعي كتابة من دمشق، أنبأنا
أبو عبد الله محمد بن أحمد الرازي المعروف بابن الحطاب بالحاء المهملة، أخبرنا
محمد بن أحمد بن عبد الوهاب البغدادي بالقسطاط، أخبرنا موسى ابن محمد بن عرفة
السمسار ببغداد، قال أبو عمرو بن أحمد بن الفضل النفزي، أخبرنا إسماعيل بن موسى،
أخبرنا عمر بن شاكر عن أنس بن مالك، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم،
" يأتي على الناس زمان، الصابر منهم على دينه، كالقابض على الجمر " .
هذا الإسناد قريب يعز مثله في القرب لأمثالنا، ممن مولده
بعد الستمائة، وإسماعيل بن موسى من شيوخ الترمذي، قد خرج عنه الحديث المذكور، لم
يقع له في مصنفه ثلاثي غيره.
؟؟
مولده
بسبتة سنة أربع وثمانين
وخمسمائة.
وفاتهتوفي بغرناطة يوم الخميس الثامن والعشرين لجمادى
الآخرة سنة أربع وخمسين وستماية.
محمد بن موسى بن عياض اليحصبيمحمد بن عياض بن موسى بن
عياض بن عمر ابن موسى بن عياض اليحصبي، من أهل سبتة ولد الإمام أبي الفضل، يكنى
أبا عبد الله.
حالهكان فقيهاً جليلاً، أديباً، كاملاً. دخل الأندلس،
وقرأ على ابن بشكوال كتاب الصلة، وولي قضاء غرناطة، قال ابن الزبير، وقفت على جزء
ألفه في شيء من أخبار أبيه، وحاله في أخذه وعلمه، وما يرجع إلى هذا، أوقفني عليه
حفدته بمالقة.
وفاتهتوفي سنة خمس وسبعين وخمسمائة.
محمد بن أحمد بن جبير الكنانيمحمد بن أحمد بن جبير بن
سعيد بن جبير بن محمد بن سعيد ابن جبير بن محمد بن مروان بن عبد السلام بن مروان
بن عبد السلام بن جبير الكناني، الواصل إلى الأندلس.
أوليتهدخل جده عبد السلام بن جبير في طالعة بلج بن بشر بن
عياض القشيري في محرم ثلاث وعشرين ومائة. وكان نزوره بكوؤة شدونة. وهو من ولد ضمرة
ابن كنانة بن بكر بن عبد مناف بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار
بن معد بن عدنان. بلنسي الأصل، ثم غرناطي الاستيطان. شرقن وغرب، وعاد إلى غرناطة.
حالهكان أديباً بارعاً، شاعراً مجيداً، سنياً فاضلاً،
نزيه المهمة، سري النفس، كريم الأخلاق، أنيق الطريقة في الخط. كتب بسبتة عن أبي
سعيد عثمان ابن عبد المؤمن، وبغرناطة عن غيره من ذوي قرابته، وله فيهم أمداح
كثيرة. ثم نزع عن ذلك، وتوجه إلى المشرق، وجرت بينه وبين طايفة من أدباء عصره،
مخاطبات ظهرت فيها براعته وإجادته.
ونظمه فايق، ونثره بديع. وكلامه المرسل، سهل حسن،
وأغراضه جليلة، ومحاسنه ضخمة، وذكره شهير، ورحلته نسيجة وحدها، طارت كل مطار، رحمه
الله.
رحلته
قال من عنى بخبره، رحل ثلاثاً
من الأندلس إلى المشرق، وحج في كل واحدة منها. فصل عن غرناطة أول ساعة من يوم الخميس
لثمان خلون من شوال، ثمان وسبعين وخمسماية، صحبة أبي جعفر بن حسان، ثم عاد إلى
وطنه غرناطة لثمان بقين من محرم واحد وثمانين، ولقى بها أعلاماً يأتي التعريف بهم
في مشيخته، وصنف الرحلة المشهورة، وذكر مناقله فيها وما شاهده من عجايب البلدان،
وغرايب المشاهد، وبدايع الصنايع، وهو كتاب مؤنس ممتع، مثير سواكن النفوس إلى الرفادة
على تلك المعالم المكرمة والمشاهد العظيمة ولما شاع الخبر المبهج بفتح بيت المقدس
على يد السلطان الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب بن شادي، قوي عزمه على عمل الرحلة
الثانية، فتحرك إليها من غرناطة، يوم الخميس لتسع خلون من ربيع الأول من سنة خمس
وثمانين وخمسماية، ثم آب إلى غرناطة يوم الخميس لثلاث عشر خلت من شعبان سبع
وثمانين. وسكن غرناطة، ثم مالقة، ثم سبتة، ثم فاس، منقطعاً إلى إسماع الحديث
والتصوف، وتروية ما عنده. وفضله بديع، وورعه يتحقق، وأعماله الصالحة تزكو. ثم رحل
الثالثة من سبتة، بعد موت زوجته عهاتكة أم المجد بنت الوزير أبي جعفر الوقشي، وكان
كلفاً بها، فعظم وجده عليها، فوصل مكة، وجاور بها طويلاً، ثم بيت المقدس، ثم تجول
بمصر والإسكندرية، فأقام يحدث، ويؤخذ عنه إلى أن لحقي بربه.
مشيختهروى بالأندلس عن أبيه، وأبي الحسن بن محمد بن أبي
العيش، وأبي عبد الله بن أحمد بن عروس، وابن الأصيلي. وأخذ العربية عن أبي الحجاج
بن يسعون. وبسبتة عن أبي عبد الله بن عيسى التميمي السبتي. وأجاز له أبو الوليد
ابن سبكة، وإبراهيم بن إسحاق بن عبد الله الغساني التونسي، وأبو حفص عمر بن عبد المجيد
بن عمر القرشي الميانجي، نزيلاً مكة، وأبو جعفر أحمد بن علي القرطبي الفنكي، وأبو
الحجاج يوسف بن أحمد بن علي بن إبراهيم بن محمد البغدادي، وصدر الدين أبو محمد عبد
اللطيف الحجري رييس الشافعية بإصبهان. وببغداد العالم الحافظ المتبحر نادرة الفلك
أبو الفرج، وكناه أبو الفضل ابن الجوزي.
وحضر بعض مجالسه الوعظية وقال فيه فشاهدنا رجلاً ليس
بعمرو ولا زيد، وفي جوف الفراكل الصيد. وبدمشق أبو الحسن أحمد بن حمزة بن علي بن
عبد الله بن عباس السلمي الجواري، وأبو سعيد عبد الله بن محمد ابن أبي عصرون، وأبو
الطاهر بركات الخشوعي، وسمع عليه، وعماد الدين أبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد
الأصبهاني من أئمة الكتاب، وأخذ عنه بعض كلامه، وغيره، وأبو القاسم عبد الرحمن بن
الحسين بن الأخضر بن علي بن عساكر، وسمع عليه، وأبو الوليد إسماعيل بن علي بن
إبراهيم والحسين بن هبة الله بن محفوظ بن نصر الرقبعي، وعبد الرحمن بن إسماعيل بن
أبي سعيد الصوفي، وأجازوا له، وبحران الصوفي العارف أبو البركات حيان بن عبد
العزيز، وابنه الحاذي حذوه.
من أخذ عنهقال ابن عبد الملك، أخذ عنه أبو إسحاق بن
مهيب، وابن الواعظ، وأبو تمام ابن إسماعيل، وأبو الحسن بن نصر بن فاتح بن عبد الله
البجائي، وأبو الحسن بن علي الشادي، وأبو سليمان بن حوط الله، وأبو زكريا، وأبو
بكر يحيى بن محمد بن أبي الغصن، وأبو عبد الله بن حسن بن مجير. وأبو العباس بن عبد
المؤمن البناني، وأبو محمد بن حسن اللواتي وابن تامتيت، وابن محمد الموروري، وأبو
عمر بن سالم، وعثمان بن سفيان بن أشقر التميمي التونسي.
وممن أخذ عنه بالإسكندرية، رشيد الدين أبو محمد عبد
الكريم بن عطاء الله، وبمصر رشيد الدين بن العطار. وفخر القضاة بن الجياب، وابنه
جمال القضاة.
تصانيفهمنها نظمه، قال ابن عبد الملك: وقفت منه على مجلد
متوسط يكون على قدر ديوان أبي تمام حبيب بن أوس، ومنه جزء سماه نتيجة وجد الجوانح
في تأبين القرين الصالح في مراثي زوجه أم المجد. ومنه جزء سماه نظم الجمان في
التشكي من إخوان الزمان. وله ترسيل بديع، وحكم مستجادة، وكتاب رحلته. وكان أبو
الحسن الشادي، يقول إنها ليست من تصانيفه، وإنما قيد معاني ما تضمنته، فتولى ترتيبها،
وتنضيد معانيها بعض الآخذين عنه، على ما تلقاه منه. والله أعلم.
شعرهمن ذلك القصيدة الشهيرة التي نظمها، وقد شارف
المدينة المكرمة طيبة، على ساكنها من الله أفضل الصلوات، وأزكى التسليم:
أقول وآنست بالليل نارا ...
لعل سراج الهدى قد أنارا
وإلا فما بال أفق الدجى ... كأن سنا البرق فيه استطارا
ونحن من الليل في حندس ... فما باله قد تجلى نهارا
وهذا النسيم شذا المسك قد ... أعير أم المسك منه استعارا
وكانت رواحلنا تشتكي ... وجاها فقد سابقتنا ابتدارا
وكنا شكونا عناء السرى ... فعدنا نباري سراع المهارا
أظن النفوس قد استشعرت ... بلوغ هوى تخذته شعارا
بشاير صبح السرى آدنت ... بأن الحبيب تدانى مزارا
جرى ذكر طيبة ما بيننا ... فلا قلب في الركب إلا وطارا
حنيناً إلى أحمد المصطفى ... وشوقاً يهيج الضلوع استعارا
ولاح لنا أحد مشرقاً ... بنور من الشهداء استعارا
فمن أجل ذلك ظل الدجى ... يحل عقود النجوم انتثارا
ومن طرب الركب حث الخطا ... إليها ونادى البدار البدارا
ولما حللنا فناء الرسول ... نزلنا بأكرم مجد جوارا
وحين دنونا لفرض السلام ... قصرنا الخطا ولزمنا الوقارا
فما نرسل اللحظ إلا اختلاساً ... ولا نرجع الطرف إلا
انكسارا
ولا نظهر الوجد إلا اكتتاماً ... ولا نلفظ القول إلا
سرارا
سوى أننا لم نطق أعيناً ... بأدمعها غلبتنا انفجارا
وقفنا بروضة دار السلام ... نعيد السلام عليها مرارا
ولولا مهابته في النفوس لثمنا الثرى والتزمنا الجدارا
قضينا بزورته حجنا ... وبالعمرتين ختمنا اعتماراً
إليك إليك نبي الهدى ... ركبت البحار وجبت القفارا
وفارقت أهلي ولا منة ... ورب كلام يجر اعتذارا
وكيف نمن على من به ... نؤمل للسيئات اغتفاراً
دعائي إليك هوى كامن ... أثار من الشوق ما قد أثارا
فناديتك لبيك داعي الهوى ... وما كنت عنك أطيق اصطباراً
ووطنت نفسي بحكم الهوى ... علي وقلت رضيت اختيارا
أخوض الدجى وأروض السرى ... ولا أطعم النوم إلا غرارا
ولو كنت لا أستطيع السبيل ... لطرت ولو لم أصادف مطارا
وأجدر من نال منك الرضى ... محب ثراك على البعد زارا
عسى لحظة منك لي في غد ... تمهد لي في الجنان القرارا
فما ضل من بمسراك اهتدى ... ولا ذل من بذراك استجارا
وفي غبطة من ممن الله عليه لحج بيته، وزيارة قبره صلى
الله عليه وسلم يقول:
هنيئاً لمن حدج بيت الهدى ... وحط عن النفس أوزارها
وإن السعادة مضمونة ... لمن حج طيبة أو زارها
وفي مثل ذلك يقول:
إذا بلغ المرء أرض الحجاز ... فقد نال أفضل ما أمله
وإن زار قبر نبي الهدى ... فقد أكمل الله ما أمله
وفي تفضيل المشرق:
لا يستوي شرق البلاد وغربها ... الشرق حاز الفضل
باستحقاق
أنظر إلى جمال الشمس عند طلوعها زهراء تعجب بهجة الإشراق
وانظر إليها عند الغروب كثيبة ... صفراء تعقب ظلمة
الآفاق
وكفى بيوم طلوعها من غربها ... أن تؤذن الدنيا بعزم فراق
وقال في الوصايا:
عليك بكتمان المصايب واصطبر ... عليها فما أبقى الزمان
شفيقا
كفاك بالشكوى إلى الناس أنها ... تسر عدواً أو تسيء
صديقا
وقال؛
وصانع المعروف فلتة عاقل ... إن لم تضعها في محل عاقل
كالنفس في شهواتها إن لم تكن ... وقفاً لها عادت بضر
عاجل
نثره
من حكمه قوله: إن شرف
الإنسان، فشرف وإحسان. وإن فاق فتفضل وإفاق. ينبغي أن يحفظ الإنسان لسانه. كما
يحفظ الجفن إنسانه. فرب كلمة تقال، يحدث عثرة لا تقال. كم كست فلتات الألسنة
الحداد، من ورائها ملابس حداد. نحن في زمن لا يحظى فيه بنفاق إلا من عامل بنفاق.
شغل الناس عن طريق الآخرة بزخارف الأغراض. فلجوا في الصدود عنها والإعراض. وآثروا
دنيا هي أضغاث أحلام، وكم هفت في حبها من أحلام، أطالوا فيها آمالهم، وقصروا
أعمالهم. ما بالهم، لم يتفرغ لغيرها بالهم، ما لهم في غير ميدانها استباق، ولا
بسوى هواها اشتياق.
تلله لو كسشفت الأسرار، لما كان هذا الإصرار، ولسهرت
العيون، وتفجرت من شئونها الجفون، فلو أن عين البصيرة من سنتها هابة، لرأت جميع ما
في الدنيا ريحاً هابة ولكن استولى العمى على البصاير ولا يعلم الإنسان ما إليه
صاير، أسأل الله هداية سبيله، ورحمة تورد نسيم الفردوس وسلسبيله، إنه الحنان المنان
لا رب سواه.
ومنها: فلتات الهبات، أشبه شيء بفلتات الشهوات. منها نافع
لا يعقب ندماً، ومنها ضار يبقى في النفس ألماً. فضرر الهبة وقوعها عند من لا يعتقد
لحقها أداء، وربما أثرت عنده اعتداء. وضرر الشهوة أن لا توافق ابتداء، فتصير
لمتبعها داء، مثلها كمثل السكر يلتذ صاحبه بحلاوة جناه، فإذا صحا يعرف قدر ما
جناه. عكس هذه القضية هي الحالة المرضية.
مولدهببلنسية سنة تسع وثلاثين وخمسماية وقيل بشاطبة سنة
أربعين وخمسماية.
وفاتهتوفي بالإسكندرية ليلة الأربعاء التاسع والعشرين
لشعبان أربع عشرة وستماية
ابن شبرينمحمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد
ابن محمد بن عبد الرحمن بن علي بن شبرين، يكنى أبا بكر، شيخنا الفقيه القاضي
المؤرخ الكاتب البارع رحمة الله عليه
أوليتهأصله من إشبيلية، من حصن شلب من كورة باجة، من
غربي صقعها، يعرفون فيها ببني شبرين، معرفة قديمة. ولي جده القضاء بإشبيلية، وكان
من كبار أهل العلم تشهد بذلك الصلاة. وانتقل أبوه منها عند تغلب العدو عليها عام
ستة وأربعين وستماية، فاحتل رندة ثم غرناطة، ثم انتقل إلى سكنى سبتة، وبها ولد
شيخنا أبو بكر، وانتقل عند الحادثة إلى غرناطة، فارتسم بالكتابة السلطانية، وولي
القضاء بعدة جهات، وتأثل مالاً وشهرة، حتى جرى مجرى الأعيان من أهلها.
حالهكان فريد دهره، ونسيج وحده في حسن المست والرواء،
وكما الظرف وجمال الشارة، وبراعة الخط، وطيب المجالسة، خاصياً، وقوراً، تام الخلق،
عظيم الأبهة، عذب التلاوة لكتاب الله، من أهل الدين والفضل والعدالة، تاريخاً،
مقيداً، طلعة اختيار أصحابه محققاً لما ينقله، فكها مع وقاره، غزلاً، لوذعياً، على
شأن الكتابة، جميل العشرة، أشد الناس على الشعر، ثم على المحافظة، ما يحفظه من
الأبيات من غير اعتيام ولا تنقيح، يناغي الملكين في إثباتها، مقررة التواريخ، حتى
عظم حجم ديوانه، تغردت أشعاره بما أبر على المكثرين مليح الكتابة، سهلها، صانعاً،
سابقاً في ميدانها، راجحاً كفة المنثور. وكانت له رحلة إلى تونس، اتسع بها نطاق روايته.
وتقلب بين الكتابة والقضاء، منحوس الحظ في الاستعمال، مضيقاً فيه، وإن كان وافر
الجد، موسعاً عليه.
وجرى ذكره في كتاب التاج المحلى بما نصه:==
الاحاطة 4.
كتاب : الإحاطة في أخبار
غرناطة
المؤلف : لسان الدين ابن الخطيب
خاتمة الحسنين، وبقية الفصحاء
اللسنين، ملأ العيون هدياً وسمتاً، وسلك من الوقار طريقة؛ لا ترى فيها عوجاً ولا
أمتاً، ما شئت من فضل ذات، وبراعة أدوات. إن خط، نزل ابن مقلة عن درجته وإن خط.
وإن نظم أو نثر، تبعت البلغاء ذلك الأثر. وإن تكلم أنصت الحفل لاستماعه، وشرع
لدرره النفيسة صدق أسماعة. وفد على الأندلس عند كاينة سبتة، وقد طرحت النوى
برحاله، وظعن عن ربعه بتوالي إمحاله، ومصرف بلاده، والمستولي على طارفها وتالدها،
أبو عبد الله بن الحيكم، قدس الله صداه، وسقى منتداه، فاهتز لقدومه اهتزاز الصارم،
وتلقاه تلقي الأكارم، وانهض إلى لقايه آماله، وألقى له قبل الوسادة ماله، ونظمه في
سمط الكتاب، وأسلاه عن أعمال الاقتاد، ونزل ذمامه تأكداً في هذه الدولة، وقوفي له
الآتية منها على الأول، فتصرف في القضاء بجهاتها، ونادته السيادة هاك وهاتها، فجدد
عهد حكامه العدول من سلفه وقضاتها. وله الأدب الذي تحلت بقلايده اللبات والنحور،
وقصرت عن جواهره البحور. وسيمر من ذلك في تضاعيف هذا المجموع ما يشهد بسعة ذرعه،
ويخبر بكرم عنصره، وطيب نبعه.
مشيختهقرأ على جده لأمه الأستاذ الإمام، أبي بكر بن
عبيدة الإشبيلي، وسمع على الرييس أبي حاتم، وعلى أخيه أبي عبد الله الحسين، وعلى
الأستاذ أبي إسحاق الغافقي، وعلى الشريف أبي علي بن أبي الشرف، وعلى الإمام أبي
عبد الله بن حريث. وسمع على العدل أبي فارس عبد العزيز الجزيري. وسمع بحضرة غرناطة
على الأستاذ أبي جعفر بن الزبير، وعلى العدل أبي الحسن بن مستقور وعلى الوزير أبي
محمد بن المؤذن، وعلى الخطيب أبي عبد الله بن رشيد. وبمالقة على الخطيب ولي الله
تعالى، أبي عبد الله الطنجالي، وعلى الوزير الصدر أبي عبد الله ابن ربيع، وعلى
القاضي العدل أبي عبد الله بن برطال. وبيجاية على الإمام أبي علي ناصر الدين
المشذالي، وعلي أبي العباس الإبريني. وبتونس على أبي علي بن علوان، وعلى قاضي الجماعة
أبي إسحاق بن عبد الرفيع، وسمع على الخطيب الصوفي ولي الله تعالى، أبي جعفر
الزيات، والصوفي أبي عبد الله بن برطال، وعلى الصدر أبي القاسم محمد بن قايد
الكلاعي. وأجازه علام كثير من أهل المشرق والمغرب.
؟؟
شعره
وشعره متعدد الأسفار، كثير
الأغراض. وفي الإكثار مجلل الإختيار. فمنه قوله:
أخذت بكظم الروح يا ساعة النوى ... وأضرمت في طي الحشى
لا عج الجوى
فمن مخبري يا ليت شعري متى اللقا ... وهل تحسن الدنيا
وهل يرجع الهوى
سلا كل مشتاق وأكثر وجده ... وعند النوى وجدي وفي ساكن
الهوى
ولي نية ما عشت في عهدهم ... إلى يوم ألقاهم وللمرء ما
نوى
وقال:
باتوا فمن كان باكياً يبك ... هذي ركاب الشرى بلا شك
فمن ظهور الركاب معملة ... إلى بطون الربى إلى الفلك
تصدع الشمل مثلما انحدرت ... إلى صبوب جواهر السلك
كن بالذي حدثوا على ثقة ... ما في حديث الفراق من إفك
من النوى قبل لم أزل حذراً ... هذا النوى جل من مالك
الملك
وقال:
يا أيها المعرض اللاهي ... يسوءني هجرك والله
فيا ليت شعري كم أرى فيك ... لا أقفك عن ويه وعزاه
ويحيى مغيري إلى باخل واه ... من ذا الذي رآه
من يرد الله في فتنة ... يشغله في الدنيا بتياه
يا غصن البان ألا عطفة ... على معني جسمه واه
أو سعني بعدك ذلاً وقدراً ... يثنى عندك ذا جاه
ذكرك لا ينفك عن خاطري ... وأنت عني غافل ساه
يكفيك يا عثمان من جفوني ... لو كان ذنبي ذنب جهجاه
هيهات لا معترض لي على ... حكمك أنت الآمر الناه
قلت جهجاه المشار إليه رجل من غفار قيل إنه تناول عصا
الخطبة من يد عثمان رضي الله عنه، فكسرها على ركبته، فوقعت فيها الأكلة فهلك.
وقال:
يا من أعاد صباحي فقده حلكا ... قتلت عبدك لكن لم تخف
دركا
مصيبتي ليست كالمصائب لا ... ولا بكائي عليها منث لكل
بكا
فمن أطالب في شرع الهوى بدمي
... لحظى ولحظك في قتلي قد اشتركا
وقال، وقد سبقه إليه الرصافي؛ وهو ظريف:
أشكو إلى الله فرط بلبالي ... ولوعة لا تزال تذكى لي
بمهجتي حايك شغلت به ... حلو المعاني طرازه عالي
سألته لثم خاله فأبي ... ومن ذا نخوة وإلال
وقال حالي يصون خالي ... يدني فويحي بالحال والحال
يقربني الآل من مواعده ... وأتقي منه سطوة الآل
لكن على ظلمه وقسوته ... فلست عنه المان بالسالي
وقال أيضاً مضمناً:
لي همة كلما حاولت أمسكها ... على المدلة في أرجاء
أرضيها
قالت ألم تكن أرض الله واسعة ... حتى يهاجر عبد مؤمن
فيها
وقال مسترجعاً من ذنبه، ومستوحشاً من شيبه:
قد كان عيبي من قبل في غيب ... فمذ بدا شيبي بدا عيبي
لا عذر اليوم ولا حجة ... فضحتني والله يا شيبي
وقال:
أثقلتني الذنوب ويحي وويسي ... ليتني كنت زاهداً كأويس
وجرت بينه وبين السلطان ثالث الأمراء من بين نصر، بعد
خلعه من ملكه، وانتثار سلكه، واستقراره بقصبة المنكب، غيباً من قومه، معوضاً
بالسهاد من نومه، قد فل الدهر سباته، وتركه يندب ما فاته، والقاضي المترجم به
يومئذ، مدبر أحكامها، وعلم أعلامها، ومتولي نقضها، وإيرامها، فارتاح يوماً إلى
إيناسه، واجتلاب أدبه والتماسه، وطلب منه أن يعبر عن حاله ببيانه، وينوب في بثه عن
لسانه، فكتنب إليه:
قفا نفساً فالخطب فيها يهون ... ولا تعجلا إن الحديث
شجون
علمنا الذي قد كان من صرف دهرنا ... وسنا على علم بما
سيكون
ذكرنا نعيماً قد تقضى نعيمه ... فأقلقنا شوق له وحنين
وبالأمس كنا كيف شئنا وللدنا ... حراك على أحكامنا وسكون
وإذا بابنا مثوى الفؤاد ونحونا ... تمد رقاب أو تشير
عيون
فنغص من ذاك السرور مهنأ ... وكدر من ذاك النعمي معين
ونبا عن الأوطان بين ضرورة ... وقد يقرب الإنسان ثم يبين
أيا معهد الإسعاد حييت معهداً ... وجادك من سكب الغمام
هتون
تريد الليالي أن تهين مكاننا ... رويدك إن الخير ليس
يهون
فإن تكن الأيام قد لعبت بنا ... ودارت علينا للخطوب فنون
فمن عادة الأيام ذل كرامها ... ولكن سبيل الصابرين مبين
لئن خاننا الدهر الذي كان عبدنا ... فلا عجب إن العبيد
تخون
وما غض منا مخبرى غير أنه ... تضاعف إيمان وزاد يقين
وكتب إلى الحكم بن مسعود، وهو شاهد المواريث بهذه الدعابة
التي تستخف الوقور، وتلج السمع الموقور:
أطال الله بقاء أخي وسيدي،
لأهل الفرايض، يحسن الاحتيال في مداراتهم، وللمنتقلين إلى الدار الآخرة يأمر
بالاحتياط في أمواتهم، ودامت أقلامه مشرعة لصرم الأجل المنسأ، معدة لتحليل هذا
الصنف المنشأ من الصلصال والحمأ. فمن ميت يغسل وآخر يقبر، ومن أجل يطوى،
وكفن ينشر، ومن رمس يفتح، وباب يغلق. ومن عاصب يحبس، ونعش يطلق. فكلما خربت ساحة،
نشأت في الحانوت راحة. وكلما قامت في شعب مناحة، اتسعت للرزق مساحة. فيباكر سيدي
الحانوت، وقد احتسى مرقته، وسهل عنقفته، فيرى الصعبة بالمناصب شطراً. فيلحظ هذا
برفق، وينظر إلى هذا شزراً. ويأمر بشق الجيوب تارة، والبحث عن الأوساط أخرى. ثم يأخذ
القلم أخذاً رفيقاً. ويقول وقد خامره السرور، رحم الله فلاناً، لقد كان لنا
صديقاً، وربما أدبره بالانزعاج الحثيث، وقال مستريح منه كما جاء في الحديث. وتختلف
عند ذلك المراتب، وتتبين الأصدقاء والأجانب، فينصرف هذا، وحظه التهذيب، والنظر
الحديد، وينفصل هذا، وبين يديه المنذر الصيت، والنعش الجديد. ثم يغشى دار الميت
ويسل عن الكيت والكيت، ويقول علي بما في البيت. أين دعاء الثاغبة والراغية. أين عقود
الأملاد بالبادية. وقد كانت لهذا الرجل حالاً في حال. وقد ذكر في الأسماء الخمسة
فقيل ذو مال. وعيون الأعوان ترنوا من عل، وأعناقهم تشريب إلى خلف الكلل، وأرجلهم
تدب إلى الأسفاط دبيب الصقور إلى الحجل. والموتى قد وجبت منهم الجنوب، وحضر
الموروث والمكسوب. وقيد المطعوم والمشروب. وعدت الصحاح. ووزنت الأرطال، وكيلت
الأقداح. والشهود يغلظون على الورثة في الشالية ويصونهم بالبتات في النشأة الأولية. والروائح حين
تفعم الأرض طيباً، وتهدي الأرواح شذاً يفعل في إزعاجها على الأبدان فعلاً عجيباً.
والدلال يقول هذا مفتاح الباب. والسمسار يصيح قام الندا فما نتنظرون بالثبات.
والشاهد يصيح فتعلوا صيحته، والمشرف يشرب فتسقط سبحته. والمحتضر يهس ألا حي فلا
تسمعون ويباهي لون العباء عليه الجواب رب أرجعون. ما هذا النشيج والضجيج. مت كلا
لم أمت. ومن حج له الحجيج. فترتفع له الأصوات، كي لا يفسح فيه الممات. ويبقر بطنه
برغمه، ويحفر له بجانب أبيه وبحذا أمه. ثم يشرع في نفسه الفرض، ولو أكفئت السوات
على الأرض. ويقال لأهل السهام، أحسنوا، فالإحسان ثالث مراتب الإسلام. وقد نص ابن
القاسم على أجرة القاسم. وسوغه أصبغ وسحنون، ولم يختلف فيه مطرف وابن الماجشون. إن
قيل إيصال الحقائق إلى أرجايها، حسن فجزاه الإحسان إحسان. وقيل إخرج النسب والكسور
كفاية، فللكاهنين حلوان. اللهم غفراً، ونستقيل الله من انبساط يجر غدراً، ونسل
الله حمداً يوجب المزيد من نعمايه وشكراً. ولولا أن أغفل عن الخصم، وأثقل رحل
الفقيه أبي النجم، لأستغلن المجلس شرحاً، ولكان لنا في بحر المباسطة سبح، ولأفضنا
في ذكر الوارث والوراث. وبينا العلة في أقسام الشهود، مع المشتغل بنسبة الذكور مع
الأناث. والله يصل عز أخي ومجده، ويهب له قوة تخصه بالفايدة، وجدهن ويزيده بصيرة
يتبع بها الحقوق إلى أقصاها، وبصراً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ودام
يحصى الخراريب والفلوس والأطمار، ويملأ الطوامر بأقلامه البديعة الصنعة، ويصل
الطومار بالطومار والسلام.
والشيء بالشيء يذكر، قلت، ومن أظرف ما وقعت عليه في هذا المعنى.
قال بعض كتاب الدولة الحكمية بمنورقة، وقد ولاه خطة المواريث، وكتب إليه راغباً في
الإعفاء:
وما نلت من شغل المواريث رقعة سوى شرح نعش كلما مات ميت
وأكتب للأموات صكاً كأنهم ... يخاف عليهم في الجباب
التفلت
كأني لعزرائيل صرت ماقضاً ... بما هو يمحو كل يوم وأثبت
وقال، فاستظرفها الرييس أبو عثمان بن حكم وأعفاه.
مولده: في أواخر أربعة وسبعين وستماية.
وفاتهقال في العايد، ومضى لسبيله، شهاباً من شهب هذا
الأفق، وبقية من بقايا حلبة السبق، رحمه الله، في ليلة السبت الثاني من شهر شعبان
المكرم عام سبعة وأربعين وسبعماية، وتخلف وقراً لم يشتمل على شيء من الكتب،
لإيثاره اقتناء النقدين، وعين جراية لمن يتلو كتاب الله على قبره على حد من
التعزرة والمحافظة على الإتقان. ودفن بباب إلبيرة في دار اتخذها لذلك.
محمد بن أحمد بن قطبة الدوسيمن أهل غرناطة، يكنى أبا
القاسم.
حاله
مجموع خلال بارعة، وأوصاف
كاملة، حسن الخط، ذاكر للتاريخ والأخبار، مستول على خصال حميدة من حسن رواء وسلامة
صدر، إلى نزاهة الهمة، وإرسال السجية، والبعد عن المصانعة، والتحلي بالوقار
والحشمة، شاعر، كاتب. ومناقبه يقصر عنها الكثير من أبناء جنسه، كالفروسية،
والتجند، والبسالة، والرماية، والسباحة، والشطرنج، متحمد بحمل القنا، مع البراعة،
مديم على المروءة، مواس للمحاويج من معارفه. ارتسم في الديوان فظهر غناؤه، وانتقل
إلى الكتابة، معززة بالخطط النبيهة العلمية، وحاله الموصوفة متصلة إلى هذا العهد،
وهو معدود من حسنات قطره.
وثبت في التاج المحلى بما نصه: سابق ركض المحلى، أتى من
أدواته بالعجايب، وأصبح صدراً في الكتاب، وشهماً في الكتايب. وكان أبوه رحمه الله،
بهذه البلدة، قطب أفلاكها، وواسطة أسلاكها، ومؤتمن روسايها وأملاكها، وصدر رجالها،
وولي أرباب مجالها، قد نثل ابنه سهامها، فخبر عدالة وبراعة وفهماً، وألقاه بينهم
قاضياً شهماً، فظهر منه نجيباً، ودعاه إلى الجهاد سميعاً مجيباً، فصحب السرايا
الغريبة المغيرة، وحضر على هذا العهد من الوقايع الصغرة والكبيرة، وعلى مصاحبة
البعوث، وجوب السهول والوعوث، فما رفض اليراعة الباتر، ولا ترك الدفاتر للزمان
الفاتر.
شعرهوله أدب بارع المقاصد قاعد للإجادة بالمراصد، وقال
من الروضيات وما في معناها:
ِدعيني ومطلول الرياض فإنني ... أنادم في بطحايها الآس
والوردا
أعلل هذا بخضرة شارب ... وأحكي بهذا في تورده الخدا
وأزهر غض البان رايد نسبة ... ذكرت به لين المعاطف
والقدا
وقال:
يومنا يوم سرور فلتقم ... تصدع الهم بكاسات المدام
إنما الدنيا منام فلتكن ... مغرماً فيها بأحلى المنام
وقال:
وبي منك ما لو كان للشرب ماصحاً ... وبالهيم ماروت صداها
المناهل
أحبك ما هبت من الروض نسمة ... وما اهتز غصن في الحديقة
مايل
فإن شئت أن تهجر وإن شئت فلتقبل فإني لما حملتني اليوم
حامل
وقال:
كم قلت للبدر المنير إذ بدا ... هيهات وجه فلانة تحكي
لنا
فأجابني بلسان حال واعتنى ... لا الشمس تحكيها فأحكيها
أنا
وصرفت وجهي نحو غصن أملد ... قد رام يشبه قدها لما انثنا
فضحكت هزءاً عند هز قوامها ... إذا رام أن يحكى قواماً
كالقنا
وكتب إليه في غرض يظهر من الأبيات:
جوانحنا نحو اللقاء جوانح ... ومقدار ما بين الديار قريب
وتمضي الليالي والتزاور معوز ... على الرغم منا وإن ذا
لغريب
فديتك عجلها لعيني زيارة ... ولو مثل ما رد اللحاظ مريب
وإن لقائي جل عن ضرب موعد ... لأكرم ما يهدي الأريب أريب
فراجعني بقوله، والتجني شيمة:
لعمرك ما يومي إذا كنت حاضراً ... سوى يوم صب من عداه
يغيب
أزور فلا ألفي لديك بشاشة ... فيبعد مني الخطو وهو قريب
فلا ذنب للأيام في البعد بيننا ... فإني لداعي القرب منك
مجيب
وإن لقاء جاء من غير موعد ... ليحسن لاكن مرة ويطيب
وإجسانة كثير، وفيما ثبت كفاية ليلا نخرج عن غرض
الاختصار.
محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدوسييكنى محمد أبا بكر،
أخو الذي قبله.
حاله
تلوه في الفضل والسراوة، وحسن
الصورة ونصاعة الطرف مرب عليه بمزيد من البشاشة والتنزل، وبذل التودد، والتبريز في
ميدان الانقطاع، متأخر عنه في بعض خلال غير هذا. ذكي الذهن، مليح الكتابة، سهلها،
جيد العبارة متأتي اليراع، مطلق اليد، حسن الخط، سريع بديهة المنثور، معم، مخول في
التخصص والعدالة. كتب الشروط بين يدي أبيه، ونسخ كثيراً من أمهات الفقه، واستظهر
كتباً، من ذلك المقامات الحريرية. وكتب بالدار السلطانية، واختص بالمراجعة عمن
بها، والمفاتحة أيام حركات السلطان عنها إلى غيرها. حميد السيرة، حسن الوساطة، نجدي
الجاه، مشكور التصرف، خفيف الوطأة. وولي الخطابة العلية. مع الاستمساك بالكتابة.
ولم يؤثر عنه الشعر، ولا عول عليه.
محمد بن محمد بن محمد بن قطبة الدوسييكنى أبا بكر، وقد
ذكرنا أباه وعمه، ويأتي ذكر جده.
حالهنبيل المقاصد في الفن الأدبي، مشغول به، مفتوح من
الله عليه فيه شاعر مطبوع مكثر انقاد له مركب النظم، في سن المراهقة، واشتهر
بالإجادة، وأنشد السلطان، وأخذ الصلة، وارتسم لهذا العهد في الكتابة. وشرع في
تأليف يشتمل على أدباء عصره.
شعرهومما خاطب به أحد أصحابه:
إذا شمت من نحو الحمى في الدجا برقا ... أبي الدمع إلا
أن يسيل ولا يرقى
ومهما تذكرت الزمان الذي مضى ... تقطعت الأحشاء من حر ما
ألقى
خليلي لا تجزع لمحل فأدمعي ... تبادر سقياً في الهوى لمن
استسقى
وما ضر من أصبحت ملك يمينه ... إذا رق لي يوما وقد حازني
رقا
فنيت به عشقا وإن قال حاسد ... أضل الورى من مات في هاجر
شقا
تلهب قلبي من تلهب خده ... فيا نعم ذاك الخد فاض بأن
أشقى
ومنها:
وكم من صديق كنت أحسب أنه ... إذا كذبت أوهامنا رفع
الصدقا
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدوسيابن عم
المذكورين قبله، يكنى أبا القاسم.
حالهحسن الصورة، لازم القراءة على شيوخ بلده، ونظم الشعر
على الحداثة، وترشح للكتب بالدار السلطانية مع الجماعة، ممن هو في نظمه.
ومن شعره، كتب إلي بما نصه:
أحسب وحده يوم رأسك ربما ... تعطى السلامة في الصراع
سلماً
محمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن قطبة الدوسيأخو الفقيه
أبي بكر بن القاسم بن محمد المذكور
حالهشاب حسن فاضل، دمث، متخلق، جميل الصورة، حسن الشكل،
أحمر الوجنتين. حفظ كتبا من المبادي النحوية، وكتب خطا حسنا، وارتسم في ديوان
الجند مثل والده، وهو الآن بحاله الموصوفة.
شعرهقيد أخوه لي من الشعر الذي زعم أنه من نظمه، قوله:
حلفت بمن ذاد عني الكرى ... وأسهر جفني ليلاً طويلا
وألبس جسمي ثياب النحول ... وعذب بالهجر قلبي العليلا
ما حلت عن وده ساعة ... ولا اعتضت منه سواه بديلا
ابن جزى الكلبيمحمد بن محمد بن محمد بن أحمد بن عبد الله
بن يحيى ابن عبد الرحمن بن يوسف بن جزى الكلبي، من أهل غرناطة وأعيانها، يكنى أبا
عبد الله.
أوليتهتنظر في اسم أبيه في ترجمة المقريين والعلماء.
حالهمن أعلام الشهرة على الفتاوة. وانتشار الذكر على
الحداثة. تبريزاً في الأدب، واضطلاعا بمعاناة الشعر، وإتقان الخط، وإيضاحاً
للأحاجي والملغزات. نشأ بغرناطة في كنف والده رحمه الله، مقصور التدريب عليه،
مشاراً إليه في ثقوب الذهن؛ وسعة الحفظ، ينطوي على نبل لا يظهر أثره على التفاتة،
وإدراك، تغطجي شعلته مخيلة غير صادقة، من تغافله. ثم جاش طبعه، وفهق حوضه، وتفجرت ينابيعه،
وتوقد إحسانه.
ولما فقد والده، رحمه الله،
ارتسم في الكتابة، فبذ جلة الشعراء، إكثارا واقتدارا، ووفور مادة، مجيدا في
الأمداح، عجيباً في الأوضاع، صديقاً في النسيب، مطبوعا في المقطوعات، معتدلا في الكتابة،
نشيط البنان، جلداً على العمل، سيال المجاز، جموح عنان الدعابة، غزلا، مؤثرا
للفكاهة، انتقل إلى المغرب لشفوف خصله، على ما قد قصم الحظوظ. سبحانه من
رزقه بهذه البلاد. فاستقر بباب ملكه. مرعى الجناح، أثير الرتبة. مطلق الجراية،
مقرر السهام، معتبا وطنه راضيا عن جيرته. ديدن من يستند إلى قديم، ويتحيز إلى
أصالة.
تواليفهأخبرني عند لقايه أياي بمدينة فاس في غرض الرسالة،
عام خمس وخمسين وسبعماية، أنه شرع في تأليف تاريخ غرناطة، ذاهباً هذا المذهب، الذي
انتدبت إليه، ووقفت على أجزاء منه تشهد باضطلاعه، وقيد بخطه من الأجزاء الحديثة
والفوايد والأشعار ما يفوت الوصف، ويفوق الحد. وجرى ذكره في التاج بما نصه: شمس في
البلاغة بازغة، وحجة على بقاء الفطرة الغريزية في هذه البلاد الغربية بالغة،
وفريدة وقت أصاب من فيها نادرة أو نابغة، من جذع ابن علي القادح، وجرى من المعرفة
كل بارح، لو تعلقت الغوامض بالثريا لنالها، وقال أنا لها. وربما غلبت الغفلة على
ظاهره، وتنطفق أكمامها على أزاهره، حتى إذا قدح في الأدب زنده، تقدم المواكب بنده،
إلى خط بارع، يعنو طوال الطويل منه إلى سر وبراعة، كما ترضى المسك والكافور عن طرس
وحبر.
شعرهفمن غرامياته وما في معناها قوله:
متى يتلاقى شايق ومشوق ... ويصبح عير الحب وهو طليق
أما أنها أمنية عز نيلها ... ومرمى لعمري في الرجا سحيق
ولكني خدعت قلبي تعلة ... أخاف انصداع القلب فهو رقيق
وقد يرزق الإنسان من بعد يأسه ... وروض الربى بعد الذبول
يروق
تباعدت لما زادني القرب لوعة ... لعل فؤادي من جواه يفيق
ورمت شفاء الداء بالداء مثله ... وإني بألا أشتفي لحقيق
وتالله ما للصب في الحب راحة ... على كل حال إنه لمشوق
ويا رب قد ضاقت علي مسالكي ... فها أنا في بحر الغرام
غريق
ولا سلوة ترجى ولا صبر ممكن ... وليس إلى وصل الحبيب
طريق
ولا الحب عن تعذيب قلبي ينثني ... ولا القلب للتعذيب منه
يطيق
شجمن يضق الصدر عن زفراتها ... وشوق نطاق الصبر عنه يضيق
نثرت عقود الدمع ثم نظمتها ... قريضاً فذا در وذاك عقيق
بكيت أسى حتى بكى حاسدي معي ... كأن عذولي عاد وهو صديق
ولو أن عند الناس بعض محبتي ... لما كان يلقى في الأنام
مفيق
أيا عين كفى الدمع ما بقى الكرى ... إذا منعوك النوم سوف
تذوق
ويا نايماً عن ناظري أما ترى ... لشمسك من بعد الغروب
شروق
رويدك رفقاً بالفؤاد فإنه ... عليك وإن عاديته لشفيق
نقضت عهودي ظالما بعد عقدها ... إلا إن عهدي كيف كنت
وثيق
كتمتك حبي يعلم الله مدة ... وبين ضلوعي من هواك حريق
فما زلت بي حتى فضحت فإن أكن ... صبرت بعد اليوم لست
أطيق
وقال:
ومورد الوجنات معسول اللمى ... فتاك بلحظ العين في عشاقه
الخمر بين لثاته والزهر في ... وجناته والسحر في أحداقه
ينادي غصن البان في أثوابه ... ويلوح بدر التم في أطواقه
من للهلاك بثغره أو خده ... هب أنه يحكيه في إشراقه
ولقد تشبهت الظبا بشبهة ... من خلقه وعجزن عن أخلاقه
نادمته وسناً محياً الشمس قد ... ألقى على الآفاق فضل
رواقه
في روضة ضحكت ثغور أقاحها ... وأمال فيها المزن من آماقه
أسقيه كأس سلافة كالمسك في ... نفحاته والشهد عند مذاقه
صفراء لم يدر الفتى أكواسها
... إلا تداعى همه لفراقه
ولقد تلين الصخر من سطواته ... فيعود للمعهود من أشفاقه
وأظل أرشف من سلافة ثغره ... خمراً تداوي القلب من
إحراقه
ولربما عطقته عندي نشوة ... فشقى الخيال بضمه وعناقه
أرجو نداه إذا تبسم ضاحكا ... وأخاف منه العتب في إطراقه
أشكو القساوة من هواى وقلبه ... والضعف من جلدي ومن
ميثاقه
يا هل لعهد قد مضى من عودة ... أم لا سبيل بحالة للحاقه
يا ليت شعري لو كانت لذلك حيلة ... أو كان يعطى المرء
باستحقاقه
فلقد يروق الغصن بعد ذبوله ... ويتم بدر التم بعد محاقه
ومما اشتهر عنه في هذا الغرض:
ذهبت حشاشة قلبي الصدوع ... بين السلام ووقفه التوديع
ما أنصف الأحباب يوم وداعهم ... صباً يحدث نفسه برجوع
أتجد بغيثك يا غمام فإنني ... لم أرض يوم البين قل دموع
من كان يبكي الظاعنين بأدمع ... فأنا الذي أبكيهم بنجيع
إيه وبين الصدر منى والحشا ... شجن طويت على شجاه ضلوع
هات الحديث عن الذين تحملوا ... واقدح بزند الذكر نار
ولوع
عندي شجون في التي جنت النوى ... أشكو الغداة وهن في
توديع
ليت الذي بيني وبين صبابتي ... بعد الذي بيني وبين هجوع
يا قلب لا تجزع لما فعل النوى ... فالحر ليس لحادث بجزوع
أبعد ما غودرت في أشراكه ... تبغي النزوع ولات حين نزوع
ومهفهف مهما هبت ريح الصبا ... أبدت له عطفاه عطف مطيع
جمع المحاسن وهو منفرد بها ... فاعدب لحسن مفرد مجموع
والشمس لولا إذنه ما آذنت ... خجلا وإجلالاً له مطلوع
ما زلت أسقى خده من أدمعي ... حتى تفتح عن رياض ربيع
إن كان يرنو عن نواظر شادن ... فلرب ضرغام بهن صريع
عجباً لذاك الشعر زاد بفرقه ... حسنا كحسن الشعر
بالتصريع
منع الكرى ظلما وقد منع الصفا ... فشقيت بالممنوح
والممنوع
جردت ثوب العز عني طائعاً ... أتراه يعطفه على خضوع
لم أنتفع لبسا من الملبوس في ... حبي ولا بعذارى المخلوع
بجماله استشفعت في إجماله ... ليحوز أجر منعم وشفيع
يا خادعي عن سلوتي وتصبري ... لولا الهوى ما كنت
بالمخدوع
أوسعتني بعد الوصال تفرقا ... وأثبتني سوءاً لحين صنيع
أسرعت فيما ترتضي فجزيتني ... بطويل هجران إلى سريع
أشرعت رمحا من قوامك دايلاً ... فمنعت من ماء الرضاب
شروعي
خذ من حيث تولعي وتولهي ... خبراً صحيحاً ليس بالمصنوع
يرويه خدي مسندا عن أدمعي ... عن مقلتي عن قلبي المصدوع
كم من ليال في هواك قطعتها ... وأنا لذكراهن في تقطيع
لا والذي طبع الكرام على الهوى ... وبر سوا أن الهوى
المطبوع
ما عيرتني الحادثات ولم أكن ... بمذيع سر للعهود مضيع
لا خير في الدنيا وساكنها معا ... إن كان قلبي منك غير
جميع
وقال في غير ذلك في غرض يظهر من الأبيات:
وقالوا عداك البخت والحزم عندما ... غدوت غريب الدار
منزلك الفنت
ألم يعلموا أن اغترابي حرامة ... وأن ارتحالي عن دارهم
هو البخت
نعم لست أرضى عن زماني أو أرى ... تهادي السفن المواخر
والبخت
لقد سيمت نفسي المقام ببلدة بها العيشة النكراء والمكسب
السحت
يذل بها الحر الشريف لعبده
... ويجفوه بين السمت من سنة ست
إذا اصطافها المرء اشتكى من سمومها ... أذى ويرى فيه
أداً يبت
ولست كقوم في تعصبهم عتوا ... يقولون بغداد لغرناطة أخت
رغبت بنفسي أن اساكن معشراً ... مقالهم زور وودهم مقت
يدسون في لين الكلام دواهياً ... هي السم بالآل المشود
لهالت
فلا در در القوم إلا عصيبة ... إلي بإخلاص المودة قد
متوا
وآثرت أقواماً حمدت جوارهم ... مقالهم صدق وودهم بحت
لهم عين عيان الفاحشات إذا بدت ... تعام وعن ما ليس
يعينهم صمت
فما ألفوا لهوا ولا عرفوا خنى ... ولا علموا أن الكروم
لها بنت
به كل مرتاح إلى الضيف والوغى ... إذا ما أتاه منهما
النبأ البغت
وأشعث ذي طمرين أغناه زهده ... فلم يتشوف للذي ضمه التخت
صبور على الإيذاء بغيض على العدا ... معين على ما يتقي
جاشه الشت
ولي صاحب مثلي يمان جعلته ... جليسي نهاراً أو ضجيعي إذا
بت
وأجرد جرار الأعنة فارح ... كميت وخير الخيل قداحها
الكمت
نسامت به الأعراق في آل أعوج ... ولا عوج في الخلق منه
ولا أمت
وحسبي لعضات النوائب منجدا عليها الكميت الهند والصارم
الصلت
قطعت زماني خبرة وبلوته ... فبالغدر والتخفيف عندي له
نعت
ومارست أبناء الزمان مباحثا ... فأصبح حبلي منهم وهو
منبث
وذي صلف يمشي الهوينا ترفقا ... على نفسه كيلا يزايلها
السمت
إذا غبت فهو المروة القوم عندهم ... له الصدر من ناديهم
وله الدست
وإن ضمني يوما وإياه مشهد ... هو المعجم السكيت والعمة
الشخت
فحسبي عداتي أن طويت مآربي ... على عزمهم حتى صفا لهم
الوقت
وقلت لدنياهم إذا شئت فاغربي ... وكنت متى أعزم فقلبي هو
البت
وأغضيت عن زلاتهم غير عاجز ... فماذا الذي يبغونه لهم
الكبت
وقال:
لا تعد ضيفك إن ذهبت لصاحب ... تعتده لكن تخير وانتق
أو ما ترى الأشجار مهمار كبت ... إن خولفت أصنافها لم
تغلق
ومنه في المقطوعات:
وشادن تيمنى حبه ... حظى منه الدهر هجرانه
ورد الخدين حلو اللمى ... أحمر مضني الطرف وسنانه
لم تنطو الأغصان في الروض بل ... ضلت له نسجد أغصانه
يا أيها الظبي الذي قلبه ... تضرم في القلب نيرانه
هل عطفة ترجى لصب شبح ... ليس يرجى عنك سلوانه
يود أن لو زرته في الكرى ... لو متعت بالنوم أجفانه
قد رام أن يكتب ما نابه ... والحب لا يمكن كتمانه
فأفضيت أسراره واستوى ... إسراره الآن وإعلانه
وقال:
نهار وجه وليل شعر ... بينهما الشوق يستثار
قد طلبا بالهوى فؤادي ... فأين لي عنهما الفرار
وكيف يبغى النجاة شيء ... يطلبه الليل والنهار
وقال في الدوبيت:
زارت ليلا وأطلعت فجرها ... صبحاً فجمعت بين صبح وظلام
لما بصرت بالشمس قالت يا فتى ... جمع الإنسان بين
الأختين حرام
وقال في غرض التورية:
أبح لي في رياض المحاسن نظرة ... إلى ورد ذاك الخد أروى
به الصدى
وبالله لا تبخل علي بعطفة ... فإني رأيت الروض يوصف
بالندا
وقال:
وعاشق صلى ومحرابه ... وجه عزال ظل يهواه
قالوا تعبد فقلت نعم ... تعبداً يفهم معناه
وقال هو مليح جداً:
وصديق شكى بما حملوه ... من قضاء يقضى بطول العناء
قلت فاردد ما حملوك عليهم ...
قال من يستطع رد القضاء
لسانان هجيا من خاصماه ... لسان الفتى ولسان القضاء
إذا لم تحز واحداً منهما ... فلست أرى لك أن تنطقا
وقال:
تلك الذؤابة ذبت من شوقي لها ... واللحظ يحميها بأي سلاح
يا قلب فانجح لا إخال ناجياً ... من فتنة الجعدي والسفاح
وإحسانه كثير. ويدل بعض الشيء على كله. ويحجر طل الغيث
على وبله.
وفاتهاتصل بنا خبر وفاته بفاس مبطوناً في أوايل ثمانية
وخمسين وسبعماية. ثم تحققت أن ذلك في آخر شوال من العام قبله.
ابن الحكيم اللخميمحمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن
إبراهيم ابن يحيى بن محمد بن الحكيم اللخمي، يكنى أبا القاسم.
حالهمن كتاب عائد الصلة: فرع دوحة الأصالة والخصوصية،
والعلم والدين، والمكانة والجلالة، مجلي بيته. ومجدد مآثره براً، ومجاملة، وخيرية.
نشأ بأطراف جملته من الفنون، من حساب وفريضة وأدب وقراءة ووثيقة، إلى خط حسن، وأدب
تكفله، حتى انقاد له أو كاد. أعبط في وقيعة الطاعون قاضياً ببعض الجهات. وكاتباً للدار
السلطانية، فكانت فيه الفجيعة عظيمة.
وجرى ذكره في التاج المحلى بما نصه: من فروع مجد وجلالة،
ورث الفضل لا عن كلالة. أشرف، مجيد، معظم، مخول في العشيؤة، وصل لباب المجد بفرايد
الخلال الأثيرة، وأصبح طرفاً في الخير والعفاف، واتصف من العدالة بأحسن اتصاف،
وسلك من سنن سلفه، أثر هذا، لا يزال يرشده ويدله، ويسدده فيما يعقده أو يحله،
واتسم بميسم الحيا، والحيا خير كله، إلى نزاهة لا ترضي بالدون، ونجابة تتهالك في
صون الفنون. وطمح في هذا العهد إلى نمط في البلاغعة رفيع، وجنح إلى مساجلة ما يستحسنه من
مخترع وبديع، وصدرت منه طرف تستملح، وتستحلي إذا استحلى. ونحن نورد ما أمكن من
آياته، ونجلي بعض غرره وشياته.
شعرهومن مقطوعات آياته:
وهبت فهزت عند ما رأت به ... الطلا مثل الطفل يرضع في
المهد
والروض حياه المزن خلعة برقة ... وباتت رباه من حباه على
وعد
يحدثنا عن كرمها ما من مزنها ... فتبدي ابتسام الزهر في
لثمة الخد
عجبنا لما رأينا من برها ... بدور حباب الكأس تلعب
بالنرد
وقال:
شربنا وزبحى الدياجي موقد ... مصابيح من زهر النجوم
الطوالع
عقاراً رأته حين أقبل حالكاً ... فجاءت بمصفر من اللون
فاقع
عجبت لها ترتاع منه وإنها ... لفي الفرقد قرت لدم
المدامع
وقال:
لاح في الدر العقيق فحيا ... أم مزاج أداه صرف المحيا
من بنات الكروم والروم بكرا ... أقبلت ترتدي حياً يهيا
خلتها والحباب يطفو عليها ... شفقاً فوقه نجوم الثريا
قهوة كالعروس في الكأس تجلى ... صاغ من لؤلئها المزج حليا
وقال:
ويوم أنس صقيل الجو ذي نظر ... كأنه من وميض البرق قد
خلقا
ما زلت فيه لشمس الطست مصطحباً ... وبالنجوم وبالأكواس
مغتبقا
صفراء كالعسجد المسبسوك إن ... شربت تبدي احمراراً على
الخدين مؤتلقا
كذلك الشمس في أخرى عشيتها ... إذا توارت أثارت بعدهها
شفقا
وقال:
بنفسي حبيب صال عامل قده ... علي ولما ينعطف وهو كالغصن
ويا عدباً منه متى صار ذابلا ... ونضرته تنار عن حوطة
اللدن
وأعجب من ذا أن سيف لحاظه ... يمزق أفلاذ الحشى وهو في
الجفن
وقال:
يأبى وغير أبي غزال نافر ... بين الجوانح يغتدي ويروح
قمر تلألأ واستنار حبيبه ... غارت به بين الكواكب بوح
لم يرض غير القلب منزلة فهل ... يا ليت شعري بالذراع
يلوح
ومما نسب لنفسه وأنشدنيه:
ليل الشاب انجاب أول وهلة ... عن صبح شيب لست عنه براض
إن سرني يوماً سواد خضابه ... فنصوله عن ساق ببياض
هلا اختفى فهو الذي سرق الصبا
... والقطع في السرقات أمر ماض
فعليه ما استطاع الظهور بلمتي ... وعلي أن ألقاه
بالمقراض
وفاتهتوفي رحمه الله بغرناطة في السابع عشر شهر ربيع
الآخر عام خمسين وسبعمائة، في وقيعة الطاعون، ودفن بباب إلبيرة رحمة الله عليه.
ابن محمد اللوشي اليحصبيمحمد بن محمد بن عبد الله بن
محمد بن محمد بن علي ابن محمد اللوشي اليحصبي، يكنى أبا عبد الله ويعرف باللوشي
أوليتهمن لوشة. وقرأ العلم بها، وتعرف بالسلطان الغالب
بالله محمد قبل تصير الملك له وتقدم عنده. تضمن ذكره الكتاب المسمى بطرفة العصر في
أخبار بني نصر، وتقرر ذلك في حرف الحاء في اسم أبي عمر اللوشي، كاتب الدولة
النصرية رحمه الله.
حالهمن كتاب عايد الصلة. كان رحمه الله من أهل الحسب
والأصالة، شاعراً، مداحا. نشأ مدللاً في حجور الدولة النصرية، خفيفاً على أبوابها،
مفضلاً على مداحها. ثم تجنى بآخره، ولزم طوراً من الخمول في غير تشك، أعرض به عن
أرباب الدنيا، وأعرض عنه، واقتصر على تبلغ من علالة مؤمل كان له خارج غرناطة غير
مساد من ثلمه، ولا مصلح في خلله، أخذ نفسه بالتقشف، وسوء المسكن، والتهاون
بالملبس، حملا عليها في غير أبواب الرياضة، مجانباً أرباب الخطط، وفياً لمن لحقته
من السلطان موجدة، تختلف معاملته لمن يعرفه في اليوم مرات، من إعراض عنه، وقبول
عليه، ولصوق به، كل ذلك عن سلامة، وتهيب نفس. مليح الدعابة، ذاكرا لفنون من
الأناشيد، حسن الجد، متجافياً عن الأعراض.
ودرى ذكره في التاج بما نصه: شاعر مفلق، وشهاب في أفق
البلاغة متألق، طبق مفاصل الكلام بحسام لسانه، وقلد نحور الكلام، ما يزري بجواهر الملوك
من إحسانه. ونشأ في حجور الدولة النصرية مدللاً بمتاته، متقلباً من العز في
أفانينه وأشتاته، إذ لسلفه الذمام الذي صفت منه الحياض والحمام، والوداد الذي قصرت
عنه الأنداد، والسابقة التي أزرى بخبرها العيان، وشهدت بها أرجونة وجيان، محيز
ثمرة الطيب. وله همة عالية، بعيدة المرمى، كريمة المنتمى، حملته بآخرة على
الانقباض والازدراء، والزهد في الازدياد والاستكثار، والاقتصاد والاقتصار، فعطف
على انتجاع غلته، والتزام محلته، ومباشرة فلاحة صان بها وجهه، ووفاه الدهر حقه
ونجمه، واحتجبت عقايل بيانه لهذا العهد وتقنعت، وراودتها النفس فتمنعت، وله فكاهة،
وأنس الزمان، مناجاة القينات، عند البيات، وأعذب من معاطاة الراح في الأقداح.
شعرهقال، وله أدب بلغ في الإجادة الغاية، ورفع للجبين من
السنن الراية. ومن مقطوعاته يودع شيخنا الفقيه القاضي أبا البركات بن الحجاج:
رأوني وقد أغرقت في عبراتي ... وأحرقت في ناري لدى
زفراتي
فقالوا سلوه تعلموا كنه حاله ... فقلت سلوا عني أبا
البركات
فمن قال إني بالرحيل محدث ... روت عنه أجفاني غريب ثبات
ونادى فؤادي ركبه فأجابه ... ترحل وكن في القوم بعض عدات
ومن مقطوعاته البديعة من قصيدة مجازية:
سيخطب قس العزم في منبر السرى ... وهل في الدنا يوم
المسير أطيق
وأقطع زند الهجر والقطع حقه ... فما زال طيب العمر عني
يسترق
مولده: في حدود ثمانية وسبعين وستماية
وفاتهفي الموفي عشرين من شهر ربيع الثاني من عام اثنين
وخمسين وسبعماية
ابن الحكيم اللخميمحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم
بن يحيى بن الحكيم اللخمي يكنى أبا بكر
أوليتهمرت في اسم ذي الوزارتين
حاله
من كتاب عائد الصلة: كان صدر
أبناء أصحاب النعم، وبقية أعلام البيوت، ترف نشأة، وعز تربية، وكرم نفس، وطيب
مجالسة، وإمتاع محاضرة، وصحة وفاء، وشياع مشاركة في جملة فاضلة، محدثاً تاريخياً،
كاتباً بليغاً، حسن الخط، مليح الدعابة، ظريف التوقيع، متقدم الحيلة في باب
التحسين والتنقيح. يقرض الشعر، ويفك المعمى، ويقوم على جمل الكتاب العزيز. حفظاً
وتجويداً. وإتقاناً، ويسرد نتف التاريخ. وعيون الأخبار، إلى حسن الخلق، وكمال
الأبهة، وحلاوة البساطة، واحتمال المنابشة. والمثابرة على حفظ المودة، والاستقالة
من الهفوة، والتمسك بالاستعتاب والمذرة. كتب بالدار السلطانية أكثر عمره، وتصدر
بعد في قيادة المواضع النبيهة، محارباً ذا قدرة في ذلك. ومع ذلك فشايع المعروف،
ذايع المشاركة، قيد الكثير. ودون وصنف، وحمل عن الجلة ممن يشق إحصاؤهم، وكان غرة
من غرر هذا القطر، وموكبا من مواكب هذا الأفق، لم يتخلف بعده مثله.
وجرى ذكره في التاج المحلى بما نصه: ماجد أقام رسم المجد
بعد عفايه، فوفى الفضل حق وفايه. بيته في رندة، أشهر في الأصالة من بيت امرئ
القيس، وأرسى في بحبوحة الفخر، من قواعد الرضوى وأبي قيس، استولى على الجود البديع
البعيد المدا، وحجت إليه من كل فج طلاب الندا، وعشت إلى ضوء ناره، فوجدت على النار
التقى والهدى. ولي الوزارة النصرية، التي اعتصر منها طريقاً بتالد، فأحيت مآثرها
الخالدة مآثر يحيى بن خالد. ولما أدار عليها الدهر كأس النوايب، وخلص إليها سهمه
الصايب بين صحايف الكتب وصفايح الكتايب، تطلعت من خلالها الرايقة لباب الوجود،
وبكتها بسيل أجفانها عين الباس والجود، وطلع على أعقاب هذه الفضايل محلى من
صفحاتها، وأعاد لو ساعده الدهر من لمحاتها، وارتقى من الكتابة إلى المحل النبية،
واستحقها من بعض ميراث أبيه، وبني وشيد، ودن فيها وقيد وشهر في كتب الحديث
وروايته، وجني ثمرة رحلة أبيه، وهو في حجر ذؤابته. وأنشأ الفهارس، وأحيي الأثر
الدارس، وألف كتابه المسمى بالموارد المستعذبة والمقاصد المنتخبة فسرح الطرف،
وروضه طيب الجني والعرف، وله شعر أنيق الحلية، حاز في نمط العلية. وبيني وبين هذا
الفاضل وداد صافي الحياض، وفكاهة كقطع الرياض، ودعابة سحبت الدالة أذيالها، وأدارت
الثقة والمقة جريالها. وسيمر في هذا الديوان كل رايق الحيا، عاطر الريا.
مشيختهقرأ على الأستاذ أبي جعفر الحريري، والأستاذ أبي
الحسن القيجاطي، والأستاذ إسحق بن أبي العاصي. وأخذ عن العلم والرم، من مشايخ
المشرق والمغرب. فمنهم الولي الصالح فضل بن فضيلة المعافري، إلى العدد الكثير من
أهل الأندلس، كالخطباء الصلحاء أبي عبد الله الطنجالي، وأبي جعفر الزياتي، وأبي
عبد الله بن الكماد، وغيرهم من الرنديين والمالقيين والغرناطيين، حسبما تضمنه
برنامجه.
؟؟
تواليفه
ألف الكتاب المسمى، الفوائد
المتخبة والموارد المستعذبة. وكمل التاريخ المسمى بميزار العمل لابن رشيق. ودون
كتاباً في عبارة الرؤيا سماه بشارة القلوب بما تخبره الرؤيا من الغيوب والأخبار
المذهبة والإشارة الصوفية، والنكت الأدبية. والهودج في الكتب. والإشارة في ألف
إنشاده.
شعره وكتابتهقال في التاريخ ما نصه: وتهادته إلى هذا
العهد رتب السيادة، واستعمل في نبيهات القيادة؛ فوجه إلى معقل قرطمة من كورة ريه
وهو واليه، وبطاحه في مجرى جياده وصحر عواليه. وقد حللت مالقة صحبة الركب السلطاني
في بعض التوجهات، إلى تلك الجهات، في بعض ما أتحف من مقعده، المتصل المستمر، بهدية
مشتملة على ضروب من البر. فخاطبته مقيما لسوق الانبساط، وغير حايد عن الوداد والاغتباط،
على ما عول عليه من حمل الإفراط، والانتظام في هذا المعنى والانخراط:
ألام على أخذ القليل وإنما ... أعامل أقواماً أقل من
الذر
فإن أنا لم آخذه منهم فقدته ... ولا بد من شيء بعين على
الدهر
سيدي أطلق الله يدك بما تملك،
وفتر عن منحك البخل ليلاً تهلك. كنت قد هومت، وحذرني القلق فتلومت. ولومي كما علمت
سيئ الخصال، عزيز الوصال. يمطل ديني، ويعاف طيره ورد عيني. فإذا الباب يدق بحجر،
فأنبأني عن ضجر، وجار الجنب يزخذ بالذنب. فقمت مبادراً وجزعت. وإن كان الجزع مني
نادراً. واستفهمت من وراء الفلق، عن سبب هذا القلق. فقالت امرأة من سكان البوادي.
رابطة الفؤاد يا قوم، رسول خير، وناعق طير، وقرع إذلال لا فرع إدلال. حطوا شعار
الحرب والحرب، فقد ظفرتم ببلوغ الأرب، فتأخرت عن الإقدام، وأنهدت إليه، فحن عمر بن
أبي ربيعة عمن كان بالدار من الخدام. فأسفرت الوقيعة عن سلام وسلم، ولم يزن أحد
منا بكلم. ونظرت إلى رجل قرطبي الطلعة والأخلاق، خاو على الإطلاق. تنهد قبل
أن يسلم، وارتمض لام ذهب من الشبيهة وتألم. شنشنة معروفة. وعين تلك الجهات معاذ
الله مصروفة. وقد حملته سيادتكم من المبرة ضروباً شتى. وتجاوزت في المسرات غاية حتى. ولم تضع
عضواً من جسده، فضلاً عن منكبه ويده، إلا علقته وعاء ثقيلا، وناطت به زنبيلا.
واستلقى كالمني إذا ترك المعترك.
وعلت حوله تلك الأثقال. وتعاورها الانتقال وكثر بالزقاق
القيل والقال. فلما تخلصت إلى الدار، وسترت معرفتها بالجدار، وتناولها الاختبار
الفاضح، وبان قصورها الواضح، فتلاشت، بعد ما جاشت، ونظرت إلى قعب من اللبن الممزوق
الذي لا يستعمل في البيوت، ولا يباع في السوق، فأذكرتني قول الشاعر:
في تلك المكارم لا قعبان من البن ... شيبت بماء فعاد بعد
أبوالا
أما زبده فرفع، وأما جبنه فاقتيت به وانتفع. وأما من
بعثه من فضلاء الخدام فدفع، وكأبى به قد ألح وصفع، والتفت إلى قفة فد خيطت، وبعنق
ذاك البايس قد نيطت، رمس فيها أفراخ الحمائم، وقلدت بجيده كما يتقلد بالتمائم، وشد
حبلها بمخنقه، وألزم منها في العاجل طائره في عنقه، هذا بعد ما ذبحت، وأما حشوها فربحت.
ولو سلكتم الطريقة المثلى، لحفظتم جثتها من العفن؛ كما تحفظ جثة القتلى، وأظنكم لم
تغفلو هذا الغرض الأدنى، ولا أهملتم هذه الهمم الذي غريزة في المبنى. فإني رميت
منها اللهو رمي المختبر، فكلح من مرارة الصبر، ولما أخرجتها من كفن القفة،
واستدعيت لمواراتها أهل الصفة، تمثلت تمثل اللبيب بقول أبي تمام حبيب:
هن الحمام فإن كسرت عيافة ... من حائهن فإنهن حمام
ولو أن إحدى الدجاجتين لاحت عليها مخيلة سر. لكانت من
بقايا مواطني ديوك بني مر، وبعث بها حلالك حلاله. وأهدى منها اجتهاد من أحسن. ولم
يكن بالهدية ما يذكر، ولا كانت مما ينكر، أستغفر الله، فلو لم تكن التحفة، إلا تلك
الفكاهة العاطرة والغمامة الماطرة. التي أحسبها الأمل الأقصى، وتجاوزت إلا من التي
لا تعد ولا تحصى، للزم الشكر ووجب، وبرز من حر المحج ما تيسر واحتجب. فالمكارم وإن
تغيرت أنسابها، وجهل انتسابها. وادعى إرثها واكتسابها، إليكم تنشر يدها، وتسعى
لأقدامها، ولبيتكم تميل بهواديها، وبساحتكم يسيب واديها، وعلى أرضكم تسح غواديها.
ومثلي أعزكم الله، لا يغضى من قدر تحفكم الحافلة، ولا يقجر من شكرها على فريضة ولا
نافلة، ولكنها دعابة معتادة، وفكاهة أصدرتها ودادة. ولا شك أنكم بما جبلتم عليه
قديماً وحديثاً، تغتفرون جفائي، الذي سيرتموه سمراً وحديثاً، في جنب وفائي، وتغضون
وتتحملون، وبقول الشاعر تتمثلون، وأسمع من الألفاظ اللغوية التي يسر بها سمعي، وإن
ضمنت شتمي ووصفي:
بعثت بشيء كالجفاء وإنما ... بعثت بعذري كالمدل إلى غدر
وقلت لنفسي لا تردعي فإنه ... كما قيل شيء قد يعين على
الدهر
وما كان قدر الود والمجد مثله ... فخذه على قدر الحوادث
أو قدري
وإن كنت لم أحسن صنعي فإنني ... سأحسن في حسن القبول له
شكري
وقدرك قدر النيل عندي وإنني ... لدي قدرك العلي أدق من
الذر
قنعت وحظي من زماني وودكم ... هباء ومثلي ليس يقنع
بالنزر
أتاني كتاب منك باه مبارك ... لقيت به الآمال باهتة
الثغر
جلا من بنات الفكر بكراً وزفها ... إلى ناظري تختال في
حبر الحبر
فألفاظها كالزهر والزهر يانع
... وقدر المعاني في الأصالة كالزهر
نجوم معان في سماء صحيفة ... ولكنها تسرى النجوم ولا
تسري
تضمن من نوع الدعابة ما به ... رجوت الذي قد قيل في نشوة
الخمر
رعى الله مسراها الكريم فجل ما ... جلته من البشرى وأبدت
من البشر
لعمري لقد أذكرتني دوله الصبا ... وأهديت لي نوع الجلال
من السحر
ولما أتت تلك الفكاهة غدوة ... وجدت نشاطاُ سائر اليوم
في بشري
ولا سيما إن كان ملحم بردها ... عميد أولى الألباب نادرة
العصر
نشرت بها ما قد طويت بساطه ... زماناً وبي طي الأمور مع
النشر
ونعم خيل الخير أنت محافظاً ... على سنن الإخلاص في السر
والجهر
ودونكها تلهو بها وتديرها ... سحيرية الأنفاس طيبة النشر
فراجعني بقوله: وقد من سيدي الجواب، محتوياً على العجب
العجاب، فيالك من فكاهة كوثرية المناهل، عنبرية المسايل، ولو لم يكن إلا وصف
القرطبي المستوي الطلعة، الشرطي الصنعة. وأما وصف اللبن وفراخ الحمام، فقد بسطتم
في المزاح القول. وامتنعتم في الكلام الفصل. وذلك شيء يعجز عن مساجلتكم فيه فيه
أرباب البلاغة والبيان، فكيف بمثلي ممن له القول المهلهل النسيج، الواهي البيان. ولا بد من عرض
ذلك على سيدي القطب الكبير الإمام، وأستاذنا علم الأعلام، وكبير أيمة الإسلام.
فيحكم بيننا بحكم الفصل. وينصف بما لديه من الحق والعدل. وقد كنت أحيد عن مراجعتكم
حيدة الجبان. وأميل عن ذلك ميلة الكودن عن مجارا السمر الهجان. وأعدل عن مساجلة
أدبكم الهتان. عدول الأعزل عن مبارزة جيد السنان. إلى أن وثقت بالصفح. وعولت على
ما لديكم من الإغضاء والسمح، ووجهت حاملة السر والظروف، كي تتصل الهدايا ولا ينقطع
المعروف. وأستقيل من انبساط يجر عذراً. وأسأله سبحانه وتعالى حمداً يوجب المزيد من إنعامه
وشكراً. دام سيدي وآماله مساعدة. والكلمة على فضله واحدة.
ومن شعره في النسك واللجأ إلى الله تعالى:
أيا من له الحكم في خلقه ... ومن بكر بي له أشتكي
تول أموري ولا تسلمني ... وإن أنت أسلمتني أهلك
تعاليت من مفضل منعم ... ونزهت من طالب مدرك
ومن ذلك ونقلته من خطه:
تصبر إذا ما أدركتك ملمة ... فصنع إله العالمين عجيب
وما يدرك الإنسان عار بنكبة ... ينكب فيها صاحب وحبيب
ففي من مضى للمرء ذي العقل أسوة ... وعيش كرام الناس ليس
يطيب
ويوشك أن تهمى سحايب نعمة ... فيخصب من ربع السرور جديب
إلهك يا هذا مجيب لمن دعا ... وكل الذي عند القريب قريب
مولده: عام خمسة وستين وستماية.
وفاتهمن عائد الصلة. قال، وختم الله عمره بخير العمل من
الإنابة والتهدج، والتزام الورد، وإن كان مستصحب الخيرية. وحل ببلد ولا ينهم رندة،
فكانت بها تربته في الثالث والعشرين لربيع الآخر عام خمسين وسبعماية.
ابن العابد الأنصاريمحمد بن محمد بن علي بن العابد
الأنصاري ولد المذكور بعد، الكاتب بالدار السلطانية.
حالهمن كتاب طرفة العصر وغيره، قال، كان كاتباً مشهوراً،
بليغاً، ذا معرفة، بارع الخط، وأحد زمانه في ذلك، وقوراً، معذب اللفظ، منحصاً في
وفي نفسه، محارفاً بحرفة الأدب على جلالة قدره. وكتابته نقية، جانحة إلى الاختصار.
شعرهوثيق تقل فيه أرواح المعاني، كشعر أبيه، وتوشيحه
فائق. تولي كتابة الإنشاء لثاني الملوك النصريين، واستمر قيامه بها على حجر شديد
من السلطان ومحمل، لملازمته المعاقرة وانهماكه في البطالة، واستعمال الخمر، حتى
زعموا أنه قاء يوماً بين يديه، فأخره عنها، وقدم الوزير أبا عبد الله بن الحكيم.
وفي ذلك يقول:
أمن عادة الإنصاف والعدل أن أجفا ... لأن زعموا أني
تحسيتها صرفا
وأقام بقية عمره تحت رفد وبر.
وفاته
توفي في حدود التسعين
وستماية. وكان شيخنا ابن الجياب قد آثره بكتبه. وكانت نفيسة أعلاها بخط أبيه رحمه
الله.
المري الطغنريمحمد بن مالك المري الطغنري من أهل غرناطة،
من ذوي البيتية والحسب فيها. ذكره الأستاذ، في الكتاب المسمى بالصلة، والغافقي،
وغيرهما.
حالهأديب نبيل، شاعر، على عهد الأمير عبد الله بن بلقين
بن باديس صاحب غرناطة. قال وكان أولا يميل إلى البطالة والراحة. ثم إنه استيقظ من
غفلته، وأقلع عن راحته، وأجب في توبته. وكان من أهل الفضل والخير والعلم.
من تواليفه كتابه الشهير في الفلاحة، وهو بديع، سماه
زهرة البستان، ونزهة الأذهان، عبرة في الظرف. قال، وجرى له مع سماجة، خليفة عبد
الله بن بلقين قصة. إذ فاجأه سماجة مع إخوان له، ولم يشعروا به، فأنشده ابن مالك
ارتجالاً، وقد أخذ بلجام دابته:
بينما نحن في المصلى نساق ... وجناح العشي فيه جنوح
إذا أتانا سماجة يتلألأ ... ردى الشمس من تجليه يوح
فطفقنا يقول بعض لبعض ... أغبوق شرابنا أم صبوح
قال، فتكلم الوزير سماجة باللسان البربري مع عبيده،
فرجعوا مسرعين، ووقف سماجة مع الوزير ابن مالك، إلى أن أتاه عبيده، بوعاء فيه جملة
كبيرة من الدراهم، تنيف على الثلاثمائة دينار. فقال ادفعوها إليه، وانصرف. وأتاهم
العبيد مع الدراهم، بطعام وشراب. قال ابن مالك، وذلك أول مال تأثلته.
شعرهومنه:
صب على قلبي هوى لاعج ... ودب في جسمي ضناً دارج
في شادن أحمر مستأنس ... لسان تذكاري به لاهج
قدر نعمان إذا ما مشى ... وما عسى يفعله عالج
فقده من رقة مايس ... وردفه من ثقله مايج
عنوان ما في ثوبه وجهه ... تشابه الداخل والخارج
فلا تقيسوه ببدر الدجى ... ذا معلم الوجه وذا ساذج
وقد نسبها بعض الناس لغيره
وفاتهقال الأستاذ، كان حياً سنة ثمانين وأربعمائة، وأمر
أن يكتب على قبره:
يا خليلي عرج على قبري تجد ... من أكلة الترب بين جنبي
ضريح
خافت الصوت إن نطقت ولكن ... أي نطق إن اعتبرت فصيح
أبصرت عيني العجايب لكن ... لما فرق الموت بين جسمي وروح
ابن عبد الملك الأوسيامحمد بن علي بن محمد بن عبد الله
بن عبد الملك الأوسي المدعو بالعقرب، من إقليم الآش
حالهكان حسن النظم والنثر، ذكياً من أهل المعرفة
بالعربية والأدب، موصوفاً بجودة القريحة، والنبل والفطنة.
أدبه وشعرهذكره الملاحي، وقال حدثني قاضي الأحكام
بغرناطة، أبو القاسم الحسن بن قاسم، الهلالي صاحبنا. قال، كان الأستاذ أبو عبد
الله العقرب جارنا، قد وقع بينه وبين زوجه، زهرة بنت صاحب الأحكام أبي الحسن علي
بن محمد تنازع؛ فرفعته إلى القاضي بغرناطة، أبي عبد الله بن السماك العاملي، وكنت
يومئذ كاتباً له، فرأى القاضي قوته وقدرته على الكلام وضعفها، وإخفاق نظمها، وشفق لحالها.
وكان يرى أن النساء ضعاف، وأن الأغلب من الرجال يكون ظالمهن. وكان كثيرا ما يقول
في مجلسه: رويدك، رفقاً بالقوارير. وحين رأى، ما صدر عن القاضي من الجمل، فقلت له
وأين حلاوة شعرك، والقاضي أديب، يهتز إليه ويرتاح، فطلب مني قرطاساً، وجلس غير
بعيد، ثم كتب على البديهة بما نصه:
لله حي يا أميم حواك ... وحمايم فوق الغصون حواك
غنين حتى خلتهن عنيني ... بغنايهن فنحت في مغناك
ذكرتني ما كنت قد أنسيته ... بخطوب هذا الدهر من ذكراك
أشكو الزمان إلى الزمان ومن شكى صرف الزمان إلى الزمان
فشاكي
يا ابن السماك المستظل برمحه ... والعزل ترهب ذا السلاح
الشاكي
راع الجوار فبيننا في جونا ... حق السرى والسير في
الأفلاك
وابسط إلى الخلق المنوب ببسطة ... ظرف الكرام بعفة
النساك
وأنا ذاكر إن لم يفت من لم يمت فدارك ثم دارك ثم ذاك
ثم دفعها إلى القاضي، فكتب
القاضي بخطه في ظهر الرقعة: لبيك، لبيك. ثم أرسلني أصلح بين العقرب وزوجه، فإن وصل
صلحهما إلى خمسين دينارا، فأنا أؤديها عنه من مالي، فجمعت بينهما، وأصلحت بينهما
عن تراض منهما، رحمهما الله تعالى.
القيسي العراديمحمد بن علي بن عبد الله بن علي القيسي
العرادي من أهل غرناطة
حالهكان فتى حسن السمت، ظاهر السكون، بادي التصون
والعفة، دمث الأخلاق، قليل الكلام، كثير الحياء، مليح الخط، ظريفه، بادي النجابة.
أبوه وجده من تجار سوق العطر، نبهاء السوق. نظم الشعر، فجاء منه بعجب، استرسالا
وسهولة، واقتداراً، ونفوذا في المطولات، فأنفت له من الإغفال، وجذبتنه إلى الدار السلطانية،
واشتدت براعته، فكاد يستولي على الأمر. لو لا أن المنية اخترمته شاباً، فثكل منه
الشعر، قريع إجادة، وبارع ثنية شهرة، لو انفسح له الأمد.
مولده: في ذي الحجة عام أحد وثلاثين وسبعمائة.
وفاتهتوفي مبطوناً على أيام قريبة من إسراعه بغرناطة، عن
سن قريبة من العشرين، في عام خمسة وخمسين وسبعمائة، وأبوه أمين العطارين.
محمد بن علي بن العابد الأنصارييكنى أبا عبد الله، أثله
من مدينة فاس.
حالهمن خط القاضي أبي جعفر بن مسعدة، علم كتاب دار
الإمارة النصرية الغالبية، الذي بنوره يستصبحون؛ وسراجهم الذي بإشراقه وبهجته،
ونهج محدته يهتدون. رفع لواء الحمد، وارتدى بالفهم والعلم والحلم. كان رحمه الله
إماماً في الكتابة، والأدب، واللغة، والإعراب، والتاريخ والفرايض والحساب،
والبرهان عليه عارفاً بالسجلات والتوثيق أربى على الموثقين من الفحول، المبرزين في
حفظ الشعر ونظمه، ونسبته إلى قائله حافظاً مبرزاً. درس الحديث، وحفظ الأحكام لعبد
الحق الإشبيلي، ونسخ الدواوين الكبار، وضبط كتب اللغة. وقيد على كتب الحديث،
واختصر التفسير للزمخشري، وأزال عنه الاعتزال، لم يفتر قط من قراءة أو درس أو نسخ
أو مطالعة، ليه ونهاره. لم يكن في وقته مثله.
مشيختهأخذ بفاس عن أبي العباس أحمد بن قاسم بن البقال
الأصولي، وأبي عبد الله بن البيوت المقري، وعن الزاهد أبي الحسن بن أبي الموالي،
وغيرهم.
شعرهومنه قوله:
طرقت تتيه على الصباح الأبلج ... حسناء تختل اختيال تبرج
في ليلة قد ألبست بظلامها ... فضفاض برد بالنجوم مدبج
وشعره مدون كثير.
وفاتهتوفي بحضرة غرناطة عام اثنين وستين وسبعمائة في ذي
القعدة منه.
الأزدي الإلبيري الغرناطيمحمد بن هاني بن محمد بن سعدون
الأزدي الإلبيري الغرناطي من أهل قرية سكون، يكنى أبا القاسم، ويعرف الأندلسي،
وكأنها تفرقة بينه وبين الحكمى أبي نواس.
أوليتهقال غير واحد من المؤرخين، هو من ذرية يزيد بن
حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة، وقيل من ولد أخيه روح بن حاتم.
حالهكان من فحول الشعراء، وأمثال النظم، وبرهان البلاغة،
لا يدرك شأوه، ولا يشق غباره، مع المشاركة في العلوم، والنفوذ في فك المعمى. خرج
من الأندلس ابن سبع وعشرين سنة، فلقي جوهراً المعروف بالكاتب مولى المعز بن
المنصور العبيدي صاحب المغرب وامتدحه، وكان لئيماً، فأعطاه مائتي درهم، فوجد لذلك،
وقال أها هنا كريم يقصد، فقيل بلى، جعفر بن يحيى بن علي بن فلاح بن أبي مروان،
وأبو علي بن حمدون، فامتدحهما، ثم اختص بجعفر بن يحيى وأبي علي، فبالغا في إكرامه،
وأفاضا عليه من النعم والإحسان ما لم يمر بباله، وسارت أشعاره فيهما، حتى أنشدت
للمعز العبيدي، فوجهه جعفر بن علي إليه في جملة طرف وتحف بعث بها إليه، كان أبو
القاسم أفضلها عنده، فامتدح المعز لدين الله، وبلغ المعز من إكرامه الغاية. ثم عاد
إلى إفريقية، ثم توجه إلى مصر، فتوفي ببرقة. وجرى ذكره في تخليص الذهب من تأليفنا
بما نصه: العقاب الكاسرة، والصمصامة الباترة، والشوارد التي تهادتها الآفاق،
والغايات التي أعجز عنها السباق.
وصمته: وذكره ابن شرف في
مقاماته، قال: وأما ابن هاني محمد، فهو نجدي الكلام، سردى النظام، إلا أنه إذا
ظهرت معانيه، في جزالة مبانيه، رمى عن منجنيق لا يؤثر في النفيق. وله غزل معرى، لا
عذرى، لا يقنع بالطيف، ولا يصفع بغير السيف وقد قده به الذات، وعظم شأنه فاحتمل الثواب،
وكان يقف دولته في أعلى منزلته ناهيك من رجل يستعين على صلاح دنياه، بفساد أخراه،
لرداءة دينه، وضعف يقينه. ولو عقل ما ضاقت عليه معاني الشعر، حتى يستعين عليه
بالكفر.
شعرهكان أو لما مدح به جعفر بن علي قوله:
أحبب بتياك القباب قبابا ... لا بالحداة ولا الركاب
ركابا
فيها قلوب العشقين تخالها ... عنماً بأيدي البيض العنابا
وقال يمدح جعفر بن علي منم القصيدة الشهيرة:
أليتنا إذ أرسلت وارداً وجفاً ... وبانت لنا الجوزاء في
أذنها شنقاً
وبات لنا ساق يقوم على الدجى ... بشمعة صبح لا تقط ولا
تعطفا
أغن غضيض جفف اللين قده ... وأثقلت الصهباء أجفانه
الوطفا
ولم يبق إرعاش المدام له يداً ... ولم يبق إعنات التثني
له عطفاً
نزيف قضاه السكر إلا ارتجاجه ... إذا كل عنها الخصر
حملها الردفا
يقولون حقف فوقي خيزرانة ... أما يعرفون الخيزرانة
والحقفا
جعلنا حشايانا ثياب مدامنا ... وقدت لنا الظلماء من
جلدها لحفا
فمن كبد تدنى إلى كبد هوى ... ومن شفة توحي إلى شفة رشفا
بعيشك نبه كأسه وجفونه ... فقد نبه الإبريق من بعد ما
أغفا
وقد فكت الظلماء بعض قيودنا ... وقد قام جيش الليل للصبح
فاصطفا
وولت نجوم للثريا كأنها ... خواتيم تبدو في بنان يد تخفا
ومر على آثارها دبرانها ... كصاحب ردئ كمنت خليه خلفا
وأقبلت الشعرى العبور ملمة ... بمرزمها اليعسوب تجنبه
طرفا
وقد قبلتها أختها من ورائها ... لتخرق من ثنيا مجرتها
سجفا
تخاف زئير الليث قدم نثرة ... وبربر في الظلماء ينسفا
نسفا
كأن معلا قطبها فارس له ... لواءان مر كوزان قد كره
الزحفا
كأن السماكين اللذين تظاهرا ... على لبتيه ضامنان له
الحتفا
فذا رامح يهوى إليه سنانه ... وذا أعزل قد عض أنمله لهفا
كأن قدامي النسر والنسر واقع ... قصصن فلم تسم الخوافي
له ضعفا
كأن أخاه حين دوم طايرا ... أتي دون نصف البدر فاختطف
النصفا
كأن رقيب الليل أجدل مرقب ... يقلب تحتن الليل في ريشه
طرفا
كأن بني نعش ونعش مطافل ... بوجرة قد أضللن في مهمه قشفا
كأن سهاها عاشق بين عود ... فآونة يبدو وآونة يخفا
كأن سهيلا في مطالع أفقه ... مفارق إلق لم يجد بعده إلفا
كأن الهزيع الأبنوسي موهنا ... سرى بالنسيج الخسرواني
ملتفاً
كأن ظلام الليل إذ مال ميلة ... صريع مدام بات يشربها
صرفا
كأن نجوم الصبح خاقان معشر ... من الترك نادى بالنجاشي
فاستخفا
كأن لواء الشمس غرة جعفر ... رأى القرن فازدادت طلاقته
ضعفا
وقد جاشت الظلماء بيضاً صوراماً ... ومركوزة سمرا
وفضفاضة زعفا
وجاءت عتاق الخيل تردي كأنها ... تخط لنا أقلام آذانها
صحفا
هنالك تلقى جعفراً خير جعفر ... وقد بدلت يمناه من لينها
عنفا
فكاين تراه في الكريهة عاجلا ... عزيمته برقاً وصولته
خطفاً
وشعره كثير مدون، ومقامه شهير، وفيما أوردناه كفاية، وهو
من إلبيرة الأصلية.
؟وفاته
قالوا، لما توجه إلى مصر، شرب
ببرقة وسكر ونام عريانا، وكان البرد شديداً فأفلج، وتوفي في سنة إحدى وستين
وثلاثمائة؛ وهو ابن اثنين وأربعين سنة. ولما بلغت المعز وفاته، تأسف عليه وقال،
هذا رجل كنا نطمع أن نفاخر به أهل المشرق.
الغساني البرجي الغرناطيمحمد بن يحيى بن محمد بن يحيى بن
علي بن إبراهيم بن علي الغساني البرجي الغرناطي، يكنى أبا القاسم من أهل غرناطة.
حالهفاضل مجمع على فضله، صالح الأبوة، طاهر النشأة، بادي
الصيانة والعفة، طرف في الخير والحشمة، صدر في الأدب. جم المشاركة، ثاقب الذهن،
جميل العشرة، ممتع المجالسة، حسن الخط والشعر والكتابة، فذ في الانطباع، صنيع
اليدين، يحكم على الكثير من الآلات العلمية، ويجيد تفسير الكتاب، رحل إلى العدة،
وتوسل إلى ملكها، مجدد الرسم، ومقام الجلة، وعلم دست الشعر والكتابة أمير المسلمين
أبي عنان فارس، فاشتمل عليه، ونوه به، وملأ بالخير يده، فاقتنى جدة وحظوة وشهرة،
وذكراً؛ وانقبض مع استرسال الملك، وآثر الراحة، وجهد في التماس الرحلة الحجازية،
ونبذ الكل، وسلا الخطة، فأسعفه سلطانه بغرضه، وجعل حبله على غاربه، وأصحبه رسالة
إلى النبي الكريم من إنشايه، متصلة بقصيدة من نظمه، وكلاهما تعلن في الخلفاء بعد
شأوه، ورسوخ قدم علمه، وعراقة البلاغة، في نسب خصله، حسبما تضمنه الكتاب المسمى
بمساجلة البيان. ولما هلك وولي ابنه، قدمه قاضياً بمدينة ملكه، وضاعف التنويه به،
فأجرى الخطة، على سبيل من السداد والنزاهة. ثم لما ولي السلطان أبو سالم عمه،
أجراه على الرسم المذكور. وهو الآن بحاله الموصوفة، مفخر من مفاخر ذلك الباب
السلطاني على تعدد مفاخره يحظى بكل اعتبار.
شعرهثبت في كتاب نفاضة الجراب من تأليفنا، عند ذكر
المدعي الكبير بباب ملك المغرب، ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر من
أنشد ليلتئذ من الشعراء ما نصه: وتلاه الفقيه الكاتب الحاج القاضي، جملة السذاجة،
وكرم الخلق، وطيب النفس، وخدن العافية، وابن الصلاح والعبادة، ونشأة القرآن،
المتحيز إلى حزب السلامة، المنقبض عن الغمار، العزوف عن فضول القول والعمل، جامع
المحاسن، من عقل رصين، وطلب ممتع، وأدب نقادة، ويد صناع، أبو القاسم ابن أبي زكريا
البرجي، فأنشدت له على الرسم المذكور هذه القصيدة الفريدة:
أصغى إلي الوجد لما جد عاتبه ... صب له شغل عمن بعاتبه
لم يعط للصبر من بعد الفراق يدا ... فضل من ظل إرشاداً
يخاطبه
لو لا النوى لم يبت حيران مكتئبا ... يغالب الوجد كتماً
وهو غالبه
يستودع الليل أسرار الغرام وما ... نمليه أشجانه فالدمع
كاتبه
لله عصر بشرقي الحمى سمحت ... بالوصل أوقاته لو عاد
ذاهبه
يا جيرة أو دعوا إذ ودعوا حرقا ... يصلى بها من صميم
القلب ذائبه
يا هل ترى تجمع الأيام فرقتنا ... كعهدنا أو يرد القلب
ساكبه
ويا أهيل ودادي والنوى قذف ... والقرب قد أبهمت دوني
مذاهبه
هل ناقض العهد بعد البعد حافظه ... وصادع الشمل يوم
الشعب شاعبه
ويا ربوع الجمى لا زلت ناعمة ... يبكي عهودك مضني الجسم
شاحبه
يا من لقب مع الأهواء منعطف ... في كل أوب له شوق يجاذبه
يسمو إلى طلب الباقي بهمته ... والنفس بالميل للفاني
تطالبه
وفتنة المرء بالمألوف معضلة ... والأنس بالإلف نحو الإلف
جاذبة
أبكي لعهد الصبا والشيب يضحك بي ... يا للرجال سبت جدي
ملاعبه
ولن ترى كالهوى أشجاه سالفه ... ولا كوعد المنى أحلاه
كاذبه
وهمة المرء تغليه وترخصه ... من عز نفساً لقد عزت مطالبه
ما هان كسب المعالي أو تناولها ... بل هان في ذاك ما
يلقاه طالبه
ولا سرى الفك السامي لما ظهرت ... آثاره ولما لاحت
كواكبه
في ذمة الله ركب للعلا ركبوا ... ظهر السرى فأجابتهم
نجائبه
يرمون عرض الفلا بالسير عن
غرض ... طي السجل إذا ما جد كاتبه
كأنهم في فؤاد الليل سر هوى ... لولا الضرام لما خفت
جوانبه
شدوا على لهب الرمضاء وطأتهم ... فغاص في لجة الظلماء
راسبه
وكلفوا الليل من طول السرى شططاً ... فخلفوه وقد شابت
ذوائبه
حتى إذا أبصروا الأعلام مائله ... يجانب الحرم المحمى
جانبه
بحيث يأمن من مولاه خائفه ... من ذنبه وينال القصد راغبه
فيها وفي طيبة الغراء لي أمل ... يصاحب القلب منه ما
يصاحبه
لم أنس لا أنس أياماً بظلمها ... سقى ثراه عميم الغيث
ساكبه
شوقي إليها وإن شط المزار بها ... شوق المقيم وقد سارت
حبائبه
إن ردها الدهر يومأً بعد ما عبثت ... في الشمل منا يداه
لا نعاتبه
معاهد شرفت بالمصطفى فلها ... من فضله شرف تعلو مراتبه
محمد المجتبى الهادي الشفيع إلى ... رب العباد أمين
الوحي عاقبه
أوفى الورى ذمماً أسماهم همماً ... أعلاهم كرماً جلت
مناقبه
هو المكمل في خلق وفي خلق ... زكت حلاه كما طابت مناسبه
عناية قبل بدء الخلق سابقة ... من أجلها كان آتيه وذاهبه
جاءت تبشرنا الرسل الكرام به ... كالصبح تبدو تباشيراً
كواكبه
أخباره سر علم الأولين وسل ... بدير تيماء ما أبداه
راهبه
تطابق الكون في الشرى بمولده ... وطبق الأرض أعلاماً
تجاوبه
فالجن تهتف إعلاناً هواتفه ... والجن تقذف إحراقاً
ثواقبه
ولم تزل عصمة التأييد تكنفه ... حتى انجلى الحق وانزاحت
شوائبه
سرى وجنح ظلام الليل منسدل ... والنجم لا يهتدي في الأفق
ساربه
يسمو لكل سماء منه منفرد ... عن الأنام وجبرائيل صاحبه
لمنتهى وقف الروح الأمين به ... وامتاز قرباً فلا خلق
يقاربه
لقاب قوسين أو أدنى فما علمت ... نفس بمقدار ما أولاه
واهبه
أراه أسرار ما قد كان أودعه ... في الخلق والأمر باديه
وغائبه
وآب والبدر في بحر الدجى غرق ... والصبح لما يؤب للشرق
آيبه
فأشرقت بسناه الأرض واتبعت ... سبل النجاة بما أبدت
مذاهبه
وأقبل الرشد والتاحت زواهره ... وأدبر الغير فانجابت
غياهبه
وجاء بالذكر آيات مفصلة ... يهدي بها من صراط الله لاحبه
نور من الحكم لا تخبو سواطعه ... بحر من العلم لا تفنى
عجائبه
له مقام الرضا المحمود شاهده ... في موقف الحشر إذ نابت
نوائبه
والرسل تحت لواء الحمد يقدمها ... محمد أحمد السامي
مراتبه
له الشفاعات مقبولاً وسائلها ... إذا دهى الأمر واشتدت
مصاعبه
والحوض يروى الصدى من عذي مورده ... لا يشتكي غلة الظمآن
شاربه
محامد المصطفى لا ينتهي أبدا ... تعدادها هل يعد القطر
حاسبه
فضل تكفل بالدارين يوسعها ... نعمى ورحمى فلا فضل يناسبه
حسبي التوسل منها بالذي سمحت ... به القوافي وجلتها
غرائبه
حياه من صلوات الله صوب حساً ... تحدى إلى قبره الزاكي
نجائبه
وخلد الله ملك المستعين به ... تحدى إلى قبره الزاكي
نجائبه
إمام عدل بتقوى الله مشتمل ... في الأمر والنهي يرضيه
يراقبه
مسدد الحكم ميمون نقيبته ... مظفر العزم صدق الرأي صائبه
مشمر للتقى أذيال مجتهد ... جرار أذيال سحب الجود ساحبه
قد أوسعت أمل الراجي مكارمه
... وأحسبت رغبة العافي رغائبه
وفاز بالأمن محبوراً مسالمه ... وباء بالخزي مقهوراً
محاربه
كم وافد آمل معهود نائله ... أثنى وأثنت بما أولى حقائبه
ومستجير بعز من مثابته ... عزت مراميه وانقادت مآربه
وجاءه الدهر يسترضيه معتذراً ... مستغفراً من وقوع الذنب
تائبه
لولا الخليفة إبراهيم لانبهمت ... طرق المعالي ونال
الملك غاصبه
سمت لنيل تراث المجد همته ... والملك ميراث مجد وهو
عاصبه
ينميه للعز والعليا أبو حسن ... سمح الخلائق محمود
ضرائبه
من آل يعقوب حسب الملك مفتخراً ... بباب عزهم السامي
تعاقبه
أطواد حلم رسا بالأرض محتده ... وزاحت منكب الجوزا
مناكبه
تحفها من مرين أبحر زخرت ... أمواجها وغمام ثار صائبه
بكل نجم لدي الهيجاء ملتهب ... ينقض وسط سماء النقع
ثاقبه
أكفهم في دياجيها مطالعه ... وفي نحور أعاديهم مغاربه
يا خير من خلصت لله نيته ... في الملك أو خطب العلياء خاطبه
جردت والفتنة الشعواء ملبسة ... سيفاً من العزم لا تنبو
مضاربه
وخطتها غير هياب ولا وكل ... وقلما أدرك المطلوب هائبه
صبرت نفساً لعقبي الصبر حامدة ... والصبر مذ كان محمود
عواقبه
فليهن دين الهدى إذ كنت ناصره ... أمن يواليه أو خوف
يجانبه
لا زال ملكك والتأييد يخدمه ... تقضي بخفض مناويه قواضبه
ودمت في نعم تضفوا ملابسها ... في ظل عز علاً تصفو
مشاربه
ثم الصلاة على خير البرية ما ... سارت إليه بمشتاق
ركائبه
ومن شعره ما قيده لي بخطه صاحب قلم الإنشاء بالحضرة
المرينية، الفقيه الرئيس الصدر المتفنن أبو زيد بن خلدون.
صحا القلب عما تعلمين فأقلما ... وعطل من تلك المعاهد
أربعا
وأصبح لا يلوى على حد منزل ... ولا يتبع الطرف الخلي
المودعا
وأضحى من السلوان في حرز معقل ... بعيد على الأيام أن
يتضعضا
يرد الجفان النجل عن شرفاته ... وإن لحظت عن كل أجيد
أتلعا
عزيز على داعي الغرام انقياده ... وكان إذا ناداه للوجد
أهطعا
أهاب به للشيب أنصح واعظ ... أصاخ له قلباً منيباً
ومسمعا
وسافر في أفق التفكر والحجا ... زواهره لا تبرح الدهر
طلعا
لعمري لقد انضيت عزمي تطلباً ... وقضيت عمري رقية وتطلعا
وخضت عباب البحر أخضر مزبدا ... ودست أديم الأرض أغبر أسفعا
ومن شعره حسبما قيده المذكور:
نهاه النهي بعد طول التجارب ... ولاح له منهج الرشد لاحب
وخاطبه دهره ناصحاً ... بألسنة الوعظ من كل جانب
فأضحى إلى نصحه واعياً ... وألغى حديث الأماني الكواذب
وأصبح لا تستبيه الغواني ... ولا تزدريه حظوظ المناصب
وإحسانه كثير في النظم والنثر، والقصار والمطولات.
واستعمل في السفارة إلى ملك مصر وملك قشتالة، وهو الآن قاضي مدينة فاس، نسيج وحده،
في السلامة والتخصيص، واجتناب فضول القول والعمل، كان الله له.
ابن زمركمحمد بن يوسف بن محمد بن أحمد بن محمد ابن يوسف
بن محمد الصريحي، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن زمرك. أصله من شرق الأندلس، وسكن
سلفه ربض البيازين من غرناطة، وبه ولد ونشأ، وهو من مفاخره.
حاله
هذا الفاضل صدر من صدور طلبة
الأندلس وأفراد نجبائها، محتص، مقبول، هش، خلوب، عذب الفكاهة، حلو المجالسة حسن التوقيع،
خفيف الروح، عظيم الانطباع، شره المذاكرة، فطن بالمعاريض، حاضر الجواب، شعلة من
شعل الذكاء، تكاد تحتدم جوانبه، كثير الرقة، فكه، غزل، مع حياء وحشمة، جواد بما في
يده، مشارك لإخوانه. نشأ عفاً، طاهراً، كلفا بالقراءة، عظيم الدؤوب، ثاقب الذهن،
أصيل الحفظ، ظاهر النبل، بعيد مدى الإدراك، جيد الفهم، فاشتهر فضله، وذاع أرجه،
وفشا خبره، واضطلع بكثر من الأغراض، وشارك في حملة من الفنون، وأصبح متلقف حكرة
البحث، وصارخ الحلقة وسابق الحلبة، ومظنة الكمال. ثم ترقى في درج المعرفة
والاضطلاع، وخاض لجة الحفظ، وركض قلم التقييد والتسويد والتعليق، ونصب نفسه للناس،
متكلماً فوق الكرسي المنصوب وبين الحفل المجموع، مستظهرا بالفنون التي بعد فيها
شأوه، من العربية والبيان واللغة، وما يقذف به في لج النقل، من الأخبار والتفسير. متشوفاً
مع ذلك، إلى السلوك، مصاحباً للصوفية، آخذاً نفسه بارتياض ومجاهدة، ثم عانى الأدب،
فكان أملك به، وأعمل الرحلة في طلب العلم والازدياد، وترقى إلى الكتابة، عن ولد
السلطان أمير المسلمين بالمغرب، أبي سالم إبراهيم ابن أمير المسلمين أبي الحسن علي
بن عثمان ابن يعقوب، ثم عن السلطان، وعرف في باب الإجادة. ولما جرت الجادثة على
السلطان صاحب الأمر بالأندلس، واستقر بالمغرب، أنس به، وانقطع إليه، وكر صحبة
ركابه، إلى استرجاع حقه، فلطف منه محله، وخصه بكتابة سره. وثابت الحال، ودالت
الدولة، وكانت له الطايلة، فأقره على رسمه، معروف الانقطاع والصاغية، كثير الدالة،
مضطلعاً بالخطة، خطاً وإنشاء ولسناً ونقداً، فحسن منابه، واشتهر فضله، وظهرت
مشاركته، وحسنت وساطته ووسع الناس تخلقه، وأرضى السلطان حمله، وامتد في ميدان
النثر والنظم باعه، فصدر عنه من المنظوم في أمدحه، قصائد بعيدة الشأو في مدى
الإجادة، حسبما يشهد بذلك، ما تضمنه اسم السلطان أيده الله في أول حرف الميم، في
الأغراض المتعددة من القصائد والميلاديات، وغيرها. وهو بحاله الموصوفة إلى الآن.
أعانه الله وسدده.
شيوخهقرأ العربية على الأستاذ رحلة الوقت في فنها أبي
عبد الله بن الفخار ثم على إمامها القاضي الشريف. إمام الفنون اللسانية، أبي
القاسم محمد بن أحمد الحسني، والفقه والعربية على الأستاذ المفتي أبي سعيد بن لب،
واختص بالفقيه الخطيب الصدر المحدث أبي عبد الله بن مرزوق، فأخذ عنه كثيراً من
الرواية، ولقي القاضي الحافظ أبا عبد الله المقري عندما قدم رسولا إلى الأندلس
وذاكره، وقرأ الأصول الفقهية على أبي علي منصور الزواوي، وروى عن جملة، منهم
القاضي أبو البركات بن الحاج، والمحدث أبو الحسن بن التلمساني، والخطيب أبو عبد
الله بن اللوشي، والمقرئ أبو عبد الله بن بيبش. وقرأ بعض الفنون العقلية بمدينة فاس
على الشريف الرحلة الشهير أبي عبد الله العلوي التلمساني واختص به اختصاصاً لم يخل
فيه من إفادة مران، وحنكة في الصناعة.
شعرهوشعره مترام إلى نمط الإجادة، خفاجي النزعة، كلف
بالمعاني البديعة، والألفاظ الصقيلة، غزير المادة. فمنه في غرض النسيب:
رضيت بما تقضي علي وتحكم ... أهان فأقصى أم أصافي فأكرم
إذا كان قلبي في يديك قياده ... فما لي عليك في الهوى
أتحكم
على أن روحي في يديك بقاوه ... بوصلك يحيى أو بهجرك يعدم
وأنت إلى المشتاق نار وجنة ... ببعدك يشقى أو بقربك ينعم
ولي كبد تندى إذا ما ذكرتم ... وقلب بنيران الشوق يتضرم
ولو كان ما بي منك بالبرق ما سرى ... ولا استصحب الأنواء
تبكي وتبسم
أراعي نجوم الأفق في الليل ما دجى ... وأقرب من عيني
للنوم أنجم
وما زلت أخفي الحب عن كل عادل ... وتشفى دموع الصب ما هو
يكتم
كساني الهوى ثوب السقام وإنه ... متى صح حب المرء لا شيء
يسقم
فيا من له العقل الجميل سجية ... ومن جود يمناه الحيا
يتعلم
وعنه يروي الناس كل غريبة ...
تخط على صفح الزمان وترسم
إذا أنت لم ترحم خضوعي في الهوى ... فمن ذا الذي حنى علي
ويرحم
وحلمك حلم لا يليق بمذنب ... فما بال ذنبي عند حلمك يعظم
ووالله ما في الحي حي ولم ينل ... رضاك وعمته أياد وأنعم
ومن قبل ما طوقتني كل نعمة ... كأني وإياها سوار ومعصم
وفتحت لي باب القبول مع الرضى ... يغض الحي طرفي كأني
مجرم
ولو كان لي نفس تخونك في الهوى ... لفارقتها طوعاً وما
كنت أندم
وأترك أهلي في رضاك إلى الأسى ... وأسلم نفسي في يديك
وأسلم
أما والذي أشقى فؤادي في الهوى ... وإن كان في تلك
الشقاوة ينعم
لأنت من قلبي ونزهة خاطري ... ومورد آمالي وإن كنت أحرم
ومن ذلك ما خاطبني به، وهي من أول نظمه، قصيدة مطلعها:
" أما وانصداع النور في مطلع الفجر " وهي طويلة. ومن بدائعه التي عقم عن
مثلها قياس قيس، واشتهرت بالإحسان اشتهار الزهد بأويس، ولم يحل مجاريه ومباريه إلا
بويح وويس، وقله في إذار الأمير ولد سلطانه المنوه بمكانه، وهي من الكلام الذي
عنيت الإجادة بتذهيبه وتهذيبه، وناسب الحسن بني مديحه ونسيبه:
معاذ الهوى أن أصحب القلب ساليا ... وأن يشغل اللوام
بالعذل باليا
دعاني أعط الحب فضل مقادتي ... ويقضي علي والوجد ما كان
قاضيا
ودون الذي رام العواذل صبوة ... رمت بي في شعب الغرام
المراميا
وقلب إذا ما انبرق أو مض موهناً ... قدحت به زنداً من
الشوق وارياً
خليلي إني يوم طارقة النوى ... شقيت بمن لو شاء أنعم
باليا
وبالخيف يوم النفر يا أم مالك ... تخلفت قلبي في حبالك
عانيا
وذي أشر عذب الثنايا مخصر ... يسقى به ماء النعيم
الأقاحيا
أحوم عليه ما دجى الليل ساهرا ... وأصبح دون لورد ظمآن
ضاريا
يضيء ظلام الليل ما بين أضلعي ... إذا البارق النجدي
وهنا بداليا
أجيرتنا بالرمل والرمل منزل ... مضى العيش فيه بالشبية
حاليا
ولم أر ربعا منه أقضى لبانه ... وأشجى حمامات وأحلى
مجانيا
سقت طله الغر الغوادي ونظمت ... من القطر في جيد الغصون
لآليا
أبثكم أني على النأي حافظ ... ذمام الهوى لو تحفظون
ذماميا
أناشدكم والحر أوفى بعهده ... ولن يعدم الخير والأحسان
جازيا
وورد على السلطان أبي سالم ملك المغرب رحمة الله تعالى
عليه وفد الأحابيش بهدية من ملك السودان، ومن جملتها الحيوان الغريب المسمى
بالزرافة، فأمر من يعاني الشعر من الكتاب بالنظم في ذلك الغرض، فقال وهي من بدائعه:
لو لا تألق بارق التذكار ... ما صاب واكف دمعي المدرار
لكنه مهما تعرض خافقاً ... قدحت يد الأشواق زند أواري
وعلى المشوق إذا تذكر معهدا ... أن يغري الأجفان
باستعبار
أمذكري غرناطة حلت بها ... أيدي السحاب أزرة النوار
كيف التخلص للحديث وبيننا ... عرض الفلاة وطافح زخار
وغريبة قطعت إليك على الونى ... بيداً تبيد بها هموم
الساري
تنسيه طيته التي قد أمها ... والركب فيها مت الأخبار
يقتادها من كل مشتمل الدجى ... وكأنما عيناه جذوة نار
خاضوا بها لجج الفلا فتخلصت ... منها خلوص البدر بعد
سرار
سلمت بسعدك من غوائل مثلها ... وكفى بسعدك حامياً لذمار
وأتتك يا ملك الزمان غريبة ... قيد النواظر نزهة الأبصار
موشية الأعطاف رائقة الحلى ... رقمت بدائعها يد الأقدار
راق العيون أديمها فكأنه ... روض تفتح عن شقيق بهار
ما بين مبيض وأصر فاقع ...
سال اللجين به خلال نضار
يحكى حدائق نرجس في شاهق ... تنساب فيه أراقم الأنهار
وأنشد السلطان في ليلة ميلاد رسول الله صلى الله عليه
وسلم عقب ما فرغ من البنية الشهيرة ببابه رحمه الله تعالى.
تأمل أطلال الهوى فتألما ... وسيما الجوى والسقم منها
تعلما
أخو زفرة هاجت له منه ذكرة ... فأنجد في شعب العزام
وأتهما
وأنشد السلطان في وجهة للصيد أعملها، وأطلق أعنة الجياد
في ميادين ذلك الطراد وأرسلها قوله:
حياك يا دار الهوى من دار ... نوء السماك بديمة مدرار
وأعاد وجه رباك طلقاً مشرقاً ... متضاحكاً بمباسم النوار
أمذكري دار الصبابة والهوى ... حيث الشباب يرف غصن نصار
عاطيتني عنها الحديث كأنما ... عاطيتني عنها كؤوس عقار
إيه وإن أذكيت نار صبابتي ... وقدحت زند الشوق بالتذكار
يا زاجر الأظعان وهي مشوقة ... أشبهتها في زفرة وأوار
حنت إلى نجد ولست دارها ... وصبت إلى هندية والقار
شاقت به برق الحمى واعتادها ... طيف الكرى بمزارها
المزوار
ومن شعره في غير المطولات:
لقد زادني وجداً وأغرى بي الجوى ... ذيال بأذيال الظلام
قد التفا
تشير وراء الليل منه بنانة ... مخضبة والليل قد حجب
الكفا
تلوح سناناً حين لا تنفح الصبا ... وتبدو سواراً حين
تثنى له العصفا
قطعت به ليلا يطارحني الجوى ... فآونة يبدو وآونة يخفى
إذا قلت لا يبدو أشال لسانه ... وإن قلت لا يخبو الصبابة
إذ لفا
إلى أن أفاق الصبح من غمرة الدجى ... وأهدى نسيم الروض
من طجيبة عرفا
لك الله يا مصباح أشبهت مهجتي ... وقد شفها من لوعة الحب
ما شفا
ومما ثبت له في صدر رسالة:
أرور بقلبي معهد الأنس والهوى ... وأنهب من أيدي النسيم
رسائلا
ومهما سألت البرقق يهفو من الحمى ... يبادره دمعي مجيباً
وسائلا
يا ليت شعري والأمان ستعلل ... أيرعى لي الحي الكرام
الوسائلا
وهل جيرتي الأولى كما قد عهدتهم ... يوالون بالإحسان من
جاء سائلا
ومن أبياته الغراميات:
قيادي قد تملكه الغرام ... ووجدي لا يطاق ولا يرام
ودمعي دونه صوب الغوادي ... وشجون فوق ما يشدو الحمام
إذا ما الوجد لم يبرح فؤادي ... على الدنيا وساكنها السلام
وفي غرض يظهر من الأبيات:
ومشتمل بالحسن أحوى مهفهف ... قضى رجع طرفي من محاسنه
الوطر
فأبصرت أشباه الرياض محاسناً ... وفي خده جرح بدا من ه
لي أثر
فقلت لجلاسي خذوو الحذر إنما ... به وصب من أسهم الغنج
والحور
ويا وجنة قد جاورت سيف لحظة ... ومن شأنها تدمى من اللمح
بالبصر
تخيل للعينين جرحاً وإنما ... بدا كلف منه على صفحة
القمر
ومما يرجع إلى باب الفخر، ولعمري لقد صدق في ذلك:
يا لايمي في الجود والجود شيمتي ... جبلت على آثارها يوم
مولدي
ذريني فلو أني أخلد بالغنى ... لكنت ضنيناً بالذي ملكت
يدي
ومن مقطوعاته:
لقد علم الله أني امرؤ ... أجرر ثوب العفاف القشيب
فكم غمض الدهر أجفانه ... وفازت قداحي بوصل الحبيب
وقيل رقيبك في غفلة ... فقلت أخاف الإله الرقيب
وفي مدح كتاب الشفا طجلبه الفقيه أبو عبد الله بن مرزوق
عندما شرع في شرحه:
ومسرى ركاب للصبا قد ونت به ... نجائب سحب لللتراب
نزوعها
تسل سيوف البرق أيدي حداتها ... فتنهل خوفاً من سطاها
دموعها
ومنها:
ولا مثل تعريف الشفاء حقوقه ... فقد بان فيه للعقول
جميعها
بمرآة حسن قد جلتها يد النهى
... فأوصافه يلتاح فيه بديعها
نجوم اهتداء والمداج يجنها ... وأسرار غيب واليراع
تذيعها
لقد حزت فضلا يا أبا الفضل شاملا ... فيجزيك عن نصح
البرايا شفيعها
ولله ممن قد تصدى لشرحه ... فلباه من غر المعاني مطيعها
فكم مجمل فصلت منه وحكمة ... إذا كتم الإدماج منه تشيعها
محاسن والإحسان يبدو خلالها ... كما افتر عن زهر البطاح
ربيعها
إذا ما أصول المرء طابت أرومة ... فلا عجب أن أشبهتها
فروعها
بقيت لأعلام الزمان تنيلها ... هدى ولأحداث الخطوب
تروعها
ومما امتزج فيه نثره ونظمه، وظهر فيه أدبه وعلمه، قوله
يخاطبني جواباً عن رسالة خاطبت بها الأولاد، وهم مع مولانا أيده الله بالمنكب:
مالي بحمل الهوى يدان ... من بعد ما أعوز التداني
أصبحت أشكو من زمان ... ما بت منه على أمان
ما بال عينيك تسجمان ... والدمع يرفض كالجمان
ناداك والإلف عنك وان ... والبعد من بعده كوان
يا شقة النفس من هوان ... لجج في أبحر الهوان
لم يثن عن هواك ثان ... يا بغية القلوب قد كفان
يا جانحة الأصيل، أين يذهب قرصك المذهب، وقد ضاق بالشوق
المذهب. أمست شموس الأنس محجوبة عن عيني، وقد ضرب البعد الحجاب بينها وبيني، وعلى
كل حال. من إقامة وارتحال. فما محلك من قلبي محلا بينها. وما كنت لأقنع من وجهك
تخيلا وشبيهاً. ومن أين انتظمت لك عقول التشبيه واتسقت، ومن بعض المواقع والشمس لو
قطعت. صادك منذور، وأنت تتجمل بثوبي زور، وجيب الظلام على دينارك حتى الصباح
مزرور، ووراءك من الغروب غريم لا يرحم، ومطالب تتقلب منه في كفه المطالب. ويا برق
الغمام من أي حجاب تبتسم، وبأي صبح ترتسم، وأي غفل من السحاب تسم أليست مباسم
الثغور لا تنجد بأفقي ولا تغور. هذا وإن كانت مباسمك مساعدة، والجو ملبس لها من
الوجوم شعاراً، فلطالما ضحكت فأبكت الغوادي، وعقت الرايح والغادي. أعوذ بواشم
البروق، بنواسم الطفل والشروق، ذوات الزايرات المتعددة الطروق، فهي التي قطعت
وهاداً ونجادا، واهتدت بسيف الصباح من السحاب قرابا. ومن البروق نجادا، واهتدت خبر
الذين أحبهم مستظرفاً مستجاداً، فعالها ولعلها. والله يصل في أرض الوجود نهلها
وعلها، وأن يبل ظعين الشوق بنسيمها البليل، وأن نعوضه من نار الغليل، بنار الخليل،
وخير طبيب يداوي الناس وهو عليل. فشكواي إلى الله لا أشكو إلى أحد. هل هو إلا فرد
تسطو رياح الأشواق على ذبالته، وعمر الشوق قد شب على الطوق، ووهب الجمع للفرق، ولم
يقنع بالمشاهدة بالوصف دون الذوق. وقلب تقسم أحشاؤه الوجد، وقسم باله الغور
والنجد. وهموم متى وردت قليب القلب، لم تبرح ولم تعد، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
أستغفر الله يا سيدي الذي
يوقد أفكاري حلو لقائه، وأتنسم أرواح القبول من تلقايه. وأسأل الله أن يديم لي آمالي
بدوام بقايه. إن بعد مداه، قربت منا يداه، وإن أخطأنا رفده أصبنا نداه. فقمرات
آدابه الزهر تجيء إلينا، وسحايب بنانه الغر تصوب دوالينا أو علينا، على شحط هواه،
وبعد منتواه. ولا كرسالة سيدي الذي عمت فضايله وخصت، وتلت على أولياء نعمته أنباء
الكمال وقصت، وآي قضى كل منها عجبا، ونال من التماح غرتها واجتلاء صفحتها أرباً.
فلقد كرمت عنه بالاشتراك في بنوته الكريمة نسباً، ووصلت لي بالعناية منه سبباً.
تولى سيدي خيرك من يتولى خير المحسنين، ويجزل شكر المنعمين. أما ما تحدث به من
الأغراض البعيدة العذيبة، وأخبر عنه من المعاني الغريدة العجيبة، والأساليب
المطيلة، فيعجز عن وصفه، وإحكام رصفه، القلم واللسان، ويعترف لها بالإبداع
المستولي على أمد الإحسان البديع وحسان. ولقد أجهدت جياد الأرتجال، في مجال
الاستعجال، فما سمحت القريحة إلا بتوقع الآجال، وعادت من الإقدام إلى الكلال.
فعلمت أن تلك الرسالة الكريمة، من الحق الواجب على من قرأها وتأملها، أن لا يجري
في لجة من ميادينها، ويديم يراع سيدي الإحسان كرينها، لا كن على أن يفسح الرياض للقصى
مدى ويقتدي بأخلاق سيدي التي هي نور وهدى. فإنه والله يبقيه، ويقيه مما يتقيه، بعد
ما أعاد ي شكوى البين وأبدى، وتظلم من بالبعد واتسعدى، ورفع حكم العتاب عن ذرات
النسيم والاقتعاب، ورعى وسيلة ذكرها ف محكم الكتاب. وولي فضله ما تولى، وصرف هواه إلى هوى
مولى أن صور السعادة على رأيه، أيده الله تجلى، وثمرة فكره المقدس، أيده الله
تتحلى. شكر الله له عن جميع نعمه التي أولى، وحفظ عليه مراتب الكمال التي هو الأحق
بها والأولى. وقد طال الكلام، وجمحت الأقلام. ولسيدي وبركتي الفضل، أبقى الله
بركته، وأعلى في الدارين درجته، والسلام الكريم يخصكم، من مملوككم ابن زمرك، ورحمة
الله وبركاته، في الخمس عشر لجمادى الأولى عام تسعة وستين.
وخاطبني كذلك، وهو من الكلام المرسل: أبو معارفي، وولي
نعمتي، ومعيد جاهي، ومقوم كمالي، ومورد آمالي، ممن توالى نعمه علي، ويتوفر قسمه
لدي؛ وأبوء له بالعجز، عن شكر أياديه. التي أحيت الأمل، وملأت أكف الرغبة، وأنطقت
الحدايق، فضلا عن اللسان، وأياديه البيض وإن تعددت، ومننه العميمة، وإن تجددت،
تقصر عن إقطاع أسمى شرف المجلس في الروض الممطور بيانه. فماذا أقول، فيمن صار
مؤثراً إلي بالتقديم، جالياً ثورة تشريفي، بالانتساب إليه في أحسن التقويم....
وإني ثالث اثنين أتشرف بخدمتها، وأسحب في أذيال نعمتها.
خليلي هل أبصرتما أو سمعتما ... بأكرم من تمشى إليه عبيد
اللهم أوزعني شكر هذا المنعم، الذي أثقلت نعمه ظهر
الشكر، وأنهضت كمال الحمد، اللهم أدم بجميع حياته، وأمتع بدوام بقايه الإسلام
والعباد، وأمسك بيمن آرائه رمق ثغر الجهاد. يا أكرم مسئول، وأعز ناصر. تفضل سيدي،
والفضل عادته، بالتعريف بما يقر عين التطلع ويقنع غلة التشوف. ولقد كان المماليك
لما مثلنا بين يدي مولانا، أيده الله، لم يقدم عملاً عن السؤال ولا عن الحال، إقامة
لرسم الزيارة، وعملاً بالواجب، فإنني أرى الديار بطرفي، فعلى أن أرى الديار بعيني،
وعلى ذلك يكون العمل إن شاء الله. وإن سأل سيدي شكر الله احتفاءه، وأبقى اهتمامه،
عن حال المماليك، من تعب السفر، وكذ الطريق، فهي بحمد الله دون ما يظن. فقد وصلنا
المنكب تحت الحفظ والكلاءة، محرزين شرف المساوقة، لمواكب المولى، يمن الله وجهته،
وكتب عصمته، واستقر جميعنا بمحل القصبة، وتاج أهبتها، ومهب رياح أجرايها، تحت
النعم الثرة، والأنس الكامل الشامل. قرب الله أمد لقايكم وطلع على ما يسر من
تلقايكم. ولما بلغنا هذه الطية، وأنخنا المطية، قمنا بواجب تعريفكم على الفور
بالأدوار، ورفعنا مخاطبة المالك على الابتداء، والسلام.
مولده: في الرابع عشر من شوال ثلاث وثلاثين وسبعمائة ومن
الطارئين منهم في هذا الباب
ابن أبي خيثمة الجبائيمحمد بن أحمد بن محمد بن أبي خيثمة
الجبائي سكن غرناطة يكنى أبا الحسن
حالهكان مبرزاً في علوم اللسان نحواً ولغة وأدباً،
متقدما في الكتابة والفصاحة؛ جامعاً فنون الفضائل، على غفلة كانت فيه.
مشيخته
روى عن أبي الحسن بن سهل،
وأبي بكر بن سابق، وأبي الحسن بن الباذش، وأبي علي الغساني وغيرهم. وصحب أبا الحسن
بن سراج صحبة مواخاة.
تواليفهصنف في شرح غريب البخاري مصنفاً مفيداً.
توفي ليلة الثامن والعشرين من جمادى الأولى سنة أربعين
وخمس ماية.
الإستنجي الحميريمحمد بن أحمد بن عبد الله بن أحمد
الإستنجي الحميري من أهل مالقة، وأصله من إستجة، انتقل سلفه إلى مالقة، يكنى أبا
عبد الله.
حالهكان من جملة لحملة العلم، والغالب عليه الأدب، وكان
من أهل الجلالة، ومن بيت علم ودين. أقرأ ببلده، وقعد بالجامع الكبير منه، يتكلم
على صحيح البخاري، وانتقل في آخر عمره إلى غرناطة.
وقال الأستاذ، كان من أبرع أهل زمانه في الأدب نظماً
ونثراً.
شعرهمنقولا من خط الوزير الراوية أبي محمد عبد المنعم بن
سماك، وقد ذكر أشياخه فقال: الشيخ المتفنن الأديب، البارع، الشاعر المفلق، قرأ على
أشياخها، وأقرأ وهو دون العشرين سنة. وكانت بينه وبين الأستاذ المقري الشهير أبي
العباس الملقب بالوزعي قرابة، وله قصيدة أولها:
ما للنسيم لدى الأصيل عليلا
ومنها:
حتى النسيم إذا ألم بأرضهم ... خلعوا عليه رقة ونحولا
وكان يقول: كان الأستاذ أبو العباس، يستعيدني هذا البيت،
ويقول نعم أنت قريبي، وقدم على غرناطة أظن سنة تسع وثلاثين وستمائة.
محنتهقال الأستاذ جرى له قصة، نقل بعض كلامه فيها، على
بعض أحاديث الكتاب من جهة استشهاد أدبي عليه فيها؛ غالب أدبه. فأطلق عنان الكلام،
وما أكثر مما يطلق فيما يأنفه، إداركات تلك الأفهام. ولكل مقام مقال. ومن الذي
يسلم من قيل وقال. وكان ذلك سبب الانقطاع، ولم يؤت من قصر باع، وانتقل إلى غرناطة،
فتوفي في أثر انقطاعه وانتقاله.
شعرهمن ذلك قوله في غرض يظهر من الأبيات:
قضوا في ربي نجد ففي القلب مرساه ... وغنوا إن أبصرتم ثم
مغناه
أما هذه نجد أما ذلك الحمى فهل عميت عيناه أم صمت أذناه
دعوه يوفي ذكره باتشامه ... ديون هواه قبل أن بتوفاه
ولا تسألوه سلوة فمن العنا ... رياضة من قد شاب في الحب
فوداه
أيحسب من أصلي فؤادي بحبه ... أني أسلو عنه حاشاه حاشاه
متى غدر الصب الكريم وفي له ... وإن أتلف القلب الحزين
تلافاه
وإن حجروا معناه وصرحوا به ... فإن معناه أحق بمعناه
ويا سابقاً عيسى الغرام سيوفه ... وكل إذا يخشاه في الحب
يخشاه
أرحها ذابت من الوجد والسرى ... ولم يبق إلا عظمها أو
بقاياه
ويا صاحبي عج بي على الخيف من منى ... وما التعني لي من
بأني ألقاه
وعرج على وادي العقيق لعلني ... أسايل عمن كان بالأمس
مأواه
وقل لليالي قد سلقن بعيشه ... وعمر على رغم العذول
قطعناه
هل العود أرجوه أم العمر ينقضي ... فأقضي ولا يقضى الذي
أتمناه
ومن شرعه أيضاً، قوله، رحمه الله:
سرت من ربي نجد معطرة الريا ... يموت لها قلبي وآونة
يحيا
تمسح أعطاف الأراك بليلة ... وتنثر كافوراً على التربة
اللميا
ومرتد في حجر الرياض مريضة ... فتحيي بطيب العرف من لم
يكن يحيا
وبشرت بأنفاس الأحبة سحرة ... فيسرع دمع العين في إثرها
جريا
سقني الله دهراً ذكره بنعيمه ... فكم لجفوني عند ذكراه
نم سقيا
ملني محياه الأنيق وحسنه ... ومن خلقي قد كنت لا أحمل
النأيا
وبي رشأ من أهل غرناطة غدا ... يجود بتعذيبي ويبخل
باللقيا
رماني فأصابني بأول نظرة ... فيا عجباً من علم الرشأ الرميا
وبدد جسمي نوره وكأنه ... أشعة شمس قابلت جسدي ملياً
تصور لي من عالم الحسن خالصاً ... فمن عجب أن كان من
عالم الدنيا
وهم بأن يرقى إلى الحور جسمه
... فثقلته كتباً وحملته حليا
إذا ما انثنى أو لاح أوجاح أو رنا ... سبا القصب
والأقمار والمسك والضيا
رعى الله دهراً كان ينشر وصله ... برود طواها البين في
صدره طيا
مشيختهومما يشتمل على أسماء شيوخه، ويدل على تبحره في
الأدب ورسوخه، إجازته أبا الوليد إسماعيل بن تبر الأيادي، وعندها يقال، أتى الوادي.
إن لي عند كل نفحة بستان ... من الورد أو من الياسمينا
نظرة والتفاتة أتمنى ... أن تكوني حللت فيما تلينا
ما هذه الأنوار اللايحة، والنوار الفاتحة، إني لأجد ريح
الحكمة، ولا مفند، وأرد مورد النعمة ولا منكد، أمسك دارين ينهب، أم المندل الرطب
في الغرام الملهب، أم نفحت أبواب الجنة ففاح نسيمها، وتوضحت أسباب المنة، فلاح وسيمها.
محياك أم نور الصباح تبسما ... ورياك أم نور الأقاح
تنسما
فمن شم من ذا نفحة رق شيمة ... ومن شام من ذا لمحة راق
مبسما
أجل خلق الإنسان من عجل. قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم، " لتفهموا أسرار الحكم وتعوا، وإذا رأيتم رياض الجنة فارتعوا " ،
يعني مجالس الذكر، ومأنس النظر والفكر، ومطالع المناظرة، وخواضع المحاضرة، فهذه
بتلك، وقد انتظمت الجواهر النبيوية في سلك، ولهان حمى للعطارة وطيس، بين مسك
المداد، وكافور القراطيس. فيا أيها المعلم الأوحد، والعالم الذي لا تنكر أمامته
ولا تجحد، حومت على علم الملوك، ولزمت بحلم طريق الحكم المسلوك، فلم تعد أمل
الحكماء، ولم تعد إلا بعمل العلماء، وقد قال حكيمهم الفاضل وعظيمهم الذي لا مناظر له
ولا مفاضل، إذا خدمت الأمراء، فكن بين استلطاف واستعطاف، تجن المعارف والعوارف،
دانية القطاف. فتعلمهم وكأنك تتعلم منهم، وترويهم، وكأنك تروي عنهم، فأجريت الباب،
وامتريت من العلم اللباب، ثم لم تبعد، فقد فعل النحويون ذلك في يكرم، ويعد، ويعز،
ولا غرو أن تقرأ على من هو دونك.
وستتجيز الإجازة عن القوم العظام، يقصدونك. فهذا رسول
الله صلى الله عليه وسلم، قد أمره الله بأن يقرأ على أبي بن كعب، " فهل في حي
الخواطر الذكية من حي " ، فقال له رضي الله عنه، الله أمرك أن تقرأ علي،
والعناية الربانية، تنادى إلي إلي، وإذا قال لي من أحب مولاي، واستعار لزينته حلاي:
فما على الحبيب من اعتراض ... وللطبيب تصرف في المراض
قد يرحل المرء لمطلوبه ... والسبب المطلوب في الراحل
عجت متواضعاً، فما أبرمت في معاجك، ولا ظلمت في السؤال،
نعجته إلى نعاجك، فإنه سر الله، لا يحل فيه الإفشاء، وحكمة الله البالغة، والله
يؤتى الكمة من يشاء، وإن لبست من التواضع شعاراً، ولبست عن الترفع تنبيهاً على
السر المكتوم وإشعاراً. فهذه الثريا من العجايب إذا ارتفعت في أعلى صعودها، وأسمى
راياتها الخافقة وبنودها. نهاية وجودها الحسي عدم، وغاية وصفها الشبهي، أن تشبه
بقدم، فإذا همت بالركوع، وشمت في المغرب ريح الوقوع، كان لها من السمو القدح
المعلى، وعادت قرطاً تنزين به الآذان وتتحلى.
وفي الشرق كأس وفي مغاربها ... قرط وفي وسط السماء قدم
هذه آثار التواضع متلوة السور، مجلوة الصور، وكان بعضهم
إذا أعطى الصدقة، يعطيها ويده تحت يد لسايل، وهكذا تفهم المايل. فإنه لما سمع
النبوة تقول، اليد العليا، خير من اليد السفلى، أراد أن يؤثر المقام الأعلى. ولما
أعطى أبو بكر، رضي الله عنه. ماله كله، أعطى عمر رضي الله عنه النصف من المال لا احتياطاًً
على ماله؛ ولكن ليقف لأبي بكر في مقام القصور عن كماله، تفويضاً وتسليماً،
وتنبيهاً لمن كان له قلب وتعليما. ورؤى الدار قطني رحمة الله عليه يحبس أباه
بركابه، فلا ينكر عليه، فقيل له في ذلك، فقال رأيته يبادر إلى فضيلة فكرهت مخالفته.
فوق السماء وفوق الزهر ما طلبوا ... وإذا ما أرادوا غاية
نزلوا
وإلى هذا وصل الله حفظك،
وأجزل من الخيرات حظك، فإنه وصلتني الكراسة المباركة، الدالة على التفنن في العلوم
والمشاركة، فبينما أنا أتلو الإجازة، وأريق سدور البيان وإعجازه، ألقي إلي كتاب
كريم، إنه من أبي الوليد، وإنه بسم الله الرحمن الرحيم، فحرت، ووقفت كأنني سحرت،
وقلت ساحران تظاهرا معاً، وأحدهما قاتلي، فكيف إذا اجتمعا.
فلو كان رمحاً واحداً التقيته ... ولا كنه رمح وثان
وثالث
ومن لعبت بشيمته المثاني ... فأحرى أن تطير به المثالث
وطار بي الشوق كل مطار، وقرأت سماء فكرتي سورة الانفطار،
وكدت أصعد إلى السماء توقداً، واختلط بالهواء توددا.
كانت جواهرنا أوايل قبل ذان ... فالآن صارت بالتحول ثوان
وجدت وراء الحسن وهي كثيفة ... فوجودهن الآن في الأذهان
ولم يكف أن بهرت بالحسن الخلوب، حتى أمرت أن أنظم على
ذاك الأسلوب، وبالحرى لذلك النثر البديع، الحريري أو البديع، ولذلك النظم العجيب،
المتنبي أو حبيب، ولذلك التصوف الرقيق، الحارث بن أسد ذي التحقيق. وأما الحديث،
فما لك تقطع تلك المسالك، إلا أن العربية ليس لأحد معه فيها دليل، أستغفر الله إلا
للخليل، لا كن أصول الدين مجرية، تركت تلك الميادين. هناك الله جمع كل منقبة
جليلة، فترى الفضيلة لا ترد فضيلة، فمر الرديف وقد ركب غضنفرا، أو المدعي صفة فضل،
وكل الصيد في جوف الفرا، من يزحم البحر بغرق، ومن يطعم الشجر يشرق. وهل يباري
التوحيد بعمل، أو يجاري البراق بجمل. ذلك انتهى إلى سدرة المنتهى. وهل انبرى ليطم
خده في الثرى. لا تقاس الملايكة بالحدادين، ولا حكماء يونان بالقدادين. أفي طريق
الكواكب يسلك، وعلى الفلك الأثير يستملك. أين الغد من الأمس، وظلمة الغسق من وضح
الشمس. ولولا ثقتي بغمام فضلك الصيب لتمثلت لنفسي بقول أبي الطيب:
إذا شاء أن يلهو بلحية أحمق ... أراه غبارى ثم قال له
الحق
فإن رضيت أيها العلم، فما لجرح إذا أرضاكم ألم. تر كيف
أجاري أعوج بمغرب أهوج وأجاري ذا العقال بجحش في عقال. ظهر بهذه الظلمة، ذلك
الضياء، وبضدها تتبين الأشياء. وما يزكو بياض العاج حتى يضاف إلى سواد الأبنوس.
ألفاظ تذوب رقة، وأغراض تملك حب الكريم ودرة الزهر، والزهر بين بنان وبيان، والدر
طوع لسان وإحسان.
وقالوا ذاك سحر بأهلي ... فقلت وفي مكان الهاء باء
وأما محاسن أبي الوليد، فيقصر عنها أبو تمام وابن الوليد.
معان لبسن ثياب الجمال ... وهزت لها الغانيات القدودا
كسون عبيداً ثياب عبيد ... وأضحى لبيد لديها بليداً
وكيف أعجب من إجرايك لهذه الجياد، وأياديك من إياد. أو
رثت هذه البراعة المساعدة، عن قس بن ساعدة. أجدك أنت الذي وصف رسول الله صلى الله
عليه وسلم، فقال، كأني أنظر إليه في سوق عكاظ على جمل أورق، وهو يقول أيها الناس:
مطر ونبات، وآباء وأمهات، إلى قوله:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصاير
لما رأيت موارد للموت ... ليس لها مصادر
أيقنت أني لا محالة ... حيث صار القوم صاير
إيه بغير تمويه. رجع الحديث الأول إلى ما عليه المعول.
سألتني إيها السيد الذي يجب إسعافه، أن أرغم أنف القلم حتى يجري رعافه، وأن أكحل
جفون الأوراق بمداد الأقلام، وأن أجمع الطروس والأمدة، بين إصباح وإظلام، وأطرز
بياض السوسن بخضرة الآس، وأبرز العلم الأبيض تحت راية بين العباس، فقلت مبادراً ممتثلاً،
وجلت في ميدان الموافقة متمثلاً:
لبيك لبيك أضعافاً مضاعفة ... إني أجبت ولكن داعي الكرم
أتى من المجد أمر لا مرد له ... أمشي على الرأس فيه لا
على القدم
دعاء والله نجاب، ونداء ليس دونه حجاب
كتبت ولو أني أستطيع ... لإجلال قدرك بين البشر
قددت البراعة من أنملى ... وكأن المداد سواد البصر
نعم أجزت سيدي الفقيه الأجل،
الخطيب الأكرم، العالم العلم، الأحد الأكمل، الحسيب الأحفل الأطول، أبا الوليد بن
الفقيه الأجل، المعظم الموقر، المكرم المبارك الأظهر، المرحوم أبي زكريا يحيى بن
سعيد بن قترى الأيادي القنرموني، وبنيه السادات، النجباء المباركين، أبا القاسم
أحمد. وأبا إسحق إبراهيم، وأبا الحسين بتزيل. ونعمت الأغصان والشجرة، والأفنان
والثمرة، أقر الله بهم أعين المجد، ولا زالوا بدورا في مطالع السعد، ولا برحوا في مكارم،
يجنون نوارها، ويجتلون أنوارها، وتفيض عليهم يد العناية الآلهية، نهرها الكوثري
ونهارها، جميع ما رويته، قراءة وسماعاً، وإجازة ومناولة من العلوم على اختلافها،
وتباين أصنافها، بأي وجه رويته، وعلى أي وصف تقلدته ودريته، وكذلك أجزتهم جميع ما
قلته وأقوله. من مسطور ومرسوم، ومنثور ومنظوم، وتصرفت فيه من منقول ومفهوم،
وقصايدي المسماة بالروحانيات، ومعشراتي الحبيبات، وما نظمته من الوتريات، وشرحي
لشعر أبي الطيب المسمى بظهور الإعجاز بين الصدور والأعجاز، وكتابي المسمى شمس
البيان في لمس البنان، والزهرة الفايحة في الزهرة اللايحة، ونفح الكمامات في شرح المقامات،
واقتراح المتعلمين في اصطلاح المتكلمين، وكتاب التصور والتصديق في التوطية لعلم
التحقيق، ورقم الحلل في نظم الجمل، ومفتاح الإحسان في إصلاح اللسان. وما أنشأته من
السلطانيات نظماً ونثراً، وخطابة وشعراً. والله تعالى يجعل أعمالنا خالصة لوجهه
بمنه وكرمه، فليقل الفقيه الأجل، وبنوه الأكرمون رضي الله عنهم، أنبأنا وأخبرنا
وحدثنا أو ما شاءوا من ألفاظ الرواية، بعد تحري الشروط المرعية، في الإجازات
الشرعية، وإن ذهبوا حفظ الله كمالهم، وأراهم في الدارين آمالهم، إلى تسمية من لي
من المشايخ قدس الله أرواحهم، وزحزح عن النار أشباحهم: فمنهم الأستاذ الخطيب
الكبير، العالم الفاضل الجليل، البقية الصالحة، آخر الأدباء، وخاتمة الفضلاء، أبو جعفر
أحمد بن يحيى بن إبراهيم الحميري القرطبي الدار، رضي الله عنه. قرأت عليه بقرطبة،
شعر أبي الطيب، قراءة فهم لمعانيه، وأعراب لألفاظه؛ وتحقيق للغته، وتنقير عن
بديعه. وكذلك قرأت عليه أكثر شعر أبي تمام. وسمعت عليه كتاب الكامل لأبي العباس
المبرد، ومقامات التميمي، كان يرويها عن منشيها، وكانت عنده بخط أبي الطاهر.
وتفقهت عليه تبصرة الضمري. وكان على شياخته رحمه الله، ثابت الذهن، مقبل الخاطر، حافظاً
المعيا.
يروع ركانة ويذوب ظرفا ... فما تدري أشيخ أم غلام
نأتيه بمقاطع الشعر فيصلحها لنا، ويقف على ما نستحسنه
منها، فنجده أثبت منا، ولقد أنشدته يوماً، في فتى مفقود العين اليسرى:
لم تزو إحدى زهرتيه ولا انثنت ... عن نورها وبديع ما
تحويه
لكنه قد رام يغلق جفنه ... ليصب بالسهم الذي يرميه
فاستفادهما وحفظهما. ولم يزل رحمه الله، يعيدهما
مستحسناً لهما، متى وقع ذكري. وكان يروى عن الأمام المازري بالإجازة، وعن القاضي
أبي مروان بن مسرة، وعن الأستاذ عباس، وعن أبي عبد الله بن أبي الخصال.
ومنهم الفقيه الأجل العالم العدل، المحدث الأكمل،
المتفنن، الخطيب، القاضي أبو محمد بن حوط الله، سمعت عليه كتباً كثيرة بمالقة،
بقراءة الفقيه الأستاذ أبي العباس بن غالب، ولقيته بقرطبة أيضاً، وهو قاضيها.
وحدثني عن جدي، وعن جملة شيوخ. وله برنامج كبير. وأخوه القاضي الفاضل، أبو سليمان
أيضاً منهم.
ومنهم الفقيه الأجل، العالم العلم، الأوحد. النحوي،
الأديب المتقن، أبو علي عمر بن عبد المجيد الأزدي، قرأت عليه القرآن العزيز
مفردات، وكتاب الجمل، والإيضاح وسيبويه تفقهاً، وكذلك الأشعار الستة تفقهاً، وما
زلت مواظباً له إلى أن توفي رحمه الله. وكان فريد عصره في الذكاء، ولم يكن في حلبة
الأستاذ أبي زيد السهيلي أنجب منه على كثرتهم. وقد قال الأستاذ أبو القاسم السهيلي
للإمام المنصور رضي الله، هو أقعد لكتاب سيبويه منا. وقال لي يوما، وقد نظر إلى
طالب يصغي بكليته إلى ثان، فقلت ماذا، فقال إن حب الشيء يعمي ويصم، فقلت له، ويعيد
الصبح ليلاً مدلهم، فاستحسته.
ومنهم الفقيه الأجل، الأديب
الأريب الكامل، اللغوي الشهير، أبو علي ابن كسرى الموري، قريبي ومعلمي. وكان من
طلبة أبي القاسم السهلي، وممن نبغ صغيراً. وهو الذي أنشد في طفولته السيد أبا أسحق
الكبير بإشبيلية:
قسما بحمص وإنه لعظيم ... فهي المقام وأنت إبراهيم
وكان بالحضرة الأستاذ أبو القاسم السهيلي، فقام عند
إتمامه القصيدة، فقال لمثل هذا كنت أحسيك الحسا، ولمث هذا كنت أواصل في تعليمك
الإصباح والإمساء وقد أنشد هذا لأمير المؤمنين أب يعقوب رضي الله عنه:
أمعشر أهل الأرض بالطول والعرض ... بهذا أنادي في
القيامة والعرض
فقد قال الله فيك ما أنت أهله ... فيقضي بحكم الله فيك
بلا نقض
فإياك يعني ذو الجلال بقوله ... كذلك مكنا ليوسف في
الأرض
ومهم الفقيه الأجل، العالم المحدث، الحافظ الفاضل
المؤثر، السيد أبو محمد القرطبي. قرأت عليه القرآن بالروايات مفردات، وتفقهت في
الجمل والأشعار، وأجازني جميع ما رواه. وكذلك فعل كل واجد ممن تقدم ذكره. وكان
رحمه الله آخر الناس علماً ونزاهة وحسن خلق، وجمال سمت وأبهة ووقار، وإتقان وضبط، وجودة
وحفظ.
ومنهم الفقيه الأجل، الحاج الفاضل، الشهيد في كاينة
العقاب، المحدث الورع، الزاهد الطاهر، أبو عبد الله بن حسين بن صاحب الصلاة الأنصاري،
وعليه كان ابتداي للقراءة، وكان مبارك التعليم. حسن التفهيم، شديد التواضع.
ومنهم الفقيه الأجل الفاضل الورع، المحدث، الحاج الملهم،
المجاب الدعوة، الميمون النقيبة الأواب. أبو الحجاج بن الشيخ. رضي الله عنه. وهذا
الكتاب على الإطالة مني. ولكن القرطاس فني، والسلام الأتم عليكم، ورحمة الله
وبركاته. قال ذلك، وكتبه، العبد المعترف بذنبه، الراجي رحمة ربه. محمد بن عبد الله
الحميري ثم الإستجي، في أواسط شعبان المكرم من عام أحد وأربعين وستمائة.
وفاتهمن خط الوزير أبي محمد عبد المنعم بن سماك. قال، قدم غرناطه،
أظن سنة تسع وثلاثين وستمائة، وشكى علة البطن مدة ثمانية أشهر بدار أبي رحمه الله،
مرضناه الثلاثة الأخوة، إلى أن توفي رحمه الله، ودفن بمدفنه، مغنى الأدب، بروضة
الفقيه أبي الحسن سهل بن مالك.
محمد بن أحمد بن علي الهوارييكنى أبا عبد الله، ويرعف
بابن جاب رمن أهل ألمرية.
حالهرجل كفيف البصر، مدل على الشعر، عظيم الكفاية
والمنة، على زمانته. رحل إلى المشرق، وتظافر برجل من أصحابنا يعرف بأبي جعفر
الإلبيري، صارا روحين في جسد، ووقع الشعر منهما بين لحسي أسد، وشمر للكدية، فكان
وظيف الكفيف النظم، ووظيف البصير الكتب، وانقطع الآن خبرهما. وجرى ذكره في الإكليل
بما نصه: محسوب، من طلبتها الجلة، ومعدود فيمن طلع بأفقها من الأهلة، رحل إلى المشرق،
وقد أصيب ببصره، واستهان في جنب الاستفادة بمشقة سفره، على بيان عذره، ووضوح ضره.
شعرهوشعره كثير، فمنه قوله:
سلوا مسر ذاك الخال في صفحة الخد ... متى رقموا بالمسك
في ناعم الورد
ومن هو غصن القد منها لفتنتي ... وأودعه رمانتي ذلك
النهد
ومزمتي القصب اللدان بوصلها ... إلى أن أعزر الحسن من
ذلك القد
فتاة تفت القلب مني بمقلة ... له رقة الغزلان في سطوة
الأسد
تمنيت أن تهدي إلى نهودها ... فقالت رايت البدر يهداه أو
يهد
فقلت وللرمان بد من الجنا فتاهت وقالت باللواحظ لا الأيد
فقلت ليس للقلب عندك حاصل ... وقالت قلوب الناس كلهم
عندي
وقلت اجعليني من عبيدك في الهوى ... فقالت كفاني كم
لحسني من عبد
إذا شئت أن أرضاك عبداً فمت ... هوى ولا تشكي واصبر على
ألم الصد
ألم تر أن النحل يحمل ضرها ... لأجل الذي تجنيه من خالص
الشهد
كذلك بذل النفيس سهل لذي النهى ... لما يكسب الإنسان من
شرف الحمد
ألست ترى أزجاته طالما أضاع ... كريم المال في طلب المجد
ومن شعره أيضاً قوله:
عرج على بان العذيب وناد ... وأنشد فديتك إن حل فؤادي
وإذا مررت على المنازل بالحما
... فاشرح هنالك لوعتي وسهادي
إيه فديتك يا نسيمة خبري ... أرب الأحبة والحمى والوادى
يا سعد قد بان العذيب وبانه ... فانزل فديتك قد بدا
إسعادى
خد في البشارة مهجتي يوما إذا ... بان العذيب ونور حسنه
سعادي
قد صح عيدي يوم أبصر حسنها ... وكذا الهلال علامة
الأعياد
ومما نقلناه من خبر قيده لصاحبنا الفقيه الأستاذ أبي علي
منصور الزواري، ومما أدعاه لنفسه:
علي لكل ذي كرم ذمام ... ولي بمدارك المجد اهتمام
وأحسن ما لدي لقاء حر ... وصحبته معشر بالمجد هام
وإني حين أنسب من أناس ... على قمم النجوم لها مقام
يميل بهم إلى المجد ارتياح ... كما مالت بشارتها المرام
هم لبسوا أديم القيل برداً ... ليسفر من مرادهم الظلام
هم جعلوا متون العيش أرضا ... فمذ عزموا الرحيل فقد أقام
فمن كل البلاد لنا ارتحال ... وفي كل البلاد لنا مقام
وحول موارد العلياء منها ... لنا مع كل ذي شرف زحام
تصيب سهامنا غرض المعالي ... إذا ضلت عن الغوص السهام
وليس لنا من المجد اقتناع ... ولو أن النجوم لنا قيام
ننزه عرضنا عن كل لوم ... فليس يشين سؤددنا ملام
ونبذل لا نقول العام ماذا ... سواء كان خصب أو حطام
إذا ما المحل عم بلاد قوم ... أثبناها فجاد بنا الغمام
وإن حضر الكرام ففي يدينا ... ملاك أمورهم ولنا الكلام
وفينا المستشار بكل علم ... ومنا الليث والبطل الهمام
فميدان الكلام لنا مداه ... وميدان الحروب بنا يقام
كلا الأمرين ليس له بقوم ... سوانا يوم نازلة تمام
يريق دم المداد بكل طرس ... وليس سوى اليراع لنا سهام
ونكتب بالمثقفة العوالي ... بحيص الطرس لبات وهام
إذا عبست وجوه الدهر منا ... إليها فانثنت ولها انتقام
لقد علمت قلوب الروم أنا ... أناس ليس يعوزنا مرام
وليس يضيرنا أنا قليل لعمر أبيك ما كثر الكرام
إذا ما الراية الحمراء هزت ... نعم فهناك للحرب ازدحام
وما أحمرت سدى بل من دماً ... ليس على جوانبها انسجام
تظلل من بني نصر ملوكا ... حلال النوم عندهم حرام
فكم قطعوا الدجى في وصل مجد ... ومكم سهروا إذا ما الناس
نام
أبا الحجاج لم تأت الليالي ... بأكرم منك إن عد الكرام
ولا حملت ظهور الخيل أمضى ... وأشجع منه إن هز الحسام
وأني جئت من شرق لغرب ... ورمت بي الزمان كما ترام
وجربت الملوك وكل شخص ... تحدث عن مكارمه الأنام
فلم أر مثلكم يا آل نصر ... جمال الخلق والخلق العظام
ومنها:
لأندلس بكم شرف وذكر ... تود بلوغ أدناه الشآم
سعى صوب الغمام بلاد قوم ... هم في كل مجدبة غمام
إليك بها مهذبة المعاني ... يرينها ابتسام وانتظام
لها لجناب مجدكم انتظام ... طواف وفي أركان إسلام
تجزت وما كادت، وقد وطى الإيطاء صروحكم، وأعيا الإكثار
حارثها وسروجها، الله ولي التجاوز بفضله.
ابن الحداد الوادي آش؟محمد بن أحمد بن الحداد الوادي آش
يكنى أبا عبد الله.
؟
حاله
شاعر مفلق، وأديب شهير، مشار
إليه في التعاليم، منقطع القرين منها، في الموسيقى، مضطلع بفك المعمى. سكن ألمرية،
واشتهر بمدح رؤسائها من بني صمادح. وقال ابن بسام، كان أبو عبد الله هذا، شمس ظهيرة،
وبحر خبر وسيرة، وديوان تعاليم مشهورة، وضح في طريق المعارف، وضوح الصبح المتهلل،
وضرب فيها بقدح ابن مقبل، إلى جلالة مقطع، وأصاله منزع، ترى العلم ينم على أشعاره،
ويتبين في منازعه وآثاره.
تواليفهديوان شعر كبير معروف. وله في العروض تصنيف، مزج
فيه بين الأنحاء الموسيقية، والآراء الجليلة.
بعض أخبارهحدث بعض المؤرخين، مما يدل على ظرفه، أنه فقد
سكناً عزيزاً عليه، وأحوجت الحال إلى تكلف سلوة، فلما حضر الندماء، وكان قد رصد
الخسوف بالقمر، فلما حقق أنه قد ابتدأ، أخذ العود وغنى:
شقيقك غيب في لحده ... وتشرق يا بدر من بعده
فهلا خسفت وكان الخسوف ... حداداً لبست على فقده
وجعل يرددها، ويخاطب البدر، فلم يتم ذلك، إلا واعترضه
الخسوف، وعظم من الحاضرين التعجب. قال، وكان مني في صباه بصبية من الروم، نصرانية،
ذهبت بلبه وهواه، تسمى نويرة، افتضح بها، وكثر نسيبه.
شعرهقال في الغرض المذكور:
حديثك ما أحلى فزيدي وحدثي ... عن الرشإ الفرد الجمال
المثلث
ولا تسأمي ذكراه فالذكر مؤنس ... وإن بعث الأشواق من كل
مبعث
وبالله فارقي خبل نفسي بقوله ... وفي عقد وجدي بالإعادة
فابعث
أحقاً وقد صرحت ما بي أنه ... تبسم كاللاهي بنا المتعبث
وأقسم بالغنجيل أني شابق ... وناهيك دمعي من محق محنث
ولا بد من قصي على القس قصتي ... عساه مغيث المدنف
المتغوث
ولم يأتهم عيسى بدين قساوة ... فيقسو على بني ويلهو
بمكرث
وقلبي من حلى التجلد عاطل ... هوى في عزال الواديين
المرعث
سيصبح سرى كالصبح مشهراً ... ويمسي حدثيي عرضه المتحدث
ويغري بذكرى بين كأس وروضة ... ويشد وبشعري فوق مثنى
ومثلث
ومن شعره في الأمداح الصمادحية:
لعلك بالوادي المقدس شاطئ ... وكالعنبر الهندي ما أنت
واطئ
وإني في رياك واجد عرف ريحهم ... فروح الجوى بين الجوانح
ناشئ
ولي في السرى من نارهم ومنارهم ... هداة حداة والنجوم طوافئ
لذلك ما حنت ركايبي وحمحمت ... عرابي وأوحي سيرها
المتباطئ
فهل هاجها ما هاجني أو لعلها ... إلى الوخد من نيران
وجدي لواجئ
رويداً فذا وادي لبيني وإنه ... لورد لباناتي وإني لظامئ
ميادين تهيامي ومسرح ناظري ... فللشوق غايات لها ومبادئ
ولا تحسبوا غيداً حمتها مقاصر ... فتلك قلوب ضمنتها جآجئ
ومنها:
محاملة السلوان مبعث حسنه ... فكل إلى دين الصبابة صابئ
فكيف أرقى كلم طرفك في الحشا ... وليس لتمزيق المهند
رافئ
ومالي لا أسمو مراداً وهمة ... وقد كرمت نفسي وطابت ضآضئ
وما أخرتني عن تناه مبادئ ... ولا قصرت بي عن تباه مناشئ
ولكنه الدهر المناقض فعله ... فذو الفضل منحط وذو النقص
نامئ
كأن زماني إذ رآني جذيله ... يلابسني منه عدو ممالئ
فداريت إعتابا ودارأت عاتباً ... ولم يغنني أني مدار
مدارئ
فألقيت أعباء الزمان وأهله ... فما أنا إلا بالحقائق
عابئ
ولازمت سمت الصمت لا عن مذامة ... فلي منطق للسمع والقلب
صابئ
ولولا علا الملك ابن معن محمد ... لما برحت أصدافهن
اللآلئ
لآلئ إلا أن فكرى غائص ... وعلمي ذوماء ونطقي شاطئ
تجاوز حد الوهم واللخط والمنى ... وأعشى الحجا لألاؤه
المتلألئ
تنعكس الأبصار وهي حواسر ... وتنقلب الأفكار وهي خواسئ
وقال من أخرى:
أقبلن في الحبرات يقصرن الخطا ... ويرين حلل الوارشين
القطا
سرب الجوى لا الجو عود حسنه ... أن يرتعى حب القلوب
ويلقطا
مالت معاطفهن من سكر الصبا ... ميلا يخيف قدودها أن
تسقطا
ما أخجل البدر المنير إذا مشى ... يختال والخوط النضير
إذا خطا
ومنها في المدح.
يا وافدي شرق البلاد وغربها ... أكرمتما خيل الوفادة
فاربطا
ورأيتما ملك البرية فاهنآ ... ووردتما أرض المرية فاحططا
يدمي نحور الدارعين إذا ارتأى ... ويذل عز العالمين إذا
سطا
وإحسانه كثير. دخل غرناطة، ومن بنات عملها وطنه رحمه
الله.
محمد بن إبراهيم بن خيرةيكنى أبا القاسم. ويعرف بابن
المواعين، حرفة أبيه، من أهل قرطبة. واستدعاه السيد أبو سعيد الوالي بغرناطة إليه،
فأقام عنده مدة من عامين في جملة من الفضلاء مثله.
حالهقال ابن عبد الملك، كان كاتباً بليغاً، شاعراً
مجيداً، إستكتبه أبو حفص ابن عبد المؤمن، وحظي عنده حظوة عظيمة، لصهر كان بينهما
بوجه ما، ونال فيه جاهاً عظيما، وثروة واسعة. وكان حسن الخط، رايقه، سلك فيه في
ابتدايه مسلك المتقن أبي بكر بن خيرة.
مشيختهروى عن أبي بكر بن عبد العزيز، وابن العربي، وأبي
الحسن شريح، ويونس بن مغيث، وأبي عبد الله حفيد مكي، وابن أبي الخصال، وابن بقي.
تواليفهله تصانيف تاريخية وأدبية منها ريحان الآداب،
وريعان الشباب لا نظير له. والوشاح المفضل. وكتاب في الأمثال السايرة. وكتاب في
الأدب؛ نحا فيه منحى أبي عمر بن عبد البر في بهجة المجالس.
توفي بمراكش سنة أربع وستين وخمسمائة.
ابن باق الأمويمحمد بن إبراهيم بن علي بن باق الأموي
مرسي الأصل، غرناطي النشأة، مالقي الإسكان، يكنى أبا عبد الله.
حالهمن عايد الصلة: كان رحمه الله، كاتباً أديباً ذكيا،
لوذعيا، يجيد الخط، ويرسل النادرة، ويقوم على العمل، ويشارك في الفريضة. وبذ
السباق في الأدب الهزلي المستعمل بالأندلس. عمر زمانا من عمره، محارفاً للفاقة،
يعالج بالأدب الكدية، ثم استقام له الميسم، وأمكنه البخت من امتطاء غاربه، فأنشبت
الحظوة فيه أناملها بين كاتب وشاهد ومحاسب ومدير تجر، فأثرى ونما ماله، وعظمت حاله،
وعهد عند ما شارف الرحيل، بجملة تناهز الألف من العين، لتصرف في وجوه من البر،
فتوهم أنها كانت زكاة امتسك بها.
وجرى ذكره في التاد بما نصه: مدير أكواس البيان المعتق، ولعوب
بأطراف الكلام المشقق، انتحل لأول أمره الهزل من أصنافه، فأبرز در معانيه من
أصدافه، وجنى ثمرة الإبداع لحين قطافه. ثم تجاوزه إلى المعرب وتخطاه، فأدار كأسه
المترع وعاطاه، فأصبح لفنه جامعاً، وفي فلكيه شهاباً لامعاً، وله ذكاء يطير شرره،
وإدراك تتبلج غرره، وذهن يكشف الغوامض، ويسبق البارق الوامض، وعلى ذلاقة لسانه،
وانفساح أمد إحسانه، فشديد الضنانة يشعره. مغل لسعره.
شعرهأخبرني الكاتب أبو عبد الله بن سلمة، أنه خاطبه بشعر
أجابه عنه بقوله، في رويه:
أحرز الخصل من بني سلمة ... كاتب تخدم الظبا قلمه
يحمل الطرس عن أنامله ... إثر الطرس كلما رقه
ويمد البيان بفكرته مرسلاً حيث يممت ديمه
خصني متحفأ بخمس إذا ... بسم الروض فقن مبتسمة
قلت أهدى زهر الربا خضلا ... فإذا كل زهرة كلمة
أقسم الحسن لا يفارقها ... فأبر انتقاؤها قسمه
خط أسطارها ونمقها ... فأتت كالعقود منتظمة
كاسياً من حلاه لي حللاً ... رسمها من بديع ما رسمه
طالباً عند عاطش نهلا ... ولديه الغيوث منسجمة
يبتغي الشعر من أخي بله ... أخرس العي والقصور فمه
أيها الفاضل الذي حمدت ... ألسن المدح والثنا شيمه
لا تكلف أخاك مقثرحا ... نشر عار لديه قد كتمه
وابق في عزة وفي دعة ... صافي العيش وارداً شبمه
ما ثنى الغصن عطفه طرباً ... وشدا الطير فوق نغمه
مشيخته
قرأ على الأستاذ أبي جعفر
الزبير، والخطيب أبي عثمن بن عيسى.
توفي بمالقة في اليوم الثامن والعشرين لمحرم عام اثنين
وخمسين وستمائة، وأوصى بعد أن حفر قبره، بين شيخيه الخطيبين أبي عبد الله
الطنجالي، وأبي عثمن بن عيسى، أن يدفن، وأن يكتب على قبره هذه الأبيات:
ترحم على قبر ابن باق وحيه ... فمن حق ميت الحي تسليم
حيه
وقل آمن الرحمن روعة خائف ... لتفريطه في الوجبات وغيه
قد اختار هذا القبر في الأرض راجياً ... من الله تخفيفاً
بقرب وليه
فقد يشفع الجار الكريم لجاره ... ويشمل بالمعروف أهل
نديه
وإني بفضل الله أوثق واثق ... وحسبي وإن أذنبت حب نبيه
ابن فضيلة المعافريمحمد بن إبراهيم بن سالم بن فضيلة
المعافري من أهل ألمرية يدعى بالبيو، ويكنى أبا عبد الله.
حالهمن الإكليل الزاهر، شيخ أخلاقه لينة، ونفسه كما قيل
هينة، ينظم الشعر سهلا مساقه، محكما اتساقه، على فاقة ما لها من إفاقة. أنشد
السلطان بظاهر بلده قوله:
سرت ريح نجد من ربي أرض بابل ... فهادت إلى مسرى سراها
بلابل
وذكرني عرف النسيم الذي سرى ... معاهد أحباب سراة أفاضل
فأصبحت مشغوفاً بذكري منازل ... ألفت فوا شوقي لتلك
المنازل
فيا ريح هبي بالبطاح وبالربا ... ومري على أغصان زهر
الخمائل
وسيري بجسمي للتي الروح عندها ... فروحي لديها من أجل
الوسائل
وقولي لها عني معناك بالهوى ... له شوق معمود وعبرة ثاكل
فيا بأبي هيفاء كالغصن تثنى ... بقد يقد كاد ينقد مايل
فتاة براها الله من فتنة ... فمن رآها ولم يفتن فليس
بعاقل
لها منظر كالشمس في رونق الضحا ... ولحظ كحيل ساحر الطرف
بابل
بطيب شذاها عطرت كل عاطر ... كما بحلاها زينت كل عاطل
رمتني بسهم من سهام جفونها ... فصادف ذاك السهم مني
مقاتل
فظلت غريقاً في بحار من الهوى ... وما الحب إلا لجة دون
ساحل
فيا من سبت عقلي وأفنت تجلدي ... صلبني فإن البعد لا شك
قاتل
فلي كبد شوقي إليك تفطرت ... وقلب بنيران الجوى في مشاعل
ولي أدمع تحكي ندا كف يوسف ... أمير العلى الأرضيي
الجميل الفضايل
إذا مد بالجود الأنامل لم تزل ... بحور الندى تهمى بتلك
الأنامل
ومن شعره قوله من قصيدة:
بهرت كشمس في غلالة عسجد ... وكبدر تم في قضيب زبرجد
ثم انثنت كالغصن هزته الصبا ... طرباً فتزرى بالغصون
الميد
حوراء بارعة الجمال غريدة تزهى ... فتزري بالقضيب الأملد
إن أدبرت لم تبق عقل مدبر ... أو أقبلت قتلت ولكن لاتد
تواليفهقال شيخنا أبو البركات، ابتلى باختصار كتب الناس،
فمن ذلك مختصره المسمى بالدرر المنظومة الموسومة في اشتقاق حروف الهجا المرسومة،
وكتاب في حكايات تسمى روضة الجنان، وغير ذلك.
توفي في أواخر رمضان من عام تسعة وأربعين وسبع ماية،
ودخل غرناطة غير مرة.
ابن مرج الكحلمحمد بن إدريس بن علي بن إبراهيم بن القاسم
من أهل جزيرة شقر، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن مرج الكحل
حالهكان شاعراً مفلقا غزلا، بارع التوليد، رقيق الغزل.
وقال الأستاذ أبو جعفر: كان شاعراً مطبوعاً، حسن الكفاية، ذاكراً للأدب، متصرفاً
فيه. قال ابن عبد الملك: وكانت بينه وبين طائفة من أدباء عصره مخاطبات، ظهرت فيها
إداته. وكان مبتذل اللباس، على هيئة أهل البادية، ويقال إنه كان أمياً.
من أخذ عنهروى عنه أبو جعفر بن عثمان الوراد، وأبو
الربيع بن سالم، وأبو عبد الله بن الأبار، وابن عسكر، وابن أبي البقاء، وأبو محمد
بن عبد الرحمن بن برطلة، وأبو الحسن الرعيني.
شعره ودخوله غرناطة
قال في عشية بنهر الغنداق،
خارج بلدنا لوشة بنت الحضرة، والمحسوب من دخلها فقد دخل إلبيرة، وقد قيل إن هذا
النهر ن أواز برجة، وهذا الخلاف داع إلى ذكره.
عرج بمنعرج الكثيب الأعفر ... بين الفرات وبين شط الكوثر
ولنغتبقها قهوة ذهبية ... من راحتي أحوى المرشف أحور
وعشية قد كنت أرقب وقتها ... سمتحت بها الأيام بعد تعذر
نلنا بها آمالنا في روضة ... تهدي لنا بشقها شميم العنبر
والدهر من ندم يسفه رأيه ... فيما مضى منه بغير تكدر
والورق تشدو والأراكة تنشني ... والشمس ترفل في قميص
أصفر
والروض بين مفضض ومذهب ... والزهر بين مدرهم ومدنر
والنهر مرقوم الأباطح والربى ... بمضدل من زهره ومعصفر
وكأنما ذاك الحباب فرنده ... مهما طفا في صفحة كالجوهر
وكأنه وجهاته محفوفة ... بالآس والنعمان خد معذر
نهر يهيم بحسنه من لم يهم ... ويجيد فيه الشعر من لم
يشعر
ما اصفر وجه الشمس عند غروبها ... إلا لفرقة حسن ذاك
المنظر
ولا خفاء ببراعة هذا النظم. وقال أيضا:
أرات جفونك مثله من منظر ... ظل وشمس مثل خد معذر
وهذا تتميم عجيب لم يسبق إليه. ثم قال منها:
وقرارة كالعشر بين خميلة ... سالت مذانبها بها كالأسطر
فكأنها مشكولة بمضدل ... من يانع الأزهار أو بمعصفر
أمل بلغناه بهضب حديقة ... قد طرزته يد الغمام الممطر
فكأنه والزهر تاج فوقه ... ملك تجلى في بساط أخضر
راق النواظر منه رايق منظر ... يصف النضارة عن جنان
الكوثر
كم قاد خاطر خاطر مستوفز ... وكم استفز جماله من مبصر
لو لاح لي فيما تقدم لم أقل ... عرج بمنعرج الكثيب
الأعفر
قال أبو الحسن الرعيني، وأنشدني لنفسه:
وعشية كانت قنيصة فتية ... ألفوا من الأدب الصريح شيوخا
فكأنما العنقاء قد نصبوا لها ... من الانحناء إلى الوقوع
فخوخاً
شملتهم آدابهم فتجاذبوا ... سر السرور محدتاً ومصيخا
والورق تقرأ سيرة الطرب التي ... ينسيك منها ناسخاً
منسوخا
والنهر قد صفحت به نارنجة ... فتيممت من كان فيه منيخا
فتخالهم حلل السماء كواكبا ... قد قارنت بسعودها المريخا
خرق العوائد في السرور نهارهم ... فجعلت أبياتي لهم
تاريخا
ومن أبياته في البديهة:
وعندي من مراشفها حديث ... يخبر أن ريقتها مدام
وفي أجفانها السكرى دليل ... وما ذقنا ولا زعم الهمام
تعالى الله ما أجرى دموعي ... إذا عنت لقلتي الخيام
وأشجاني إذا لاحت بروق ... وأطربني إذا غنت حمام
ومن قصيدة.
عذيري من الآمال خابت قصودها ... ونالت جزيل الحظ منها
الأخابث
وقالوا ذكرنا بالغنى فأجبتهم ... خمولاً وماذكر مع البخل
ماكث
يهون علينا أن يبيد أثاثنا ... وتبقى علينا المكرمات
الأثابث
وما ضر أصلا طيبا عدم الغنى ... إذا لم يغيره من الدهر
حادث
وله يتشوق إلى أبي عمرو بن أبي غياث:
أبا عمرو متى تقضي الليالي ... بلقياكم وهن قصصن ريش
أبت نفسي هوى إلا شريشاً ... وما بعد الجزيرة من شريش
وله من قصيدة:
طفل المساء وللنسم تضوع ... والأنس ينظم شملنا ويجمع
والزهر يضحك من بكاء غمامة ... ريعت لشيم سيوف برق تلمع
والنهر من طرب يصفق موجه ... والغصن يرقص والحمامة تسجع
فانعم أبا عمران واله بروضة ... حسن المصيف بها وطاب
المربع
يا شادن البان الذي دون النقا
... حيث التقى وادي الحمى والأجرع
الشمس يغرب نورها ولربما ... كسفت ونورك كل حين يسطع
إن غاب نور الشمس بتنا نتقي ... بسناك ليل تفرق يتطلع
أفلت فناب سناك عن إشراقها ... وجلاً من الظلماء ما
يتوقع
فأمنت يا موسى الغروب ولم أقل ... فوددت يا موسى لو أنك
يوشع
وقال:
ألا يشروا بالصبح مني باكياً ... أضر به الليل الطويل مع
البكا
ففي الصبح للصب المتيم راحة إذا الليل أجرى دمعه وإذا
شكا
ولا عجب أن يمسك الصبح عبرتي ... فلم يزل الكافور للدم
ممسكا
ومن بديع مقطوعاته قوله:
مثل الرزق الذي تطلبه ... مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا ... فإذا وليت عنه أتبعك
وقال:
دخلتم فأفسدتم قلوباً بملككم ... فأنتم على ما جاء في
سورة النمل
وبالعدل والإحسان لم تتخلقوا ... فأتم على ما جاء في
سورة النحل
وقال أبو بكر محمد بن محمد بن جهور: رأيت لابن مرج الكحل
مرجاً أحمر قد أجهد نفسه في خدمته فلم ينجب، فقلت:
يا مرج كحل ومن هذي المروج له ... ما كان أحوج هذا المرج
للكحل
يا حمرة الأرض من طيب ومن كرم ... فلا تكن طمعاً في
رزقها العجل
فإن من شأنها إخلاف آملها ... فيما تفارقها كيفية الخجل
فقال مجيباً بما نصه:
يا قائلا إذ رأى مرجى وحمرته ... ما كان أحوج هذا المرج
للكحل
هو احمرار دماء الروم سيلها ... بالبيض من مر من آبائي
الأول
أحببته إن من فتنت به ... في حمرة الخد أو إخلافه أملي
وفاتهتوفي ببلده يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر ربيع
الأول سنة أربع وثلاثين وستماية، ودفن في اليوم بعده.
محمد بن محمد بن أحمد الأنصاريمن أهل مرسية، يكنى أبا
عبد الله، ويعرف بابن الجنان
حالهكان محدثاً راوية، ضابطا، كاتباً بليغا، شاعراً
بارعا، رايق الخط، دينا فاضلا، خيراً، زكياً. استكتبه بعض أمراء الأندلس، فكان
يتبرم من ذلك، ويقلق منه، ثم خلصه الله منه. وكان من أعاجيب الزمان في إفراط
القماءة، حتى يظن راثيه إذا استدبره، أنه طفل إبن ثمانية أعوام أو نحوها، متناسب
الخلقة؛ لطيف الشمايل، وقورا، خرج من بلده، حين تمكن العدو من بيضته عام أربعين
وستماية، فاستقر بأوريولة، إلى أن استدعاه إلى سبتة، الرييس بها، أبو علي بن خلاص،
فوفد عليه، فأجل وفادته، وأجزل إفادته، وحزظي عنده حظوة تامة. ثم توجه إلى إفريقية،
فاستقر ببجاية. وكانت بينه وبين كتاب عصره مكاتبات، ظهرت فيها براعته.
مشيختهروى ببلده وغيرها عن أبي بكر عزيز بن خطاب، وأبي
الحسن بن سهل ابن مالك، وابن قطرال، وأبي الربيع بن سالم، وأبي عيسى بن أبي
السداد، وأبي علي الشلوبين، وغيرهم.
من روى عنهروى عنه صهره أبو القاسم بن نبيل، وأبو الحسن
محمد بن رزيق.
شعرهقال القاضي أبو عبد الله بن عبد الملك، وكان له في
الزهد، ومدح النبي صلى الله عليه وسلم بدايع، ونظم في المواعظ للمذكرين كثيرا. فمن
ذلك قوله في توديع رمضان وليلة القدر:
فضى رمضان وكأن بك قد مضى ... وغاب سناه بعد ما كان
أومضا
فيا عهده ما كان أكرم معهدا ... ويا عصره أعزز علي أن
انقضا
ألم بنا كالطيف في الصيف زائرا ... فخيم فينا ساعة ثم
قوضا
فيا ليت شعري إذ نوى غربة النوى ... أبالسخط عنا قد تولى
أم الرضا
قضى الحق فينا بالفضيلة جاهداً ... فأي فتى فينا له الحق
قد قضا
وكم من يد بيضاء أسدى لذي تقى ... بتوبته فيه الصحايف
بيضا
وكم حسن قد زاده حسناً وسنى ... محاه وبالإحسان والحسن
عوضا
فلله من شهر كريم تعرضت ... مكارمه إلا لمن كان أعرضا
نفي بينه وبين شجونك معلما
... وفي إثره أرسل جفونك فيضا
وقف بثنيات الوداع فإنها ... تمحص مشتاقاً إليها وتمحضا
وإن قضيت قبل التفرق وقفة ... فمقضيها من ليلة القدر ما
قضا
فيا حسنها من ليلة جل قدرها ... وحض عليها الهاشمي وحرضا
لعل بقايا الشهر وهي كريمة ... تبين سراً للأواخر أغمضا
وقد كان أضفى ورده كي يفيضه ... ولا كن تلاحى من تلاحي
فقيضا
وقال اطلبوها تسعدوا بطلابها ... فحرك أرباب القلوب
وأنهضا
جزى الله عنا أحمد الجزا على ... كرم أضفاه بردا ًوفضفضا
وصلى عليه من نبي مبارك ... رؤوف رحيم للرسالة مرتضا
له عزة أعلى من الشمس منزلا ... وعزمته أمضى من السيف
منتضا
له الذكر يهمى فض مسك ختامه ... تأرج من ريا فضايله
الفضا
عليه سلام الله ما انهل ساكب ... وذهب موشي الرياض وفضضا
ومن ذلك قصيدة في الحج:
تذاكر الذكر وتهيج اللواعجا ... فعالجن أشجاناً يكاثرن
عالجا
ركاباً سرت بين العذيت وبارق ... نواييج في تلك الشعاب
نواعجا
تيممن من وادي الأراك منازلا ... يطرنها إلا في الأراك
سجاسجا
لهن من الأشواق حاد فإن ... ونت حداه يرجعن الحنين
أهازجا
ألا بأبي تلك الركاب إذا سرت ... هوادي يملأن الفلاة
هوادجا
براهم سوامح أو سراهم فأصبحوا ... رسوماً على تلك الرسوم
عوالجا
لهم في مني أسنى المنا ولدي الصفا ... يرجون من أهل
الصفا المناهجا
سما بهم طوف ببيت طامح ... أراهم قباباً للعلى ومعارجا
فأبدوا من اللوعات ما كان كامنا ... وأذروا دموعاً بل
قلوباً مناضجا
ولما دنوا نودوا هنيا وأقبلوا ... إلى الركن من كل
الفجاج أدارجا
وقضوا بتقبيل الجدار ولثمه ... حقوقاً تقضى للنفوس
حوايجا
إذا اعتنقوا تلك المعالم خلتهم ... أساور في إيمانها
وجهالجا
فلله ركب يمموا نحو مكة لقد ... كرموا قصداً وحلوا
مناسجا
أناخوا بأرجاء الرجاء وعوسوا ... فأصبح كل ما بز القدح
فالجا
فبشروا لهم كم خولوا من كرامة ... فكانت لما قدموه
نتايجا
بفتح باب للقبول وللرضا ... ووفدهم أضحى على الباب والجا
تميز أهل السبق لاكن غيرهم ... غعدا همجاً بين الخليقة
هامجا
أيلحق جلس للبيوت مداهم ... ولم يلعب في تلك المدارج
دارجا
ألا ليت شعري للضرورة هل أرى ... إلى الله والبيت المحجب
خارجا
له الله من ذي كربة ليس يرتجى ... لمرتجيها يوما سوى الله
فارجا
قد أسهمت شتى المسالك دونه ... فلا نهج يلقى فيه لله
ناهجاً
يخوض بحار الذنب ليس يهابها ... ويصعق ذعراً إن يرى
البحر هائجا
جبان إذا عن الهدى وإذا الهوى ... يعن له كان الجريء
المهارجا
يتيه ضلالا في غيابة همه ... فلا حجر تهديه لرشد ولا حجا
فوا حربا لاح الصباح لمبصر ... وقلبي لم يبصر سوى الليل
إذ سجا
لعل شفيعي أن يكون معاجلا ... لداء ذنوب بالشفا معالجا
فينشقني بيت الإله نوافحاً ... ويعبق لي قبر النبي
نوافجا
فمالي لإمالتي سوى حب أحمد ... وصلت له من قرب قلبي
وشايجا
عليه سلام الله من ذي صبابة ... حليف شجاً يكنى من البعد
ناشجا
ولو أنصفت أجفانه حق وجده ...
سفكت دما للدموع موازجا
كتابتهوكتابته شهيرة، تضرب بذكره فيها الأمثال، وتطوى
عليه الخناصر. قالوا، لما عقد أمير المسلمين؛ أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود
البيعة لابنه الواثق بالإمارة من بعده، تولى إنشاءها، وجعل الحاء المهلة سجعها
مردفا إياها بالألف، نحو صباحا وصلاحا، وما أشبه ذلك، طال مجموعها فناهزت
الأربعين. وطاب مسمعها، فأحرزت بغية المستمعين: فكتب إليه بو المطرف بن عميرة،
رسالته الشهيرة، يداعبه في ذلك، وهي التي أولها: " تحييك الأقلام تحية كسرى،
وتقف دون مداك حسرى " . ومنها في الغرض: " ومالك أمنت تغير الحالات،
فشننت غارتك على الحاءات، ونفضت عنها المهارك، وبعث في طلبها السوابق، ولفظتها من
الأفواه، وطلبتها بين الشفاه، حتى شهد أهل اللسان، بتزحزحها عن ذلك المكان، وتوارت
بالحلوق. ولو تغلغلت إلى العروق، لآثرتها جيادك، واقتنصها قلمك ومدادك " وهي طويلة
فراجعه بقوله: ما هذه التحية الكسروية، وما هذا الرأي، وما هذه الروية، أتنكيت من الأقلام، أم تبكيت من الأعلام، أم كلا الأمرين توجه القصد إليه وهو الحق مصدقا لما بين يديه. وإلا فعهدي بالقلم، يتسامى عن عكسه، ويترامى إلى الغاية البعيدة بنفسه، فمتى لانت أنابيبه للعاجم، ودانت أعاربه بدين الأعاجم. واعجبا لقد استنوق الجمل، واختلف القول والعمل. لأمر ما جدع أنفه قصير، وارتد على عقبه الأعمى أبو بصير. أمي استسقى من سحابه، فلا يسقيني، واستشفى بأسمايه فلا يشفيني، واليوم يحلني محل أنوشروان، ويشكو مني شكوى اليزيدية من بني مروان، ويزعم أني أبطلت سحره، كما أبطل سحر بردوران، ويخفي في نفسه ما الله مبديه، ويستجدي بالأثر ما عند مستجديه. فمن أين جاءت هذه الطريقة المتبعة، والطريفة المبتدعة، أيظن أن معماه لا يفك؛ وأنه لا يتجلى هذا الشك. هل هذا منه إلا إمحاض النية، وإحماض تفنية، ونشوة من خمرة الهزل، ونخوة من ذي ولاية آمن العزل. تالله لولا محله من القسم، وفضله في تعليم النسم، لأسمعته ما ينقطع به صلفه، وأودعنه ما ينصدع به صدفه، وأشدت بشرف المشرقي ومجده، وأشرت إلى تعاليه عن اللعب بجده. ولكن هو القلم الأول، فقوله على أحسن الوجوه يتأول، ومعدود في تهذيبه، كل ما لسانه يهذي به. وما أنسانيه إلا الشيطان أياديه أن أذكرها، وإنما أقول ليت التحية كانت لي فأشكرها، ولا عتب إلا على الحاء، المبرحة بالبرحاء، فهي التي قيمت قيامتي في الأندية، وقامت على قيام المعتدية، ينظلم وهو عين الظالم، ويلين القول، وتحته سم الأراقم، ولعمر البراعة وما نصعتة، واليراعة وما صنعت، ما خامرني هواها؛ ولا كلفت بها دون سواها. ولقد عرضت نفسها على مرارا، فأعرضت عنها أزرواراً، ودفعتها عني بكل وجه، تارة بلطف، وأخرى بنجه، وخفت منها السآمة، وقلت أنكحي أسامة. فرضيت منها بأبي جهم وسوء سلكته، وابن أبي سفيان وصعلكته، وكانت أسرع من أم خارجة للخطبة، وأسمج من استنجاح تلك الخطبة. ولقد كنت أخاف من انتقال الطباع في عترتها، واستنقال الاجتماع من عشرتها، وأرى من الغبن والسفاه أخذها، وترك بنات الأفواه والشفاه إذ هي أيسر مؤنة، وأكثر معونة. فغلطي فيها، أن كانت بمنزل تتوارى صوناً عن الشمس، ومن نسوة خفرات لا ينطقن إلا بالهمس، ووجدتها أطوع من البنان للكف، والعنان للوكف، والمعنى للاسم، والمغني للرسم، والظل للشخص، ولا مستبدل للنص، فما عرفت منها إلا خبرا أرضاه حتى حسبتها من الحافظات للغيب بما حفظ الله؛ فعجبت لها الآن كيف زلت نعلها، ونشرت فنشرت ما استكتمها بعلها، واضطربت في رأيها اضطراب المختار أبي عبيد، وضربت في الأرض تسعى علي بكل مكر وكيد، وزعمت أن حرف الجيم خدعها، والآن أخدعها، وأخبرها أن سيبلغ بخبرها الخابور، وأحضرها لصاحبها كما أحضر بين يدي قيصر سابور، فقد جاءت إفكاً وزورا، وكثرت من أمرها شزورا، وكانت كالقوس أرنت وقد أصمت القنيص والمراودة، قالت ما جزاء، وهي التي قدت القميص، وربما يظن بها الصدق، وظن الغيب ترجيم، ويقال لقد خفضت الحاء، بالمجاورة لهذا الأمر الجسيم، وتنتصر لها أختها التي خيمت بني النرجسة والريحانة، وختمت السورة باسم جعلت ثانية أكرم نبي على الله سبحانه، فإن امتعضت لهذه المتظلمة، تلك التي سبقت بكلمتها بشارة المتكلمة، فأنا ألوذ بعدلها، وأعوذ بفضلها، وأسألها أن تقضي قضاء مثلها، وتعمل بمقتضى: فابعثوا حكماً من أهله، وحكماً من أهلها. على أن هذه التي قد أبدت مينها، ونسيت الفضل بيني وبينها، أن قال الحكمان منها كان النشوز، عادت حرورية العجوز، وقالت التحكم في دين الله لا يجوز، فعند ذلك يحصحص الحق، ويعلم من الأولى بالحكم والأحق، ويصيبها ما أصاب أروى، من دعوة سعيدة حين الدعوى، ويا ويحها أن أرادت أن تجني علي فجنت لي، وأناخت لي مركب السعادة، وما ابتغت إلا ختلي، فأتى شرها بالخير، وجاء النفع من طريق ذلك الضير. أتراها علمت بما يثيره اعوجاجها، ويننجلي عنه عجاجها. فقد أفادت عظيم الفوايد، ونظيم الفرايد، ونفس الفخر، ونفيس الذخر، وهي لا تنكر أن كانت من الأسباب، ولا تذكر إلا يوم الملاحاة والسباب. وإنما يستوجب الشكر جسيماً، والثناء الذي يتضوع نسيماً، الذي شرف إذ أهدى أشرف السحاءات، وعرف بما كان من انتحاء تلك الحاء المذمومة في الحاءات، فإنه
وإن ألم بالفكاهة، فما أملي من البداهة، وسمي باسم السابق السكيت، وكان من أمر مداعبته كيت وكيت، وتلاعب بالصفات، تلاعب السيل بالصفاة، والصبا بالبانة، والصبا بالعاشق ذي اللبانة، فقد أغرب بفنونه، وأغرى القلوب بقتونه، ونفث بجفنه الأطراف، وعبث من الكلام المشقق الأطراف، وعلم كيف يلخص البيان، ويخلص العقيان. فمن الحق أن أشكره على أياديه البيض، وأن آخذ لفظه من معناه في طرف النقيض. تالله أيها الإمام الأكبر، والغمام المستمطر، والخبر الذي يشفي سايله، والبحر الذي لا يرى ساحله، ما أنا المراد بهذا المسلك، ومن أين حصل النور لهذا الحلك، وصح أن يقاس، بين الحداد والملك، إنه لتواضع الأعزة. وما يكون للأكارم عند المكارم من العزة، وتحريض الشيخ للتلميذ؛ في إجازة الوضوء بالنبيذ. ولو حضر الذي قضى له بجانب الغربي أمر البلاغة، وارتضى ماله في هذه الصناعة، من حسن السبك لحليتها والصياغة، وأطاعته فيما أطلعته طاعة القوافي الحسان، وأتبعته فيما جمعته لكن بغير إحسان لأذعن كما أذعنت، وظعن عن محل دعوى الإجادة، كما ظعنت. وأنى يضاهي الفرات المعبن بالنغبة، ويباهي بالفلوس من أوتى من الكنوز ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة، وأي حظ للكلالة في النشب، وقد اتصل للورثة عمود النسب، هبهات والله بعد المطلب، وشتان الدر والخشلب، وقد سيم الغلب، ورجع إلى قياجة السلب، وإن كنا ممن تقدم لشدة الظمأ إلى المنهل، وكمن أقدم إلى عين تبوك بعد النهي للعل والنهل. فقد ظهرت بذلك المعجزة عياناً، وملئ ما هناك جناناً، وما تعرضنا بإساءة الأدب واللوم، ولكن علمنا أن آخر الشراب ساقي القوم، وإن أسهبنا فيما نلنا رتبة ذلك الإيجاز، وإن أعرقنا فهو فهوانا في الحجاز، فلكم أسهبنا فما نلنا رتبة ذلك الإيجاز، وإن أعرقنا فهوانا في الحجاز، فلكم قصيرات الحجال، ولنا قصيرات الخطا في هذا المجال، وإكثارنا في قلة، وجارنا من الفقر في فقر وذلة. ومن لنا بواحدة يشرق شياؤها، ويخفى للنجوم خجلها منها وحياؤها، إن لم تطل فلأنها للفروع كالأصل، وفي الجموع كليلة الوصل. فلو سطع نورها الزاهر، ونورها الذي تطيب منه الأنوار الأزاهر، لسجدت النيران ليوسف ذلك الجمال، ووجدت نفحات رياها في أعاطاف الجنوب والشمال، وأسرعت نحوها النفوس إسراع الحجيج يوم النفر، وسار خبرها وسرى، فصار حديث المقيمين والسفر. وما أظن تلك الساخرة في تدليها، إلا الساحة بتجنيها، إذ كانت ربيبتها، بل ربئتها، هذه التي سبقتني لما سقتني بسينها، ووجدت ريحها، لما فصلت من مصرها غيرها. وحين وصلت، لم يدلني على سابقها إلا عبيرها، وكم رامت أن تستتر عني بليل حبرها ي هذه المغاني. فأغراني بهاؤها، وكل مغرم مغرى ببياض صبح الألفاظ والمعاني. وهل كان ينفعها تلفحها بمرطها وتلفعها، إذ نادتها المودة، فقد عرفناك يا سودة. فأقبلت على شم نثرها، وعرفها ولثم سطرها وحرفها، وقريتها الثناء الحافل، وقراتها فزينت بها المحاضر والمحافل. ورمت أمر الجواب، فغرتني في الخطاب، لكن رسمت هذه الرقعة التي هي لديكم بعجزي واشية، وإليكم مني على استحياء ماشية، وإن رق وجهها فما رقت لها حاشية، فمنوا بقبولها عل علاتها، وانقعوا بماء سماحتكم حر غللها، فإنها وافدة من استقر قلبه عندكم وثوى، وأقر بأنه يلقط في هذه الصناعة ما يلقى للمساكين من النوى. بقيتم، سيدي الأعلى للفضل والإغضاء، ودمتم غرة في جبين السمحة البيضاء، واقتضيتم السعادة المتصلة مدة الاقتضاء، بيمن الله سبحانه. انتهى.وإن ألم بالفكاهة، فما أملي من البداهة، وسمي باسم السابق السكيت، وكان من أمر مداعبته كيت وكيت، وتلاعب بالصفات، تلاعب السيل بالصفاة، والصبا بالبانة، والصبا بالعاشق ذي اللبانة، فقد أغرب بفنونه، وأغرى القلوب بقتونه، ونفث بجفنه الأطراف، وعبث من الكلام المشقق الأطراف، وعلم كيف يلخص البيان، ويخلص العقيان. فمن الحق أن أشكره على أياديه البيض، وأن آخذ لفظه من معناه في طرف النقيض. تالله أيها الإمام الأكبر، والغمام المستمطر، والخبر الذي يشفي سايله، والبحر الذي لا يرى ساحله، ما أنا المراد بهذا المسلك، ومن أين حصل النور لهذا الحلك، وصح أن يقاس، بين الحداد والملك، إنه لتواضع الأعزة. وما يكون للأكارم عند المكارم من العزة، وتحريض الشيخ للتلميذ؛ في إجازة الوضوء بالنبيذ. ولو حضر الذي قضى له بجانب الغربي أمر البلاغة، وارتضى ماله في هذه الصناعة، من حسن السبك لحليتها والصياغة، وأطاعته فيما أطلعته طاعة القوافي الحسان، وأتبعته فيما جمعته لكن بغير إحسان لأذعن كما أذعنت، وظعن عن محل دعوى الإجادة، كما ظعنت. وأنى يضاهي الفرات المعبن بالنغبة، ويباهي بالفلوس من أوتى من الكنوز ما أن مفاتحه لتنوء بالعصبة، وأي حظ للكلالة في النشب، وقد اتصل للورثة عمود النسب، هبهات والله بعد المطلب، وشتان الدر والخشلب، وقد سيم الغلب، ورجع إلى قياجة السلب، وإن كنا ممن تقدم لشدة الظمأ إلى المنهل، وكمن أقدم إلى عين تبوك بعد النهي للعل والنهل. فقد ظهرت بذلك المعجزة عياناً، وملئ ما هناك جناناً، وما تعرضنا بإساءة الأدب واللوم، ولكن علمنا أن آخر الشراب ساقي القوم، وإن أسهبنا فيما نلنا رتبة ذلك الإيجاز، وإن أعرقنا فهو فهوانا في الحجاز، فلكم أسهبنا فما نلنا رتبة ذلك الإيجاز، وإن أعرقنا فهوانا في الحجاز، فلكم قصيرات الحجال، ولنا قصيرات الخطا في هذا المجال، وإكثارنا في قلة، وجارنا من الفقر في فقر وذلة. ومن لنا بواحدة يشرق شياؤها، ويخفى للنجوم خجلها منها وحياؤها، إن لم تطل فلأنها للفروع كالأصل، وفي الجموع كليلة الوصل. فلو سطع نورها الزاهر، ونورها الذي تطيب منه الأنوار الأزاهر، لسجدت النيران ليوسف ذلك الجمال، ووجدت نفحات رياها في أعاطاف الجنوب والشمال، وأسرعت نحوها النفوس إسراع الحجيج يوم النفر، وسار خبرها وسرى، فصار حديث المقيمين والسفر. وما أظن تلك الساخرة في تدليها، إلا الساحة بتجنيها، إذ كانت ربيبتها، بل ربئتها، هذه التي سبقتني لما سقتني بسينها، ووجدت ريحها، لما فصلت من مصرها غيرها. وحين وصلت، لم يدلني على سابقها إلا عبيرها، وكم رامت أن تستتر عني بليل حبرها ي هذه المغاني. فأغراني بهاؤها، وكل مغرم مغرى ببياض صبح الألفاظ والمعاني. وهل كان ينفعها تلفحها بمرطها وتلفعها، إذ نادتها المودة، فقد عرفناك يا سودة. فأقبلت على شم نثرها، وعرفها ولثم سطرها وحرفها، وقريتها الثناء الحافل، وقراتها فزينت بها المحاضر والمحافل. ورمت أمر الجواب، فغرتني في الخطاب، لكن رسمت هذه الرقعة التي هي لديكم بعجزي واشية، وإليكم مني على استحياء ماشية، وإن رق وجهها فما رقت لها حاشية، فمنوا بقبولها عل علاتها، وانقعوا بماء سماحتكم حر غللها، فإنها وافدة من استقر قلبه عندكم وثوى، وأقر بأنه يلقط في هذه الصناعة ما يلقى للمساكين من النوى. بقيتم، سيدي الأعلى للفضل والإغضاء، ودمتم غرة في جبين السمحة البيضاء، واقتضيتم السعادة المتصلة مدة الاقتضاء، بيمن الله سبحانه. انتهى.
ومحاسنه عديدة، وآماده بعيدة.
دخوله غرناطةدخلها مع المتوكل مخدومه، أو وجده بها.
من روى عنه: روى عن أبي الحسن سهل بن مالك.
وفاتهقال الأستاذ في الصلة: انتقل إلى بجاية فتوفي بها
في عشر الخمسين وستمائة.
ابن شلبطور الهاشميمحمد بن محمد بن أحمد بن شلبطور
الهاشمي من أهل ألمرية، يكنى أبا عبد الله. من وجوه بلده وأعيانه، نشأ نبيه البيت،
ساحباً بنفسه وبماله ذيل الحظوة، متحلياً بخصل من خط وأدب. وزيراً، متجنداً،
ظريفاً، درباً على ركوب البحر وقيادة الأساطيل. ثم انحط في هواه انحطاطاً، أضاع مروءته،
واستهلك عقاره، وهد بيته، وألجأه أخيراً إلى اللحاق بالعدوة فهلك بها.
وجرى ذكره في الإكليل بما نصه: مجموع شعر وخط، وذكاء عن
درجة الظرفاء، غير منحط إلى مجادة أثيلة البيت، شهيرة الحي والميت. نشأ في حجر الترف
والنعمة، محفوفاً بالمالية الجمة، فلما غفل عن ذاته، وترعرع بين لداته، أجرى خيول
لذاته، فلم يدع منها ربعاً إلا أقفره، ولا عقاراً إلا عقره، حتى حط بساحلها،
واستولى بسعر الإنفاق على جميع مراحلها، إلا أنه خلص بنفس طيبة، وسراوة سماؤها
صسبة، وتمتع ما شاء من زير وبم، وتأنس لا يعطى القياد لهم. وفي عفو الله سعة، وليس
مع التوكل على الله ضعة.
شعرهمن شعره قوله يمدح السلطان، وأنشدها إياه بالمضارب
من وادي الغيران عند قدومه من ألمرية
أثغرك أم سمط من الدر ينظم ... وريقك أم مسك به الراح
تختم
ووجهك أم باد من الصبح نير ... وفرعك أم دارج من الليل
مظلم
أعلل منك النفس والوجد متلفي ... وهل ينفع التعليل
والخطب أعظم
وأقنع من طيف الخليل يزورني ... لو أن جفوني بالمنام
تنعم
حملت الهوى حيناً فلما علمته ... سلوت لأني بالمكارم
مغرم
ولي في أمير المسلمين محبة ... فؤادي مشغوف بها ومتيم
بلغت المنى لما لثمت يمينه ... فها أنذا في جنة الخلد
أنعم
يصوغ قومي الشعر في طيب ذكره ... ويحسن فيه النظم من ليس
ينظم
فاستمسك الدين الحنيف زمانه ... وقام منار الحق والشرك
مغرم
له نظر في المشكلات مؤيد ... والله مهد إلى الرشد ملهم
ويستغرق طارحاً فيه وابل جوده ... فمن فعله في جوده
يتعلم
فلو أن أملاك البسيطة أنصفوا ... لألقوا إليه الأمر
طوعاً وسلم
وفي الدين والدنيا وفي البأس والندى ... لكم يا بني نصر
مقام معظم
ومنها:
إليك أمير المسلمين اقتضيتها ... حمايل شكر طيرها مترنم
تنم بعرف المسك أنفاسها ... إذا يفوه لراو في الندى بها
فم
فباسمك سيرت في المسامع ذكرها ... ويغزي في أقصى البلاد
ويشمم
ولو أنني في المدح سبحان وائل ... وأنجدني فيه حبيب
ومسلم
لما كنت إلى عن علاك مقصر ... ومن بعض ما نشدت وتولى
وتنعم
بقيت ملاذاً للأنام ورحمة ... وساعدك الإسعاد حيث يتمم
ومن شعره مذيلاً على البيت الأخير حسبما نسب إليه:
نامت جفونك يا سؤلي ولم أنم ... ما ذاك إلا لفرط الوجد
والألم
أشكو إلى الله ما بي من محبتكم ... فهو العليم بما نلقى
من السقم
إن كان سفك دمي أقصلاى مرادكم ... فما غلت نظرة منكم
بسفك دم
ومما نسب إليه كذلك:
قف بي وناد بين تلك الطلول ... أين الألى كانوا عليها
نزول
أين ليالينا بهم والمنى ... تجنيه عضاً بالرضا والقبول
لا حملوا بعض الذي حملوا ... يوم تولت بالقباب الحمول
إن غبتم يا أهل نجد ففي ... قلبي أنتم وضلوعي حلول
ومما خاطبني به:
تالله ما أورى زناد القلق ... سوى ريح لاح لي بالأبرق
أيقنت بالحين فلولا نفحة ...
نجدية منكم تلافت رمق
لكنت أقضي بتلظي زفرة ... وحسرة بين الدموع تلتق
فآه من هول النوى وما جني ... على القلوب موقف التفرق
يا حاكي الغصن انثني متوجا ... بالبدر تحت لمة من غسق
الله في نفس معنى أقصدت ... من لاعج الشوق بما لم تطق
أتى على أكثرها برح الأسى ... دع ما مضى منها وأدرك ما
بق
ولو بإلمام خيال في الكرى ... إن ساعد الجفن رقيب الأرق
فرب زور من خيال زائر ... أقر عيني وإن لم يصدق
شفيت من برح الأسى لو أن من ... أصبح رقى في يديه معتق
ففي معاناة الليالي عائق ... عن التصابي وفنون القلق
وفي ضمان ما يعاني المرء من ... نوايب الدهر مشيب المفرق
هذا لعمري مع أني لم أبت ... منها بشكوى روعة أو فرق
فقد أخذت من خطوب غدرها ... بابن الخطيب إلا من مما أتق
فخر الوزارة الذي ما مثله ... بدر علا في مغرب أو مشرق
ومذ أرانيه زماني لم أبل ... من صرفه من مرعد أو مبرق
لا سيما مذ حططت في حما ... جواره الأمنع رحل أينق
أيقنت أني في رجائي لم أخب ... وأن مسعى بغيتي لم يخفق
ندب له في كل حسن آية ... تناسبت في الخلق أو الخلق
في وجهه مسحة بشر إن بدت ... تبهرجت أنوار شمس الأفق
تعتبر الأبصار في لألأتها ... عليه من نور السماح المشرق
كالدهر في استينائه وبطشه ... كالسيف في حد الظبا
والرونق
إن بخل الغيث استهلت يده ... بوابل من غيث جود غدق
وإن وشت صفحة طرس انجلا ... ليل دجاها عن سني مؤتلق
بمثلها من حبرات أخجلت ... حواشي الروض خدودج المهرق
ما راق في الآذان أشناف سوى ... ملتقطات لفظه المفترق
تود أجياد الغواني أن يرى ... حليها من در ذاك المنطق
فسل به هل آده الأمر الذي ... حمل في شرخ الشباب المونق
إذا رأى الرأى فلا يخطئه ... يمن اختيار للطرق الأفق
أيه أبا عبد الإله هاكها ... عذراء تحثو في وجوه السبق
خذها إليك بكر فكر يزدري ... لديك بالأعشى لدى المحلق
لا زلت مرهوب الجناب مرتجى ... موصول عز في سعود ترتق
مبلغ الآمال فيما تبتغي ... مؤمن الأغراض فيما تتقي
ناب في القيادة البحرية عن خاله القايد أبي علي
الرنداحي، وولي أسطول المنكب برهة. توقي بمراكش في عام خمسة وخمسين وسبعمائة رحمه
الله.
ابن مشتمل الأسلميمحمد بن محمد بن جعفر بن مشتمل الأسلمي
من أهل ألمرية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بالبلياني.
حالهقال شيخنا أبو البركات، ناب عني في بعض الأعمال
بألمرية، وخطب بنحانس من غربيها، ثم خطب بحمة مرشانة، وهو الآن بها، وعقد الشروط
قبل بألمرية. عفيف طاهر الذيل، نبيل الأغراض، مهذب الأخلاق، قيم على القراءات، والنحو
والأدب، جيد الشعر والكتابة.......... من الضبط، وإجادة العبارة عن المعنى المراد.
تواليفهقال، له رجز في علم الكلام جيد، ورجز آخر في
ألفاظ فصيح ثعلب، عري عن الحشو، على تقعير فيه يغتفر لما جمع من اقتصاره، وله
تأليف في الوبا سماه بإصلاح النيلة في المسلة الطاعونية.
مشيختهقال، أخذ عني وعن أبيه جملة من الدواوين، وعن غيري
من أهل بلده.
شعرهقال، ومما أنشدني من شعره قوله:
هفا بي من بين المغاني عقيقها ... ومن بينه انفضت لعيني
عقيقها
ومالت لليد قبابه وأشرقني بالدمع منها شروقها
يهيج أنفاسي غراماً نسيمها ... وتقدح نار الشوق عندي
بروقها
ومن دون واديها ظباً خوادل
... حكى لحظها ماضي الشفار رقيقها
فلو برزت الشمس منهن في الضحى ... مخدرة أضحت كمالا
تفوقها
نسيم الصبا أن سيرت نحو الحمى ... فقل تحيى الديار
النازحات تشوقها
غريب كييب مستهام متيم ... جريح الجفون الساهرات عريقها
فهل عطفة ترجى وهل أمل يرى ... بعودة أيام تقضى أنيقها
سقى وتعلم من أدمع الصب جودها ... من ديم الغيث الملتات
ريقها
قال وأنشدني أيضاً، وقال كلفت إجازة هذا البيت الأول من
هذه القصيدة، إذ ليس لي:
من عادى ومن ناصرى ومنصفي ... هذا دمعي سفكته بنت المنصف
أو من يخلصني وقد أوهى صحيح ... الجسم مني لحظ طرف مدنف
جفن تحير والهوى يهديه ... لفؤاد كل من الهوى لم يألف
متناعس يهدي السهاد ويصرع ... البطل الكمى بلحظه المتضعف
تبدو وتشدو للعيون وللمسامع ... فهي بين مكحل ومشنف
ملكت بصنعتها عنان عنانها ... وعدت عليه كأن لم تعرف
تغنى إذا غنت بطيب صوتها ... عن أن يزود لحنها بالمعزف
أما تغنت أو تثنت تهتف ... قمري نغمتها وغض المعطف
يأتي على تكرر ما عنت به صدقاً ... بكل غريب أو مستطرف
تهدي للنفوس على اختلاف طباعها ... من نبلها ما تشتهي
بتلطف
كنا وجفن الدهر عنا ناعس ... خلف ستر للأمان مسجف
حتى وشي باسر دهر حاسد ... كلف بتنغيص الكريم الأشرف
وخجلنا إن لم أمت يوم النوى ... لهفاً وما إن كنت بعد
بمنصف
لكنني مما نحلت وذبت لم ... يرني الحمام فكنت عنه أختف
كم ذا أبيت وليس لي من مسعد ... في حالتي غير الدموع
الذرف
يا هل ترى هذا الزمان وصرفه ... هل يسمحان بعودة وتألف
صبراً أبا يعقوبهم فهي النوى ... لولا همت شوقا للقيا
يوسف
قال وأنشدني أيضاً لنفسه، والبيت الأخير لغيره:
ما للأحبة في أحكامهم جاروا ... نأوا جميعاً فلا خل ولا
جار
كيف البقا وقد بانت قبابهم ... وقد خلت منهم وا أسفي
الدار
حداة تمسهم بالقلب قد رحلوا ... يا ليتهم حملوا الجثمان
إذ سار
جار الزمان علينا في فراقهم ... من قبل أن تنقضي للصب
أوطار
ساروا فحيمت الأشواق بعدهم ... مالي عليها سوى الآماق
أنصار
تراك ياربعهم ترجو رجوعهم ... يا ليت لو ساعدت في ذاك
أقدار
ودعت منهم شموساً ما مطالعها ... إلا من الوشي أطواق
وأزرار
أستودع الله من فاز الفراق بهم ... وخلفوا ودمع العين
مدرار
قلت، ولا خفاء بتخلف هذا النمط عن الإجادة، والله يقبض
ويبسط، وشافعنا عرض الإكثار.
توفي في آخر أربعة وستين وسبع ماية.
محمد بن محمد بن حزب اللهمن أهل وادي آش، يكنى أبا عبد
الله، ويعرف باسم جده.
حالهدمث؛ متخلق، سهل الجانب، كثير الدعابة، خفيف الروح،
له خط حسن ووراقة بديعة، وإحكام لبعض العملية، واقتدار على النظم. اتصل بباب
السلطان ملك المغرب، وارتسم كاتبا مع الجملة، فارتاش، وحسنت حاله.
وجرى ذكره في الإكليل الزاهر
بما نصه: راقم واشي، رقيق الجوانب والحواشي، تزهى بخطه المهارق والطروس، وتتجلى في
حلل بدايعه، كما تتجلى العروس، إلى خلق كثير التجمل، ونفس عظيمة التحمل. ودود سهل
الجانب، عذب المذانب. لما قضيت الوقيعة بطريف، أقال الله عثارها، وعجل ثارها، قذف
به موج ذلك البحر، وتفلت إفلات الهدى المقرب إلى النحر، ورمى به إلى رندة القرار،
وقد عرى من أثوابه، كما عرى الغرار، فتعرف للحين بأديبها المفلق، وبارقها المتألق
أبي الحجاج المنتشا فرى، فراقه يبشر لقايه، ونهل على الظمأ في سقاته، وكانت بينهما
مخاطبات، أنشدنيها بعد إيابه، وأخبرني بما كان من ذهاب زاده، وسلب ثيابه.
وخاطبني من شرح حاله في ارتجاله بما نصه: ولما دخلت رندة
الأنيقة البطاح، المحتوية على الأدب والسماح، والعلم والصلاح، أبرز القدر أن لقيت
بها شيخنا المعمر رئيس الأدباء، وقدوة الفقهاء، أبا الحجاج المنتشافري، وكنت لم
أشاهده قبل هذا العيان، ولا سمح لي بلقاية صرف الزمان، ولم أزل أكلف بمقطوعاته العجيبة،
وأولع بضرايبه الغريبة، وتأتى منه مخاطبات تزري بالعقود بهجة، وتطير لها العقود
لهجة. نظم كما تنفيس الصبح عن تسنيمه، ونثر كما تأسس الدر بتنظيمه، فأحلني منه محل
الروح من الجسد، وشهد لي أني أعز من عليه ورد، ورآني قد ظهرت على مضاضة الاكتياب،
لكوني قريب عهد بالإياب، مهزوماً انهزام الأحزاب، خالي الوطاب، نزر الثياب، فقال
فيم الجزع، ذهب بحول الله الخوف، وأمن الفزع، فأجبته عجلاً، وقلت أخاطبه مرتجلا.
لا تجزعى نفسي لفقد معاشري ... وذهاب مالي في سبيل
القادر
ورندة ها أنت خير بلاده ... وبها أبو حجاج المنتشافري
سيريك حسن فرايد من نظمه ... فتزيل كل كآبة في الخاطر
فأجابني مرتجلا:
سراى يا قلبي المشوق وناظري ... بمزار ذي الشرف السني
الطاهر
روض المعارف زهرها الزاهي ... ومن أوصافه أعيت ثنا
الشاكر
ولواد آش فخار لم يزل ... من كاين حزب الله نور الناظر
وافي يشرف رندة بقدومه ... فغدت به أفقا لبدر زاهر
من روضة الأدباء أبدي زهرة ... قد أينعت عن فكر حبر ماهر
جمع المآثر بالسناة وبالسنا ... أعظم به من صانع لمآثر
ما زلت أسمع من ثناء مآثراً ... كانت لسامعها معاً
والذاكر
حتى رأى بصرى حقائق وصفه ... فتنعمت كالأقمار نواظري
لا زال محبواً بكل مسرة ... تجري له بالحظ حكم مغادر
ثم خاطبه القاضي المنتشافري بعد انصرافه إلى وطنه بقوله:
أبى الدمع بعدك إلا انفجارا ... لدهر ببعدك في الحكم
جارا
أذاق اللقاء الحلو لو لم يصل به ... للنوى جرعات مرارا
رعى الله لمح ذاك اللقاء وإن ... يك أشواقنا قد أثاراً
قصاراى شكواي طول النوى ... وفقدي أناة وصل قصاراً
سقت القداح من بعده ... فوادي القريح قد أذكت أوارا
ألا يا صباً هب من أربعي ... إلى واد آش تحيي الديارا
ألا خص من ربعها منزلا ... بأربابه الأكرمين استنارا
وهم إلى حزب الإله الألى ... تساموا فخاراً وطابوا
نجاراً
فأجابه بأبيات منها:
تألق برق العلا واستنارا ... فأجج إذ لاح في القلب نارا
وذكرني وقت أنس مضا برندة ... حيث الجلال استشارا
وكانت لنفسي سنا في حماها ... طوالا فأصبحت لديها قصارا
فأجريت دمع العيون اشتياقاً ... ففاضت لأجل فراقي بحارا
وقالت لي النفس من لم يجد ... نصيراً سوى الدمع قل
انتصارا
قطعت المنا عندها لمحة ... وودعتها وامتطيت القفارا
وضيعت تلك المنا غفلة ... ووافيت أبغي نابس ديارا
ومنها:
أرقت لذاك السنا ليلة ... وما نومها ذقت إلا غرارا
وجسمي أجل الجسوم التهابا ...
وقلبي أشد القلوب انكسارا
إلى أن تجرعت كأس النوى ... وقلت زماني على الشمل جارا
وصبرت نفسي لفقدانها ... هنالك بالرغم ليس اختيارا
وقال من قصيدة:
حللت لبرق لاح من سرحتي نجد ... حنين تهامى تحن إلى نجد
وقلت لعل القلب تبرا كلومه ... ومن ذا يصد النار عن شيمة
الوقد
إن شاركتني في المحبة فرقة ... فها أنا في وجدي وفي كلفي
وجد
وهو إلى هذا العهد بالحال الموصوفة.
ابن عيسى بن داود الحميريمحمد بن إبراهيم بن عيسى بن
داود الحميري من أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن عيسى
حالهكان أديباً، حسن الخط، جيد النظم، متظرفاً، لوذعياً،
مطبوعاً، منحطاً في هواه، جامحاً في ميدان بطالته، معاقراً للنبيذ، على حفظ للرسم،
واضطلاع بالخدمة، وإيثار للمروءة، ومعرفة بمقادير الأمور، وتشبث بأذيال الحظوة.
كتب للرياسة السعيدية بمالقة، ونظر على ألقاب جبايتها، وانتفع الناس بجاهه وماله،
ووقع الثناء على حسن وساطته. ثم سافر عنها، وقد سمت مجادة السلطان في غرض انتقالها
إلى العدوة، معوضة بمدينة سلا من مالقة. وكان ما كان من معاجلة الأمر، والقبض على
الريس، وقيام ولده بالأمر، فأنتب المذكور بالعدوة، وكانت بها وفاته.
وجرى ذكره في الإكليل الزاهر بما نصه: علم من أعلام هذا الفن،
ومشعشعي راح هذا الدن، بمجموع أدوات، وفارس يراعة، ظريف المنزع، أنيق المرآى
والمسمع، اختص بالرياسة، وأدار فلك إمارتها، واتسم باسم كتابتها ووزارتها، ناهضاً
بالأعباء، راقياً في درح التقريب والاجتباء، مصانعاً دهره في راح وراحة، آوياً إلى
فضل وسماحة، وخصب ساحة، كلما فرغ من شأن خدمته، وانصرف عن رب نعمته، عقد شرباً،
وأطفأ من الاهتمام بغير الأيام حرباً، وعكف على صوت يستعيده، وظرف يبديه ويعيده.
فلما تقليت بالرياسة الحال، وقوضت منها الرحال، استقر بالمغرب غريباً، يقلب طرفاً
مستريبا، ويلحظ الدنيا تبعة عليه وتثريباً، وإن كان لم يعدم من أمرايها حظوة
وتقريباً، وما برح يبوح بشجنة، ويرتاح إلى عهود وطنه.
شعره وكتابتهمما كتبه، وبين فيه أدبه قوله:
يا نازحين ولم أفارق منهم ... شوقاً تأجج في الضلوع
ضرامه
غيبتم عن ناظري وشخصكم ... حيث استقر من الضلوع مقامه
رمت النوى شملي فشنت نظمه ... والبين رام لا تطيش سهامه
وقد اعتدى فينا وجد مبالغا ... وجرت بمحكم جوره أحكامه
أترى الزمان مؤخراً في مدتي ... حتى أراه قد انقضت أيامه
تحملها يا نسيم تجديه النفحات، وجدية اللفحات، يؤدي عني
نغمها إلى الأحبة سلاماً، ويورد عليهم لفحها برداً وسلاماً، ولا تقل كيف تحملني
ناراً، وترسل على الأحبة مني إعصارا. كلا إذا أهديتهم تحية إيناسي، وأنسوا من جانب
هبوبك نار ضرام أنفاسي، وارتاحوا إلى هبوبك، واهتزوا في كف مسرى جنوبك، وتعللوا
بها تعليلا، وأوسعوا آثار مهبك تقبيلا، أرسلها عليهم بليلا، وخاطبهم بلطافة تلطفك
تعليلا. ألم تروني كيف جئتكم بما حملني عليلا.
كذاك تركته ملقى بأرض ... له فيها التعلل بالرياح
إذا هبت إليه صبا إليها ... وإن جاءته من كل النواح
تساعده الحمايم حين يبكي ... فما ينفك موصول النياح
يخاطبن مهما طرن شوقاً ... أما فيكن واهية الجناح
ولولا تعلله بالأماني، وتحدث نفسه بزمان التداني، لكان
قد قضى نحبه، ولم أبلغكم إلا نعيه أو ندبه، لا كنه يتعلل من الآمال بالوعد
الممطول، ويتطارح باقتراحاته على الزمن المجهول، ويحدث نفسه، وقد قنعت من بروق
الآمال بالخلب، ووثقت بمواعيد الدهر القلب؛ فيناجيها بوحي ضميره، وإيماء تصويره، كيف
أجدك يوم الالتقاء بالأحباب، والتخلص من ربقة الاغتراب، أبائنة الحضور أم بادية
الاضطراب. كأني بك وقد استفزك وله السرور، فصرفك عن مشاهدة الحضور، وعاقتك غشاوة
الاستعبار للاستبشار، عن اجتلاء محيا ذلك النهار.
يوم يداوي زماناتي من أزماني ... أزبر تنغيص أحياني
فأحياني
جعلت لله نذراً صومه أبداً
... أفي به وأوفي شرط إيماني
إذا ارتفعنا وزال البعد وانقطعت ... أشطان دهر قد التفت
بأشطاني
أعدده خير أعياد الزمان إذا ... أوطأني السعد فيه ترب
أوطاني
أرأيت كيف ارتياحي إلى التذكار، وانقيادي إلى معللات توهمات
الأفكار، كأن البعد باستغراقها، قد طويت شقته، وذهبت عني مشقته، وكأني بالتخيل بين
تلك الخمايل أتنسم صباها، وأتسنم رباها، وأجتني أزهارها، وأجتلي أوارها، وأجول في خمايلها.
وأتنعم ببكرها وأصايلها، وأطوف بمعالمها، وأتنشق أزهار كمايمها، وأصيخ بإذن الشون
إلى سجع حمايمها، وقد داخلتني الأفراح، ونالت مني نشوة الارتياح. ودنا السرور
لتوسم ذهاب الأتراح. فلما أفقت من غمرات سكري، ووثبت من هفوات فكري، وجددت مرارة
ما شابه لبي في استغراق دهري، وكأني من حينئذ عالجت وقفة الفراق، وابتدأت منازعة
الأشواق، وكأنما أغمضتني للنوم، وسمح لي بتلك الفكرة الحلم:
ذكر الديار فهاجه تذكاره ... وسرت به من حينه أفكاره
فاحتل منها حيث كان حلوله ... بالوهم فيها واستقر قراره
يا لقرب الآمال من هفواته ... لو أنه قضت بها أوطاره
فإذا جيتها أيها القادم، والأصيل قد خلع عليها برداً
مورساً، والربيع قد مد على القيعان منها سندساً، اتخذها فديتك معرساً، واجرر ذيولك
فيها تبختراً، وبث فيها من طيب نفحاتك عنبرا، وافتق عليها من نوافح أنفاسك مسكاً
أذفراً، واعطف بعاطف بانها، وارقص قضب ريحانها، وصافح صفحات نهرها، ونافح نفحات زهرها.
هذه كلها أمارات، وعن أسرار مقاصدي عبارات، هنالك تنتعش بها صبابات، تعالج صبابات،
تتعلل بإقبالك، وتعكف على لثم أذيالك؛ وتبدو لك في صفة الفاني المتهالك، لاطفها
بلطافة اعتلالك، وترفق بها ترفق أمثالك، فإذا أمالت بهم إلى هواك الأشواق، ولووا
إليك الأرؤس والأعناق، وسألوك عن اضطرابي في الآفاق، وتقلبي بين الأشآم والأعراق،
فقل لهم عرض له في أسفاره، ما يعرض للبدر في سراره، من سر السرار، وطاق المحاق،
وقد تركته وهو يسامر الفرقدين، ويساير النيرين، وينشد إذا راعه البين:
قد نكون وما يخشى تفرقنا ... واليوم نحن وما يرجى
تلاقينا
لم يفارق وعثاء الأسفار، ولا ألقى من يده عصا التسيار،
يتهاداه للغور والنجد. ويتداوله الأرقال والوخد، وقد لفحته الرمضاء، وسيمه الإنضاء.
فالجهات تلفظه، والآكام تبهظه، تحمل هومه الرواسم، وتحفى به النواسم.
لا يستقر بأرض حين يبلغها ... ولا له غير حدو العيس
إيناس
ثم إذا استوفرا سؤالك عن حالي، وتقلبي بين حالي حلي
وترحالي، وبلغت القلوب منهم الحناجر، وملأت الدموع المحاجر، وابتلت ذيولك بمائها،
لا بل تضرجت بدمائها، فحيهم عني تحية منفصل، وودعهم وداع مرتحل. ثم اعطف عليهم
ركابك، ومهد لهم جنابك، وقل لهم إذا سألني عن المنازل بعد سكانها، والربوع بعد ظعن
أظعانها، بماذا أجيبه، وبماذا يسكن وجيبه، فسيقولون لك هي البلاقع المقفرات التي
أصبحت نكرات.
سم صداها وعفى رسمها ... واستعجمت عن منطق السايل
قل لهم كيف الروض وآسه،
وعماذا تتأرج أنفاسه، عهدي به والحمام يردد أسجاعه، والذباب يغني به هزجاً، فيحك
بذراعه ذراعه، وغصونه تعتنق، وأحشاء جداوله تصطفق، وأسحاره تتنسم، وآصاله تغتبق،
كما كانت بقية نضرته، وكما عهدتها أنيقة خضرته، وكيف التفاتة عن أزرق نهره، وتأنقه
في تكليل أكليله بيانع زهره. وهل رق نسيم آصاله، وصفت موارد جداوله، وكيف انفساح
ساحاته، والتفاف دوحاته، وهل تمتد كما كانت مع العشي فينانة سرحاته. عهدي بها،
المديدة الظلال، المزعفرة السربال، فلم تحدق الآن به عيون نرجسه، ولا سد بساط سندسه.
وأين منه مجالس لذاتي، ومعاهد غدواتي وروحاتي، إذ أباري في المجون لمن أباري،
وأسابق إلى اللذات كل من يجاري. فسيقولون لك ذوت أفنانه، وانقصفت أغصانه، وتكدرت
غدرانه، وتغير ريحه وريحانه، وأقفرت معالمه، وأخرست حمايمه، واستحالت به حلل
خمايله، وتغيرت وجوه بكره وأصايله. فإن صلصل حنين رعد، فعن لبي لفراقه خفق، وإن
تلألأ برق، فعن حر حشاي ائتلق، وإن سحت السحب فمساعدة لجفني، وإن طال بكاؤها فعني،
حياها الله منازل لم تثن الريح من أغصانها معطفاً، أعاد الله الشمل فيها إلى محكم
نظامه، وجعل الدهر الذي فرقه يتأنق في أحكامه. وهو سبحانه يجبر الصدع، ويعجل
الجمع، إنه بالإجابة جدير، وعلى ما يشاء قدير. إيه بني كيف حال من استودعتهم
أمانتك، وألزمتهم صونك وصيانتك، وألبستهم نسبك، ومهدت لهم حسبك، الله في حفظهم،
فهو اللائق بفعالك، والمناسب لشرف خلالك، إرع لهم الاغتراب لديك، والانقطاع إليك،
فهم أمانة الله تعالى في يديك، وهو سبحانه بحفظهم، ويوالي بلحظك أسباب لحظهم، وإن
ذهبتم إلى معرفة الأحوال، فنعم الله ممتدة الظلال، وخيراته ضافية السربال، لولا
الشوق الملازم، والوجد الذي سكن الحيازم.
ووقفت من شعره على قصيدة من جملة رسالة، أثبتها وهي:
أللبرق يبدو تسطير الجوانح ... وللورق تشدو وتستهل
السوابح
وقلبي للبرق الخفوق مساعد ... ووجدي للورق الثكالى مطارح
إذا البرق أورى في الظلام زنادي ... فللوجد في زند
الصبابة قادح
وكم وقفة لي حيث مال بي الهوى ... أغاد بها شكوى الجوى
وأراوح
تنازعني منها للشجون فأشتكي ... ويكثر بثي عندها فأسامح
أبت شجوني والحمام يصيخ لي ... ويسعدني فيما تبيح
التبارح
وتطرب أغصان الأراك فتنثني ... إلى صفحة النهر الثقيل
تصافح
فتبتسم الأزهار منها تعجباً ... فتهدي إليها عرفها
وتنافح
كذلك حتى ماد عطف شغفي ... وطرفي أبدى هزة وهو مارح
فلما التظى وجدي ترنم صاهلاً ... فقلت أمثلي يشتكي الوجد
نابح
صرفت عدو البيد أرخو عناننه ... وقلت له شمر فإنني سابح
تهيأ لقطع البيد واعتسف السرى ... سيلقاك غيظان بها
وممايح
فحمحم لو يستطيع نطقاً لقال له ... بمثلي تلقى هذه
وتكافح
وحملتة عزماً تعود مثله ... فقام به مستقبلا من يناطح
ويممت بيداً لم أصاحب لجوها ... سوى جلد لا يتقي منه
فاضح
وماضي الغرارين استجدت مضاه ... إذا جردت يوم الجلاد
الصفايح
ومندمج صدق الأنابيب نافذ به ... عند كرى في الحروب
أفاتح
وسرت فلا ألقى سوى الوحش نافراً ... وقد شردت في الظبا
السوانح
تحدق نحوي أعيناً لم يلح لها ... سناً لك أسنى ولا هو
لايح
وقد زأرت أسد تقحمت غيلها ... فقلت تعاوت إنها لنوايح
وكم طاف بي للخبر من طايف بها ... فلم أصغ سمعاً نحوها
وهو صايح
ويعرض لي وجهاً دميماً منظراً ... شنيعاً له تبدو عليه
القبايح
فما راعني منه تلون حاله ... بل أيقظ عزمي فانثنى وهو
كالح
فلما اكتست شمس العشي شحوبها ... ومالت إلى أفق الغروب
تنازح
تسربلت للإدلاج جنح دجنة ...
فها أنذا غرسي إلى القصد جانح
فخضت ظلام الليل والنجم شاخص ... إلي بلخط طرفه لي لامح
يرده شزراً إلي كأنما ... علي له حقد به لا يسامح
وراقب من شكلى السماك نظزيره ... خلا لزمكلى أعزل وهو
رامح
يخط وميض البرق لي منه أسطراً ... على صفحة الظلماء فهي
لوايح
إذا خطها ما بين عيني لم أزل ... أكلف دمعي نحوها فهو
طامح
وما زلت سراً في حشى النبل كامناً ... إلى أن بدا من
ناسم الصبح فاتح
وهب نسيم الصبح فانعطفت له ... قدود غصون قد رقتها صوادح
تجاذب ذكري أحاديث لم أزل ... يرددها مني مجد ومازح
وملت إلى التعريس لما انقضى السرى ... أروض له نفسي
وعزمي جامح
ومال الكرى بي ميلة سكنت لها على نصب الوعثاء مني
الجوارح
كمن أخذت منه الشمول بثارها ... فبات يشقى وهو ريان طافح
وقربت الأحلام لي كل معمل ... فأدنته مني وهو في الحق
نازح
أرتني وجوهاً لو بذلت لقربها ... حياتي لمن بالقب منه
يسامح
لقل لها عمري وما ملكت يدي ... وحدثت نفسي أن تجرى رابح
وما زلت أشكو بيننا غصص النوى ... وما طوحت بن في الزمان
الطوايح
فمنها ثغور للسرور بواسم ... لقربه ومنها للفراق نوايح
تقربها الأحلام مني ودونها ... مهامه فيها للهجير لوافح
وبحر طمت أمواجه وشآبيب ... وقفر به للسالكين جوامح
قضيت حقوق الشوق في زورة ... للكرى فإن زيارات الشجون
فوادح
وعدت إلى شكوى البلاء ولم أزل ... أرددها والعذر مني
واضح
وما بلغت عني مشافهة الكرى ... تبلغها عني الرياح
اللوافح
وحسبك قلب في أسار اشتياقة ... وقد أسلمته في يديه
الجوانح
وفاتهقال شيخنا أبو بكر بن شبرين، توفي بسجلماسة في صفر
عام ستة عشر وسبعماية.
ابن مقاتلمحمد بن محمد بن عبد الله بن مقاتل من أهل
مالقة، يكنى أبا بكر.
حالهمن كتاب الإكليل: نابغة مالقية، وخلق وبقية، ومغربي
الوطن أخلاقه مشرقية. أزمع الرحيل إلى المشرق، مع اخضرار العود، وسواد المفرق، فلما
توسطت السفينة اللجج، وقارعت الثبج، مال عليها البحر، فسقاها كأس الحمام، وأولدها قبل
التمام، وكان فيمن اشتملت عليه أعوادها، وانضم على نوره سوادها، جملة من الطلبة
والأدباء، وأبناء السراة الحسباء، أصبح كل منهم مطيعاً لداعي الردى وسميعاً،
وأحيوا فرادى وماتوا جميعاً، فأجروا الدموع حزناً، وأرسلوا العبرات عليهم مزنا.
وكان البحر لما طمس سبل خلاصهم وسدها، وأحال هضبة سفينتهم وهدها، غار على نفوسهم
النفيسة واستردها. والفقيه أبو بكر، مع إكثاره، وانقياد نظامه، ونثاره، لم أظفر من
أدبه إلا بالقاليل التافه، بعد وداعه وانصرافه.
فمن ذلك قوله وقد أبصر فتى عاثراً:
ومهفهف هافي المعاطف أحور ... فضحت أشعة نوره الأقمارا
زلت له قدم فأصبح عاثراً ... بين الأنام لعا لذاك عثارا
لو كنت أعلم ما يكون فرشت في ... ذاك المكان الخد
والأشفارا
وقال متغزلا:
أيا لبنى الرفاء تنضى ظباؤهم ... جفون ظباهم والفؤاد
كليم
لقد قطع الأحشاء منهم مهفهف ... له التبر خد واللجين
أديم
يسدد إذ يرمى قسى جواجب ... وأسهمها من مقلتيه تسوم
وتسقمني عيناه وهي سقيمة ... ومن عجب سقم جناه سقيم
ويذبل جسمي في هواه صبابة ... وفي وصله للعاشقين نعيم
توفي في حدود أخريات عام تسعة وثلاثين وسبعماية غريقاً
بأحواز الغبطة من ساحل ألمرية.
ابن صفوان القيسيمحمد بن أحمد بن أحمد بن صفوان القيسي
ولد الشيخ أبي الطاهر، من أهل
مالقة.
من كتاب الإكليل: نبل فطن، متحرك ذهن، كان أبوه رحمه
الله، يتبرم بجداله، ويخشى مواقع رشق نباله، ويشيم بارق الاعتراض في سؤاله، فيشفق
من اختلال خلاله، إذ طريقه إنما هي أذواق لا تشرح، وأسرار لا تفضح. وكان ممن
اخترم، وجد حبل أمله وصرم، فأفل عقب أبيه، وكان له أدب يخوض فيه.
فمن ذلك، وقد أبصر فتى وسيما على ريحانه:
بدر تجلى على غصن من الآسى ... يبري ويسقم فهو الممرض الآسى
عادى المنازل إلا القلب منزلة ... فماله وجميع الناس من
ناس
وقال:
يا عالما بالسر والجهر ... وملجأى في العسر واليسر
جد لي بما أملته منك ... يا مولاي واجبر بالرضا كسري
وفاته: في عام خمسة وسبعماية.
ابن محمد البلويمحمد بن محمد بن عبد الواحد بن محمد
البلوي من أهل ألمرية، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بنسبه، وقد مر ذكر أبيه ي العمال.
حالههذا الرجل من أبناء النعم، وذوي البيوتات، كثير
السكون والحياء، آل به ذلك أخيراً للولوثة، لم يستفق منها لطف الله به. حسن الخط،
مطبوع الأدب، سيال الطبع، معينه. وناب عن بعض القضاة، وهو الآن رهين ما ذكر، يتمنى
أهله وفاته، والله ولي المعافاة، بفضله.
وجرى ذكره في الإكليل بما نصه: من أولى الخلال البارعة
والخصال، خطا رايقا، ونظما بمثله لايقاً، ودعابة يسترها بحبهم، وسكوتاً فيطيه
إدراك وتفهم. عني بالرواية والنقيد، ومال في النظم إلى بعض التوليد، وله أصالة
ثبتت في السرو عروقها، وتألقت في سما المجادة بروقها، وتصرف بين النيابة في
الأحكام الشرعية، وبين الشهادات العملية المرعية.
شعرهومن شعره فيما خاطبني به، مهنئاً في إعذار أولادي
أسعدهم الله، افتتح ذلك بأن قال.
قال، يعتذر عن خدمة الأعذار، ويصل المدح والثنا على بعد
الدار، وذلك بتارخ الوسط من شعبان في عام تسعة وأربعين وسبعمائة:
لا عذر لي عن خدمة الإعذار ... وإن نأى وطني وشط مزاري
أو عاقني عنه الزمان وصرفه ... نقض الأمان عادة الأعصار
قد كنت أرغب أن أفوت بخدمتي ... وأخطر حلى عند باب الدار
باب المسرة بالضبع وأهله ... متشمراً فيه بفضل إزار
من شاء أن يلقى الزمان وأهله ... ويرى جلا الإشعاع في
الأفكار
فليأت حي ابن الخطيب ملبيا ... فيفوز بالإعظام والإكبار
كم ضم من جيد كرام فضلهم ... يسمو ويعلو في ذوي الأقدار
إذ حيث ناديه فقف عني ... وقل نلت المنى بتلطف ووقار
يا من له الشرف القديم ومن ... له الحب الصميم العد يوم
فحار
يهنيك ما قد نلت من أمل به ... في الفرقدين النيرين يسار
نجلاك قطبا كل تجر باذخ ... أملان مرجوان في الاعتبار
عبد الإله وصنوه قمر العلا ... فرعان من أصل زكا وبحار
ناهيك من قمرين في أفق العلا ... ينميهما نور من الأنوار
زاكي الأرومة مغرق في مجده ... جم الفضايل طيب الأخبار
رقت طبايعه وراق جماله ... فكأنما خلقا من الأزهار
وجلت شمايل حسنه فكأنما ... خلعت عليه رقة الأسحار
فإذا تكلم قلت ظل ساقط ... أو وقع در من نحور جوار
أو فت مسك الحبر في قرطاسه ... بالروض غب الواكف المدرار
تتسم الأقلام بين بنانه ... فيريك نظم الدر في الأسطار
فتخال من تلك البنان كأنما ... نهلت تفتح ناضر النور
تلقاه فياض الندى متهللا ... يلقاك بالبشر والاستبشار
بحر البلاغة قسها وأيادها ... سحبانها خبر من الأخبار
إن ناظر العلماء فهو أمامهم ... شرف المعارف واحد النظار
أربى على العلماء بالصيت الذي ... قد كان في الآفاق كل
مطار
ما ضره إن لم يجئ متقدماً ...
السبق يعرف آخر المضمار
إن كان أخره الزمان لحكمة ... ظهرت وما خفيت كضوء نهار
الشمس تحجب وهي أعظم تبر ... وترى من الآفاق إثر درار
يا ابن الخطيب خطبتها لعلاكم ... بكراص تزف لكم من
الأفكار
جاءتك من خجل على قدم الحيا ... قد طيبت بثنايك المعطار
وأنت تؤدي بعض حق واجب ... عن نازح الإمكان والأفكار
مدت يد التطفيل نحو علاكم ... فتوحشت من جودكم بنضار
فابذل لها في النقد صفحك إنها ... شكوى التقصير في
الأشعار
لا زلت في دعة وعز دايم ... ومسرة تترى مع الأعصار
ومن السلطانيات قوله من قصيدة نسيبها:
تبسم ثغر الدهر في القضب الملد ... فأذكى الحيا خجلة
وجنة الورد
ونبه وقع الطل ألحاظ نرجس ... فمال الوسنان وعاد إلى
الشهد
ونم سبر الروض في مسكة الدجا ... نسيم شذا الخير كالمسك
والند
وغطى ظلام الليل حمرة أفقه ... كما دار مسود العذار على
الخد
وياتت قلوب الشهب تخفق رقة ... لما حل بالمشتاق من لوعة
الوجد
وأهمى عليه الغيم أجفان مشفق ... بذكره فاستمطر الدمع
للخد
ومنها:
كأني لم أقف في الحي وفقة عاشق ... غداة افترقنا والنوى
رندها يعد
وناديت حادي العسيس عرج ... لعلي أبثك وجدي إن تمر على
نجد
فقال اتيد يا صاح مالك ملجأ ... سوى الملك المنصور في
الرفق والرفد
ومما خاطبني به قوله:
عللوني ولو بوعد محال ... وحلوني ولو بطيف خيال
واعلموا أنني أسير هواكم ... لست أنفك إلا عن عقال
فدموعي من بينكم في انسكاب ... وفؤادي من سحركم في
اشتغال
يا أهيل الحمى كفاني غرامي ... حسبي بما قد جر....... ال
من مجيري من لحظ ريم ظلوم ... حلل الهجر بعد طيب الوصال
ناعس الطرف أسمر الجفن مني ... طال منه الجوى بطول
الليال
بابلي اللحاظ أصمى فؤاده ... ورماه من غنجه بنبال
وكما الجسم من هواه نحولا ... قصده في النوى بذاك النحال
ما ابتدا في الوصال يوماً بعطف ... مذ روى في الغرام باب
اشتغال
ليس لي منه في الهوى من محبر ... غير تاج العلا وقطب
الكمال
علم الدين عزه وسناه ذرؤه ... المجد بدر أفق الجلال
هو غيث الندا وبحر العطايا ... هو شمس الهدى فريد المعال
إن وشى في الرقاع بالنقش قلنا ... صفحة الطرس حليت
باللآل
أو دجا الخطب فيهو فيه شهاب ... راية الصبح في ظلل
الضلال
أوينا العضب فهو في الأمن ماض ... صادق العزم ضيق المجال
لست تلقى مثاله في زمان ... جل في الدهر يا أخى عن مثال
قد نأى حبي له عن دياري ... لا لجدوى ولا لنيل نوال
لكن اشتقت أن أرى منه وجهاً ... نوره فاضح لنور الهلال
وكما همت فيه ألثم كفا قد ... أتت بالنوال قبل السؤال
سألها ابن الخطيب هذراً أجابت ... تلثم النعل قبل شسع
النعال
وتوفي حق الوزارة عمن هو ... ملك لها على كل حال
محمد بن محمد بن الشديدمن أهل مالقة، يكنى أبا عبد الله.
حالهذكر في الإكليل بما نصه: شاعر مجيد، حوك الكلام، ولا
يقصر فيه عن درجة الأعلام. رحل إلى الحجاز لأول أمره، فطال بالبلاد المشرقية
ثواؤه. وعميت أنباؤه، وعلى هذا العهد وقفت له على قصيدة بخطه غرضها نبيل، ومرعاها
غير وبيل، تدل على نفس ونفس، وإضاءة قبس. وهي:
لنا في كل مكرمة مقام ... ومن فوق النجوم لنا مقام
روينا من مياه المجد لما ...
وردناها وقد كثر الزحام
ومنها:
فنحن هم وقل لي من سوانا ... لنا التقديم قدماً والكلام
لنا الأيدي الطوال بكل ضرب ... يهز به لدى الروع الحسام
ونحن اللابسون لكل درع ... يصيب الشمس منهن انثلام
بأندلس لنا أيام حرب ... مواقفهن في الدنيا عظام
ثوى منها قلوب الروم خوفاً ... يخوف منه في المهد الغلام
حمينا جانب الدين احتسابا ... فها هو لا يهان ولا يضام
وتحت الراية الحمراء منا ... كتايب لا تطلق ولا ترام
بنو نصر وما أدراك ماهم ... أسود الحرب والقوم الكرام
لهم في حربهم فتكات عمرو ... فللأعمار عندهم انصرام
يقول عداتهم مهما ألموا ... أتونا ما من الموت اعتصام
إذا شرعوا الأسنة يوم حرب ... فحقق أن ذاك هو الحمام
كأن رماحهم فيها نجوم ... إذا ما أشبه الليل الغمام
أناس تخلف الأيام ميتاً ... بحي منهم فلهم دوام
رأينا من أبي الحجاج شخصاً ... على تلك الصفات له قيام
موقى العرض محمود السجايا ... كريم الكف مقدام همام
يجول بذهنه في كل شيء ... فيدركه وإن عز المرام
قويم الرأي في نوب الليالي ... إذا ما الرأي فارقه
القوام
له في كل معضلة مضاء ... مضاء الكف ساعده الحسام
رؤوف قادر يغضي ويعفو ... وإن عظم اجتناء واجترام
تطوف ببيت سؤدده القوافي ... كما قد طاف بالبيت الأنام
وتسجد في مقام علاه شكرا ... ونعم الركن ذلك والمقام
أفارسها إذا ما الحرب أخنت ... على أبطالها ودنا الحمام
وممطرها إذا ما السحب كفت ... وكف أخي الندى أبداً غمام
لك الذكر الجميل بكل قطر ... لك الشرف الأصيل المستدام
لقد جينا البلاد فحيث سرنا ... رأينا أن ملكك لا يرام
فضلت ملوكها شرقاً وغرباً ... وبت لملكها يقظاً ونام
فأنت لكل معلوة مدار ... وأنت لكل مكرمة إمام
جعلت بلاد أندلس إذا ما ... ذكرت تغار مصر والشآم
مكان أنت فيه مكان عز ... وأوطان حللت بها كرام
وهبتك من بنات الفكر بكرا ... لها من حسن لقياك ابتسام
فنزه طرف مجدك في حلاها ... فللمجد الأصيل بها اهتمام
ابن أبي الخصال الغافقيمحمد بن مسعود بن خالصة بن فرج بن
مجاهد ابن أبي الخصال الغافقي، الإمام البليغ، المحدث الحجة، يكنى أبا عبد الله.
أصله من فر غليط من شقورة، من كورة جيان، وسكن قرطبة وغرناطة.
حالهقال ابن الزبير عند ذكره: ذو الوزارتين، أبو عبد
الله بن أبي الخصال، كان من أهل المعارف الجمة، والإتقان لصناعة الحديث، والمعرفة
برجاله، والتقييد لغريبه، وإتقان ضبطه، والمعرفة بالعربية واللغة والأدب، والنسب
والتاريخ، متقدماً في ذلك كله. وأما الكتابة والنظم؛ فهو إمامهما المتفق عليه،
والمتحاكم فيهما إليه.
لوما ذكره أبو القاسم الملاحي بنحو ذلك قال: لم يكن في
عصره مثله، مع دين وفضل وورع.
قال أبو عمرو بن الإمام
الإستنجي في سمط الجمان، لما ذكره: البحر الذي لا يماتح ولا يشاطر، والغيث الذي لا
يساجل ولا يقاطر، والروض الذي لا يفاوح ولا يعاطر، والطود الذي لا يزاحم ولا
يخاطر، الذي جمع أشتات المحاسن، على ماء غير ملح ولا آسن؛ وكثرت فواضله، فأمنت
المماثل والمحاسن، الذي قصرت البلاغة على محتده، وألقيت أزمة الفصاحة في يده،
وتشرفت الخطابة والكتابة باعتزائهما إليه، فنثفل كنانتها، وأرسل كماينها، وأوضح
أسرارها ودفاينها، فحسب الماهر التحرير، والجهبذ العلامة البصير إذا أبدع في كلامه،
وأينع في روض الإجادة نثاره ونظامه، وطالت قنى الخطية الذبل أقلامه، أن يستنير بأنواره،
ويقتضي بعض مناهجه وآثاره وينثر على أثوابه مسك غباره، وليعلم كيف يتفاضل الخبر
والإنشاء، ويتلو إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشأ.
وعضة العقور أبو نصر في قلائده. حيث قال، هو وإن كان
خامل المنشأ نازله، لم ينزله المجد مناله، ولا فرع للعلاء هضابا، ولا ارتشف للسنا
رضابا، فقد تميز بنفسه، وتحيز من أبناء جنسه، وظهر بذاته، وفخر بأدواته.
مشيختهقال الأستاذ أبو جعفر بن الزبير، في الصلة، روى عن
الغساني، والصدفي وأبي الحسن بن الباذش، وأبي عمران بن تليد، وأبي بحر الأسدي،
وأبي عبد الله النفزي، وجماعة غيرهم.
تواليفهقال الأستاذ، وأما كتبه وشعره وتواليفه الأدبية، فكل
ذلك مشهور، متداول بأيدي الناس، وقل من يعلم بعده، أن يجتمع له مثله، رحمه الله.
من روى عنهروى عنه ابن بشكوال، وابن حبيش، وابن مضاء
وغيرهم، وكل ذلك ذكره في رحاله، وهو أعرف بتقدمه في احتفاله.
شعرهوله شعر كثير. فمن إخوانياته ما خاطب به أبا إسحق بن
خفاجة:
هب النسيم هبوب ذي إشفاق ... يذهبن الهوى بجناحه الخفاق
وكأنما صبح الغصون بنشوة ... باحت لها سراير العشاق
وإذا تلاعبت الرياح ببانه ... لعب الغرام بمهجة المشتاق
مه يا نسيم فقد كبرت عن الصبا ... لم يبق من تلك الصبابة
باق
إن كنت ذاك فلست ذاك ولا ... أنا قد أذنتك مفارقي بفراق
ولقد عهدت سراك من عدد الهوى ... والموت في نظري وفي
استنشاق
أيام لو عن السلو لخاطرى ... قربته هدياً إلى أشواق
الهوى إلفي والبطالة مركبي ... والأمن ظلي والشباب رواق
في حيث قسمت المدامة قسمة ... ضيزى لأن السكر من أخلاق
لا ذنب للصهباء أني غاضب ... ولذاك قام السكر باستحقاق
ولقد صددت الكأس فانقبضت ... بها من بعدما انبسطت يمين
الساق
وتركت في وسط الندامى خلة ... هامت بها الوسطى من
الأعلاق
فاستسرفوني مذكرين وعندهم ... أني أدين اللهو دين نفاق
وحبابها نفث الحباب وربما ... سدكت يد الملسوع منه براق
وكأنه لما توقر من فوقها ... نور تجسم من ندى الأحداق
لو بارح نفح النوى في روضة ... فأثارها وسرى عن الأحداق
ولقد جلوا والله يدرأ كيدهم ... فتأنة الأوصاف والأعراق
أغوى بها إبليس قدماً أدماً ... وهي السر يرتمي في هواها
الباق
تالله أصرف نحوها وجد الرضا ... لو شعشعت برضا أبي إسحاق
ومن نسيبه:
وليل عنبرية الأفق ... رويت فيها السرور من طرق
وكست حران فاقتدحت بها ... نارا من الراح بردت حرق
وافت بها عاطلا وقد لبست ... غلالة فصلت من الحدق
فأجابها الدهر من بنيه دجا ... لقيته كالإصباح في نسق
قامت لنا في المقام أوجههم ... وراحهم بالنجوم والشفق
وأطلع البدر من ذرى غصن ... تهفو عليه القلوب كالورق
من عبد شمس بدا سناه ... وهل ذاك النور إلا لذاك الأفق
مد بحمراء من مدامته ... بيضاء كف مسكية العبق
فخلتها وردة منعمة ... تحمل
من سوسن على طبق
نشرت في الراح حين نشرتها ... ما غادرت مقلتاه من رمتي
وقال:
يا حبذا ليله لنا سلفت ... أغرت بنفسي الهوى وما عرفت
دارت بظلمائها المدام فكم ... نرجسة من بنفسج قطفت
وقال في مغن زار، بعده أغب وشط المزار.
وافي وقد عظمت علي ذنوبه ... في غيبة قبحت بها آثاره
فمحا إساءته لنا إحسانه ... واستغفرت لذنوبه أوتاره
وقال يعتذر عن استبطاء مكاتبة:
ألم تعلموا والقلب رهن لديكم ... يخبركم عني بمضجره بعدي
فلو قلبتني الحادثات مكانكم ... لأنهبتها وفرى واو دلاتها
خدي
ألم تعلموا أني وأهلي وواحد ... فدا ولا أرضى بتفدية
وحدي
ومن قوله في غرض المدح يخاطب تاشفين بن علي ويذكر الوقعة
بكركي، يقول فيها:
الله أعطاك فتحاً غير مشترك ... ورد عزمك عن فوت إلى درك
أرسل عنان جواد أنت راكبه ... واضمم يديك ودعه في يد
الملك
حتى يصير إلى الحسني على ثقة ... يهدي سبيلك هاد غير
مؤتعك
قد كان بعدك للأعداء مملكة ... حتى استدرت عليهم كورة
الفلك
سارت بك الجردا وطار القضا بها ... والحين قد قيد
الأعداء في شرك
فما تركت كميا غير منعفر ... ولا تركت نجيعاً غير منسفك
ناموا وما نام موتور عل حنق ... أسدى إذا فرصة من السلك
فصبحتهم جنود الله باطشة ... والصبح من عبرات الفجر في
مسك
من كل مبتدر كالنجم منكدر ... تفيض أنفسهم غيظاً من
المسك
فطاعنوكم بأرماح وما طعنت ... وضاربوكم بأسياف ولم تحك
تعجل النحر فيهم قبل موسمه ... وقدم الهدى منهم كل ذي
نسك
فالطير عاكفة والوحش واقفة ... فد أثقلتها لحوم القوم عن
حرك
عدت على كل عاد منهم أسر ... بعثه في حنجر رحب وفي حنك
كلي هينئاً مريئاً واشكري ملكاً ... قرنك أسيافه في كل
معترك
فلو تنضدت الهامات إذ نشرت ... بالقاع للغيظان بالنبك
أبرح وطالب بباقي الدهر ماضيه ... فيوم بدر أقامه الفيئ
في فدك
وكم مضى لك من يوم بنت له ... في ماقط برماح الحظ مشتبك
بالنقع مرتكم بالموت ملتيم ... بالبيض مشتمل بالشمر
محتبك
فحص القباب إلى فحص الصعاب ... إلى أريولة مداسات إلى
السكك
وكم على حبر محمود وجارته ... للروم من مرتكل غير مترك
وفيت للصغر حتى قيل قد غدروا ... سموت تطلب نصر الله
بالدرك
فأسلمتهم إلى الإسلام غدوتهم ... وأذهب السيف ما بالدن
من حنك
يا أيها الملك السامي بهمته ... إلى رضي الله لا تعدم
رضى الملك
ما زلت تسمعه بشرى وتطلعه ... أخرى كدر على الأجياد
منسلك
بيضت وجه أمير المؤمنين بها ... والأرض من ظلمة الإلحاد
في حلك
فاستشعر النصر واهتزت منابره ... بذكر أروع للكفار محتنك
فأخلدك ولمن والاك طاعته ... خلود بر بتقوى الله ممتسك
وافيت والغيث زاخر قد بكا طرباً ... لما ظفرت وكم بلله
من الضحك
وتمم الله ما أنشأت من حسن ... بكل منسبك منه ومنتمك
وعن قريب تباهى الأرض من زهير سماها بها غضة الحبك
فعد وقد واعتمد وأحمد وسد وأبد ... وقل وصل واستطل
واستول وانتهك
وحسبك الله فرداً لا نظير له ... تغنيك نصرته عن كل
مشترك
ومن قوله في غرض الرثاء، يرثي الفقيد أبا الحسن بن مغيث:
الدهر ليس على حر بمؤتمن ... وأي علق تخطته يد الزمن
يأتي العفا على الدنيا
وساكنها ... كأن أدبر لم يسكن إلى سكن
يا باكيا فرقة الأحباب عن شحط ... هلا بكيت فراق الروح
للبدن
نور تقيد في طين إلى أجل ... وانحاز عنواً وخلى الطين في
الكفن
كالطير في شرك يسمو إلى درك ... حتى تخلص من سقم ومن درن
إن لم يكن في رضي الله التقا وهما ... فيا لها صفقة بتت
على دغن
يا شد ما افترقا من بعد ما اعتنقا ... أظنها محرقة كانت
على دخن
ورب سار إلى وجه يسر به ... وافي وقد نبت المرعى على
الدمن
أتى إلى الله لا سمع ولا بصر ... يدعو إلى الرشد أو يهدي
إلى السنن
في كل يوم فراق لا بقاء له ... من صاحب كرم أو سيد قمن
أعيا أبا حسن فقد الذين مضوا ... فمن لنا بالذي أعيا أبا
حسن
كأن البقية في قوم قد انقرضوا ... فهاج ما شاء ذاك القرن
من شجن
يعد فداً وفي أثوابه رمز من ... كل ذي خلق عمرو وذي فطن
وإن من أوجدتنا كل مفتقد ... حياته لعزيز الفقد والظعن
من للملوك إذا خفت حلومها ... بما يقاوم ذاك الطيش من
سكن
ومنها:
يا يونس لا تسر أصبحنا لوحشتنا ... نشكو اغتراباً وما
بنا عن الوطن
ويا مطاعا مطيعاً لا عناد له ... في كل أمر على الإسلام
مؤتمن
كم خطت كارتجاج البحر مبهمة ... فرجتها بحسام سل من لسن
طود المهابة في الجلا وإن جذبت ... عنانة خلوة هزت ذرى
وتر
أكرم به سبباً تلقى الرسول به ... لخمس واردة في الفرض
والسنن
ناهيك من منهج سم القصور به ... هوى فمن قدر عال إلى فدن
من كل وادي التقى يسقى الغمام به ... فيستهل شروق الضرع
باللبن
تجملت بك في أحسابها مضر ... وأصل مجدك في جرثومة اليمن
من دولة حولها الأنصار حاشدة ... في طامح شامخ الأركان
والقنن
من الذين هم رووا وهم نصروا ... من عيسة الدين لا من
جذوة الفتن
إن يبد مطلع منهم ومستمع ... فارغب بنفسك عن لحظ وعن أذن
ما بعد منطقه وشي ولا زهر ... ولا لأعلاق ذاك الدر من
ثمن
أقول وفينا فضل سودده ... استغفر الله ملء السر والعلن
محمد ومغيث نعم ذا عوضاً ... هما سلالة ذاك العارض الهتن
تقيلا هديه في كل صالحة ... نصر السوابق عن طبع وعن مرن
ما حل حبوته إلا وقد عقدا حباً ... بما اختار من أيد ومن
منن
غر الأحبة عند حسن عهدهما ... وإن يونس في الأثواب
والجنن
علماً وحلماً وترحيباً وتكرمة ... للزايرين وإغضاء على
زكن
يا وافد الغيث أوسع قبره نزلا ... وروماً حول ذاك الديم
من ثكن
وطبق الأرض وبلا في شفاعته ... فنعم رايد ذاك الريف
واليمن
وأنت يا أرض كوني مرة بأبي ... مثوى كريم ليوم البعث
مرتهن
وإن تردت بترب فيك أعظمه ... فكم لها في جنان الخلد من
ردن
ومن شعره قوله مخمساً كتب بها، وقد أقام بمراكش يتشوق
إلى قرطبة:
بدت لهم بالغور والشمل جامع ... بروق بأعلام العذيب
لوامع
فباحت بأسرار الضمير المدامع ... ورب غرام لم تنله
المسامع
أذاع بها من فيضها التصويب.
ألا في سبيل الشوق قلب مؤثل ... بركب إذا شاء والبروق
تحمل
هو الموت إلا إنني أتحمل ... إذا قلت هذا منهل عز منهل
وراية برق نحوها القلب يجنب.
أبى الله إما كل بعد فثابت
... وإما دنو الدار منهم ففايت
ولا يلفت البين المصمم لافت ... ويا رب حي البارق
المتهافت
غراب بتفريق الأحبة ينعب.
خذوا بدمي ذاك الوسيق المضرجا ... وروضاً بغيض العاشقين
تأرج
عفى الله عنه قاتلاً ما تحرجا ... تمشي الردى في نشره
وتدرجا
وفي كل شيء للمنية مذهب.
سقى الله عهداً قد تقلص ظله ... حيا قطره يحيي الربا
مستهله
وعى به شخصاً كريماً أجله ... يصح فؤادي تارة ويعله
ويلمه بالذكر طوراً ويشعب
رماني على قرب بشرخ ذكائه ... فأعشت جفوني نظرة من ذكايه
وغصت بأدنى شعبة من سمايه ... شعابي وجا البحر في غلوئه
فكل قرب ردع خديه يركب
ألم يأته أني ركنت قعوداً ... وأجمعت عن وفز الكلام
قعودا
ولم أعتصر للذكر بعدك عودا ... وأزهقني هذا الزمان صعودا
فربع الذي بين الجوانح سبسب.
على تلك من حال دعوت سميعا ... وذكرت روضاً بالعقاب
مريعا
وتملأ الشعب المذحجي جميعاً ... وسرباً بأكناف الرصافة
ريعا
وأحدق عين بالحمام تقلب
ولم أنس ممشانا إلى القصر ذي النخل ... بحيث تجافي الطود
عن دمث سهل
وأشرف لا عن عظم قدر ولا فضل ... ولكنه للملك قام على
رجل
يقيه تباريح الشمال ويحجب.
وبيضاء للبيض البهاليل تعتريه ... وتعتز بالبان جلالا
وتنتزي
سوى أنها بعد الصنيع المطرز ... كساها البلى والثكل
أثواب معوز
يبكي وتبكي للزايرين وتندب.
وكم لك بالزهراء من متردد ... ووقفة متسق المجامع مقصد
يسكن من خفق الجوانح باليد ... ويهتك حجب الناصر بن محمد
ولا هيبة تخشبي هنالك وترهب.
لنعم مقام الخاشع المتنسك ... وكانت في محل العبشمين
المملك
متى يورد النفس العزيزة يسفك ... وإن يسم نحو الأبلق
الفرد يملك
وأي مرام رامه يتصعب
قصور كان الماء يعشق مبناها ... فطوراً يرى تاجاً بمفرق
أعلاها
وطوراً يرى خلخال أسوق سفلاها ... إذا زل وهناً عن ذوايب
يهواها
يقول هوى بدراً أو انقض كوكب
أتاها على رغم الجبال الشواهق ... وكل منيف للنجوم مراهق
وكم دفعت في الصدر منه بعانق ... فأودع في أحشائها
والمفارق
حساباً بأنفاس الرياح يذرب
هي الخود من قرن إلى قدم حسناً ... تناصف أقصاها جمالا
مع الأدنى
ودرح كالأفلاك مبني على مبنى ... توافقن في الإتقان
واختلف المعنى
وأسباب هذا الحسن قد تتشعب
فأين الشموس الكالفات بها ليلاً ... وأين الغصون
المائسات بها ميلا
وأين الظبا السابحات بها ذيلا ... وأين الثرى رجلا وأين
الحصا خيلا
فوا عجبا لو أن من يتعجب
كم احتضنت فيها القيان المزاهرا ... وكم فاوحت فيها
الرياض المجامرا
وكم ساهرت فيها الكواكب سامرا ... وكم قد أجاب الطير
فيها المزامرا
عظيم من الدنيا شعاع مطنب
كأن لم يكن يقضي بها النهي والأمر ... ويجبي إلى خزائنها
البر والبحر
ويسفر مخفوراً بذمتها الفخر ... ويصبح مختوماً بطينتها
الدهر
وأيامه تعزي إليها وتنسب
ومالك عن ذات القسي النواضج ... وناصحة تعزى قديماً
لناصح
وذي أثر على الدهر واضح ... يخبر عهد هنالك صالح
ويعمر ذكر الذاهبين ويخرب
تلاقى عليه فيض نهر وجدول ... تصعد من سفل وأقبل من عل
فهذا جنوبى وذلك شمأل ... وما اتفقا إلا على خير منزل
وإلا فإن الفضل منه مجرب
كأنهما في الطيب كانا تنافرا ... فسارا إلى وصل القضاء
وسافرا
ولما تلاقى السابقان تناظرا
... فقال ولي الحق مهلاً تظافرا
فكلكما عذب المجاجة طيب
ألم يعلما أن اللجاج هو المقت ... وأر الذي لا يقبل
النصف منبت
وما منكما إلا له عندنا وقت ... فلما استبان الحق واتجه
السمت
تقشع من نور المودة غيهب.
وإن لها بالعامرية لمظهرا ... ومستشرفاً يلهي العيون
ومنظراً
وروضنا على شطي خضارة أخضرا ... وجو سق ملك قد علا
وتجبرا
له ترة عند الكواكب تطلب
غيره في عنفوان الموارد ... وأثبته في ملتقى كل وارد
وأبرزه للأريحي المجاهد ... وكل فتى عن حرمة الدين زايد
حفيظته في صدره تتلهب
تقدم عن قصر الخلافة فرسخا ... وأصحر بالأرض الفضاء
ليصرخا
فحالته أرض الشرك فيها منوخا ... كذلك من جاس الديار
ودوخا
فردعته في القلب تسرى وترهب
أوليك قوم قد مضوا وتصدعوا ... قضوا ما قضوا من أمرهم ثم
ودعوا
فهل لهم ركز يحس ويسمع ... تأمل فهذا ظاهر الأرض بلقع
إلفا أنهم في بطنها حيث غيب.
ألست ترى أن المقام على شفا ... وأن بياض الصبح ليس بذي
خفا
وكم رسم دار للأجنة قد عفا ... وكأن حديثاً للوفود
معرفاً
فأصبح وحش المنتدى يتجنب
ولله في الدارات ذات المصانع ... أخلاء صدق كالنجوم
الطوالع
أشيع بينهم كل أبيض ناصع ... وأرجع حتى لست يوماً براجع
فيا ليتني في قسمتي أتهيب
أقرطبة لم يثنني عنك سلوان ... ولا بمثل إخواني بمغناك
إخوان
وإني إذا لم أسق ماءك ظمآن ... ولكن عداني عنك أمر له
شان
وموطني آثار تعد وتكتب
لك الحق والفضل الذي ليس يدفع ... وأنت لشمس الدين
والعلم مطلع
ولولاك كان العلم يطوى ويرفع ... وكل التقى والهدى
والخير أجمع
إليك تناهى والحسود معذب
ألم تك خصت باختيار الخلايف ... ودانت لهم فيها ملوك
الطوايف
وعض ثقاف الملك كل مخالف ... بكل حسام مرهف الحد راعف
به تحقن الآجال طوراً وتسكب
إلى ملكها انقاد الملوك وسلموا ... وكتبتها ندا الوفود
ويمموا
وفيها استفادوا شرحهم وتعلموا ... وعاذوا بها من دهر
وتحرموا
فنكب عنهم صرفه المتحسب
علوت فما في الحسن فوقك مرتقا ... هواؤك مختار وتربك
منتقا
وجسرك للدنيا وللدنيا وللدين ملتقى ... وبيتك مربوع
القواعد بالتقا
إلى فضله لأكباب تنضي وتضرب
تولى خيار التابعين بقاءه ... وخطوا بأطراف العوالي
فناءه
ومدوا طويلا صيته وثناء ... فلا زال مخلوع عليه سناه
ولا زال سعي الكايدين يخيب
وبالغ فيه كل أروع أصيد ... طويل المعالي والمكارم واليد
وشادوا وجادوا سيداً بعد سيد ... فبادوا جميعاً عن صنيع
مخلد
يقوم عليه الثناء ويخطب
مصابيحه مثل النجوم الشوابك ... تمزق أثواب النجوم
الحوالك
وتحفظه من كل لاه وسالك ... أجاد تنقض انقضاض النيازك
فإبشارهم بالطبطبية تنهب
أجدك لم تشهد بها ليلة القدر ... وقد جاش بر الناس منه
إلى بحر
وقد أسرجت فيه جبال من الزهر ... فلو أن ذلك النور يقبس
من فجر
لأوشك نور الفجر يفني ونضب
كأن للثرياوات أطواد من نرجس ... ذوايبه تهفو بأدنى تنفس
وطيب دخان الند من كل معطس ... وأنفاسه في كل جسم ملبس
وأذياله فوق الكواكب تسحب
إلى أن تبدت راية الفجر تزحف ... وقد قضى الذي لا يسوف
تولوا وأزهار المصابيح تقطف ... وأبصارها صوناً تغض
وتطرف
كما تنصل الأرماح ثم تركب
سلام على غيابها وحضورها ...
سلام على أوطانها وقصورها
سلام على صحرايها وقبورها ... ولا زال سور الله من دون
سورها
فحسن دفاع الله أحمى وأرهب
وفي ظهوها المعشون كل مرفع ... وفي بطنها الممشوق كل
مشفع
متى تأته شكوى الظلامة ترفع ... وكل بعيد المستغاث مدفع
من الله في تلك المواطن يقرب
وكم كربة ملئ الجوانح والقلب ... طرقت وقد نام المواسون
من صحب
بروعتها قبر الولى لي رهب ... وناديت في الترب المقدس يا
رب
فأبت بما يهوى الفؤاد ويرغب
فيا صحبي حان قبلك مصرعي ... وكنت على عهد الوفا والرضا
معي
فحط بضاحي ذلك السرى مضجعي ... وذرني فجار القوم غير
مروع
فضدهم للجار أهل ومرحب
رعى الله من يرعى العهود علىالنوى ... ويظهر بالقول
المحبر ما نوى
ولبيته من مستحكم الود والهوى ... يرى كل واد غير واديه
مجتوى
وأهدي سبيله الذي يتجنب
كتابتهوكتابة ذي الوزارتين رحمه الله، كالشمس شهرة،
والبحر والقطر كثرة؛ ونحن نثبت له شيئاً من ذلك ليلاً يخلو هذا الكتاب من شيء من
بيانه. كتب يرجع الوزير أبا بكر بن عبد العزيز، من رسالة، كتب بها إليه مع حاج
يضرب القرعة: أطال الله بقاء وليي، وإمامي، الذي له إكباري وإعظامي، وفي سلكه
اتسامى وانتظامي، وإلى ملكه انتسابي واعتزايي، وبوده افتخاري وانتزايي، للفضايل مجيباً
ومبدياً، وللمحامد مشتملا ومرتدياً، وبالغرايب متحفاً ومهدياً، ولا زال الرخاء
وأزل، وجد من المصافاة وهزل، وسحت من المراعاة وزل. وصل كتابه صحبة عراف اليمامة،
وفخر نجد وتهامه، يقرظه ويزكيه، ويصفه بالخب يفسره ويجليه، والخفي يظهره ويبديه،
ولعله رائد، لابن أبي صايد، أو هاد للمسيح الدجال قايد. أشهد شهادة إنصاف؛ أن عنده
لعضباً صاف، ولو كان هناك ناظر صادق طاف، ولله خطايا الألطاف، لقلت هو باد غير
خاف، من بين كل ناعل وحاف. وسأخبرك أيدك الله، بما اتفق، وكيف طار ونعق، وتوسد
الكرامة، وارتفق، طرق له وصفك ونعتك، وثقفه بريك ونحتك، ورفعه للعيون جدك وبختك،
وامتدت نحوه النواظر، واستشرفه الغايب والحاضر، وتسابق إليه النابه والخامل،
وازدحم عليه العاطل والعامل. هذا يلتمس مزيداً، وذاك يبتغي حظاً جديداً، وهذا يطلب
تقليداً، وذلك يسل إلى مغاليقه إقليداً. فكلما حزب، وغل وجلب، حلب واستدر، وتلقاه وإن
ساءه الغيب بما سر. وكنت واتغت جملة من الأعيان، ووافقت ثلة من جلة الإخوان، على
تمشية أمره، وتوشية ذكره؛ فلما صدقت تلك الفرقة، واستوت بهم تلك الفرقة، أحضرناه
للسبار، وأقعدناه للنقد والاختيار، وأردنا أن نقف على جلايا تلك الأخبار، فأحضرنا
طحناً ونطعاً، وسرينا عنه من الوحشة قطعاً، وقلنا له خذ هفوك، ولا توردنا إلا
صفوك، ولا تصانعنا في الكريهة التي نراها، والحادثة تستفظع ذكراها؛ فما عندنا جهل،
وما منا إلا محتنك كهل، لا يتكاده حزن، ولا يستخفه سهل، فسكن جايش فوره، وضرب
بلحيته على زوره، ثم صدفينا النظر وصوب، واستهل صارخاً وثوب وتحرج من الكذب وتحوب،
وقال لست للعشرة خابطاً، ولا للطرف غامضاً، ولا عن الصدق إذا صدع حايداً، ولا
للغدر ممن وقع منه ذايداً، ولا بمعجزات النبوة لاعباً، ولا لصريح الجد مداعياً، ولا
تطيبني مسألة ولا حلوان، ولا تستفزني نضايد كثيرة ولا ألوان. وإنما هو رسم وخط،
ورفع وحط، ونحس وسعد، ونقد ووعد، ويوم وغد.
فققلنا له الآن صحت الوفادة
وأينعت الإرادة. ثم نظر إلينا نظر المستقل واجتذب النطع اجتذاب المدل، ونثل الطجن
وهاله، وأداره حتى استدار هاله، ثم قال يا أيها الملأ هذا المبتدأ، فأيكم يبدأ.
فرمقني القوم بأبصارهم، وفغروا وكبروا، وليتهم عند ذلك صفروا. فقلت يا قوم قد عضضت
على ناجذي حلماً، وقتلت شأني كله علماً، وعقدت بيني وبين غد سلماً، فكيف أستكشف
عما أعرف، وأسبقهم عما لا يستبهم. على الرحمن توكلت، وعلى الشيطان تركلت، ومن كسبي
أكلت، وفي مبرك السلامة بركت، وجسيمات الأمور تركتني وتركت، والنفس المطمئنة رجوت،
ولعلني قد نجوت، وأصبت فيما نحوت. فلحظتني عند هذه المقالة عينه، وطواني صدقه ومينه.
ثم صار القوم دوني أنيجية، وأعد له كل تورية وتعمية. فقال قايل منهم، نعالوا نشترك
في ضمير، ونرمه بهذا الطاغية ابن رذمير ففي كل قلب منه ندب كبير، والسؤال عنه دين
وأدب، فإن أصابه استرحنا من النصب والشخوص، وحرنا من العموم إلى الخصوص، وإن أخطأه
فهو لما سواه أخطأ، ولما يدعيه ويريده منه أبطأ. فقالوا نعم ما عرضت، وأحسن بما
رويت وفرضت. فلما رأيناه يثقل التعريض، ويحكم التقرير والتعويض، قلنا له حقق ضميرك
كل التحقيق، وضع مسبحتك في الدقيق. فابتدر ما أمر وحسر عن ذراعه وشمر، ومرت أصبعه
في خطه مر الذر المتهالك، ووقعت وقع القطر المتدارك، لا تمس الطحن إلا تحليلا، وغمزاً
كالوهم قليلا فطوراً يستقيم سبيلا، وتارة يستدير إكليلا، وآونة يأتي بالسماء
ونجومها قبيلا. فكان هنالك لنعش من بنات، وللثريا من إخوات، وطير قابضاتن، وصافات
وأسراب ناشرات خافقات. فلما استوفى عدده، وبلغ أمده، وختم طرائقه وقدده، وأعطى
الأصول وفروعها، وتدبر تفاريقها وجموعها. فجمع وتقبض، وفتر ثم انتفض، وصعد ذهنه
وتسافه، وأخذ الطحن فسافه، وزفر وشهق، وعشر ونهق، وألصق بظهره حشاه، وكتم الربو ثم
أفشاه، وقال هذا الذي كنت أخشاه، عميتم الأثر، وكتمتم حقيقة الخبر، وعثرتم خاطي
فيما عثر، ونثرتم نظام الحدس فما انتثر.
سألتم عن روح شارد، وشيطان مارد، وصادر مع اللحظات وارد.
لا وطن داراً. ولا يأوي قراراً ولا يطعم النوم إلا غراراً. نعم أمره عندي مستقر. هو زنديق مستتر،
وشهاب من شهب الكفر مستمر. ثم رجع البصر واختصر. وعاد إلى الحساب يتقراه، والصواب
يتحراه. وتتبع أديم الطحن ففراه، وقال أعوذ بالله من شر ما أراه. إلى كم أرى في
غلاء وبلاء؛ كأني لست ذا أمرار وأحلاء، تالله لو كانت قرعة رفعة وعلا؛ ما غاب عني
اللحياني ذو السبلة، ولواجهنا البياض ذو الغرة المستقلة، مواجهة حسان لجبله. النحس
على هذا الروح قد رتب؛ وكتب عليه من الشقاء ما كتب، وأخرج النصرة الداخلة من
العتب. ثم أشار إلى الحمرة، وكأنما وضع يده على جمرة، وقال كوسج نعي، وسناط الوجه
شقي، وثقاف وطريق، وجماعة وتفريق، وقبض خارج، ومنكوس مارج. ثم وضع عمامته، ولولب هامته،
وأمال وجهه فجراً طلقاً، ثم عرضه مجناً مطرقاً، وعقد أنامله عضا، وأدمى صدره دعاً
ورضاً، وقطع بصره لمحاً وغضاً، وتكفأ وتقلع وأدلع لسانه فاندلع. فقلنا شر تأبطه،
أو شيطان يتخبطه، أو قرين يستنزله ويختله أو رؤى في الذرة والغارب يفتله. ثم تجاحظ
وتحاذر، وتضاءل وتنازر، وقال، والذي أحيا عزر، وأخرج إبراهيم من آزر، وملك عنان
الريح وأذعن له كل شيء بالسجود والتسبيح، إنه لمن عباد المسيح. هيهات هيهات، لا
أضعضع بظن، ولا يقعقع لي بشن، ولا أنازع من هذه الفنون في فن. قد ركبت أثباج
البحار، وقطعت نياط المفاوز والقفار. وشافهني الحرم والبيت، وصافحني الحجر الكميت،
وأحرمت ولبيت، وطفت ووفيت، ورزت المصطفى صلى الله عليه وسلم وتحفيت. ثم ملت على عدن،
وانحدرت عن اليمن، واستسقيت كل راعدة، وأتيت كل قاعدة؛ ورأيت صاحب الجمل قس بن
ساعدة، وردت عكاظ، وصدقت الحفاظ، وقدت العصية بنسع، ومسحت الشامات بأخمس وتسع،
ووقفت حيث وقف الحكمان، وشهدت زحف التركمان، وكيف تصاوات القروم، وغلبت الروم،
وهزم المدبر المقبل، واكتسحت الجحا الإبل. فقلنا لله أنت، لقد جليت عن نفسك،
وأربى يومك على أمسك، ولقد صدق مطريك، ووفت صحيفة تزكيك، وما كانت فراستنا لتخيب
فيك.
فماذا تستقري من اللوح، وترى في ذلك الروح، بعيشك ألاما أمتعتنا بالإفشاء والبوح. فرجع في البحث أدراجه، وطالع كواكبه وأبراجه، وظل على مادة الطحن، يرقم ويرمق، ويفتق ويرتق. ثم جعل يبتسم، وقال أحلف بالله وأقسم، لقد استقاما النسم، وإنه لكما أرسم وأسم، وإني لا أجده إلا لاغباً مبهوراً، ومنكوداً مقهوراً. ولن يلبث إلا شهوراً، قد أفل طالع جده، وفل حده وأتى عليه نقي خده، وصي لم يملك أبوه وملك جده، فقلنا صرحت وأوضحت، وشهرت هذا المستور وفصحت وإن ساعدك قدر، وكان لك عن هذا الورود صدر، فحظك مبتدر؛ وخطك صاف لا يشوبه كدر. فقال هذا أمر قد آن أو كان، وسيأتيكم الخبر الآن. فانفصلنا وأصغينا الآذان، وجعلنا نتلقى الركبا، فلم يرعنا إلا النعمى الناجمة، والبشرى الهاجمة بما بان، فأدهنا في شأنه، ولم يكن يعاوده خوف طغيانه، فإذا الخبر لم يخط صماخه، وكأنما كان عوداً وافي مناخه، أو طايراً أم أفراخه. فلم ينشب أن أقبل يصمد نحونا أي صمد، ويتعرضنا على عمد، تعرض الجوزاء للنجوم؛ وينقض انقضاض نيازك النجوم، وقال ألم يأن أن تدينوا لي بالإكبار، وتعلموا أني من الجهابذة الكبار، فقلنا منك الإسجاح، فقد ملكت ومنك ولك النجاح، أية سلكت. فأطرق زهواً، وأعرض عنا لهواً، وقال اعلموا أن القرعة لو طوت أسرارها، ومنعتني أخبارها، لمزقت صدراها، وذروت غبارها، ولكان لي عنها أوسع منتدح، وأنجد زناد يقدح، أين أنتم عن رصدي الأحلاك، وعلمي بالأفلاك، أنا في مرج الموج، وأوج الأوج، والمتفرد بعلم الفرد والزوج، ومسترط السرطان، ومستدير الدبران، وبايع المشتري بالميزان، والقابض بيوم الحساب والعمل، على روق الثور وذنب الحمل، أعقد نصل العقرب، وأقيد الأبعد والأقرب، لصيد أوابدها بالدقايق الدرج، حتى اضطر سارحها إلى الحرج، وأصبحها في أضيق منعرج، أنا استذكرت بالأنبار فرحة الإقبال وترحة الإدبار، وطالعت إقليدس، فاستنبطته، وصارعت المجسطي فجسطنته، وارتمطت إلى الأرتماطيق، وأطقت الألوطيق، ولحظت التحليل بحل ما عقده، وانتضيته ما مطل به الجهابذة، فنفذه. وعاينت زحل، حين استقل على بعيره ورحل، وضايقته في ساحته، وحصرته في مساحته، وحضرت قرانه، وشهدت تقدمه ومرانه، وشاهدته شفراً بشفر، وناجاني برقاً يعد في الكفر، وتخريبه لملك الصفر، وتغريقه لبلاد اللطينة وإنجاز الوعد في فتح قسنطينة. أنا عقدت رشا الدلو، وذروت غبار الحوت للغلو. أنا اقتدحت سقط الجوزهر، فلاح بعد خفايه وظهر. أنا استشرت الهلال من مكامن سرره، وأخذت عليه ثنايا سفره، وقددت قلامته من ظفره، ودللت طير الصاير على شجره، فجنيت المر من ثمره، أنا طرقت الزهرة في خدرها، صافحتها من الفكرة بيد لم تدرها. أنا أذكيت على ذكاء فظلت تلتهب. وأحرزتها من الوهم شطنا، أجذبها به فتنجذب. أنا أنعي للمعتبرين حياتها، فيشبهون الحسنة، ويتحرون أوقاتها، حتى تنتشر بعد الطي حياتها، وتستقيل من العثار آياتها.
أنا انتضيت للشباب شرخاً،
واضرمت للمريخ عقاراً ومرخاً، حتى أتغانى بملاحم حروبه، وحوادث طلوعه وغروبه، وتلمظه
إلى النجيع، وولوغه في مهجة البطل السجيع. أنا أبري من اللمم، وأشفي من الصمم،
وأنقل العطس إلى الشمم فقلنا أما الأولى، فقد سلمنا لك جميعها، وأما هذه الثلاثة
فلن تستطيعها. قال فلم تعجزون ولا تستخزون. فقلنا من كان له علاج فبنفسه يبدأ،
ونغب بغيره. ولسنا نريدك، ولكن تهتز يدك. قال أما من بينهم روى. وأقي في روعه ما
ألقى في روعي، فمثله كالصارم، حسنه في فرنده، لا غمده، وجماله في حده لا في خده،
والمرء كما قيل بأصغريه، لا بمنخريه، والشأن في الحيزوم، لا في الخيشوم، وفي الذكرين،
لا في الأنثيين، وبعد فهو كلام ظاهره إجمال، وباطنه احتمال، وسأنبئكم بغزارة سيله،
وفجر ليله. أما الأفطس فيدلي الضغنة، وتيزوج في آل جفنه. فإن الله أتم، جاء الولد
أتم، وإن نام عرق خاله، بقي الولد بحاله. وأما الأصم، فيخرج عن الغلام، وبلا قال، ويطلب
في بني السميعة بركة الإسمية والفال، فإن الله أراد، ظفر بالمراد، وجاء ابنه أسمع
من قراد. فأحس من بعض الحاضرين تمريضاً، وعاين طرفاً غضيضاً، فتعكر وتشذر، وطوف
وحذر، وقال صاحب الشريعة، سماهم بني السميعة، قوموا يا بني اللكيعة، فقد قطعتم
رزقي، وآذيتم طرقي، وأذللتم ضربي وطرقي، وسددتم طوقي، وأخذتم على أفقي غربي وشرقي،
ذروني للتي هي للبلية تجني، ثم الوجد يعني، لو شرب نواديه إثر تجني. ثم نجا بعزمته
سميلاً، وأرسل بنات نعش ذيلا، وقد أفاد بما استصحب من ميامنك ليلاً كذبني أيدك
الله عند نواه ولم يطلعني طلع ما نواه؛ وما ذاك إلا لمطمع لواه، ومغنم هواه فرفعت
لي بعد وداعه نجوه، ورمتني بشخصه فجوة فقلت ما أراك إلا غائل، أوثت عنك الحبائل. فسراك سرى
قين، وحديثك مين، ألم تعبر دجيلا، ويممت سهيلا. فقال طربت إلى الأصفية الصغار،
وشاقني الشوق بين الطواغيت والأصفار. فقلت له هلم إلى خط نعيده، وحظ نستفيد. فقال
لولا أن تقولوا الساعة متى، وتطالبوني بإجياء الموتي، لما أجمعت إلى الغرب غروباً،
ولأريتكم من الحذق ضروباً. ثم قال إن لي بالحضرة أفراخاً، وأما استصرخت عليها
استصراخاً، وانسلخت منها انسلاخاً، وأعيا على أمره، فلم أعلم له ظعناً ولا مناخاً.
فلبثت كذلك أياماً، قد اعتم علي أمره اعتياماً، ولم أعرف له إنجاداً ولا اهتماماً،
فإذا به وقد اضمرت عنه بأساً، ولم أطمع فيه رأساً، قد أشب لي شباباً، ولمعت صلعته شهاباً،
تكتنفه صرة، وبيمناه قوصرة. وتوود يسراه جرة. فقلت له قاتلك الله. ما أشد فقدانك،
إلا فقدتك، وما أذكر وجداتك إلا وجدتك أين أفراخك، والأم التي جذبها استصراخك.
فقال الصعلوك، لو أعلم مذاهبه، تحرم مناهبه، وتحدم مراهبه. ذرني وعلاجي، أحاجي
وأداجي، وأعاين وأناجي، وأتقلب في بركة دعاء الباجي. فقلت له مالك وللميت، ورحم
الله من سميت. قال، لما أذن الله فالتأمت الشيمة، وتمزقت عني المشيمة، هممت بالسرق
ولففت في الخرق، وفارقت من الضيق منتداه، وأفلتتني يداه؛ فحنكني السعد بتمر
المدينة، وسقاني من ماء البلدة الأمينة، وعوذني بدعوات متينة، فها أنا كما ترى
أتهادى واجتذب وأستحلي وأستعذب. فقلنا لعمرك إنه لفضل عميم، لولا الصميم، وإنها
لمنقبة؛ لولا العقبة وأثرة ملتمسة، لولا العطسة. فقال دعنا من زخاريفك، وأغضض من عنان
تصاريفك. البازل لا يكون إلا ذميما، والليث لا يوجد إلا شميما ثم قام وحمل، وابتدر
وارتجل:
عيشنا كله خدع ... فاترك اللوم عنك ودع
أنا كالليث والليوث لأرسانها ترع
ولها الأوجه السيمة ... من يلقها يرع
أي حسن لمازن ... بيد الدل يخترع
أنا كالسيف حده ... لا يبالي بما وقع
إنما الحسن للمهاة وللظبي يا لكع
فقلت تباُ لك ساير اليوم، إنك لتريش وتبري، وتقد وتفري،
وتحاسن وتقابح، وتارش وتنابح، وتحب وتتأمل، وتحسن وتغلغل وتشاعر وتراجز، وتناطح
وتناجز. وأنت على هذا كله مصر، ما جزاؤك إلا ريح فيها صر، فما هو إلا أن غفلت عنه
لمحة طرف، أو نفحة عرف، ثم التفت، وإذا به قد أفلس، وكأنما كان رقاً خلس، ولم أدر أقام
أو جلس.
ومحاسنه القطر الذي لا يعد،
والأمر الذي يأخذه الحد. وكفى بهذه الرسالة دليلا على جلالة
مقداره، وتدفق بحاره وفخازه، لما اشتملت عليه من بلاغة وبيان، وبساط حال أنت على
خبره بعيان، وعلوم ذات افتنان، خلد الله عليه الرحمة، وضاعف له المنة والنعمة.
مولده: بأوايل ربيع الثاني عام خمس وستين وأربع ماية.
وفاتهمن خط الحافظ المحدث أبي القاسم بن بشكوال رحمه
الله. كان ممن أصيب أيام الهرج بقرطبة، فعظم المصاب به، الشيخ الأجل، ذو
الوزارتين، السيد الكامل الشهير الأثير، الأديب اللغوي السري الكاتب البليغ، معجزة
زمانه وسابق أقرانه، ذو المحاسن الجمة، الجليلة الباهرة، والأدوات الرفيعة الزكية،
الطاهرة الكاملة، المجمع على تناهي نباهته، وحمد خصاله وفصاحته؛ من لا يشق غباره،
ولا تلحق آثاره، معجزة زمانه في صناعة النثر النظم، أبو عبد الله بن أبي الخصال
رحمه الله تعالى ورضي عنه ونضر وجهه. ألفى مقتولا قرب باب داره بالمدينة، وقد سلب
ما كان عليه، بعد نهب داره، واستيصال حاله، وذهاب ماله. وذلك يوم السبت الثاني عشر من شهر ذي
الحجة من سنة أربعين وخمسماية. فاحتمل إلى الربض الشرقي بحومة الدرب، فغسل هنالك وكفن، ودفن
بمقبرة ابن عباس عصر يوم الأحد بعده، ونعى إلى الناس وهم مشغولون بما كانوا بسبيله
من الفتنة. فكثر التفجع لفقده، والتأسف على مصاب مثله، وأجمعوا على أنه كان آخر
رجال الأندلس علما ًوحلما، وفهماً ومعرفة. وذكاء وحكمة ويقظة، وجلالة ونباهة،
وتفنناً في العلوم. وكان له رحمه الله اهتمام بها، وتقدم في معرفتها وإتقانها.
وكان رحمه الله، صاحب لغة وتاريخ وحديث، وخبر وسير، ومعرفة برجال الحديث، مضطلعا
بها، ومعرفة بوقائع العرب وأيام الناس، وبالنثر والنظم. وكان جزل القول، عذب
اللفظ، حلو الكلام عذب الفكاهة فصيح اللسان، بارع الخط حسنه ومتقنه. كان في ذلك
كله واحد عصره. ونسيج وحده، يسلم إليه في ذلك كله، مع جمال منظره، وحسن خلقه، وكرم
فعاله، ومشاركته لإخوانه. وكان مع ذلك كله جميل التواضع، حسن المعاشرة لأهل العلم
مسارعاً لمهماتهم، نهاضاً بتكاليفهم، حافظاً لعهدهم، مكرماً لنبهائهم، واسع الصدر،
حسن المجالسة والمحادثة، كثير المذاكرة، جم الإفادة. له تصانيف جليلة نبيهة، ظهر
فيها علمه وفهمه، أخذها الناس عنه مع ساير ما كان يحمله ويتقنه، عن أشياخه الذين
أخذ عنهم، وسمع منهم، وقرأ عليهم.
وقال غيره: قتل بدرب الفرعوني بقرب رحبه أبان، بداخل
مدينة قرطبة، قرب باب عبد الجبار يوم دخلها النصارى مع أميرهم ملك طليطلة، يوم
قيام ابن حمدين، واقتتاله مع يحيى بن علي بن غانية المسوفي الملثم المرابطي يوم
الأحد لثلاث عشرة مضت من ذي الحجة عام أربعين وخمسمائة. قتله بربر المصامدة رجالة
أهل دولة اللثام لحسن ملبسه، ولم يعرفوه، وقتلوا معه ابن أخته عبد الله بن عبد
العزيز بن مسعود، وكان أنكحه إبنته، فقتلا معا. وكان محمد خيرة الشيوخ، وعبد الله
خيرة الأحداث، رحمهما الله تعالى.
محمد بن مفضل بن مهيب اللخمييكنى أبا بكر من أهل شلب من
العليا.
حاله
قال الأستاذ أبو جعفر بن
الزبير، كان منقبضاً عن الناس، أديباً، شاعرا، خمس عشرينيات الفازازي، رحمه الله
تعالى. وذكره صاحب الذيل. وقال لي شيخنا أبو البركات، وهو جده، أبو أبيه، ما
معناه: كان شريفاً عالي الهمة، عظيم الوقار، ألوفا، صموتا، نحيف الجسم، آدم اللون،
خفيف العارض، مقطب الوجه، دايم العبوس، شامخ الأنف، إلا أنه كان رجلا عالما راسخا؛
عظيم النزاهة، حافظا للمروءة، شهير الذكر، خطيباً مصقعاً، مهيباً كشهرته، قديم
الرياسة، يعضد حديثه قديمه. واستقر بألمرية، لما تغلب العدو على بلد سلفه. ولما
توفي شيخ المشايخ، أبو إسحق بن الحجاج. تنافس الناس من البلدين، وغيرهم، في خطبة
إبنته. قال شيخنا أبو البركات؛ ومن خصه نقلت، وكان ابن مهيب واحداً منهم في
الإلحاح بالخطبة، متقدماً في حلبتهم، بجيوش الأشعار. ورام غلبته ذوو اليسار، من
حيث كان بحمراء جيش الإعسار، فأذلهم بالمقابلة في عقر الدار، فلم يرجعوا من
الغنيمة إلا بالفرار. قلت، وجلب في هذا المعنى شعراً كثيراً، ناسب الغرض. ونال من
المتغلب على ألمرية، على عهده، حظوة، فاستظهر به تارة على معقل مرشانة وتارة على
الرسالة إلى الحضرة الحفصية بتونس. ولما آب من سفره إليها، سعى به لديه بما أوجب
أن يحجر عليه التصرف، وسجنه بمنزله. فلما قصد ألمرية الغالب بالله، مستخلصا إياها
من يد الرييس أبي عبد الله بن الرميمي ونزل بمدينتها، وحاصر قصبتها، وقع اختيار
الحاصر والمحصور على تعيين ابن مهيب، بمحاولة الأمر، وعقد الصلح، رضي بدينه
وأمانته، فعقد الصلح بينهما على أن يسلم ابن الرميمي القصبة، ويعان على ركوب البحر
بماله وأهله وولده، فتأتى ذلك واكتسب عند الغالب بالله، ما شاء من عزة وتجلة.
وقفني شيخنا أبو البركات على ظهير سلطاني، صدر عن الأمير
الغالب بالله، يدل على جلالة قدره نصه:
هذا ظهير كريم، أظهر العناية
الحافلة لمستوحيها ومستحقها، وأجراه من الرعاية الكاملة على الحب طرقها. أمر
بإحكام أحكامه، والتزام العمل بفصوله وأقسامه، الأمير عبد الله محمد بن يوسف بن
نصر، نصر الله أعلامه، وأدام لإقامة قسط العدل أيامه، لوليه العلي المكانة، وصفيه
المليء بأثرتي المعرفة والديانة، الحري بما اختصه، أيده الله، من الحفظ لمرتبته
السامية والصيانة. للشيخ الفقيه، الجليل، العالم، الأوحد، العلم، الأتقى، الأزهر،
الفاضل، الخطيب الأرفع، المحدث الثقة، الراوية، الصالح، السني، الحافظ، الحافل،
الماجد، السري، الطاهر، المكرم، المبرور، الكامل، أبي بكر بن الشيخ الوزير الأجل، الفقيه،
الحسيب، الأصيل، الأمجد، المكرم، المبرور، الأفضل، المرحوم، أبي عمرو ابن مهيب،
أدام الله عزة جانبه، ووصل بالعلم والعمل أرتقاء مراتبه، أقام به الشواهد على
اعتقاده، أنه أخلص أوليائه وداً، وأفضلهم قصداً، وأكرمهم عهداً، حين ظهرت له. أيده
الله، آثار آرايه الأصيلة، وبانت في الصلاح والإصلاح، ميامن مناقبه الجميلة، ووجب
له من العناية والمزيات، أتم ما توجبه معارفه، وتقتضيه مجادته وزهادته، التي لا
يفند في وصفها واصف.
وأعلن، بأنه دام عزه، أحق من حفظت عليه، مرتبة صدور
العلماء الراسخين في العلم، وأبقيت مزية ما تميز به من التقى والورع الكافلي
والحلم، وبرع بصلة العناية بجانبه، لما أهلته إليه معرفته من نف المتعلمين، وإرشاد
من يسترشده في مسايل الدين من المسلمين، وأفصح بأنه أولى مخصوص بالتجلة والتوقي، وأجدر
منصوص على أن قدره لديه معتمد بالتكريم والتكبير. وأمر، أعلى الله أمره، أن يستمر
له، ولزوجه الحرة الأصيلة الزكية، التقية الصالحة، المصونة المكرمة المبرورة، عائشة
بنت الشيخ الفقيه الجليل العالم الصالح السني، الزاهد الفاضل، المرحوم المقدس.
الأرضي، أبي إسحق بن الحاج، ما اطردت به العادة لهما قديماً وحديثاً، وتضمنه
الظهيران الكريمان. المؤرخ أحدهما بالعشر الأواخر لشوال عام خمسة وثلاثين وستماية،
من صرف النظر في أعشارهما وزكواتهما إليهما، لضعا ذلك في أحق الوجوه، ويؤديا فيه
حق لله تعالى، ما مثلهما علماً وديناً من يؤديه، موكولاً ذلك لله، إلى ما لديهما،
من نشر الأمانة، مصروفاً إلى نظرهما الجاري، مع العلم والديانة، وتجديد أحكام ما بأيديهما
من الظهاير والأوامر القديمة والحديثة، المتضمنة تسويغ الأملاك، على اختلافها،
وتباين أجناسها وأوصافها، لهما ولأعقاب أعقابهما، على التأبيد والتخليد، والمحاشاة
من اللوازم، والمعلوز وللغارم، وأن يطرد لشركائهما، وعمرة أملاكهما، ووكلايهما،
وحواشيهما، ومن اتصل بهما، جميل العناية، وحفيل الرعاية، وموصول الحماية،
الاستمرار الذي يطرد العمل به مدى الأيام، وتتوالى التمشية له، من غير انصرام على
الدوام، موفي بذلك، ما يحق لجانب الفقيه العالم، الأوحد الأسنى، أب يبكر، أدام
الله عزته، من حظوظ الإجلال، منتهي فيه، إلى أبعد آماد العنايات الشريفة، الفسيحة
المجال، مقضي على حق ما انفرد به من العلم، واتصف به من الديانة، اللذين أضفيا
عليه ملابس البهاء والجلال. فمن وقف على هذا الظهير الكريم من الولاة والعمال، وساير
ولاة الأشغال، وليتلقه بغاية الائتمار والامتثال، إن شاء الله. وكتب في الثاني عشر
من ذي الحجة عام ثلاثة وأربعين وستمائة.
مشيختهأخذ عن أبي العباس أحمد بن منذر الإشبيلي، تلا
عليه بإشبيلية، وعلى عباس ابن عطية أبي عمرو. وروى عن أبي محمد عبد الكبير
الإشبيلي، وصحب أبا الحسن بن زرقون وتفقه عليه. وانتقل إلى ألمرية. فصحب أبا إسحق
البليفيقي وأخذ عنه، وتزوج ابنته. وأجاز له أبو عبد الله بن هشام الشواش وغيره. ثم
انتقل آخر عمره إلى سبتة.
شعرهنقلت من خط شيخنا أبي البركات قوله في غرض الوصية:
الليل النوى هل من سبيل إلى فجر ... ويا قلب كم تأسى ويا
دمع كم تجري
أبى القلب إلا أن يهيم بحبكم ... وأن تبرحوا إلا القليل
عن الفكر
رحلت عنكم لا بقلبي وإنما ... تركت لديكم حين ودعتكم سري
أعود بدهر الوصل من حين هجركم ... ورب وصال مستعاد من
الهجر
للعباب نفسي لست أنفق قربكم
... لزهدي فيكم بل حرصت على البر
تقطع أكباد عليكم صبابة ... فاصبر إن الخير أجمع في
الصبر
ويا لقلب من لا يصلح الصبر عنهم ... وإن كان خيرا فهو
عنهم من الشر
فلولاهم ما كنت أحسب ساعة ... فقدتكم فيها عياناً من
العمر
ألا يا أخي فاسمع وصاتي فإنها ... لبتك لعمري من أخ سالم
الصدر
يحبك في ذات الإله ويبتغي ... بحبك عند الله مدخر الأجر
لا إنما التوفيق كنت من أهله ... مراعاة حق الله في السر
والجهر
بتوجيده في ذاته وصفاته ... وأفعاله أيضاً وفي الندى
والأمر
فثابر على القرار والأثر الذي الذي ... يصح عن المختار
والسادة الغر
وعد لك الخيرات عما سواها ... وكن بها مستمسكا أبد الدهر
إذا يسلك الشيطان فجاً سوى الذي ... سلكت ولا يلفى سبيلا
إلى مكر
وفرق الأجناس حاشى تقيهم ... فقد ظهر الإفساد في البر
والبحر
ولا تنسني واذكر أخاك بدعوة ... فإنك منه يا أخي لعلى
ذكر
قال شيخنا أبو البركات، ومن شعره، ومن خطه نقلت:
للصالحين إلى الصلاح طريق ... رحبت بهم وعدت عليك تضيق
صرفوا النفوس من الهوى عن صوبها ... فغدت إلى طلب النجاة
تتوق
منها بعد أبيات:
يا قرة العين استمع من ناصح ... في صدره قلب عليك شفيق
أنت الشقيق ولادة ولذلك لي ... روح لروحك في الخلوص شقيق
لا تخد عنك ترهات أحدثت ... وخز عبلات للجهول تروق
واعكف على القرآن دهرك واجتمع ... فالشغل عنك لغيره
تفريق
واهجر بني الدنيا فإن بهجرهم ... يتضاعف الإيمان
والتصديق
والحق بقوم قد عنوا بتجارة ... نفقت لهم يوم القيامة سوق
واحفظ لسانك عن إذاية مسلم ... فسبابه قال الرسول فسوق
لا تبك هم الرزق فهو مقدر ... والعبد طول حياته مرزوق
ولترض بالرحمن رباً حاكماً ... ودع الفضول فمنه ضل فريق
حلوا عقال عقولهم وتحكموا ... إن التحكم بالعقول مروق
ولقد أتتك نصيحتي ولشمسها ... في أفق حبك يا حبيب شروق
فكن القريب مكانه من نفعها ... فمكان سدتها إليك سحيق
واصطد بباري العزم أطيار الرضا ... فأخوك غاية بازه
التحقيق
ولتجعل التسبيح شأنك إنه ... في الصعب من شأنه التصفيق
واقنع بعلم الوحي علماً ثم لا ... يذهب بك التشقيق
والتوفيق
لا ترض فيه بالدنية ولتمت ... عطشاً إذا لم تسق منه رحيق
ما كل علم يهتدى بحصوله ... منه الركيك نعم ومنه رقيق
كمدارك الأصوات منها طيب ... تسلو النفوس به ومنه نهيق
وعليكم مني تحية من له ... قلب إليكم أجمعه مشوق
وقال، ألفيت بخطه ما نصه، وكان بعض السفهاء قد كتب إلي
بيتين من شعروهما:
إليك أبا بكر رفعت وسيلتي ... ومثلك من تلقى إليه
الوسائل
غرقت ببحر الذل يوما وليس لي ... بأرضكم إلا اهتمامك
ساحل
وأساء المحاولة في دفعها، فصرفته، ولم أقف عليهما، فضرب
عليهما، وكتب في ظهرهما:
حللت أبا بكر بموطن عزة ... فأنسيت ما قد كنت فيه من
الذل
وأصلك من كبر وكن متكبراً ... وكيف يطيب الفرع من ذلك
الأصل
وكتبت إليه صحبة دراهم وجهت بها إليه:
جفوت وما زال الجفا سجية ... لمثلك ما إن زال تبلى بها
مثل
وما قلت في أصلي فكذبة فاجر
... رأى الفرع محموداً فعاب على الأصل
وبالإفك ما عثرت لا بحقيقة ... فما الكبر من شأني ولا
كنت في ذل
وما زلت والله الحميد مكرماً ... وفي نائبات الدهر للعقد
والحل
ولو كنت من يتقى الله لم تكن ... تمد متى تسخط وعند
الرضا تحل
أما قلت أني ساحل لك عندما ... غرقت ببحر الذل في زمن
المحل
وكيف نسخت المدح بالذم قبل أن ... تبث لي الشكوى وتدلي
بما تدل
ولكن لؤم الطبع يحمل أهله ... على الصعب من سب الكرام أو
النيل
إن كان بعض الكبر نقصا فإنه ... عليك من الأوغاد يحسب في
الفصل
وما الذل إلا ما أتى بك نحونا ... فقيراً من التقوى
سليباً من العقل
ومطلوبك الدنيا فخذها خسيسة ... توافي خسيس النفس والقول
والفعل
وما الجود إلا ما أصبت مكانه ... ومهما فقدت الأصل لا
عار في البخل
ومثلك من يجفي ويقلب خاسئاً ... فلست لإسداء الصنيعة
بالأهل
ولكنني عودت نفسي عادة من البذل لم أعدل بها قط عن نذل
فخذها لحاك الله غير مبارك ... لسعيك فيها يا بن خانية
النعل
ومثلي من يوذي فيحتمل الأذى ... ولكنه قد يدر الجهل
بالجهل
وقد قال من لا شك في قوله ... من الحكما القتل أذهب
للقتل
فإن زدتنا زدنا وإن كنت نادماً ... قبلناك أخذاً في
أمورك بالعدل
ففي كل شيء لست عنك مقصرا ... بما شئت من قطع وما شئت من
وصل
قال الشيخ، قول الهاجي، وأصلك من كبر، معناه التعريض
يكون سلف أبي بكر بن مهيب، علوا في أنفسهم وتكبروا، فثاروا بسبب ذلك بطبيرة
وجهاتها، ثار منهم عبد الرحمن جد أبي بكر، ثم حسن، ثم عامر أخوه، وإلى هذا أشار
أبو بكر بن مهيب بقوله في بعض شعره:
إن لم أكن ملكا فكنت ريساً
وأنشد في الصلة الزبيرية قوله رحمه الله:
أملي من الدنيا المباحة كسرة ... أبقى بها رمقي ودار
نابية
قد أضرب الزمان عن سكانها ... فكأنها في القفر دار خالية
ومن شعره في المقطوعات:
ترحل صبري والولوع مقيم ... وصح اشتياقي والسلو سقيم
فيا ليت شعري هل أفوز بعطف ... من زينت خدي ورداً عليه
أقوم
ويا جنة قد حيل بينها ... بقلبي من شوقتي إليك جحيم
دخوله غرناطةقال الشيخ، دخل غرناطة مرتين، أخبرني بذلك
الشيخ القاضي أبو الحسن ابن عبيدة، وهو بصير بأخباره، إذ هو من أصحاب سلفه، وممن
رافق جده في الكتب عن بعض الأمراء مدة، وفي الخطابة بألمرية أخرى.
توفي بسبتة أو لليلة من جمادة الآخرة عام خمسة وأربعين
وستماية.
ابن خطاب الغافقيمحمد بن عبد الله بن داود بن خطاب
الغافقي
حالهمن صلة ابن الزبير: كان كاتباً بارعاً، شاعراً
مجيداً، له مشاركة في أصول الفقه وعلم الكلام، وغير ذلك، مع نباهة وحسن فهم، ذو
فضل وتعقل وحسن سمت. وورد على غرناطة، واستعمل في الكتابة السلطانية مدة، وكان
معلوم القدر، معظما عند الكافة. ثم إنه رجع إلى مرسية، وقد ساءت أحوالها، فأقام
بها مدة، ثم انفصل عنه، وقد اشتدت أحوالها، واستقر بالعدوة بعد مكابدة.
قلت، أخبرني شيخنا أبو الحسن
الجياب رحمه الله، قال، كان شكس الأخلاق، متقاطباً، زاهياً بنفسه؛ ابتدأ يوماً
كتاباً مصدراً مخطبته، فقال فيه يصف صاحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم عفوة
العفوة، وتركه لأمر عرض له، فنظر إليه الفقيه عمر اللوشي، وهو كاتب المقام
السلطاني، فظن لقصوره أنه وهم، وأراد الصفوة فأصلحه، فلما عاد ونظر إليه مزقه،
وكسر الآلة، وقال لا أقيم بموضع بلغ فيه الجهل إلى هذا القدر، وبتسور به الإصلاح،
على قلم يطمع بعد في مقامه. وانصرف، واستقر بتلمسان، كاتباً عن سلطانها أبي يحييى
يغمراسن بن ريان. وزعموا أن المستنصر أبا عبد الله بن الأمير أبي زكريا، استقدمه
على عادته في استدعاء الكتاب المشاهير والعلماء وبعث إليه ألف دينار من الذهب العين،
فاعتذر ورد عليه المال، وكانت، أشق ما مر على المستنصر، وظهر له علو شأنه، وبعد
همته.
مشيختهروى عن القاضيين أبي عيسى بن أبي السداد، وأبي بكر
محرز، وعن الأستاذ أبي بكر محمد بن محمد المعروف بالقرشي، وقرأ وسمع على هؤلاء
ببلده، وأجاز له كتابة أبو الربيع بن سالم وغيره.
شعرهمن ذلك قوله:
أقنع بما أوتيته تنل الغنا ... وإذا دهتك ملمة فتصبر
واعلم بأن الرزق مقسوم فلو ... رمنا زيادة ذرة لم نقدر
والله أرحم بالعباد فلا تسل ... أحداً تعش عيش الكرام
وتؤجر
وإذا سخطت لبؤس حالك مرة ... ورأيت نفسك قد غوت فلتبصر
وانظر إلى من كان دونك تذكر ... لعظيم نعمته عليك وتشكر
ومما قاله في صباه:
يا دعوة شاك ما قد ... دهاه من لحاظ رشاك
ظبي تصدى للقلوب يصيدها ... من ناظريه في سلاح شاك
ورمى وإن قالوا رنا عن ... فاتر ساج عليه سيم النساك
قد كنت أحذر بطشه لو أنني ... أبصرت منه مخايل الفتاك
أو ما عليه ولا عليه حاكم ... يحمي ثغورك أو يحوط حماك
أو ما لجارك ذمة مرعية ... أبذا يظل دم الغريب طلاك
إني استتمت إلى ظلالك ضلة ... فإذا ظباءك ماضيات ظباك
ما لي أخاطب بانة ما أن تعي ... قولا ولا ترثي لدمعة باك
أكريمة الحيين هل لمتيم ... رحمي لديك فأرتجي رحماك
أصبتني بعد المشيب وليس من ... عذر لمن لم يصبه ثراك
ولا ما جذبت عنائي لوعة ... والله يشهد أنني لولاك
لما دعا داعي هواك أجبته ... من لا يجيب إذا دعت عيناك
أصليتني نار الصدود وإنني ... راض بأن أصلى ولا أسلاك
وأبحت ما منع التشرع من دمي ... بالله من أفتاك قتل فتاك
وتركت قلبي طايراً متخبطا ... شباك ختلك أو بطعن سباك
ومنعت أجفاني لذيذ منامها ... كي لا يتيح لي الكرى لقياك
ولقد عجبت وأنت جد بخيلة ... أن أعرت الشمس بعض حلاك
إني لأيأس من وصلك تارة ... لكن أعلل مطمعي بعلاك
أسماك أنك قد خفضت مكانتي ... هلا خلعت علي من سيماك
إني معناك المتيم فليكن ... حظي لديك مناسباً مغناك
تثني معاطفك الصبا خوطية ... وكذا الصبا فصباك مثل حماك
أبعدتني منها بطعنة رامح ... ألذاك سمتك الورى بسمك
أأموت من عطش وثغرك مورد ... فيه الحياة استودعتها فاك
هلا تني عن حلوة فلعله ... وضعت أداة النفي في اسم لماك
وقال يجيب أبا عبد الله بن خميس رحمه الله، عن قصيدة بعث
بها إليه أولها:
رد في حدايق مايها مرتاد ... قد لذ مورود وطاب مراد
زرق الأسنة دون زرق حمامها ... وظباً كما رنت العيون
حداد
هذه الأبيات:
نعم المراد لمن غدى يرتاد ... مرعى يرف نباته ومهاد
سالت على العافي جداوله ... كما صالت على العادي بدا ناد
فشددت رحل مصيتي منه ... إلى
حيث السيادة تبتنى وتشاد
وركبت ناجية مبارية الصبا ... خضراً فوق خضارة تعتاد
يغتادها سكانها قلب على ... من كان من سكانها استبداد
عجباً لهم أحلامهم عادية ... تمضي عليهم حكمها أعواد
خبر تلمساناً بأنني جيتها ... لما دعاني نحوها الرواد
وعاقتها سمعاً ولم أر حسنها ... لما دعاني نحوها الرواد
وعاقتها سمعاً ولم أر حسنها ... إلا أناساً حدثوا فأجاد
ولرب حسن لا ثواه ناظر ... وبراه لا يخفى عليه فؤاد
ودخلتها فدخلت منها جنة ... سكانها لا تخفى ولا حياد
ورأيت فضلا باهرا ومكارما ... وعلا تغاضر دونها التعداد
أهل الرواية والدراية والندا ... في نورهم أبدا لنا استمداد
فهم إذا سيلوا بحار معارف ... ولدى السكينة والنهى أطواد
درجاتها ينحط عنها غيرهم ... ومن الورى قتر ومنه وهاد
فأجلهم وأحلهم من مهجتي ... بمكانة ما فوقها مزداد
وأود حين أخط أطيب ذكرهم ... لو أن أسود مقلتي مداد
وقال يخاطبه وقد وقف على بعض قصيدة:
رقت حواشي طبعك ابن خميس ... فهفا قريضك بن وهاج رسيسى
ولمثله يصبو الحليم ويمترى ... ما للشروق به وسير العيس
لك في البلاغة والبلاغة بعض ما تحويه من أثر محل رييسى
نظم ونثر لا تباري فيهما ... تمهدت ذاك وذا بعلم الطوس
وقال عند وفاته وربما نسبت لغيره:
رب أنت الحليم فاغفر ذنوبي ... ليس يغفو عن الذنوب سواكا
رب ثبت عند السؤال لساني ... وأقمني على طريق هداكا
رب كن إذا وقفت ذليلا ناكس الرأي استحي أن أراكا
رب من لي والنار قد قربت لي ... وأنا قد أبحت عهد حماكا
رب مالي من عدة لمآلى ... غير أني أعددت صدق رجاكا
رب أقررت أني عبد سوء ... حلمك الجم غره فعصاكا
رب أنت الجواد بالخير دوماً ... لم تزل راحماً فهب لي
رضاكا
رب إن لم أكن لفضلك أهلاً ... باجترايي فأنت أهل لذاكا
نثرهومن نثره ما خاطب به صديقين له بمرسية من مدينة
إشبيلية:
كتبت، كتب الله لكما فوزاً
بالحسنى، وأجناكما من ثمرات إحسانه أكثر ما يجنى. من إشبيلية، وحالي بحمد الله
حسنة، ونفسي بحب قربكما مرتهنة، وعلى بما لديكما من السراوة التي جبلتما على
فطرتها، وامتزتما في الاجتلاء بغرتها، علم لا يدخله الشك، ونسبتي إلى ودكما الذي
لبسته معلماً وتقلدته محرماً، لا يعبر عن معناها إلا بما لا يزال، ولا ينفك. فلنثن
عنان القلم عن مداده، ونأخذ في حديث سواه. وصلنا إشبيلية ضحوة يوم الثلاثاء خامس
ربيع الآخر، ولقينا الإفانت على ميلين، وفزنا بما ظهر من بشره واعتنايه بقرار
الخاطر، وقرة العين، ونزلنا في الأخبية خارج البلد، موضعا يعرف بالقنب، قد تفجر
عيونا، وجمع ماؤه وهواؤه من المحاسن فنونا، وعرض علينا النزول في الديار داخل المدينة،
فرأينا المقام فيه، أحد الأسباب المسعدة على حفظ الصحة المعينة، ورغبنا عن المدينة
لحرها الوهاج، وغبارها العجاج، ومايها الأجاج. ولما ثاب من النشاط البارح، واستقل
من المطي الرازح، طفت في خارجها وداخلها، ووقفت على مباينها المشيدة ومنازلها،
ورأيت انسياب أراقشها؛ وتقصيت آثار طريانتها وبراقشها فشاهدت من المباني العتيقة،
والمنارة الأنيقة، ما يملا أعين النظار، وينفسح فيه مجال الاعتبار. على أين ما
رأيتها إلا بعد ما استولى عليها الخسف. وبان عنها الظرف، ونبا عنها الطرف، فلا ترى
من مغانيها إلا طللا دارسا، والتلمح من بدايعها إلا محياً عابسا، لكن الرائي إذا
قدر وضعها الأول، وركب وهمه من مباينها ما تحلل، وتخيل في ذهنه حسنها وتمثل، تصور حسناً
يدعو إلى المجون، ويسلى عن الشجون لولا أنها عرضت لأشمط راهب. لما دان إلا بدن،
ولا تقرب بغير قارب وحسبي أن أصفها بما يقيها من القبول، وأقول إنها في البلاد
بمنزلة الربيع من الفصول، ولولا أن خاطري مقسم وفكري حده مثلم، لقضيت من الإطناب
وطراً، ولم أدع من معاهدها عيناً إلا وصفتها ولا أثراً.
توفي بتلمسان يوم عاشوراء سنة ست وثمانين وستماية.
ابن الصايغمحمد بن عبد الله بن محمد بن لب الأمي يكنى
أبا عبد الله، ويعرف بابن الصايغ، بالصاد المهملة، والغين المعجمة، من أهل ألمرية.
حالهمن خط شيخنا أبي البركات في الكتاب المؤتم على أنباء
أبناء الزمن. كان سهلا، سلس القياد، لذيذ العشرة، دمث الأخلاق، ميالا إلى الدعة،
نفورا عن النصب، يركن إلى فضل نباهة وذكا، يحاسب بها عند التحصيل والدراسة،
والدؤوب على الطلب، من رجل يجري من الألحان على مضمار لطيف، ولم يكن له صوت رخيم،
يساوق إنطباعه في التلحين، يخبر ذلك بالأوتار. وحاول من ذلك بيده مع أصحابه، ما لاذ
به الظرفاء منهم. واستعمل بدار الأشراف بألمرية، فأحكم تلك الطريقة في أقرب زمان،
وجاء زمامه يروق من ذلك العمل شأنه. ثم نهضت به همته إلى أرفع من ذلك، فسار إلى
غرناطة، وقرأ بها العربية وغيرها، وانخرط في سلك نبهاء الطلبة لأدنى مدة، ثم رحل
إلى بلاد المشرق في حدود العشرين وسبعمائة، فلم يتجاوز القاهرة لموافقة هواها
علة..... كان يشكوها، وأخذ في إقراء العربية بها، وعرف بها إلى أن صار يدعي بأبي
عبد الله النوي. قال شيخنا المذكور، ورأى في صغره فارة أنثى، فقال هذه قرينة، فلقب
بذلك، وصار هذا اللقب أغلب من إسمه ومعرفته.
وجرى ذكره في التاج بما نصه: لج معرفة لا يغيض، وصاحب فنون
يأخذ فيها ويفيض. نشأ ببلده مسثمراً عن ساعد اجتهاده، وشارك في قنن العلم ووهاده،
حتى أينع روضه، وفهق حوضه. ثم أخذ في إراحة ذاته، وشام بإرقة لذاته، ثم سار في
البطالة سير الجموح، وواصل الغبوق بالصبوح، حتى قضى وطره، وسيم بطره، وركب الفلك،
وخاض اللجج الحلك، واستقر بمصر على النعمة العريضة، على شك في قضائه الحجة
العريضة، وهو بمدرستها الصالحية، نبيه المكانة، معدود في أهل العلم والديانة.
مشيختهقرأ بألمرية على المكثب أبي عبد الله الميرقي،
وأخذ عن شيخ الجماعة أبي الحسن بن أبي العيش، وقرأ بالحضرة على الخطيب أبي الحسن
القيجاطي وغيره. وأخذ بالقاهرة عن الأستاذ أبي حيان، وانتفع به وبجاهه.
شعرهقال شيخنا أبو البركات، وكان أخذ من قرض جيد الشعر
بالحظ الوافر. فمن شعره ما نقله إلينا الحاج الحافظ المكثب أبو جعفر بن غصن، حسبما
قيده عنه بمصر.
بعد المزار ولوعته أشواق ...
حكما بفيض مدامع الأماق
وخفوق نجي النسيم إذا سرى ... أذكى لهيب فؤادي الخفاق
أمعللي ن التواصل في غد ... من ذا الذي لغد فدينك باق
إن الليالي سبق قد أقبلت ... وإذا تولت لم تنل بلحاق
فصفح تمدونه على الحمى سقى الحما ... صوب الغمام الواكف
الرقراق
فيه لذي القلب السليم وداده ... قلب سليم يا له من راق
قلب غداة فراقهم فارقته ... لا كان في الأيام يوم فراق
يا سارياً والليل ساج عاكف ... يفتري للعلا بنجايب ونياق
عرج على مثوى النبي محمد ... خير البرية ذي المنخل
البراق
ورسول رب العالمين ومن له ... حفظ العهود وصحة الميثاق
الظاهر الآيات قام دليلها ... والطاهر الأخلاق والأعراق
بدر الهدى البادي آياته ... وجبينه كالشمس في الإشراق
الشافع المقبول من عم الورى ... بالجود والإرفاد
والإرفاق
والصادق المأمون أكرم مرسل ... سارت رسالته إلى الآفاق
أعلى الكرام نداً وأبسطهم يداً ... قبضت عنان المجد
باستحقاق
وأشد خلق الله إقداما إذا ... حمي الوطيس وشمرت عن ساق
أمضاهم والخيل تعثر في القنا ... وتجول سبحاً في الدم
المهراق
من صير الأديان ديناً واحدا ... من بعد إشراق مضى ونفاق
وأجحلنا من حرمة الإسلام في ... ظل ظليل وارف الأوراق
لو أن للبدر المنير كماله ... ما ناله كسف ونكس محاق
لو أن للبحرين جود يمينه ... أمن السفين غوايل الإغراق
لو أن للآباء رحمة قلبه ... ذابت نفوسهم من الإشفاق
ذو العلم والخفي المنجلي ... والجاه والشرف القديم الباق
آياته شهب وغر بنانه ... سحب النوال تدر بالأرزاق
فاحت فيوح الأرض وهو غياثها ... وربت ربي الإيمان وهو
الشاق
ذو رأفة بالمؤمنين ورحمة ... وهدى وتأديب بحسن سياق
وخصال مجد أفردت بالخصل في ... مرسى الفخار وغاية السباق
ذو المعجزات الغر والآى التي ... كم آية فقدت وهن بواق
ثنت المعارض خيراً لما حكت ... فلق الصباح وكان ذا إفلاق
يقظ الفؤاد سرى وقد هجع ... الورى لمقام صدق فوق ظهر
براق
وسما وأملاك السما تحفه ... حتى تجاوزهن سبع طباق
منها:
يا ذا الذي اتصل الرجا بحبله ... وانبت من هذا للورى
بطلاق
حبي إليك وسيلتي وذخيرتي ... إني من الأعمال ذو إملاق
وإليك أعملت الرواحل ضمراً ... تختال بين الوخد والأعناق
يحدو بهن من النحيب مردد ... وتقودهن أزمة الأشواق
غرض إليه فوقنا أسهماً ... وهي القسى برين كالأفواق
وأنختها بفنايك الرحب الذي ... وسع الورى بالنايل الدقاق
وقوي مؤملك الشفاعة في غد ... وكفى بها هبة من الرزاق
وعليك يا خير الأنام تحية ... تحيي النفوس بنشرها الفتاق
تتأرج الأرجاء من لفحاتها ... أرج الندى بمدحك المصداق
منها:
قسماً بطيب تراب طيبة إنه ... مسك الأنوف وأثمد الأحداق
وأثبار مسجده الذي برحابه ... لمعامل الرحمن أي نفاق
لا جود فيه بأدمع أسلاكها ... منظومة بترايب وتراق
أغدو بتقبيل على حصبايه ... وعلى كرام جدره بعناق
وعليك ذا النورين تسليم له
... نور يلوح بصفحه المهراق
كفواً لنبي وكفوا على جنة ... خيرت له بشهادة وصداق
وعلى أب السبطين من سبق الألى ... سبقوا إلى الإسلام أي
سباق
الطاهر الصهر ابن عم المصطفى ... شرف على التعميم
والإطلاق
مبدي القضا من وراء حجابها ... ومقتح الأحكام عن إغلاق
يغزو العداة بغلظة فيعيدهم ... بصوارم تفري القفار رقاق
راياته لا شيء من عقيانها ... بمطار يوم وغي ولا بمطاق
وعلى كرام سنة عثرت بهم ... عند النظام ليالي النساق
ما بين أروع ما جد نيرانه ... جنح الظلام تشب للطراق
وأخي حروب صده رشف القنا ... عما قدود مثلهن رقاق
ما غردت شجواً مطوقة وما ... شقت كمام روض عن أطواق
وعلى القرابة والصحابة كلهم ... والتابعين لهم ليوم تلاق
ولما سني الله في الروم الوقعة المبيرة والوقيعة
الشهيرة، التي أجلت عن قتل مليكهم معركتها، وانتهت للفتح معركتها وحركتها، وعمت
الإسلام بإتعاس فل الكفر بركتها، قدم مع الوفود من أهل بلده، وهنأ أمير المسلمين
بفتحه ذلك، وطلوع ولده، فقال:
أمليك أم بدر الدجا الوضاح ... وحسامه أم بارق لماح
أعلى المسالك ما بنته يد التقى ... وعمادها الأعلام
والأرماح
وأحق من يدعي خليفة ربه ... ملك خلافته هدى ونجاح
كأمير أندلس وناصرها الذي ... أفنى العداة حسامه السفاح
أسمى الملوك أبو الوليد المرتضى ... وأعز من شرفت به
الأمداح
هو دوحة الملك العلي فروعها ... وبراحتيه ترزق الأدواج
وبمحو رسم عداته بلباته ... نطق الكتاب وخطت الألواح
بدر الكمال لو أن بدرا مثله ... لم يبد خشية نوره
الإصباح
بحر النوال لو أن بدرا مثله ... لارتاع خشية فيضه الملاح
ولمثله قاد الجياد عدوه ... فخبا له قدح وخاب قداح
أهواه شيطان الهوى في لجة ... إن الهوى بأليفه طماح
طمع الشقي أضله وأذله ... كل المطامع للغبي فصاح
فأبادهم وملوكهم فتح بدا ... وبسعد جدك ربنا فتاح
وقواصل تبري بهن مفاصل ... وصفاح يفري بهن صفاح
لم تفن كلهم سيوف الهند بل ... لسيوف جودك في النفوس
جراح
ما زال حي عداك يحسد ميتهم ... ويحث فوتاً عاجلا فيراح
فاقتل كبيرهم واحي صغيرهم ... واسب النسا فيما عليك جناح
تستبيح ما حاط العداة وما حموا ... وحماك يا منصور ليس
يباح
يامة الكفران تفنيداً وهل ... لجفون أعمى ينجلي مصباح
وجوان يرتشف الندى فنديمه غربانه ووساده الصفاح
وكذلك المطران جاد رسومه ... قطر المنايا الصارم الطفاح
أروس أم تبيض النعام بمرجنا ... أصنافكم هذي أم الأشباح
ما للمطامير اشتكت من ضيقها ... بالمال والأسرى وهن فساح
جارت بكم أبطالنا فكأنكم ... كشح وجيش المسلمين وشاح
تبا لرومي يهيم براحة ... أيرام عن خيل الإله براح
قصت قوادمكم فما إقدامكم ... ولليل جنح الكفر تغيض جناح
هذا فلا تستعجلوا ببلادكم ... سترون كيف يكون الاستفتاح
قد انثنت بطحاؤنا بحطامكم ... ونباتها الريحان والتفاح
تالله ما كنتم بأول عسكر ... أمل النجاح وحينه يجتاح
القس غركم ليهلك نسلكم ... بسيوفنا إن إفكه لصراح
كم ذا يسخركم ويسخر منكم ... غدراً ومكراً إنه لوقاح
منها:
وفوارس نشوا لهب فراس ...
طلبوا انتشاو الدما للراح
أربوا على الأسد الهزبر بسالة ... مع أنهم غر الوجوه
صباح
خاضوا بحار الحرب يطمو بحرها ... ووطيسها حامي الصلى
لفاح
ما هم ببذل نفوسهم ونفيسهم ... عن النوال والنزال سجاح
وإذا هم ذكروا بناد فانتشق ... مسكا تضوع عرفه النفاح
فغدا وراح النصر يقدم جمعهم ... ويحفهم حيث اعتدوا أو
راح
سناك مولانا بسعد مقيل ... خلصاء قد عمتهم له أفراح
وبنجلك البدر الذي آفاقه ... ملك وهمالته هدى وصلاح
بدر البدور فلا بدار عليه ... وبذا نارت أربع وبطاح
فلكم عدو أفل بزوغه ... خسفت به الأوجال والأتراح
وهنا ونالك بالأمير تجدد ... كل بحبك نفسه ترتاح
قد جاء بعد العسر يسر شامل ... قد جاء بعد الشدة الإنجاح
فالحمد لله الذي قد خصنا ... ولنا بحمدك بعده إفصاح
وعلى المقام المولوي تحية ... كالزهر إذ تهدى شذاه رياح
ما خط مدحك في الطروس محبر ... ومحيي دجاجر الأصيل صباح
وقال يرثي الخطيب ببلده، الشهير الفاضل، أبا الحسن بن
شعيب رحمه الله.
بوادي لقد حملت ما ليس لقواه ... فراق ولي شرق الأرض
تقواه
بليت بذا التفريق فاصبر فربما ... بلغت بحسن الصبر ما
تمناه
شجا كل نفس فقد أنفس جوهر ... تعد ولاتحصى كرام سجاياه
بكى كلنا حزناً عليه كما بكى ... لفرقته محرابه ومصلاه
فلله خطب جليل لقد رمى ... أجل خطيب بالجلالة مصماه
فلولاكم يغلب تأسينا الأسى ... ولم يشمل الشمل التفجع
لولاه
فلم يبق إلا من جفا جفنه الكرى ... ومن جانبت وصل
المضاجع جنباه
وفاة لمري وفي فوفي أجره ... وأصفى بإصفاه الإله وصافاه
أبي الحسن العدل الرضا المحسن الذي أتته بأضعاف الزيادة
حسناه
خطيب جلا فصل الخطاب بيانه ... وأعدل قاض فاضل في قضاياه
وجسم الهدى الرحب السبيل وروحه ... ولفظ العلى الفخ
الأصيل ومعناه
مطيع رفيع خاضع متواضع كريم ... حليم طاهر القلب أواه
متى يمشي هوناً ليس إلا لمسجد ... تميد خجلا أرض بها حط
نعلاه
تكلمه عرف وذكر وحكمة ... تلذ بها الأسماع ما كان أحلاه
كذا صمته خوف وفكر وخشية ... فما زال يخشى الله والكل
يخشاه
يصوم وقد طال النهار مهجراً ... وتبحر بالليل للتغمض عيناه
فكم دارس أحياه من أربع التقا ... وكم غاسق من حندس
الليل أحياه
فيا طيبا أصلاً وذكراً وترية ... ومنه استفاد الطيب أطيب
رياه
وفي حشرقة تحن ومرتجاً وباطنا ... وأمن سني شمس الضحى من
محياه
محياً يروي الناظرين تهللاً ... فتعرفه في الصاحلين
بسيماه
بحبك هامت كل نفس منيبة ... كذا من أحب الله حببه الله
فما أنعم الأرض التي بك قدست ... وآثر ذياك الضريح
وأنداه
بشراك إنا قد شغلنا بحزننا ... ورضوان بشراه بذلك بشراه
عزاً لأهليه الأهلة أنهم ... لهم يعتري من بعده العز
والجاه
نال شعيب في الزمان بدوره ... ولم تكن الشمس المنيرة
إلاه
أعزي أولى الإيمان كلا بفقده ... نعم أسنيه بحبه مأواه
سقى الله وسمى الحيا ذلك الثرى ... وغاداه صوب الغاديات
ومياه
كما قد سقاه ليلة الدفن ربه ... من الغيث وكاف السحاب
وأسخاه
ترضوا عن القاضي الإمام خطيبكم ... فقد رضي الحمن عنه
وأرضاه
وصلوا على هادي الأنام نبيكم
... صلاة بها يمحو المسيء خطاياه
عليك سلام الله ما الروض فاح ... إن سرت سحراً ريح الصبا
بخزاماه
توفي رحمه الله في رمضان تحقيقاً من سنة خمس على شك وسبع
ماية، أخبرني بذلك من يوثق به.
محمد بن عبد الله بن الحاج البضيعةمن أهل مالقة، وتردد
كثيراً على الحضرة، مسترفداً ومنشداً، وفي غير ذلك من الأغراض يكنى أبا عبد الله.
حاله وشعرهمن الإكليل: شاعر اتخذ النظم بضاعة، وما ترك
السعي في مذاهبه ساعة، أجرى في الملا، لا في الخلا، وجعل ذكره دلوه في الدلا، وركض
في حبلة النجبا النجايب، ورمى في الخواطي بسهم صايب، فخرج بهرجه ونفق، وارتفد
بسببه وارتفق. وهو الآن قد سالمته السنون، وكأنما أمن المنون، من رجل مكفوف الأذى،
حسن الحالة إلا إذا، هذا قلت، ثبت هذا والمذكور حي، وقد مات رحمه الله.
ومن شعره:
رجاي في المولى العظيم عظيم ... غنيت به حيث الغنى بمديم
وحسبي الرجا فيمن عليه معولي ... حديث حديث لم يزل وخديم
وما عرفت نفسي سوى باب فضله ... على ثقة أن الكريم كريم
فإن قيل عني مذنب قلي سيد كفيل بغفران الذنوب رحيم
وما اعتصم المملوك إلا بحبله ... فجانبه نعمى لنا ونعيم
رضاه سبيل للنجاة وحبه ... طريق لجنات النعيم قديم
وأنشد يوماً الأمير ثالث الأمراء من بين نصر يهنيه
بالملك ويعزيه:
على من تنشر اليوم البنود ... وتحت لواء من ترى الجنود
وقال على هذا الكذا، الذي بين يديك فخجل، وعظم استظراف
الحاضرين لذلك.
توفي في كذا وسبعمائة.
محمد بن عبد الله بن فطيسيكنى أبا عبد الله من أهل
مالقة. وقال الأستاذ من بيت فطيس الألبيريين.
حالهقال، طبيب ماهر، وأديب شاعر؛ كان في أيام بني حسون،
يخف عليهم، وله فيهم أمدح كثيرة. يذكر أنه دخل يوماً على القاضي أبي مروان بن
حسون، بعد انقطاع عن زيارته، فعتبه القاضي، فاعتذر، ثم أنشد:
يا حاملاً من علاه تاجاً ... ومن سنا وجهه سراجا
لو كان رودي عديل ودي ... لكنت من بابك الرتاجا
إ، لم يعرج عليك شخصي ... نفسي وروحي عليك عاجا
وذكره ابن عسكر في كتابه.
ابن الحكيم اللخميمحمد بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن يحيى
بن محمد بن فتوح ابن محمد بن أيوب ابن محمد بن الحكيم اللخمي ذو الوزارتين، يكنى أبا
عبد الله رندي النشأة، إشبيلي الأصل، يرجع بيته، وبيت بين حجاج، وبيت بين عباد،
إلى خرثومة واحدة، وانتقل سلفه إلى رندة في دولة بني عباد، ويحيى جد والده هو المعروف
بالحكيم لطلبه. وقدم ذو الوزارتين على حضرة غرناطة أيام السلطان أبي عبد الله محمد
بن محمد بن نصر، إثر قفوله من الحج في رحلته التي رافق فيها العلامة أبا عبد الله
بن رشيد الفهري، فألحقه السلطان بكتابه، وأقام يكتب له في ديوان الإنشاء، إلى أن
توفي هذا السلطان، وتقلد الملك بعده ولي عهده أبو عبد الله المخلوع، فقلده الوزارة
والكتابة، وأشرك معه في الوزارة، أبا سلطان عبد العزيز بن سلطان الداني. فلما توفي
أبو سلطان، أفرده السلطان بالوزارة، ولقبه ذا الوزارتين، وصار صاحب أمره، إلى أن
توفي بحضرة غرناطة قتيلا، نفعه الله تعالى. غدوة يوم الفطر، مستهل شوال سنة ثمان وسبعمائة،
وذلك لتاريخ خلع سلطانه، وخلافة أخيه أمير المسلمين، أبي الجيوش، مكانه.
حاله
كان رحمه الله تعالى علماً في
الفضيلة والسراوة، ومكارم الأخلاق، كريم النفس، واسع الإيثار، متين الحرمة، عالي
الهمة، كاتباً بليغاً، أديباً، شاعراً، حسن الخط، يكتب خطوطاً على أنواع، كلها جميلة
الانطباع، خطيباً، فصيح القلم، زاكي الشيم، مؤثراً لأهل العلم والأدب، براًً بأهل
الفضل والحسب، نفقت بمدته للفضائل أسواق، وأشرقت بإمداده للفضائل آفاق. ومن عائد
الصلة: كان رحمه الله فريد دهره سماحة، وبشاشة، ولوذعية، وانطباعاً، رقيق الحاشية،
نافذ العزمة، مهتزاً للمديح، طلقاً لأمل، كهفاً لغريب، برمكي المائدة، مهلبي
الحلوى، ريان من الأدب، مضطلعاً بالرواية، مستكثراً من الفائدة. يقوم على المسائل
الفقهية، ويتقدم الناس في باب التحسين والتقبيح، ورفع راية الحديث والتحديث، نفق
بضاعة الطلب، وأحيا معالم الأدب، وأكرم العلم والعلماء، ولم تشغله الساسة عن النظر،
ولا عاقه تدبير الملك، عن المالعة والسماع، والإفراط في اقتناء الكتب، حتى ضاقت
قصوره عن خزائنها، وأثرت أنديته من ذخائرها. قام له الدهر على رجل، وأخدمه صدور
البيوتات، وأعلام الرياسات، وخوطب من البلاد النازحة، وأمل من الآفاق النائية.
رحلته ونباهتهرحل إلى الحجاز الشريف من بلده، على فتاء
سنة، أول عام ثلاث وثمانين وستمائة، فحج وزار، وتجول في بلاد المشرق، منتجعاً
عوالي الرواية في مظانها، ومنقراً عنها عند مسني شيوخها، وقيد الأناشيد الغريبة،
والأبيات المرقصة، وأقام بمكة شرفها الله، من شهر رمضان إلى انقضاء الموسم، فأخذ
بها عن جماعة يأتي ذكرهم في مشيخته. وانصرف إلى المدينة المشرفة، ثم قفل مع الركب
الشامي إلى دمشق، ثم كر إلى المغرب، لا يمر بمجلس علم أو تعلم إلا روى أو روى.
واحتل رندة حرسها الله أواخر عام خمسة وثمانين وستمائة، وأقام بها عيناً في
قرابته، وعلماً في أهله، معظماً عندهم، إلى أن أوقع السلطان بالوزراء من بني حبيب،
الوقيعة البرمكية. وورد رندة في أثر ذلك، في شهر جمادة الآخرة من عام ستة وثمانين
وستماية فتعرض إليه، ومدحه، وهنأه بقصيدة طويلة، من أوليات شعره، أولها:
ل إلى رج عشيات الوصال ... سبب أم ذاك من ضرب المحال
فلما أنشدها إياه، أعجب به، وبحسن خطه ونصاعة ظرفه،
فأثنى عليه، واستدعاه إلى الوقادة على حضرته، فوفد إليها في آخر العام المذكور،
فأثبته في خواص دولته، وأحظاه لديه إلى أن رقاه إلى كتابة الإنشاء ببابه. واستمرت
حاله، معظم القدر، مخصوصاً بالمزية، إلى أن توفي السلطان، ثاني الملوك من بني نصر،
وتقلد الملك بعده، ولي عهده أبو عبد الله، فزاد في إحظائه وتقريبه، وجمع له بين
الكتابة والوزارة، ولقبه بذي الوزارتين؛ وأعطاه العلامة، وقلده الأمر، فبعد الصيت
وطاب الذكر، إلى أن كان من الأمر ما يأتي به الذكر قريباً إنشاء الله تعالى.
مشيختهقرا برندة على الشيخ النحوي أبي الحسن علي بن يوسف
العبدري السفاح، القرآن العظيم بالروايات السبع. والعربية وغير ذلك. وعلى الخطيب
بها أبي القاسم ابن الأيسر، وأخذ عن والده جميع مروياته. واستجاز له في صغره أعلام ذلك الزمان،
وأخذ في رحلته عن الجلة من الجملة الذين يضيق عن أمثالهم الحصر.
فمنهم أبو اليمن جار الله بن عساكر، لقيه بالحرم الشريف،
وانتفع به، واستكثر من الرواية عنه. ومنهم الشيخ أبو العز عبد العزيز بن عبد
المنعم الحراني المعروف بابن هبة الله الحراني. ومنهم الشيخ الشريف أبو العباس
أحمد بن عبد الله بن عمر بن معطي بن الإمام الجزائري، جزائر المغرب، نزيل بغداد.
ومنهم الشيخ أبو الصفا خليل بن أبي بكر بن محمد المرادي الحنبلي، لقيه بالقاهرة.
ومنهم الشيخ رضي الدين القسطميني أبو بكر. ومنهم الشيخ شرف الدين الحافظ أبو محمد
عبد المؤمن بن خلف الدمياطي إمام الديار المصرية في الحديث ومؤرخها وحافظها. ومنهم
عبد المنعم بن محمد بن يوسف بن أحمد الخيمي شهاب الدين أبو عبد الله نزيل مشهد الحسين
بن علي، قرأ عليه قصيدته البائية الفريدة التي أولها:
يا مطلباً ليس لي في غريه أرب ... إليك آل النقصي وانتهى
الطلب
ومنها البيت المشهور الذي وقع النزاع فيه:
يا بارقاً بأعالي الرقمتين بدا ... لقد حكيت ولكن فاتك
السبب
ومنهم عبد المولى يحيى بن
حماد البعلبكي، مولده سنة إحدى عشرة وستمائة. ومنهم محمد بن بكر بن خلف بن أبي
القاسم الصفار. ومنهم الشيخ أبو الفضل الأديب جمال الدين بن أبي الخير بن علي بن
عبد الله بن رواحة. ومنهم محمد بن يحيى بن عبد الله القرشي جمال الدين أبو صادق،
ومن تخريجه الأربعون المروية بالأسانيد المصرية. وسمع الحلبيات من ابن عماد
الحراني، والشيخ أبي الفضل عبد الرحيم خطيب الجزيرة، ومولده سنة ثمان وتسعين
وخمسمائة. ومنهم الشيخ محمد بن عباس الأشعري تقي الدين الحافظ أبو القاسم. ومنهم
الشيخ محمد بن إسماعيل بن عبد الله بن عبد المجيد الأنماطي. ومنهم أبو البدر بن
عبد الله ابن أبي الزبير الكاتب المصري. ومنهم الشيخ عبد الرحيم بن عبد المنعم بن خلف
التدميري. ومن رؤساء شيوخه؛ الشيخ محيي الدين أبو الفضل. ومنهم زينب بنت الإمام
الفضل، وسمعت من أبيها. ومنهم محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد الخراساني، أبو عبد
الله موقر الدين، وألبسه خرقة التصوف. ومنهم الشيخ محمد بن يحيى بن هبيرة الشيياني
شرف الدين. ومنهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن عيسى بن عيسى بن يوسف بن إبراهيم بن
إسماعيل السلفي. ومنهم الشيخ علي بن عبد الكريم بن عبد الله الدمشقي، أبو الحسن،
ولد سنة سبع وتسعين وخمسماية. ومنهم الشيخ غازي بن أبي الفضل بن عبد
الوهاب الجلاوي. ومنهم الشيخ نور الدين علي بن محمد أبي البركات الأنصاري المقرئ
بحرم الخليل، سمع من أبي الحسن علي بن شجاع. ومنهم يوسف بن داود بن عيسى بن أيوب
الحنفي.
ومنهم الملك الأوحد يعقوب بن الملك الناصر صلاح الدين،
وداود بن الملك المعظم عيسى بن الملك العادل أبي بكر بن أيوب. ومنهم عبد المنعم بن
يحيى بن إبراهيم بن علي بن جعفر القرشي الزهري خطيب القدس. ومنهم الشيخ عبد الحفيظ
ابن بدران ويدعى علي الدين من أهل بانياس، سمع من ابن صيصري. ومنهم الشيخ علي بن
عبد الرحمن بن عبد المنعم المقدسي. ومنهم الشيخ محمد بن محمد بن سالم ابن يوسف بن
اسلم القرشي، جمال الدين. ومنهم عبد الواسع بن عبد الكافي شمس الدين. ومنهم الشيخ
أحمد بن أحمد الزجاجي البغدادي الغمام تقي الدين. ومنهم عبد الجميل بن أحمد ين الزجاج.
ومنهم فاطمة بنت إبراهيم بن محمد بن محمود بن جوهر البعلبكي، الشيخة الكاتبة الخيرة
أم الخير. ومنهم الشيخ يوسف ابن أبي ناصر السفاوي. ومنهم الشيخ عبد السلام بن محمد
بن مزروع أبو محمد عفيف الدين. ومنهم الشيخ أحمد بن عثمان، بن محمد الشافعي
البخاري شمس الدين. ومنهم الشيخ عبد الله بن خير بن أبي مجمد بن خلف القرشي. ومنهم
الشيخ محمد بن أحمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الباقي بن علي الصواف شرف
الدين. ومنهم الشيخ علي بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن محمد بن أبي بكر بن زريق
الكاتب، لقيه بتونس. ومنهم الشيخ سليمان بن علي بن عبد الله الكاتب التلمساني عفيف
الدين الصوفي الأديب نزيل دمشق، ومولده بتلمسان. ومنهم الشيخ محمد بن علي بن أحمد بن
علي بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن أحمد الميموني البستي القسطلاني قطب الدين،
الغمام المفتي شيخ دار الحديث الكاملية بالقاهرة المعزية ومنهم الشيخ عبد الكريم
بن علي بن جعفر القرشي جمال الدين. ومنهم الشيخ أحمد بن محمد بن عبد الظاهر جمال
الدين. ومنهم محمد بن محمد بن إبراهيم النجاشي. ومنهم الشيخ عبد الله بن محمد بن
محمد بن أبي بكر الطبري إمام الروضة النبوية ثم الصخرة القدسية. ومنهم الشيخ فخر الدين
عثمان بن أبي محمد بن إسماعيل بن جندرة. ومنهم الشيخ عبد العزيز بن عبد الرحمن بن
عبد العلي بن أنسكرت فخر الدين. ومنهم الشيخ ثابت بن علي بن عبد العزيز بن قاسم بن
عبد الرازق، سمع على ابن المغير البغدادي. ومنهم الشيخ أمين الدين أبو الهامات
جبريل بن إسماعيل بن سيد الأهل الغساني.
ومنهم الشيخ محمد بن أحمد بن عبد الله الأندلسي الأصل شرف
الدين، سمع من علم الدين الشيخوني وغيره. ومنهم الشيخ محمد بن محمد الشامي الشافعي
الدمشقي إمام مسجد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، يدعى شمس الدين، سمع من الزبيدي.
ومنهم الشيخ يحيى بن الخضر بن حاتم الأنصاري، يعرف بابن عز الدولة.
وأجاز له جماعة، منهم ابن
عماد الحراني، ومنهم ابن يحيى بن محمد بن محمد الهمداني كمال الدين، وسمع من ابن
الزجاج وابن رواح الحميري. ومنهم الشيخ عبد الملك أبو المعالي بن
مفضل الواسطي، عرف بابن الجوزي سمع على جماعة، منهم شعيب الزعفراني، ومنهم الشيخ
محمد بن أحمد بن ياسر بن شاكر الحاكمي. ومنهم الإمام مفتي المسلمين رضي الله عنه.
ومنهم أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن خليل العسقلاني المكي. ومنهم الخطيب أبو
عبد الله محمد بن صالح بن أحمد بن محمد بن رحيمة الكناني خطيب بجاية. ومنهم قاضي
القضاة ببلاد إفريقية أبو العباس ابن الغماز البلتسي، لقيه بتونس. ومنهم الفقيه العلامة
الوزير أبو القاسم محمد بن عبد الله بن يحيى بن عبد الرحمن بن يوسف ين جزي الكلبي.
ومنهم الشيخ أبو محمد عبد اله بن يوسف الخلابي. ومنهم الشيخ المغربي أبو محمد
الحجاج ابن يوسف بن إبراهيم بن عتاب، لقيه بتونس. ومنهم الشيخ المغربي أبو محمد الحجاج
ابن يوسف ين إبراهيم بن عتاب، لقيه بتونس. ومنهم الشيخ الفقيه أبو بكر بن محمد ابن
إبراهيم بن محمد بن يربوع السبتي. ومنهم الإمام قدوة النحاة أبو الحسين عبيد الله
بن أحمد بن عبيد الله بن أحمد بن عبد الله بن أبي الربيع القرشي. ومنهم الإمام أبو
علي ناصر الدين منصور بن أحمد ابن عبد الحق الزواوي المشدالي من أهل بجاية. ومنهم الخطيب
القاضي أبو عمرو إسحق بن أبي إسحق بن عبد الوهاب الرندي. إلى طائفة كبيرة من أهل
المشرق والمغرب.
محنتهأغلى به الأمير ولي العهد، بسبب أمور اختلف فيها،
منها أبيات في هجو الدولة النصرية، الله أعلم بصحة نسبتها إليه، فأوقع به وناله
بين يديه نكال كبير أفلت منه برفق، واختفى مدة في المآذن المقفلة والأماكن الخفية،
حتى أصحى له جو سخطه، وقضى الله برد أمره إليه، وستيلايه على ما وراء بابه.
من روى عنهأخذ عنه الخطيب الصالح أبو إسحق بن أبي
العاصي، وتدبج معه رفيقه عبد الله بن رشيد وغير واحد. وكان ممدوحاً، وممن مدحه
الرئيس أبو محمد عبد المهيمن الحضرمي، والرئيس أبو الحسن بن الجياب، وناهيك بهما.
ومن بديع مدح ابن الجياب له، قصيدة راثية رائقة، يهنيه فيها بعيد الفطر منها في
أولها:
يا قادماً عمت الدنيا بشائره ... أهلا بمقدمك الميمون
طائره
ومرحباً بك من عيد تحف به ... من السعادة أجناد تظاهره
قدمت فالخلق في نعمى وفي جذل ... أبدي بك البشر باديه
وحاضره
الأرض قد لبست أثواب سندسها ... والروض قد بسمت منه
أزهره
حاكت يد الغيث في ساحاته حللا ... لما سقاها دراكاً منك
باكره
فلاح فيها من الأنوار باهرها ... وفاح فيها من النوار
عاطره
وقام فيها خطيب الطير مرتجلا ... والزهر قد رصعت منه
منابره
موشي ثوب طواه الدهر آونة ... فها هو اليوم للأبصار
ناشره
فالغصن من نشوة يثني معاطفه ... والطير من طرب تشدو
مزاهره
وللكمام انشقاق عن أزاهرها ... كما بدت لك من خل ضمائره
لله يومك ما أذكى فضائله ... قامت لدين الهوى فيه شعائره
فكم سريرة فضل فيك قد خبئت ... وكم جمال بدا للناس ظاهر
فافخر بحق على الأيام قاطبة ... فما لفضلك من ند يظاهره
فأنت في عصرنا كابن الحكيم إذا ... قيست بفخر أولي
العليا مفاخره
يلتاح منه بأفق الملك نور هدى ... تضاءل الشمس مهما لاح
زاهره
مجد صميم على عرش السماك سما ... طالت مبانيه واستعلت
مظاهره
وزارة الدين والعلم الذي رفعت ... أعلامه والندى الفياض
زاخره
وليس هذا ببدع من مكارمه ... ساوت أواثله فيه أواخره
يلقى الأمور بصدر مه منشرح ... بحر وآراؤه العظمى جواهره
راعى أمور بصدر منه منشرح ... بحر وآراؤه العظمى جواهره
راعي أمور الرعايا معملاً نظراً ... كمثل علياه معدوماً
نظائره
والملك سير في تدبيره حكماً
... تنال ما عجزت عنه عما كره
سياسة الحكم لا بطش يكدرها ... فهو المهيب وما تخشى
بوادره
لا يصدر الملك إلا عن إشارته ... فالرشد لا تتعداه
مصائره
تجري الأمور على أقصى إرداته ... كأنما دهره فيه يشاوره
وكم مقام له في كل مكرمة ... أنست موارده فيها مصادره
ففضلها طبق الآفاق أجمعها ... كأنه مثل قد سار سائره
فليس يجحده إلا أخو حسد ... يرى الصباح فيعشي منه ناظره
لا ملك أكبر من ملك يدبره ... لا ملك أسعد من ملك يؤازره
يا عز أمر به أشتدت مضاربه ... يا حسن ملك به ازدانت
محاضره
تثني البلاد وأهلوها بما عرفوا ... ويشهد الدهر آتيه
وعابره
بشرى لآمله الموصول مأمله ... تعساً لحاسده المقطوع
دابره
فالعلم قد أشرقت نوراً مطالعه ... والجود قد أسبلت سحاً
مواطره
والناس في بشر والملك في ظفر ... عال على كل عالي القدر
قاهره
والأرض قد ملئت أمناً جوانبها ... بيمن من خلصت فيها
سرائره
وإلى أياديه من مثنى وواحدة ... تساجل البحر إن فاضت
زواخره
فكل يوم تلقانا عوارفه ... كساه أمواله الطولي دفاتره
فمن يؤدي لما أولاه من نعم ... شكراً ولو أن سحبانا
يظاهره
يا أيها العبد بادر لثم راحته ... فلثمها خير مأمول
تبادره
وافخر بأن لقيت ابن الحكيم على ... عصر يباريك أو دهر
تفاخره
ولي الصيام وقد عظمت حرمته ... فأجره لك وافيه ووافره
وأقبل العيد فاستقبل به جذلاً ... واهنأ به قادماً عمت
بشائره
ومن مدح الرئيس أبي محمد عبد المهيمن الحضرمي له قوله:
تراءى سحيرا والنسيم عليل ... وللنجم طرف بالصباح كليل
وللفجر نهر خاضه الليل فاعتلت ... شوى أدهم الظلماء منه
خجول
بريق بأعلى الرقمتين كأنه ... طلائع شهب السماء تجول
فمزق ساجي الليل منه شرارة ... وخرق ستر الغيم منه نصول
تبسم ثغر الروض عند ابتسامه ... وفاضت عيون للغمام همول
ومالت غصون البان نشوي كأنها ... يدار عليها من صباه
شمول
وغنت على تلك الغصون حمائم ... لهن حفيف فوقها وهديل
إذا سجعت في لحنها ثم قرقرت ... يطيح خفيف دونها وثقيل
سقى الله ربعاً لا يزال يشوقني ... إليه رسوم دونها
وطلول
وجاد رياه كلما ذر شارق ... من الودق هتان أجش هطول
ومالي أستسقي الغمام ومدمعي ... سفوح على تلك العراص
همول
وعاذلة باتت تلوم على السرى ... وتكثر من تعذالها وتطيل
تقول إلى كم ذا فراق وغربة ... ونأي على ما خيلت ورحيل
ذريني أسعى للتي تكسب العلا ... سناء وتبقى الذكر وهو
جميل
فأما تريني من ممارسة الهوى ... نحيلا فحد المشرفي نحيل
وفوق أنابيب البراعة صفوة ... تزين وفي قد القناة ذبول
ولولا السرى لم يحتل البدر كاملا ... ولا بات منه للسعود
نزيل
ولولا اغتراب المرء في طلب العلا ... لما كان نحو المجد
منه وصول
ولولا نوال ابن الحكيم محمد ... لأصبح ربع المجد وهو
محيل
وزير سما فوق السماك جلالة ... وليس له إلا نجوم قبيل
من القوم أما في الندى فإنهم ... هضاب وأما في الندى
فسيول
حووا شرف العلياء إرثا ومكسباً ... وطابت فروع منهم
وأصول
وما جونة هطالة ذات هيدب ...
مرتها شمول مرجف وقبول
لها رجل من رعدها ولوامع ... من البرق عنها للعيون كلول
كما هدرت وسط القلاص وأرسلت شقاشقها عند الهياج فحول
بأجود من كف الوزير محمد ... إذا ما توالت للسنين محول
ولا روضة بالحسن طيبة الشذا ... يتم عليها أذخر وجليل
وقد أذكيت للزهر فيها مجامر ... تعطر منها للنسيم ذيول
وفي مقل النور للطل عبرة ... ترددها أجفانها وتحيل
بأطيب من أخلاقه الغر كلما ... تفاقم خطب للزمان يهول
حويت أبا عبد الإله مناقباً ... تفوت يدي من رامها وتطول
فغرناطة مصر وأنت خصيبها ... ونائل يمناك الكريمة نيل
فداك رجال حاولوا درك العلا ... ببخل وهل نال العلاء
بخيل
تخيرك المولى وزيراً وناصحاً ... فكان له مما أراد حصول
وألقي مقاليد الأمور مفوضا ... إليك فلم يعدل يمينك سول
وقام بحفظ الملك منك مؤيد ... نهوض بما أعيا سواك كفيل
وساس الرعاي منك أشوس باسل ... مبيد العدا للمعتفين منيل
وأبلج وقاد الجبين كأنما ... على وجنتيه للنضار مسيل
تهيم به العلياء حتى كأنها ... بثينة في الحب وهو جميل
له عزمات لو أعير مضاؤها ... حسام لما نالت ظباه فلول
سرى ذكره في الخافقين فأصبحت إليه قلوب العالمين تميل
وأغدي قريضي جوده وثناؤه ... فأصبح في أقصى البلاد يجول
إليك أيا فخر الوزارة أرقلت ... برحلي هوجاء الثجاء ذلول
فليت إلى لقياك ناصية الفلا ... بأيدي ركاب سيرهن ذميل
تسددني سهماً لكل ثنية ... ضوامر أشباها لقسي نحول
وقد لفظتني الأرض حتى رمت إلى ... ذراك برحلي هوجل وهجول
فقيدت أفراسي به وركائبي ... ولذ مقام لي به وحلول
وقد كنت ذا نفس عزوف وهمة ... عليها لأحداث الزمان دحول
وتهوي العلا حظي وتغري بضده ... لذاك اعترته رقة ونحول
وتأبي لي الأيام إلا إدالة ... فصونك لي أن الزمان مديل
فكل خضوع في جنابك عزة ... وكل اعتزاز قد عداك خمول
شعرهوبضاعته في الشعر مزجاة، وإن كان أعلم الناس بنقده،
وأشدهم تيقظاً لمواقعه الحسنة وأضدادها. فمن ذلك قوله، ورفعه إلى السلطان ببلده
رندة، وهو إذا ذاك فتى يملأ العين أبهة، ويستميل القلوب لباقة، وهي، ومن خطه نقلت:
هل إلى رد عشيات الوصال ... سبب أم ذاك من ضرب المحال
حالة يسرى بها الوهم إلى ... أنها تثبت براءاً باعتلال
وليالي ما تبقى بعدها ... غير أشواقي إلى تلك الليال
إذا مجال الوصل فيها مسرحي ... ونعيمي آمر فيها ووال
ولحالات التراضي جوله ... مزجت بين قبول واقتبال
فبوادي الخيف خفي مسعد ... وبأكناف مني أسني نوال
لست أنسى الأنس فيها أبداً ... لا ولا بالعذل في ذاك
أبال
وغزال قد بدا لي وجهه ... فرأيت البدر في حال الكمال
ما أمال التيه من أعطافه ... لم يكن إلا على فضل اعتدال
خص بالحسن فما أنت ترى ... بعده للناس حظاً في الجمال
من تسلى عن هواه فأنا ... بسواه عن هواه غير سال
فلئن أتعبني حبي له ... فكم نلت به أنعم حال
إذ لآلئ حيده من قبلي ... ووشاحاه يميني وشمال
خلف النوم لي السهد به ... وترامى الشخص لا طيف الخيال
فيداوي بلماه ظمئي ... مزجك الصبهاء بالماء لزلال
أو أشادت ثنا الملك الأوحد الأسمى الهمام المتعال
ملك إن قلت فيه ملكاً ... لم
تكن إلا محقاً في المقال
أيد الإسلام بالعدل فما ... أن ترى رسماً لأصحاب الضلال
ذو أياد شملت كل الورى ... ومعال يا لها خير معال
همة هامت بأحوال التقى ... وصفات بالجلالات حوال
وقف النفس على إجهادها ... بين صوم وصلاة ونوال
ومنها في ذكر القوم الموقع بهم:
وفريق من عتاة عاندوا ... أمره فاستوجبوا سوء نكال
غرهم طول التجافي عنهم ... مع شيطان لهم كان موال
فلقد كانت بهم رندة أو ... أهلها في سوء تدبير وحال
ما يعود اليوم إلا بادروا ... برواة ونكيرات ثقال
طوقوا النعمى فلما أنكروا ... طوقوا العدل بذي البيض
العوال
ما طل الدهر بهم غريمه ... فهو الآن وفي بعد المطال
ولقد كنت غريم الدهر إذ ... شدني جورهم شد عقال
ولكم نافرته مجتهداً عندما ... ضاق بهم صدر احتمال
أعقبوا جزاء ما قد أسلفوا ... في الدنا ويعقبوه في المآل
وهي طويلة ومنها:
أيها المولى الذي نعماؤه ... أعجزت عن شكرها كنه المقال
ها أنا أنشدكم مهنئاً من ... بديع النظم بالسحر الحلال
فأنا العبد الذي حبكم ... لم يزل والله في قلبي وبال
أورقت روضة آمالي لكم ... وتولاها الكبير المتعال
واقتنيت الجاه من خدمتكم ... فهو ما أدخره من كنز مال
ومنها:
يا أمير المسلمين هذه ... خدمة تنبئ عن أصدق حال
هي بنت ساعة أو ليلة ... سهلت الحب في ذاك الجلال
ما عليها إذ أجادت مدحها ... من بعيد الفهم يلغيها وقال
فهي في تأدية الشكر لكم ... أبداً بين احتفاء واحتفال
وكتب رحمه الله يخاطب أهله من مدينة تونس:
حي حي بالله يا ريح نجد ... وتحمل عظيم شوقي ووجدي
وإذا ما بثثت حالي فبلغ ... من سلامي لهم على قدر ودي
ما تناسيتهم وهل في مغيبي ... هم نسوني على تطاول بعدي
بي شوق إليهم ليس يعزى ... لجميل ولا لسكان نجد
يا نسيم الصبا إذا جئت قوماً ... ملئت أرضهم بشيح ورند
فتلطف عند المرور عليهم ... وحقوقاً لهم على فأد
قل لهم قد غدوت من وجدهم ... في حال شوق لكل رند وزند
وإن استفسروا حديثي فإني ... باعتناء الإله بلغت قصدي
فله الحمد إذ حباني بلطف ... عنده قل كل شكر وحمد
قال شيخنا أبو بكر ولده، وجدت بخطه رحمة الله عليه، رسالة
خاطب بها أخاه أبا إسحق إبراهيم افتتحها بقصيدة أولها.
ذكر اللوى شوقاً إلى أقماره ... فقضى أسى أو كاد من
تذكاره
وعلا زفير حريق نار ضلوعه ... فرمى على وجناتنه بشراره
لو كنت تبصر خطه في خده ... لقرأت سر الوجد من أسطاره
يا عاذليه اقصروا فلربما ... أفضى عتابكم إلى إضراره
إن لم تعينوه على برجانه ... لا تنكروا بالله خلع عذاره
ما كان اكتمه لأسرار الهوى ... لو أن جند الصبر من
أنصاره
بخل اللوى بالساكنيه وطيفهم ... وحديثه ونسيمه ومزاره
يا برق خذ دمعي وعرج باللوى ... فأسفحه في باناته وعراره
وإذا لقيت بها الذي بإخائه ... ألقى خطوب الدهر أو
بجواره
فاقر السلام عليه قدر محبتي ... فيه وترفيعي إلى مقداره
وألمم بسائر أخوتي وقرابتي ... من لم أكن لجوارهم
بالكاره
ما منه إلا أخ أو سيد ... أبداً أرى دأبي على إكباره
فاثبت لذاك الحي أن أخاهم ...
في حفظ عهدهم على استبصاره
ما منزل اللذات في أوطانه ... كلا ولا السلوان من أوطاره
وقال رحمه الله في غرض كلفه سلطانه القول فيه:
ألا واصل مواصلة العقار ... ودع عنك التخلق بالوقار
وقم واخلع عذارك في غزال ... يحق لمثله خلع العذار
قضيب مائس من فوق دعص ... تعمم بالدجى فوق النهار
ولاح بخده ألف ولام ... فصار معرفاً بين الدراري
رماني قاسم والسين صاد ... بأشفار تنوب عن الشفار
وقد قسمت محاسن وجنتيه ... على صدين من ماء ونار
فذاك الماء من دمعي عليه ... وتلك النار من فرط اسعار
عدبت له أقام بربع قلبي ... على ما شب فيه من الأوار
ألفت الحب حتى صار طبعاً ... فما أحتاج فيه إلى ادكار
فمالي عن مذاهبه ذهاب ... وهذا فيه أشعاري شعار
وقال العلامة ابن رشيد في ملئ العببة، لما قدمنا المدينة
سنة 684 للهجرة كان معي رفيقي الوزير أبو عبد الله بن أبي القاسم الحكيم، وكان
أرمد، فلما دخلنا ذا الحليفة أو نحوها، نزلنا عن الأكوار، وقوي الشوق لقرب المزار،
فنزل وبادر إلى المشي على قدميه احتساباً لتلك الآثار، وإعظاماً لمن حل في تلك
الديار، فأحس بالشفاء، فأنشد لنفسه في وصف الحال قوله:
ولما رأينا من ربوع حبيبنا ... بيثرب أعلاماً أثرن لنا
الحبا
وبالترب مها إذ كحلنا جفوننا ... شفينا فلا بأساً نخاف
ولا كربا
وحين تبدى للعيون جمالها ... ومن بعدها عنا أديلت لنا
قربا
نزلنا من الأكوار نمشي كرامة ... لمن حل فيها أن نلم به
ركبا
نسح سجال الدمع في عرصاتها ... ونلثم من حب لواطئه
التربا
وإن بقائي دونه لخسارة ... ولو أن كفي تملأ الشرق
والغربا
فيا عجباً ممن يحب بزعمه ... يقيم مع الدعوى ويستعمل
الكتبا
وزلات مثلي لا تعد كثيرة ... وبعدي عن المختار أعظمها
ذنبا
ومن شعره قوله:
ما أحسن العقل وآثاره ... لو لازم الإنسان إيثاره
يصون بالعقل الفتى نفسه ... كما يصون الحر أسراره
لا سيما إن كان في غربة ... يحتاج أن يعرف مقداره
وقوله رحمه الله:
إني لأعسر أحياناً فيلحقني ... يسر من الله أن العسر قد
زالا
يقول خير الورى في سنة ثبتت ... أنفق ولا تخش من ذي
العرش إقلالا
وهو من أحسن ما قاله رحمه الله.
ومن شعره قوله:
فقدت حياتي بالفراق ومن غدا ... بحال نوى عمن يحب فقد
فقد
ومن أجل بعدي من ديار ألفتها ... جحيم فؤادي قد تلظى وقد
وقد
وحكى أن ذا الوزارتين المترجم، لما اجتمع مع الفقيه
الكاتب ابن أبي مدين. أنشده ابن أبي مدين:
عشقتكمو بالسمع نبل لقاكم ... وسمع الفتى يهوي لعمر
كطرفه
وحببني ذكر الجليس إليكمو ... فلما التقينا كنتم فوق
وصفه
فأنشده ذو الوزارتين ابن الحكيم قوله:
ما زلت أسمع عن علياك كل سني ... أبهى من الشمس أو أجلى
من القمر
حتى رأى بصرى فوق الذي سمعت ... أذنى فوفق بين السمع
والبصر
ومن نظمه مما يكتب على قوس:
أنا عدة للدين في يد من غدا ... لله منتصراً على أعدائه
أحكي الهلال وأسهمي في رجمها ... لمن اعتدى تحكي رجوم
سمائه
قد جاء في القرآن أني عدة ... إذ نص خير الخلق محكم
آياته
وإذا العدو أصابه سهمي فقد ... سبق القضاء بهلكه وفنائه
ومن توقيعه ما نقلته من خط
ولده أبي بكر في كتابه المسمى بالموارد المستعذية، وكان بمدينة وادي آش الفقيه
الكذا أبو عبد الله محمد بن غالب الطريفي، فكتب يوماً إلى الشيخ خاصة والدي
وخلاصته أبي جعفر ابن داود قصيدة طويلة على روى السين يشتكي فيها من جور مشرف
بلدهم إذ ذاك أبي القاسم بن حسان منها:
فيا صفى أبي العباس كيف ترى ... وأنت كيس من فيها من
أكياس
ولوه إن كان ممن ترتضون به ... فقد دنا الفتح للأشراف في
فاس
ومنها يستطر ذكر ذي الوزارتين رحمه الله:
للشرق فضل منه أشرقت شهب ... من نورهم اقبسونا كل مقباس
فوقع عليها رحمة الله تعالى عليه ورضوانه:
إن أفرطت بابن حسان غواثله ... فالأمر يكسوه ثوب الذل
والياس
وإن تزل به في جوره قدم ... كان الجزاء له ضرباً على
الراس
فقد أقامني المولى بنعمته ... لبث أحكامه بالعدل في
الناس
كتابتهوهي مرتفعة عن نمط شعره. فمن ذلك رسالة كتبها عن
سلطانه في فتح مدينة قيجاطة: من الأمير فلان، أيده الله ونصره، ووفقه لما يحب، حتى يكون ممن
قام بفرض الجهاد ونشره. إلى ابننا الذي تمنحه الحب والرضى، ونسأل الله أن يهبه الخلال
التي تستحسن، والشيم التي ترتضى، الولد الأنجب، الأرضى، الأنجد، الأرشد، الأسعد،
محمد، والى الله تعالى إسعاده، وتولى بالتوفيق والإرشاد سداده، وأطلع عليه من
أنباء الفتوح المبشرة بالنصر الممنوح، ما يكمل من بغيته في نصر دين الإسلام ويسني
مراده.
أما بعد حمد الله، الذي جعل الجهاد
في سبيله أفضل الأعمال، الذي يقربه إلى رضاه، وندب إليه بما وعد من الثواب عليه،
فقال يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، تنبيهاً على محل الثقة، بأن الفئة
القليلة من أوليائه، تغلب الفئة الكثيرة من أعدائه، وتدارك دين الإسلام بإنجاز
وعده في قوله، ولينصرن الله من ينصره، على رغم أنف من ظن أنه خاذله، تعالى الله عن
خذلان جنده. والصلاة والسلام على نبيه ورسوله ومجتباه، لهداية الخلق لسلوك سبيل
الحق، والعمل بمقتضاه. قال تعالى فيما أنزل: " قاتلوا الذين يلونكم من الكفار
" ، تحريضاً على أن يمحوا ظلام ضلالهم بنور هداه. صلى الله عليه وسلم؛ وعلى
آله الأبرار، وأصحابه الأشداء على الكفار، الذين جردوا في نصرة دينه صوارم العزم،
وأمضوا ظباه، وفتحوا ما زوى له من مشارق الأرض ومغاربها، حتى عم الإسلام حد المعمور
ومنتهاه. فإنا كتبنا لكم. كتب الله لكم من سماع البشائر ما يعود بتحويل
الأحوال، وأطلع عليكم من أنباء الفتوح ما يلوح بآفاق الآمال، مبشرا باليمن
والإقبال. من قيجاطة، وبركان ثقتنا بالله وحده، تظهر لنا ورد مشرع الفتح فترج عذب نطافه،
والحمد لله الذي هدانا لأن نتقلد نجادها، ونمتطي جوادها، ونستوري زنادها، ونستفتح
بها مغالق المآرب، ولطائف المطالب حتى دخلت الملة الحنيفية في هذه الجزيرة
الأندلسية، أغوارها وأنجادها. وقد تقرر عند الخاص والعام من أهل الإسلام، واشتهر
في جميع الأقطار اشتهار الصبح في سواد الظلام، أنا ما قصرنا في الاستنصار
والاستنفار ولا قصرنا عن الاعتضاد لكل من أملنا معونته والاستظهار، ولا اكتفينا
بمطولات الرسائل وبنات الأفكار، حتى اقتحمنا بنفوسنا لجج البحار، وسمحنا بالطارف
من أموالنا والتلاد، وأعطينا رجاء نصرة الإسلام موفور الأموال والبلاد، واشترينا
بما أنعم الله به علينا، ما فرض الله على كافة أهل الإسلام من الجهاد، فلم يكن بين
تلبية المدعو وزهده، وبين قبوله ورده، إلا كما يحسو الطائر ماء الثماد، ويأبى الله
أن يكل نصر هذه الجزيرة إلى سواه، وأن يجعل فيها سبباً إلا لمن أخلص لوجهه الكريم
علانيته ونجواه. ولما أسلم الإسلام بهذه الجزيرة الغريبة إلى مثاويه، وبقي
المسلمون يتوقعون حادثاً ساءت ظنونهم لمباديه؛ ألقينا إلى الثقة بالله تعالى وحده
يد الاستسلام، وشمرنا عن ساعد الجد والاجتهاد في جهاد عبدة الأصنام، وأخذنا بمقتضى
قوله العالى، وأنفقوا في سبيل الله أخذ الاعتزام، فأمدنا الله تعالى بتوالي
البشائر، ونصرنا بألطاف أغنى فيها خلوص الضمائر عن قواد العساكر، ونقلنا على أيدي
قوادنا ورجالنا من السبايا والغنائم، ما عد ذكره في الآفاق كالمثل السائر، وإن
تعدوا نعمة الله لا تحصوها، وكيف يحصيها المحصي أو يحصرها الحاصر. وحين أبدت لنا
العناية الربانية وجوه الفتوح سافرة المحيا. وانتشقنا نسيم النصر الممنوح عبق الريا،
استخرنا الله تعالى في الغزو بأنفسنا، ونعم المستخار، وكتبنا إلى من قرب من عمالنا
بالحض على الجهاد والاستنفار. وحين وافى من خف للجهاد من الأجناد والمطجوعين،
وغدوا بحكم رغبتهم في الثواب على طاعة الله مجتميعن، خرجنا بهم، ونصر الله تعالى
أهدى دليل، وعناية الله بهذه الفئة المفردة من المسلمين، تقضي بتقريب البعيد من
آمالنا، وتكثير القليل. ونحن نسأل الله تعالى أن يحملنا على جادة الرضا والقبول،
وأن يرشدنا إلى طريق يفضي إلى بلوغ الأمنية والمأمول، إلى أن حللنا عشية يوم الأحد
ثاني يوم خروجنا بمقربة حصن اللقوة، فأدرنا به. التدبير، واستشرنا من أوليائنا من
تحققنا نصحه فيما يشير، فاقتضى الرأي المقترن بالرشاد، المؤذن بالإسعاد، قصد قيجاطة
لما رجى من تيسير فتحها، وأملا في إضاءة فجر الأماني لديها، وبيان صبحها، فسرنا
نوها في جيش، يجر على المجرة ذيل النقع المثار، ويضيق عن كثرته واسع الأقطار، ويقر
عين الإسلام، بما اشتمل عليه من الحماة والأنصار تطير بهم نياتهم بأجنحة العزم إلى
قبض أرواح الكفار. فلما وصلنا إلى وادي يانه على مقربة منها، نزلنا به نريح
الجياد، ونكمل التأهب للقتال الاستعداد، وبات المسلمون ليلتهم يسألون الله تعالى
بأن يمنحهم الإعانة بتأييده والإمداد. وحين فجر الفجر وأنار النهار، وقدحتن به
الأصباح زند الأنوار، ركبنا إليها والعساكر قد انتظمت عقودها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق